كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
المسألة الثانية اختلفوا في أصل وَإِذْ أَنتُمْ فقيل ها تنبيه والأصل وَإِذْ أَنتُمْ وقيل أصله أَءنتُمْ فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم هرقت الماء وأرقت و هَؤُلاء مبني على الكسر وأصله أولاء دخلت عليه ها التنبيه وفيه لغتان القصر والمد فإن قيل أين خبر أنتم في قوله ها أنتم قلنا في ثلاثة أوجه الأول قال صاحب ( الكشاف ) ها للتنبيه و وَإِذْ أَنتُمْ مبتدأ و هَؤُلاء خبره و حَاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى بمعنى أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى وبيان حماقتكم وقلة عقولكم أنكم وإن جادلتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والثاني أن يكون أَنتُمْ مبتدأ وخبر هَؤُلاء بمعنى أولاء على معنى الذي وما بعده صلة له الثالث أن يكون أَنتُمْ مبتدأ وَهَؤُلاء عطف بيان وحاججتم خبره وتقديره أنتم يا هؤلاء حاججتم
المسألة الثالثة المراد من قوله هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ هو أنهم زعموا أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به وهو ادعاؤكم أن شريعة إبراهيم كانت مخالفة لشريعة محمد عليه السلام
ثم يحتمل في قوله تَعْقِلُونَ هأَنتُمْ هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ أنه لم يصفهم في العلم حقيقة وإنما أراد إنكم تستجيزون محاجته فيما تدعون علمه فكيف تحاجونه فيما لا علم لكم به ألبتة
ثم حقق ذلك بقوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ كيف كانت حال هذه الشرائع في المخالفة والموافقة وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ كيفية تلك الأحوال
ثم بيّن تعالى ذلك مفصلاً فقال مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا فكذبهم فيما ادعوه من موافقة لهما
ثم قال وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وقد سبق تفسير الحنيف في سورة البقرة
ثم قال وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وهو تعريض بكون النصارى مشركين في قولهم بإلاهية المسيح وبكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه
فإن قيل قولكم إبراهيم على دين الإسلام أتريدون به الموافقة في الأصول أو في الفروع فإن كان الأول لم يكن مختصاً بدين الإسلام بل نقطع بأن إبراهيم أيضاً على دين اليهود أعني ذلك الدين الذي جاء به موسى فكان أيضاً على دين النصارى أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى فإن أديان الأنبياء لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول وإن أردتم به الموافقة في الفروع فلزم أن لا يكون محمد عليه السلام صاحب الشرع البتة بل كان كالمقرر لدين غيره وأيضاً من المعلوم كالضرورة أن التعبد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيم عليه السلام فتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا وغير مشروعة في صلاتهم قلنا جاز أن يكون المراد به الموافقة في الأصول والغرض منه بيان إنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هم اليهود والنصارى في زماننا هذا وجاز أيضاً أن يقال المراد به الفروع وذلك لأن الله نسخ تلك الفروع بشرع
موسى ثم في زمن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نسخ شرع موسى عليه السلام الشريعة التي كانت ثابتة في زمن إبراهيم عليه السلام وعلى هذا التقدير يكون محمد عليه السلام صاحب الشريعة ثم لما كان غالب شرع محمد عليه السلام موافقاً لشرع إبراهيم عليه السلام فلو وقعت المخالفة في القليل لم يقدح ذلك في حصول الموافقة
ثم ذكر تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ فريقان أحدهما من اتبعه ممن تقدم والآخر النبي وسائر المؤمنين
ثم قال وَاللَّهُ وَلِى ُّ الْمُؤْمِنِينَ بالنصرة والمعونة والتوفيق والإعظام والإكرام
وَدَّت طَّآئِفَة ٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن من طريقة أهل الكتاب العدول عن الحق والإعراض عن قبول الحجة بيّن أنهم لا يقتصرون على هذا القدر بل يجتهدون في إضلال من آمن بالرسول عليه السلام بإلقاء الشبهات كقولهم إن محمداً عليه السلام مقر بموسى وعيسى ويدعي لنفسه النبوّة وأيضاً إن موسى عليه السلام أخبر في التوراة بأن شرعه لا يزول وأيضاً القول بالنسخ يفضي إلى البداء والغرض منه تنبيه المؤمنين على أن لا يغتروا بكلام اليهود ونظير قوله تعالى في سورة البقرة وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ( البقرة 109 ) وقوله وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ( النساء 89 )
