كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
الحرص حاجة
المسألة الثانية المشهور في الحق أنه هو القدر الذي علم شرعاً وهو الزكاة وحينئذ لا يبقى هذا صفة مدح لأن كون المسلم في ماله حق وهو الزكاة ليس صفة مدح لأن كل مسلم كذلك بل الكافر إذا قلنا إنه مخاطب بفروع الإسلام في ماله حق معلوم غير أنه إذا أسلم سقط عنه وإن مات عوقب على تركه وإن أدى من غير الإسلام لا يقع الموقع فكيف يفهم كونه مدحاً نقول الجواب عنه من وجوه أحدها أنا نفسر بمن يطلب شرعاً والمحروم الذي لا مكنة له من الطلب ومنعه الشارع من المطالبة ثم إن المنع قد يكون لكون الطالب غير مستحق وقد يكون لكون المطلوب منه لم يبق عليه حق فلا يطالب فقال تعالى في ماله حق للطالب وهو الزكاة ولغير الطالب وهو الصدقة المتطوع بها فإن ذلك المالك لا يطالب بها ويحرم الطالب منه طلباً على سبيل الجزية والزكاة بل يسأل سؤالاً اختيارياً فيكون حينئذ كأنه قال في ماله زكاة وصدقة والصدقة في المال لا تكون إلا بفرضه هو ذلك وتقديره وإفرازه للفقراء والمساكين الجواب الثاني هو أن قوله وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ أي مالهم ظرف لحقوقهم فإن كلمة في للظرفية لكن الظرف لا يطلب إلا للمظروف فكأنه تعالى قال هم لا يطلبون المال ولا يجمعونه إلا ويجعلونه ظرفاً للحق ولا شك أن المطلوب من الظرف هو المظروف والظرف مالهم فجعل مالهم ظرفاً للحقوق ولا يكون فوق هذا مدح فإن قيل فلو قيل مالهم للسائل هل كان أبلغ قلنا لا وذلك لأن من يكون له أربعون ديناراً فتصدق بها لا تكون صدقته دائمة لكن إذا اجتهد واتجر وعاش سنين وأدى الزكاة والصدقة يكون مقدار المؤدى أكثر وهذا كما في الصلاة والصوم ولو أضعف واحد نفسه بهما حتى عجز عنهما لا يكون مثل من اقتصد فيهما وإليه الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ) وفي السائل والمحروم وجوه أحدها أن السائل هو الناطق وهو الآدمي والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحرومة قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لكل كبد حرى أجر ) وثانيها وهو الأظهر والأشهر أن السائل هو الذي يسأل والمحروم المتعفف الذي يحسبه بعض الناس غنياً فلا يعطيه شيئاً والأول كقوله تعالى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ ( طه 54 ) والثاني كقوله وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ( الحج 36 ) فالقانع كالمحروم فإن قيل على الوجه الأول الترتيب في غاية الحسن فإن دفع حاجة الناطق مقدم على دفع حاجة البهائم فما وجه الترتيب في الوجه الثاني نقول فيه وجهان أحدهما أن السائل اندفاع حاجته قبل اندفاع حاجة المحروم في الوجود لأنه يعرف حاله بمقاله ويطلب لقلة ماله فيقدم بدفع حاجته والمحروم غير معلوم فلا تندفع حاجته إلا بعد الاطلاع عليه فكان الذكر على الترتيب الواقع وثانيهما هو أن ذلك إشارة إلى كثرة العطاء فيقول يعطي السائل فإذا لم يجدهم يسأل هو عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً الثالث هو أن المحاسن اللفظية غير مهجورة في الكلام الحكمي فإن قول القائل إن رجوعهم إلينا وعلينا حسابهم ليس كقوله تعالى إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ( الغاشية 26 ) والكلام له جسم وهو اللفظ وله روح وهو المعنى وكما أن الإنسان الذي نور روحه بالمعرفة ينبغي أن ينور جسمه الظاهر بالنظافة كذلك الكلام ورب كلمة حكمية لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها إذا عرفت هذا فقوله وَبِالاْسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أحسن من حيث اللفظ من قولنا وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للمحروم والسائل فإن قيل قدم السائل على المحروم ههنا لما ذكرت من الوجوه ولم قدم المحروم على السائل في قوله الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ
لأن القانع هو الذي لا يسأل وَالْمُعْتَرَّ السائل نقول قد قيل إن القانع هو السائل والمعتر الذي لا يسأل فلا فرق بين الموضعين وقيل بأن القانع والمعتر كلاهما لا يسأل لكن القانع لا يتعرض ولا يخرج من بيته والمعتر يتعرض للأخذ بالسلام والتردد ولا يسأل وقيل بأن القانع لا يسأل والمعتر يسأل فعلى هذا فلحم البدنة يفرق من غير مطالبة ساع أو مستحق مطالبة جزية والزكاة لها طالب وسائل هو الساعي والإمام فقوله لَّلسَّائِلِ إشارة إلى الزكاة وقوله وَالْمَحْرُومِ أي الممنوع إشارة إلى الصدقة المتطوع بها واحدهما قبل الأخرى بخلاف إعطاء اللحم ثم قال تعالى
وَفِى الأرض ءَايَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ
وهو يحتمل وجهين أحدهما أن يكون متعلقاً بقوله إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ تدلهم على أن الحشر كائن كما قال تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاْرْضَ خَاشِعَة ً إلى أن قال إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا فَانظُرْ إِلَى ( فصلت 39 ) وثانيهما أن يكون متعلقاً بأفعال المتقين فإنهم خافوا الله فعظموه فأظهروا الشفقة على عباده وكان لهم آيات في الأرض وفي أنفسهم على إصابتهم الحق في ذلك فإن من يكون له في الأرض الآيات العجيبة يكون له القدرة التامة فيخشى ويتقى ومن له من أنفس الناس حكم بالغة ونعم سابغة يستحق أن يعبد ويترك الهجوع لعبادته وإذا قابل العبد العبادة بالنعمة يجدها دون حد الشكر فيستغفر على التقصير وإذا علم أن الرزق من السماء لا يبخل بماله فالآيات الثلاثة المتأخرة فيها تقرير ما تقدم وعلى هذا فقوله تعالى فَوَرَبّ السَّمَاء وَالاْرْضِ ( الذاريات 23 ) يكون عود الكلام بعد اعتراض الكلام الأول أقوى وأظهر وفيه مسائل
المسألة الأولى كيف خصص الموقنين بكون الآيات لهم مع أن الآيات حاصلة للكل قال تعالى وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ الْمَيْتَة ُ أَحْيَيْنَاهَا ( ي س 33 ) نقول قد ذكرنا أن اليمين آخر ما يأتي به المبرهن وذلك لأنه أولاً يأتي بالبرهان فإن صدق فذلك وإن لم يصدق لا بد له من أن ينسبه الخصم إلى إصرار على الباطل لأنه إذا لم يقدر على قدح فيه ولم يصدقه يعترف له بقوة الجدل وينسبه إلى المكابرة فيتعين طريقه في اليمين فإذا آيات الأرض لم تفدهم لأن اليمين بقوله وَالذرِيَاتِ ذَرْواً ( الذاريات 1 ) دلت على سبق إقامة البينات وذكر الآيات ولم يفد فقال فيها وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ وإن لم يحصل للمصر المعاند منها فائدة وأما في سورة ي س وغيرها من الموانع التي جعل فيها آيات الأرض للعامة لم يحصل فيها اليمين وذكر الآيات قبله فجاز أن يقال إن الأرض آيات لمن ينظر فيها الجواب الثاني وهو الأصح أن هنا الآيات بالفعل والاعتبار للمؤمنين أي حصل ذلك لهم وحيث قال لكل معناه إن فيها آيات لهم إن نظروا وتأملوا
المسألة الثانية ههنا قال وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ وقال هناك وَءايَة ٌ لَّهُمُ الاْرْضُ ( ي س 33 ) نقول لما جعل الآية لّلْمُوقِنِينَ ذكر بلفظ الجمع لأن الموقن لا يغفل عن الله تعالى في حال ويرى في كل شيء آيات دالة وأما الغافل فلا يتنبه إلا بأمور كثيرة فيكون الكل له كالآية الواحدة
وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ
إشارة إلى دليل الأنفس وهو كقوله تعالى سَنُرِيهِمْ ءايَاتِنَا فِى الاْفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ ( فصلت 53 ) وإنما اختار من دلائل الآفاق ما في الأرض لظهورها لمن على ظهورها فإن في أطرافها وأكنافها ما لا يمكن عد أصنافها فدليل الأنفس في قوله وَفِى أَنفُسِكُمْ عام ويحتمل أن يكون مع المؤمنين وإنما أتى بصيغة الخطاب لأنها أظهر لكون علم الإنسان بما في نفسه أتم وقوله تعالى وَفِى أَنفُسِكُمْ يحتمل أن يكون المراد وفيكم يقال الحجارة في نفسها صلبة ولا يراد بها النفس التي هي منبع الحياة والحس والحركات ويحتمل أن يكون المراد وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات وقوله أَفلاَ تُبْصِرُونَ بالاستفهام إشارة إلى ظهورها
وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ
وقوله تعالى وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ فيه وجوه أحدها في السحاب المطر ثانيها فِى السَّمَاء رَزَقَكُمُ مكتوب ثالثها تقدير الأرزاق كلها من السماء ولولاه لما حصل في الأرض حبة قوت وفي الآيات الثلاث ترتيب حسن وذلك لأن الإنسان له أمور يحتاج إليها لا بد من سبقها حتى يوجد هو في نفسه وأمور تقارنه في الوجود وأمور تلحقه وتوجد بعده ليبقى بها فالأرض هي المكان وإليه يحتاج الإنسان ولا بد من سبقها فقال وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ ثم في نفس الإنسان أمور من الأجسام والأعراض فقال وَفِى أَنفُسِكُمْ ثم بقاؤه بالرزق فقال وَفِى السَّمَاء رِزْقُكُمْ ولولا السماء لما كان للناس البقاء
وقوله تعالى وَمَا تُوعَدُونَ فيه وجوه أحدها الجنة الموعود بها لأنها في السماء ثانيها هو من الإيعاد لأن البناء للمفعول من أوعد يوعد أي وما توعدون إما من الجنة والنار في قوله تعالى يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ ( الذاريات 13 ) وقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ ( الذاريات 15 ) فيكون إيعاداً عاماً وأما من العذاب وحينئذ يكون الخطاب مع الكفار فيكون كأنه تعالى قال وفي الأرض آيات للموقنين كافية وأما أنتم أيها الكافرون ففي أنفسكم آيات هي أظهر الآيات وتكفرون لها لحطام الدنيا وحب الرياسة وفي السماء الأرزاق فلو نظرتم وتأملتم حق التأمل لما تركتم الحق لأجل الرزق فإنه واصل بكل طريق ولاجتنبتم الباطل اتقاء لما توعدون من العذاب النازل ثم قال تعالى
فَوَرَبِّ السَّمَآءِ والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ
وفي المقسم عليه وجوه أحدها مَّا تُوعَدُونَ أي ما توعدون لحق يؤيده قوله تعالى إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ( الذاريات 5 ) وعلى هذا يعود كل ما قلناه من وجوه مَّا تُوعَدُونَ إن قلنا إن ذلك هو الجنة فالمقسم عليه هو هي ثانيها الضمير راجع إلى القرآن أي أن القرآن حق وفيما ذكرناه في قوله تعالى يُؤْفَكُ عَنْهُ ( الذاريات 9 ) دليل هذه وعلى هذا فقوله مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ معناه تكلم به الملك النازل من عند الله به مثل ما أنكم تتكلمون وسندكره ثالثها أنه راجع إلى الدين كما في قوله تعالى وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ( الذاريات 6 ) رابعها أنه راجع إلى اليوم المذكور في قوله أَيَّانَ يَوْمُ الدّينِ ( الذاريات 12 ) يدل عليه وصف الله اليوم بالحق في قوله تعالى ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ( النبأ 39 ) خامسها أنه راجع
إلى القول الذي يقال هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( الذاريات 14 ) وفي التفسير مباحث
الأول الفاء تستدعي تعقيب أمر لأمر فما الأمر المتقدم نقول فيه وجهان أحدهما الدليل المتقدم كأنه تعالى يقول إن ما توعدون لحق بالبرهان المبين ثم بالقسم واليمين ثانيهما القسم المتقدم كأنه تعالى يقول وَالذرِيَاتِ ثم وَرَبُّ السَّمَاء والاْرْضِ وعلى هذا يكون الفاء حرف عطف أعيد معه حرف القسم كما يعاد الفعل إذ يصح أن يقال ومررت بعمرو فقوله وَالذرِيَاتِ ذَرْواً فَالْحَامِلَاتِ وِقْراً ( الذاريات 1 2 ) عطف من غير إعادة حرف القسم وقوله فَوَرَبّ السَّمَاء مع إعادة حرفه والسبب فيه وقوع الفصل بين القسمين ويحتمل أن يقال الأمر المتقدم هو بيان الثواب في قوله يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ( الذاريات 13 ) وقوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ ( الذاريات 15 ) وفيه فائدة وهو أن الفاء تكون تنبيهاً على أن لا حاجة إلى اليمين مع ما تقدم من الكشف المبين فكأنه يقول ورب السماء والأرض إنه لحق كما يقول القائل بعدما يظهر دعواه هذا والله إن الأمر كما ذكرت فيؤكد قوله باليمين ويشير إلى ثبوته من غير يمين
البحث الثاني أقسم من قبل بالأمور الأرضية وهي الرياح وبالسماء في قوله وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ ( الذاريات 7 ) ولم يقسم بربها وههنا أقسم بربها نقول كذلك الترتيب يقسم المتكلم أولاً بالأدنى فإن لم يصدق به يرتقي إلى الأعلى ولهذا قال بعض الناس إذا قال قائل وحياتك والله لا يكفر وإذا قال والله وحياتك لا شك يكفر وهذا استشهاد وإن كان الأمر على خلاف ما قاله ذلك القائل لأن الكفر إما بالقلب أو باللفظ الظاهر في أمر القلب أو بالفعل الظاهر وما ذكره ليس بظاهر في تعظيم جانب غير الله والعجب من ذلك القائل أنه لا يجعل التأخير في الذكر مفيداً للترتيب في الوضوء وغيره
البحث الثالث قرىء مثل بالرفع وحينئذ يكون وصفاً لقوله لحق ومثل وإن أضيف إلى المعرفة لا يخرجه عن جواز وصف المنكر به تقول رأيت رجلاً مثل عمرو لأنه لا يفيده تعريفاً لأنه في غاية الإبهام وقرىء مَثَلُ بالنصب ويحتمل وجهين أحدهما أن يكون مفتوحاً لإضافته إلى ما هو ضعيف وإلا جاز أن يقال زيد قاتل من يعرفه أو ضارب من يشتمه ثانيهما أن يكون منصوباً على البيان تقديره لحق حقاً مثل ويحتمل أن يقال إنه منصوب على أنه صفة مصدر معلوم غير مذكور ووجهه أنا دللنا أن المراد من الضمير في قوله أَنَّهُ هو القرآن فكأنه قال إن القرآن لحق نطق به الملك نطقاً مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ وما مجرور لا شك فيه
ثم قال تعالى
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ
إشارة إلى تسلية قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببيان أن غيره من الأنبياء عليهم السلام كان مثله واختار إبراهيم لكونه شيخ المرسلين كون النبي عليه الصلاة والسلام على سنته في بعض الأشياء وإنذار لقومه بما جرى من الضيف ومن إنزال الحجارة على المذنبين المضلين وفيه مسائل
المسألة الأولى إذا كان المراد ما ذكرت من التسلية والإنذار فأي فائدة في حكاية الضيافة نقول ليكون ذلك إشارة إلى الفرج في حق الأنبياء والبلاء على الجهلة والأغبياء إذا جاءهم من حيث لا يحتسب
قال الله تعالى فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ( الحشر 2 ) فلم يكن عند إبراهيم عليه السلام خبر من إنزال العذاب مع ارتفاع مكانته
المسألة الثانية كيف سماهم ضيفاً ولم يكونوا نقول لما حسبهم إبراهيم عليه السلام ضيفاً لم يكذبه الله تعالى في حسابه إكراماً له يقال في كلمات المحققين الصادق يكون ما يقول والصديق يقول ما يكون
المسألة الثالثة ضيف لفظ واحد والمكرمين جمع فكيف وصف الواحد بالجمع نقول الضيف يقع على القوم يقال قوم ضيف ولأنه مصدر فيكون كلفظ الرزق مصدراً وإنما وصفهم بالمكرمين إما لكونهم عباداً مكرمين كما قال تعالى بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( الأنبياء 26 ) وإما لإكرام إبراهيم عليه السلام إياهم فإن قيل بماذا أكرمهم قلنا ببشاشة الوجه أولاً وبالإجلاس في أحسن المواضع وألطفها ثانياً وتعجيل القرى ثالثاً وبعد التكليف للضيف بالأكل والجلوس وكانوا عدة من الملائكة في قول ثلاثة جبريل وميكائيل وثالث وفي قول عشرة وفي آخر اثنا عشرة
المسألة الرابعة هم أرسلوا للعذاب بدليل قولهم إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ( الذاريات 32 ) وهم لم يكونوا من قوم إبراهيم عليه السلام وإنما كانوا من قوم لوط فما الحكمة في مجيئهم إلى إبراهيم عليه السلام نقول فيه حكمة بالغة وبيانها من وجهين أحدهما أن إبراهيم عليه السلام شيخ المرسلين وكان لوط من قومه ومن إكرام الملك للذي في عهدته وتحت طاعته إذا كان يرسل رسول إلى غيره يقول له اعبر على فلان الملك وأخبره برسالتك وخذ فيها رأيه وثانيهما هو أن الله تعالى لما قدر أن يهلك قوماً كثيراً وجماً غفيراً وكان ذلك مما يحزن إبراهيم عليه السلام شفقة منه على عباده قال لهم بشروه بغلام يخرج من صلبه أضعاف ما يهلك ويكون من صلبه خروج الأنبياء عليهم السلام ثم قال تعالى
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى ما العامل في إذ فيه وجوه أحدها ما في المكرمين من الإشارة إلى الفعل إن قلنا وصفهم بكونهم مكرمين بناء على أن إبراهيم عليه السلام أكرمهم فيكون كأنه تعالى يقول أكرموا إذ دخلوا وهذا من شأن الكريم أن يكرم ضيفه وقت الدخول ثانيها ما في الضيف من الدلالة على الفعل لأنا قلنا إن الضيف مصدر فيكون كأنه يقول أضافهم إذ دخلوا وثالثها يحتمل أن يكون العامل فيه أتاك تقديره ما أتاك حديثهم وقت دخولهم فاسمع الآن ذلك لأن هل ليس للاستفهام في هذا الموضع حقيقة بل للإعلام وهذا أولى لأنه فعل مصرّح به ويحتمل أن يقال اذكر إذ دخلوا
المسألة الثانية لماذا اختلف إعراب السلامين في القراءة المشهورة نقول نبين أولاً وجوه النصب والرفع ثم نبيّن وجوه الاختلاف في الإعراب أما النصب فيحتمل وجوهاً
أحدها أن يكون المراد من السلام هو التحية وهو المشهور ونصبه حينئذ على المصدر تقديره نسلم سلاماً ثانيها هو أن يكون السلام نوعاً من أنواع الكلام وهو كلام سلم به المتكلم من أن يلغو أو يأثم
فكأنهم لما دخلوا عليه فقالوا حسناً سلموا من الإثم وحينئذ يكون مفعولاً للقول لأن مفعول القول هو الكلام يقال قال فلان كلاماً ولا يكون هذا من باب ضربه سوطاً لأن المضروب هناك ليس هو السوط وههنا القول هو الكلام فسره قوله تعالى وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) وقوله تعالى قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً ( الواقعة 21 )
ثالثها أن يكون مفعول فعل محذوف تقديره نبلغك سلاماً لا يقال على هذا إن المراد لو كان ذلك لعلم كونهم رسل الله عند السلام فما كان يقول قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ولا كان يقرب إليهم الطعام ولما قال نَكِرَهُمْ ( هود 70 ) لأنا نقول جاز أن يقال إنهم قالوا نبلغك سلاماً ولم يقولوا من الله تعالى إلى أن سألهم إبراهيم عليه السلام ممن تبلغون لي السلام وذلك لأن الحكيم لا يأتي بالأمر العظيم إلا بالتدريج فلما كانت هيبتهم عظيمة فلو ضموا إليه الأمر العظيم الذي هو السلام من الله تعالى لانزعج إبراهيم عليه السلام ثم إن إبراهيم عليه السلام اشتغل بإكرامهم عن سؤالهم وآخر السؤال إلى حين الفراغ فنكرهم بين السلام والسؤال عمن منه السلام هذا وجه النصب وأما الرفع فنقول يحتمل أن المراد منه السلام الذي هو التحية وهو المشهور أيضاً وحينئذ يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره سلام عليكم وكون المبتدأ نكرة يحتمل في قول القائل سلام عليكم وويل له أو خبر مبتدأ محذوف تقديره قال جوابه سلام ويحتمل أن يكون المراد قولاً يسلم به أو ينبىء عن السلامة فيكون خبر مبتدأ محذوف تقديره أمي سلام بمعنى مسالمة لا تعلق بيني وبينكم لأني لا أعرفكم أو يكون المبتدأ قولكم وتقديره قولكم سلام ينبىء عن السلامة وأنتم قوم منكرون فما خطبكم فإن الأمر أشكل عليَّ وهذا ما يحتمل أن يقال في النصب والرفع وأما الفرق فنقول أما على التفسير المشهور وهو أن السلام في الموضعين بمعنى التحية فنقول الفرق بينهما من حيث اللفظ ومن حيث المعنى
أما من حيث اللفظ فنقول سلام عليك إنما جوز واستحسن لكونه مبتدأ وهو نكرة من حيث إنه كالمتروك على أصله لأن الأصل أن يكون منصوباً على تقدير أسلم سلاماً وعليك يكون لبيان من أريد بالسلام ولا يكون لعليك حظ من المعنى غير ذلك البيان فيكون كالخارج عن الكلام والكلام التام أسلم سلاماً كما أنك تقول ضربت زيداً على السطح يكون على السطح خارجاً عن الفعل والفاعل والمفعول لبيان مجرد الظرفية فإذا كان الأمر كذلك وكان السلام والأدعية كثير الوقوع قالوا نعدل عن الجملة الفعلية إلى الإسمية ونجعل لعليك حظاً في الكلام فنقول سلام عليك فتصير عليك لفائدة لا بد منها وهي الخبرية ويترك السلام نكرة كما كان حال النصب إذا علم هذا فالنصب أصل والرفع مأخوذ منه والأصل مقدم على المأخوذ منه فقال بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قدم الأصل على المتفرع منه
وأما من حيث المعنى فذلك لأن إبراهيم عليه السلام أراد أن يرد عليهم بالأحسن فأتى بالجملة الإسمية فإنها أدل على الدوام والاستمرار فإن قولنا جلس زيد لا ينبىء عنه لأن الفعل لا بد فيه من الإنباء عن التجدد والحدوث ولهذا لو قلت الله موجود الآن لأثبت العقل الدوام إذ لا ينبىء عن التجدد ولو قال قائل وجد الله الآن لكاد ينكره العاقل لما بينا فلما قالوا سلاماً قال سلام عليكم مستمر دائم وأما على قولنا المراد القول ذو السلامة فظاهر الفرق فإنهم قالوا قولاً ذا سلام وقال لهم إبراهيم عليه السلام
سلام أي قولكم ذو سلام وأنتم قوم منكرون فالتبس الأمر عليّ وإن قلنا المراد أمر مسالمة ومتاركة وهم سلموا عليه تسليماً فنقول فيه جمع بين أمرين تعظيم جانب الله ورعاية قلب عباد الله فإنه لو قال سلام عليكم وهو لم يعلم كونهم من عباد الله الصالحين كان يجوز أن يكونوا على غير ذلك فيكون الرسول قد أمنهم فإن السلام أمان وأمان الرسول أمان المرسل فيكون فاعلاً للأمر من غير إذن الله نيابة عن الله فقال أنتم سلمتم عليّ وأنا متوقف أمري متاركة لا تعلق بيننا إلى أن يتبين الحال ويدل على هذا هو أن الله تعالى قال وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) وقال في مثل هذا المعنى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ( الزخرف 89 ) ولم يقل قل سلاماً وذلك لأن الأخيار المذكورين في القرآن لو سلموا على الجاهلين لا يكون ذلك سبباً لحرمة التعرض إليهم وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لو سلم عليهم لصار ذلك سبباً لحرمة التعرض إليهم فقال قل سلام أي أمري معكم متاركة تركناه إلى أن يأتي أمر الله بأمر وأما على قولنا بمعنى نبلغ سلاماً فنقول هم لما قالوا نبلغك سلاماً ولم يعلم إبراهيم عليه السلام أنه ممن قال سلام أي إن كان من الله فإن هذا منه قد ازداد به شرفي وإلا فقد بلغني منه سلام وبه شرفي ولا أتشرف بسلام غيره وهذا ما يمكن أن يقال فيه والله أعلم بمراده الأول والثاني عليهما الاعتماد فإنهما أقوى وقد قيل بهما
المسألة الثالثة قال في سورة هود فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ ( هود 70 ) فدل على أن إنكارهم كان حاصلاً بعد تقريبه العجل منهم وقال ههنا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ثم قال تعالى
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ
بفاء التعقيب فدل على أن تقريب الطعام منهم بعد حصول الإنكار لهم فما الوجه فيه نقول جاز أن يحصل أولاً عنده منهم نكر ثم زاد عند إمساكهم والذي يدل على هذا هو أنهم كانوا على شكل وهيئة غير ما يكون عليه الناس وكانوا في أنفسهم عند كل أحد منكرين واشترك إبراهيم عليه السلام وغيره فيه ولهذا لم يقل أنكرتكم بل قال أنتم منكرون في أنفسكم عند كل أحد منا ثم إن إبراهيم عليه السلام تفرد بمشاهدة أمر منهم هو الإمساك فنكرهم فوق ما كان منهم بالنسبة إلى الكل لكن الحالة في سورة هود محكية على وجه أبسط مما ذكره ههنا فإن ههنا لم يبين المبشر به وهناك ذكر باسمه وهو إسحاق ولم يقل ههنا إن القوم قوم من وهناك قال قوم لوط وفي الجملة من يتأمل السورتين يعلم أن الحكاية محكية هناك على وجه الإضافة أبسط فذكر فيها النكتة الزائدة ولم يذكر ههنا ولنعد إلى بيان ما أتى به من آداب الإضافة وما أتوا به من آداب الضيافة فالإكرام أولاً ممن جاءه ضيف قبل أن يجتمع به ويسلم أحدهما على الآخر أنواع من الإكرام وهي اللقاء الحسن والخروج إليه والتهيؤ له ثم السلام من الضيف على الوجه الحسن الذي دل عليه النصب في قوله سَلاَماً إما لكونه مؤكداً بالمصدر أو لكونه مبلغاً ممن هو أعظم منه ثم الرد الحسن الذي دل عليه الرفع والإمساك عن الكلام لا يكون فيه وفاء إن إبراهيم عليه السلام لم يقل سلام عليكم بل قال أمري مسالمة أو قولكم سلام وسلامكم منكر فإن ذلك وإن كان مخلاً بالإكرام لكن العذر ليس من شيم الكرام ومودة أعداء الله لا تليق بالأنبياء عليهم السلام ثم تعجيل القرى الذي دل عليه قوله تعالى فَمَا لَبِثَ أَن جَاء ( هود 69 )
وقوله ههنا فَرَاغَ فإن الروغان يدل على السرعة والروغ الذي بمعنى النظر الخفي أو الرواح المخفي أيضاً كذلك ثم الإخفاء فإن المضيف إذا أحضر شيئاً ينبغي أن يخفيه عن الضيف كي لا يمنعه من الإحضار بنفسه حيث راغ هو ولم يقل هاتوا وغيبة المضيف لحظة من الضيف مستحسن ليستريح ويأتي بدفع ما يحتاج إليه ويمنعه الحياء منه ثم اختيار الأجود بقوله سَمِينٍ ثم تقديم الطعام إليهم لا نقلهم إلى الطعام بقوله فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ لأن من قدم الطعام إلى قوم يكون كل واحد مستقراً في مقره لا يختلف عليه المكان فإن نقلهم إلى مكان الطعام ربما يحصل هناك اختلاف جلوس فيقرب الأدنى ويضيق على الأعلى ثم العرض لا الأمر حيث قال أَلا تَأْكُلُونَ ولم يقل كلوا ثم كون المضيف مسروراً بأكلهم غير مسرور بتركهم الطعام كما يوجد في بعض البخلاء المتكلفين الذين يحضرون طعاماً كثيراً ويكون نظره ونظر أهل بيته في الطعام متى يمسك الضيف يده عنه يدل عليه قوله تعالى
فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة ً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ
ثم أدب الضيف أنه إذا أكل حفظ حق المؤاكلة يدل عليه أنه خافهم حيث لم يأكلوا ثم وجوب إظهار العدر عند الإمساك يدل عليه قوله لاَ تَخَفْ ثم تحسين العبارة في العذر وذلك لأن من يكون محتمياً وأحضر لديه الطعام فهناك أمران أحدهما أن الطعام لا يصلح له لكونه مضراً به الثاني كونه ضعيف القوة عن هضم ذلك الطعام فينبغي أن لا يقول الضيف هذا طعام غليظ لا يصلح لي بل الحسن أن يأتي بالعبارة الأخرى ويقول لي مانع من أكل الطعام وفي بيتي لا آكل أيضاً شيئاً يدل عليه قوله وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ حيث فهموه أنهم ليسوا ممن يأكلون ولم يقولوا لا يصلح لنا الطعام والشراب ثم أدب آخر في البشارة أن لا يخبر الإنسان بما يسره دفعة فإنه يورث مرضاً يدل عليه أنهم جلسوا واستأنس بهم إبراهيم عليه السلام ثم قالوا نبشرك ثم ذكروا أشرف النوعين وهو الذكر ولم يقتنعوا به حتى وصفوه بأحسن الأوصاف فإن الابن يكون دون البنت إذا كانت البنت كاملة الخلقة حسنة الخلق والابن بالضد ثم إنهم تركوا سائر الأوصاف من الحسن والجمال والقوة والسلامة واختاروا العلم إشارة إلى أن العلم رأس الأوصاف ورئيس النعوت وقد ذكرنا فائدة تقديم البشارة على الإخبار عن إهلاكهم قوم لوط ليعلم أن الله تعالى يهلكهم إلى خلف ويأتي ببدلهم خيراً منهم
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة ٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
ثم قال تعالى فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة ٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ يَوْمٍ عَقِيمٍ
أي أقبلت على أهلها وذلك لأنها كانت في خدمتهم فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل ولم يقل بلفظ الإدبار عن الملائكة وقوله تعالى فِى صَرَّة ٍ أي صيحة كما جرت عادة النساء حيث يسمعن شيئاً من أحوالهن يصحن صيحة معتادة
لهن عند الاستحياء أو التعجب ويحتمل أن يقال تلك الصيحة كانت بقولها يا ويلتا تدل عليه الآية التي في سورة هود وصك الوجه أيضاً من عادتهن واستبعدت ذلك لوصفين من اجتماعهما أحدهما كبر السن والثاني العقم لأنها كانت لا تلد في صغر سنها وعنفوان شبابها ثم عجزت وأيست فاستبعدت فكأنها قالت يا ليتكم دعوتم دعاءً قريباً من الإجابة ظناً منها أن ذلك منهم كما يصدر من الضيف على سبيل الأخبار من الأدعية كقول الداعي الله يعطيك مالاً ويرزقك ولداً فقالوا هذا منا ليس بدعاء وإنما ذلك قول الله تعالى قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ثم دفعوا استبعادها بقولهم إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ
وقد ذكرنا تفسيرهما مراراً فإن قيل لم قال ههنا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ وقال في هود حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ( هود 73 ) نقول لما بينا أن الحكاية هناك أبسط فذكروا ما يدفع الاستبعاد بقولهم أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ( هود 73 ) ثم لما صدقت أرشدوهم إلى القيام بشكر نعم الله وذكروهم بنعمته بقولهم حَمِيدٌ فإن الحميد هو الذي يتحقق منه الأفعال الحسنة وقولهم مَّجِيدٌ إشارة إلى أن الفائق العالي الهمة لا يحمده لفعله الجميل وإنما يحمده ويسبح له لنفسه وههنا لما لم يقولوا أَتَعْجَبِينَ إشارة إلى ما يدفع تعجبها من التنبيه على حكمه وعلمه وفيه لطيفة وهي أن هذا الترتيب مراعى في السورتين فالحميد يتعلق بالفعل والمجيد يتعلق بالقول وكذلك الحكيم هو الذي فعله كما ينبغي لعلمه قاصداً لذلك الوجه بخلاف من يتفق فعله موافقاً للمقصود اتفاقاً كمن ينقلب على جنبه فيقتل حية وهو نائم فائدة لا يقال له حكيم وأما إذا فعل فعلاً قاصداً لقتلها بحيث يسلم عن نهشها يقال له حكيم فيه والعليم راجع إلى الذات إشارة إلى أنه يستحق الحمد بمجده وإن لم يفعل فعلاً وهو قاصد لعلمه وإن لم يفعل على وفق القاصد ثم قال تعالى
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى لما علم حالهم بدليل قوله مُنكِرُونَ ( الذاريات 25 ) لِم لَم يقنع بما بشروه لجواز أن يكون نزولهم للبشارة لا غير نقول إبراهيم عليه السلام أتى بما هو من آداب المضيف حيق يقول لضيفه إذا استعجل في الخروج ما هذه العجلة وما شغلك الذي يمنعنا من التشرف بالاجتماع بك ولا يسكت عند خروجهم مخافة أن يكون سكوته يوهم استثقالهم ثم إنهم أتوا بما هو من آداب الصديق الذي لا يسر عن الصديق الصدوق لا سيما وكان ذلك بإذن الله تعالى لهم في إطلاع إبراهيم عليه السلام على إهلاكهم وجبر قلبه بتقديم البشارة بخير البدل وهو أبو الأنبياء إسحاق عليه السلام على الصحيح فإن قيل فما الذي اقتضى ذكره بالفاء ولو كان كما ذكرتم لقال ماهذا الاستعجال وما خطبكم المعجل لكم نقول لو كان أوجس منهم خيفة وخرجوا من غير بشارة وإيناس ما كان يقول شيئاً فلما آنسوه قال ما خطبكم أي بعد هذا الأنس العظيم ما هذا الإيحاش الأليم
المسألة الثانية هل في الخطب فائدة لا توجد في غيره من الألفاظ نقول نعم وذلك من حيث إن الألفاظ المفردة التي يقرب منها الشغل والأمر والفعل وأمثالها وكل ذلك لا يدل على عظم الأمر وأما الخطب فهو الأمر العظيم وعظم الشأن يدل على عظم من على يده ينقضي فقال مَا خَطْبُكُمَا أي لعظمتكم لا ترسلون إلا في عظيم ولو قال بلفظ مركب بأن يقول ما شغلكم الخطير وأمركم العظيم للزم التطويل فالخطب أفاد التعظيم مع الإيجاز
المسألة الثالثة من أين عرف كونهم مرسلين فنقول قالوا له بدليل قوله تعالى إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ( هود 70 ) وإنما لم يذكر ههنا لما بينا أن الحكاية ببسطها مذكورة في سورة هود أو نقول لما قالوا لامرأته كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ ( الذاريات 30 ) علم كونهم منزلين من عند الله حيث كانوا يحكون قول الله تعالى يدل على هذا أن قولهم إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ كان جواب سؤاله منهم
قَالُوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ
المسألة الرابعة هذه الحكاية بعينها هي المحكية في هود وهناك قالوا أَنَّا أَرْسَلْنَا ( هود 70 ) بعد ما زال عنه الروع وبشروه وهنا قالوا أَنَّا أَرْسَلْنَا بعدما سألهم عن الخطب وأيضاً قالوا هناك إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ( هود 70 ) وقالوا ههنا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ والحكاية من قولهم فإن لم يقولوا ذلك ورد السؤال أيضاً فنقول إذا قال قائل حاكياً عن زيد قال زيد عمرو خرج ثم يقول مرة أخرى قال زيد إن بكراً خرج فإما أن يكون صدر من زيد قولان وإما أن لا يكون حاكياً مما قاله زيد والجواب عن الأول هو أنه لما خاف جاز أنهم ما قالوا له لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ فلما قال لهم ماذا تفعلون بهم كان لهم أن يقولوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ لنهلكهم كما يقول القائل خرجت من البيت فيقال لماذا خرجت فيقول خرجت لأتجر لكن ههنا فائدة معنوية وهي أنهم إنما قالوا في جواب ما خطبكم نهلكهم بأمر الله لتعلم براءتهم عن إيلام البريء وإهمال الرديء فأعادوا لفظ الإرسال وأما عن الثاني نقول الحكاية قد تكون حكاية اللفظ كما تقول قال زيد بعمرو مررت فيحكي لفظه المحكي وقد يكون حكاية لكلامه بمعناه تقول زيد قال عمرو خرج ولك أن تبدل مرة أخرى في غير تلك الحكاية بلفظة أخرى فتقول لما قال زيد بكر خرج قلت كيت وكيت كذلك ههنا القرآن لفظ معجز وما صدر ممن تقدم نبينا عليه السلام سوا كان منهم وسواء كان منزلاً عليهم لم يكن لفظه معجزاً فيلزم أن لا تكون هذه الحكايات بتلك الألفاظ فكأنهم قالوا له إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ وقالوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وله أن يقول إنا أرسلنا إلى قوم من آمن بك لأنه لا يحكي لفظهم حتى يكون ذلك واحداً بل يحكي كلامهم بمعناه وله عبارات كثيرة ألا ترى أنه تعالى لما حكى لفظهم في السلام على أحد الوجوه في التفسير قال في الموضعين سلاماً وسلام ثم بيّن ما لأجله أرسلوا بقوله
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَة ً مِّن طِينٍ
وقد فسرنا ذلك في العنكبوت وقلنا إن ذلك دليل على وجوب الرمي بالحجارة على اللائط وفيه مسائل
المسألة الأولى أي حاجة إلى قوم من الملائكة وواحد منهم كان يقلب المدائن بريشة من جناحه نقول الملك القادر قد يأمر الحقير بإهلاك الرجل الخطير ويأمر الرجل الخطير بخدمة الشخص الحقير إظهاراً لنفاذ أمره فحيث أهلك الخلق الكثير بالقمل والجراد والبعوض بل بالريح التي بها الحياة كان أظهر في القدرة وحيث أمر آلاف من الملائكة بإهلاك أهل بدر مع قلتهم كان أظهر في نفاذ الأمر وفيه فائدة أخرى وهي أن من يكون تحت طاعة ملك عظيم ويظهر له عدو ويستعين بالملك فيعينه بأكابر عسكره يكون ذلك تعظيماً منه له وكلما كان العدو أكثر والمدد أوفر كان التعظيم أتم لكن الله تعالى أعان لوطاً بعشرة ونبينا عليه السلام بخمسة آلاف وبين العددين من التفاوت ما لا يخفى وقد ذكرنا نبذاً منه في تفسير قوله تعالى وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مّنَ السَّمَاء ( ي س 28 )
المسألة الثانية ما الفائدة في تأكيد الحجارة بكونها من طين نقول لأن بعض الناس يسمي البرد حجارة فقوله مِن طِينٍ يدفع ذلك التوهم واعلم أن بعض من يدعي النظر يقول لا ينزل من السماء إلا حجارة من طين مدورات على هيئة البرد وهيئة البنادق التي يتخذها الرماة قالوا وسبب ذلك هو أن الإعصار يصعد الغبار من الفلوات العظيمة التي لا عمارة فيها والرياح تسوقها إلى بعض البلاد ويتفق وصول ذلك إلى هواء ندي فيصير طيناً رطباً والرطب إذا نزل وتفرق واستدار بدليل أنك إذا رميت الماء إلى فوق ثم نظرت إليه رأيته ينزل كرات مدورات كاللآلىء الكبار ثم في النزول إذا اتفق أن تضربه النيران التي في الجو جعلته حجارة كالآجر المطبوخ فينزل فيصيب من قدر الله هلاكه وقد ينزل كثيراً في المواضع التي لا عمارة بها فلا يرى ولا يدرى به ولهذا قال مِن طِينٍ لأن ما لا يكون من طين كالحجر الذي في الصواعق لا يكون كثيراً بحيث يمطر وهذا تعسف ومن يكون كامل العقل يسند الفكر إلى مما قاله ذلك القائل فيقول ذلك الإعصار لما وقع فإن وقع بحادث آخر يلزم التسلسل ولا بد من الانتهاء إلى محدث ليس بحادث فذلك المحدث لا بد وأن يكون فاعلاً مختاراً والمختار له أن يفعل ما ذكر وله أن يخلق الحجارة من طين على وجه آخر من غير نار ولا غبار لكن العقل لا طريق له إلى الجزم بطريق إحداثه وما لا يصل العقل إليه يجب أخذه بالنقل والنص ورد به فأخذنا به ولا نعلم الكيفية وإنما المعلوم أن الحجارة التي من طين نزولها من السماء أغرب وأعجب من غيرها لأنها في العادة لا بد لها من مكث في النار
مُّسَوَّمَة ً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ
فيه وجوه أحدها مكتوب على كل واحد اسم واحد يقتل به ثانيها أنها خلقت باسمهم ولتعذيبهم بخلاف سائر الأحجار فإنها مخلوقة للانتفاع في الأبنية وغيرها ثالثها مرسلة للمجرمين لأن الإرسال يقال في السوائم يقال أرسلها لترعى فيجوز أن يقول سومها بمعنى أرسلها وبهذا يفسر قوله تعالى وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَة ِ ( آل عمران 14 ) إشارة إلى الاستغناء عنها وأنها ليست للركوب ليكون أدل على الغنى كما قال وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَة ِ ( آل عمران 14 ) وقوله تعالى لِلْمُسْرِفِينَ إشارة إلى خلاف ما يقول الطبيعيون إن الحجارة إذا أصابت واحداً من الناس فذلك نوع من الاتفاق فإنها تنزل بطبعها يتفق شخص لها فتصيبه فقوله مُّسَوَّمَة ً أي في أول ما خلق وأرسل إذا علم هذا فإنما كان ذلك على قصد إهلاك المسرفين فإن قيل إذا كانت الحجارة مسومة للمسرفين فكيف قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ ( الذاريات 32 33 ) مع أن المسرف غير المجرم في اللغة نقول المجرم هو الآتي بالذنب العظيم لأن الجرم فيه دلالة على العظم ومنه جرم الشيء لعظمة مقداره والمسرف هو الآتي بالكبيرة ومن أسرف ولو في الصغائر يصير مجرماً لأن الصغير إلى الصغير إذا انضم صار كبيراً ومن أجرم فقد أسرف لأنه أتى بالكبيرة ولو دفعة واحدة فالوصفان اجتمعا فيهم لكن فيه لطيفة معنوية وهي أن الله تعالى سومها للمسرف المصر الذي لا يترك الجرم والعلم بالأمور المستقبلة عند الله تعالى يعلم أنهم مسرفون فأمر الملائكة بإرسالها عليهم وأما الملائكة فعلمهم تعلق بالحاضر وهم كانوا مجرمون فقالوا إنا أرسلنا إلى قوم نعلمهم مجرمين لنرسل عليهم حجارة خلقت لمن لا يؤمن ويصر ويسرف ولزم من هذا علمنا بأنهم لو عاشوا سنين لتمادوا في الإجرام فإن قيل اللام لتعريف الجنس أو لتعريف العهد نقول لتعريف العهد أي مسومة
لهؤلاء المسرفين إذ ليس لكل مسرف حجارة مسومة فإن قيل ما إسرافهم نقول ما دل عليه قوله تعالى مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن الْعَالَمِينَ ( العنكبوت 28 ) أي لم يبلغ مبلغكم أحد وقوله تعالى
فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
فيه فائدتان
إحداهما بيان القدرة والاختيار فإن من يقول بالاتفاق يقول يصيب البر والفاجر فلما ميز الله المجرم عن المحسن دل على الاختيار
ثانيها بيان أنه ببركة المحسن ينجو المسيء فإن القرية ما دام فيها المؤمن لم تهلك والضمير عائد إلى القرية معلومة وإن لم تكن مذكورة وقوله تعالى
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ
فيه إشارة إلى أن الكفر إذا غلب والفسق إذا فشا لا تنفع معه عبادة المؤمنين بخلاف ما لو كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويزنون وقيل في مثاله إن العالم كبدن ووجود الصالحين كالأغذية الباردة والحارة والكفار والفساق كالسموم الواردة عليه الضارة ثم إن البدن إن خلا عن المنافع وفيه المضار هلك وإن خلا عن المضار وفيه المنافع طاب عيشه ونما وإن وجد فيه كلاهما فالحكم للغالب فكذلك البلاد والعباد والدلالة على أن المسلم بمعنى المؤمن ظاهرة والحق أن المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه فإذا سمي المؤمن مسلماً لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه تعالى قال أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتاً من المسلمين ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين وهذا كما لو قال قائل لغيره من في البيت من الناس فيكول له ما في البيت من الحيوانات أحد غير زيد فيكون مخبراً له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد ثم قال تعالى
وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَة ً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ
وفي الآية خلاف قيل هو ماء أسود منتن انشقت أرضهم وخرج منها ذلك وقيل حجارة مرمية في ديارهم وهي بين الشام والحجاز وقوله لّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الاْلِيمَ أي المنتفع بها هو الخائف كما قال تعالى لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( العنكبوت 45 ) في سورة العنكبوت وبينهما في اللفظ فرق قال ههنا ءايَة ً وقال هناك بَيّنَة ً لّقَوْمٍ وقال هناك لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وقال ههنا لّلَّذِينَ يَخَافُونَ فهل في المعنى فرق نقول هناك مذكور بأبلغ وجه يدل عليه قوله تعالى بَيّنَة ً لّقَوْمٍ حيث وصفها بالظهور وكذلك منها وفيها فإن من للتبعيض فكأنه تعالى قال من نفسها لكم آية باقية وكذلك قال لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فإن العاقل أعم من الخائف فكانت الآية هناك أظهر وسببه ما ذكرنا أن القصد هناك تخويف القوم وههنا تسلية القلب ألا ترى إلى قوله تعالى فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ الْمُسْلِمِينَ ( الذاريات 35 36 ) وقال هناك إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ ( العنكبوت 33 ) من غير بيان وافٍ بنجاة المسلمين والمؤمنين بأسرهم
ثم قال تعالى
وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
قوله وَفِى مُوسَى يحتمل أن يكون معطوفاً على معلوم ويحتمل أن يكون معطوفاً على مذكور أما الأول ففيه وجوه الأول أن يكون المراد ذلك في إبراهيم وفي موسى لأن من ذكر إبراهيم يعلم ذلك الثاني لقوم في لوط وقومه عبرة وفي موسى وفرعون الثالث أن يكون هناك معنى قوله تعالى تفكروا في إبراهيم ولوط وقومهما وفي موسى وفرعون والكل قريب بعضه من بعض وأما الثاني ففيه أيضاً وجوه أحدها أنه عطف على قوله وَفِى الاْرْضِ ءايَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ ( الذاريات 20 ) وَفِى مُوسَى وهو بعيد لبعده في الذكر ولعدم المناسبة بينهما ثانيها أنه عطف على قوله وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَة ً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ ( الذاريات 37 ) وَفِى مُوسَى أي وجعلنا في موسى على طريقة قولهم علفتها تبناً وماءً بارداً وتقلدت سيفاً ورمحاً وهو أقرب ولا يخلو عن تعسف إذا قلنا بما قال به بعض المفسرين إن الضمير في قوله تعالى وَتَرَكْنَا فِيهَا عائد إلى القرية ثالثها أن نقول فيها راجع إلى الحكاية فيكون التقدير وتركنا في حكايتهم آية أو في قصتهم فيكون وفي قصة موسى آية وهو قريب من الاحتمال الأول وهو العطف على المعلوم رابعها أن يكون عطفاً على هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ( الذاريات 24 ) وتقديره وفي موسى حديث إذ أرسلناه وهو مناسب إذ جمع الله كثيراً من ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام كما قال تعالى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى ( النجم 36 ) وقال تعالى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى ( الأعلى 19 ) والسلطان القوة بالحجة والبرهان والمبين الفارق وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون المراد منه ما كان معه من البراهين القاطعة التي حاج بها فرعون ويحتمل أن يكون المراد المعجز الفارق بين سحر الساحر وأمر المسلمين
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
قوله تعالى فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فيه وجوه الأول الباء للمصاحبة والركن إشارة إلى القوم كأنه تعالى يقول أعرض مع قومه يقال نزل فلان بعسكره على كذا ويدل على هذا الوجه قوله تعالى فَأَرَاهُ الاْيَة َ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ( النازعات 20 22 ) قال أَدْبَرَ وهو بمعنى تولى وقوله فَحَشَرَ فَنَادَى ( النازعات 23 ) وفي معنى قوله تعالى بِرُكْنِهِ الثاني فَتَوَلَّى أي اتخذ ولياً والباء للتعدية حينئذ يعني تقوى بجنده والثالث تولى أمر موسى بقوته كأنه قال أقتل موسى لئلا يبدل دينكم ولا يظهر في الأرض الفساد فتولى أمره بنفسه وحينئذ يكون المفعول غير مذكور وركنه هو نفسه القوية ويحتمل أن يكون المراد من ركنه هامان فإنه كان وزيره وعلى هذا الوجه الثاني أظهر
وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أي هذا ساحر أو مجنون وقوله سَاحِرٌ أي يأتي الجن بسحره أو يقرب منهم والجن يقربون منه ويقصدونه إن كان هو لا يقصدهم فالساحر والمجنون كلاهما أمره مع الجن غير أن الساحر يأتيهم باختياره والمجنون يأتونه من غير اختياره فكأنه أراد صيانة كلامه عن الكذب فقال هو يسحر الجن أو يسحر فإن كان ليس عنده منه خبر ولا يقصد ذلك فالجن يأتونه ثم قال تعالى
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ
وهو إشارة إلى بعض ما أتى به كأنه يقول واتخذ الأولياء فلم ينفعوه وأخذه الله وأخذ أركانه وألقاهم جميعاً في اليم وهو البحر والحكاية
مشهورة وقوله تعالى وهو مليم نقول فيه شرف موسى عليه السلام وبشارة للمؤمنين أما شرفه فلأنه قال بأنه أتى بما يلام عليه بمجرد قوله إني أُريد هلاك أعدائك يا إلاه العالمين فلم يكن له سبب إلا هذا أما فرعون فقال وهو مليم نقول فيه شرف موسى عليه السلام وبشارة للمؤمنين أما شرفه فلأنه قال بأنه أتى بما يلام عليه بمجرد قوله إني أُريد هلاك أعدائك يا إلاه العالمين فلم يكن له سبب إلا هذا أما فرعون فقال نقول فيه شرف موسى عليه السلام وبشارة للمؤمنين أما شرفه فلأنه قال بأنه أتى بما يلام عليه بمجرد قوله إني أُريد هلاك أعدائك يا إلاه العالمين فلم يكن له سبب إلا هذا أما فرعون فقال أَنَاْ رَبُّكُمُ الاْعْلَى ( النازعات 24 ) فكان سببه تلك وهذا كما قال القائل فلان عيبه أنه سارق أو قاتل أو يعاشر الناس يؤذيهم وفلان عيبه أنه مشغول بنفسه لا يعاشر فتكون نسبة العيبين بعضهما إلى بعض سبباً لمدح أحدهما وذم الآخر وأما بشارة المؤمنين فهو بسبب أن من التقمه الحوت وهو مليم نجاه الله تعالى بتسبيحه ومن أهلكه الله بتعذيبه لم ينفعه إيمانه حين قال وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْراءيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا إِسْراءيلَ ( يونس 90 ) ثم قال تعالى
وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ
وفيه ما ذكرنا من الوجوه التي ذكرناها في عطف موسى عليه السلام وفيه مسائل
المسألة الأولى ذكر أن المقصود ههنا تسلية قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وتذكيره بحال الأنبياء ولم يذكر في عاد وثمود أنبياءهم كما ذكر إبراهيم وموسى عليهما السلام نقول في ذكر الآيات ست حكايات حكاية إبراهيم عليه السلام وبشارته وحكاية قوم لوط ونجاة من كان فيها من المؤمنين وحكاية موسى عليه السلام وفي هذه الحكايات الثلاث ذكر الرسل والمؤمنين لأن الناجين فيهم كانوا كثيرين أما في حق إبراهيم وموسى عليهما السلام فظاهر وأما في قوم لوط فلأن الناجين وإن كانوا أهل بيت واحد ولكن المهلكين كانوا أيضاً أهل بقعة واحدة
وأما عاد وثمود وقوم نوح فكان عدد المهلكين بالنسبة إلى الناجين أضعاف ما كان عدد المهلكين بالنسبة إلى الناجين من قوم لوط عليه السلام
فذكر الحكايات الثلاثَ الأول للتسلية بالنجاة وذكر الثلاث المتأخرة للتسلية بإهلاك العدو والكل مذكور للتسلية بدليل قوله تعالى في آخر هذه الآيات كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ إلى أن قال فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ وَذَكّرْ فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ( الذاريات 54 55 )
وفي هود قال بعد الحكايات ذالِكَ مِنْ أَنْبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ إلى أن قال وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِى َ ظَالِمَة ٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( هود 100 102 ) فذكر بعدها ما يؤكد التهديد وذكر بعد الحكايات ههنا ما يفيد التسلي وقوله الْعَقِيمَ أي ليست من اللواقح لأنها كانت تكسر وتقلع فكيف كانت تلقح والفعيل لا يلحق به تاء التأنيث إذا كان بمعنى مفعول وكذلك إذا كان بمعنى فاعل في بعض الصور وقد ذكرنا سببه أن فعيل لما جاء للمفعول والفاعل جميعاً ولم يتميز المفعول عن الفاعل فأولى أن لا يتميز المؤنث عن المذكر فيه لأنه لو تميز لتميز الفاعل عن المفعول قبل تميز المؤنث والمذكر لأن الفاعل جزء من الكلام محتاج إليه فأول ما يحصل في الفعل الفاعل ثم التذكير والتأنيث يصير كالصفة للفاعل والمفعول تقول فاعل وفاعلة ومفعول ومفعولة ويدل على ذلك أيضاً أن التمييز بين الفاعل والمفعول جعل بحرف ممازج للكلمة فقيل فاعل بألف فاصلة بين الفاء والعين التي هي من أصل الكلمة وقيل مفعول بواو فاصلة بين العين واللام والتأنيث كان بحرف في آخر الكلمة فالمميز فيهما غير نظم الكلمة لشدة الحاجة وفي
التأنيث لم يؤثر ولأن التمييز في الفاعل والمفعول كان بأمرين يختص كل واحد منهما بأحدهما فالألف بعد الفاء يختص بالفاعل والميم والواو يختص بالمفعول والتمييز في التذكير والتأنيث بحرف عند وجوده يميز المؤنث وعند عدمه يبقى اللفظ على أصل التذكير فإذا لم يكن فعيل يمتاز فيه الفاعل عن المفعول إلا بأمر منفصل كذلك المؤنث والمذكر لا يمتاز أحدهما عن الآخر إلا بحرف ير متصل به وقوله تعالى
مَا تَذَرُ مِن شَى ْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ
وفيه مباحث
الأول في إعرابه وفيه وجهان أحدهما نصب على أنه صفة الريح بعد صفة العقيم ذكر الواحدي أنه وصف فإن قيل كيف يكون وصفاً والمعرفة لا توصف بالجمل وما تذر جملة ولا يوصف بها إلا النكرات نقول الجواب فيه من وجهين أحدهما أنه يكون بإعادة الريح تقديراً كأنه يقول وأرسلنا عليهم الريح العقيم ريحاً ما تذر ثانيهما هو أن المعرف نكرة لأن تلك الريح منكرة كأنه يقول وأرسلنا الريح التي لم تكن من الرياح التي تقع ولا وقع مثلها فهي لشدتها منكرة ولهذا أكثر ما ذكرها في القرآن ذكرها منكرة ووصفها بالجملة من جملتها قوله تعالى بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( الأحقاف 24 ) وقوله رِيحٌ صَرْصَرٍ عَاتِيَة ٍ سَخَّرَهَا ( الحاقة 6 6 ) إلى غير ذلك الوجه الثاني وهو الأصح أنه نصب على الحال تقول جاءني ما يفهم شيئاً فعلمته وفهمته أي حاله كذا فإن قيل لم تكن حال الإرسال ما تذر والحال ينبغي أن يكون موجوداً مع ذي الحال وقت الفعل فلا يجوز أن يقال جاءني زيد أمس راكباً غداً والريح بعدما أرست بزمان صارت ما تذر شيئاً نقول المراد به البيان بالصلاحية أي أرسلناها وهي على قوة وصلاحية أن لا تذر نقول لمن جاء وأقام عندك أياماً ثم سألك شيئاً جئتني سائلاً أي قبل السؤال بالصلاحية والإمكان هذا إن قلنا إنه نصب وهو المشهور ويحتمل أنه رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي ما تذر
البحث الثاني مَا تَذَرُ للنفي حال التكلم يقال ما يخرج زيد أي الآن وإذا أردت المستقبل تقول لا يخرج أو لن يخرج وأما الماضي تقول ما خرج ولم يخرج والريح حالة الكلام مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانت ما تركت شيئاً إلا جعلته كالرميم فكيف قال بلفظ الحالة مَا تَذَرُ نقول الحكاية مقدرة على أنها محكية حال الوقوع ولهذا قال تعالى وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ( الكهف 18 ) مع أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وإنما يعمل ما كان منه بمعنى الحال والاستقبال
البحث الثالث هل في قوله تعالى مَا تَذَرُ مِن شَى ْء أَتَتْ عَلَيْهِ مبالغة ودخول تخصيص كما في قوله تعالى تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء بِأَمْرِ رَبّهَا ( الأحقاف 25 ) نقول هو كما وقع لأن قوله أَتَتْ عَلَيْهِ وصف لقوله شَى ْء كأنه قال كل شيء أتت عليه أو كل شيء تأتي عليه جعلته كالرميم ولا يدخل فيه السموات لأنها ما أتت عليها وإنما يدخل فيه الأجسام التي تهب عليها الرياح فإن قيل فالجبال والصخور أتت عليها وما جعلتها كالرميم نقول المراد أتت عليه قصداً وهو عاد وأبنيتهم وعروشهم وذلك لأنها كانت مأمورة بأمر من عند الله فكأنها كانت قاصدة إياهم فما تركت شيئاً من تلك الأشياء إلا جعلته كالرميم مع أن الصر الريح الباردة والمكرر لا ينفك عن المعنى الذي في اللفظ من غير تكرير تقول حث وحثحث وفيه ما في حث نقول
فيه قولان أحدهما أنها كانت باردة فكانت في أيام العجوز وهي ثمانية أيام من آخر شباط وأول آذار والريح الباردة من شدة بردها تحرق الأشجار والثمار وغيرهما وتسودهما والثاني أنها كانت حارة والصر هو الشديد لا البارد وبالشدة فسّر قوله تعالى فِى صَرَّة ٍ ( الذاريات 29 ) أي في شدة من الحر
البحث الرابع في قوله تعالى مَا تَذَرُ مِن شَى ْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ لأن في قوله تعالى مَا تَذَرُ نفي الترك مع إثبات الإتيان فكأنه تعالى قال تأتي على أشياء وما تتركها غير محرقة وقول القائل ما أتى على شيء إلا جعله كذا يكون نفي الإتيان عما لم يجعله كذلك
وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ
قوله تعالى وَفِى ثَمُودَ والبحث فيه وفي عاد هو ما تقدم في قوله تعالى وَفِى مُوسَى ( الذاريات 38 )
وقوله تعالى إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ قال بعض المفسرين المراد منه هو ما أمهلهم الله ثلاثة أيام بعد قتلهم الناقة وكانت في تلك الأيام تتغير ألوانهم فتصفر وجوههم وتسود وهو ضعيف لأن قوله تعالى فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ ( الذاريات 44 ) بحرف الفاء دليل على أن العتو كان بعد قوله تَمَتَّعُواْ فإن الظاهر أن المراد هو ما قدر الله للناس من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل يقول له تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فما لك في الآخرة من نصيب وقوله
فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ وَهُمْ يَنظُرُونَ
فيه بحث وهو أن عتا يستعمل بعلى قال تعالى أيهم أشد على الرحمن عتياً ( مريم 69 ) وههنا استعمل مع كلمة عن فنقول فيه معنى الاستعتاء فحيث قال تعالى أيهم أشد على الرحمن عتياً ( مريم 69 ) وههنا استعمل مع كلمة عن فنقول فيه معنى الاستعتاء فحيث قال تعالى ( مريم 69 ) وههنا استعمل مع كلمة عن فنقول فيه معنى الاستعتاء فحيث قال تعالى عَنْ أَمَرَهُمْ رَّبُّهُمْ كان كقوله لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأعراف 206 ) وحيث قال على كان كقول القائل فلان يتكبر علينا والصاعقة فيه وجهان ذكرناهما هنا أحدها أنها الواقعة والثاني الصوت الشديد وقوله وَهُمْ يَنظُرُونَ إشارة إلى أحد معنيين إما بمعنى تسليمهم وعدم قدرتهم على الدفع كما يقول القائل للمضروب يضربك فلان وأنت تنظر إشارة إلى أنه لا يدفع وإما بمعنى أن العذاب أتاهم لا على غفلة بل أنذروا به من قبل بثلاثة أيام وانتظروه ولو كان على غفلة لكان لمتوهم أن يتوهم أنهم أخذوا على غفلة أخذ العاجل المحتاج كما يقول المبارز الشجاع أخبرتك بقصدي إياك فانتظرني
فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ
وقوله تعالى فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ يحتمل وجهين أحدهما أنه لبيان عجزهم عن الهرب والفرار على سبيل المبالغة فإن من لا يقدر على قيام كيف يمشي فضلاً عن أن يهرب وعلى هذا فيه لطائف لفظية إحداها قوله تعالى فَمَا اسْتَطَاعُواْ فإن الاستطاعة دون القدرة لأن في الاستطاعة دلالة الطلب وهو ينبىء عن عدم القدرة والاستقلال فمن استطاع شيئاً كان دون من يقدر عليه ولهذا يقول المتكلمون الاستطاعة مع الفعل أو قبل الفعل إشارة إلى قدرة مطلوبه من الله تعالى مأخوذة منه وإليه الإشارة بقوله تعالى هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ( المائدة 112 ) على قراءة من قرأ بالتاء وقوله فَمَا اسْتَطَاعُواْ أبلغ من قول القائل ما قدروا على قيام ثانيها قوله تعالى مِن قِيَامٍ بزيادة من وقد عرفت ما فيه من التأكيد ثالثها قوله قِيَامٍ بدل قوله هرب لما بينا أن العاجز عن القيام أولى أن يعجز عن الهرب الوجه الثاني هو أن المراد
من قيام القيام بالأمر أي ما استطاعوا من قيام به
وقوله تعالى وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ أي ما استطاعوا الهزيمة والهرب ومن لا يقدر عليه يقاتل وينتصر بكل ما يمكنه لأنه يدفع عن الروح وهم مع ذلك ما كانوا منتصرين وقد عرفت أن قول القائل ما هو بمنتصر أبلغ من قوله ما انتصر ولا ينتصر والجواب ترك مع كونه يجب تقديره وقوله مَا انتَصَرَ أي لشيء من شأنه ذلك كما تقول فلان لا ينصر أو فلان ليس ينصر ثم قال تعالى
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
قرىء قَوْمٌ بالجر والنصب فما وجههما نقول أما الجر فظاهر عطفاً على ما تقدم في قوله تعالى وَفِى عَادٍ ( الذاريات 41 ) وَفِى مُوسَى ( الذاريات 38 ) تقول لك في فلان عبرة وفي فلان وفلان وأما النصب فعلى تقدير وأهلكنا قوم نوح من قبل لأن ما تقدم دلّ على الهلاك فهو عطف على المحل وعلى هذا فقوله مِن قَبْلُ معناه ظاهر كأنه يقول وَأَهْلَكْنَا قَوْمُ نُوحٍ مِن قَبْلُ وأما على الوجه الأول فتقديره وفي قوم نوح لكم عبرة من قبل ثمود وعاد وغيرهم ثم قال تعالى
وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ
وهو بيان للوحدانية وما تقدم كان بياناً للحشر
وأما قوله ههنا وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وأنتم تعرفون أن ما تعبدون من دون الله ما خلقوا منها شيئاً فلا يصح الإشراك ويمكن أن يقال هذا عود بعد التهديد إلى إقامة الدليل وبناء السماء دليل على القدرة على خلق الأجسام ثانياً كما قال تعالى أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( ي س 81 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى النصب على شريطة التفسير يختار في مواضع وإذا كان العطف على جملة فعليه فما تلك الجملة نقول في بعض الوجوه التي ذكرناها في قوله تعالى وَفِى عَادٍ ( الذاريات 41 ) وَفِى ثَمُودَ ( الذاريات 43 ) تقديره وهل أتاك حديث عاد وهل أتاك حديث ثمود عطفاً على قوله هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ( الذاريات 24 ) وعلى هذا يكون ما تقدم جملة فعلية لا خفاء فيه وعلى غير ذلك الوجه فالجار والمجرور النصب أقرب منه إلى الرفع فكان عطفاً على ما بالنصب أولى ولأن قوله تعالى فَنَبَذْنَاهُمْ ( الذاريات 40 ) وقوله أَرْسَلْنَا ( الذاريات 32 ) وقوله تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ ( الذاريات 44 ) و فَمَا اسْتَطَاعُواْ ( الذاريات 45 ) كلها فعليات فصار النصب مختاراً
المسألة الثانية كرر ذكر البناء في السماوات قال تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وقال تعالى أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا ( النازعات 27 ) وقال تعالى جَعَلَ لَكُمُ الاْرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاء بِنَاء ( غافر 65 ) فما الحكمة فيه نقول فيه وجوه أحدها أن البناء باق إلى قيام القيامة لم يسقط منه شيء ولم يعدم منه جزء وأما الأرض فهي في التبدل والتغير فهي كالفرش الذي يبسط ويطوي وينقل والسماء كالبناء المبني الثابت وإليه الإشارة بقوله تعالى سَبْعاً شِدَاداً ( النبأ 12 ) وأما الأراضي فكم منها ما صار بحراً وعاد أرضاً من وقت حدوثها ثانيها أن السماء ترى كالقبة المبنية فوق الرؤوس والأرض مبسوطة مدحوة والبناء بالمرفوع أليق كما قال تعالى رَفَعَ سَمْكَهَا ( النازعات 28 ) ثالثها قال بعض الحكماء السماء مسكن الأرواح والأرض
موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناء والله أعلم
المسألة الثالثة الأصل تقديم العامل على المعمول والفعل هو العامل فقوله بُنْيَانًا عامل في السماء فما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال وبنينا السماء بأيد كان أوجز نقول الصانع قبل الصنع عند الناظر في المعرفة فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل فقال والسماء المزينة التي لا تشكون فيها بنيناها فاعرفونا بها إن كنتم لا تعرفوننا
المسألة الرابعة إذا كان المقصود إثبات التوحيد فكيف قال بَنَيْنَاهَا ولم يقل بنيتها أو بناها الله نقول قوله بُنْيَانًا أدل على عدم الشريك في التصرف والاستبداد وقوله بنيتها يمكن أن يكون فيه تشريك وتمام التقرير هو أن قوله تعالى بَنَيْنَاهَا لا يورث إيهاماً بأن الآلها التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها الضمير في بَنَيْنَاهَا لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صورها وطبائعها فأما الأصنام المنحوتة فلا يشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها وإنما يمكن أن يقال إنما بنيت لها وجعلت أماكنها فلما لم يتوهم ما قالوا قال بنينا نحن ونحن غير ما يقولون ويدعون فلا يصلحون لنا شركاء لأن كل ما هو غير السماء ودون السماء في المرتبة فلا يكون خالق السماء وبانيها فإذن علم أن المراد جمع التعظيم وأفاد النص عظمته فالعظمة أنفى للشريك فثبت أن قوله بَنَيْنَاهَا أدل على نفي الشريك من بنيتها وبناها الله
فإن قيل لم قلت إن الجمع يدل على التعظيم قلنا الجواب من الوجهين الأول أن الكلام على قدر فهم السامع والسامع هو الإنسان والإنسان يقيس الشاهد على الغائب فإن الكبير عندهم من يفعل الشيء بجنده وخدمه ولا يباشر بنفسه فيقول الملك فعلنا أي فعله عبادنا بأمرنا ويكون في ذلك تعظيم فكذلك في حق الغائب الوجه الآخر هو أن القول إذا وقع من واحد وكان الغير به راضياً يقول القائل فعلنا كلنا كذا وإذا اجتمع جمع على فعل لا يقع إلا بالبعض كما إذا خرج جم غفير وجمع كثير لقتل سبع وقتلوه يقال قتله أهل بلدة كذا لرضا الكل به وقصد الكل إليه إذا عرفت هذا فالله تعالى كيفما أمر بفعل شيء لا يكون لأحد رده وكان كل واحد منقاداً له يقول بدل فعلت فعلنا ولهذا الملك العظيم أجمعنا بحيث لا ينكره أحد ولا يرده نفس وقوله تعالى بِأَيْدٍ أي قوة والأيد القوة هذا هو المشهور وبه فسّر قوله تعالى ذَا الاْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( ص 17 ) يحتمل أن يقال إن المراد جمع اليد ودليله أنه قال تعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) وقال تعالى مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعاماً ( ي س 71 ) وهو راجع في الحقيقة إلى المعنى الأول وعلى هذا فحيث قال خُلِقَتْ قال بِيَدَى َّ وحيث قال بِأَيْدٍ لمقابلة الجمع بالجمع فإن قيل فلم لم يقل بنيناها بأيدينا وقال وَمَا عَلَّمْتُمْ أَيْدِينَا نقول لفائدة جليلة وهي أن السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة لغير الله والأنعام ليست كذلك فقال هناك مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة وكذلك خَلَقْتُ بِيَدَى َّ وفي السماء بِأَيْدٍ من غير إضافة للاستغناء عنها وفيه لطيفة أخرى وهي أن هناك لما أثبت الإضافة بعد حذف الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته بيدي ولا قال عملته أيدينا وقال ههنا بَنَيْنَاهَا لأن هناك لم يخطر ببال أحد أن الإنسان غير مخلوق وأن الحيوان غير معمول فلم يقل خلقته ولا عملته وأما السماء فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة فقال بَنَيْنَاهَا بعود الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة
وقوله تعالى وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ فيه وجوه أحدها أنه من السعة أي أوسعناها بحيث صارت الأرض وما يحيط به من الماء والهواء بالنسبة إلى السماء وسعتها كحلقة في فلاة والبناء الواسع الفضاء عجيب فإن القبة الواسعة لا يقدر عليها البناءون لأنهم يحتاجون إلى إقامة آلة يصح بها استدارتها ويثبت بها تماسك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض ثانيها قوله وإنا لموسعون أي لقادرون ومنه قوله تعالى وإنا لموسعون أي لقادرون ومنه قوله تعالى أي لقادرون ومنه قوله تعالى لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ( البقرة 286 ) أي قدرتها والمناسبة حينئذ ظاهرة ويحتمل أن يقال بأن ذلك حينئذ إشارة إلى المقصود الآخر وهو الحشر كأنه يقول بنينا السماء وإنا لقادرون على أن نخلق أمثالها كما في قوله تعالى أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ( ي س 81 ) ثالثها أَنَاْ لَمُوسِعُونَ الرزق على الخلق ثم قال تعالى
وَالاٌّرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ
استدلالاً بالأرض وقد علم ما في قوله وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا وفيه دليل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش وقوله تعالى فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ أي نحن أو فنعم الماهدون ماهدوها
وَمِن كُلِّ شَى ْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
ثم قال تعالى وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ استدلالاً بما بينهما والزوجان إما الضدان فإن الذكر والأنثى كالضدين والزوجان منهما كذلك وإما المتشاكلان فإن كل شيء له شبيه ونظير وضد وند قال المنطقيون المراد بالشيء الجنس وأقل ما يكون تحت الجنس نوعان فمن كل جنس خلق نوعين من الجوهر مثلاً المادي والمجرد ومن المادي النامي والجامد ومن النامي المدرك والنبات من المدرك للناطق والصامت وكل ذلك يدل على أنه فرد لا كثرة فيه
وقوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لعلّكم تذكرون أن خالق الأزواج لا يكون له زوج وإلا لكان ممكناً فيكون مخلوقاً ولا يكون خالقاً أو لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أن خالق الأزواج لا يعجز عن حشر الأجسام وجمع الأرواح ثم قال تعالى
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
أمر بالتوحيد وفيه لطائف الأولى قوله تعالى فَفِرُّواْ ينبىء عن سرعة الإهلاك كأنه يقول الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب من أن يحتمل الحال الإبطاء في الرجوع فافزعوا إلى الله سريعاً وفروا الثانية قوله تعالى إِلَى اللَّهِ بيان المهروب إليه ولم يذكر الذي منه الهرب لأحد وجهين إما لكونه معلوماً وهو هول العذاب أو الشيطان الذي قال فيه إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً ( فاطر 6 ) وإما ليكون عاماً كأنه يقول كل ما عدا الله عدوكم ففروا إليه من كل ما عداه وبيانه وهو أن كل ما عداه فإنه يتلف عليك رأس مالك الذي هو العمر ويفوت عليكم ما هو الحق والخير
ومتلف رأس المال مفوت الكمال عدو وأما إذا فررت إلى الله وأقبلت على الله فهو يأخذ عمرك ولكن يرفع أمرك ويعطيك بقاء لا فناء معه والثالثة الفاء للترتيب معناه إذا ثبت أن خالق الزوجين فرد ففروا إليه واتركوا غيره تركاً مؤبداً الرابعة في تنوع الكلام فائدة وبيانها هو أن الله تعالى قال وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا ( الذاريات 47 ) وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا ( الذاريات 48 ) وَمِن كُلّ شَى ْء خَلَقْنَا ( الذاريات 49 ) ثم جعل الكلام للنبي عليه السلام وقال فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ولم يقل ففروا إلينا وذلك لأن لاختلاف الكلام تأثيراً وكذلك لاختلاف المتكلمين تأثيراً ولهذا يكثر الإنسان من النصائح مع ولده الذي حاد عن الجادة ويجعل الكلام مختلفاً نوعاً ترغيباً ونوعاً ترهيباً وتنبيهاً بالحكاية ثم يقول لغيره تكلم معه لعلّ كلامك ينفع لما في أذهان الناس أن اختلاف المتكلمين واختلاف الكلام كلاهما مؤثر والله تعالى ذكر أنواعاً من الكلام وكثيراً من الاستدلالات والآيات وذكر طرفاً صالحاً من الحكايات ثم ذكر كلاماً من متكلم آخر هو النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن المفسرين من يقول تقديره فقل لهم ففروا وقوله إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ إشارة إلى الرسالة
وفيه أيضاً لطائف إحداها أن الله تعالى بيّن عظمته بقوله وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا وَالاْرْضَ فَرَشْنَاهَا وهيبته بقوله فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ ( القصص 40 ) وقوله تعالى أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرّيحَ الْعَقِيمَ ( الذاريات 48 ) وقوله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَة ُ ( النسا 153 ) وفيه إشارة إلى أنه تعالى إذا عذب قدر على أن يعذب بما به البقاء والوجود وهو التراب والماء والهواء والنار فحكايات لوط تدل على أن التراب الذي منه الوجود والبقاء إذا أراد الله جعله سبب الفناء والماء كذلك في قوم فرعون والهواء في عاد والنار في ثمود ولعلّ ترتيب الحكايات الأربع للترتيب الذي في العناصر الأربعة وقد ذكرنا في سورة العنكبوت شيئاً منه ثم إذا أبان عظمته وهيبته قال لرسوله عرفهم الحال وقل أنا رسول بتقديم الآيات وسرد الحكايات فلإردافه بذكر الرسول فائدة ثانيها في الرسالة أمور ثلاثة المرسل والرسول والمرسل إليه وههنا ذكر الكل فقوله لَكُمْ إشارة إلى المرسل إليهم وقوله مِنْهُ إشارة إلى المرسل وقوله نَّذِيرٍ بيان للرسول وقدم المرسل إليه في الذكر لأن المرسل إليه أدخل في أمر الرسالة لأن عنده يتم الأمر والملك لو لم يكن هناك من يخالفه أو يوافقه فيرسل إليه نذيراً أو بشيراً لا يرسل وإن كان ملكاً عظيماً وإذا حصل المخالف أو الموافق يرسل وإن كان غير عظيم ثم المرسل لأنه متعين وهو الباعث وأما الرسول فباختياره ولولا المرسل المتعين لما تمت الرسالة وأما الرسول فلا يتعين لأن للملك اختيار من يشاء من عباده فقال مِنْهُ ثم قال نَّذِيرٍ تأخيراً للرسول عن المرسل ثالثها قوله مُّبِينٌ إشارة إلى ما به تعرف الرسالة لأن كل حادث له سبب وعلامة فالرسول هو الذي به تتم الرسالة ولا بد له من علامة يعرف به فقوله فقوله مُّبِينٌ إشارة إليها وهي إما البرهان والمعجزة
وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ إِنِّء لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
ثم قال تعالى وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ إتماماً للتوحيد وذلك لأن التوحيد بين التعطيل والتشريك وطريقة التوحيد هي الطريقة فالمعطل يقول لا إلاه أصلاً والمشرك يقول في الوجود آلهة والموحد يقول قوله الاثنين باطل نفي الواحد باطل فقوله تعالى فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ ( الذاريات 50 ) أثبت وجود الله ولما قال وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ نفى الأكثر من الواحد فصح التوحيد بالآيتين ولهذا قال مرتين إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أي في المقامين والموضعين وقد ذكرنا مراراً أن المعطل إذا قال لا واجب يجعل الكل ممكناً فإن كل موجود ممكن ولكن الله في الحقيقة موجود فقد جعله في تضاعيف قوله كالممكنات فقد أشرك وجعل الله كغيره والمشرك لما قال بأن غيره إلاه يلزم من قوله نفي كون الإله إلاهاً لما ذكرنا في تقرير دلالة
التمانع مع أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله للزم عجز كل واحد فلا يكون في الوجود إلاه أصلاً فيكون ناقياً للإلاهية فيكون معطلاً فالمعطل مشرك والمشرك معطل وكل واحد من الفريقين معترف بأن اسمه مبطل لكنه هو على مذهب خصمه يقول إنه نفسه مبطل وهو لا يعلم والحمد لله الذي هدانا وقوله وَلاَ تَجْعَلُواْ فيه لطيفة وهي أنه إشارة إلى أن الآلهة مجعولة لا يقال فالله متخذ لقوله فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ( المزمل 9 ) قلنا الجواب عنه الظاهر وقد سبق في قوله تعالى وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَة ً ( مريم 81 )
كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ
والتفسير معلوم مما سبق وقد ذكرنا أنه يدل على أن ذكر الحكايات للتسلية غير أن فيه لطيفة واحدة لا نتركها وهي أن هذه الآية دليل على أن كل رسول كذب وحينئذ يرد عليه أسئلة الأول هو أنه من الأنبياء من قرر دين النبي الذي كان قبله وبقي القوم على ما كانوا عليه كأنبياء بني إسرائيل مدة وكيف وآدم لما أرسل لم يكذب الثاني ما الحكمة في تقدير الله تكذيب الرسل ولم يرسل رسولاً مع كثرتهم واختلاف معجزاتهم بحيث يصدقه أهل زمانه الثالث قوله مَا أَتَى إِلاَّ قَالُواْ دليل على أنهم كلهم قالوا ساحر وليس كذلك لأنه ما من رسول إلا وآمن به قوم وهم ما قالوا ذلك والجواب عن الأول هو أن نقول أما المقرر فلا نسلم أنه رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو مكذبه أيضاً ضرورة وعن الثاني هو أن الله لا يرسل إلا عند حاجة الخلق وذلك عند ظهور الكفار في العلم ولا يظهر الكفر إلا عند كثرة الجهل ثم إن الله تعالى لا يرسل رسولاً مع كون الإيمان به ضرورياً وإلا لكان الإيمان به إيمان اليأس فلا يقبل والجاهل إذا لم يكن المبين له في غاية الوضوح لا يقبله فيبقى في ورطة الضلالة فهذا قدر لزم بقضاء الله على الخلق على هذا الوجه وقد ذكرنا مرة أخرى أن بعض الناس يقول كل ما هو قضاء الله فهو خير والشر في القدر فالله قضى بأن النار فيها مصلحة للناس لأنها نور ويجعلونها متاعاً في الأسفار وغيرها كما ذكر الله والماء فيه مصلحة الشرب لكن النار إنما تتم مصلحتها بالحرارة البالغة والماء بالسيلان القوي وكونهما كذلك يلزمهما بإجراء الله عادته عليهما أن يحرق ثوب الفقير ويغرق شاة المسكين فالمنفعة في القضاء والمضرة في القدر وهذا الكلام له غور والسنة أن نقول ( يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ) وعن الثالث أن ذلك ليس بعام فإنه لم يقل إلا قال كلهم وإنما قال إِلاَّ قَالُواْ ولما كان كثير منهم بل أكثرهم قائلين به قال الله تعالى إِلاَّ قَالُواْ فإن قيل فلم لم يذكر المصدقين كما ذكر المكذبين وقال إلا قال بعضهم صدقت وبعضهم كذبت نقول لأن المقصود التسلية وهي على التكذيب فكأنه تعالى قال لا تأس على تكذيب قومك فإن أقواماً قبلك كذبوا ورسلاً كذبوا
أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
ثم قال تعالى أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ أي بذلك القول وهو قولهم سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ومعناه التعجيب أي كيف اتفقوا على قول واحد كأنهم تواطؤا عليه وقال بعضهم لبعض لا تقولوا إلا هذا ثم قال لم يكن ذلك على التواطؤ وإنما كان لمعنى جامع هو أن الكل أترفوا فاستغنوا فنسوا الله وطغوا فكذبوا رسله كما أن الملك إذا أمهل أهل بقعة ولم يكلفهم بشيء ثم قعد بعد مدة وطلبهم إلى بابه
يصعب عليهم لاتخاذهم القصور والجنان وتحسين بلادهم من الوجوه الحسان فيحملهم ذلك على العصيان والقول بطاعة ملك آخر
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ
هذه تسلية أخرى وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان من كرم الأخلاق ينسب نفسه إلى تقصير ويقول إن عدم إيمانهم لتقصيري في التبليغ فيجتهد في الإنذار والتبليغ فقال تعالى قد أتيت بما عليك ولا يضرك التولي عنهم وكفرهم ليس لتقصير منك فلا تحزن فإنك لست بملوم بسبب التقصير وإنما هم الملومون بالإعراض والعناد
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ
يعني ليس التولي مطلقاً بل تول وأقبل وأعرض وادع فلا التولي يضرك إذا كان عنهم ولا التذكير ينفع إلا إذا كان مع المؤمنين وفيه معنى آخر ألطف منه وهو أن الهادي إذا كانت هدايته نافعة يكون ثوابه أكثر فلما قال تعالى فَتَوَلَّ كان يقع لمتوهم أن يقول فحينئذ لا يكون للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثواب عظيم فقل بلى وذلك لأن في المؤمنين كثرة فإذا ذكرتهم زاد هداهم وزيادة الهدى من قوله كزيادة القوم فإن قوماً كثيراً إذا صلّى كل واحد ركعة أو ركعتين وقوماً قليلاً إذا صلّى كل واحد ألف ركعة تكون العبادة في الكثرة كالعبادة عن زيادة العدد فالهادي له على عبادة كل مهتد أجر ولا ينقص أجر المهتدي قال تعالى إِنَّ لَكَ لاجْرًا ( القلم 3 ) أي وإن توليت بسبب انتفاع المؤمنين بل وحالة إعراضك عن المعاندين وقوله تعالى فَإِنَّ الذّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ يحتمل وجوهاً أحدها أن يراد قوة يقينهم كما قال تعالى لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً ( الفتح 4 ) وقال تعالى وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَة ٌ فَمِنْهُمْ ( التوبة 124 ) وقال تعالى زَادَهُمْ هُدًى وَءاتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ ( محمد 17 ) ثانيها تنفع المؤمنين الذين بعدك فكأنك إذا أكثرت التذكير بالتكرير نقل عنك ذلك بالتواتر فينتفع به من يجيء بعدك من المؤمنين ثالثها هو أن الذكرى إن أفاد إيمان كافر فقد نفع مؤمناً لأنه صار مؤمناً وإن لم يفد يوجد حسنة ويزاد في حسنة المؤمنين فينتفعوا وهذا هو الذي قيل في قوله تعالى تِلْكَ الْجَنَّة ُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا ( الزخرف 72 )
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ
وهذه الآية فيها فوائد كثيرة ولنذكرها على وجه الاستقصاء فنقول أما تعلقها بما قبلها فلوجوه أحدها أنه تعالى لما قال وَذَكَرَ ( الذاريات 55 ) يعني أقصى غاية التذكير وهو أن الخلق ليس إلا للعبادة فالمقصود من إيجاد الإنسان العبادة فذكرهم به وأعلمهم أن كل ما عداه تضييع للزمان الثاني هو أنا ذكرنا مراراً أن شغل الأنبياء منحصر في أمرين عبادة الله وهداية الخلق فلما قال تعالى فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ( الذاريات 54 ) بين أن الهداية قد تسقط عند اليأس وعدم المهتدي وأما العبادة فهي لازمة والخلق المطلق لها وليس الخلق المطلق للهداية فما أنت بملوم إذا أتيت بالعبادة التي هي أصل إذا تركت الهداية بعد بذل الجهد فيها الثالث هو أنه لما بيّن حال من قبله من التكذيب ذكر هذه الآية ليبين سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الله فما كان خلقهم إلا للعبادة وأما التفسير ففيه مسائل
المسألة الأولى الملائكة أيضاً من أصناف المكلفين ولم يذكرهم الله مع أن المنفعة الكبرى في إيجاده لهم هي العبادة ولهذا قال بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ( الأنبياء 26 ) وقال تعالى لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ( الأعراف 206 ) فما الحكمة فيه
نقول الجواب عنه من وجوه الأول قد ذكرنا في بعض الوجوه أن تعلق الآية بما قبلها بيان قبح ما يفعله الكفرة من ترك ما خلقوا له وهذا مختص بالجن والإنس لأن الكفر في الجن أكثر والكافر منهم أكثر من المؤمن لما بينا أن المقصود بيان قبحهم وسوء صنيعهم الثاني هو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مبعوثاً إلى الجن فلما قال وذكرهم ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة خص أمته بالذكر أي ذكر الجن والإنس الثالث أن عباد الأصنام كانوا يقولون بأن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين فهم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله فقال تعالى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً بين القوم فذكر المتنازع فيه الرابع قيل الجن يتناول الملائكة لأن الجن أصله من الاستتار وهم مستترون عن الخلق وعلى هذا فتقديم الجن لدخول الملائكة فيهم وكونهم أكثر عبادة وأخصلها الخامس قال بعض الناس كلما ذكر الله الخلق كان فيه التقدير في الجرم والزمان قال تعالى خُلِقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ( الفرقان 59 ) وقال تعالى خَلَقَ الاْرْضَ فِى يَوْمَيْنِ ( فصلت 9 ) وقال خَلَقْتُ بِيَدَى َّ ( ص 75 ) إلى غير ذلك وما لم يكن ذكره بلفظ الأمر قال تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( ي س 82 ) وقال قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّى ( الإسراء 85 ) وقال تعالى أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاْمْرُ ( الأعراف 54 ) والملائكة كالأرواح من عالم الأمر أوجدهم من غير مرور زمان فقوله وَمَا خَلَقْتُ إشارة إلى من هو من عالم الخلق فلا يدخل فيه الملائكة وهو باطل لقوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( غافر 62 ) فالملك من عالم الخلق
المسألة الثانية تقديم الجن على الإنس لأية حكمة نقول فيه وجوه الأول بعضها مر في المسألة الأولى الثاني هو أن العبادة سرية وجهرية وللسرية فضل على الجهرية لكن عبادة الجن سرية لا يدخلها الرياء العظيم وأما عبادة الإنس فيدخلها الرياء فإنه قد يعبد الله لأبناء جنسه وقد يعبد الله ليستخبر من الجن أو مخافة منهم ولا كذلك الجن