واعلم أن مِنْ ههنا للتبعيض وإنما ذكر بعضهم ولم يعمهم لأن منهم من آمن وأثنى الله عليهم بقوله مّنْهُمْ أُمَّة ٌ مُّقْتَصِدَة ٌ ( المائدة 66 ) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ ( آل عمران 113 ) وقيل نزلت هذه الآية في معاذ وعمّار بن ياسر وحذيفة دعاهم اليهود إلى دينهم وإنما قال لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ولم يقل أن يضلوكم لأن لَوْ للتمني فإن قولك لو كان كذا يفيد التمني ونظيره قوله تعالى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة ٍ ( البقرة 96 )
ثم قال تعالى وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وهو يحتمل وجوهاً منها إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قصدهم إضلال الغير وهو كقوله وَمَا ظَلَمُونَا وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( البقرة 57 ) وقوله وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ( العنكبوت 13 ) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَة ً يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآء مَا يَزِرُونَ ( النحل 25 ) ومنها إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق لأن الذاهب عن الاهتداء يوصف بأنه ضال ومنها أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم فهم قد صاروا خائبين خاسرين حيث اعتقدوا شيئاً ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوروه
ثم قال تعالى وَمَا يَشْعُرُونَ أي ما يعلمون أن هذا يضرهم ولا يضر المؤمنين
ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن حال الطائفة التي لا تشعر بما في التوراة من دلالة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بيّن أيضاً حال الطائفة العارفة بذلك من أحبارهم
فقال يَشْعُرُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى لَمْ أصلها لما لأنها ما التي للاستفهام دخلت عليها اللام فحذفت الألف لطلب الخفة ولأن حرف الجر صار كالعوض عنها ولأنها وقعت طرفاً ويدل عليها الفتحة وعلى هذا قوله عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ( النبأ 1 ) و فَبِمَ تُبَشّرُونَ ( الحجر 54 ) والوقف على هذه الحروف يكون بالهاء نحو فبمه ولمه
المسألة الثانية في قوله لَّهُ مَقَالِيدُ وجوه الأول أن المراد منها الآيات الواردة في التوراة والإنجيل وعلى هذا القول فيه وجوه أحدها ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد عليه السلام ومنها ما في هذين الكتابين أن إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً مسلماً ومنها أن فيهما أن الدين هو الإسلام
واعلم أن على هذا القول المحتمل لهذه الوجوه نقول إن الكفر بالآيات يحتمل وجهين أحدهما أنهم ما كانوا كافرين بالتوراة بل كانوا كافرين بما يدل عليه التوراة فأطلق اسم الدليل على المدلول على سبيل المجاز والثاني أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة لأنهم كانوا يحرفونها وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
فأما قوله تعالى وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ فالمعنى على هذا القول أنهم عند حضور المسلمين وعند حضور عوامهم كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم إذا خلا بعضهم مع بعض شهدوا بصحتها ومثله قوله تعالى تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاء ( آل عمران 99 )
واعلم أن تفسير الآية بهذا القول يدل على اشتمال هذه الآية على الإخبار عن الغيب لأنه عليه الصلاة والسلام أخبرهم بما يكتمونه في أنفسهم ويظهرون غيره ولا شك أن الإخبار عن الغيب معجز
القول الثاني في تفسير آيات الله أنها هي القرآن وقوله وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ يعني أنكم تنكرون عند العوام كون القرآن معجزاً ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم كونه معجزاً
القول الثالث أن المراد بآيات الله جملة المعجزات التي ظهرت على يد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا القول فقوله تعالى وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ معناه أنكم إنما اعترفتم بدلالة المعجزات التي ظهرت على سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الدالة على صدقهم من حيث أن المعجز قائم مقام التصديق من الله تعالى فإذا شهدتهم بأن المعجز إنما دل على صدق سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هذا الوجه وأنتم تشهدون حصول هذا الوجه في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان إصراركم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتهم بحقيته من دلالة معجزات سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على صدقهم
ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ
اعلم أن علماء اليهود والنصارى كانت لهم حرفتان إحداهما أنهم كانوا يكفرون بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم كانوا يعلمون بقلوبهم أنه رسول حق من عند الله والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في الآية الأولى وثانيتهما إنهم كانوا يجتهدون في إلقاء الشبهات وفي إخفاء الدلائل والبينات والله تعالى نهاهم عن هذه الحرفة في هذه الآية الثانية فالمقام الأول مقام الغواية والضلالة والمقام الثاني مقام الإغواء والإضلال وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء تَلْبِسُونَ بالتشديد وقرأ يحيى بن و ثاب تَلْبِسُونَ بفتح الباء أي تلبسون الحق مع الباطل كقوله عليه السلام ( كلابس ثوبي زور ) وقوله
إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
المسألة الثانية اعلم أن الساعي في إخفاء الحق لا سبيل له إلى ذلك إلا من أحد وجهين إما بإلقاء شبهة تدل على الباطل وإما بإخفاء الدليل الذي يدل على الحق فقوله لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إشارة إلى المقام الأول وقوله وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ إشارة إلى المقام الثاني أما لبس الحق بالباطل فإنه يحتمل ههنا وجوهاً أحدها تحريف التوراة فيخلطون المنزل بالمحرف عن الحسن وابن زيد وثانيها إنهم تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس عن ابن عباس وقتادة وثالثها أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) من البشارة والنعت والصفة ويكون في التوراة أيضاً ما يوهم خلاف ذلك فيكون كالمحكم والمتشابه فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر كما يفعله كثير من المشبهة وهذا قول القاضي ورابعها أنهم كانوا يقولون محمداً معترف بأن موسى عليه السلام حق ثم إن التوراة دالة على أن شرع موسى عليه السلام لا ينسخ وكل ذلك إلقاء للشبهات
أما قوله تعالى وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ فالمراد أن الآيات الموجودة في التوراة الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان الاستدلال بها مفتقراً إلى التفكر والتأمل والقوم كانوا يجتهدون في إخفاء تلك الألفاظ التي كان بمجموعها يتم هذا الاستدلال مثل ما أن أهل البدعة في زماننا يسعون في أن لا يصل إلى عوامهم دلائل المحققين
أما قوله وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ففيه وجوه أحدها إنكم تعلمون أنكم إنما تفعلون ذلك عناداً وحسداً وثانيها وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ أي أنتم أرباب العلم والمعرفة لا أرباب الجهل والخرافة وثالثها وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ أن عقاب من يفعل مثل هذه الأفعال عظيم
المسألة الثالثة قال القاضي قوله تعالى لِمَ تَكْفُرُونَ و لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ دال على أن ذلك فعلهم لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم ثم يقول لم فعلتم وجوابه أن الفعل يتوقف على الداعية فتلك الداعية إن حدثت لا لمحدث لزم نفي الصانع وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى وإن كان محدثها هو الله تعالى لزمكم ما ألزمتموه علينا والله أعلم
وَقَالَت طَّآئِفَة ٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يلبسون الحق بالباطل أردف ذلك بأن حكى عنهم نوعاً واحداً من أنواع تلبيساتهم وهو المذكور في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى قول بعضهم لبعض وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ ويحتمل أن يكون المراد كل ما أنزل وأن يكون المراد بعض ما أنزل
أما الاحتمال الأول ففيه وجوه الأول أن اليهود والنصارى استخرجوا حيلة في تشكيك ضعفه المسلمين في صحة الإسلام وهو أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من الشرائع في بعض الأوقات ثم يظهروا بعد ذلك تكذيبه فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب قالوا هذا التكذيب ليس لأجل الحسد والعناد وإلا لما آمنوا به في أول الأمر وإذا لم يكن هذا التكذيب لأجل الحسد والعناد وجب أن يكون ذلك لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكروا في أمره واستقصوا في البحث عن دلائل نبوته فلاح لهم بعد التأمل التام والبحث الوافي أنه كذاب فيصير هذا الطريق شبهة لضعفة المسلمين في صحة نبوته وقيل تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار يهود خيبر على هذا الطريق
وقوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ معناه أنا متى ألقينا هذه الشبهة فلعل أصحابه يرجعون عن دينه