المسألة الثالثة فعل الله تعالى ليس لغرض وإلا لكان بالغرض مستكملاً وهو في نفسه كامل فكيف يفهم لأمر الله الغرض والعلة نقول المعتزلة تمسكوا به وقالوا أفعال الله تعالى لأغراض وبالغوا في الإنكار على منكري ذلك ونحن نقول فيه وجوه الأول أن التعليل لفظي ومعنوي واللفظي ما يطلق الناظر إليه اللفظ عليه وإن لم يكن له في الحقيقة مثاله إذا خرج ملك من بلاده ودخل بلاد العدو وكان في قلبه أن يتعب عسكر نفسه لا غير ففي المعنى المقصود ذلك وفي اللفظ لا يصح ولو قال هو أنا ما سافرت إلا لابتغاء أجر أو لأستفيد حسنة يقال هذا ليس بشيء ولا يصح عليه ولو قال قائل في مثل هذه الصورة خرج ليأخذ بلاد العدو وليرهبه لصدق فالتعليل اللفظي هو جعل المنفعة المعتبرة علة للفعل الذي فيه المنفعة يقال إتجر للربح وإن لم يكن في الحقيقة له إذا عرفت هذا فنقول الحقائق غير معلومة عند الناس والمفهوم من النصوص معانيها اللفظية لكن الشيء إذا كان فيه منفعة يصح التعليل بها لفظاً والنزاع في الحقيقة في اللفظ الثاني هو أن ذلك تقدير كالتمني والترجي في كلام الله تعالى وكأنه يقول العبادة عند الخلق شيء لو كان ذلك من أفعالكم لقلتم إنه لها كما قلنا في قوله تعالى لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ( طه 44 ) أي بحيث يصير تذكرة عندكم مرجواً وقوله عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ ( الأعراف 129 ) أي يصير إهلاكه عندكم مرجواً تقولون إنه قرب الثاني هو أن اللام قد تثبت فيما لا يصح غرضاً كما في الوقت قال تعالى أَقِمِ الصَّلَواة َ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ
( الإسراء 78 ) وقوله تعالى فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ( الطلاق 1 ) والمراد المقارنة وكذلك في جميع الصور وحينئذ يكون معناه قرنت الخلق بالعبادة أي بفرض العبادة أي خلقتهم وفرضت عليهم العبادة والذي يدل على عدم جواز التعليل الحقيقي هو أن الله تعالى مستغن عن المنافع فلا يكون فعله لمنفعة راجعة إليه ولا إلى غيره لأن الله تعالى قادر على إيصال المنفعة إلى الغير من غير واسطة العمل فيكون توسط ذلك لا ليكون علة وإذا لزم القول بأن الله تعالى يفعل فعلاً هو لمتوسط لا لعلة لزمهم المسألة وأما النصوص فأكثر من أن تعد وهي على أنواع منها ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى يُضِلُّ مَن يَشَاء ( الرعد 27 ) وأمثاله ومنها ما يدل على أن الأشياء كلها بخلق الله كقوله تعالى خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الرعد 16 ) ومنها الصرايح التي تدل على عدم ذلك كقوله تعالى لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ( الأنبياء 23 ) وقوله تعالى وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء ( إبراهيم 27 ) يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ( المائدة 1 ) والاستقصاء مفوض فيه إلى المتكلم الأصولي لا إلى المفسر
المسألة الرابعة قال تعالى رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ ( الحجرات 13 ) وقال لِيَعْبُدُونِ فهل بينها اختلاف نقول ليس كذلك فإن الله تعالى علل جعلهم شعوباً بالتعارف وههنا علل خلقهم بالعبادة وقوله هناك أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ( الحجرات 13 ) دليل على ما ذكره ههنا وموافق له لأنه إذا كان أتقى كان أعبد وأخلص عملاً فيكون المطلوب منه أتم في الوجود فيكون أكرم وأعز كالشيء الذي منفعته فائدة وبعض أفراده يكون أنفع في تلك الفائدة مثاله الماء إذا كان مخلوقاً للتطهير والشرب فالصافي منه أكثر فائدة في تلك المنفعة فيكون أشرف من ماء آخر فكذلك العبد الذي وجد فيه ما هو المطلوب منه على وجه أبلغ
المسألة الخامسة ما العبادة التي خلق الجن والإنس لها قلنا التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فإن هذين النوعين لم يخل شرع منهما وأما خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها بالوضع والهيئة والقلة والكثرة والزمان والمكان والشرائط والأركان ولما كان التعظيم اللائق بذي الجلال والإكرام لا يعلم عقلاً لزم اتباع الشرائع فيها والأخذ بقول الرسل عليهم السلام فقد أنعم الله على عباده بإرسال الرسل وإيضاح السبل في نوعي العبادة وقيل إن معناه ليعرفوني روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال عن ربه ( كنت كنزاً مخفياً فأردت أن أعرف )
مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ
فيه جواب سؤال وهو أن الخلق للغرض ينبىء عن الحاجة فقال ما خلقتهم ليطعمون والنفع فيه لهم لا لي وذلك لأن منفعة العبد في حق السيد أن يكتسب له إما بتحصيل المال له أو بحفظ المال عليه وذلك لأن العبد إن كان للكسب فغرض التحصيل فيه ظاهر وإن كان للشغل فلولا العبد لاحتاج السيد إلى استئجار من يفعل الشغل له فيحتاج إلى إخراج مال والعبد يحفظ ماله عليه ويغنيه عن الإخراج فهو نوع كسب فقال تعالى مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ أي لست كالسادة في طلب العبادة بل هم الرابحون في عبادتهم وفيه وجه آخر وهو أن يقال هذا تقرير لكونهم مخلوقين للعبادة وذلك لأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة لكن العبيد على
قسمين قسم منهم يكون للعظمة والجمال كمماليك الملوك يطعمهم الملك ويسقيهم ويعطيهم الأطراف من البلاد ويؤتيهم الطراف بعد التلاد والمراد منهم التعظيم والمثول بين يديه ووضع اليمين على الشمال لديه وقسم منهم للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها فقال تعالى إني خلقتهم فلا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أُريد منهم من
رزق أو هل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ والخواني الذي يقرب الطعام وليسوا كذلك فما أُريد أن يطعمون فإذن هم عبيد من القسم الأول فينبغي أن لا يتركوا التعظيم وفيه لطائف نذكرها في مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في تكرار الإرادتين ومن لا يريد من أحد رزقاً لا يريد أن يطعمه نقول هو لما ذكرناه من قبل وهو أن السيد قد يطلب من العبد الكسب له وهو طلب الرزق منه وقد يكون للسيد مال وافر يستغني عن الكسب لكنه يطلب منه قضاء حوائجه بماله من المال وإحضار الطعام بين يديه من ماله فالسيد قال لا أُريد ذلك ولا هذا
المسألة الثانية لم قدم طلب الرزق على طلب الإطعام نقول ذلك من باب الارتقاء كقول القائل لا أطلب منك الإعانة ولا ممن هو أقوى ولا يعكس ويقل فلان يكرمه الأمراء بل السلاطين ولا يعكس فقال ههنا لا أطلب منكم رزقاً ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم طعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثير الطلب من العباد وإن كان الكسب لا يطلب منهم
المسألة الثالثة لو قال ما أريد منهم أن يرزقون وما أريد منهم من الطعام هل تحصل هذه الفائدة نقول على ما فصل لا وذلك لأن بالتكسب يطلب الغنى لا الفعل فإن اشتغل بشغل ولم يحصل له غنى لا يكون كمن حصل له غنى وإن لم يشتغل كالعبد المتكسب إذا ترك الشغل لحاجته ووجد مطلباً يرضى منه السيد إذا كان شغله التكسب وأما من يراد منه الفعل لذات الفعل كالجائع إذا بعث عبده لإحضار الطعام فاشتغل بأخذ المال من مطلب فربما لا يرضى به السيد فالمقصود من الرزق الغنى فلم يقل بلفظ الفعل والمقصود من الإطعام الفعل نفسه فذكر بلفظ الفعل ولم يقل وما أريد منهم من طعام هذا مع ما في اللفظين من الفصاحة والجزالة للتنويع
المسألة الرابعة إذا كان المعنى به ما ذكرت فما فائدة الإطعام وتخصيصه بالذكر مع أن المقصود عدم طلب فعل منهم غير التعظيم نقول لما عمم في المطلب الأول اكتفى بقوله مِن رّزْقِ فإنه يفيد العموم وأشار إلى التعظيم فذكر الإطعام وذلك لأن أدنى درجات الأفعال أن تستعين السيد بعبده أو جاريته في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فصار كأنه تعالى قال ما أريد منهم من عين ولا عمل
المسألة الخامسة على ما ذكرت لا تنحصر المطالب فيما ذكره لأن السيد قد يشتري لعبد لا لطلب عمل منه ولا لطلب رزق ولا للتعظيم بل تشتريه للتجارة والربح فيه نقول عموم قوله مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ يتناول ذلك فإن من اشترى عبداً ليتجر فيه فقد طلب منه رزقاً
المسألة السادسة ما أريد في العربية يفيد النفي في الحال والتخصيص بالذكر يوهم نفي ما عدا المذكور لكن الله تعالى لا يريد منهم رزقاً لا في الحال ولا في الاستقبال فلم لم يقل لا أريد منهم من رزق ولا أريد نقول ما للنفي في الحال ولا للنفي في الاستقبال فالقائل إذا قال فلان لا يفعل هذا الفعل وهو في الفعل لا يصدق لكنه إذا ترك مع فراغه من قوله يصدق القائل ولو قال ما يفعل لما صدق فيما ذكرنا من الصورة مثاله إذا كان الإنسان في الصلاة وقال قائل إنه ما يصلي فانظر إليه فإذا كان نظر إليه الناظر وقد قطع صلاة نفسه صح أن يقول إنك لا تصلي ولو قال القائل إنه ما يصلي في تلك الحالة لما صدق فإذا علمت هذا فكل واحد من اللفظين للنافية فيه خصوص لكن النفي في الحال أولى لأن المراد من الحال الدنيا والاستقبال هو في أمر الآخرة فالدنيا وأمورها كلها حالية فقوله مَا أُرِيدُ أي في هذه الحالة الراهنة التي هي ساعة الدنيا ومن المعلوم أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو عمل فكان قوله مَا أُرِيدُ مفيداً للنفي العام ولو قال لا أريد لما أفاد ذلك
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّة ِ الْمَتِينُ
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّة ِ الْمَتِينُ تعليلاً لما تقدم من الأمرين فقوله هو الرزاق تعليل لعدم طلب الرزق وقوله تعالى ذُو الْقُوَّة ِ تعليل لعدم طلب العمل لأن من يطلب رزقاً يكون فقيراً محتاجاً ومن يطلب عملاً من غيره يكون عاجزاً لا قوة له فصار كأنه يقول ما أريد منهم من رزق فإني أنا الرزاق ولا عمل فإني قوي وفيه مباحث الأول قال مَا أُرِيدُ ولم يقل إني رزاق بل قال على الحكاية عن الغائب إِنَّ اللَّهَ فما الحكمة فيه نقول قد روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ إِنّى أَنَاْ الرَّزَّاقُ على ما ذكرت وأما القراءة المشهورة ففيها وجوه الأول أن يكون المعنى قل يا محمد إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الثاني أن يكون ذلك من باب الالتفات والرجوع من التكلم عن النفس إلى التكلم عن الغائب وفيه ههنا فائدة وهي أن اسم الله يفيد كونه رزاقاً وذلك لأن الإله بمعنى المعبود كما ذكرنا مراراً وتمسكنا بقوله تعالى وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ ( الأعراف 127 ) أي معبوديك وإذ كان الله هو المعبود ورزق العبد استعمله من غير الكسب إذ رزقه على السيد وههنا لما قال مَا خَلَقْتَ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فقد بيّن أنه استخلصهم لنفسه وعبادته وكان عليه رزقهم فقال تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ بلفظ الله الدال على كونه رزاقاً ولو قال إني أنا الرزاق لحصلت المناسبة التي ذكرت ولكن لا يحصل ما ذكرنا الثالث أن يكون قل مضمراً عند قوله تعالى مَا أُرِيدُ مِنْهُم تقديره قل يا محمد مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ فيكون بمعنى قوله قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( الفرقان 57 ) ويكون على هذا قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ من قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يقل القوي بل قال ذُو الْقُوَّة ِ وذلك لأن المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير ولكن في عدم طلب الرزق لا يكفي كون المستغني بحيث يرزق واحداً فإن كثيراً من الناس يرزق ولده وغيره ويسترزق والملك يرزق الجند ويسترزق فإذا كثر منه الرزق قل منه الطلب لأن المسترزق ممن يكثر الرزق لا يسترزق من رزقه فلم يكن ذلك المقصود يحصل له إلا بالمبالغة في وصف الرزق فقال الرَّزَّاقُ وأما ما يغني عن الاستعانة بالغير فدون ذلك وذلك لأن القوي إذا كان في غاية القوة يعين الغير فإذا كان دون ذلك لا يعين غيره ولا يستعين به وإذا كان دون ذلك يستعين استعانة ما وتتفاوت بعد ذلك ولما قال وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ كفاه بيان نفس القوة فقال ذُو الْقُوَّة ِ إفادة معنى القوة دون القوى لأن ذا لا يقال في الوصف اللازم البين فيقال في الآدمي ذو مال ومتمول وذو جمال وجميل وذو خلق حسن وخليق إلى غير ذلك مما لا يلزمه
لزوماً بيناً ولا يقال في الثلاثة ذات فردية ولا في الأربعة ذات زوجية ولهذا لم يرد في الأوصاف الحقيقية التي ليست مأخوذة من الأفعال ولذا لم يسمع ذو الوجود وذو الحياة ولا ذو العلم ويقال في الإنسان ذو علم وذو حياة لأنها عرض فيه عارض لا لازم بين وفي صفات الفعل يقال الله تعالى ذو الفضل كثيراً وذو الخلق قليلاً لأن ذا كذا بمعنى صاحبه وربه والصحبة لا يفهم منها اللزوم فضلاً عن اللزوم البين والذي يؤيد هذا هو أنه تعالى قال وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ ( يوسف 76 ) فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقوي ويؤيده أيضاً أنه تعالى قال فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِى ٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( غافر 22 ) وقال تعالى اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ ( الشورى 19 ) وقال تعالى لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ عَزِيزٌ ( المجادلة 21 ) لأن في هذه الصور كان المراد بيان القيام بالأفعال العظيمة والمراد ههنا عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر ما ومن يقوم مستبداً بالفعل لا بد له من قوة عظيمة لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عنه ولو بين هذا البحث في معرض الجواب عن سؤال سائل عن الفرق بين قوله ذُو الْقُوَّة ِ ههنا وبين قوله قَوِى ٌّ في تلك المواضع لكان أحسن فإن قيل فقد قال تعالى لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِى ٌّ عَزِيزٌ ( الحديد 25 ) وفيه ما ذكرت من المعنى وذلك لأن قوله قَوِى ٌّ لبيان أنه غير محتاج إلى النصرة وإنما يريد أن يعلم ليثيب الناصر لكن عدم الاحتياج إلى النصرة يكفي فيه قوة ما فلم لم يقل إن الله ذو القوة نقول فيه إنه تعالى قال من ينصره ورسله ومعناه أنه يغني رسله عن الحاجة ولا يطلب نصرتهم من خلقه ليعجزهم وإنما يطلبها لثواب الناصرين لا لاحتياج المستنصرين وإلا فالله تعالى وعدهم بالنصر حيث قال وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ( الصافات 171 172 ) ولما ذكر الرسل قال قوي يكون ذلك تقوية تقارب رسله المؤمنين وتسلية لصدورهم وصدور المؤمنين
البحث الثاني قال الْمَتِينُ وذلك لأن ذُو الْقُوَّة ِ كما بينا لا يدل إلا على أن له قوة ما فزاد في الوصف بياناً وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظاً ومعنى فإن متن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن والمتانة مع القوة كالعزة مع القوة حيث ذكر الله تعالى في مواضع ذكر القوة والعزة فقال قَوِى ٌّ عَزِيزٌ ( الحديد 25 ) وقال الْقَوِى ُّ الْعَزِيزُ ( هود 66 )
وفيه لطيفة تؤيد ما ذكرنا من البحث في القوي وذي القوة وذلك لأن المتين هو الثابت الذي لا يتزلزل والعزيز هو الغالب ففي المتين أنه لا يغلب ولا يقهر ولا يهزم وفي العزيز أنه يغلب ويقهر ويزل الأقدام والعزة أكمل من المتانة كما أن القوي أكمل من ذي القوة فقرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه ولو نظرت حق النظر وتأملت حق التأمل لرأيت في كتاب الله تعالى لطائف تنبهك على عناد المنكرين وقبح إنكار المعاندين
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ
وهو مناسب لما قبله وذلك لأنه تعالى بيّن أن من يضع نفسه في موضع عبادة غير الله يكون وضع الشيء في غير موضعه فيكون ظالماً فقال إذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة فإن الذين ظلموا بعبادة الغير لهم هلاك مثل هلاك من تقدم وذلك لأن الشيء إذا خرج عن الانتفاع المطلوب منه لا يحفظ وإن كان في موضع يخلي المكان عنه ألا ترى أن الدابة التي لا يبقى منتفعاً بها بالموت أو بمرض يخلي عنها الإصطبل والطعام الذي يتعفن يبدد ويفرغ منه الإناء فكذلك الكافر إذا ظلم ووضع نفسه في غير موضعه خرج عن الانتفاع فحسن إخلاء المكان عنه وحق نزول الهلاك به وفي التفسير مسائل
المسألة الأولى فيما يتعلق به الفاء وقد ذكرنا لك في وجه التعلق
المسألة الثانية ما مناسبة الذنوب نقول العذاب مصبوب عليهم كأنه قال تعالى نصب من فوق رؤوسهم ذنوباً كذنوب صب فوق رؤوس أولئك ووجه آخر وهو أن العرب يستقون من الآبار على النوبة ذنوباً فذنوباً وذلك وقت عيشهم الطيب فكأنه تعالى قال فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ من الدنيا وطيباتها ذَنُوباً أي ملاء ولا يكون لهم في الآخرة من نصيب كما كان عليه حال أصحابهم استقوا ذبوباً وتركوها وعلى هذا فالذنوب ليس بعذاب ولا هلاك وإنما هو رغد العيش وهو أليق بالعربية وقوله تعالى فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ فإن الرزق ما لم يفرغ لا يأتي الأجل
ثم أعاد ما ذكر في أول السورة فقال فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِى يُوعَدُونَ
والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين
سورة الطور
أربعون وتسع آيات مكيةوَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِى رَقٍّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ
هذه السورة مناسبة للسورة المتقدمة من حيث الافتتاح بالقسم وبيان الحشر فيهما وأول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لأن في آخرها قوله تعالى فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ( الذاريات 60 ) وهذه السورة ددفي أولها فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ ( الطور 11 ) وفي آخر تلك السورة قال فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً ( الذاريات 59 ) إشارة إلى العذاب وقال هنا إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( الطور 7 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى ما الطور وما الكتاب المسطور نقول فيه وجوه الأول الطور هو جبل معروف كلم الله تعالى موسى عليه السلام الثاني هو الجبل الذي قال الله تعالى وَطُورِ سِينِينَ ( التين 2 ) الثالث هو اسم الجنس والمراد القسم بالجبل غير أن الطور الجبل العظيم كالطود وأما الكتاب ففيه أيضاً وجوه أحدها كتاب موسى عليه السلام ثانيها الكتاب الذي في السماء ثالثها صحائف أعمال الخلق رابعها القرآن وكيفما كان فهي في رقوق وسنبين فائدة قوله تعالى فِى رَقّ مَّنْشُورٍ وأما البيت المعمور ففيه وجوه الأول هو بيت في السماء العليا عند العرش ووصفه بالعمارة لكثرة الطائفين به من الملائكة الثاني هو بيت الله الحرام وهو معمور بالحاج الطائفين به العاكفين الثالث البيت المعمور اللام فيه لتعريف الجنس كأنه يقسم بالبيوت المعمورة والعمائر المشهورة والسقف المرفوع السماء والبحر المسجور قيل الموقد يقال سجرت التنور وقيل هو البحر المملوء ماء المتموج وقيل هو بحر معروف في السماء يسمى بحر الحيوان
المسألة الثانية ما الحكمة في اختيار هذه الأشياء نقول هي تحتمل وجوهاً أحدها إن الأماكن الثلاثة وهي الطور والبيت المعمور والبحر المسجور أماكن كانت لثلاثة أنبياء ينفردون فيها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع الله أما الطور فانتقل إليه موسى عليه السلام والبيت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والبحر المسجور يونس عليه السلام والكل خاطبوا الله هناك فقال موسى أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء ( الأعراف 155 ) وقال أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ ( الأعراف 143 ) وأما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك ) وأما يونس فقال لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنبياء 87 ) فصارت الأماكن شريفة بهذه الأسباب فحلف الله تعالى بها وأما ذكر الكتاب فإن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن مع الله تعالى كلام والكلام في الكتاب واقترانه بالطور أدل على ذلك لأن موسى عليه السلام كان له مكتوب ينزل عليه وهو بالطور وأما ذكر السقف المرفوع ومعه البيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثانيها وهو أن القسم لما كان على وقوع العذاب وعلى أنه لا دافع له وذلك لأن لا مهرب من عذاب الله لأن من يريد دفع العذاب عن نفسه ففي بعض الأوقات يتحصن بمثل الجبال الشاهقة التي ليس لها طرف وهي متضايقة بين أنه لا ينفع التحصن بها من أمر الله تعالى كما قال ابن نوح عليه السلام سَاوِى إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ ( هود 43 ) حكاية عن نوح عليه السلام
المسألة الثالثة ما الحكمة في تنكير الكتاب وتعريف باقي الأشياء نقول ما يحتمل الخفاء من الأمور الملتبسة بأمثالها من الأجناس يعرف باللام فيقال رأيت الأمير ودخلت على الوزير فإذا بلغ الأمير الشهرة بحيث يؤمن الالتباس مع شهرته ويريد الواصف وصفه بالعظمة يقول اليوم رأيت أميراً ما له نظير جالساً وعليه سيما الملوك وأنت تريد ذلك الأمير المعلوم والسبب فيه أنك بالتنكير تشير إلى أنه خرج عن أن يعلم ويعرف بكنه عظمته فيكون كقوله تعالى الْحَاقَّة ُ مَا الْحَاقَّة ُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّة ُ ( الحاقة 1 3 ) فاللام وإن كانت معرفة لكن أخرجها عن المعرفة كون شدة هولها غير معروف فكذلك ههنا الطور ليس في الشهرة بحيث يؤمن اللبس عند التنكير وكذلك البيت المعمور وأما الكتاب الكريم فقد تميز عن سائر الكتب بحيث لا يسبق إلى أفهام السامعين من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لفظ الكتاب إلا ذلك فلما أمن اللبس وحصلت فائدة التعريف سواء ذكر باللام أو لم يذكر قصداً للفائدة الأخرى وهي في الذكر بالتنكير وفي تلك الأشياء لما لم تحصل فائدة التعريف إلا بآلة التعريف استعملها وهذا يؤيد كون المراد منه القرآن وكذلك اللوح المحفوظ مشهور
المسألة الرابعة ما الفائدة في قوله تعالى فِى رَقّ مَّنْشُورٍ وعظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطه ورقه نقول هو إشارة إلى الوضوح وذلك لأن الكتاب المطوي لا يعلم ما فيه فقال هو في رق منشور وليس كالكتب المطوية وعلى هذا المراد اللوح المحفوظ فمعناه هو منشور لكم لا يمنعكم أحد من مطالعته وإن قلنا بأن المراد كتاب أعمال كل أحد فالتنكير لعدم المعرفة بعينه وفي رق منشور لبيان وصفه كما قال تعالى كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ( الإسراء 13 ) وذلك لأن غير المعروف إذا وصف كان إلى المعرفة أقرب شبهاً
المسألة الخامسة في بعض السور أقسم بجموع كما في قوله تعالى وَالذرِيَاتِ
وقوله وَالْمُرْسَلَاتِ وقوله وَالنَّازِعَاتِ وفي بعضها بأفراد كما في هذه السورة حيث قال وَالطُّورِ ولم يقل والأطوار والبحار ولا سيما إذا قلنا المراد من الطور الجبل العظيم كالطود كما في قوله تعالى وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ ( النساء 154 ) أي الجبل فما الحكمة فيه نقول في الجموع في أكثرها أقسم بالمتحركات والريح الواحدة ليست بثابتة مستمرة حتى يقع القسم بها بل هي متبدلة بأفرادها مستمرة بأنواعها والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدل والتغير فقال وَالذرِيَاتِ إشارة إلى النوع المستمر إلى الفرد المعين المستقر وأما الجبل فهو ثابت قليل التغير والواحد من الجبال دائم زماناً ودهراً فأقسم في ذلك بالواحد وكذلك قوله وَالنَّجْمِ والريح ما علم القسم به وفي الطور علم
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ
إشارة إلى المقسم عليه وفيه مباحث الأول في حرف ءانٍ وفيه مقامات الأول هي تنصب الاسم وترفع الخبر والسبب فيه هو أنها شبهت بالفعل من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ فلكون الفتح لازماً فيها واختصاصها بالدخول على الأسماء والمنصوب منها على وزن إن أنيناً وأما المعنى فنقول اعلم أن الجملة الإثباتية قبل الجملة الانتفائية ولهذا استغنوا عن حرف يدل على الإثبات فإذا قالوا زيد منطلق فهم منه إرادة إثبات الانطلاق لزيد والانتفائية لما كانت بعد المثبتة زيد فيها حرف يغيرها عن الأصل وهو الإثبات فقيل ليس زيد منطلقاً فصار ليس زيد منطلقاً بعد قول القائل زيد منطلق ثم إن قول القائل إن زيداً منطلق مستنبط من قوله ليس زيد منطلقاً كأن الواضع لما وضع أولاً زيد منطلق للاثبات وعند النفي يحتاج إلى ما يغيره أتى بلفظ مغير وهو فعل من وجه لأنك قد تبقى مكانه ما النافية ولهذا قيل لست وليسوا فألحق به ضمير الفاعل ولولا أنه فعل لما جاز ذلك ثم أراد أن يضع في مقابلة ليس زيد منطلقاً جملة إثباتية فيها لفظ الإثبات كما أن في النافية لفظ النفي فقال إن ولم يقصد أن إن فعل لأن ليس يشبه بالفعل لما فيه من معنى الفعل وهو التغيير فإنها غيرت الجملة من أصلها الذي هو الإثبات وأما إن فلم تغيره فالجملة على ما كانت عليه إثباتية فصارت مشبهة بالمشبهة بالفعل وهي ليس وهذا ما يقوله النحويون في إن وأن وكأن وليت ولعلّ إنها حروف مشبهة بالأفعال إذا علمت هذا فنقول كما إن ليس لها اسم كالفاعل وخبر كالمفعول تقول ليس زيد لئيماً بالرفع والنصب كما تقول بات زيد كريماً فكذلك إن لها اسم وخبر لكن اسمها يخالف اسم ليس وخبرها خبرها فإن اسم إن منصوب وخبرها مرفوع لأن إن لما كانت زيادة على خلاف الأصل لأنها لا تفيد إلا الإثبات الذي كان مستفاداً من غير حرف وليس لما كانت زيادة على الأصل لأنها تغير الأصل ولولاها لما حصل المقصود جعل المرفوع والمنصوب في ليس على الأصل لأن الأصل تقديم الفاعل وفي إن جعل ذلك على خلاف الأصل وقدم المشبه بالمفعول على المشبه بالفاعل تقديماً لازماً فلا يجوز أن يقال إن منطلق زيداً وهو في ليس منطلقاً زيد جائز كما في الفعل لأنها فعل
المقام الثاني هي لم تكسر تارة وتفتح أخرى نقول الأصل فيها الكسرة والعارض وإن كان هذا في الظاهر يخالف قول النحاة لكن في الحقيقة هي كذلك
المقام الثالث لم تدخل اللام على خبر إن المكسورة دون المفتوحة قلنا قد خرج مما سبق أن قول القائل زيد منطلق أصل لأن المثبتات هي المحتاجة إلى الإخبار عنها فإن التغير في ذلك وأما العدميات فعلى أصولها مستمرة ولهذا يقال الأصل في الأشياء البقاء ثم إن السامع له قد يحتاج إلى الرد عليه فيقول ليس زيد منطلقاً فيقول هو إن زيداً منطلق فيقول هو رداً عليه ليس زيد بمنطلق فيقول رداً عليه إن زيداً لمنطلق وأن ليست في مقابلة ليس وإنما هي متفرعة عن المكسورة
المبحث الثاني قوله تعالى عَذَابَ رَبّكَ فيه لطيفة عزيزة وهي أنه تعالى لو قال إن عذاب الله لواقع والله اسم منبىء عن العظمة والهيبة كان يخاف المؤمن بل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أن يلحقه ذلك لكونه تعالى مستغنياً عن العالم بأسره فضلاً عن واحد فيه فآمنه بقوله رَبَّكَ فإنه حين يسمع لفظ الرب يأمن
المبحث الثالث قوله لَوَاقِعٌ فيه إشارة إلى الشدة فإن الواقع والوقوع من باب واحد فالواقع أدل على الشدة من الكائن ثم قال تعالى مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ والبحث فيه قد تقدم في قوله تعالى وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ ( فصلت 46 ) وقد ذكرنا أن قوله وَالطُّورِ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فيه دلالة على عدم الدافع فإن من يدفع عن نفسه عذاباً قد يدفع بالتحصن بقلل الجبال ولجج البحار ولا ينفع ذلك بل الوصول إلى السقف المرفوع ودخول البيت المعمور لا يدفع
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً
فيه مسائل
المسألة الأولى ما الناصب ليوم نقول المشهور أن ذلك هو الفعل الذي يدل عليه واقع أي يقع العذاب يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْراً والذي أظنه أنه هو الفعل المدلول عليه بقوله مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( الطور 8 ) وإنما قلت ذلك لأن العذاب الواقع على هذا ينبغي أن يقع في ذلك اليوم لكن العذاب الذي به التخويف هو الذي بعد الحشر ومور السماء قبل الحشر وأما إذا قلنا معناه لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ يوم تمور فيكون في معنى قوله فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) كأنه تعالى يقول ما له من دافع في ذلك اليوم وهو ما إذا صارت السماء تمور في أعينكم والجبال تسير وتتحققون أن الأمر لا ينفع شيئاً ولا يدفع
المسألة الثانية ما مور السماء نقول خروجها عن مكانها تتردد وتموج والذي تقوله الفلاسفة قد علمت ضعفه مراراً وقوله تعالى وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً يدل على خلاف قولهم وذلك لأنهم وفقوا على أن خروج الجبل العظيم من مكانه جائز وكيف لا وهم يقولون بأن زلزلة الأرض مع ما فيها من الجبال ببخار يجتمع تحت الأرض فيحركها وإذا كان كذلك فنقول السماء قابلة للحركة بإخراجها خارجة عن السمتيات والجبل ساكن يقتضي طبعه السكون وإذا قبل جسم الحركة مع أنها على خلاف طبعه فلأن يقبلها جرم آخر مع أنها على موافقته أولى وقولهم القابل للحركة المستديرة لا يقبل الحركة المستقيمة في غاية الضعف وقوله مَوْراً يفيد فائدة جليلة وهي أن قوله تعالى وَتَسِيرُ الْجِبَالُ يحتمل أن يكون بياناً لكيفية مور السماء وذلك لأن الجبال إذا سارت وسيرت معها سكانها يظهر أن السماء كالسيارة إلى خلاف تلك الجهة كما يشاهده راكب السفينة فإنه يرى الجبل الساكن متحركاً فكان لقائل أن يقول السماء تمور في رأي العين
بسبب سير الجبال كما يرى القمر سائراً راكب السفينة والسماء إذا مارت كذلك فلا يبقى مهرب ولا مفزع لا في السماء ولا في الأرض
المسألة الثالثة ما السبب في مورها وسيرها قلنا قدرة الله تعالى وأما الحكمة فالإيذان والإعلام بأن لا عود إلى الدنيا وذلك لأن الأرض والجبال والسماء والنجوم كلها لعمارة الدنيا والانتفاع لبني آدم بها فإن لم يتفق لهم عود لم يبق فيها نفع فأعدمها الله تعالى
المسألة الرابعة لو قال قائل كنت وعدت ببحث في الزمان يستفيد العاقل منه فوائد في اللفظ والمعنى وهذا موضعه فإن الفعل لا يضاف إليه شيء غير الزمان فيقال يوم يخرج فلان وحين يدخل فلان وقال الله تعالى يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ ( المائدة 119 ) وقال وَيَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء وقال يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( التوبة 36 ) وكذلك يضاف إلى الجملة فما السبب في ذلك
فنقول الزمان ظرف الأفعال كما أن المكان ظرف الأعيان وكما أن جوهراً من الجواهر لا يوجد إلا في مكان فكذلك عرض من الأعراض لا يتجدد إلا في زمان وفيهما تحير خلق عظيم فقالوا إن كان المكان جوهراً فله مكان آخر ويتسلسل الأمر وإن كان عرضاً فالعرض لا بد له من جوهر والجوهر لا بد له من مكان فيدور الأمر أو يتسلسل وإن لم يكن جوهراً ولا عرضاً فالجوهر يكون حاصلاً فيما لا وجود له أو فيما لا إشارة إليه وليس كذلك وقالوا في الزمان إن كان الزمان غير متجدد فيكون كالأمور المستمرة فلا يثبت فيه المضي والاستقبال وإن كان متجدداً وكل متجدد فهو في زمان فللزمان زمان آخر فيتسلسل الأمر ثم إن الفلاسفة التزموا التسلسل في الأزمنة ووقعوا بسبب هذا في القول بقدم العالم ولم يلتزموا التسلسل في الأمكنة وفرقوا بينهما من غير فارق وقوم التزموا التسلسل فيهما جميعاً وقالوا بالقدم وأزمان لا نهاية لها وبالامتداد وأبعاد لا نهاية لها وهم وإن خالفونا في المسألتين جميعاً والفلاسفة وافقونا في إحداهما دون الأخرى لكنهم سلكوا جادة الوهم ولم يتركوا على أنفسهم سبيل الإلتزام في الأزمان فإن قيل فالمتجدد الأول قبله ماذا نقول ليس قبله شيء فإن قيل فعدمه قبله أو قبله عدمه نقول قولنا ليس قبله شيء أعم من قولك قبله عدمه لأنا إذا قلنا ليس قبل آدم حيوان بألف رأس صدقنا ولا يستلزم ذلك صدق قولنا آدم قبل حيوان بألف رأس أو حيوان بألف رأس بعد آدم لانتفاء ذلك الحيوان أولاً وآخراً وعدم دخوله في الوجود أزلاً وأبداً فكذلك ما قلنا فإن قيل هذا لا يصح لأن الله تعالى شيء موجود وهو قبل العالم نقول قولنا ليس قبل المتجدد الأول شيء معناه ليس قبله شيء بالزمان وأما الله تعالى فليس قبله بالزمان إذ كان الله ولا زمان والزمان وجد مع المتجدد الأول فإن قيل فما معنى وجود الله قبل كل شيء غيره نقول معناه كان الله ولم يكن شيء غيره لا يقال ما ذكرتم إثبات شيء بشيء ولا يثبت ذلك الشيء إلا بما ترومون إثباته فإن بداية الزمان غرضكم وهو مبني على المتجدد الأول والنزاع في المتجدد فإن عند الخصم ليس في الوجود متجدد أول بل قبل كل متجدد لأنا نقول نحن ما ذكرنا ذلك دليلاً وإنما ذكرناه بياناً لعدم الإلزام وأنه لا يرد علينا شيء إذا قلنا بالحدوث ونهاية الأبعاد واللزم والإلزام فيسلم الكلام الأول ثم يلزم ويقول ألست تقول إن لنا متجدداً أولاً فكذلك قل له عدم فنقول لا بل ليس قبله أمر بالزمان فيكون ذلك نفياً عاماً وإنما يكون ذلك لانتفاء الزمان كما ذكرنا في المثال إذا علمت هذا فصار الزمان تارة موجوداً مع عرض وأخرى موجوداً
بعد عرض لأن يومنا هذا وغيره من الأيام كلها صارت متميزة بالمتجدد الأول والمتجدد الأول له زمان هو معه إذا عرفت أن الزمان والمكان أمرهما مشكل بالنسبة إلى بعض الأفهام والأمر الخفي يعرف بالوصف والإضافة فإنك إذا قلت غلام لم يعرف فإذا وصفته أو أضفته وقلت غلام صغير أو كبير وأبيض أو أسود قرب من الفهم وكذلك إذا قلت غلام زيد قرب ولم يكن بد من معرفة الزمان ولا يعرف الشيء إلا بما يختص به فإنك إذا قلت في الإنسان حيوان موجود بعدته عن الفهم وإذا قلت حيوان طويل القامة قربته منه ففي الزمان كان يجب أن يعرف بما يختص به لأن الفعل الماضي والمستقبل والحال يختص بأزمنة والمصدر له زمان مطلق فلو قلت زمان الخروج تميز عن زمان الدخول وغيره فإذا قلت يوم خرج أفاد ما أفاد قولك يوم الخروج مع زيادة هو أنه تميز عن يوم يخرج والإضافة إلى ما هو أشد تمييزاً أولى كما أنك إذا قلت غلام رجل ميزته عن غلام امرأة وإذا قلت غلام زيد زدت عليه في الإفادة وكان أحسن كذلك قولنا يوم خرج لتعريف ذلك اليوم خير من قولك يوم الخروج فظهر من هذا البحث أن الزمان يضاف إلى الفعل وغيره لا يضاف لاختصاص الفعل بالزمان دون غيره إلا المكان في قوله اجلس حيث يجلس فإن حيث يضاف إلى الجمل لمشابهة ظرف المكان لظرف الزمان وأما الجمل فهي إنما يصح بواسطة تضمنها الفعل فلا يقال يوم زيد أخوك ويقال يوم زيد فيه خارج
ومن جملة الفوائد اللفظية أن لات يختص استعمالها بالزمان قال الله تعالى وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ( ص 3 ) ولا يقال لات الرجل سوء وذلك لأن الزمان تجدد بعد تجدد ولا يبقى بعد الفناء حياة أخرى وبعد كل حركة حركة أخرى وبعد كل زمان زمان وإليه الإشارة بقوله تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ ( الرحمن 29 ) أي قبل الخلق لم يخلق شيئاً لكنه يعد ما خلق فهو أبداً دائماً يخلق شيئاً بعد شيء فبعد حياتنا موت وبعد موتنا حياة وبعد حياتنا حساب وبعد الحساب ثواب دائم أو عقاب لازم ولا يترك الله الفعل فلما بعد الزمان عن النفي زيد في الحروف النافية زيادة فإن قيل فالله تعالى أبعد عن الانتفاء فكان ينبغي أن لا تقرب التاء بكلمة لا هناك نقول لأَتٍ حِينَ مَنَاصٍ تأويل وعليه لا يرد ما ذكرتم وهو أن لا هي المشبهة بليس تقديره ليس الحين حين مناص وهو المشهور ولذلك اختص بالحين دون اليوم والليل لأن الحين أدوم من الليل والنهار فالليل والنهار قد لا يكون والحين يكون
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ
أي إذا علم أن عذاب الله واقع وأنه ليس له دافع فويل إذاً للمكذبين فالفاء لاتصال المعنى وهو الإيذان بأمان أهل الإيمان وذلك لأنه لما قال إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( الطور 7 ) لم يبين بأن موقعه بمن فلما قال فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ علم المخصوص به وهو المكذب وفيه مسائل
المسألة الأولى إذا قلت بأن قوله وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ بيان لمن يقع به العذاب وينزل عليه فمن لا يكذب لا يعذب فأهل الكبائر لا يعذبون لأنهم لا يكذبون نقول ذلك العذاب لا يقع على أهل الكبائر وهذا كما في قوله تعالى كُلَّمَا أُلْقِى َ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا
( الملك 8 9 ) فنقول المؤمن لا يلقى فيها إلقاء بهوان وإنما يدخل فيها ليظهر إدخال مع نوع إكرام فكذلك الويل للمكذبين والويل ينبىء عن الشدة وتركيب حروف الواو والياء واللام لا ينفك عن نوع شدة منه لوى إذا دفع ولوى يلوي إذا كان قوياً والولي فيه القوة على المولى عليه ويدل عليه قوله تعالى يَدَّعُونَ ( الطور 13 ) فإن المكذب يدع والمصدق لا يدع وقد ذكرنا جواز التنكير في قوله وَيْلٌ مع كونه مبتدأ لأنه في تقدير المنصوب لأنه دعاء ومضى وجهه في قوله تعالى قَالَ سَلَامٌ ( الذاريات 25 ) والخوض نفسه خص في استعمال القرآن بالاندفاع في الأباطيل ولهذا قال تعالى وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ ( التوبة 69 ) وقال تعالى وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَائِضِينَ ( المدثر 45 ) وتنكير الخوض يحتمل وجهين أحدهما أن يكون للتكثير أي في خوض كامل عظيم ثانيهما أن يكون التنوين تعويضاً عن المضاف إليه كما في قوله تعالى إِلا ( التوبة 8 ) وقوله وَإِنَّ كُلاًّ ( هود 111 ) و بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( البقرة 251 ) والأصل في خوضهم المعروف منهم وقوله الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ ليس وصفاً للمكذبين بما يميزهم وإنما هو للذم كما أنك تقول الشيطان الرجيم ولا تريد فصله عن الشيطان الذي ليس برجيم بخلاف قولك أكرم الرجل العالم فالوصف بالرجيم للذم به لا للتعريف وتقول في المدح الله الذي خلق والله العظيم للمدح لا للتمييز ولا للتعريف عن إلاه لم يخلق أو إلاه ليس بعظيم فإن الله واحد لا غير
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا
فيه مباحث لفظية ومعنوية أما اللفظية ففيها مسائل
المسألة الأولى يوم منصوب بماذا نقول الظاهر أنه منصوب بما بعده وهو ما يدل عليه قوله تعالى هَاذِهِ النَّارُ ( الطور 14 ) تقديره يوم يدعون يقال لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون ويحتمل غير هذا وهو أن يكون يوم بدلاً عن يوم في يومئذ تقريره فويل يومئذ للمكذبين ويوم يوعدون أي المكذبون وذلك أن قوله يَوْمَئِذٍ ( الطور 11 ) معناه يوم يقع العذاب وذلك اليوم هو يوم يوعدون فيه إلى النار
المسألة الثانية قوله يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ يدل على هول نار جهنم لأن خزنتها لا يقربون منها وإنما يدفعون أهلها إليها من بعيد ويلقونهم فيها وهم لا يقربونها
المسألة الثالثة دَعًّا مصدر وقد ذكرت فائدة ذكر المصادر وهي الإيذان بأن الدع دع معتبر يقال له دع ولا يقال فيه ليس بدع كما يقول القائل في الضرب الخفيف مستحقراً له هذا ليس بضرب والعدو المهين هذا ليس بعدو في غير المصادر والرجل الحقير ليس برجل إلا على قراءة من قرأ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دُعَاء فإن دعاء حينئذ يكون منصوباً على الحال تقديره يقال لهم هلموا إلى النار مدعوين إليها
أما المعنوية فنقول قوله تعالى يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ يدل على أن خزنتها يقذفونهم فيها وهم بعداء عنها وقال تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ ( القمر 48 ) نقول الجواب عنه من وجوه أحدها أن الملائكة يسحبونهم في النار ثم إذا قربوا من نار مخصوصة هي نار جهنم يقذفونهم فيها من بعيد فيكون السحب في النار والدفع في نار أشد وأقوى ويدل عليه قوله تعالى يُسْحَبُونَ فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ
( غافر 71 72 ) أي يكون لهم سحب في حموة النار ثم بعد ذلك يكون لهم إدخال الثاني جاز أن يكون في كل زمان يتولى أمرهم ملائكة فإلى النار يدفعهم ملك وفي النار يسحبهم آخر
الثالث جاز أن يكون السحب بسلاسل يسحبون في النار والساحب خارج النار
الرابع يحتمل أن يكون الملائكة يدفعون أهل النار إلى النار إهانة واستخفافاً بهم ثم يدخلون معهم النار ويسحبونهم فيها
هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ
ثم قال تعالى هَاذِهِ النَّارُ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ على تقدير قال
أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ
ثم قال تعالى أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ تحقيقاً للأمر وذلك لأن من يرى شيئاً ولا يكون الأمر على ما يراه فذلك الخطأ يكون لأجل أحد أمرين إما لأمر عائد إلى المرئي وإما لأمر عائد إلى الرائي فقوله أَفَسِحْرٌ هَاذَا أي هل في المرئي شك أم هل في بصركم خلل استفهام إنكار أي لا واحد منها ثابت فالذي ترونه حق وقد كنتم تقولون إنه ليس بحق وإنما قال أَفَسِحْرٌ وذلك أنهم كانوا ينسبون المرئيات إلى السحر فكانوا يقولون بأن انشقاق لقمر وأمثاله سحر وفي ذلك اليوم لما تعلق بهم مع البصر الألم المدرك بحس اللمس وبلغ الإيلام الغاية لم يمكنهم أن يقولوا هذا سحر وإلا لما صح منهم طلب الخلاص من النار
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
ثم قال تعالى اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ أي إذا لم يمكنكم إنكارها وتحقق أنه ليس بسحر ولا خلل في أبصاركم فاصلوها وقوله تعالى فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ فيه فائدتان إحداهما بيان عدم الخلاص وانتفاء المناص فإن من لا يصبر يدفع الشيء عن نفسه إما بأن يدفع المعذب فيمنعه وإما بأن يغضبه فيقتله ويريحه ولا شيء من ذلك يفيد في عذاب الآخرة فإن من لا يغلب المعذب فيدفعه ولا يتلخص بالإعدام فإنه لا يقضي عليه فيموت فإذن الصبر كعدمه لأن من يصبر يدوم فيه ومن لا يصبر يدوم فيه الثانية بيان ما يتفاوت به عذاب الآخرة عن عذاب الدنيا فإن المعذب في الدنيا إن صبر ربما انتفع بالصبر إما بالجزاء في الآخرة وإما بالحمد في الدنيا فيقال له ما أشجعه وما أقوى قلبه وإن جزع يذم فيقال يجزع كالصبيان والنسوان وأما في الآخرة لا مدح ولا ثواب على الصبر وقوله تعالى سَوَاء عَلَيْكُمْ سَوَآء خبر ومبتدأه مدلول عليه بقوله فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ كأنه يقول الصبر وعدمه سواء فإن قيل يلزم الزيادة في التعذيب ويلزم التعذيب على المنوي الذي لم يفعله نقول فيه لطيفة وهي أن المؤمن بإيمانه استفاد أن الخير الذي ينويه يثاب عليه والشر الذي ينويه ولا يحققه لا يعاقب عليه والكافر بكفره صار على الضد فالخير الذي ينويه ولا يعمله لا يثاب عليه والشر الذي يقصده ولا يقع منه يعاقب عليه ولا ظلم فإن الله تعالى أخبره به وهو اختار ذلك ودخل فيه باختياره كأن الله تعالى قال فإن من كفر ومات كافراً أعذبه أبداً فاحذروا ومن آمن أثيبه دائماً فمن ارتكب الكفر ودام عليه بعد ما
سمع ذلك فإذا عاقبه المعاقب دائماً تحقيقاً لما أوعده به لا يكون ظالماً
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ
ثم قال تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ على ما هو عادة القرآن من بيان حال المؤمن بعد بيان حال الكافر وذكر الثواب عقيب ذكر العقاب ليتم أمر الترهيب والترغيب وقد ذكرنا تفسير المتقين في مواضع والجنة وإن كانت موضع السرور لكن الناطور قد يكون في البستان الذي هو غاية الطيبة وهو غير متنعم فقوله وَنَعِيمٍ يفيد أنهم فيها يتنعمون كما يكون المتفرج لا كما يكون الناطور
فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ
وقوله فَاكِهِينَ يزيد في ذلك لأن المتنعم قد يكون آثار التنعم على ظاهره وقلبه مشغول فلما قال فَاكِهِينَ يدل على غاية الطيبة وقوله بِمَا ءاتَاهُمْ رَبُّهُمْ يفيد زيادة في ذلك لأن الفكه قد يكون خسيس النفس فيسره أدنى شيء ويفرح بأقل سبب فقال فَاكِهِينَ لا لدنو هممهم بل لعلو نعمهم حيث هي من عند ربهم
وقوله تعالى وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المراد أنهم فاكهون بأمرين أحدهما بما آتاهم والثاني بأنه وقاهم وثانيهما أن يكون ذلك جملة أخرى منسوقة على الجملة الأولى كأنه بيّن أنه أدخلهم جنّات ونعيماً ووقاهم عذاب الجحيم
كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَة ٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
فيه بيان أسباب التنعيم على الترتيب فأول ما يكون المسكن وهو الجنّات ثم الأكل والشرب ثم الفرش والبسط ثم الأزواج فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله قوله جَنَّاتُ إشارة إلى المسكن والمسكن للجسم ضروري وهو المكان فقال فَاكِهِينَ لأن مكان التنعيم قد ينتغص بأمور وبين سبب الفكاهة وعلو المرتبة يكون مما آتاهم الله وقد ذكرنا هذا وأما في الأكل والشرب والإذن المطلق فترك ذكر المأكول والمشروب لتنوعهما وكثرتهما وقوله تعالى هَنِيئَاً إشارة إلى خلوهما عما يكون فيها من المفاسد في الدنيا منها أن الآكل يخاف من المرض فلا يهنأ له الطعام ومنها أنه يخاف النفاد فلا يسخو بالأكل والكل منتف في الجنة فلا مرض ولا انقطاع فإن كل أحد عنده ما يفضل عنه ولا إثم ولا تعب في تحصيله فإن الإنسان في الدنيا ربما يترك لذة الأكل لما فيه من تهيئة المأكول بالطبخ والتحصيل من التعب أو المنة أو ما فيه من قضاء الحاجة واستقذار ما فيه فلا يتهنأ وكل ذلك في الجنة منتف وقوله تعالى بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إشارة إلى أنه تعالى يقول أي مع أني ربكم وخالقكم وأدخلتكم بفضلي الجنة وإنما منتي عليكم في الدنيا إذ هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال تعالى بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلاْيمَانِ ( الحجرات 17 ) وأما اليوم فلا من عليكم لأن هذا إنجاز الوعد فإن قيل قال في حق الكفار إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( التحريم 7 ) وقال في حق المؤمنين بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهل بينهما فرق قلت بينهما بون عظيم من وجوه
الأول كلمة إِنَّمَا للحصر أي لا تجزون إلا ذلك ولم يذكر هذا في حق المؤمن فإنه يجزيه أضعاف ما عمل ويزيده من فضله وحينئذ إن كان يمن الله على عبده فيمن بذلك لا بالأكل والشرب الثاني قال هنا بِمَا كُنتُمْ وقال هناك مَّا كُنتُمْ أي تجزون عين أعمالكم إشارة إلى المبالغة في المماثلة كما تقول هذا عين ما عملت وقد تقدم بيان هذا وقال في حق المؤمن بِمَا كُنتُمْ كأن ذلك أمر ثابت مستمر بعملكم هذا الثالث ذكر الجزاء هناك وقال ههنا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لأن الجزاء ينبىء عن الانقطاع فإن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسن منه شيئاً آخر فإن قيل فالله تعالى قال في مواضع جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الأحقاف 14 ) في الثواب نقول في تلك المواضع لما لم يخاطب المجزي لم يقل تجزى وإنما أتى بما يفيد العالم بالدوام وعدم الانقطاع وأما في السرر فذكر أموراً أيضاً أحدها الاتكاء فإنه هيئة تختص بالمنعم والفارغ الذي لا كلفة عليه ولا تكلف لديه فإن من يكون عنده من يتكلف له يجلس له ولا يتكىء عنده ومن يكون في مهم لا يتفرغ للاتكاء فالهيئة دليل خير ثم الجمع يحتمل أمرين أحدهما أن يكون لكل واحد سرر وهو الظاهر لأن قوله مَصْفُوفَة ٌ يدل على أنها لواحد لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفة ولفظ السرير فيه حروف السرور بخلاف التخت وغيره وقوله مَصْفُوفَة ٌ دليل على أنه لمجرد العظم فإنها لو كات متفرقة لقيل في كل موضع واحد ليتكىء عليه صاحبه إذا حضر في هذا الموضع وقوله تعالى وَزَوَّجْنَاهُم إشارة إلى النعمة الرابعة وفيها أيضاً ما يدل على كمال الحال من وجوه أحدها أنه تعالى هو المزوج وهو يتولى الطرفين يزوج عباده بأمانه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء ثانيها قال وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ ولم يقل وزوجناهم حوراً مع أن لفظة التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف يقال زوجتكها قال تعالى فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا ( الأحزاب 37 ) وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا للذة الحور بهم وذلك لأن المفعول بغير حرف يعلق الفعل به كذلك التزويج تعلق بهم ثم بالحور لأن ذلك بمعنى جعلنا ازدواجهم بهذا الطريق وهو الحور ثالثها عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحسن واختار الأحسن من الأحسن فإن أحسن ما في صورة الآدمي وجهه وأحسن ما في الوجه العين ولأن الحور والعين يدلان على حسن المزاج في الأعضاء ووفرة المادة في الأرواح أما حسن المزاج فعلامته الحور وأما وفرة الروح فإن سعة العين بسبب كثرة الروح المصوبة إليها فإن قيل قوله زوجناهم ذكره بفعل ماض و تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ حال ولم يسبق ذكر فعل ماض يعطف عليه ذلك وعطف الماضي على الماضي والمستقبل على المستقبل أحسن نقول الجواب من وجوه اثنان لفظيان ومعنوي أحدها أن ذلك حسن في كثير من المواضع تقول جاء زيد ويجيء عمراً وخرج زيد ثانيها أن قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ تقديره أدخلناهم في جنات وذلك لأن الكلام على تقدير أن في اليوم الذي يدع الكافر في النار في ذلك الوقت يكون المؤمن قد أدخل مكانه فكأنه تعالى يقول في يوم يدعون إلى نار جهنم إن المتقين كائنون في جنّات والثالث المعنوي وهو أنه تعالى ذكر مجزاة الحكم فهو في هذا اليوم زوج عباده حوراً عيناً وهن منتظرات الزفاف يوم الآزفة
الَّذِينَ هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ
ثم قال تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وفيه لطائف الأولى أن شفقة الأبوة كما هي في الدنيا متوفرة كذلك في الآخرة ولهذا طيب الله تعالى قلوب عباده بأنه لا يولههم بأولادهم بل يجمع بينهم فإن قيل قد ذكرت في تفسير بعض الآيات أن الله تعالى يسلي الآباء عن الأبناء وبالعكس ولا يتذكر الأب الذي هو من أهل الجنة الابن الذي هو من أهل النار نقول الولد الصغير وجد في والده الأبوة الحسنة ولم يوجد لها معارض ولهذا ألحق الله الولد بالوالد في الإسلام في دار الدنيا عند الصغر وإذا كبر استقل فإن كفر ينسب إلى غير أبيه وذلك لأن الإسلام للمسلمين كالأب ولهذا قال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) جمع أخ بمعنى أخوة الولادة والإخوان جمعه بمعنى أخوة الصداقة والمحبة فإذن الكفر من حيث الحس والعرف أب فإن خالف دينه دين أبيه صار له من حيث الشرع أب آخر وفيه أرشاد الآباء إلى أن لا يشغلهم شيء عن الشفقة على الولد فيكون من القبيح الفاحش أن يشتغل الإنسان بالتفرج في البستان مع الأحبة الإخوان وعن تحصيل قوت الولدان وكيف لا يشتغل أهل الجنة بما في الجنة من الحور العين عن أولادهم حتى ذكروهم فأراح الله قلوبهم بقوله أَلْحَقْنَا بِهِمْ وإذا كان كذلك فما ظنك بالفاسق الذي يبذر ماله في الحرام ويترك أولاده يتكففون وجوه اللئام والكرام نعوذ بالله منه وهذا يدل على أن من يورث أولاده مالاً حلالاً يكتب له به صدقة ولهذا لم يجوز للمريض التصرف في أكثر من الثلث
اللطيفة الثانية قوله تعالى ءامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم فهذا ينبغي أن يكون دليلاً على أنا في الآخرة نلحق بهم لأن في دار الدنيا مراعاة الأسباب أكثر ولهذا لم يجر الله عادته على أن يقدم بين يدي الإنسان طعاماً من السماء فما يتسبب له بالزراعة والطحن والعجن لا يأكله وفي الآخرة يؤتيه ذلك من غير سعي جزاء له على ما سعى له من قبل فينبغي أن يجعل ذلك دليلاً ظاهراً على أن الله تعالى يلحق به ولده وإن لم يعمل عملاً صالحاً كما أتبعه وإن لم يشهد ولم يعتقد شيئاً
اللطيفة الثالثة في قوله تعالى بِإِيمَانٍ فإن الله تعالى أتبع الولد الوالدين في الإيمان ولم يتبعه أباه في الكفر بدليل أن من أسلم من الكفار حكم بإسلام أولاده ومن ارتد من المسلمين والعياذ بالله لا يحكم بكفر ولده
اللطيفة الرابعة قال في الدنيا اتبعناهم وقال في الآخرة بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ وذلك لأن في الدنيا لا يدرك الصغير التبع مساوات المتبوع وإنما يكون هو تبعاً والأب أصلاً لفضل الساعي على غير الساعي وأما في الآخرة فإذا ألحق الله بفضله ولده به جعل له من الدرجة مثل ما لأبيه
اللطيفة الخامسة في قوله تعالى وَمَا أَلَتْنَاهُمْ تطييب لقلبهم وإزالة وهم المتوهم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوالد والولد بل للوالد أجر عمله بفضل السعي ولأولاده مثل ذلك فضلاً من الله ورحمة
اللطيفة السادسة في قوله تعالى مّنْ عَمَلِهِم ولم يقل من أجرهم وذلك لأن قوله تعالى وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مّنْ عَمَلِهِم دليل على بقاء عملهم كما كان والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه الإشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إليه ولو قال ما ألتناهم من أجرهم لكان ذلك حاصلاً بأدنى شيء لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل ولأنه لو قال تعالى ما ألتناهم من أجرهم كان مع ذلك يحتمل أن يقال إن الله تعالى تفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص وأعطاه الأجر الجزيل مع أن عمله كان له ولولده جميعاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ عطف على ماذا نقول على قوله إِنَّ الْمُتَّقِينَ ( الطور 17 )
المسألة الثانية إذا كان كذلك فلم أعاد لفظ الَّذِينَ كَفَرُواْ وكان المقصود يحصل بقوله تعالى وألحقنا بهم ذرياتهم بعد قوله وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم ( الطور 20 ) وكان يصير التقدير وزوجناهم وألحقنا بهم نقول فيه فائدة وهو أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقال ههنا الَّذِينَ كَفَرُواْ أي بوجود الإيمان يصير ولده من أهل الجنة ثم إن ارتكب الأب كبيرة أو صغيرة على صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد وربما يدخل الجنة الابن قبل الأب وفيه لطيفة معنوية وهو أنه ورد في الأخبار أن الولد الصغير يشفع لأبيه وذلك إشارة إلى الجزاء
المسألة الثالثة هل يجوز غير ذلك نقول نعم يجوز أن يكون قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ عطفاً على بِحُورٍ عِينٍ ( الطور 20 ) تقديره زوجناهم بحور عين أي قرناهم بهن وبالذين آمنوا إشارة إلى قوله تعالى إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ( الحجر 47 ) أي جمعنا شملهم بالأزواج والإخوان والأولاد بقوله تعالى وَأَتْبَعْنَاهُم وهذا الوجه ذكره الزمخشري والأول أحسن وأصح فإن قيل كيف يصح على هذا الوجه الإخبار بلفظ الماضي مع أنه سبحانه وتعالى بعد ما قرن بينهم قلنا صح في وزوجناهم على ما ذكر الله تعالى من تزويجهن منا من يوم خلقهن وإن تأخر زمان الاقتران
المسألة الرابعة قرىء ذرياتهم في الموضعين بالجمع وذريتهم فيهما بالفرد وقرىء في الأول ذرياتهم وفي الثانية وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم فهل للثالث وجه نقول نعم معنوي لا لفظي وذلك لأن المؤمن تتبعه ذرياته في الإيمان وإن لم توجد على معنى أنه لو وجد له ألف ولد لكانوا أتباعه في الإيمان حكماً وأما الإلحاق فلا يكون حكماً إنما هو حقيقة وذلك في الموجود فالتابع أكثر من الملحوق فجمع في الأول وأفرد الثاني
المسألة الخامسة ما الفائدة في تنكير الإيمان في قوله وَأَتْبَعْنَاهُم ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ نقول هو إما التخصيص أو التنكير كأنه يقول أتبعناهم ذرياتهم بإيمان مخلص كامل أو يقول أتبعناهم بإيمان ما أي شيء منه فإن الإيمان كاملاً لا يوجد في الولد بدليل أن من له ولد صغير حكم بإيمانه فإذا بلغ وصرّح بالكفر وأنكر التبعية قيل بأنه لا يكون مرتداً وتبين بقول إنه لم يتبع وقيل بأنه يكون مرتداً لأنه كفر بعد ما حكم بإيمانه
كالمسلم الأصلي فإذن بهذا الخلاف تبين أن إيمانه يقوى وهذان الوجهان ذكرهما الزمخشري ويحتمل أن يكون المراد غير هذا وهو أن يكون التنوين للعوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( البقرة 251 ) وقوله تعالى وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ( النساء 95 ) وبيانه هو أن التقدير أتبعناهم ذرياتهم بإيمان أي بسبب إيمانهم لأن الاتباع ليس بإيمان كيف كان وممن كان وإنما هو إيمان الآباء لكن الإضافة تنبىء عن تقييد وعدم كون الإيمان إيماناً على الإطلاق فإن قول القائل ماء الشجر وماء الرمان يصح وإطلاق اسم الماء من غير إضافة لا يصح فقوله بِإِيمَانٍ يوهم أنه إيمان مضاف إليهم كما قال تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) حيث أثبت الإيمان المضاف ولم يكن إيماناً فقطع الإضافة مع إرادتها ليعلم أنه إيمان صحيح وعوض التنوين ليعلم أنه لا يوجب الأمان في الدنيا إلا إيمان الآباء وهذا وجه حسن
وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَى ْءٍ كُلُّ امْرِى ءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ
ثم قال تعالى كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ قال الواحدي هذا عود إلى ذكر أهل النار فإنهم مرتهنون في النار وأما المؤمن فلا يكون مرتهناً قال تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة ٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ ( المدثر 38 39 ) وهو قول مجاهد وقال الزمخشري كُلُّ امْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ عام في كل أحد مرهون عند الله بالكسب فإن كسب خيراً فك رقبته وإلا أربق بالرهن والذي يظهر منه أنه عام في حق كل أحد وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون الرهين فعيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى والله أعلم كل امرىء بما كسب راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبداً وإن أساء ففي النار مخلداً وقد ذكرنا أن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العرض لا يبقى إلا في جوهر ولا يوجد إلا فيه وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات وما عند الله باق والباقي يبقى مع عامله
وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَة ٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
أي زدناهم مأكولاً ومشروباً أما المأكول فالفاكهة واللحم وأما المشروب فالكأس الذي يتنازعون فيها وفي تفسيرها لطائف
اللطيفة الأولى لما قال أَلْحَقْنَا بِهِمْ ( الطور 21 ) بين الزيادة ليكون ذلك جارياً على عادة الملوك في الدنيا إذا زادوا في حق عبد من عبيدهم يزيدون في أقدار أخبازهم وأقطاعهم واختار من المأكول أرفع الأنواع وهو الفاكهة واللحم فإنهما طعام المتنعمين وجمع أوصافاً حسنة في قوله مما يشتهون لأنه لو ذكر نوعاً فربما يكون ذلك النوع غير مشتهى عند بعض الناس فقال كل أحد يعطى ما يشتهي فإن قيل الاشتهاء كالجوع وفيه نوع ألم نقول ليس كذلك بل الاشتهاء به اللذة والله تعالى لا يتركه في الاشتهاء بدون المشتهي حتى يتألم بل المشتهي حاصل مع الشهوة والإنسان في الدنيا لا يتألم إلا بأحد أمرين إما باشتهاء صادق وعجزه عن الوصول إلى المشتهي وإما بحصول أنواع الأطعمة والأشربة عنده وسقوط شهوته وكلاهما منتف في الآخرة
اللطيفة الثانية لما قال ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ ونفي النقصان يصدق بحصول المساوي فقال ليس عدم النقصان بالاقتصار على المساوي بطريق آخر وهو الزيادة والإمداد فإن قيل أكثر الله من ذكر الأكل
والشرب وبعض العارفين يقولون لخاصة الله بالله شغل شاغل عن الأكل والشرب وكل ما سوى الله نقول هذا على العمل ولهذا قال تعالى جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( الواقعة 24 ) وقال بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( الطور 16 ) وأما على العلم بذلك فذلك ولهذا قال لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَة ٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ أي للنفوس ما تتفكه به وللأرواح ما تتمناه من القربة والزلفى
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ
وقوله تعالى يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً فيكون ذلك على عادة الملوك إذا جلسوا في مجالسهم للشرب يدخل عليهم بفواكه ولحوم وهم على الشرب وقوله تعالى يَتَنَازَعُونَ أي يتعاطون ويحتمل أن يقال التنازع التجاذب وحينئذ يكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة لا تجاذب منازعة وفيه نوع لذة وهو بيان ما هو عليه حال الشراب في الدنيا فإنهم يتفاخرون بكثرة الشرب ولا يتفاخرون بكثرة الأكل ولهذا إذا شرب أحدهم يرى الآخر واجباً أن يشرب مثل ما شربه حريفه ولا يرى واجباً أن يأكل مثل ما أكل نديمه وجليسه
وقوله تعالى لا لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ وسواء قلنا فِيهَا عائدة إلى الجنة أو إلى الكأس فذكرهما لجريان ذكر الشراب وحكايته على ما في الدنيا فقال تعالى ليس في الشرب في الآخرة كل ما فيه في الدنيا من اللغو بسبب زوال العقل ومن التأثيم الذي بسبب نهوض الشهوة والغضب عند وفور العقل والفهم وفيه وجه ثالث وهو أن يقال لا يعتريه كما يعتري الشارب بالشرب في الدنيا فلا يؤثم أي لا ينسب إلى إثم وفيه وجه رابع وهو أن يكون المراد من التأثيم السكر وحينئذ يكون فيه ترتيب حسن وذلك لأن من الناس من يسكر ويكون رزين العقل عديم اعتياد العربدة فيسكن وينام ولا يؤذي ولا يتأذى ولا يهذي ولا يسمع إلى من هذى ومنهم من يعربد فقال لاَّ لَغْوٌ فِيهَا
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ
أي بالكؤوس وقال تعالى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ ( الواقعة 17 18 ) وقوله لَهُمْ أي ملكهم إعلاماً لهم بقدرتهم على التصرف فيهم بالأمر والنهي والاستخدام وهذا هو المشهور ويحتمل وجهاً آخر وهو أنه تعالى لما بيّن امتياز خمر الآخرة عن خمر الدنيا بين امتياز غلمان الآخرة عن غلمان الدنيا فإن الغلمان في الدنيا إذا طافوا على السادة الملوك يطوفون عليهم لحظ أنفسهم إما لتوقع النفع أو لتوفر الصفح وأما في الآخرة فطوفهم عليهم متمخض لهم ولنفعهم ولا حاجة لهم إليهم والغلام الذي هذا شأنه له مزية على غيره وربما يبلغ درجة الأولاد وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ أي في الصفاء و مَّكْنُونٌ ليفيد زيادة في صفاء ألوانهم أو لبيان أنهم كالمخدرات لا بروز لهم ولا خروج من عندهم فهم في أكنافهم
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ
إشارة إلى أنهم يعلمون ما جرى عليهم في الدنيا ويذكرونه وكذلك الكافر لا ينسى ما كان له من النعيم في الدنيا فتزداد لذة المؤمن من حيث يرى نفسه انتقلت من السجن إلى الجنة ومن الضيق إلى السعة ويزداد الكافر ألماً حيث يرى نفسه منتقلة من الشرف إلى التلف ومن النعيم إلى الجحيم ثم يتذكرون ما كانوا عليه في الدنيا من الخشية والخوف فيقولون إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ وهو أنهم يكون تساؤلهم عن سبب ما وصلوا إليه فيقولون خشية الله كنا نخاف الله فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ وفيه لطيفة وهو أن يكون إشفاقهم على فوات الدنيا والخروج منها ومفارقة الإخوان ثم لما نزلوا الجنة علموا خطأهم
فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّى مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ
وتعلق الآية بما قبلها ظاهر لأنه تعالى بيّن أن في الوجود قوماً يخافون الله ويشفقون في أهليهم والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى بقوله فَذَكّرْ بِالْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ق 45 ) فحقق من يذكره فوجب التذكير وأما الرسول عليه السلام فليس له إلا الإتيان بما أمر به وفيه مسائل
المسألة الأولى في الفاء في قوله فَذَكّرْ قد علم تعلقه بما قبله فحسن ذكره بالفاء
المسألة الثانية معنى الفاء في قوله فَمَا أَنتَ أيضاً قد علم أي أنك لست بكاهن فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم فإن ذلك سيرة المزور فَذَكّرْ فإنك لست بمزور وذلك سبب التذكير
المسألة الثالثة ما وجه تعلق قوله نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ بقوله شَاعِرٌ نقول فيه وجهان الأول أن العرب كانت تحترز عن إيذاء الشعراء وتتقي ألسنتهم فإن الشعر كان عندهم يحفظ ويدون وقالوا لا نعارضه في الحال مخافة أن يغلبنا بقوة شعره وإنما سبيلنا الصبر وتربص موته الثاني أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول إن الحق دين الله وإن الشرع الذي أتيت به يبقى أبد الدهر وكتابي يتلى إلى قيام الساعة فقالوا ليس كذلك إنما هو شاعر والذي يذكره في حق آلهتنا شعر ولا ناصر له وسيصيبه من بعض آلهتنا الهلاك فنتربص به ذلك
المسألة الرابعة ما معنى ريب المنون نقول قيل هو اسم للموت فعول من المن وهو القطع والموت قطوع ولهذا سمي بمنون وقيل المنون الدهر وريبه حوادثه وعلى هذا قولهم نَتَرَبَّصُ يحتمل وجهاً آخر وهو أن يكون المراد أنه إذا كان شاعراً فصروف الزمان ربما تضعف ذهنه وتورث وهنه فيتبين لكل فساد أمره وكساد شعره
المسألة الخامسة كيف قال تَرَبَّصُواْ بلفظ الأمر وأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوجب المأمور ( به ) أو يفيد جوازه
وتربصهم ذلك كان حراماً نقول ذلك ليس بأمر وإنما هو تهديد معناه تربصوا ذلك فإنا نتربص الهلاك بكم على حد ما يقول السيد الغضبان لعبده افعل ما شئت فإني لست عنك بغافل وهو أمر لتهوين الأمر على النفس كما يقول القائل لمن يهدده برجل ويقول أشكوك إلى زيد فيقول اشكني أي لا يهمني ذلك وفيه زيادة فائدة وذلك لأنه لو قال لا تشكني لكان ذلك دليل الخوف وينافيه معناه فأتى بجواب تام من حيث اللفظ والمعنى فإن قيل لو كان كذلك لقال تربصوا أو لا تربصوا كما قال فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ ( الطور 16 ) نقول ليس كذلك لأنه إذا قال القائل فيما ذكرناه من المثال اشكني أو لا تشكني يكون ذلك مفيداً عدم خوفه منه فإذا قال اشكني يكون أدل على عدم الخوف فكأنه يقول أنا فارغ عنه وإنما أنت تتوهم أنه يفيد فافعل حتى يبطل اعتقادك
المسألة السادسة في قوله تعالى فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ وهو يحتمل وجوهاً أحدها إني معكم من المتربصين أتربص هلاككم وقد أهلكوا يوم بدر وفي غيره من الأيام هذا ما عليه الأكثرون والذي نقوله في هذا المقام هو أن الكلام يحتمل وجوهاً وبيانها هو أن قوله تعالى نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ إن كان المراد من المنون الموت فقوله إِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ معناه إني أخاف الموت ولا أتمناه لا لنفسي ولا لأحد لعدم علمي بما قدمت يداه وإنما أنا نذير وأنا أقول ما قال ربي أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ( آل عمران 144 ) فتربصوا موتي وأنا متربصه ولا يسركم ذلك لعدم حصول ما تتوقعون بعدي ويحتمل أن يكون كما قيل تربصوا موتي فإني متربص موتكم بالعذاب وإن قلنا المراد من ريب المنون صروف الدهر فمعناه إنكار كون صروف الدهر مؤثرة فكأنه يقول أنا من المتربصين حتى أبصر ماذا يأتي به دهركم الذي تجعلونه مهلكاً وماذا يصيبني منه وعلى التقديرين فنقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتربص ما يتربصون غير أن في الأول تربصه مع اعتقاد الوقوع وفي الثاني تربصه مع اعتقاد عدم التأثير على طريقة من يقول أنا أيضاً أنتظر ما ينتظره حتى أرى ماذا يكون منكراً عليه وقوع ما يتوقع وقوعه وإنما هذا لأن ترك المفعول في قوله إِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ لكونه مذكوراً وهو ريب المنون أولى من تركه وإرادة غير المذكور وهو العذاب الثاني أتربص صروف الدهر ليظهر عدم تأثيرها فهو لم يتربص بهم شيئاً على الوجهين وعلى هذا الوجه يتربص بقاءه بعدهم وارتفاع كلمته فلم يتربص بهم شيئاً على الوجوه التي اخترناها فقال إِنّى مَعَكُم مّنَ الْمُتَرَبّصِينَ
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَاذَآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
وأم هذه أيضاً على ما ذكرنا متصلة تقديرها أنزل عليهم ذكر أم تأمرهم أحلامهم بهذا وذلك لأن الأشياء إما أن تثبت بسمع وإما أن تثبت بعقل فقال هل ورد أمر سمعي أم عقولهم تأمرهم بما كانوا يقولون أم هم قوم طاغون يغترون ويقولون ما لا دليل عليه سمعاً ولا مقتضى له عقلاً والطغيان مجاوزة الحد في العصيان وكذلك كل شيء ظاهره مكروه قال الله تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء ( الحاقه 11 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى إذا كان المراد ما ذكرت فلم أسقط ما يصدر به تقول لأن كون ما يقولون به مسنداً
إلى نقل معلوم عدمه لا ينفى وأما كونه معقولاً فهم كانوا يدعون أنه معقول وأما كونهم طاغين فهو حق فخص الله تعالى بالذكر ما قالوا به وقال الله به فهم قالوا نحن نتبع العقل والله تعالى قال هم طاغون فذكر الأمرين اللذين وقع فيهما الخلاف
المسألة الثانية قوله تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ إشارة إلى أن كل ما لا يكون على وفق العقل لا ينبغي أن يقال وإنما ينبغي أن يقال ما يجب قوله عقلاً فهل صار ( كل ) واجب عقلاً مأموراً به
المسألة الثالثة ما الأحلام نقول جمع حلم وهو العقل وهما من باب واحد من حيث المعنى لأن العقل يضبط المرء فيكون كالبعير المعقول لا يتحرك من مكانه والحلم من الحلم وهو أيضاً سبب وقار المرء وثباته وكذلك يقال للعقول النهى من النهي وهو المنع وفيه معنى لطيف وهو أن الحلم في أصل اللغة هو ما يراه النائم فينزل ويلزمه الغسل وهو سبب البلوغ وعنده يصير الإنسان مكلفاً وكأن الله تعالى من لطيف حكمته قرن الشهوة بالعقل وعند ظهور الشهوة كمل العقل فأشار إلى العقل بالإشارة إلى ما يقارنه وهو الحلم ليعلم أنه نذير كمال العقل لا العقل الذي به يحترز الإنسان تخطىء الشرك ودخول النار وعلى هذا ففيه تأكيد لما ذكرنا أن الإنسان لا ينبغي أن يقول كل معقول بل لا يقول إلا ما يأمر به العقل الرزين الذي يصحح التكليف
المسألة الرابعة هذا إشارة إلى ماذا نقول فيه وجوه الأول أن يكون هذا إشارة مهمة أي بهذا الذي يظهر منهم قولاً وفعلاً حيث يعبدون الأصنام والأوثان ويقولون الهذيان من الكلام الثاني هذا إشارة إلى قولهم هو كاهن هو شاعر هو مجنون الثالث هذا إشارة إلى التربص فإنهم لما قالوا نتربص قال الله تعالى أعقولهم تأمرهم بتربص هلاكهم فإن أحداً لم يتوقع هلاك نبيه إلا وهلك
المسألة الخامسة هل يصح أن تكون أم في هذا الموضع بمعنى بل نقول نعم تقديره يقولون إنه شاعر قولاً بل يعتقدونه عقلاً ويدخل في عقولهم ذلك أي ليس ذلك قولاً منهم من غير عقل بل يعتقدون كونه كاهناً ومجنوناً ويدل عليه قراءة من قرأ بل هم قوم طاغون لكن بل ههنا واضح وفي قوله بل تأمرهم أحلامهم خفي
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ
وهو متصل بقوله تعالى أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ ( الطور 30 ) وتقديره على ما ذكرنا أتقولون كاهن أم تقولون شاعر أم تقوله
فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ
ثم قال لبطلان جميع الأقسام فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أي إن كان هو شاعراً ففيكم الشعراء البلغاء والكهنة الأذكياء ومن يرتجل الخطب والقصائر ويقص القصص ولا يختلف الناقص والزائد فليأتوا بمثل ما أتى به والتقول يراد به الكذب وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن التفعل للتكلف وإراءة الشيء وهو ليس على ما يرى يقال تمرض فلان أي لم يكون مريضاً وأرى من نفسه المرض وحينئذ كأنهم كانوا يقولون كذب وليس بقول إنما هو تقول صورة القول وليس في الحقيقة به ليعلم أن المكذب هو الصادق وقوله تعالى بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ بيان هذا أنهم كانوا في زمان نزول الوحي وحصول المعجزة كانوا
يشاهدونها وكان ذلك يقتضي أن يشهدوا له عند غيرهم ويكونوا كالنجوم للمؤمنين كما كانت الصحابة رضي الله عنهم وهم لم يكونوا كذلك بل أقل من ذلك لم يكونوا أيضاً وهو أن يكونوا من آحاد المؤمنين الذين لم يشهدوا تلك الأمور ولم يظهر الأمر عندهم ذلك الظهور
وقوله تعالى فَلْيَأْتُواْ الفاء للتعقيب أي إذا كان كذلك فيجب عليهم أن يأتوا بمثل ما أتى به ليصحح كلامهم ويبطل كلامه وفيه مباحث
الأول قال بعض العلماء فَلْيَأْتُواْ أمر تعجيز بقول القائل لمن يدعي أمراً أو فعلاً ويكون غرضه إظهار عجزه والظاهر أن الأمر ههنا مبقي على حقيقته لأنه لم يقل ائتوا مطلقاً بل إنما قال ائتوا إن كنتم صادقين وعلى هذا التقدير ووجود ذلك الشرط يجب الإتيان به وأمر التعجيز في كلام الله تعالى قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ ( البقرة 258 ) وليس هذا بحثاً يورث خللاً في كلامهم
الثاني قالت المعتزلة الحديث محدث والقرآن سماه حديثاً فيكون محدثاً نقول الحديث اسم مشترك يقال للمحدث والقديم ولهذا يصح أن يقال هذا حديث قديم بمعنى متقادم العهد لا بمعنى سلب الأولية وذلك لا نزاع فيه
الثالث النحاة يقولون الصفة تتبع الموصوف في التعريف والتنكير لكن الموصوف حديث وهو منكر ومثل مضاف إلى القرآن والمضاف إلى المعرف معرف فكيف هذا نقول مثل وغير لا يتعرفان بالإضافة وكذلك كل ما هو مثلهما والسبب أن غير أو مثلاً وأمثالهما في غاية التنكير فإنك إذا قلت ما رأيت شيئاً مثل زيد يتناول كل شيء فإن كل شيء مثل زيد في كونه شيئاً فالجماد مثله في الجسم والحجم والإمكان والنبات مثله في النشوء والنماء والذبول والفناء والحيوان مثله في الحركة والإدراك وغيرهما من الأوصاف وأما غير فهو عند الإضافة ينكر وعند قطع الإضافة ربما يتعرف فإنك إذا قلت غير زيد صار في غاية الإيهام فإنه يتناول أموراً لا حصر لها وأما إذا قطعته عن الإضافة ربما تقول الغير والمغايرة من باب واحد وكذلك التغير فتجعل الغير كأسماء الأجناس أو تجعله مبتدأ وتريد به معنى معيناً
الرابع إِن كَانُواْ صَادِقِينَ أي في قولهم تَقَوَّلَهُ ( الطور 33 ) وقد ذكرنا أن ذلك راجع إلى ما سبق من أنه كاهن وأن مجنون وأنه شاعر وأنه متقول ولو كانوا صادقين في شيء من ذلك لهان عليهم الإتيان بمثل القرآن ولما امتنع كذبوا في الكل
البحث الخامس قد ذكرنا أن القرآن معجز ولا شك فيه فإن الخلق عجزوا عن الإتيان بمثل ما يقرب منه عند التحدي فإما أن يكون كونه معجزاً لفصاحته وهو مذهب أكثر أهل السنة وإما أن يكون معجزاً لصرف الله عقول العقلاء عن الإتيان بمثله وعقله ألسنتهم عن النطق بما يقرب منه ومنع القادر من الإتيان بالمقدور كإتيان الواحد بفعل لا يقدر عليه غيره فإن من قال لغيره أنا أحرك هذا الجبل يستبعد منه وكذا إذا قال إني أفعل فعلاً لا يقدر الخلق ( معه ) على حمل تفاحة من موضعها يستبعد منه على أن كل واحد فعل معجز إذا اتصل بالدعوى وهذا مذهب بعض المتكلمين ولا فساد فيه وعلى أن يقال هو معجز بهما جميعاً
أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَى ْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ
ومن هنا لا خلاف أن أَمْ ليست بمعنى بل لكن أكثر المفسرين على أن المراد ما يقع في صدر الكلام من الاستفهام إما بالهمزة فكأنه يقول أخلقوا من غير شيء أو هل ويحتمل أن يقال هو على أصل الوضع للاستفهام الذي يقع في أثناء الكلام وتقديره أما خلقوا أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون وفيه مسائل
المسألة الأولى ما وجه تعلق الآية بما قبلها نقول لما كذبوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونسبوه إلى الكهانة والجنون والشعر وبرأه الله من ذلك ذكر الدليل على صدقه إبطالاً لتكذيبهم وبدأ بأنفسهم كأنه يقول كيف يكذبونه وفي أنفسهم دليل صدقه لأن قوله في ثلاثة أشياء في التوحيد والحشر والرسالة ففي أنفسهم ما يعلم به صدقه وبيانه هو أنهم خلقوا وذلك دليل التوحيد لما بينا أن في كل شيء له آية تدل على أنه واحد وقد بينا وجهه مراراً فلا نعيده
وأما الحشر فلأن الخلق الأول دليل على جواز الخلق الثاني وإمكانه ويدل على ما ذكرنا أن الله تعالى ختم الاستفهامات بقوله أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( الطور 43 )
المسألة الثانية إذا كان الأمر على ما ذكرت فلم حذف قوله أما خلقوا نقول لظهور انتفاء ذلك ظهوراً لا يبقى معه للخلاف وجه فإن قيل فلم لم يصدر بقوله أما خلقوا ويقول أم خلقوا من غير شيء نقول ليعلم أن قبل هذا أمراً منفياً ظاهراً وهذا المذكور قريب منه في ظهور البطلان فإن قيل قوله أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَى ْء أيضاً ظاهر البطلان لأنهم علموا أنهم مخلوقون من تراب وماء ونطفة نقول الأول أظهر في البطلان لأن كونهم غير مخلوقين أمر يكون مدعيه منكراً للضرورة فمنكره منكر لأمر ضروري
المسألة الثالثة ما المراد من قوله تعالى مِنْ غَيْرِ شَى ْء نقول فيه وجوه المنقول منها أنهم خلقوا من غير خالق وقيل إنهم خلقوا لا لشيء عبثاً وقيل إنهم خلقوا من غير أب وأم ويحتمل أن يقال أم خلقوا من غير شيء أي ألم يخلقوا من تراب أو من ماء ودليله قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ ( المرسلات 20 ) ويحتمل أن يقال الاستفهام الثاني ليس بمعنى النفي بل هو بمعنى الإثبات قال الله تعالى ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ ( الواقعة 59 ) و ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرِعُونَ ( الواقعة 64 ) ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ( الواقعة 72 ) كل ذلك في الأول منفي وفي الثاني مثبت كذلك ههنا قال الله تعالى أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَى ْء أي الصادق هو هذا الثاني حينئذ وهذا كما في قوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ( الإنسان 8 ) فإن قيل كيف يكون ذلك الإثبات والآدمي خلق من تراب نقول والتراب خلق من غير شيء فالإنسان إذا نظرت إلى خلقه وأسندت النظر إلى ابتداء أمره وجدته خلق من غير شيء أو نقول المراد أم خلقوا من غير شيء مذكور أو معتبر وهو الماء المهين
المسألة الرابعة ما الوجه في ذكر الأمور الثلاثة التي في الآية نقول هي أمور مرتبة كل واحد منها يمنع القول بالوحدانية والحشر فاستفهم بها وقال أما خلقوا أصلاً ولذلك ينكرون القول بالتوحيد لانتفاء الإيجاد وهو الخلق وينكرون الحشر لانتفاء الخلق الأول أم خلقوا من غير شيء أي أم يقولون بأنهم خلقوا لا لشيء فلا إعادة كما قال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ( المؤمنون 115 ) وعلى قولنا إن المراد خلقوا لا من تراب ولا من ماء فله وجه ظاهر وهو أن الخلق إذا لم يكن من شيء بل يكون إيداعياً يخفي كونه مخلوقاً على بعض الأغبياء ولهذا قال بعضهم السماء رفع اتفاقاً ووجد من غير خالق وأما الإنسان الذي يكون أولاً نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحماً وعظماً لا يتمكن أحد من إنكاره بعد مشاهدة تغير أحواله فقال تعالى أَمْ خَلَقُواْ بحيث يخفى عليهم وجه خلقهم بأن خلقوا ابتداء من غير سبق حالة عليهم يكونون فيها تراباً ولا ماء ولا نطفة ليس كذلك بل هم كانوا شيئاً من تلك الأشياء خلقوا منه خلقاً فما خلقوا من غير شيء حتى ينكروا الوحدانية ولهذا قال تعالى يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ ( الزمر 6 ) ولهذا أكثر الله من قوله خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَة ٍ ( الإنسان 2 ) وقوله أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ يتناول الأمرين المذكورين في هذا الموضع لأن قوله أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء يحتمل أن يكون نفي المجموع بنفي الخلق فيكون كأنه قال أخلقتم لا من ماء وعلى قول من قال المراد منه أم خلقوا من غير شيء أي من غير خالق ففيه ترتيب حسن أيضاً وذلك لأن نفي الصانع إما أن يكون بنفي كون العالم مخلوقاً فلا يكون ممكناً وإما أن يكون ممكناً لكن الممكن لا يكون محتاجاً فيقع الممكن من غير مؤثر وكلاهما محال وأما قوله تعالى أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ فمعناه أهم الخالقون للخلق فيعجز الخالق بكثرة العمل فإن دأب الإنسان أنه يعيا بالخلق فما قولهم أما خلقوا فلا يثبت لهم إلاه ألبتة أم خلقوا وخفي عليهم وجه الخلق أم جعلوا الخالق مثلهم فنسبوا إليه العجز ومثل قوله تعالى أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاْوَّلِ ( ق 15 ) هذا بالنسبة إلى الحشر وأما بالنسبة إلى التوحيد فهو رد عليهم حيث قالوا الأمور مختلفة واختلاف الآثار يدل على اختلاف المؤثرات وقالوا أَجَعَلَ الاْلِهَة َ إِلَهاً واحِداً ( ص 5 ) فقال تعالى أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ حيث لا يقدر الخباز على الخياطة والخياط على البناء وكل واحد يشغله شأن عن شأن
أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ
فيه وجوه أحدها ما اختاره الزمخشري وهو أنهم لا يوقنون بأنهم خلقوا وهو حينئذ في معنى قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) أي هم معترفون بأنه خلق الله وليس خلق أنفسهم وثانيها المراد بل لا يوقنون بأن الله واحد وتقديره ليس الأمر كذلك أي ما خلقوا وإنما لا يوقنون بوحدة الله وثالثها لا يوقنون أصلاً من غير ذكر مفعول يقال فلان ليس بمؤمن وفلان ليس بكافر لبيان مذهبه وإن لم ينو مفعولاً وكذلك قول القائل فلان يؤذي ويؤدي لبيان ما فيه لا مع القصد إلى ذكر مفعول وحينئذ يكون تقديره أنهم ما خلقوا السماوات والأرض ولا يوقنون بهذه الدلائل بل لا يوقنون أصلاً وإن جئتهم بكل آية يدل عليه قوله تعالى بعد ذلك
وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ( الطور 44 ) وهذه الآية إشارة إلى دليل الآفاق وقوله من قبل أَمْ خَلَقُواْ ( الطور 37 ) دليل الأنفس
أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ
فيه وجوه أحدها المراد من الخزائن خزائن الرحمة ثانيها خزائن الغيب ثالثها أنه إشارة إلى الأسرار الإلاهية المخفية عن الأعيان رابعها خزائن المخلوقات التي لم يرها الإنسان ولم يسمع بها وهذه الوجوه الأول والثاني منقول والثالث والرابع مستنبط وقوله تعالى أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ تتمة للرد عليهم وذلك لأنه لما قال أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ إشارة إلى أنهم ليسوا بخزنة ( رحمة ) الله فيعلموا خزائن الله وليس بمجرد انتفاء كونهم خزنة ينتفي العلم لجواز أن يكون مشرفاً على الخزانة فإن العلم بالخزائن عند الخازن والكاتب في الخزانة فقال لستم بخزنة ولا بكتبة الخزانة المسلطين عليها ولا يبعد تفسير المسيطرين بكتبة الخزانة لأن التركيب يدل على السطر وهو يستعمل في الكتاب وقيل المسيطر المسلط وقرىء بالصاد وكذلك في كثير من السيئات التي مع الطاء كما في قوله تعالى بِمُسَيْطِرٍ ( الغاشية 22 ) و ( قد قرىء ) مصيطر
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
وهو أيضاً تتميم للدليل فإن من لا يكون خازناً ولا كاتباً قد يطلع على الأمر بالسماع من الخازن أو الكاتب فقال أنتم لستم بخزنة ولا كتبة ولا اجتمعتم بهم لأنهم ملائكة ولا صعود لكم إليهم وفيه مسائل
المسألة الأولى المقصود نفي الصعود ولا يلزم من نفي السلم لهم نفي الصعود فما الجواب عنه نقول النفي أبلغ من نفي الصعود وهو نفي الاستماع وآخر الآية شامل للكل قال تعالى فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
المسألة الثانية السلم لا يستمع فيه وإنما يستمع عليه فما الجواب نقول من وجهين أحدهما ما ذكره الزمخشري أن المراد يَسْتَمِعُونَ صاعدين فيه وثانيهما ما ذكره الواحدي أن في بمعنى على كما في قوله تعالى وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ ( طه 71 ) أي جذوع النخل وكلاهما ضعيف لما فيه من الإضمار والتغيير
المسألة الثالثة لم ترك ذكر مفعول يَسْتَمِعُونَ وماذا هو نقول فيه وجوه أحدها المستمع هو الوحي أي هل لهم سلم يستمعون فيه الوحي ثانيها يستمعون ما يقولون من أنه شاعر وأن لله شريكاً وأن الحشر لا يكون ثالثها ترك المفعول رأساً كأنه يقول هل لهم قوة الاستماع من السماء حتى يعلموا أنه ليس برسول وكلامه ليس بمرسل
المسألة الرابعة قال فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم ولم يقل فليأتوا كما قال تعالى فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ ( الطور 34 ) نقول طلب منهم ما يكون أهون على تقدير صدقهم ليكون اجتماعهم عليه أدل على بطلان قولهم فقال هناك فَلْيَأْتُواْ أي اجتمعوا عليه وتعاونوا وأتوا بمثله فإن ذلك عند الاجتماع أهون وأما الارتقاء في السلم بالاجتماع ( فإنه ) متعذر لأنه لا يرتقي إلا واحد بعد واحد ولا يحصل في الدرجة العليا إلا
واحد فقال فَلْيَأْتِ ذلك الواحد الذي كان أشد رقياً بما سمعه
المسألة الخامسة قوله بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ما المراد به نقول هو إشارة إلى لطيفة وهي أنه لو طلب منهم ما سمعوه وقيل لهم فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بما سمع لكان لواحد أن يقول أنا سمعت كذا وكذا فيفتري كذباً فقال لا بل الواجب أن يأتي بدليل يدل عليه
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ
إشارة إلى نفي الشرك وفساد ما يقولون بطريق آخر وهو أن المتصرف إنما يحتاج إلى الشريك لعجزه والله قادر فلا شريك له فإنهم قالوا نحن لا نجعل هذه الأصنام وغيرها شركاء وإنما نعظمها لأنها بنات الله فقال تعالى كيف تجعلون لله البنات وخلق البنات والبنين إنما كان لجواز الفناء على الشخص ولولا التوالد لانقطع النسل وارتفع الأصل من غير أن يقوم مقامه الفصل فقدر الله التوالد ولهذا لا يكون في الجنة ولادة لأن الدار دار البقاء لا موت فيها للآباء حتى تقام العمارة بحدوث الأبناء إذا ثبت هذا فالولد إنما يكون في صورة إمكان فناء الأب ولهذا قال تعالى في أوائل سورة آل عمران الْحَى ُّ الْقَيُّومُ ( آل عمران 2 ) أي حي لا يموت فيحتاج إلى ولد يرثه وهو قيوم لا يتغير ولا يضعف فيفتقر إلى ولد ليقوم مقامه لأنه ورد في نصارى نجران ثم إن الله تعالى بيّن هذا بأبلغ الوجوه وقال إنهم يجعلون له بنات ويجعلون لأنفسهم بنين مع أن جعل البنات لهم أولى وذلك لأن كثير البنات تعين عل كثرة الأولاد لأن الإناث الكثيرة يمكن منهن الولادة بأولاد كثيرة من واحد وأما الذكور الكثيرة لا يمكن منهم إحبال أنثى واحدة بأولاد ألا ترى أن الغنم لا يذبح منها الإناث إلا نادراً وذلك لما ثبت أن إبقاء النوع بالأنثى أنفع نظراً إلى التكثير فقال تعالى أنا القيوم الذي لا فناء لي ولا حاجة لي في بقاء النوع في حدوث الشخص وأنتم معرضون للموت العاجل وبقاء العالم بالإناث أكثر وتتبرءون منهن والله تعالى مستغن عن ذلك وتجعلون له البنات وعلى هذا فما تقدم كان إشارة إلى نفي الشريك نظراً إلى أنه لابتداء لله وهذا إشارة إلى نفي الشريك نظراً إلى أنه لا فناء له فإن قيل كيف وقع لهم نسبة البنات إلى الله تعالى مع أن هذا أمر في غاية القبح لا يخفى على عاقل والقوم كان لهم العقول التي هي مناط التكليف وذلك القدر كاف في العلم بفساد هذا القول نقول ذلك القول دعاهم إليه اتباع العقل وعدم اعتبار النقل ومذهبهم في ذلك مذهب الفلاسفة حيث يقولون يجب اتباع العقل الصريح ويقولون النقل بمعزل لا يتبع إلا إذا وافق العقل وإذا وافق فلا اعتبار للنقل لأن العقل هناك كاف ثم قالوا الوالد يسمى والداً لأنه سبب وجود الولد ولهذا يقال إذا ظهر شيء من شيء هذا تولد من ذلك فيقولون الحمى تتولد من عفونة الخلط فقالوا الله تعالى سبب وجود الملائكة سبباً واجباً لا اختيار له فسموه بالوالد ولم يلتفتوا إلى وجوب تنزيه الله في تسميته بذلك عن التسمية بما يوهم النقص ووجوب الاقتصار في أسمائه على الأسماء الحسنى التي ورد بها الشرع لعدم اعتبارهم النقل فقالوا يجوز إطلاق الأسماء المجازية والحقيقية على الله تعالى وصفاته فسموه عاشقاً ومعشوقاً وسموه أباً ووالداً ولم يسموه ابناً ولا مولوداً باتفاقهم وذلك ضلالة
أَمْ تَسْألُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ
وجه التعلق هو أن المشركين لما اطرحوا الشرع واتبعوا ما ظنوه عقلاً وسموا الموجود بعد العدم مولوداً ومتولداً والموجد والداً لزمهم الكفر بسببه والإشراك فقال لهم ما الذي يحملكم على اطراح الشرع وترك اتباع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) هل ذلك لطلبه منكم شيئاً فما كان يسعهم أن يقولوا نعم فلم يبق لهم إلا أن يقولوا لا فنقول لهم كيف اتبعتم قول الفلسفي الذي يسوغ لكم الزور وما يوجب الاستخفاف بجانب الله تعالى لفظاً إن لم يكن معنى كما تقولون ولا تتبعون الذي يأمركم بالعدل في المعنى والإحسان في اللفظ ويقول لكم اتبعوا المعنى الحق الواضح واستعملوا اللفظ الحسن المؤدب وهذا في غاية الحسن من التفسير ففيه مسائل
المسألة الأولى ما الفائدة في سؤال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال أم تسألهم ولم يقل أم يسألون أجراً كما قال تعالى أَمْ يَقُولُونَ ( يونس 38 ) وقال تعالى أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ( الطور 42 ) إلى غير ذلك نقول فيه فائدتان
إحداهما تسلية قلب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لأنهم لما امتنعوا من الاستماع واستنكفوا من الاتباع صعب على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له ربه أنت أتيت بما عليك فلا يضيق صدرك حيث لم يؤمنوا فأنت غير ملوم وإنما كنت تلام لو كنت طلبت منهم أجراً فهل طلبت ذلك فأثقلهم لا فلا حرج عليك إذاً
ثانيهما أنه لو قال أم يسألون لزم نفي أجر مطلقاً وليس كذلك وذلك لأنهم كانوا يشركون ويطالبون بالأجر من رؤسائهم وأما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له أنت لا تسألهم أجراً فهم لا يتبعونك وغيرك يسألهم وهم يسألون ويتبعون السائلين وهذا غاية الضلال
المسألة الثانية إن قال قائل ألزمت أن تبين أن أم لا تقع إلا متوسطة حقيقة أو تقديراً فكيف ذلك ههنا نقول كأنه تعالى يقول أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجراً وترك الأول لعدم وقوع الإنكار عليه كما قلنا في قوله أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ ( الطور 39 ) إن المقدار هو واحد أم له البنات وترك ذكر الأول لعدم وقوع الإنكار عليه من الله تعالى وكونهم قائلين بأنه لا يريد وجه الله تعالى وإنما يريد الرياسة والأجر في الدنيا
المسألة الثالثة هل في خصوص قوله تعالى أَجْراً فائدة لا توجد في غيره لو قال أم تسألهم شيئاً أو مالاً أو غير ذلك نقول نعم وقد تقدم القول مني أن كل لفظ في القرآن فيه فائدة وإن كنا لا نعلمها والذي يظهر ههنا أن ذلك إشارة إلى أن ما يأتي به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيه مصلحتهم وذلك لأن الأجر لا يطلب إلا عند فعل شيء يفيد المطلوب منه الأجر فقال أنت أتيتهم بما لو طلبت عليه أجراً وعلموا كمال ما في دعوتك من المنفعة لهم وبهم لأتوك بجميع أموالهم ولفدوك بأنفسهم ومع هذا لا تطلب منهم أجراً ولو قال شيئاً أو مالاً لما حصلت هذه الفائدة والله أعلم
المسألة الرابعة هذا يدل على أنه لم يطلب منهم أجراً ما وقوله تعالى قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى
( الشورى 23 ) يدل على أنه طلب أجراً ما فكيف الجمع بينهما نقول لا تفرقة بينهما بل الكل حق وكلاهما ككلام واحد وبيانه هو أن المراد من قوله إِلاَّ الْمَوَدَّة َ فِى الْقُرْبَى هو أني لا أسألكم عليه أجراً يعود إلى الدنيا وإنما أجرى المحبة في الزلفى إلى الله تعالى وأن عباد الله الكاملين أقرب إلى الله تعالى من عباده الناقصين وعباد الله الذين كلمهم الله وكلموه وأرسلهم لتكميل عباده فكملوا أقرب إلى الله من الذين ( لم يكلمهم و ) لم يرسلهم الله ولم يكملوا وعلى هذا فهو في معنى قوله إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ( يونس 72 ) وإليه أنتمي وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة ) وقوله فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ وبين ما ذكرنا أن قوله أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً المراد أجر الدنيا وقوله قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً المراد العموم ثم استثنى ولا حاجة إلى ما قاله الواحدي إن ذلك منقطع معناه لكن المودة في القربى وقد ذكرناه هناك فليطلب منه
المسألة الخامسة قوله تعالى فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ إشارة إلى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) ما طلب منهم شيئاً ولو طالبهم بأجر ما كان لهم أن يتركوا اتباعه بأدنى شيء اللّهم إلا إن أثقلهم التكليف ويأخذ كل ما لهم ويمنعهم التخليف فيثقلهم الدين بعد ما لا يبقى لهم العين
أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ
وهو على الترتيب الذي ذكرناه كأنه تعالى قال لهم بم اطرحتم الشرع ومحاسنه وقلتم ما قلتم بناء على اتباعكم الأوهام الفاسدة التي تسمونها المعقولات والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يطلب منكم أجراً وأنتم لا تعلمون فلا عذر لكم لأن العذر إما في الغرامة وإما في عدم الحاجة إلى ما جاء به ولا غرامة عليكم فيه ولا غنى لكم عنه وفيه مسائل
المسألة الأولى كيف التقدير قلنا لا حاجة إلى التقدير بل هو استفهام متوسط على ما ذكرنا كأنه قال أتهديهم لوجه الله تعالى أم تسألهم أجراً فيمتنعون أم لا حاجة لهم إلى ما تقول لكونهم عندهم الغيب فلا يتبعون
المسألة الثانية الألف واللام في الغيب لتعريف ماذا ألجنس أو لعهد نقول الظاهر أن المراد نوع الغيب كما يقول القائل اشترى اللحم يريد بيان الحقيقة لأكل لحم ولا لحماً معيناً والمراد في قوله تعالى عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة ِ ( الأنعام 73 ) الجنس واستغراقه لكل غيب
المسألة الثالثة على هذا كيف يصح عندهم الغيب وما عند الشخص لا يكون غيباً نقول معناه حضر عندهم ما غاب عن غيرهم وقيل هذا متعلق بقوله نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( الطور 30 ) أي أعندكم الغيب تعلمون أنه يموت قبلكم وهو ضعيف لبعد ذلك ذكر أو لأن قوله تعالى قُلْ تَرَبَّصُواْ متصل به وذلك يمنع اتصال هذا بذلك
المسألة الرابعة ما الفائدة في قوله فَهُمْ يَكْتُبُونَ نقول وضوح الأمر وإشارة إلى أن ما عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من علم الغيب علم بالوحي أموراً وأسراراً وأحكاماً وأخباراً كثيرة كلها هو جازم بها وليس كما يقول
المتفرس الأمر كذا وكذا فإن قيل اكتب به خطك أنه يكون يمتنع ويقول أنا لا أدعي فيه الجزم والقطع ولكن أذكره كذا وكذا على سبيل الظن والاستنباط وإن كان قاطعاً يقول اكتبوا هذا عني وأثبتوا في الدواوين أن في اليوم الفلاني يقع كذا وكذا فقوله أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ يعني هل صاروا في درجة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حتى استغنوا عنه وأعرضوا ونقل عن ابن قتيبة أن المراد من الكتابة الحكم معناه يحكمون وتمسك بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اقض بيننا بكتاب الله ) أي حكم الله وليس المراد ذلك بل هو من باب الإضمار معناه بما في كتاب الله تعالى يقال فلان يقضي بمذهب الشافعي أي بما فيه ويقول الرسول الذي معه كتاب الملك للرعية اعملوا بكتاب الملك
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ
فيه مسائل
المسألة الأولى ما وجه التعلق والمناسبة بين الكلامين قلنا يبين ذلك ببيان المراد من قوله أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فبعض المفسرين قال أم يريدون أن يكيدوك فهم المكيدون أي لا يقدرون على الكيد فإن الله يصونك بعينه وينصرك بصونه وعلى هذا إذا قلنا بقول من يقول أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ ( القلم 47 ) متصل بقوله تعالى نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( الطور 30 ) فيه ترتيب في غاية الحسن وهو أنهم لما قالوا نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قيل لهم أتعلمون الغيب فتعلمون أنه يموت قبلكم أم تريدون كيداً فتقولون نقتله فيموت قبلنا فإن كنتم تدعون الغيب فأنتم كاذبون وإن كنتم تظنون أنكم تقدرون عليه فأنتم غالطون فإن الله يصونه عنكم وينصره عليكم وأما على ما قلنا إن المراد منه أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لا يسألكم على الهداية مالاً وأنتم لا تعلمون ما جاء به لولا هدايته لكونه من الغيوب فنقول فيه وجوه الأول أن المراد من قوله تعالى أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً أي من الشيطان وإزاغته فيحصل مرادهم كأنه تعالى قال أنت لا تسألهم أجراً وهم يعلمون الغيب فهم محتاجون إليك وأعرضوا فقد اختاروا كيد الشيطان ورضوا بإزاغته والإرادة بمعنى الاختيار والمحبة كما قال تعالى مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْخِرَة ِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ ( الشورى 20 ) وكما قال ءالِهَة ً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ( الصافات 86 ) وأظهر من ذلك قوله تعالى إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ ( المائدة 29 ) الوجه الثاني أن يقال إن المراد والله أعلم أم يريدون كيداً لله فهو واصل إليهم وهم عن قريب مكيدون وترتيب الكلام هو أنهم لما لم يبق حجة في الإعراض فهم يريدون نزول العذاب بهم والله أرسل إليهم رسولاً لا يسألهم أجراً ويهديهم إلى ما لا علم لهم ولا كتاب عندهم وهم يعرضون فهم يريدون إذاً أن يهلكهم ويكيدهم لأن الاستدراج كيد والإملاء لازدياد الإثم كذلك لا يقال هو فاسد لأن الكيد والإساءة لا يطلق على فعل الله تعالى إلا بطريق المقابلة وكذلك المكر فلا يقابله أساء الله إلى الكفار ولا اعتدى الله إلا إذا ذكر أولاً فيهم شيء من ذلك ثم قال بعد ذلك بسببه لفظاً في حق الله تعالى كما في قوله تعالى وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) وقال فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ ( البقرة 194 ) وقال وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) وقال يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ( الطارق 15 16 ) لأنا نقول الكيد ما يسوء من نزل به وإن حسن ممن وجد منه ألا ترى أن إبراهيم عليه السلام قال لاكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ ( الأنبياء 57 ) من غير مقابلة
المسألة الثانية ما الفائدة في قوله تعالى فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ وما الفرق بين معنى هذا الكلام ومعنى قول القائل أم يريدون كيداً فهم المكيدون نقول الفائدة كون الكافر مكيداً في مقابلة كفره لا في مقابلة إرادته الكيد ولو قال أم يريدون كيداً فهم المكيدون كان يفهم منه أنهم إن لم يريدوه لا يكونوا مكيدين وهذا يؤيد ما ذكرناه أن المراد من الكيد كيد الشيطان أو كيد الله بمعنى عذابه إياهم لأن قوله فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ عام في كل كافر كاده الشيطان ويكيده الله أي يعذبه وصار المعنى على ما ذكرناه أتهديهم لوجه الله أم تسألهم أجراً فتثقلهم فيمتنعون عن الاتباع أم عندهم الغيب فلا يحتاجون إليك فيعرضون عنك أم ليس شيء من هذين الأمرين الأخيرين فيريدون العذاب والعذاب غير مدفوع عنهم بوجه من الوجوه لكفرهم فالذين كفروا معذبون
المسألة الثالثة ما الفائدة في تنكير الكيد حيث لم يقل أم يريدون كيدك أو الكيد أو غير ذلك ليزول الإبهام نقول فيه فائدة وهي الإشارة إلى وقوع العذاب من حيث لا يشعرون فكأنه قال يأتيهم بغتة ولا يكون لهم به علم أو يكون إيراداً لعظمته كما ذكرنا مراراً
أَمْ لَهُمْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ
أعاد التوحيد وهو يفيد فائدة قوله تعالى أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( الطور 39 ) وفي سُبْحَانَ اللَّهِ بحث شريف وهو أهل اللغة قالوا سبحان اسم علم للتسبيح وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) وأكثرنا من الفوائد فإن قيل يجوز أن نقول سبحان الله اسم مصدر ونقول سبحان على وزن فعلان فنذكر سبحان من غير مواضع الإيقاع لله كما يقال في التسبيح نقول ذلك مثل قول القائل من حرف جار وفي كلمة ظرف حيث يخبر عنه مع أن الحرف لا يخبر عنه فيجاب بأن من وفى حينئذ جعلا كالاسم ولم يتركا على أصلهما المستعمل في مثل قولك أخذت من زيد والدرهم في الكيس فكذلك سبحان فيما ذكر من المواضع لم يترك على مواضع استعماله فإنه حينئذ لم يترك علماً كما يقال زيد على وزن فعل بخلاف التسبيح فيما ذكرنا
المسألة الرابعة ما في قوله تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يحتمل وجهين أحدهما أن تكون مصدرية معناه سبحانه عن إشراكهم ثانيهما خبرية معناه عن الذين يشركون وعلى هذا فيحتمل أن يكون عن الولد لأنهم كانوا يقولون البنات لله فقال سبحان الله على البنات والبنين ويحتمل أن يكون عن مثل الآلهة لأنهم كانوا يقولون هو مثل ما يعبدونه فقال سبحان الله عن مثل ما يعبدونه
وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ
وجه الترتيب فيه هو أنه تعالى لما بيّن فساد أقوالهم وسقوطها عن درجة الاعتبار أشار إلى أنه لم يبق لهم شيء من وجه الاعتذار فإن الآيات ظهرت والحجج تميزت ولم يؤمنوا وبعد ذلك يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ أي ينكرون الآية لكن الآية إذا أظهرت في أظهر الأشياء كانت أظهر وبيانه هو أن من يأتي بجسم من الأجسام من بيته وادعى فيه أنه فعل به كذا فربما يخطر ببال السامع أنه في بيته ولما
يبدعه فإذا قال للناس هاتوا جسماً تريدون حتى أجعل لكم منه كذا يزول ذلك الوهم لكن أظهر الأشياء عند الإنسان الأرض التي هي مهده وفرشه والسماء التي هي سقفه وعرشه وكانت العرب على مذهب الفلاسفة في أصل المذهب ولا يلتفت إلى قول الفلسفي نحن ننزه غاية التنزيه حتى لا نجوز رؤيته واتصافه بوصف زائد على ذاته ليكون واحداً في الحقيقة فكيف يكون مذهبنا مذهب من يشرك بالله صنماً منحوتاً نقول أنتم لما نسبتم الحوادث إلى الكواكب وشرعتم في دعوة الكواكب أخذ الجهال عنكم ذلك واتخذوه مذهباً وإذا ثبت أن العرب في الجاهلية كانت في الأصل على مذهب الفلاسفة وهم يقولون بالطبائع فيقولون الأرض طبعها التكوين والسماء طبعها يمنع الانفصل والانفكاك فقال الله تعالى رداً عليهم في مواضع إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السَّمَاء ( سبأ 9 ) إبطالاً للطبائع وإيثاراً للاختيار في الوقائع فقال ههنا إن أتينا بشيء غريب في غاية الغرابة في أظهر الأشياء وهو السماء التي يرونها أبداً ويعلمون أن أحداً لا يصل إليها ليعدد بالأدوية وغيرها ما يجب سقوطها لأنكروا ذلك فكيف فيما دون ذلك من الأمور والذي يؤيد ما ذكرناه وأنهم كانوا على مذهب الفلاسفة في أمر السماء أنهم قالوا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ( الإسراء 92 ) أي ذلك في زعمك ممكن فأما عندنا فلا والكسفة القطعة يقال كسفة من ثوب أي قطعة وفيه مباحث
البحث الأول استعمل في السماء لفظة الكسف واللغويون ذكروا استعمالها في الثوب لأن الله تعالى شبه السماء بالثوب المنشور ولهذا ذكره فيما مضى فقال وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ ( الزمر 67 ) وقال تعالى يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاء ( الأنبياء 104 )
البحث الثاني استعمل الكسف في السماء والخسف في الأرض فقال تعالى نَخْسِفْ بِهِمُ الاْرْضَ ( سبأ 9 ) وهو يدل على قول من قال يقال في القمر خسوف وفي الشمس كسوف ووجهه أن مخرج الخاء دون مخرج الكاف ومخرج الكاف فوقه متصل به فاستعمل وصف الأسفل للأسفل والأعلى للأعلى فقالوا في الشمس والسماء الكسوف والكسف وفي القمر والأرض الخسوف والخسف وهذا من قبيل قولهم في الماتح والمايح إن ما نقطه فوق لمن فوق البئر وما نقطه من أسفل عند من يجوز نقطه من أسفل لمن تحت في أسفل البئر
البحث الثالث قال في السحاب ونجعله كسفاً مع أنه تحت القمر وقال في القمر وَانشَقَّ الْقَمَرُ ( القيامة 8 ) وذلك لأن القمر عند الخسوف له نظير فوقه وهو الشمس عند الكسوف والسحاب اعتبر فيه نسبته إلى أهل الأرض حيث ينظرون إليه فلم يقل في القمر خسف بالنسبة إلى السحاب وإنما قيل ذلك بالنسبة إلى الشمس وفي السحاب قيل بالنسبة إلى الأرض
المسألة الثانية ساقطاً يحتمل وجهين أحدهما أن يكون مفعولاً ثانياً يقال رأيت زيداً عالماً وثانيهما أن يكون حالاً كما يقال ضربته قائماً والثاني أولاً لأن الرؤية عند التعدي إلى مفعولين في أكثر الأمر تكون بمعنى العلم تقول أرى هذا المذهب صحيحاً وهذا الوجه ظاهراً وعند التعدي إلى واحد تكون بمعنى رأي العين في الأكثر تقول رأيت زيداً وقال تعالى لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 84 ) وقال فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً ( مريم 26 ) والمراد في الآية رؤية العين
المسألة الثالثة في قوله سَاقِطاً فائدة لا تحصل في غير السقوط وذلك لأن عندهم لا يجوز الانفصال على السماوات ولا يمكن نزولها وهبوطها فقال ساقطاً ليكون مخالفاً لما يعتقدونه من وجهين أحدهما الانفصال والآخر السقوط ولو قال وإن يروا كسفاً منفصلاً أو معلقاً لما حصلت هذه الفائدة
المسألة الرابعة في قوله يَقُولُواْ فائدة أخرى وذلك لأنه يفيد بيان العناد الذي هو مقصود سرد الآية وذلك لأنهم في ذلك الوقت يستخرجون وجوهاً حتى لا يلزمهم التسليم فيقولون سحاب قولاً من غير عقيدة وعلى هذا يحتمل أن يقال وَإِن يَرَوْاْ المراد العلم ليكون أدخل في العناد أي إذا علموا وتيقنوا أن السماء ساقطة غيروا وعاندوا وقالوا هذا سحاب مركوم
المسألة الخامسة قوله تعالى يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ إشارة إلى أنهم حين يعجزون عن التكذيب ولا يمكنهم أن يقولوا لم يقع شيء على الأرض يرجعون إلى التأويل والتخييل وقوله مَّرْكُومٌ أي مركب بعضه على بعض كأنهم يدفعون عن أنفسهم ما يورد عليهم بأن السحاب كالهواء لا يمنع نفوذ الجسم فيه وهذا أقوى مانع فيقولون إنه ركام فصار صلباً قوياً
المسألة السادسة في إسقاط كلمة الإشارة حيث لم يقل يقولوا هذا إشارة إلى وضوح الأمر وظهور العناد فلا يستحسنون أن يأتوا بما لا يبقى معه مراء فيقولون سَحَابٌ مَّرْكُومٌ مع حذف المبتدأ ليبقى للقائل فيه مجال فيقول عند تكذيب الخلق إياهم قلنا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ شبهه ومثله وأن يتمشى الأمر مع عوامهم استمروا وهذا مجال من يخاف من كلام ولا يعلم أنه يقبل منه أو لا يقبل فيجعله ذا وجهين فإن رأى النكر على أحدهما فسّره بالآخرون وإن رأى القبول خرج بمراده
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى فِيهِ يُصْعَقُونَ
أي إذا تبين أنهم لا يرجعون فدعهم حتى يلاقوا وفيه مسائل
المسألة الأولى فَذَرْهُمْ أمر وكان يجب أن يقال لم يبق للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) جواز دعائهم إلى الإسلام وليس كذلك والجواب عنه من وجوه أحدها أن هذه الآيات مثل قوله تعالى فَأَعْرَضَ ( النساء 63 ) تَوَلَّ عَنْهُمْ ( الصافات 78 ) إلى غير ذلك كلها منسوخة بآية القتال وهو ضعيف ثانيها ليس المراد الأمر وإنما المراد التهديد كما يقول سيد العبد الجاني لمن ينصحه دعه فإنه سينال وبال جنايته ثالثها أن المراد من يعاند وهو غير معين والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعو الخلق على سبيل العموم ويجوز أن يكون المراد بالخطاب من لم يظهر عناده لا من ظهر عناده فلم يقل الله في حقه فَذَرْهُمْ ويدل على هذا أنه تعالى قال من قبل فَذَكّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ ( الطور 29 ) وقال ههنا فَذَرْهُمْ فمن يذكرهم هم المشفقون الذين قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ( الطور 26 ) ومن يذرهم الذين قالوا شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ( الطور 30 ) إلى غير ذلك
المسألة الثانية حَتَّى للغاية فيكون كأنه تعالى قال ذرهم إلى ذلك اليوم ولا تكلمهم ثم ذلك اليوم
تجدد الكلام وتقول ألم أقل لكم إن الساعة آتية وإن الحساب يقوم والعذاب يدوم فلا تكلمهم إلى ذلك اليوم ثم كلمهم لتعلمهم ثانيها أن المراد من حتى الغاية التي يستعمل فيها اللام كما يقول القائل لا تطعمه حتى يموت أي ليموت لأن اللام التي للغرض عندها ينتهي الفعل الذي للغرض فيوجد فيها معنى الغاية ومعنى التعليل ويجوز استعمال الكلمتين فيها ولعلّ المراد من قوله تعالى وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( الحجر 99 ) هذا أي إلى أن يأتيك اليقين فإن قيل فمن لا يذره أيضاً يلاقي ذلك اليوم نقول المراد من قوله يُصْعَقُونَ يهلكون فالمذكر المشفق لا يهلك ويكون مستثنى منهم كما قال تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمِنَ الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) وقذ ذكرنا هناك أن من اعترف بالحق وعلم أن يوم الحساب كائن فإذا وقعت الصيحة يكون كمن يعلم أن الرعد يرعد ويستعد لسماعه ومن لا يعلم يكون كالغافل فإذا وقعت الصيحة ارتجف الغافل ولم يرتجف العالم وحينئذ يكون التوعد بملاقاة يومهم لأن كل أحد يلاقي يومه وإنما يكون بملاقاة يومهم الذي فيه يصعقون أي اليوم الموصوف بهذه الصفة وهذا كما قال تعالى لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَة ٌ مّن رَّبّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاء وَهُوَ مَذْمُومٌ ( القلم 49 ) فإن المنفي ليس النبذ بالعراء لأنه تحقق بدليل قوله تعالى فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ ( الصافات 145 ) وإنما المنفي النبذ الذي يكون معه مذموماً وهذا لم يوجد
المسألة الثالثة حَتَّى ينصب ما بعدها من الفعل المستقبل تارة ويرفع أخرى والفاصل بينهما أن الفعل إذا كان مستقبلاً منتظراً لا يقع في الحال ينصب تقول تعلمت الفقه حتى ترتفع درجتي فإنك تنتظره وإن كان حالاً يرفع تقول أكرر حتى تسقط قوتي ثم أنام والسبب فيه هو أن حتى المستقبل للغاية ولام التعليل للغرض والغرض غاية الفعل تقول لم تبنى الدار يقول للسكنى أنصار قوله حتى ترفع كقوله لأرفع وفيهما إضمار أن فإن قيل ما قلت شيئاً وما ذكرت السبب في النصب عند إرادة الاستقبال والرفع عند إرادة الحال نقول الفعل المستقبل إذا كان منتظراً وكان تصب العين ومنصوباً لدى الذهن يرقبه يفعل بلفظه ما كان في معناه ولهذا قالوا في الإضافة أن المضاف لما جر أمراً إلى أمر في المعنى جزء في اللفظ والذي يؤيد ما ذكرنا أن الفعل إنما ينصب بأن ولن وكي وإذن وخلوص الفعل للاستقبال في هذه المواضع لازم والحرف الذي يجعل الفعل للحال يمنع النصب حيث لا يجوز أن تقول إن فلاناً ليضرب فإن قيل السين وسوف مع أنهما يخلصان الفعل للاستقبال لا ينصبان ويمنعان النصب بالناصب كما في قوله تعالى عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى ( المزمل 20 ) نقول سوف والسين ليسا بمعنى غير اختصاص الفعل بالاستقبال وأن ولن بمعنى لا يصح إلا في الاستقبال فلم يثبت بالسين إلا الاستقبال ولم يثبت به معنى في الاستقبال والمنتظر هو ما في الاستقبال لا نفس الاستقبال مثاله إذا قلت أعبد الله كي يغفر لي أو ليغفر لي أثبتت كي غرضاً وهو المغفرة وهي في المستقبل من الزمان وإذا قلت أستغفرك ربي أثبتت السين استقبال المغفرة وفرق بين ما يكون المقصود من الكلام بيان الاستقبال لكن الاستقبال لا يوجد إلا في معنى فأتى بالمعنى ليبين به الاستقبال وبين ما يكون المقصود منه معنى في المستقبل فتذكر الاستقبال لتبين محل مقصودك
يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
لما قال يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ ( الطور 45 ) وكل بر وفاجر يلاقي يومه أعاد صفة يومهم وذكر ما يتميز به يومهم عن يوم المؤمنين فقال يَوْمَ لاَ يُغْنِى وهو يخالف يوم المؤمنين فإنه تعالى قال فيه يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ ( المائدة 119 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى في يَوْمَ لاَ يُغْنِى وجهان الأول بدل عن قوله يَوْمَهُمُ ( الطور 45 ) ثانيهما ظرف يُلَاقُواْ أي يلاقو يومهم يوم فإن قيل هذا يلزم منه أن يكون اليوم في يوم فيكون اليوم ظرف اليوم نقول هو على حد قول من يقول يأتي يوم قتل فلان يوم تبين جرائمه ولا مانع منه وقد ذكرنا بحث الزمان وجواز كونه ظرفاً في قوله تعالى يَوْمَئِذٍ وجواز إضافة اليوم إلى الزمان مع أنه زمان
المسألة الثانية قال تعالى يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ ولم يقل يوم لا يغنيهم كيدهم مع أن الإغناء يتعدى بنفسه لفائدة جليلة وهي أن قول القائل أغناني كذا يفهم منه أنه نفعني وقوله أغنى عني يفهم منه أنه دفع عني الضرر وذلك لأن قوله أغناني معناه في الحقيقة أفادني غير مستفيد وقوله أغنى عني أي لم يحوجني إلى الحضور فأغنى غيري عن حضوري يقول من يطلب لأمر خذوا عني ولدي فإنه يغني عني أي يغنيكم عني فيدفع عني أيضاً مشقة الحضور فقوله لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ أي لا يدفع عنهم الضرر ولا شك أن قوله لا يدفع عنهم ضرراً أبلغ من قوله لا ينفعهم نفعاً وإنما في المؤمن لو قال يوم يغني عنهم صدقهم لما فهم منه نفعهم فقال يَوْمُ يَنفَعُ ( المائدة 119 ) كأنه قال يوم يغنيهم صدقهم فكأنه استعمل في المؤمن يغنيهم وفي الكافر لا يغني عنهم وهو مما لا يطلع عليه إلا من يكون عنده من علم البيان طرف ويتفكر بقريحة وقادة آيات الله ووفقه الله
المسألة الثالثة الأصل تقديم الفاعل على المفعول والأصل تقديم المضمر على المظهر أما في الأول فلأن الفاعل متصل بالفعل ولهذا قالوا فعلت فأسكنوا اللام لئلا يلزم أربع متحركات في كلمة واحدة وقالوا ضربك ولم يسكنوا لأن الكاف ضمير المفعول وهو منفصل وأما تقديم المضمر فلأنه يكون أشد اختصاراً فإنك إذا قلت ضربني زيد يكون أقرب إلى الاختصار من قولك ضرب زيد إياي فإن لم يكن هناك اختصار كقولك مربي زيد ومربي فالأولى تقديم الفاعل وههنا لو قال يوم لا يغنيهم كيدهم كان الأحسن تقديم المفعول فإذا قال يوم لا يغني عنهم صار كما قلنا في مر زيد بي فلم لم يقدم الفاعل نقول فيه فائدة مستفادة من علم البيان وهو أن تقديم الأهم أولى فلو قال يوم لا يغني كيدهم كان السامع لهذا الكلام ربما يقول لا يغني كيدهم غيرهم فيرجو الخير في حقهم وإذا سمع لا يغني عنهم انقطع رجاؤه وانتظر الأمر الذي ليس بمغن
المسألة الرابعة قد ذكرنا أن معنى الكيد هو فعل يسوء من نزل به وإن حسن ممن صدر منه فما الفائدة في تخصيص العمل الذي يسوء بالذكر ولم يقل يوم لا يغني عنهم أفعالهم على الإطلاق نقول هو قياس بالطريق الأولى لأنهم كانوا يأتون بفعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين وكانوا يعتقدون أنه أحسن أعمالهم فقال ما أغنى أحسن أعمالهم الذي كانوا يعتقدون فيه ليقطع رجاءهم عما دونه وفيه وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال من قبل أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً ( الطور 42 ) وقد قلنا إن أكثر المفسرين على أن المراد به تدبيرهم في قتل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال هُمُ الْمَكِيدُونَ أي لا ينفعهم كيدهم في الدنيا فماذا يفعلون يوم لا ينفعهم ذلك الكيد بل يضرهم وقوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
فيه وجوه أحدها أنه متمم بيان وجهه هو أن الداعي أولاً يرتب أموراً لدفع المكروه بحيث لا يحتاج إلى الانتصار بالغير والمنة ثم إذا لم ينفعه ذلك ينتصر بالأغيار فقال لا ينفعهم أفعال أنفسهم ولا ينصرهم عند اليأس وحصول اليأس عن إقبالهم ثانيها أن المراد منه ما هو المراد من قوله تعالى لاَّ تُغْنِ عَنّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ ( ي س 23 ) فقوله يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي عبادتهم الأصنام وقولهم هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا ( يونس 18 ) وقولهم مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا ( الزمر 3 ) وقوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ أي لا نصير لهم كما لا شفيع ودفع العذاب إما بشفاعة شفيع أو بنصر ناصر ثالثها أن نقول الإضافة في كيدهم إضافة المصدر إلى المفعول لا إضافته إلى الفاعل فكأنه قال لا يغني عنهم كيد الشيطان إياهم وبيانه هو أنك تقول أعجبني ضرب زيداً عمراً وأعجبني ضرب عمرو فإذا اقتصرت على المصدر والمضاف إليه لا يعلم إلا بالقرينة والنية فإذا سمعت قول القائل أعجبني ضرب زيد يحتمل أن يكون زيد ضارباً ويحتمل أن يكون مضروباً فإذا سمعت قول القائل أعجبني قطع اللص على سرقته دلّت القرينة على أنه مضاف إلى المفعول فإن قيل هذا فاسد من حيث إنه إيضاح واضح لأن كيد المكيد لا ينفع قطعاً ولا يخفى على أحد فلا يحتاج إلى بيان لكن كيد الكائد يظن أنه ينفع فقال تعالى ذلك لا ينفع نقول كيد الشيطان إياهم على عبادة الأصنام وهم كانوا يظنون أنها تنفع وأما كيدهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا يعلمون أنه لا ينفع في الآخرة وإنما طلبوا أن ينفعهم في الدنيا لا في الآخرة فالإشكال ينقلب على صاحب الوجه الأول ولا إشكال على الوجهين جميعاً إذا تفكرت فيما قلناه
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
في اتصال الكلام وجهان أحدهما متصل بقوله تعالى فَذَرْهُمْ ( الطور 5 ) وذلك لأنه يدل على عدم جواز القتال وقد قيل إنه نازل قبل شرع القتال وحينئذ كأنه قال فذرهم ولا تذرهم مطلقاً من غير قتال بل لهم قبل يوم القيامة عذاب يوم بدر حيث تؤمر بقتالهم فيكون بياناً وعداً ينسخ فذرهم بالعذاب يوم بدر ثانيهما هو متصل بقوله تعالى لاَ يُغْنِى ( الطور 46 ) وذلك لأنه لما بين أن كيدهم لا يغني عنهم قال ولا يقتصر على عدم الإغناء بل لهم مع أن كيدهم لا يغني ويل آخر وهو العذاب المعد لهم ولو قال لا يغني عنهم كيدهم كان يوهم أنه لا ينفع ولكن لا يضر ولما قال مع ذلك وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً زال ذلك وفيه مسائل
المسألة الأولى الذين ظلموا هم أهل مكة إن قلنا العذاب هو عذاب يوم بدر وإن قلنا العذاب هو عذاب القبر فالذين ظلموا عام في كل ظالم
المسألة الثانية ما المراد من الظلم ههنا نقول فيه وجوه الأول هو كيدهم نبينهم والثاني عبادتهم الأوثان والثالث كفرهم وهذا مناسب للوجه الثاني
المسألة الثالثة دون ذلك على قول أكثر المفسرين معناه قبل ويؤيده قوله تعالى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الاْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاْكْبَرِ ( السجدة 21 ) ويحتمل وجهين آخرين أحدهما دون ذلك أي أقل من ذلك في الدوام والشدة يقال الضرب دون القتل في الإيلام ولا شك أن عذاب الدنيا دون عذاب الآخرة
على هذا المعنى وعلى هذا ففيه فائدة التنبيه على عذاب الآخرة العظيم وذلك لأنه إذا قال عذاباً دون ذلك أي قتلاً وعذاباً في القبر فيتفكر المتفكر ويقول ما يكون القتل دونه لا يكون إلا عظيماً فإن قيل فهذا المعنى لا يمكن أن يقال في قوله تعالى وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ الْعَذَابِ الاْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاْكْبَرِ قلنا نسلم ذلك ولكن لا مانع من أن يكون المراد ههنا هذا الثاني على طريقة قول القائل تحت لجاجك مفاسد ودون غرضك متاعب وبيانه هو أنهم لما عبدوا غير الله ظلموا أنفسهم حيث وضعوها في غير موضعها الذي خلقت له فقيل لهم إن لكم دون ذلك الظلم عذاباً
المسألة الرابعة ذالِكَ إشارة إلى ماذا نقول الظاهر أنه إشارة إلى اليوم وفيه وجهان آخران أحدهما في قوله يُصْعَقُونَ ( الطور 45 ) وقوله يُغْنِى عَنْهُمْ ( الطور 46 ) إشارة إلى عذاب واقع فقوله ذلك إشارة إليه ويمكن أن يقال قد تقدم قوله إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ ( الطور 7 ) وقوله دُونِ ذَلِكَ أي دون ذلك العذاب ثانيهما دُونِ ذَلِكَ أي كيدهم فذلك إشارة إلى الكيد وقد بينا وجهه في المثال الذي مثلنا وهو قول القائل تحت لجاجك حرمانك والله أعلم
المسألة الخامسة وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ذكرنا فيه وجوهاً أحدها أنه جرى على عادة العرب حيث تعبر عن الكل بالأكثر كما قال تعالى أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ( سبأ 41 ) ثم إن الله تعالى تكلم على تلك العادة ليعلم أن الله استحسنها من المتكلم حيث يكون ذلك بعيداً عن الخلف ثانيها منهم من آمن فلم يكن ممن لا يعلم ثالثها هم في أكثر الأحوال لم يعلموا وفي بعض الأحوال علموا وأقله أنهم علموا حال الكشف وإن لم ينفعهم
المسألة السادسة مفعول لاَّ يَعْلَمُونَ جاز أن يكون هو ما تقدم من الأمر وهو أن لهم عذاباً دون ذلك وجاز أن لا يكون له مفعول أصلا فيكون المراد أكثرهم غافلون جاهلون
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ
وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ( طه 130 ) ونشير إلى بعضه ههنا فإن طول العهد ينسي فنقول لما قال تعالى فَذَرْهُمْ ( الطور 45 ) كان فيه الإشارة إلى أنه لم يبق في نصحهم نفع ولا سيما وقد تقدم قوله تعالى وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السَّمَاء ( الطور 44 ) وكان ذلك مما يحمل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الدعاء كما قال نوح عليه السلام رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ( نوح 26 ) وكما دعا يونس عليه السلام فقال تعالى وَاصْبِرْ وبدل اللعن بالتسبيح وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بدل قولك اللّهم أهلكهم ألا ترى إلى قوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ( القلم 48 ) وقوله تعالى فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا فيه وجوه الأول أنه تعالى لما بيّن أنهم يكيدونه كان ذلك مما يقتضي في العرف المبادرة إلى إهلاكهم لئلا يتم كيدهم فقال اصبر ولا تخف فإنك محفوظ بأعيننا ثانيها أنه تعالى قال فاصبر ولا تدع عليهم فإنك بمرأى منا نراك وهذه الحالة تقتضي أن تكون على أفضل ما يكون من الأحوال لكن كونك مسبحاً لنا أفضل من كونك داعياً على عباد خلقناهم فاختر الأفضل فإنك بمرأى منا ثالثها أن من يشكو حاله عند
غيره يكون فيه إنباء عن عدم علم المشكو إليه بحال الشاكي فقال تعالى اصبر ولا تشك حالك فإنك بأعيننا نراك فلا فائدة في شكواك وفيه مسائل مختصة بهذا الموضع لا توجد في قوله فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( طه 130 )
المسألة الأولى اللام في قوله وَاصْبِرْ لِحُكْمِ تحتمل وجوهاً الأول هي بمعنى إلى أي اصبر إلى أن يحكم الله الثاني الصبر فيه معنى الثبات فكأنه يقول فاثبت لحكم ربك يقال ثبت فلان لحمل قرنه الثالث هي اللام التي تستعمل بمعنى السبب يقال لم خرجت فيقال لحكم فلان علي بالخروج فقال وَاصْبِرْ واجعل سبب الصبر امتثال الأمر حيث قال واصبر لهذا الحكم عليك لا لشيء آخر
المسألة الثانية قال ههنا بِأَعْيُنِنَا وقال في مواضع أخر وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى ( طه 39 ) نقول لما وحد الضمير هناك وهو ياء المتكلم وحده وحد العين ولما ذكر ههنا ضمير الجمع في قوله بِأَعْيُنِنَا وهو النون جمع العين وقال بِأَعْيُنِنَا هذا من حيث اللفظ وأما من حيث المعنى فلأن الحفظ ههنا أتم لأن الصبر مطية الرحمة بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث اجتمع له الناس وجمعوا له مكايد وتشاوروا في أمره وكذلك أمره بالفلك وأمره بالاتخاذ عند عدم الماء وحفظه من الغرق مع كون كل البقاع مغمورة تحت الماء تحتاج إلى حفظ عظيم في نظر الخلق فقال بِأَعْيُنِنَا
المسألة الثالثة ما وجه تعلق الباء ههنا قلنا قد ظهر من جميع الوجوه أما إن قلنا بأنه للحفظ فتقديره محفوظ بأعيننا وإن قلنا للعلم فمعناه بمرأى منا أي بمكان نراك وتقديره فإنك بأعيننا مرئي وحينئذ هو كقول القائل رأيته بعيني كما يقال كتب بالقلم الآلة وإن كان رؤية الله ليست بآلة فإن قيل فما الفرق في الموضعين حيث قال في طه عَلَى عَيْنِى ( طه 39 ) وقال ههنا بِأَعْيُنِنَا وما الفرق بين على وبين الباء نقول معنى على هناك هو أنه يرى على ما يرضاه الله تعالى كما يقول أفعله على عيني أي على رضاي تقديره على وجه يدخل في عيني وألتفت إليه فإن من يفعل شيئاً لغيره ولا يرتضيه لا ينظر فيه ولا يقلب عينه إليه والباء في قوله وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قد ذكرناها وقوله حِينَ تَقُومُ فيه وجوه الأول تقوم من موضعك والمراد قبل القيام حين ما تعزم على القيام وحين مجيء القيام وقد ورد في الخبر أن من قال ( سبحان الله ) من قبل أن يقوم من مجلسه يكتب ذلك كفارة لما يكون قد صدر منه من اللفظ واللغو في ذلك المجلس الثاني حين تقوم من النوم وقد ورد أيضاً فيه خبر يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان ( يسبح بعد الانتباه ) الثالث حين تقوم إلى الصلاة وقد ورد في الخبر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول في افتتاح الصلاة ( سبحانك اللّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إلاه غيرك ) الرابع حين تقوم لأمر ما ولا سيما إذا قمت منتصباً لمجاهدة قومك ومعاداتهم والدعاء عليهم فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وبدل قيامك للمعاداة وانتصابك للانتقام بقيامك لذكر الله وتسبيحه الخامس حِينَ تَقُومُ أي بالنهار فإن الليل محل السكون والنهار محل الإبتغاء وهو بالقيام أولى ويكون كقوله وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ إشارة إلى ما بقي من الزمان وكذلك وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ( الطور 49 ) وهو أول الصبح
وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ
وقوله تعالى وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ
وقد تقدم تفسيره وهو كقوله تعالى فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) وقد ذكرنا فائدة الاختصاص بهذه الأوقات ومعناه ونختم هذه السورة بفائدة وهي أنه تعالى قال ههنا وَإِدْبَارَ النُّجُومِ وقال في وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ( ق 40 ) ويحتمل أن يقال المعنى واحد والمراد من السجود جمع ساجد وللنجوم سجود قال تعالى وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ( الرحمن 6 ) وقيل المراد من النجم نجوم السماء وقيل النجم ما لا ساق له من النبات قال الله تعالى وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( النحل 49 ) أو المراد من النجوم الوظائف وكل وظيفة نجم في اللغة أي إذا فرغت من وظائف الصلاة فقل سبحان الله وقد ورد في الحديث ( من قال عقيب الصلاة سبحان الله عشر مرات والحمد لله عشر مرات والله أكبر عشر مرات كتب له ألف حسنة ) فيكون المعنى في الموضعين واحد لأن السجود من الوظائف والمشهور والظاهر أن المراد من إدبار النجوم وقت الصبح حيث يدبر النجم ويخفى ويذهب ضياؤه بضوء الشمس وحينئذ تبين ما ذكرنا من الوجه الخامس في قوله حِينَ تَقُومُ ( الطور 48 ) أن المراد منه النهار لأنه محل القيام وَمِنَ الَّيْلِ القدر الذي يكون الإنسان في يقظان فيه وَإِدْبَارَ النُّجُومِ وقت الصبح فلا يخرج عن التسبيح إلا وقت النوم وهذا آخر تفسير هذه السورة والله أعلم والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم
سورة النجم
ستون وآيتان مكيةوَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى
وقبل الشروع في التفسير نقدم مسائل ثم نتفرغ للتفسير وإن لم تكن منه
الأولى أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لفظاً ومعنى أما اللفظ فلأن ختم الطور بالنجم وافتتاح هذه بالنجم مع واو القسم وأما المعنى فنقول الله تعالى لما قال لنبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم ( الطور 49 ) بيّن له أنه جزأه في أجزاء مكايدة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالنجم وبعده فقال مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ( النجم 2 )
المسألة الثانية السورة التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأسماء دون الحروف وهي الصافات والذاريات والطور وهذه السورة بعدها بالأولى فيها القسم لإثبات الوحدانية كما قال تعالى إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ( الصافات 4 ) وفي الثانية لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ ( الذاريات 5 6 ) وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ( الطور 7 8 )
وفي هذه السورة لنبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لتكمل الأصول الثلاثة الوحدانية والحشر والنبوة
المسألة الثالثة لم يقسم الله على الوحدانية ولا على النبوة كثيراً أما على الوحدانية فلأنه أقسم بأمر واحد في سورة الصافات وأما على النبوة فلأنه أقسم بأمر واحد في هذه السورة وبأمرين في سورة الضحى وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به فإن قوله تعالى وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ( الليل 1 ) وقوله تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( الشمس 1 ) وقوله تعالى وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ( البروج 1 ) إلى غير ذلك كلها فيها الحشر أو ما يتعلق به وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة كلها عقلية كما قيل وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد
ودلائل النبوة أيضاً كثيرة وهي المعجزات المشهورة والمتواترة وأما الحشر فإمكانه يثبت بالعقل وأما وقوعه فلا يمكن إثباته إلا بالسمع فأكثر القسم ليقطع به المكلف ويعتقده اعتقاداً جازماً وأما التفسير ففيه مسائل
الأولى الواو للقسم بالنجم أو برب النجم ففيه خلاف قدمناه والأظهر أنه قسم بالنجم يقال ليس للقسم في الأصل حرف أصلاً لكن الباء والواو استعملنا فيه لمعنى عارض وذلك لأن الباء في أصل القسم هي الباء التي للإلصاق والاستعانة فكما يقول القائل استعنت بالله يقول أقسمت بالله وكما يقول أقوم بعون الله على العدو يقول أقسم بحق الله فالباء فيهما بمعنى كما تقول كتب بالقلم فالباء في الحقيقة ليست للقسم غير أن القسم كثر في الكلام فاستغنى عن ذكره وغيره لم يكثر فلم يستغن عنه فإذا قال القائل بحق زيد فهم منه القسم لأن المراد لو كان هو مثل قوله ادخل زيد أو اذهب بحق زيد أو لم يقسم بحق زيد لذكر كما ذكر في هذه الأشياء لعدم الاستغناء فلما لم يذكر شيء علم أن الحذف للشهرة والاستغناء وذلك ليس في غير القسم فعلم أن المحذوف فعل القسم فكأنه قال أقسم بحق زيد فالباء في الأصل ليس للقسم لكن لما عرض ما ذكرنا من الكثرة والاشتهار قيل الباء للقسم ثم إن المتكلم نظر فيه فقال هذا لا يخلو عن التباس فإني إذا قلت بالله توقف السامع فإن سمع بعده فعلاً غير القسم كقوله بالله استعنت وبالله قدرت وبالله مشيت وأخذت لا يحمله على القسم وإن لم يسمع حمله على القسم إن لم يتوهم وجود فعل ما ذكرته ولم يسمعه أما إن توهم أني ذكرت مع قولي بالله شيئاً آخر وما سمعه هو أيضاً يتوقف فيه ففي الفهم توقف فإذا أراد المتكلم الحكيم إذهاب ذلك مع الاختصار وترك ما استغنى عنه وهو فعل القسم أبدل الباء بالتاء وقال تالله فتكلم بها في كلمة الله لاشتهار كلمة الله والأمن من الإلتباس فإن التاء في أوائل الكلمات قد تكون أصلية وقد تكون للخطاب والتأنيث فلو أقسم بحرف التاء بمن اسمه داعي أو راعي أو هادي أو عادي يقول تداعى أو تراعى أو تهادى أو تعادى فيلتبس وكذلك فيمن اسمه رومان أو توران إذا قلت ترومان أو تتوران على أنك تقسم بالتاء تلتبس بتاء الخطاب والتأنيث في الاستقبال فأبدلوها واواً لا يقال عليه إشكالان الأول مع الواو لم يؤمن الالتباس نقول ولى فتلتبس الواو الأصلية بالتي للقسم لأنا نقول ذلك لم يلزم فيما ذهبنا إليه وإنما كان ذلك في الواو حيث يدل وينبىء عن العطف وإن لم يستعمل الواو للقسم كيف وذلك في الباء التي هي كالأصل متحقق تقول برام في جمع برمة وبهام في جمع بهمة وبغال للبسية الباء الأصلية التي في البغال والبرام بالباء التي تلصقها بقولك مال ورأى فتقول بمال وأما التاء لما استعملت للقسم لزم من ذلك الاستعمال الالتباس حيث لم يكن من قبل حرفاً من الأدوات كالباء والواو الإشكال الثاني لم تركت مما لا التباس فيه كقولك تالرحيم وتالعظيم نقول لما كانت كلمة الله تعالى في غاية الشهرة والظهور استعملت التاء فيها على خلاف الأصل بمعنى لم يجز أن يقال عليها إلا ما يكون في شهرتها وأما غيرها فربما يخفى عند البعض فإن من يسمع الرحيم وسمع في الندرة تر بمعنى قطع ربما يقول ترحيم فعل وفاعل أو فعل ومفعول وإن كان ذلك في غاية البعد لكن الاستواء في الشهرة في المنقول منه والمنقول إليه لازم ولا مشهور مثل كلمة الله على أنا نقول لم قلت إن عند الأمن لا تستعمل ألا ترى أنه نقل عن العرب برب الكعبة والذي يؤيد ما ذكرنا أنت تقول أقسم بالله ولا تقول أقسم تالله لأن التاء فيه مخافة
الالتباس عند حذف الفعل من القسم وعند الإتيان به لم يخف ذلك فلم يجز
المسألة الثانية اللام في قوله تعالى وَالنَّجْمِ لتعريف العهد في قول ولتعريف الجنس في قول والأول قول من قال وَالنَّجْمِ المراد منه الثريا قال قائلهم إن بدا النجم عشيا
ابتغى الراعي كسياً
والثاني فيه وجوه أحدها النجم هو نجم السماء التي هي ثابتة فيها للاهتداء وقيل لا بل النجم المنقضة فيها التي هي رجوم للشياطين ثانيها نجوم الأرض وهي من النبات ما لا ساق له ثالثها نجوم القرآن ولنذكر مناسبة كل وجه ونبيّن فيه المختار منها أما على قولنا المراد الثريا فهو أظهر النجوم عند الرائي لأن له علامة لا يلتبس بغيره في السماء ويظهر لكل أحد والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) تميز عن الكل بآيات بينات فأقسم به ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق بالبكر حان إدراك الثمار وإذا ظهرت بالعشاء أواخر الخريف نقل الأمراض والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما ظهر قل الشك والأمراض القلبية وأدركت الثمار الحكمية والحلمية وعلى قولنا المراد هي النجوم التي في السماء للاهتداء نقول النجوم بها الاهتداء في البراري فأقسم الله بها لما بينهما من المشابهة والمناسبة وعلى قولنا المراد الرجوم من النجوم فالنجوم تبعد الشياطين عن أهل السماء والأنبياء يبعدون الشياطين عن أهل الأرض وعلى قولنا المراد القرآن فهو استدل بمعجزة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على صدقه وبراءته فهو كقوله تعالى يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ي س 1 4 ) ما ضللت ولا غويت وعلى قولنا النجم هو النبات فنقول النبات به ثبات القوى الجسمانية وصلاحها والقوة العقلية أولى بالإصلاح وذلك بالرسل وإيضاح السبل ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي هي في السماء لأنها أظهر عند السامع وقوله إِذَا هَوَى أدل عليه ثم بعد ذلك القرآن أيضاً فيه ظهور ثم الثريا
المسألة الثالثة القول في وَالنَّجْمِ كالقول في وَالطُّورِ حيث لم يقل والنجوم ولا الأطوار وقال وَالذرِيَاتِ المرسلات وقد تقدم ذكره
المسألة الرابعة ما الفائدة في تقييد القسم به بوقت هو به نقول النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيداً عن الأرض لا يهتدي به الساري لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال فإذا زال تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال كذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خفض جناحه للمؤمنين وكان على خلق عظيم كما قال تعالى مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 4 ) وكما قال تعالى فَبِمَا رَحْمَة ٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 ) إن قيل الاهتداء بالنجم إذا كان على أفق المشرق كالاهتداء به إذا كان على أفق المغرب فلم يبق ما ذكرت جواباً عن السؤال نقول الاهتداء بالنجم وهو مائل إلى المغرب أكثر لأنه يهدي في الطريقين الدنيوي والديني أما الدنيوي فلما ذكرنا وأما الديني فكما قال الخليل لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) وفيه لطيفة وهي أن الله لما أقسم بالنجم شرفه وعظمه وكان من المشركين من يعبده فقرن بتعظيمه وصفاً يدل على أنه لم يبلغ درجة العبادة فإنه هاوٍ آفل
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى
ثم قال تعالى ما ضل صاحبكم وما غوى أكثر المفسرين لم يفرقوا بين الضلال والغي والذي قاله
بعضهم عند محاولة الفرق أن الضلال في مقابلة الهدى والغي في مقابلة الرشد قال تعالى وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَى ّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ( الأعراف 146 ) وقال تعالى قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ ( البقرة 256 ) وتحقيق القول فيه أن الضلال أعم استعمالاً في الوضع تقول ضل بعيري ورحلي ولا تقول غوى فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلا والغواية أن لا يكون له طريق إلى المقصد مستقيم يدلك على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السداد إنه سفيه غير رشيد ولا تقول إنه ضال والضال كالكافر والغاوي كالفاسق فكأنه تعالى قال مَا ضَلَّ أي ما كفر ولا أقل من ذلك فما فسق ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ( النساء 6 ) أو نقول الضلال كالعدم والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة وقوله صَاحِبُكُمْ فيه وجهان الأول سيدكم والآخر مصاحبكم يقال صاحب البيت ورب البيت ويحتمل أن يكون المراد من قوله مَا ضَلَّ أي ما جن فإن المجنون ضال وعلى هذا فهو كقوله تعالى ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَة ِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ( القلم 1 3 ) فيكون إشارة إلى أنه ما غوى بل هو رشيد مرشد دال على الله بإرشاد آخر كما قال تعالى قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ( الشعراء 109 ) وقال إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ( يونس 72 ) وقوله تعالى وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( القلم 4 ) إشارة إلى قوله ههنا وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى فإن هذا خلق عظيم ولنبين الترتيب فنقول قال أولاً مَا ضَلَّ أي هو على الطريق وَمَا غَوَى أي طريقه الذي هو عليه مستقيم وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى أي هو راكب متنه آخذ سمت المقصود وذلك لأن من يسلك طريقاً ليصل إلى مقصده فربما يبقى بلا طريق وربما يجد إليه طريقاً بعيداً فيه متاعب ومهالك وربما يجد طريقاً واسعاً آمناً ولكنه يميل يمنة ويسرة فيبعد عنه المقصد ويتأخر عليه الوصول فإذا سلك الجادة وركب متنها كان أسرع وصولاً ويمكن أن يقال وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى دليل على أنه ما ضل وما غوى تقديره كيف يضل أو يغوى وهو لا ينطق عن الهوى وإنما يضل من يتبع الهوى ويدل عليه قوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( ص 26 ) فإن قيل ما ذكرت من الترتيب الأول على صيغة الماضي في قوله مَا ضَلَّ وصيغة المستقبل في قوله وَمَا يَنطِقُ في غاية الحسن أي ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون في صغره وَمَا غَوَى حين اختلى بنفسه ورأى منامه ما رأى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى الآن حيث أرسل إليكم وجعل رسولاً شاهداً عليكم فلم يكن أولاً ضالاً ولا غاوياً وصار الآن منقذاً من الضلالة ومرشداً وهادياً وأما على ما ذكرت أن تقديره كيف يضل وهو لا ينطق عن الهوى فلا توافقه الصيغة نقول بلى وبيانه أن الله تعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر والمعايب القبيحة كالسرقة والزنا واعتياد الكذب فقال تعالى مَا ضَلَّ في صغره لأنه لا ينطق عن الهوى وأحسن ما يقال في تفسير الهوى أنها المحبة لكن من النفس يقال هويته بمعنى أحببته لكن الحروف التي في هوى تدل على الدنو والنزول والسقوط ومنه الهاوية فالنفس إذا كانت دنيئة وتركت المعالي وتعلقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمارة بالسوء ولو قلت أهواه بقلبي لزال ما فيه من السفالة لكن الاستعمال بعد استبعاد استعمال القرآن حيث لم يستعمل الهوى إلا في المواضع الذي يخالف المحبة فإنها مستعملة في موضع المدح والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى فَأَمَّا مَن طَغَى وَءاثَرَ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا إلى قوله وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ( النازعات 37 40 ) إشارة إلى علو مرتبة النفس
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى
ثم قال تعالى إن هو إلا وحي يوحى بكلمة البيان وذلك لأنه تعالى لما قال وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) كأن قائلاً قال فبماذا ينطق أعن الدليل أو الاجتهاد فقال لا وإنما ينطق عن الله بالوحي وفيه مسائل
المسألة الأولى ءانٍ استعملت مكان ما للنفي كما استعملت ما للشرط مكان إن قال تعالى مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَة ٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا ( البقرة 106 ) والمشابهة بينهما من حيث اللفظ والمعنى أما اللفظ فلأن إن من الهمزة والنون وما من الميم والألف والألف كالهمزة والنون كالميم أما الأول فبدليل جواز القلب وأما الثاني فبدليل جواز الإدغام ووجوبه وأما المعنى فلأن إن تدل على النفي من وجه وعلى الإثبات من وجه ولكن دلالتها على النفي أقوى وأبلغ لأن الشرط والجزاء في صورة استعمال لفظة إن يجب أن يكون في الحالة معدوماً إذا كان المقصود الحث أو المنع تقول إن تحسن فلك الثواب وإن تسيء فلك العذاب وإن كان المراد بيان حال القسمين المشكوك فيهما كقولك إن كان هذا الفص زجاجاً فقيمته نصف وإن كان جوهراً فقيمته ألف فههنا وجود شيء منهما غير معلوم وعدم العلم حاصل وعدم العلم ههنا كعدم الحصول في الحث والمنع فلا بد في صور استعمال إن عدم إما في الأمر وإما في العلم وإما الوجود فذلك عند وجود الشرط في بيان الحال ولهذا قال النحاة لا يحسن أن يقال إن احمر البسر آتيك لأن ذلك أمر سيوجد لا محالة وجوزوا استعمال إن فيما لا يوجد أصلاً يقال في قطع الرجاء إن ابيض القار تغلبني قال الله تعالى فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى ( الأعراف 143 ) ولم يوجد الاستقرار ولا الرؤية فعلم أن دلالته على النفي أتم فإن مدلوله إلى مدلول ما أقرب فاستعمل أحدهما مكان الآخر هذا هو الظاهر وما يقال إن وما حرفان نافيان في الأصل فلا حاجة إلى الترادف
المسألة الثانية هو ضمير معلوم أو ضمير مذكور نقول فيه وجهان أشهرهما أنه ضمير معلوم وهو القرآن كأنه يقول ما القرآن إلا وحي وهذا على قول من قال النجم ليس المراد منه القرآن وأما على قول من يقول هو القرآن فهو عائد إلى مذكور والوجه الثاني أنه عائد إلى مذكور ضمناً وهو قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكلامه وذلك لأن قوله تعالى وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ( النجم 3 ) في ضمنه النطق وهو كلام وقول فكأنه تعالى يقول وما كلامه وهو نطقه إلا وحي وفيه وجه آخر أبعد وأدق وهو أن يقال قوله تعالى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ قد ذكر أن المراد منه في وجه أنه ما جن وما مسّه الجن فليس بكاهن وقوله وَمَا غَوَى أي ليس بينه وبين الغواية تعلق فليس بشاعر فإن الشعراء يتبعهم الغاوون وحينئذ يكون قوله وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى رداً عليهم حيث قالوا قوله قول كاهن وقالوا قوله قول شاعر فقال ما قوله إلا وحي وليس بقول كاهن ولا شاعر كما قال تعالى وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ( الحاقة 41 42 )
المسألة الثالثة الوحي اسم أو مصدر نقول يحتمل الوجهين فإن الوحي اسم معناه الكتاب ومصدر وله معان منها الإرسال والإلهام والكتابة والكلام والإشارة والإفهام فإن قلنا هو ضمير القرآن فالوحي اسم
معناه الكتاب كأنه يقول ما القرآن إلا كتاب ويوحى بمعنى يرسل ويحتمل على هذا أيضاً أن يقال هو مصدر أي ما القرآن إلا إرسال وإلهام بمعنى المفعول أي مرسل وإن قلنا المراد من قوله إِنْ هُوَ قوله وكلامه فالوحي حينئذ هو الإلهام ملهم من الله أو مرسل وفيه مباحث
البحث الأول الظاهر خلاف ما هو المشهور عند بعض المفسرين وهو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان ينطق إلا عن وحي ولا حجة لمن توهم هذا في الآية لأن قوله تعالى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى إن كان ضمير القرآن فظاهر وإن كان ضميراً عائداً إلى قوله فالمراد من قوله هو القول الذي كانوا يقولون فيه إنه قول شاعر ورد الله عليهم فقال ولا بقول شاعر وذلك القول هو القرآن وإن قلنا بما قالوا به فينبغي أن يفسر الوحي بالإلهام
البحث الثاني هذا يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) لم يجتهد وهو خلاف الظاهر فإنه في الحروب اجتهد وحرم ما قال الله لم يحرم وأذن لمن قال تعالى عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ نقول على ما ثبت لا تدل الآية عليه
البحث الثالث بحث يحتمل أن يكون من وحي يوحى ويحتمل أن يكون من أوحى ييوحى تقول عدم يعدم وأعدم يعدم وكذلك علم يعلم وأعلم يعلم فنقول يوحى من أوحى لا من وحى وإن كان وحي وأوحى كلاهما جاء بمعنى ولكن الله في القرآن عند ذكر المصدر لم يذكر الإيحاء الذي هو مصدر أوحى وعند ذكر الفعل لم يذكر وحي الذي مصدره وحى بل قال عند ذكر المصدر الوحي وقال عند ذكر الفعل أَوْحَى وكذلك القول في أحب وحب فإن حب وأحب بمعنى واحد والله تعالى عند ذكر المصدر لم يذكر في القرآن الإحباب وذكر الحب إلى أَوْ أَشَدَّ حَبّاً وعند الفعل لم يقل حبه الله بل قال يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 ) وقال أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ( الحجرات 12 ) وقال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) إلى غير ذلك وفيه سر من علم الصرف وهو أن المصدر والفعل الماضي الثلائي فيهما خلاف قال بعض علماء الصرف المصدر مشتق من الفعل الماضي والماضي هو الأصل والدليل عليه وجهان لفظي ومعنوي
أما اللفظي فإنهم يقولون مصدر فعل يفعل إذا كان متعدياً فعلاً بسكون العين وإذا كان لازماً فعول في الأكثر ولا يقولون الفعل الماضي من فعول فعلى وهذا دليل ما ذكرنا
وأما المعنوي فلأن ما يوجد من الأمور لا يوجد إلا وهو خاص وفي ضمنه العام مثاله الإنسان الذي يوجد ويتحقق يكون زيداً أن عمراً أو غيرهما ويكون في ضمنه أنه هندي أو تركي وفي ضمن ذلك أنه حيوان وناطق ولا يوجد أولاً إنسان ثم يصير تركياً ثم يصير زيداً أو عمراً
إذا علمت هذا فالفعل الذي يتحقق لا ينفك من أن يكون ماضياً أو مستقبلاً وفي ضمنه أنه فعل مع قطع النظر عن مضيه واستقباله مثاله الضرب إذا وجد فأما أن يكون قد مضى أو بعد لم يمض والأول ماض والثاني حاضر أو مستقبل ولا يوجد الضرب من حيث إنه ضرب خالياً عن المضي والحضور والاستقبال غير أن العاقل يدرك من فعل وهو يفعل الآن وسيفعل غداً أمراً مشتركاً فيسميه فعلاً كذلك يدرك في ضرب وهو يضرب الآن وسيضرب غداً أمراً مشتركاً فيسميه ضرباً فضرب يوجد أولاً ويستخرج منه الضرب والألفاظ
وضعت لأمور تتحقق فيها فيعبر بها عنها والأمور المشتركة لا تتحقق إلا في ضمن أشياء أُخر فالوضع أولاً لما يوجد منه لا يدرك منه قبل الضرب وهذا ما يمكن أن يقال لمن يقول الماضي أصل والمصدر مأخوذ منه وأما الذي يقول المصدر أصل والماضي مأخوذ منه فله دلائل منها أن الاسم أصل والفعل متفرع والمصدر اسم ولأن المصدر معرب والماضي مبني والإعراب قبل البناء ولأن قال وقال وراع وراع إذا أردنا الفرق بينهما نرد أبنيتهما إلى المصدر فنقول قال الألف منقلبة من واو بدليل القول وقال ألف منقلبة من ياء بدليل القيل وكذلك الروع والريع وأما المعقول فلأن الألفاظ وضعت للأمور التي في الأذهان والعام قبل الخاص في الذهن فإن الموجود إذا أدرك يقول المدرك هذا الموجود جوهر أو عرض فإذا أدرك أنه جوهر يقول إنه جسم أو غير جسم عند من يجعل الجسم جوهراً وهو الأصح الأظهر ثم إذا أدرك كونه جسماً يقول هو تام وكذلك الأمر إلى أن ينتهي إلى أخص الأشياء إن أمكن الانتهاء إليه بالتقسيم فالوضع الأول الفعل وهو المصدر من غير زيادة ثم إذا انضم إليه زمان تقول ضرب أو سيضرب فالمصدر قبل الماضي وهذا هو الأصح إذا علمت هذا فنقول على مذهب من يقول المصدر في الثلاثي من الماضي فالحب وأحب كلاهما في درجة واحدة لأن كليهما من حب يحب والمصدر من الثلاثي قبل مصدر المنشعبة بمرتبة وعلى مذهب من يقول الماضي في الثلاثي مأخوذ من المصدر فالمصدر الثلاثي قبل المصدر في المنشعبة بمرتبتين فاستعمل مصدر الثلاثي لأنه قبل مصدر المنشعبة وأما الفعل في أحب وأوحى فلأن الألف فيهما تفيد فائدة لا يفيدها الثلاثي المجرد لأن أحب أدخل في التعدية وأبعد عن توهم اللزوم فاستعمله
المسألة الرابعة إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ أبلغ من قول القائل هو وحي وفيه فائدة غير المبالغة وهي أنهم كانوا يقولون هو قول كاهن هو قول شاعر فأراد نفي قولهم وذلك يحصل بصيغة النفي فقال ما هو كما يقولون وزاد فقال بل هو وحي وفيه زيادة فائدة أخرى وهو قوله يُوحَى ذلك كقوله تعالى وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ( الأنعام 38 ) وفيه تحقيق الحقيقة فإن الفرس الشديد العدو ربما يقال هو طائر فإذا قال يطير بجناحيه يزيل جواز المجاز كذلك يقول بعض من لا يحترز في الكلام ويبالغ في المبالغة كلام فلان وحي كما يقول شعره سحر وكما يقول قوله معجزة فإذا قال يوحى يزول ذلك المجاز أو يبعد
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى
ثم قال تعالى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى وفيه وجهان أشهرهما عند المفسرين أن الضمير في عِلْمِهِ عائداً إلى الوحي أي الوحي علمه شديد القوى والوحي وإن كان هو الكتاب فظاهر وإن كان الإلهام فهو كقوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ( الشعراء 193 ) والأولى أن يقال الضمير عائد إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تقديره علم محمد شديد القوى جبريل وحينئذ يكون عائداً إلى صاحبكم تقديره علم صاحبكم وشديد القوى هو جبريل أي قواه العلمية والعملية كلها شديدة فيعلم ويعمل وقوله شَدِيدُ الْقُوَى فيه فوائد الأولى أن مدح المعلم مدح المتعلم فلو قال علمه جبريل ولم يصفه ما كان يحصل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فضيلة ظاهرة الثانية هي أن فيه رداً عليهم حيث قالوا أساطير الأولين سمعها وقت سفره إلى الشام فقال لم يعلمه أحد من الناس بل معلمه شديد القوى والإنسان خلق ضعيفا وما أوتي من العلم إلا قليلاً الثالثة فيه وثوق بقول جبريل عليه السلام فقوله تعالى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى جمع ما يوجب الوثوق لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل لأنا إن ظننا
بواحد فساد ذهن ثم نقل إلينا عن بعض الأكابر مسألة مشكلة لا نثق بقوله ونقول هو ما فهم ما قال وكذلك قوة الحفظ حتى لا نقول أدركها لكن نسيها وكذلك قوة الأمانة حتى لا نقول حرفها وغيرها فقال شَدِيدُ الْقُوَى ليجمع هذه الشرائط فيصير كقوله تعالى ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ إلى أن قال أَمِينٌ ( التكوير 20 21 ) الرابعة في تسلية النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهي من حيث إن الله تعالى لم يكن مختصاً بمكان فنسبته إلى جبريل كنسبته إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا علم بواسطته يكون نقصاً عن درجته فقال ليس كذلك لأنه شديد القوى يثبت لمكالمتنا وأنت بعد ما استويت فتكون كموسى حيث خر فكأنه تعالى قد علمه بواسطة ثم علمه من غير واسطة كما قال تعالى وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( النساء 113 ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أدبني ربي فأحسن تأديبي )
ذُو مِرَّة ٍ فَاسْتَوَى
وفي قوله تعالى ذُو مِرَّة ٍ وجوه أحدها ذو قوة ثانيها ذو كمال في العقل والدين جميعاً ثالثها ذو منظر وهيبة عظيمة رابعها ذو خلق حسن فإن قيل على قولنا المراد ذو قوة قد تقدم بيان كونه ذا قوى في قوله شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 ) فكيف نقول قواه شديدة وله قوة نقول ذلك لا يحسن إن جاء وصفاً بعد وصف وأما إن جاء بدلاً لا يجوز كأنه قال علمه ذو قوة وترك شديد القوى فليس وصفاً له وتقديره ذو قوة عظيمة أو كاملة وهو حينئذ كقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّة ٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ ( التكوير 19 20 ) فكأنه قال علمه ذو قوة فاستوى والوجه الآخر في الجواب هو أن إفراد قوة بالذكر ربما يكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خصّه الله بها يقال فلان كثير المال وله مال لا يعرفه أحد أي أمواله الظاهرة كثيرة وله مال باطن على أنا نقول المراد ذو شدة وتقديره علمه من قواه شديدة وفي ذاته أيضاً شدة فإن الإنسان ربما تكون قواه شديدة وفي جسمه صغر وحقارة ورخاوة وفيه لطيفة وهي أنه تعالى أراد بقوله شَدِيدُ الْقُوَى قوته في العلم
ثم قال تعالى ذُو مِرَّة ٍ أي شدة في جسمه فقدم العلمية على الجسمية كما قال تعالى وَزَادَهُ بَسْطَة ً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ( البقرة 247 ) وفي قوله فَاسْتَوَى وجهان المشهور أن المراد جبريل أي فاستوى جبريل في خلقه
وَهُوَ بِالاٍّ فُقِ الاٌّ عْلَى
ثم قال تعالى وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى والمشهور أن هو ضمير جبريل وتقديره استوى كما خلقه الله تعالى بالأفق الشرقي فسد المشرق لعظمته والظاهر أن المراد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) معناه استوى بمكان وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر لا حقيقة في الحصول في المكان فإن قيل كيف يجوز هذا والله تعالى يقول وَلَقَدْ رَءاهُ بِالاْفُقِ الْمُبِينِ ( التكوير 23 ) إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين نقول وفي ذلك الموضع أيضاً نقول كما قلنا ههنا إنه ( صلى الله عليه وسلم ) رأى جبريل وهو بالأفق المبين يقول القائل رأيت الهلال فيقال له أين رأيته فيقول فوق السطح أي أن الرائي فوق السطح لا المرئي و الْمُبِينُ هو الفارق من أبان أي فرق أي هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك فإنه ( صلى الله عليه وسلم ) انتهى وبلغ الغاية وصار نبياً كما صار بعض الأنبياء نبياً يأتيه الوحي في نومه وعلى هيئته وهو واصل إلى الأفق الأعلى والأفق الفارق بين المنزلتين فإن قيل ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه فإن قوله ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ( النجم 8 ) إلى غير ذلك وقوله تعالى وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَة ً أُخْرَى عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى
( النجم 14 ) كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته نقول سنبين موافقته لما ذكرنا إن شاء الله في مواضعه عند ذكر تفسيره فإن قيل الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته حيث ورد في الأخبار أن جبريل ( صلى الله عليه وسلم ) أرى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه على صورته فسد المشرق فنقول نحن ما قلنا إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية حتى يلزم مخالفة الحديث وإنما نقول أن جبريل أرى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه مرتين وبسط جناحيه وقد ستر الجانب الشرقي وسده لكن الآية لم ترد لبيان ذلك
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى
ثم قال تعالى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى وفيه وجوه مشهورة أحدها أن جبريل دنا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي بعد ما مد جناحه وهو بالأفق عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها وقرب من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا ففي تدلى ثلاثة وجوه أحدها فيه تقديم وتأخير تقديره ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا من النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني الدنو والتدلي بمعنى واحد كأنه قال دنا فقرب الثالث دنا أي قصد القرب من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتحرك عن المكان الذي كان فيه فتدلى فنزل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الثاني على ما ذكرنا من الوجه الأخير في قوله فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ( النجم 7 ) أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) دنا من الخلق والأمة ولان لهم وصار كواحد منهم فتدل أي فتدلى إليهم بالقول اللين والدعاء الرفيق فقال إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَى َّ ( فصلت 6 ) وعلى هذا ففي الكلام كمالان كأنه تعالى قال إلا وحي يوحي جبريل على محمد فاستوى محمد وكمل فدنا من الخلق بعد علوه وتدلى إليهم وبلغ الرسالة الثالث وهو ضعيف سخيف وهو أن المراد منه هو ربه تعالى وهو مذهب القائلين بالجهة والمكان اللّهم إلا أن يريد القرب بالمنزلة وعلى هذا يكون فيه ما في قوله ( صلى الله عليه وسلم ) حكاية عن ربه تعالى ( من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً ومن مشى إليّ أتيته هرولة ) إشارة إلى المعنى المجازي وههنا لما بيّن أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استوى وعلا في المنزلة العقلية لا في المكان الحسي قال وقرب الله منه تحقيقاً لما في قوله ( من تقرب إليّ ذراعاً تقربت إليه باعاً )
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى
ثم قال تعالى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى أي بين جبرائيل ومحمد عليهما السلام مقدار قوسين أو أقل ورد هذا على استعمال العرب وعادتهم فإن الأميرين منهم أو الكبيرين إذا اصطلحا وتعاهدا خرجا بقوسيهما ووتر كل واحد منهما طرف قوسه بطرف قوس صاحبه ومن دونهما من الرعية يكون كفه بكفه فينهيان باعيهما ولذلك تسمى مسايعة وعلى هذا ففيه لطيفة وهي أن قوله قَابَ قَوْسَيْنِ على جعل كونهما كبيرين وقوله أَوْ أَدْنَى لفضل أحدهما على الآخر فإن الأمير إذا بايعه الرعية لا يكون مع المبايع قوس فيصافحه الأمير فكأنه تعالى أخبر أنهما كأميرين كبيرين فكان بينهما مقدار قوسين أو كان جبرائيل عليه السلام سفيراً بين الله تعالى ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان كالتبع لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فصار كالمبايع الذي يمد الباع لا القوس هذا على قول من يفضل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على جبرائيل عليه السلام وهو مذهب أهل السنة إلا قليلاً منهم إذ كان جبرائيل رسولاً من الله واجب التعظيم والاتباع فصار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عنده كالتبع له على قول من يفضل جبريل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفيه وجه آخر على ما ذكرنا وهو أن يكون القوس عبارة عن بعد من قاس يقوس وعلى هذا فنقول ذلك البعد هو البعد النوعي الذي كان للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه على كل حال كان بشراً وجبريل على كل حال كان ملكاً فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإن زال عن الصفات التي تخالف صفات الملك من الشهوة والغضب والجهل والهوى
لكن بشريته كانت باقية وكذلك جبريل وإن ترك الكمال واللطف الذي يمنع الرؤية والاحتجاب لكن لم يخرج عن كونه ملكاً فلم يبق بينهما إلا اختلاف حقيقتهما وأما سائر الصفات الممكنة الزوال فزالت عنهما فارتفع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بلغ الأفق الأعلى من البشرية وتدلى جبريل عليه السلام حتى بلغ الأفق الأدنى من الملكية فتقاربا ولم يبق بينهما إلا حقيقتهما وعلى هذا ففي فاعل أوحى الأول وجهان أحدهما أن الله تعالى أوحى وعلى هذا ففي عبده وجهان أحدهما أنه جبريل عليه السلام ومعناه أوحى الله إلى جبريل وعلى هذا ففي فاعل أوحى الأخير وجهان أحدهما الله تعالى أيضاً والمعنى حينئذ أوحى الله تعالى إلى جبريل عليه السلام الذي أوحاه إليه تفخيماً وتعظيماً للموحي ثانيهما فاعل أوحى ثانياً جبريل والمعنى أوحى الله إلى جبريل ما أوحى جبريل إلى كل رسول وفيه بيان أن جبرائيل أمين لم يخن في شيء مما أوحى إليه وهذا كقوله تعالى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ ( الشعراء 193 ) وقوله مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ( التكوير 21 ) الوجه الثاني في عبده على قولنا الموحي هو الله أنه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) معناه أوحى الله إلى محمد ما أوحى إليه للتفخيم والتعظيم وهذا على ما ذكرنا من التفسير ورد على ترتيب في غاية الحسن وذلك لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في الأول حصل في الأفق الأعلى من مراتب الإنسان وهو النبوة ثم دنا من جبريل وهو في مرتبة النبوة فصار رسولاً فاستوى وتكامل ودنا من الأمة باللطف وتدلى إليهم بالقول الرفيق وجعل يتردد مراراً بين أمته وربه فأوحى الله إليه من غير واسطة جبريل ما أوحى والوجه الثاني في فاعل أوحى أولاً هو أنه جبريل أوحى أي عبده إلى عبد الله والله معلوم وإن لم يكن مذكوراً وفي قوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَة ِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ( سبأ 40 41 ) ما يوجب القطع بعدم جواز إطلاق هذا اللفظ على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا ففاعل أوحى ثانياً يحتمل وجهين أحدهما أنه جبريل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه جبريل للتفخيم وثانيهما أن يكون هو الله تعالى أي أوحى جبريل إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما أوحى الله إليه وفي الذي وجوه أولها الذي أوحى الصلاة ثانيها أن أحداً من الأنبياء لا يدخل الجنة قبلك وأمة من الأمم لا تدخل الجنة قبل أمتك ثالثها أن ما للعموم والمراد كل ما جاء به جبريل وهذا على قولنا بأن المراد جبريل صحيح والوجهان المتقدمان على قولنا المراد محمد عليه الصلاة والسلام أظهر وفيه وجه غريب من حيث العربية مشهور معناه عند الأصوليين ولنبين ذلك في معرض الجواب عن سؤال وهو أن يقال بم عرف محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن جبريل ملك من عند الله وليس أحداً من الجن والذي يقال إن خديجة كشفت رأسها امتحاناً في غاية الضعف إن ادعى ذلك القائل أن المعرفة حصلت بأمثال ذلك وهذا إن أراد القصة والحكاية وإن خديجة فعلت هذا لأن فعل خديجة غير منكر وإنما المنكر دعوى حصول المعرفة بفعلها وأمثالها وذلك لأن الشيطان ربما تستر عند كشف رأسها أصلاً فكان يشتبه بالملائكة فيحصل اللبس والإبهام والجواب الصحيح من وجهين أحدهما أن الله أظهر على يد جبريل معجزة عرفه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بها كما أظهر على يد محمد معجزات عرفناه بها وثانيهما أن الله تعالى خلق في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) علماً ضرورياً بأن جبريل من عند الله ملك لا جني ولا شيطان كما أن الله تعالى خلق في جبريل علماً ضرورياً أن المتكلم معه هو الله تعالى وأن المرسل له ربه لا غيره إذا علم الجوابان فنقول