الوجه الثاني يحتمل أن يكون معنى الآية أن رؤساء اليهود والنصارى قال بعضهم لبعض نافقوا وأظهروا الوفاق للمؤمنين ولكن بشرط أن تثبتوا على دينكم إذا خلوتم بإخوانكم من أهل الكتاب فإن أمر هؤلاء المؤمنين في اضطراب فزجوا الأيام معهم بالنفاق فربما ضعف أمرهم واضمحل دينهم ويرجعوا إلى دينكم وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني ويدل عليه وجهان الأول أنه تعالى لما قال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ( النساء 137 ) أتبعه بقوله بَشّرِ الْمُنَافِقِينَ وهو بمنزلة قوله وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) الثاني أنه تعالى اتبع هذه الآية بقوله يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ فهذا يدل على أنهم نهوا عن غير دينهم الذي كانوا عليه فكان قولهم وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ أمر بالنفاق
الوجه الثالث قال الأصم قال بعضهم لبعض إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم لأن كثيراً مما جاء به حق ولكن صدقوه في بعض وكذبوه في بعض حتى يحمل الناس تكذيبكم له على الإنصاف لا على العناد فيقبلوا قولكم
الاحتمال الثاني أن يكون قوله وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ بعض ما أنزل الله والقائلون بهذا القول حملوه على أمر القبلة وذكروا فيه وجهين الأول قال ابن عباس وجه النهار أوله وهو صلاة الصبح واكفروا آخره يعني صلاة الظهر وتقريره أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي إلى بيت المقدس بعد أن قدم المدينة ففرح اليهود بذلك وطمعوا أن يكون منهم فلما حوله الله إلى الكعبة كان ذلك عند صلاة الظهر قال كعب بن الأشرف وغيره وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ يعني آمنوا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الصبح فهي الحق واكفروا بالقبلة التي صلّى إليها صلاة الظهر وهي آخر النهار وهي الكفر الثاني أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم فقال بعضهم لبعض صلوا إلى الكعبة في أول النهار ثم اكفروا بهذه القبلة في آخر النهار وصلوا إلى الصخرة لعلّهم يقولون إن أهل الكتاب أصحاب العلم فلولا أنهم عرفوا بطلان هذه القبلة لما تركوها فحينئذ يرجعون عن هذه القبلة
المسألة الثانية الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواضعهم على هذه الحيلة من وجوه الأول أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحداً من الأجانب فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً الثاني أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لهذه الحيلة أثر في قلوب المؤمنين ولولا هذا الإعلان لكان ربما أثرت هذه الحيلة في قلب بعض من كان في إيمانه ضعف الثالث أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعاً لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس
المسألة الثالثة وجه النهار هو أوله والوجه في اللغة هو مستقبل كل شيء لأنه أول ما يواجه منه كما يقال لأول الثوب وجه الثوب روى ثعلب عن ابن الأعرابي أتيته بوجه نهار وصدر نهار وشباب نهار أي أول النهار وأنشد الربيع بن زياد فقال من كان مسروراً بمقتل مالك
فليأت نسوتنا بوجه نهار
وَلاَ تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
اتفق المفسرون على أن هذا بقية كلام اليهود وفيه وجهان الأول المعنى ولا تصدقوا إلا نبياً يقرر
شرائع التوراة فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم وعلى هذا التفسير تكون اللام في قوله تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ صلة زائدة فإنه يقال صدقت فلاناً ولا يقال صدقت لفلان وكون هذه اللام صلة زائدة جائز كقوله تعالى رَدِفَ لَكُم ( النمل 72 ) والمراد ردفكم والثاني أنه ذكر قبل هذه الآية قوله وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
ثم قال في هذه الآية وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ أي لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم كأنهم قالوا ليس الغرض من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم فالمعنى ولا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل من تبع دينكم فإن مقصود كل واحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما معناه الدين دين الله ومثله في سورة البقرة قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ( البقرة 120 )
واعلم أنه لا بد من بيان أنه كيف صار هذا الكلام جواباً عما حكاه عنهم فنقول أما على الوجه الأول وهو قولهم لا دين إلا ما هم عليه فهذا الكلام إنما صلح جواباً عنه من حيث أن الذي هم عليه إنما ثبت ديناً من جهة الله لأنه تعالى أمر به وأرشد إليه وأوجب الانقياد له وإذا كان كذلك فمتى أمر بعد ذلك بغيره وأرشد إلى غيره وأوجب الانقياد إلى غيره كان نبياً يجب أن يتبع وإن كان مخالفاً لما تقدم لأن الدين إنما صار ديناً بحكمه وهدايته فحيثما كان حكمه وجبت متابعته ونظيره قوله تعالى جواباً لهم عن قولهم مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( البقرة 142 ) يعني الجهات كلها لله فله أن يحول القبلة إلى أي جهة شاء وأما على الوجه الثاني فالمعنى أن الهدى هدى الله وقد جئتكم به فلن ينفعكم في دفعه هذا الكيد الضعيف
ثم قال تعالى أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ
واعلم أن هذه الآية من المشكلات الصعبة فنقول هذا إما أن يكون من جملة كلام الله تعالى أو يكون من جملة كلام اليهود ومن تتمة قولهم ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقد ذهب إلى كل واحد من هذين الاحتمالين قوم من المفسرين
أما الاحتمال الأول ففيه وجوه الأول قرأ ابن كثير آن يؤتي بمد الألف على الاستفهام والباقون بفتح الألف من غير مد ولا استفهام فإن أخذنا بقراءة ابن كثير فالوجه ظاهر وذلك لأن هذه اللفظة موضوعة للتوبيخ كقوله تعالى أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( القلم 14 15 ) والمعنى أمن أجل أن يؤتي أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع ينكرون اتباعه ثم حذف الجواب للاختصار وهذا الحذف كثير يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه وتعديده عليه ذنوبه بعد كثرة إحسانه إليه أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت ونظيره قوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَحْمَة َ رَبّهِ ( الزمر 9 ) وهذا الوجه مروي عن مجاهد وعيسى بن عمر أما قراءة من قرأ بقصر الألف من ءانٍ فقد يمكن أيضاً حملها على معنى الاستفهام كما قرىء سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ ( البقرة 6 ) بالمد والقصر وكذا قوله أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ قرىء بالمد والقصر وقال امرؤ القيس
تروح من الحي أم تبتكر
وماذا عليك ولم تنتظر
أراد أروح من الحي فحذف ألف الاستفهام وإذا ثبت أن هذه القراءة محتملة لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى
الوجه الثاني أن أولئك لما قالوا لأتباعهم لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقول لهم إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ فلا تنكروا أَن يُؤْتِيَنِ أَحَدٌ سواكم من الهدى مّثْلُ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ يعني هؤلاء المسلمين بذلك عِندَ رَبّكُمْ إن لم تقبلوا ذلك منهم أقصى ما في الباب أنه يفتقر في هذا التأويل إلى إضمار قوله فلا تنكروا لأن عليه دليلاً وهو قوله إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ فإنه لما كان الهدى هدى الله كان له تعالى أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار
الوجه الثالث إن الهدى اسم للبيان كقوله تعالى وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ( فصلت 17 ) فقوله إِنَّ الْهُدَى مبتدأ وقوله هُدَى اللَّهِ بدل منه وقوله أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ خبر بإضمار حرف لا والتقدير قل يا محمد لا شك أن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان وأن لا يحاجوكم يعني هؤلاء اليهود عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم محقون وأنهم مضلون وهذا التأويل ليس فيه إلا أنه لا بد من إضمار حرف لا وهو جائز كما في قوله تعالى أَن تَضِلُّواْ ( النساء 44 ) أي أن لا تضلوا
الوجه الرابع الْهُدَى اسم و هُدَى اللَّهِ بدل منه و أَن يُؤْتَى أَحَدٌ خبره والتقدير إن هدى الله هو أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم وعلى هذا التأويل فقوله أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ لا بد فيه من إضمار والتقدير أو يحاجوكم عند ربكم فيقضى لكم عليهم والمعنى أن الهدى هو ما هديتكم به من دين الإسلام الذي من حاجكم به عندي قضيت لكم عليه وفي قوله عِندَ رَبّكُمْ ما يدل على هذا الإضمار ولأن حكمه بكونه رباً لهم يدل على كونه راضياً عنهم وذلك مشعر بأنه يحكم لهم ولا يحكم عليهم
والاحتمال الثاني أن يكون قوله أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ من تتمة كلام اليهود وفيه تقديم وتأخير والتقدير ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الهدى هدى الله وأن الفضل
بيد الله قالوا والمعنى لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم وأسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام
أما قوله أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ فهو عطف على أن يؤتى والضمير في يحاجوكم لأحد لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة وعندي أن هذا التفسير ضعيف وبيانه من وجوه الأول إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد عليه السلام كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم وأشياعهم عنه فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند أتباعهم وأشياعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب هذا في غاية البعد الثاني أن على هذا التقدير يختل النظم ويقع فيه تقديم وتأخير لا يليق بكلام الفصحاء والثالث إن على هذا التقدير لا بد من الحذف فإن التقدير قبل إن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله ولا بد من حذف قُلْ في قوله قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ الرابع إنه كيف وقع قوله قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ فيما بين جزأى كلام واحد فإن هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم قال القفال يحتمل أن يكون قوله قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ كلام أمر الله نبيه أن يقوله عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً لا جرم أدب رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يقابله بقول حق ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولاً فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة آمنت بالله أو يقول لا إلاه إلا الله أو يقول تعالى الله ثم يعود إلى تمام الحكاية فيكون قوله تعالى قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ من هذا الباب ثم أتى بعده بتمام قول اليهود إلى قوله أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ ثم أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بمحاجتهم في هذا وتنبيههم على بطلان قولهم فقيل له قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ إلى آخر الآية
الإشكال الخامس في هذه الوجوه أن الإيمان إذا كان بمعنى التصديق لا يتعدى إلى المصدق بحرف اللام لا يقال صدقت لزيد بل يقال صدقت زيداً فكان ينبغي أن يقال ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم وعلى هذا التقدير يحتاج إلى حذف اللام في قوله لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ويحتاج إلى إضمار الباء أو ما يجري مجراه في قوله أَن يُؤْتَى لأن التقدير ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم فقد اجتمع في هذا التفسير الحذف والإضمار وسوء النظم وفساد المعنى قال أبو علي الفارسي لا يبعد أن يحمل الإيمان على الإقرار فيكون المعنى ولا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم وعلى هذا التقدير لا تكون اللام زائدة لكن لا بد من إضمار حرف الباء أو ما يجري مجراه على كل حال فهذا محصل ما قيل في تفسير هذه الآية والله أعلم بمراده
ثم قال تعالى قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين أحدهما أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام
فأجاب عنه بقوله قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ والمعنى أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة قوة ولا أثر والثاني أنه حكى عنهم أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكم والنبوة
فأجاب عنه بقوله قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والمراد بالفضل الرسالة وهو في اللغة عبارة عن الزيادة وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير ثم كثر استعمال الفضل لكل نفع قصد به فاعله الإحسان إلى الغير وقوله بِيَدِ اللَّهِ أي إنه مالك له قادر عليه وقوله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء أي هو تفضل موقوف على مشيئته وهذا يدل على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق لأنه تعالى جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز وقوله وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ مؤكد لهذا المعنى لأن كونه واسعاً يدل على كمال القدرة وكونه عليماً على كمال العلم فيصح منه لمكان القدرة أن يتفضل على أي عبد شاء بأي تفضل شاء ويصح منه لمكان كمال العلم أن لا يكون شيء من أفعاله إلا على وجه الحكمة والصواب
ثم قال يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وهذا كالتأكيد لما تقدم والفرق بين هذه الآية وبين ما قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادة ثم إن الزيادة من جنس المزيد عليه فبيّن بقوله إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ إنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاهم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها ثم قال يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء والرحمة المضافة إلى الله سبحانه أمر أعلى من ذلك الفضل فإن هذه الرحمة ربما بلغت في الشرف وعلو الرتبة إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم بل تكون أعلى وأجل من أن تقاس إلى ما آتاهم ويحصل من مجموع الآيتين إنه لا نهاية لمراتب إعزاز الله وإكرامه لعباده وأن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة وعلى أشخاص معينين جهل بكمال الله في القدرة والحكمة