قوله تعالى
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى
فيه وجهان أحدهما أوحى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما أوحاه إلى جبريل أي كلمه الله أنه وحي أو خلق فيه علماً ضرورياً ثانيهما أوحى إلى جبريل ما أوحى إلى محمد دليله الذي به يعرف أنه وحي فعلى هذا يمكن أن يقال ما مصدرية تقديره فأوحى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الإيحاء أي العلم بالإيحاء ليفرق بين الملك والجن
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى
فيه مسائل
المسألة الأولى الفؤاد فؤاد من نقول المشهور أنه فؤاد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) معناه أنه ما كذب فؤاده واللام لتعريف ما علم حاله لسبق ذكر محمد عليه الصلاة والسلام في قوله إِلَى عَبْدِهِ وفي قوله وَهُوَ بِالاْفُقِ الاْعْلَى ( النجم 7 ) وقوله تعالى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ ( النجم 2 ) ويحتمل أن يقال مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ أي جنس الفؤاد لأن المكذب هو الوهم والخيال يقول كيف يرى الله أو كيف يرى جبريل مع أنه ألطف من الهوى والهواء لا يرى وكذلك يقول الوهم والخيال إن رأى ربه رأى في جهة ومكان وعلى هيئة والكل ينافي كون المرئي إلاهاً ولو رأى جبريل عليه السلام مع أنه صار على صورة دحية أو غيره فقد انقلبت حقيقته ولو جاز ذلك لارتفع الأمان عن المرئيات فنقول رؤية الله تعالى ورؤية جبريل عليه السلام على ما رآه محمد عليه الصلاة والسلام جائزة عند من له قلب فالفؤاد لا ينكر ذلك وإن كانت النفس المتوهمة والمتخيلة تنكره
المسألة الثانية ما معنى مَا كَذَبَ نقول فيه وجوه الوجه الأول ما قاله الزمخشري وهو أن قلبه لم يكذب وما قال إن ما رآه بصرك ليس بصحيح ولو قال فؤاده ذلك لكان كاذباً فيما قاله وهو قريب مما قاله المبرد حيث قال معناه صدق الفؤاد فيما رأى ( رأى ) شيئاً فصدق فيه الثاني قرىء مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ بالتشديد ومعناه ما قال إن المرئي خيال لا حقيقة له الثالث هو أن هذا مقرر لما ذكرنا من أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأى جبريل عليه السلام خلق الله له علماً ضرورياً علم أنه ليس بخيال وليس هو على ما ذكرنا قصد الحق وتقديره ما جوّز أن يكون كاذباً وفي الوقوع وإرادة نفي الجواز كثير قال الله تعالى لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَى ْء ( غافر 16 ) وقال لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) وقال وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ ( النمل 93 ) والكل لنفي الجواز بخلاف قوله تعالى لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( يوسف 56 ) لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً وَلاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ( النساء 48 ) فإنه لنفي الوقوع
المسألة الثالثة الرائي في قوله مَا رَأَى هو الفؤاد أو البصر أو غيرهما نقول فيه وجوه الأول الفؤاد كأنه تعالى قال مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ما رآه الفؤاد أي لم يقل إنه جني أو شيطان بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح الثاني البصر أي مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ما رآه البصر ولم يقل إن ما رآه البصر خيال الثالث ما كذب الفؤاد ما رأى محمد عليه الصلاة والسلام وهذا على قولنا الفؤاد للجنس ظاهر أي القلوب تشهد بصحة ما رآه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ( من الرؤيا ) وإن كانت الأوهام لا تعترف بها
المسألة الرابعة ما المرئي في قوله مَا رَأَى نقول على الاختلاف السابق والذي يحتمل الكلام
وجوه ثلاثة الأول الرب تعالى والثاني جبريل عليه السلام والثالث الآيات العجيبة الإلاهية فإن قيل كيف تمكن رؤية الله تعالى بحيث لا يقدح فيه ولا يلزم منه كونه جسماً في جهة نقول اعلم أن العاقل إذا تأمل وتفكر في رجل موجود في مكان وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله و ( إذا ) تفكر في أمر لا يوجد أصلاً وقال هذا مرئي الله تعالى يراه الله تعالى يجد بينهما فرقاً وعقله يصحح الكلام الأول ويكذب الكلام الثاني فذلك ليس بمعنى كونه معلوماً لأنه لو قال الموجود معلوم الله والمعدوم معلوم الله لما وجد في كلامه خللاً واستبعاداً فالله راء بمعنى كونه عالماً ثم إن الله يكون رائياً ولا يصير مقابلاً للمرئي ولا يحصل في جهة ولا يكون مقابلاً له وإنما يصعب على الوهم ذلك من حيث إنه لم ير شيئاً إلا في جهة فيقول إن ذلك واجب ومما يصحح هذا أنك ترى في الماء قمراً وفي الحقيقة ما رأيت القمر حالة نظرك إلى الماء إلا في مكانه فوق السماء فرأيت القمر في الماء لأن الشعاع الخارج من البصر اتصل به فرد الماء ذلك الشعاع إلى السماء لكن وهمك لما رأى أكثر ما رآه في المقابلة لم يعهد رؤية شيء يكون خلفه إلا بالتوجه إليه قال إني أرى القمر ولا رؤية إلا إذ كان المرئي في مقابلة الحدقة ولا مقابل للحدقة إلا الماء فحكم إذن بناء على هذا أنه يرى القمر في الماء فالوهم يغلب العقل في العالم لكون الأمور العاجلة أكثرها وهمية حسية وفي الآخرة تزول الأوهام وتنجلي الأفهام فترى الأشياء لوجودها لا لتحيزها واعلم أن من ينكر جواز رؤية الله تعالى يلزمه أن ينكر جواز رؤية جبريل عليه السلام وفيه إنكار الرسالة وهو كفر وفيه ما يكاد أن يكون كفراً وذلك لأن من شك في رؤية الله تعالى يقول لو كان الله تعالى جائز الرؤية لكان واجب الرؤية لأن حواسنا سليمة والله تعالى ليس من وراء حجاب ولا هو في غاية البعد عنا لعدم كونه في جهة ولا مكان فلو جاز أن يرى ولا نراه للزم القدح في المحسوسات المشاهدات إذ يجوز حينئذ أن يكون عندنا جبل ولا نراه فيقال لذلك القائل قد صح أن جبريل عليه السلام كان ينزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده غيره وهو يراه ولو وجب ما يجوز لرآه كل أحد فإن قيل إن هناك حجاباً نقول وجب أن يرى هناك حجاباً فإن الحجاب لا يحجب إذا كان مرئياً على مذهبهم ثم إن النصوص وردت أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ربه بفؤاده فجعل بصره في فؤاده أو رآه ببصره فجعل فؤاده في بصره وكيف لا وعلى مذهب أهل السنة الرؤية بالإرادة لا بقدرة العبد فإذا حصل الله تعالى العلم بالشيء من طريق البصر كان رؤية وإن حصله من طريق القلب كان معرفة والله قادر على أن يحصل العلم بخلق مدرك للمعلوم في البصر كما قدر على أن يحصله بخلق مدرك في القلب والمسألة مختلف فيها بين الصحابة في الوقوع واختلاف الوقوع مما ينبىء عن الاتفاق على الجواز والمسألة مذكورة في الأصول فلا نطولها
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى
أي كيف تجادلونه وتوردون شكوككم عليه مع أنه رأى ما رأى عين اليقين ولا شك بعد الرؤية فهو جازم متيقن وأنتم تقولون أصابه الجن ويمكن أن يقال هو مؤكد للمعنى الذي تقدم وذلك لأن من تيقن شيئاً قد يكون بحيث لا يزول عن نفسه تشكيك وأكد بقوله تعالى
وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَة ً أُخْرَى عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى
وذلك لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) لما رآه وهو على بسيط الأرض كان يحتمل أن يقال أنه من الجن احتمالاً في غاية البعد لما بينا أنه ( صلى الله عليه وسلم ) حصل له العلم الضروري بأنه ملك مرسل واحتمال البعيد لا يقدح في الجزم واليقين ألا ترى أنا إذا نمنا بالليل وانتبهنا بالنهار نجزم
بأن البحار وقت نومنا ما نشفت ولا غارت والجبال ما عدمت ولا سارت مع احتمال ذلك فإن الله قادر على ذلك وقت نومنا ويعيدها إلى ما كانت عليه في يومنا فلما رآه عند سدرة المنتهى وهو فوق السماء السادسة لم يحتمل أن يكون هناك جن ولا إنس فنفى ذلك الاحتمال أيضاً فقال تعالى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى رأي العين وكيف وهو قد رآه في السماء فماذا تقدون فيه وفيه مسائل
المسألة الأولى الواو يحتمل أن تكون عاطفة ويحتمل أن تكون للحال على ما بيناه أي كيف تجادلونه فيما رآه على وجه لا يشك فيه ومع ذلك لا يحتمل إيراد الشكوك عليه فإن كثيراً ما يشك المعتقد لشيء فيه ولكن تردد عليه الشكوك ولا يمكنه الجواب عنها ولا تثريب مع ذلك في أن الأمر كما ذكرنا من المثال لأنا لا نشك في أن البحار ما صارت ذهباً والجبال ما صارت عهناً وإذا أورد علينا مورد شكا وقال وقت نومك يحتمل أن الله تعالى قلبها ثم أغادها لا يمكننا الجواب عنه مع أنا لا نشك في استمرارها على ما هي عليه لا يقال اللام تنافي كون الواو للحال فإن المستعمل يقال أفتمارونه وقد رأى من غير لام لأنا نقول الواو التي للحال تدخل على جملة والجملة تتركب من مبتدأ وخبر أو هن فعل وفاعل وكلاهما يجوز فيه اللام
المسألة الثانية قوله نَزْلَة ً فعلة من النزول فهي كجلسة من الجلوس فلا بد من نزول فذلك النزول لمن كان نقول فيه وجوه وهي مرتبة على أن الضمير في رآه عائد إلى من وفيه قولان الأول عائد إلى الله تعالى أي رأى الله نزلة أخرى وهذا على قول من قال مَا رَأَى في قوله مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ( النجم 11 ) هو الله تعالى وقد قيل بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ربه بقلبه مرتين وعلى هذا فالنزلة تحتمل وجهين أحدهما أنها لله وعلى هذا فوجهان أحدهما قول من يجوز على الله تعالى الحركة والانتقال وهو باطل وثانيهما النزول بالقرب المعنوي لا الحسي فإن الله تعالى قد يقرب بالرحمة والفضل من عبده ولا يراه العبد ولهذا قال موسى عليه السلام رَبّ أَرِنِى ( البقرة 260 ) أي أزل بعض حجب العظمة والجلال وادن من العبد بالرحمة والإفضال لأراك
الوجه الثاني أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) رأى الله نزلة أخرى وحينئذ يحتمل ذلك وجهين أحدهما أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نزل على متن الهوى ومركب النفس ولهذا يقال لمن ركب متن هواه إنه علا في الأرض واستكبر قال تعالى عَلاَ فِى الاْرْضِ ( القصص 4 ) ثانيهما أن المراد من النزلة ضدها وهي العرجة كأنه قال رآه عرجة أخرى وإنما اختار النزلة لأن العرجة التي في الآخرة لا نزلة لها فقال نزلة ليعلم أنها من الذي كان في الدنيا والقول الثاني أنه عائد إلى جبريل عليه السلام أي رأى جبريل نزلة أخرى والنزلة حينئذ يحتمل أن تكون لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) كما ذكرناه لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ما ورد في بعض أخبار ليلة المعراج جاوز جبريل عليه السلام وقال له جبريل عليه السلام لو دنوت أنملة لاحترقت ثم عاد إليه فذلك نزلة فإن قيل فكيف قال أُخْرَى نقول لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أمر الصلاة تردد مراراً فربما كان يجاوز كل مرة وينزل إلى جبريل ويحتمل أن تكون لجبريل عليه السلام وكلاهما منقول وعلى هذا الوجه فنزلة أخرى ظاهر لأن جبريل كان له نزلات وكان له نزلتان عليه وهو على صورته وقوله تعالى عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى المشهور أن السدرة شجرة في السماء السابعة وعليها مثل النبق وقيل في السماء السادسة وورد في الخبر أنه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( نيقها كقلال هجر
وورقها كآذان الفيلة ) وقيل سدرة المنتهى هي الحيرة القصوى من السدرة والسدرة كالركبة من الراكب عندما يحار العقل حيرة لا حيرة فوقها ما حار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وما غاب ورأى ما رأى وقوله عِندَ ظرف مكان أو ظرف زمان في هذا الموضع نقول المشهور أنه ظرف مكان تقديره رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى وقيل ظرف زمان كما يقال صليت عند طلوع الفجر وتقديره رآه عند الحيرة القصوى أي في الزمان الذي تحار فيه عقول العقلاء والرؤية من أتم العلوم وذلك الوقت من أشد أوقات الجهل والحيرة فهو عليه الصلاة والسلام ما حار وقتاً من شأنه أن يحار العاقل فيه والله أعلم
المسألة الثالثة إن قلنا معناه رأى الله كيف يفهم عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى قلنا فيه أقوال الأول قول من يجعل الله في مكان وهو باطل وقد بالغنا في بيان بطلانه في سورة السجدة الثاني رآه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو عِندَ سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى لأن الظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما ذكرنا من المثال يقال رأيت الهلال فيقاله لقائله أين رأيته فيقول على السطح وربما يقول عند الشجرة الفلانية وأما إن قلنا إن المراد جبريل عليه السلام فالوجهان ظاهران وكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع جبريل عند سدرة المنتهى أظهر
المسألة الرابعة إضافة السدرة إلى المنتهى من أي ( أنواع ) الإضافة نقول يحتمل وجوهاً أحدها إضافة الشيء إلى مكانه يقال أشجار بلدة كذا لا تطول من البرد ويقال أشجار الجنة لا تيبس ولا تخلو من الثمار فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك وقيل لا يتعداه روح من الأرواح وثانيها إضافة المحل إلى الحال فيه يقال كتاب الفقه ومحل السواد وعلى هذا فالمنتهى عند السدرة تقديره سدرة عند منتهى العلوم ثالثها إضافة الملك إلى مالكه يقال دار زيد وأشجار زيد وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه قال الله تعالى إِلَى رَبّكَ الْمُنتَهَى ( النجم 42 ) فالمنتهى إليه هو الله وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البيت إليه للتشريف والتعظيم ويقال في التسبيح يا غاية مناه ويا منتهى أملاه
عِندَهَا جَنَّة ُ الْمَأْوَى
ثم قال تعالى عِندَهَا جَنَّة ُ الْمَأْوَى وفي الجنة خلاف قال بعضهم جنة المأوى هي الجنة التي وعد بها المتقون وحينئذ الإضافة كما في قوله تعالى دَارَ الْمُقَامَة ِ ( فاطر 35 ) وقيل هي جنة أخرى عندها يكون أرواح الشهداء وقيل هي جنة للملائكة وقرىء جنّه بالهاء من جن بمعنى أجن يقال جن الليل وأجن وعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون الضمير في قوله الْمُنتَهَى عِندَهَا عائداً إلى النزلة أي عند النزلة جن محمداً المأوى والظاهر أنه عائد إلى السدرة وهي الأصح وقيل إن عائشة أنكرت هذه القراءة وقيل إنها أجازتها
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَة َ مَا يَغْشَى
فيه مسائل
المسألة الأولى العامل في إِذْ ما قبلها أو ما بعدها فيه وجهان فإن قلنا ما قبلها ففيه احتمالان
أظهرهما رَّءاهُ ( النجم 13 ) أي رآه وقت ما يغشى السدرة الذي يغشى والاحتمال الآخر العامل فيه الفعل الذي في النزلة تقديره رآه نزلة أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السدرة ما يغشى أي نزوله لم يكن إلا بعد ما ظهرت العجائب عند السدرة وغشيها ما غشى فحينئذ نزل محمد نزلة إشارة إلى أنه لم يرجع من غير فائدة وإن قلنا ما بعده فالعامل فيه مَا زَاغَ الْبَصَرُ ( النجم 17 ) أي ما زاغ بصره وقت غشيان السدرة ما غشيها وسنذكره عند تفسير الآية
المسألة الثانية قد ذكرت أن في بعض الوجوه سِدْرَة ِ الْمُنتَهَى هي الحيرة القصوى وقوله يَغْشَى السّدْرَة َ على ذلك الوجه ينادي بالبطلان فهل يمكن تصحيحه نقول يمكن أن يقال المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة أي ورد على حالة الحيرة حالة الرؤية واليقين ورأى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عندما حار العقل ما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله تعالى ورحمته والأول هو الصحيح فإن النقل الذي ذكرنا من أن السدرة نبقها كقلال هجر يدل على أنها شجرة
المسألة الثالثة ما الذي غشى السدرة نقول فيه وجوه الأول فراش أو جراد من ذهب وهو ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي فإن صح فيه خبر فلا يبعد من جواز التأويل وإن لم يصح فلا وجه له الثاني الذي يغشى السدرة ملائكة يغشونها كأنهم طيور وهو قريب لأن المكان مكان لا يتعداه الملك فهم يرتقون إليه متشرفين به متبركين زائرين كما يزور الناس الكعبة فيجتمعون عليها الثالث أنوار الله تعالى وهو ظاهر لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما وصل إليها تجلى ربه لها كما تجلى للجبل وظهرت الأنوار لكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت فجعل الجبل دكاً ولم تتحرك الشجرة وخر موسى صعقاً ولم يتزلزل محمد الرابع هو مبهم للتعظيم يقول القائل رأيت ما رأيت عند الملك يشير إلى الإظهار من وجه وإلى الإخفاء من وجه
المسألة الرابعة يَغْشَى يستر ومنه الغواشي أو من معنى الإتيان يقال فلا يغشاني كل وقت أي يأتيني والوجهان محتملان وعلى قول من يقول الله يأتي ويذهب فالإتيان أقرب
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى
ثم قال تعالى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى وفيه مسائل
المسألة الأولى اللام في الْبَصَرُ يحتمل وجهين أحدهما المعروف وهو بصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أي ما زاغ بصر محمد وعلى هذا فعدم الزيغ على وجوه إن قلنا الغاشي للسدرة هو الجراد والفراش فمعناه لم يتلفت إليه ولم يشتغل به ولم يقطع نظره عن المقصود وعلى هذا فغشيان الجراد والفراش يكون ابتلاء وامتحاناً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإن قلنا أنوار الله ففيه وجهان أحدهما لم يتلفت يمنة ويسرة واشتغل بمطالعتها وثانيهما ما زاغ البصر بصعقة بخلاف موسى عليه السلام فإنه قطع النظر وغشي عليه وفي الأول بيان أدب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي الثاني بيان قوته الوجه الثاني في اللام أنه لتعريف الجنس أي ما زاغ بصر أصلاً في ذلك الموضع لعظمة الهيبة فإن قيل لو كان كذلك لقال ما زاغ بصر لأنه أدل على العموم لأن النكرة في معرض النفي تعم نقول هو كقوله لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ ( الأنعام 103 ) ولم يقل لا يدركه بصر
المسألة الثانية إن كان المراد محمداً فلو قال ما زاغ قلبه كان يحصل به فائدة قوله مَا زَاغَ الْبَصَرُ نقول لا وذلك لأن من يحضر عند ملك عظيم يرى من نفسه أنه يهابه ويرتجف إظهاراً لعظمته مع أن قلبه قوي فإذا قال مَا زَاغَ الْبَصَرُ يحصل منه فائدة أن الأمر كان عظيماً ولم يزغ بصره من غير اختيار من صاحب البصر
المسألة الثالثة وَمَا طَغَى عطف جملة مستقلة على جملة أخرى أو عطف جملة مقدرة على جملة مثال المستقلة خرج زيد ودخل عمرو ومثال مقدرة خرج زيد ودخل فنقول الوجهان جائزان أما الأول فكأنه تعالى قال عند ظهور النور ما زاغ بصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما طغى محمد بسبب الالتفات ولو التفت لكان طاغياً وأما الثاني فظاهر على الأوجه أما على قولنا غشي السدرة جراد فلم يلتفت إليه وَمَا طَغَى أي ما التفت إلى غير الله فلم يلتفت إلى الجراد ولا إلى غير الجراد سوى الله وأما على قولنا غشيها نور فقوله مَا زَاغَ أي ما مال عن الأنوار وَمَا طَغَى أي ما طلب شيئاً وراءها وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال ما زاغ وما طغى ولم يقل ما مال وما جاوز لأن الميل في ذلك الموضع والمجاوزة مذمومان فاستعمل الزيغ والطغيان فيه وفيه وجه آخر وهو أن يكون ذلك بياناً لوصول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى سدرة اليقين الذي لا يقين فوقه ووجه ذلك أن بصر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مَا زَاغَ أي ما مال عن الطريق فلم ير الشيء على خلاف ما هو عليه بخلاف من ينظر إلى عين الشمس مثلاً ثم ينظر إلى شيء أبيض فإنه يراه أصفر أو أخضر يزيغ بصره عن جادة الأبصار وَمَا طَغَى ما تخيل المعدوم موجوداً فرأى المعدوم مجاوزاً الحد
لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى
ثم قال تعالى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى وفيه مسائل
المسألة الأولى فيه دليل على أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى ليلة المعراج آيات الله ولم ير الله وفيه خلاف ووجهه هو أن الله تعالى ختم قصة المعراج ههنا برؤية الآيات وقال سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً إلى أن قال لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا ( الإسراء 1 ) ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظم ما يمكن فكانت الآية الرؤية وكان أكبر شيء هو الرؤية ألا ترى أن من له مال يقال له سافر لتربح ولا يقال سافر لتتفرج لما أن الربح أعظم من التفرج
المسألة الثانية قال بعض المفسرين لَقَدْ رَأَى مِنْ ءايَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى وهي أنه رأى جبريل عليه السلام في صورته فهل هو على ما قاله نقول الظاهر أن هذه الآيات غير تلك وذلك لأن جبريل عليه السلام وإن كان عظيماً لكن ورد في الأخبار أن لله ملائكة أعظم منه والكبرى تأنيث الأكبر فكأنه تعالى يقول رأى من آيات ربه آيات هن أكبر الآيات فإن قيل قال الله تعالى إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ ( المدثر 35 ) مع أن أكبر من سقر عجائب الله فكذلك الآيات الكبرى تكون جبريل وما فيه وإن كان لله آيات أكبر منه نقول سقر إحدى الكبر أي إحدى الدواهي الكبر ولا شك أن في الدواهي سقر عظيمة كبيرة وأما آيات الله فليس جبريل أكبرها ولأن سقر في نفسها أعظم وأعجب من جبريل عليه السلام فلا يلزم من صفتها بالكبر صفتها بالكبرى
المسألة الثالثة الكبرى صفة ماذا نقول فيه وجهان أحدهما صفة محذوف تقديره لقد رأى من آيات ربه الآية الكبرى ثانيهما صفة آيات ربه وعلى هذا يكون مفعول رأى محذوفاً تقديره رأى من الآيات الكبرى آية أو شيئاً ثم قال تعالى
أَفَرَءَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَواة َ الثَّالِثَة َ الاٍّ خْرَى
لما قرر الرسالة ذكر ما ينبغي أن يبتدىء به الرسول وهو التوحيد ومنع الخلق عن الإشراك فقوله تعالى أَفَرَءيْتُمُ إشارة إلى إبطال قولهم بنفس القول كما أن ضعيفاً إذا ادعى الملك ثم رآه العقلاء في غاية البعد عما يدعيه يقولون انظروا إلى هذا الذي يدعي الملك منكرين عليه غير مستدلين بدليل لظهور أمره فلذلك قال أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى أي كما هما فكيف تشركونهما بالله والتاء في اللاّت تاء تأنيث كما في المناة لكنها تكتب مطولة لئلا يوقف عليها فتصير هاء فيشتبه باسم الله تعالى فإن الهاء في الله أصلية ليست تاء تأنيث وقف عليها فانقلبت هاء وهي صنم كانت لثقيف بالطائف قال الزمخشري هي فعله من لوى يلوي وذلك لأنهم كانوا يلوون عليها وعلى ما قال فأصله لوية أسكنت الياء وحذفت لالتقاء الساكنين فبقيت لوه قلبت الواو ألفاً لفتح ما قبلها فصارت لات وقرىء اللات بالتشديد من لت قيل إنه مأخوذ من رجل كان يلت بالسمن الطعام ويطعم الناس فعبد واتخذ على صورته وثن وسموه باللاّت وعلى هذا فاللاّت ذكر وأما العزى فتأنيث الأعز وهي شجرة كانت تعبد فبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خالد بن الوليد رضي الله عنه فقطعها وخرجت منها شيطانة مكشوفة الرأس منشورة الشعر تضرب رأسها وتدعوا بالويل والثبور فقتلها خالد وهو يقول يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
ورجع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره بما رأى وفعل فقال تلك العزى ولن تعبد أبداً وأما مناة فهي فعلة صنم الصفا وهي صخرة كانت لهذيل وخزاعة وفيه مسائل
المسألة الأولى الآخر لا يصح أن يقال إلا إذا كان الأول مشاركاً للثاني فلا يقال رأيت امرأة ورجلاً آخر ويقال رأيت رجلاً ورجلاً آخر لاشتراك الأول والثاني في كونهما من الرجال وههنا قوله الثَّالِثَة َ الاْخْرَى يقتضي على ما ذكرنا أن تكون العزى ثالثة أولى ومناة ثالثة أخرى وليس كذلك والجواب عنه من وجوه الأول الأخرى كما هي تستعمل للذم قال الله تعالى قَالَتْ أُولَاهُمْ لاِخْرَاهُمْ ( الأعراف 39 ) أي لمتأخرتهم وهم الأتباع ويقال لهم الأذناب لتأخرهم في المراتب فهي صفة ذم كأنه تعالى يقول ومناة الثالثة المتأخرة الذليلة ونقول على هذا للأصنام الثلاثة ترتيب وذلك لأن الأول كان وثناً على صورة آدمي والعزى صورتها صورة نبات ومناة صورتها صورة صخرة هي جماد فالآدمي أشرف من النبات والنبات أشرف من الجماد فالجماد متأخر والمناة جماد فهي في الأخريات من المراتب الجواب الثاني فيه محذوف تقديره أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى المعبودين بالباطل وَمَنَواة َ الثَّالِثَة َ المعبودة الأخرى والجواب الثالث هو أن الأصنام كان فيها كثرة واللاّت والعزى إذا أخذتا متقدمتين فكل صنمة توجد فهي ثالثة فهناك ثوالث فكأنه يقول لهما ثوالث كثيرة وهذه ثالثة أخرى وهذا كقول القائل يوماً ويوماً والجواب الرابع فيه تقديم وتأخير تقديره ومناة الأخرى الثالثة ويحتمل أن يقال الأخرى تستعمل لموهوم أو مفهوم وإن لم يكن مشهوراً ولا مذكوراً يقول من يكثر تأذيه من الناس إذا آذاه إنسان الآخر جاء يؤذينا وربما يسكت على قوله أنت الآخر
فيفهم غرضه كذلك ههنا
المسألة الثانية وهي في الترتيب أولى ما فائدة الفاء في قوله أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وقد استعمل في مواضع بغير الفاء قال تعالى أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ( الأحقاف 4 ) أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ ( فاطر 4 ) نقول لما قدم من عظمة آيات الله في ملكوته أن رسول الله إلى الرسل الذي يسد الآفاق ببعض أجنحته ويهلك المدائن بشدته وقوته لا يمكنه أن يتعدى السدرة في مقام جلال الله وعزته قال أفرأيتم هذه الأصنام مع زلتها وحقارتها شركاء الله مع ما تقدم فقال بالفاء أي عقيب ما سمعتم من عظمة آيات الله تعالى الكبرى ونفاذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى فانظروا إلى اللاّت والعزى تعلموا فساد ما ذهبتم إليه وعولتم عليه
المسألة الثالثة أين تتمة الكلام الذي يفيد فائدة ما نقول قد تقدم بيانه وهو أنه يقول هل رأيتم هذه حق الرؤية فإن رأيتموها علمتم أنها لا تصلح شركاء نظيره ما ذكرنا فيمن ينكر كون ضعيف يدعي ملكاً يقول لصاحبه أما تعرف فلاناً مقتصراً عليه مشيراً إلى بطلان ما يذهب إليه ثم قال تعالى
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاٍّ نثَى
وقد ذكرنا ما يجب ذكره في سورة والطور في قوله أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( الطور 39 ) ونعيد ههنا بعض ذلك أو ما يقرب منه فنقول لما ذكر اللاّت والعزى ومناة ولم يذكر شيئاً آخر قال إن هذه الأشياء التي رأيتموها وعرفتموها تجعلونها شركاء لله وقد سمعتم جلال الله وعظمته وإن الملائكة مع رفعتهم وعلوهم ينتهون إلى السدرة ويقفون هناك لا يبقى شك في كونهم بعيدين عن طريقة المعقول أكثر مما بعدوا عن طريقة المنقول فكأنهم قالوا نحن لا نشك أن شيئاً منها ليس مثلاً لله تعالى ولا قريباً من أن يماثله وإنما صورنا هذه الأشياء على صور الملائكة المعظمين الذين اعترف بهم الأنبياء وقالوا إنهم يرتقون ويقفون عند سدرة المنتهى ويرد عليهم الأمر والنهي وينهون إلى الله ما يصدر من عباده في أرضه وهم بنات الله فاتخذنا صوراً على صور الإناث وسميناها أسماء الإناث فاللاّت تأنيث اللوة وكان أصله أن يقال اللاهة لكن في التأنيث يوقف عليها فتصير اللاهة فأسقط إحدى الهاءين وبقيت الكلمة على حرفين أصليين وتاء التأنيث فجعلناها كالأصلية كما فعلنا بذات مال وذا مال والعزى تأنيث الأعز فقال لهم كيف جعلتم لله بنات وقد اعترفتم في أنفسكم أن البنات ناقصات والبنين كاملون والله كامل العظمة فالمنسوب إليه كيف جعلتموه ناقصاً وأنتم في غاية الحقارة والذلة حيث جعلتم أنفسكم أذل من خمار وعبد ثم صخرة وشجرة ثم نسبتم إلى أنفسكم الكامل فهذه القسمة جائزة على طريقكم أيضاً حيث أذللتم أنفسكم ونسبتم إليها الأعظم من الثقلين وأبغضتم البنات ونسبتموهن إلى الأعظم وهو الله تعالى وكان على عادتكم أن تجعلوا الأعظم للعظيم والأنقص للحقير فإذن أنتم خالفتم الفكر والعقل والعادة التي لكم
تِلْكَ إِذاً قِسْمَة ٌ ضِيزَى
فيه مسائل
المسألة الأولى تلك إشارة إلى ماذا نقول إلى محذوف تقديره تلك القسمة قسمة ضيزى أي غير عادلة ويحتمل أن يقال معناه تلك النسبة قسمة وذلك لأنهم ما قسموا وما قالوا لنا البنون وله البنات وإنما
نسبوا إلى الله البنات وكانوا يكرهونهن كما قال تعالى وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ( النحل 62 ) فلما نسبوا إلى الله البنات حصل من تلك النسبة قسمة جائزة وهذا الخلاف لا يرهق
المسألة الثانية إِذَا جواب ماذا نقول يحتمل وجوهاً الأول نسبتكم البنات إلى الله تعالى إذا كان لكم البنون قسمة ضيزى الثاني نسبتكم البنات إلى الله تعالى مع اعتقادكم أنهن ناقصات واختياركم البنين مع اعتقادكم أنهم كاملون إذا كنتم في غاية الحقارة والله تعالى في نهاية العظمة قسمة ضيزى فإن قيل ما أصل إِذَا قلنا هو إذا التي للظرف قطعت الإضافة عنها فحصل فيها تنوين وبيانه هو أنك تقول آتيك إذا طلعت الشمس فكأنك أضفت إذاً لطلوع الشمس وقلت آتيك وقت طلوع الشمس فإذا قال قائل آتيك فتقول له إذن أكرمك أي إذا أتيتني أكرمك فلما حذفت الإتيان لسبق ذكره في قول القائل أتيت بدله بتنوين وقلت إذن كما تقول وكلا آتيناه
المسألة الثالثة ضِيزَى قرىء بالهمزة وبغير همزة وعلى الأولى هي فعلى بكسر الفاء كذكرى على أنه مصدر وصف به كرجل عدل أي قسمة ضائزة وعلى القراءة الثانية هي فعلى وكان أصلها ضوزى لكن عين الكلمة كانت يائية فكسرت الفاء لتسلم العين عن القلب كذلك فعل ببيض فإن جمع أفعل فعل تقول أسود وسود وأحمر وحمر وتقول أبيض وبيض وكان الوزن بيض وكان يلزم منه قلب العين فكسرت الباء وتركت الباء على حالها وعلى هذا ضيزى للمبالغة من ضائزة تقول فاضل وأفضل وفاضلة وفضلى وكبير وأكبر وكبيرى وكبرى كذلك ضائز وضوز وضائزة وضوزى على هذا نقول أضوز من ضائز وضيزى من ضائزة فإن قيل قد قلت من قبل إن قوله أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ( الطور 39 ) ليس بمعنى إنكار الأمرين بل بمعنى إنكار الأول وإظهار النكر بالأمر الثاني كما تقول أتجعلون لله أنداداً وتعلمون أنه خلق كل ما سواه فإنه لا ينكر الثاني وههنا قوله تِلْكَ إِذاً قِسْمَة ٌ ضِيزَى دلّ على أنه أنكر الأمرين جميعاً نقول قد ذكرنا هناك أن الأمرين محتملان أما إنكار الأمرين فظاهر في المشهور أما إنكار الأول فثابت بوجوه وأما الثاني فلما ذكرنا أنه تعالى قال كيف تجعلون لله البنات وقد صار لكم البنون بقدرته كما قال تعالى يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ الشورى 49 ) ( خالق البنين لكم لا يكون له بنات وأما قوله تِلْكَ إِذاً قِسْمَة ٌ ضِيزَى فنقول قد بينا أن تلك عائدة إلى النسبة أي نسبتكم البنات إلى الله تعالى مع أن لكم البنين قسمة ضائزة فالمنكر تلك النسبة وإن كان المنكر القسمة نقول يجوز أن يكون تقديره أيجوز جعل البنات لله تعالى كما أن واحداً إذا كان بينه وبين شريكه شيء مشترك على السوية فيأخذ نصفه لنفسه ويعطي من النصف الباقي نصفه لظالمه ونصفه لصاحبه فقال هذه قسمة ضائزة لا لكونه أخذ النصف فذلك حقه بل لكونه لم يوصل إليه النصف الباقي
إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاٌّ نفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى
ثم قال تعالى إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ وفيه مباحث تدق عن إدراك اللغوي إن يكن عنده من العلوم حظ عظيم ولنذكر ما قيل فيه أولاً فنقول قيل معناه إن هي إلا
أسماء أي كونها إناثاً وكونها معبودات أسماء لا مسمى لها فإنها ليست بإناث حقيقة ولا معبودات وقيل أسماء أي قلتم بعضها عزى ولا عزة لها وقيل قلتم إنها آلهة وليست بآلهة والذي نقوله هو أن هذا جواب عن كلامهم وذلك على ما بينا أنهم قالوا نحن لا نشك في أن الله تعالى لم يلد كما تلد النساء ولم يولد كما تولد الرجال بالمجامعة والإحبال غير أنا رأينا لفظ الولد مستعملاً عند العرب في المسبب تقول بنت الجبل وبنت الشفة لما يظهر منهما ويوجد لكن الملائكة أولاد الله بمعنى أنهم وجدوا بسببه من غير واسطة فقلنا إنهم أولاده ثم إن الملائكة فيها تاء التأنيث فقلنا هم أولاد مؤنثة والولد المؤنث بنت فقلنا لهم بنات الله أي لا واسطة بينهم وبين الله تعالى في الإيجاد كما تقول الفلاسفة فقال تعالى هذه الأسماء استنبطتموها أنتم بهوى أنفسكم وأطلقتم على الله ما يوهم النقص وذلك غير جائز وقوله تعالى نَفْسٌ ياحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ اللَّهِ ( الزمر 56 ) وقوله ( بيده الخير ) أسماء موهمة غير أنه تعالى أنزلها وله أن يسمي نفسه بما اختار وليس لأحد أن يسمى بما يوهم النقص من غير ورود الشرع به ولنبين التفسير في مسائل
المسألة الأولى هِى َ ضمير عائد إلى ماذا نقول الظاهر أنها عائدة إلى أمر معلوم وهو الأسماء كأنه قال ما هذه الأسماء التي وضعتموها أنتم وهو المشهور ويحتمل أن يقال هي عائدة إلى الأصنام بأنفسها أي ما هذه الأصنام إلا أسماء وعلى هذا فهو على سبيل المبالغة والتجوز يقال لتحقير إنسان ما زيد إلا اسم وما الملك إلا اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة تعتبر في الكلام بين الناس ويؤيد هذا القول قوله تعالى مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء ( يوسف 40 ) أي ما هذه الأصنام إلا أسماء
المسألة الثانية ما الفائدة في قوله سَمَّيْتُمُوهَا مع أن جميع الأسماء وضعوها أو بعضها هم وضعوها ولم ينكر عليهم نقول المسألة مختلف فيها ولا يتم الذم إلا بقوله تعالى مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ وبيانه هو أن الأسماء إن أنزلها الله تعالى فلا كلام فيها وإن وضعها للتفاهم فينبغي أن لا يكون في ضمن تلك الفائدة مفسدة أعظم منها لكن إيهام النقص في صفات الله تعالى أعظم منها فالله تعالى ما جوّز وضع الأسماء للحقائق إلا حيث تسلم عن المحرم فلم يوجد في هذه الأسماء دليل نقلي ولا وجه عقلي لأن ارتكاب المفسدة العظيمة لأجل المنفعة القليلة لا يجوزه العاقل فإذاً مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ووضع الاسم لا يكون إلا بدليل نقلي أو عقلي وهو أنه يقع خالياً عن وجوه المضار الراجحة
المسألة الثالثة كيف قال سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ مع أن هذه الأسامي لأصنامهم كانت قبلهم نقول فيه لطيفة وهي أنهم لو قالوا ما سميناها وإنما هي موضوعة قبلنا قيل لهم كل من يطلق هذه الألفاظ فهو كالمبتدىء الواضع وذلك لأن الواضع الأول لهذه الأسماء لما لم يكن واضعاً بدليل عقلي لم يجب اتباعه فمن يطلق اللفظ لأن فلاناً أطلقه لا يصح منه كما لا يصح أن يقول أضلني الأعمى ولو قاله لقيل له بل أنت أضللت نفسك حيث اتبعت من عرفت أنه لا يصلح للاقتداء به
المسألة الرابعة الأسماء لا تسمى وإنما يسمى بها فكيف قال سَمَّيْتُمُوهَا نقول عنه جوابان أحدهما لغوي وهو أن التسمية وضع الاسم فكأنه قال أسماء وضعتموها فاستعمل سميتموها استعمال وضعتموها ويقال سميته زيداً وسميته يزيد فسميتموها بمعنى سميتم بها وثانيهما معنوي وهو أنه لو قال أسماء سميتم بها لكان هناك غير الاسم شيء يتعلق به الباء في قوله بِهَا لأن قول القائل سميت به يستدعي مفعولاً آخر
تقول سميت بزيد ابني أو عبدي أو غير ذلك فيكون قد جعل للأصنام اعتباراً وراء أسمائها وإذا قال إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أي وضعتموها في أنفسها لا مسميات لها لم يكن ذلك فإن قيل هذا باطل بقوله تعالى وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ( آل عمران 36 ) حيث لم يقل وإني سميتها بمريم ولم يكن ما ذكرت مقصوداً وإلا لكانت مريم غير ملتفت إليها كما قلت في الأصنام نقول بينهما بون عظيم وذلك لأن هناك قال سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ فذكر المفعولين فاعتبر حقيقة مريم بقوله سَمَّيْتُهَا واسمها بقوله مَرْيَمَ وأما ههنا فقال إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أي ما هناك إلا أسماء موضوعة فلم تعتبر الحقيقة ههنا واعتبرت في مريم
المسألة الخامسة مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ على أي وجه استعملت الباء في قوله بِهَا مِن سُلْطَانٍ نقول كما يستعمل القائل ارتحل فلان بأهله ومتاعه أي ارتحل ومعه الأهل والمتاع كذا ههنا
ثم قال تعالى إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء إِن تَتَّبِعُونَ بالتاء على الخطاب وهو ظاهر مناسب لقوله تعالى أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ على المغايبة وفيه وجهان أحدهما أن يكون الخطاب معهم لكنه يكون التفاتاً كأنه قطع الكلام معهم وقال لنبيه إنهم لا يتبعون إلا الظن فلا تلتفت إلى قولهم ثانيهما أن يكون المراد غيرهم وفيه احتمالان أحدهما أن يكون المراد آباءهم وتقديره هو أنه لما قال سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ كأنهم قالوا هذه ليست أسماء وضعناها نحن وإنما هي كسائر الأسماء تلقيناها ممن قبلنا من آبائنا فقال وسماها آباؤكم وما يتبعون إلا الظن فإن قيل كان ينبغي أن يكون بصيغة الماضي نقول وبصيغة المستقبل أيضاً كأنه يفرض الزمان بعد زمان الكلام كما في قوله تعالى وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ( الكهف 18 ) ثانيهما أن يكون المراد عامة الكفار كأنه قال إن يتبع الكافرون إلا الظن
المسألة الثانية ما معنى الظن وكيف ذمهم به وقد وجب علينا اتباعه في الفقه وقال ( صلى الله عليه وسلم ) عن الله تعالى ( أنا عند ظن عبدي بي ) نقول أما الظن فهو خلاف العلم وقد استعمل مجازاً مكان العلم والعلم مكانه وأصل العلم الظهور ومنه العلم والعالم وقد بينا في تفسير العالمين أن حروف ع ل م في تقاليبها فيها معنى الظهور ومنها لمع الآل إذا ظهر وميض السراب ولمع الغزال إذا عدا وكذا النعام وفيه الظهور وكذلك علمت والظن إذا كان في مقابلة العلم ففيه الخفاء ومنه بئر ظنون لا يدري أفيها ماء أم لا ومنه الظنين المتهم لا يدري ما يظن نقول يجوز بناء الأمر على الظن الغالب عند العجز عن درك اليقين والاعتقاد ليس كذلك لأن اليقين لم يتعذر علينا وإلى هذا إشارة بقول وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى ( النجم 23 ) أي اتبعوا الظن وقد أمكنهم الأخذ باليقين وفي العمل يمتنع ذلك أيضاً