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الأول أنه تعالى حكى عنهم في الآية المتقدمة أنهم ادعوا أنهم أوتوا من المناصب الدينية ما لم يؤت أحد غيرهم مثله ثم إنه تعالى بيّن أن الخيانة مستقبحة عند جميع أرباب الأديان وهم مصرون عليها فدل هذا على كذبهم والثاني أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية المتقدمة قبائح أحوالهم فيما يتعلق بالأديان وهو أنهم قالوا لاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ( آل عمران 73 ) حكى في هذه الآية بعض قبائح أحوالهم فيما يتعلق بمعاملة الناس وهو إصرارهم على الخيانة والظلم وأخذ أموال الناس في القليل والكثير وههنا مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على انقسامهم إلى قسمين بعضهم أهل الأمانة وبعضهم أهل الخيانة وفيه أقوال الأول أن أهل الأمانة منهم هم الذين أسلموا أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أن يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين وأخذ أموالهم ونظير هذه الآية قوله تعالى لَيْسُواْ سَوَاء مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ( آل عمران 113 ) مع قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( آل عمران 110 ) الثاني أن أهل الأمانة هم النصارى وأهل الخيانة هم اليهود والدليل عليه ما ذكرنا أن مذهب اليهود أنه يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان الثالث قال ابن عباس أودع رجل عبد الله بن سلاّم ألفاً ومائتي أوقية من ذهب فأدى إليه
وأودع آخر فنحاص بن عازوراء ديناراً فخانه فنزلت الآية
المسألة الثانية يقال أمنته بكذا وعلى كذا كما يقال مررت به وعليه فمعنى الباء إلصاق الأمانة ومعنى على استعلاء الأمانة فمن اؤتمن على شيء فقد صار ذلك الشيء في معنى الملتصق به لقربه منه واتصاله بحفظه وحياطته وأيضاً صار المودع كالمستعلي على تلك الأمانة والمستولي عليها فلهذا حسن التعبير عن هذا المعنى بكلتا العبارتين وقيل إن معنى قولك أمنتك بدينار أي وثقت بك فيه وقولك أمنتك عليه أي جعلتك أميناً عليه وحافظاً له
المسألة الثالثة المراد من ذكر القنطار والدينار ههنا العدد الكثير والعدد القليل يعني أن فيهم من هو في غاية الأمانة حتى لو اؤتمن على الأموال الكثيرة أدى الأمانة فيها ومنهم من هو في غاية الخيانة حتى لو اؤتمن على الشيء القليل فإنه يجوز فيه الخيانة ونظيره قوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً ( النساء 20 ) وعلى هذا الوجه فلا حاجة بنا إلى ذكر مقدار القنطار وذكروا فيه وجوهاً الأول إن القنطار ألف ومائتا أوقية قالوا لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلاّم حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب فرده ولم يخن فيه فهذا يدل على القنطار هو ذلك المقدار الثاني روي عن ابن عباس أنه ملء جلد ثور من المال الثالث قيل القنطار هو ألف ألف دينار أو ألف ألف درهم وقد تقدم القول في تفسير القنطار
المسألة الرابعة قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر يُؤَدّهِ بسكون الهاء وروي ذلك عن أبي عمرو وقال الزجاج هذا غلط من الراوي عن أبي عمرو كما غلط في بَارِئِكُمْ بإسكان الهمزة وإنما كان أبو عمرو يختلس الحركة واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة بأن قال الجزاء ليس في الهاء وإنما هو فيما قبل الهاء والهاء اسم المكنى والأسماء لا تجزم في الوصل وقال الفراء من العرب من يجزم الهاء إذا تحرك ما قبلها فيقول ضربته ضرباً شديداً كما يسكنون ( ميم ) أنتم وقمتم وأصلها الرفع وأنشد لما رأى أن لا دعه ولا شبع
وقرىء أيضاً باختلاس حركة الهاء اكتفاء بالكسرة من الياء وقرىء بإشباع الكسرة في الهاء وهو الأصل
ثم قال تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا وفيه مسألتان
المسألة الأولى في لفظ ( القائم ) وجهان منهم من حمله على حقيقته قال السدي يعني إلا ما دمت قائماً على رأسه بالاجتماع معه والملازمة له والمعنى أنه إنما يكون معترفاً بما دفعت إليه ما دمت قائماً على رأسه فإن أنظرت وأخرت أنكر ومنهم من حمل لفظ ( القائم ) على مجازه ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول قال ابن عباس المراد من هذا القيام الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة قال ابن قتيبة أصله أن المطالب للشيء يقوم فيه والتارك له يقعد عنه دليل قوله تعالى أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ ( آل عمران 113 ) أي عامله بأمر الله غير تاركه ثم قيل لكل من واظب على مطالبة أمر أنه قام به وإن لم يكن ثم قيام الثاني قال أبو علي الفارسي القيام في اللغة بمعنى الدوام والثبات وذكرنا ذلك في قوله تعالى يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ ( البقرة 3 ) ومنه قوله دِينًا قِيَمًا ( الأنعام 161 ) أي دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى قوله إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا أي دائماً ثابتاً في مطالبتك إياه بذلك المال