المسألة الثالثة مَا في قوله تعالى وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ خبرية أو مصدرية نقول فيه وجهان أحدهما مصدرية كأنه قال إن يتبعون إلا الظن وهوى الأنفس فإن قيل ما الفائدة في العدول عن صريح المصدر إلى الفعل مع زيادة ما وفيه تطويل نقول فيه فائدة وإنها في أصل الوضع ثم نذكرها هنا فنقول إذا قال القائل أعجبني صنعك يعلم من الصيغة أن الإعجاب من مصدر قد تحقق وكذلك إذا قال أعجبني ما تصنع يعلم أن الإعجاب من مصدر هو فيه فلو قال أعجبني صنعك وله صنع أمس وصنع اليوم لا يعلم أن المعجب أي صنع هو إذا علمت هذا فنقول ههنا قوله وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ يعلم منه أن المراد أنهم يتبعون
ما تهوى أنفسهم في الحال والاستقبال إشارة إلى أنهم ليسوا بثابتين على ضلال واحد وما هوت أنفسهم في الماضي شيئاً من أنواع العبادة فالتزموا به وداموا عليه بل كل يوم هم يستخرجون عبادة وإذا انكسرت أصنامهم اليوم أتوا بغيرها غداً ويغيرون وضع عبادتهم بمقتضى شهوتهم اليوم ثانيهما أنها خبرية تقديره والذي تشتهيه أنفسهم والفرق بين المصدرية والخبرية أن المتبع على الأول الهوى وعلى الثاني مقتضى الهوى كما إذا قلت أعجبني مصنوعك
المسألة الرابعة كيف قال وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ بلفظ الجمع مع أنهم لا يتبعون ما تهواه كل نفس فإن من النفوس ما لا تهوى ما تهواه غيرها نقول هو من باب مقابلة الجمع بالجمع معناه اتبع كل واحد منهم ما تهواه نفسه يقال خرج الناس بأهليهم أي كل واحد بأهله لا كل واحد بأهل الجمع
المسألة الخامسة بيّن لنا معنى الكلام جملة نقول قوله تعالى إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ أمران مذكوران يحتمل أن يكون ذكرهما لأمرين تقدير بين يتبعون الظن في الاعتقاد ويتبعون ما تهوى الأنفس في العمل والعبادة وكلاهما فاسد لأن الاعتقاد ينبغي أن يكون مبناه على اليقين وكيف يجوز اتباع الظن في الأمر العظيم وكلما كان الأمر أشرف وأخطر كان الاحتياط فيه أوجب وأحذر وأما العمل فالعبادة مخالفة الهوى فكيف تنبىء على متابعته ويحتمل أن يكون في أمر واحد على طريقة النزول درجة درجة فقال إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ أي وما دون الظن لأن القرونة تهوى ما لا يظن به خير وقوله تعالى وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الْهُدَى ( النجم 23 ) إشارة إلى أنهم على حال لا يعتد به لأن اليقين مقدور عليه وتحقق بمجيء الرسل وَالْهَدْى َ فيه وجوه ثلاثة الأولى القرآن الثاني الرسل الثالث المعجزات
أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى
ثم قال تعالى أَمْ لِلإنسَانِ مَا تَمَنَّى المشهور أن أم منقطعة معناه أللإنسان ما اختاره واشتهاه وفي مَا تَمَنَّى وجوه الأولى الشفاعة تمنوها وليس لهم شفاعة الثاني قولهم وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت 50 ) الثالث قول الوليد بن المغيرة لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ( مريم 77 ) الرابع تمنى جماعة أن يكونوا أنبياء ولم تحصل لهم تلك الدرجة الرفيعة فإن قلت هل يمكن أن تكون أم ههنا متصلة نقول نعم والجملة الأولى حينئذ تحتمل وجهين أحدهما أنها مذكورة في قوله تعالى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الاْنثَى ( النجم 21 ) كأنه قال ألكم الذكر وله الأنثى على الحقيقة أو تجعلون لأنفسكم ما تشتهون وتتمنون وعلى هذا فقوله تلك إِذاً قِسْمَة ٌ ضِيزَى ( النجم 22 ) وغيرها جمل اعترضت بين كلامين متصلين ثانيهما أنها محذوفة وتقرير ذلك هو أنا بينا أن قوله أَفَرَءيْتُمُ ( النجم 19 ) لبيان فساد قولهم والإشارة إلى ظهور ذلك من غير دليل كما إذا قال قائل فلان يصلح للملك فيقول آخر لثالث أما رأيت هذا الذي يقوله فلان ولا يذكر أنه لا يصلح للملك ويكون مراده ذلك فيذكره وحده منهاً على عدم صلاحه فههنا قال تعالى أَفَرَءيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى أي يستحقان العبادة أم للإنسان أن يعبد ما يشتهيه طبعه وإن لم يكن يستحق العبادة وعلى هذا فقوله أم للإنسان أي هل له أن يعبد بالتمنى والاشتهاء ويؤيد هذا قوله تعالى وَمَا تَهْوَى الاْنفُسُ أي عبدتم بهوى أنفسكم ما لا يستحق العبادة فهل لكم ذلك
فَلِلَّهِ الاٌّ خِرَة ُ والاٍّ ولَى
ثم قال تعالى فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ والاْولَى وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعلق الفاء بالكلام وفيه وجوه الأولى أن تقديره الإنسان إذا اختار معبوداً في دنياه على ما تمناه واشتهاه فلله الآخرة والأولى يعاقبه على فعله في الدنيا وإن لم يعاقبه في الدنيا فيعاقبه في الآخرة وقوله تعالى وَكَمْ مّن مَّلَكٍ إلى قوله تعالى لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ ( النجم 26 ) يكون مؤكداً لهذا المعنى أي عقابهم يقع ولا يشفع فيهم أحد ولا يغنيهم شفاعة شافع الثاني أنه تعالى لما بيّن أن اتخاذ اللاّت والعزى باتباع الظن وهوى الأنفس كأنه قرره وقال إن لم تعلموا هذا فلله الآخرة والأولى وهذه الأصنام ليس لها من الأمر شيء فكيف يجوز الإشراك وقوله تعالى وَكَمْ مّن مَّلَكٍ على هذا الوجه جواب كلام كأنهم قالوا لا نشرك بالله شيئاً وإنما هذه الأصنام شفعاؤنا فإنها صورة ملائكة مقربين فقال وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً الثالث هذه تسلية كأنه تعالى قال ذلك لنبيه حيث بيّن رسالته ووحدانية الله ولم يؤمنوا فقال لا تأس فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ والاْولَى أي لا يعجزون الله الرابع هو ترتيب حق على دليله بيانه هو أنه تعالى لما بيّن رسالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْى ٌ يُوحَى ( النجم 4 ) إلى آخره وبيّن بعض ما جاء به محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو التوحيد قال إذاعلمتم صدق محمد ببيان رسالة الله تعالى فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ والاْولَى لأنه ( صلى الله عليه وسلم ) أخبركم عن الحشر فهو صادق الخامس هو أن الكفار كانوا يقولون للمؤمنين أهؤلاء أهدى منا وقالوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) فقال تعالى إن الله اختار لكم الدنيا وأعطاكم الأموال ولم يعط المؤمنين بعض ذلك الأمر بل قلتم لو شاء الله لأغناهم وتحققتم هذه القضية فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ والاْولَى قولوا في الآخرة ما قلتم في الدنيا يهدي الله من يشاء كما يغني الله ما يشاء
المسألة الثانية الاْخِرَة َ صفة ماذا نقول صفة الحياة أو صفة الدار وهي اسم فاعل من فعل غير مستعمل تقول أخرته فتأخر وكان من حقه أن تقول فأخر كما تقول غبرته فغبر فمنعت منه سماعاً ولهذا البحث فائدة ستأتي إن شاء الله
المسألة الثالثة الاْولَى فعلى للتأنيث فالأول إذن أفعل صفة وفيه مباحث
البحث الأول لا بد من فاعل أخذ منه الأفعل والفعلى فإن كل فعلى وأفعل للتأنيث والتذكير له أصل فليؤخذ منه كالفضلى والأفضل من الفاضلة والفاضل فما ذلك نقول ههنا أخذ من أصل غير مستعمل كما قلنا إن الآخر فاعل من فعل غير مستعمل وسبب ذلك هو أن كل فعل مستعمل فله آخر وذلك لأن له ماضياً فإذا استعملت ماضيه لزم فراغ الفعل وإلا لكان الفاعل بعد في الفعل فلا يكون ماضياً فإنك لا تقول لمن هو بعد الأكل أكل إلا متجوزاً عندما يبقى له قليل فيقول أكل إشارة إلى أن ما بقي غير معتد به وتقول لمن قرب من الفراغ فرغت فيقول فرغت بمعنى أن ما بقي قليل لا يعتد به فكأني فرغت وأما الماضي في الحقيقة لا يصح إلا عند تمام الشيء والفراغ عنه فإذاً للفعل المستعمل آخر فلو كان لقولنا آخر على وزن فاعل فعل هو آخر يأخر كأمر يأمر لكان معناه صدر مصدره كجلس معناه صدر الجلوس منه بالتمام والكمال فكان ينبغي أن القائل إذا قال فلان آخر كان معناه وجد منه تمام الآخرية وفرغ منها فلا يكون بعد ما يكون آخر لكن تقدم أن كل فعل فله آخر بعده لا يقال يشكل بقولنا تأخر فإن معناه صار آخراً لأنا نقول وزن الفعل ينادي
على صحة ما ذكرنا فإنه من باب التكلف والتكبر إذا استعمل في غير المتكبر أي يرى أنه آخر وليس في الحقيقة كذلك إذا علمت هذا فنقول الآخر فاعل ليس له فعل ومبالغته بأفعل وهو كقولنا أأُخر فنقلت الهمزة إلى مكان الألف والألف إلى مكان الهمزة فصارت الألف همزة والهمزة ألفاً ويدل عليه التأويل في المعنى فإن آخر الشيء جزء منه متصل به والآخر مباين عنه منفصل والمنفصل بعد المتصل والآخر أشد تأخراً عن الشيء من آخره والأول أفعل ليس له فاعل وليس له فعل والأول أبعد عن الفعل من الآخر وذلك لأن الفعل الماضي علم له آخر من وصفه بالماضي ولولا ذلك الوصف لما علم له آخر وأما الفعل لتفسير كونه فعلاً علم له أول لأن الفعل لا بد له من فاعل يقوم به أو يوجد منه فإذا الفاعل أولاً ثم الفعل فإذا كان الفاعل أول الفعل كيف يكون الأول له فعل يوجد منه فلا فعل له ولا فاعل فلا يقال آل الشيء بمعنى سبق كما يقال قال من القول أو نال من النيل لا يقال إن قولنا سبق أخذ منه السابق ومن السابق الأسبق مع أن الفاعل يسبق الفعل وكذلك يقال تقدم الشيء مع أن الفاعل متقدم على الفعل إلى غير ذلك نقول أما تقدم قد مضى الجواب عنه في تأخر وأما سبق يقول القائل سابقته فسبقته فجيب عنه بأن ذلك مفتقر إلى أمر يصدر من فاعل فالسابق إن استعمل في الأول فهو بطريق المشابهة لا بطريق الحقيقة والفاعل أول الفعل بمعنى قبل الفعل وليس سابق الفعل لأن الفاعل والفعل لا يتسابقان فالفاعل لا يسبقه والذي يوضح ما ذكرنا أن الآخر أبعد من الأول عن الفعل بخلاف الآخر وما يقال إن أول بمعنى جعل الآخر أولاً لاستخراج معنى من الكلام فبعيد وإلا لم يكن آخر دونه في إفادة ذلك بل التأويل من آل شيء إذا رجع أي رجعه إلى المعنى المراد وأبعد من اللفظين قبل وبعد فإن الآخر فاعل من غير فعل والأول أفعل من غير فاعل ولا فعل وقبل وبعد لا فاعل ولا أفعل فلا يفهم من فعل أصلاً لأن الأول أول لما فيه من معنى قبل وليس قبل قبلاً لما فيه من معنى الأول والآخر آخر لما فيه من معنى بعد وليس بعد بعداً لما فيه من معنى الآخر يدلك عليه أنك تعلل أحدهما بالآخر ولا تعكسه فتقول هذا آخر من جاء لأنه جاء بعد الكل ولا تقول هو جاء بعد الكل لأنه آخر من جاء ويؤيده أن الآخر لا يتحقق إلا ببعدية مخصوصة وهي التي لا بعدية بعدها وبعد ليس لا يتحقق إلا بالآخر فإن المتوسط بعد الأول ليس بآخر وهذا البحث من أبحاث الزمان ومنه يعلم معنى قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تسبوا الدهر ( فإن الدهر هو الله ) ) أي الدهر هو الذي يفهم منه القبلية والبعدية والله تعالى هو الذي يفهم منه ذلك والبعدية والقبلية حقيقة لإثبات الله ولا مفهوم للزمان إلا ما به القبلية والبعدية فلا تسبوا الدهر فإن ما تفهمونه منه لا يتحقق إلا في الله وبالله ولولاه لما كان قبل ولا بعد
البحث الثاني ورد في كلام العرب الأولة تأنيث الأول وهو ينافيه صحة استعمال الأولى لأن الأولى تدل على أن الأول أفعل للتفصيل وأفعل للتفضيل لا يلحقه تاء التأنيث فلا يقال زيد أعلم وزينب أعلمة لسبب يطول ذكره وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى نقول الجواب عنه هو أن أول لما كان أفعل وليس له فاعل شابه الأربع والأرنب فجاز إلحاق التاء به ولما كان صفة شابه الأكبر والأصغر فقيل أولى
المسألة الرابعة أولى تدل على أن أول لا ينصرف فكيف يقال أفعله أولاً ويقال جاء زيداً أولاً وعمرو ثانياً فإن قيل جاز فيه الأمران بناء على أولة وأولى فمن قال بأن تأنيث أول أولة فهو كالأربع والأربعة فجاز التنوين ومن قال أولى لا يجوز نقول إذا كان كذلك كان الأشهر ترك التنوين لأن الأشهر أن تأنيثه أولى
وعليه استعمال القرآن فإذن الجواب أن عند التأنيث الأولى أن يقال أولى نظراً إلى المعنى وعند العرب أولة لأنه هو الأصل ودل عليه دليل وإن كان أضعف من الغير وربما يقال بأن منع الصرف من أفعل لا يكون إلا إذا لم يكن تأنيثه إلا فعلى وأما إذا كان تأنيثه بالتاء أو جاز ذلك فيه لا يكون غير منصرف ثم قال تعالى
وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى
وقد علم وجه تعلقها بما قبلها في الوجوه المتقدمة في قوله تعالى فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ ( النجم 25 ) إن قلنا إن معناه أن اللات والعزى وغيرهما ليس لهم من الأمر شيء فَلِلَّهِ الاْخِرَة ُ والاْولَى فلا يجوز إشراكهم فيقولون نحن لا نشرك بالله شيئاً وإنما نقول هؤلاء شفعاؤنا فقال كيف تشفع هذه ومن في السماوات لا يملك الشفاعة وفيه مسائل
المسألة الأولى كَمْ كلمة تستعمل في المقادير إما لاستبانتها فتكون استفهامية كقولك كم ذراعاً طوله وكم رجلاً جاءك أي كم عدد الجائين تستبين المقدار وهي مثل كيف لاستبانة الأحوال وأي الاستبانة الأفراد وما لاستبانة الحقائق وإما لبيانها على الإجمال فتكون خبرية كقولك كم رجل أكرمني أي كثير منهم أكرموني غير أن عليه أسئلة الأول لم لم يجز إدخال من على الاستفهامية وجاز على الخبرية الثاني لم نصب مميز الاستفهامية وجر الذي للخبرية الثالث هي تستعمل في الخبرية في مقابلة رب فلم جعل اسماً مع أن رب حرف أما الجواب عن الأول فهو أن من يستعمل في الموضع المتعين بالإضافة تقول خاتم من فضة كما تقول خاتم فضة ولما لم تضف في الاستفهامية لم يجز استعمال ما يضاهيه وسنبين هذا الجواب والجواب عن السؤال الثاني هو أن نقول إن الأصل في المميز الإضافة وعن الثالث هو أن كم يدخل عليه حرف الجر فتقول إلى كم تصبر وفي كم يوم جئت وبكم رجل مررت ومن حيث المعنى إن كم إذا قرن بها من وجعل مميزه جمعاً كما في قول القائل كم من رجال خدمتهم ويكون معناه كثير من الرجال خدمتهم ورب وإن كانت للتقليل لكن لا تقوم مقام القليل فلا يمكن أن يقال في رب إنها عبارة عن قليل كما قلنا في كم إنه عبارة عن كثير
المسألة الثانية قال شفاعتهم على عود الضمير إلى المعنى ولو قال شفاعته لكان العود إلى اللفظ فيجوز أن يقال كم من رجل رأيته وكم من رجل رأيتهم فإن قلت هل بينهما فرق معنوي قلت نعم وهو أنه تعالى لما قال لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ ( النجم 26 ) يعني شفاعة الكل ولو قال شفاعته لكان معناه كثير من الملائكة كل واحد لا تغني شفاعته فربما كان يخطر ببال أحد أن شفاعتهم تغني إذا جمعت وعلى هذا ففي الكلام أمور كلها تشير إلى عظم الأمر أحدها كم فإنه للتكثير ثانيها لفظ الملك فإنه أشرف أجناس المخلوقات ثالثها في السماوات فإنها إشارة إلى علو منزلتهم ودنو مرتبتهم من مقر السعادة رابعها اجتماعهم على الأمر في قوله شَفَاعَتُهُمْ وكل ذلك لبيان فساد قولهم إن الأصنام يشفعون أي كيف تشفع مع حقارتها وضعفها ودناءة منزلتها فإن الجماد أخس الأجناس والملائكة أشرفها وهم في أعلى السماوات ولا تقبل شفاعة الملائكة
فكيف تقبل شفاعة الجمادات
المسألة الثالثة ما الفائدة في قوله تعالى وَكَمْ مّن مَّلَكٍ بمعنى كثير من الملائكة مع أن كل من في السماوات منهم لا يملك الشفاعة نقول المقصود الرد عليهم في قولهم هذه الأصنام تشفع وذلك لا يحصل ببيان أن ملكاً من الملائكة لا تقبل شفاعته فاكتفى بذكر الكثيرة ولم يقل ما منهم أحد يملك الشفاعة لأنه أقرب إلى المنازعة فيه من قوله كثير مع أن المقصود حاصل به ثم ههنا بحث وهو أن في بعض الصور يستعمل صيغة العموم والمراد الكثير وفي البعض يستعمل الكثير والمراد الكل وكلاهما على طريقة واحد وهو استقلال الباقي وعدم الاعتداد ففي قوله تعالى تُدَمّرُ كُلَّ شَى ْء ( الأحقاف 25 ) كأنه يجعل الخارج عن الحكم غير ملتفت إليه وفي قوله تعالى وَكَمْ مّن مَّلَكٍ وقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( النحل 75 ) وقوله أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ( سبأ 41 ) يجعل المخرج غير ملتفت إليه فيجعل كأنه ما أخرجه كالأمر الخارج عن الحكم كأنه ما خرج وذلك يختلف بختلاف المقصود من الكلام فإن كان الكلام مذكوراً لأمر فيه يبالغ يستعمل الكل مثاله يقال للملك كل الناس يدعون لك إذا كان الغرض بيان كثرة الدعاء له لا غير وإن كان الكلام مذكوراً لأمر خارج عنه لا يبالغ فيه لأن المقصود غيره فلا يستعمل الكل مثاله إذا قال الملك لمن قال له اغتنم دعائي كثير من الناس يدعون لي إشارة إلى عدم احتياجه إلى دعائه لا لبيان كثرة الدعاء له فكذلك ههنا
المسألة الرابعة قال لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ ولم يقل لا يشفعون مع أن دعواهم أن هؤلاء شفعاؤنا لا أن شفاعتهم تنفع أو تغني وقال تعالى في مواضع أخرى مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) فنفي الشفاعة بدون الإذن وقال مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ نفى الشفيع وههنا نفى الإغناء نقول هم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا وكانوا يعتقدون نفع شفاعتهم كما قال تعالى لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( الزمر 3 ) ثم نقول نفي دعواهم يشتمل على فائدة عظيمة أما نفي دعواهم لأنهم قالوا الأصنام تشفع لنا شفاعة مقربة مغنية فقال لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ بدليل أن شفاعة الملائكة لا تغني وأما الفائدة فلأنه لما استثنى بقوله إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ أي فيشفع ولكن لا يكون فيه بيان أنها تقبل وتغني أو لا تقبل فإذا قال لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ ثم قال إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ فيكون معناه تغني فيحصل البشارة لأنه تعالى قال الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ( غافر 7 ) وقال تعالى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الاْرْضِ ( الشورى 5 ) والاستغفار شفاعة
وأما قوله مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ( البقرة 255 ) فليس المراد نفي الشفاعة وقبولها كما في هذه الآية حيث رد عليهم قولهم وإنما المراد عظمة الله تعالى وأنه لا ينطق في حضرته أحد ولا يتكلم كما في قوله تعالى لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ
المسألة الخامسة اللام في قوله لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى تحتمل وجهين أحدهما أن تتعلق بالإذن وهو على طريقين أحدهما أن يقال إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة في الشفاعة لمن يشاء الشفاعة ويرضى الثاني أن يكون الإذن في المشفوع له لأن الإذن حاصل للكل في الشفاعة للمؤمنين لأنهم جميعهم يستغفرون لهم فلا معنى للتخصيص ويمكن أن ينازع فيه وثانيهما أن تتعلق بالإغناء يعني إلا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة فتغني شفاعتهم لمن يشاء ويمكن أن يقال بأن هذا بعيد لأن ذلك
يقتضي أن تشفع الملائكة والإغناء لا يحصل إلا لمن يشاء فيجاب عنه بأن التنبيه على معنى عظمة الله تعالى فإن الملك إذا شفع فالله تعالى على مشيئته بعد شفاعتهم يغفر لمن يشاء
المسألة السادسة ما الفائدة في قوله تعالى وَيَرْضَى نقول فيه فائدة الإرشاد وذلك لأنه لما قال لِمَن يَشَاء كان المكلف متردداً لا يعلم مشيئته فقال وَيَرْضَى ليعلم أنه العابد الشاكر لا المعاند الكافر فإنه تعالى قال إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِى ٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ ( الزمر 7 ) فكأنه قال لِمَن يَشَاء ثم قال وَيَرْضَى بياناً لمن يشاء وجواب آخر على قولنا لا تغني شفاعتهم شيئاً ممن يشاء هو أن فاعل يرضى المدلول عليه لمن يشاء كأنه قال ويرضى هو أي تغنيه الشفاعة شيئاً صالحاً فيحصل به رضاه كما قال ويرضى هو أي تغنيه الشفاعة وحينئذ يكون يرضى للبيان لأنه لما قال لاَ تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ إشارة إلى نفي كل قليل وكثير كان اللازم عنده بالاستثناء أن شفاعتهم تغني شيئاً ولو كان قليلاً ويرضى المشفوع له ليعلم أنها تغني أكثر من اللازم بالاستثناء ويمكن أن يقال وَيَرْضَى لتبيين أن قوله يَشَاء ليس المراد المشيئة التي هي الرضا فإن الله تعالى إذا شاء الضلالة بعبد لم يرض به وإذا شاء الهداية رضي فقال لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى ليعلم أن المشيئة ليست هي المشيئة العامة إنما هي الخاصة ثم قال تعالى
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَة َ تَسْمِيَة َ الاٍّ نثَى
وقد بينا ذلك في سورة الطور واستدللنا بهذه الآية ونذكر ما يقرب منه ههنا فنقول الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ هم الذين لا يؤمنون بالرسل ولا يتبعون الشرع وإنما يتبعون ما يدعون أنه عقل فيقولون أسماء الله تعالى ليست توقيفية ويقولون الولد هو الموجود من الغير ويستدلون عليه بقول أهل اللغة كذا يتولد منه كذا يقال الزجاج يتولد من الآجر بمعنى يوجد منه وكذا القول في بنت الكرم وبنت الجبل ثم قالوا الملائكة وجدوا من الله تعالى فهم أولاده بمعنى الإيجاد ثم إنهم رأوا في الملائكة تاء التأنيث وصح عندهم أن يقال سجدت الملائكة فقالوا بنات الله فقال إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَة َ تَسْمِيَة َ الاْنثَى أي كما سمي الإناث بنات وفيه مسائل
المسألة الأولى كيف يصح أن يقال إنهم لا يؤمنون بالآخرة مع أنهم كانوا يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وكان من عادتهم أن يربطوا مركوباً على قبر من يموت ويعتقدون أنه يحشر عليه فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما أنهم لما كانوا لا يجزمون به كانوا يقولون لا حشر فإن كان فلنا شفعاء يدل عليه قوله تعالى وَمَا أَظُنُّ السَّاعَة َ قَائِمَة ً وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى ( فصلت 50 ) ثانيهما أنهم ما كانوا يعترفون بالآخرة على الوجه ( الحق ) وهو ما ورد به الرسل
المسألة الثانية قال بعض الناس أنثى فعلى من أفعل يقال في فعلها آنث ويقال في فاعلها أنبث يقال حديد ذكر وحديد أنيث والحق أن الأنثى يستعمل في الأكثر على خلاف ذلك بدليل جمعها على إناث
المسألة الثالثة كيف قال تسمية الأنثى ولم يقل تسمية الإناث نقول عنه جوابان أحدهما ظاهر والآخر دقيق أما الظاهر فهو أن المراد بيان الجنس وهذا اللفظ أليق بهذا الموضع لما جاء على وفقه آخر
الآيات والدقيق هو أنه لو قال يسمونهم تسمية الإناث كان يحتمل وجهين أحدهما البنات وثانيهما الأعلام المعتادة للإناث كعائشة وحفصة فإن تسمية الإناث كذلك تكون فإذا قال تسمية الأنثى تعين أن تكون للجنس وهي البنت والبنات ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنهم لما قيل لهم إن الصنم جماد لا يشفع وبيّن لهم إن أعظم أجناس الخلق لا شفاعة لهم إلا بالإذن قالوا نحن لا نعبد الأصنام لأنها جمادات وإنما نعبد الملائكة بعباتها فإنها على صورها وننصبها بين أيدينا ليذكرنا الشاهد والغائب فنعظم الملك الذي ثبت أنه مقرب عظيم الشأن رفيع المكان فقال تعالى رداً عليهم كيف تعظمونهم وأنتم تسمونهم تسمية الأنثى ثم ذكر فيه مستندهم في ذلك وهو لفظ الملائكة ولم يقل إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى بل قال لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَة َ فإنهم اغتروا بالتاء واغترارهم باطل لأن التاء تجيء لمعان غير التأنيث الحقيقي والبنت لا تطلق إلا على المؤنث الحقيقي بالإطلاق والتاء فيها لتأكيد معنى الجمع كما في صياقلة وهي تشبه تلك التاء وذلك لأن الملائكة في المشهور جمع ملك والملك اختصار من الملأك بحزف الهمزة والملأك قلب المألك من الألوكة وهي الرسالة فالملائكة على هذا القول مفاعلة والأصل مفاعل ورد إلى ملائكة في الجمع فهي تشبه فعائل وفعائلة والظاهر أن الملائكة فعائل جمع مليكي منسوب إلى المليك بدليل قوله تعالى عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ في وعد المؤمن وقال في وصف الملائكة الَّذِينَ عِندَ رَبّكَ ( الأعراف 206 ) وقال أيضاً في الوعد وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى ( ص 40 ) وقال في وصف الملائكة وَلاَ الْمَلَئِكَة ُ الْمُقَرَّبُونَ ( النساء 172 ) فهم إذن عباد مكرمون اختصهم الله بمزيد قربه وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النحل 50 ) كأمر الملوك والمستخدمين عند السلاطين الواقفين بأبوابهم منتظرين لورود أمر عليهم فهم منتسبون إلى المليك المقتدر في الحال فهم مليكيون وملائكة فالتاء للنسبة في الجمع كما في الصيارفة والبياطرة
فإن قيل هذا باطل من وجوه الأول أن أحداً لم يستعمل لواحد منهم مليكي كما استعمل صيرفي والثاني أن الإنسان عندما يصير عند الله تعالى يجب أن يكون من الملائكة وليس كذلك لأن المفهوم من الملائكة جنس غير الآدمي الثالث هو أن فعائلة في جمع فعيلى لم يسمع وإنما يقال فعيلة كما يقال جاء بالتميمة والحقيبة الرابع لو كان كذلك لما جمع ملك نقول
الجواب عن الأول أما عدم استعمال واحده فمسلم وهو لسبب وهو أن الملك كلما كان أعظم كان حكمه وخدمه وحشمه أكثر فإذا وصف بالعظمة وصف بالجمع فيقال صاحب العسكر الكثير ولا يوصف بواحد وصف تعظيم وأما ذلك الواحد فإن نسب إلى المليك عين للخبر بأن يقال هذا مليكي وذلك عندما تعرف عينه فتجعله مبتدأ وتخبر بالمليكي عنه والملائكة لم يعرفوا بأعيانهم إلا قليلاً منهم كجبريل وميكائيل وحينئذ لا فائدة في قولنا جبريل مليكي لأن من عرف الخبر ولا يصاغ الحمل إلا لبيان ثبوت الخبر للمبتدأ فلا يقال للإنسان حيوان أو جسم لأنه إيضاح واضح اللّهم إلا أن يستعمل ذلك في ضرب مثال أو في صورة نادرة لغرض وأما أن ينسب إلى المليك وهو مبتدأ فلا لأن العظمة في أن يقول واحد من الملائكة فنبه على كثرة المقربين إليه كما تقول واحد من أصحاب الملك ولا تقول صاحب الملك فإذا أردت التعظيم البالغ فعند الواحد استعمل اسم الملك غير منسوب بل هو موضوع لشدته وقوته كما قال تعالى ذُو مِرَّة ٍ ( النجم 6 ) و ذِى قُوَّة ٍ ( التكوير 20 ) فقال شَدِيدُ الْقُوَى ( النجم 5 ) و م ل ك تدل على الشدة في تقاليبها على ما عرف وعند
الجمع استعمل الملائكة للتعظيم كما قاله تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 )
الجواب عن الثاني نقول قد يكون الاسم في الأول لوصف يختص ببعض من يتصف به وغيره لو صار متصفاً بذلك الوصف لا يسمى بذلك الاسم كالدابة فاعلة من دب ولا يقال للمرأة ذات الدب دابة اسماً وربما يقال لها صفة عند حالة ما تدب بدب مخصوص غير الدب العام الذي في الكل كما لو دبت بليل لأخذ شيء أو غيره أو يقال إنما سميت الملائكة ملائكة لطول انتسابهم من قبل خلق الآدمي بسنين لا يعلم عددها إلا الله فمن لم يصل إلى الله ويقوم ببابه لا يحصل له العهد والانتساب فلا يسمى بذلك الاسم
الجواب عن الثالث نقول الجموع القياسية لا مانع لها كفعال في جمع فعل كجال وثمار وأفعال كأثقال وأشجار وفعلان وغيرها وأما السماع وإن لم يرد إلا قليلاً فاكتفى بما فيه من التعظيم من نسبة الجمع إلا باب الله ويكون من باب المرأة والنساء
الجواب عن الرابع فالمنع ولعل هذا منه أو نقول حمل فعيلى على فعيل في الجمع كما حمل فيعل في الجمع على فعيل فقيل في جمع جيد جياد ولا يقال في فعيل أفاعل ويؤيد ما ذكرنا أن إبليس عندما كان واقفاً بالباب كان داخلاً في جملة الملائكة فنقول قوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَة ِ اسْجُدُواْ لاِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ( الكهف 50 ) عندما صرف وأبعد خرج عنهم وصار من الجن
وأما ما قاله بعض أهل اللغة من أن الملائكة جمع ملأك وأصل ملأك مألك من الألوكة وهي الرسالة ففيه تعسفات أكثر مما ذكرنا بكثير منها أن الملك لا يكون فعل بل هو مفعل وهو خلاف الظاهر ولم لم يستعمل مآلك على أصله كمآرب ومآثم ومآكل وغيرها مما لا يعد إلا بتعسف ومنها أن ملكاً لم جعل ملأك ولم يفعل ذلك بأخواته التي ذكرناها ومنها أن التاء لم ألحقت بجمعه ولم لم يقل ملائك كما في جمع كل مفعل والذي يرد قولهم قوله تعالى جَاعِلِ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً ( فاطر 1 ) فهي غير الرسل فلا يصح أن يقال جعلت الملائكة رسلاً كما لا يصح جعلت الرسل مرسلين وجعل المقترب قريباً لأن الجعل لا بد فيه من تغيير ومما يدل على خلاف ما ذكروا أن الكل منسوبون إليه موقوفون بين يديه منتظرون أمره لورود الأوامر عليهم ثم قال تعالى
وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً
وفيما يعود إليه الضمير في بِهِ وجوه أحدها ما نقله الزمخشري وهو أنه عائد إلى ما كانوا يقولون من غير علم ثانيها أنه عائد إلى ما تقدم في الآية المتقدمة من علم أي ما لهم بالله من علم فيشركون وقرىء مَّا لَهُم بِهَا وفيه وجوه أيضاً أحدها ما لهم بالآخرة وثانيها ما لهم بالتسمية ثالثها ما لهم بالملائكة فإن قلنا ( ما لهم بالآخرة ) فهو جواب لما قلنا إنهم وإن كانوا يقولون الأصنام شفعاؤنا عند الله وكانوا يربطون الإبل على قبور الموتى ليركبوها لكن ما كانوا يقولون به عن علم وإن قلنا بالتسمية قد تكون وهو أن العلم بالتسمية حاصل لهم فإنهم يعلمون أنهم ليسوا في شك إذ التسمية قد تكون وضعاً أولياً وهو لا يكون بالظن بل بالعلم بأنه
وضع وقد يكون استعمالاً معنوياً ويتطرق إليه الكذب والصدق والعلم مثال الأول من وضع أولاً اسم السماء لموضوعها وقال هذا سماء مثال الثاني إذا قلنا بعد ذلك للماء والحجر هذا سماء فإنه كذب ومن يعتقده فهو جاهل وكذلك قولهم في الملائكة إنها بنات الله لم تكن تسمية وضعية وإنما أرادوا به أنهم موصوفون بأمر يجب استعمال لفظ البنات فيهم وذلك كذب ومعتقده جاهل فهذا هو المراد بما ذكرنا أن الظن يتبع في الأمور المصلحية والأفعال العرفية أو الشرعية عند عدم الوصول إلى اليقين وأما في الاعتقادات فلا يغني الظن شيئاً من الحق فإن قيل أليس الظن قد يصيب فكيف يحكم عليه بأنه لا يغني أصلاً نقول المكلف يحتاج إلى يقين يميز الحق من الباطل ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير لكن في الحق ينبغي أن يكون جازماً لاعتقاد مطابقه والظان لا يكون جازماً وفي الخير ربما يعتبر الظن في مواضع ويحتمل أن يقال المراد من الحق هو الله تعالى ومعناه أن الظن لا يفيد شيئاً من الله تعالى أي الأوصاف الإلاهية لا تستخرج بالظنون يدل عليه قوله تعالى ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ( الحج 6 ) وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى في ثلاثة مواضع منع من الظن وفي جميع تلك المواضع كان المنع عقيب التسمية والدعاء باسم موضعان منها في هذه السورة أحدهما قوله تعالى إِنْ هِى َ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( النجم 23 ) والثاني قوله تعالى وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالاْلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ الظَّنّ ( الحجرات 11 12 ) عقيب الدعاء بالقلب وكل ذلك دليل على أن حفظ اللسان أولى من حفظ غيره من الأركان وأن الكذب أقبح من السيئات الظاهرة من الأيدي والأرجل وهذه المواضع الثلاثة أحدها مدح من لا يستحق المدح كاللاّت والعزى من العز وثانيها ذم من لا يستحق الذم وهم الملائكة الذين هم عباد الرحمن يسمونهم تسمية الأنثى وثالثها ذم من لم يعلم حاله وأما مدح من حاله لا يعلم فلم يقل فيه لا يتبعون إلا الظن بل الظن فيه معتبر والأخذ بظاهر حال العاقل واجب ثم قال تعالى
فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا
أي اترك مجادلتهم فقد بلغت وأتيت بما كان عليك وأكثر المفسرين يقولون بأن كل ما في القرآن من قوله تعالى فَأَعْرَضَ منسوخ بآية القتل وهو باطل فإن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ به وذلك لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان مأموراً بالدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم قيل له وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِى َ أَحْسَنُ ( النحل 125 ) ثم لما لم ينفع قال له ربه فأعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان فإنهم لا يتبعون إلا الظن ولا يتبعون الحق وقابلهم بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقابلة فكيف يكون منسوخاً والإعراض من باب أشكاه والهمزة فيه للسلب كأنه قال أزل العرض ولا تعرض عليهم بعد هذا أمراً وقوله تعالى مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا لبيان تقديم فائدة العرض والمناظرة لأن من لا يصغي إلى القول كيف يفهم معناه وفي ذِكْرِنَا وجوه الأول القرآن الثاني الدليل والبرهان الثالث ذكر الله تعالى فإن من لا ينظر في الشيء كيف يعرف صفاته وهم كانوا يقولون نحن لا نتفكر في آلاء الله لعدم تعلقنا بالله وإنما أمرنا مع من خلقنا وهم الملائكة أو الدهر على اختلاف أقاويلهم وتباين أباطيلهم وقوله تعالى وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواة َ الدُّنْيَا إشارة إلى إنكارهم الحشر كما قالوا إِنْ هِى َ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ( المؤمنون 37 ) وقال تعالى
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ( التوبة 38 ) يعني لم يثبتوا وراءها شيئاً آخر يعملون له فقوله مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا إشارة إلى إنكارهم الحشر لأنه إذا ترك النظر في آلاء الله تعالى لا يعرفه فلا يتبع رسوله فلا ينفعه كلامه وإذا لم يقل بالحشر والحساب لا يخاف فلا يرجع عما هو عليه فلا يبقى إذن فائدة في الدعاء واعلم أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان طبيب القلوب فأتى على ترتيب الأطباء وترتيبهم أن الحال إذا أمكن إصلاحه بالغذاء لا يستعملون الدواء وما أمكن إصلاحه بالدواء الضعيف لا يستعملون الدواء القوي ثم إذا عجزوا عن المداواة بالمشروبات وغيرها عدلوا إلى الحديد والكي وقيل آخر الدواء الكي فالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أولاً أمر القلوب بذكر الله فحسب فإن بذكر الله تطمئن القلوب كما أن بالغذاء تطمئن النفوس فالذكر غذاء القلب ولهذا قال أولاً قولوا لا إلاه إلا الله أمر بالذكر لمن انتفع مثل أبي بكر وغيره ممن انتفع ومن لم ينتفع ذكر لهم الدليل وقال أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ ( الأعراف 184 ) قُلِ انظُرُواْ ( يونس 101 ) أَفَلاَ يَنظُرُونَ ( الغاشيه 17 ) إلى غير ذلك ثم أتى بالوعيد والتهديد فلما لم ينفعهم قال أعرض عن المعالجة واقطع الفاسد لئلا يفسد الصالح
بداية الجزء التاسع والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى
ثم قال تعالى ذالِكَ مبلغهم من العلم ذالِكَ فيه وجوه الأول أظهرها أنه عائد إلى الظن أي غاية ما يبلغون به أنهم يأخذون بالظن وثانيها إيثار الحياة الدنيا مبلغهم من العلم أي ذلك الإيثار غاية ما بلغوه من العلم ثالثها فَأَعْرَضَ الَّذِى تَوَلَّى ( النجم 29 ) وذلك الإعراض غاية ما بلغوه من العلم والعلم على هذا يكون المراد منه العلم بالمعلوم وتكون الألف واللام للتعريف والعلم بالمعلوم هو ما في القرآن وتقرير هذا أن القرآن لما ورد بعضهم تلقاه بالقبول وانشرح صدره فبلغ الغاية القصوى وبعضهم قبله من حيث إنه معجزة واتبع الرسول فبلغ الدرجة الوسطى وبعضهم توقف فيه كأبي طالب وذلك أدنى المراتب وبعضهم رده وعابه فالأولون لم يجز الإعراض عنهم والآخرون وجب الإعراض عنهم وكان موضع بلوغه من العلم أنه قطع الكلام معه الإعراض عنه وعليه سؤال وهو أن الله تعالى بين أن غايتهم ذلك ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها والمجنون الذي لا علم له والصبي لا يؤمر بما فوق احتماله فكيف يعاقبهم الله
نقول ذكر قبل ذلك أنهم تولوا عن ذكر الله فكأن عدم علمهم لعدم قبولهم العلم وإنما قدر الله توليهم ليضاف الجهل إلى ذلك فيحقق العقاب قال الزمخشري ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ الْعِلْمِ كلام معترض بين كلامين والمتصل قوله تعالى ( فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ) وعلى ما ذكرنا المقصود لا يتم إلا به يكون كأنه تعالى قال أعرض عنهم فإن ذلك غايتهم ولا يوجد وراء ما ظهر منهم شيء وكأن قوله الَّذِى تَوَلَّى إشارة إلى قطع عذرهم بسبب الجهل فإن الجهل كان بالتولي وإيثار العاجل
ثم ابتدأ وقال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى وفي المناسبة وجوه الأول أنه تعالى لما قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أعرض وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شديد الميل إلى إيمان قومه وكان ربما هجس في خاطره أن في الذكرى بعد منفعة وربما يؤمن من الكافرين قوم آخرون من غير قتال فقال له إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ علم أنه يؤمن بمجرد الدعاء أحد من المكلفين وإنما ينفع فيهم أن يقع السيف والقتال فأعرض عن الجدال وأقبل على القتال وعلى هذا فقوله بِمَنِ اهْتَدَى أي علم في الأزل من ضل في تقديره ومن اهتدى فلا يشتبه عليه الأمران ولا يأس في الإعراض ويعد في العرف مصلحة ثانيها هو
على معنى قوله تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( سبأ 24 ) وقوله تعالى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ( الأعراف 87 ) ووجهه أنهم كانوا يقولون نحن على الهدى وأنتم مبطلون وأقام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الحجة عليهم فلم ينفعهم فقال تعالى أعرض عنهم وأجرك وقع على الله فإنه يعلم أنكم مهتدون ويعلم أنهم ضالون والمتناظران إذا تناظرا عند ملك قادر مقصودهم ظهور الأمر عند الملك فإن اعترف الخصم بالحق فذاك وإلا فغرض المصيب يظهر عند الملك فقال تعالى جادلت وأحسنت والله أعلم بالمحق من المبطل ثالثها أنه تعالى لما أمر نبيه بالإعراض وكان قد صدر منهم إيذاء عظيم وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتحمله رجاء أن يؤمنوا فنسخ جميع ذلك فلما لم يؤمنوا فكأنه قال سعيي وتحملي لإيذائهم وقع هباء فقال الله تعالى إن الله يعلم حال المضلين والمهتدين ( لله ما في السموات والأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا ) من المهتدين وفيه مسائل
المسألة الأولى هُوَ يسمى عماداً وفصلاً ولو قال إن ربك أعلم لتمَّ الكلام غير أن عند خلو الكلام عن هذا العماد ربما يتوقف السامع على سماع ما بعده ليعلم أن أَعْلَمُ خبر رَبَّكَ أو هو مع شيء آخر خبر مثاله لو قال إن زيداً أعلم منه عمرو يكون خبر زيد الجملة التي بعده فإن قال هُوَ أَعْلَمُ إنتفى ذلك التوهم
المسألة الثانية أَعْلَمُ يقتضي مفضلاً عليه يقال زيد أعلم من عمرو والله أعلم ممن نقول أفعل يجيء كثيراً بمعنى عالم لا عالم مثله وحينئذ إن كان هناك عالم فذلك مفضل عليه وإن لم يكن ففي الحقيقة هو العالم لا غير وفي كثير من المواضع أفعل في صفات الله بذلك المعنى يقال الله أكبر وفي الحقيقة لا كبير مثله ولا أكبر إلا هو والذي يناسب هذا أنه ورد في الدعوات يا أكرم الأكرمين كأنه قال لا أكرم مثلك وفي الحقيقة لا أكرم إلا هو وهذا معنى قول من يقول أَعْلَمُ بمعنى عالم بالمهتدي والضال ويمكن أن يقال أعلم من كل عالم بفرض عالم غيره
المسألة الثالثة علمته وعلمت به مستعملان قال الله تعالى في الأنعام هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ ( الأنعام 117 ) ثم ينبغي أن يكون المراد من المعلوم العلم إذا كان تعلقه بالمعلوم أقوى إما لقوة العلم وإما لظهور المعلوم وإما لتأكيد وجوب العلم به وإما لكون الفعل له قوة أما قوة العلم فكما في قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ ( المزمل 20 ) وقال أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ( العلق 14 ) لما كان علم الله تعالى تاماً شاملاً علقه بالمفعول الذي هو حال من أحوال عبده الذي هو بمرأى منه من غير حرف ولما كان علم العبد ضعيفاً حادثاً علقه بالمفعول الذي هو صفة من صفات الله تعالى الذي لا يحيط به علم البشر بالحرف أو لما كان كون الله رائياً لم يكن محسوساً به مشاهداً علق الفعل به بنفسه وبالآخر بالحرف وأما ظهور المعلوم فكما قال تعالى أَوَ لَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء ( الزمر 52 ) وهو معلوم ظاهر وأما تأكيد وجوب العلم به كما في قوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) ويمكن أن يقال هو من قبيل الظاهر وكذلك قوله تعالى وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ( التوبة 2 ) وأما قوة الفعل فقال تعالى عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ ( المزمل 20 ) وقال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى لما كان المستعمل صفة الفعل علقه بالمفعول بغير حرف وقال تعالى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن كما كان