المسألة الثانية يدخل تحت قوله مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ و بِدِينَارٍ العين والدين لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقاوضة وليس في الآية ما يدل على التعيين والمنقول عن ابن عباس أنه حمله على المبايعة فقال منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك ونقلنا أيضاً أن الآية نزلت في أن رجلاً أودع مالاً كثيراً عند عبد الله بن سلام ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء فخان هذا اليهودي في القليل وعبد الله بن سلام أدى الأمانة فثبت أن اللفظ محتمل لكل الأقسام
ثم قال تعالى ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ والمعنى إن ذلك الاستحلال والخيانة هو بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً الأول أنهم مبالغون في التعصب لدينهم فلا جرم يقولون يحل قتل المخالف ويحل أخذ ماله بأي طريق كان وروي في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية قال عليه السلام ( كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ) الثاني أن اليهود قالوا نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ( المائدة 18 ) والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا الثالث أن اليهود إنما ذكروا هذا الكلام لا مطلقاً لكل من خالفهم بل للعرب الذين آمنوا بالرسول ( صلى الله عليه وسلم ) روي أن اليهود بايعوا رجالاً في الجاهلية فلما أسلموا طالبوهم بالأموال فقالوا ليس لكم علينا حق لأنكم تركتم دينكم وأقول من المحتمل أنه كان من مذهب اليهود أن من انتقل من دين باطل إلى دين آخر باطل كان في حكم المرتد فهم وإن اعتقدوا أن العرب كفار إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كفر حكموا على العرب الذين أسلموا بالردة
المسألة الثانية نفي السبيل المراد منه نفي القدرة على المطالبة والإلزام قال تعالى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ( التوبة 91 ) وقال وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( النساء 141 ) وقال وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ( الشورى 41 42 )
المسألة الثالثة الامّى ّ منسوب إلى الأم وسمي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أُمياً قيل لأنه كان لا يكتب وذلك لأن الأم أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بقي على أصله في أن لا يكتب وقيل نسب إلى مكة وهي أم القرى
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وفيه وجوه الأول أنهم قالوا إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش الثاني أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة الثالث أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم
ثم قال تعالى بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ
اعلم أن في بَلَى وجهين أحدهما أنه لمجرد نفي ما قبله وهو قوله لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ فقال الله تعالى راداً عليهم بَلَى عليهم سبيل في ذلك وهذا اختيار الزجاج قال وعندي وقف التمام على بَلَى وبعده استئناف والثاني أن كلمة بَلَى كلمة تذكر ابتداء لكلام آخر يذكر بعده وذلك
لأن قولهم ليس علينا فيما نفعل جناح قائم مقام قولهم نحن أحباء الله تعالى فذكر الله تعالى أن أهل الوفاء بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى لا غيرهم وعلى هذا الوجه فإنه لا يحسن الوقف على بَلَى وقوله مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مضى الكلام في معنى الوفاء بالعهد والضمير في بِعَهْدِهِ يجوز أن يعود على اسم اللَّهِ في قوله وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ويجوز أن يعود على مِنْ لأن العهد مصدر فيضاف إلى المفعول وإلى الفاعل وههنا سؤالان
السؤال الأول بتقدير ءانٍ يكون الضمير عائداً إلى الفاعل وهو مِنْ فإنه يحتمل أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانة فإنهم يكتسبون محبة الله تعالى
الجواب الأمر كذلك فإنهم إذا أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الأعظم وهو ما أخذ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وفي ترك تحريف التوراة
السؤال الثاني أين الضمير الراجع من الجزاء إلى مِنْ
الجواب عموم المتقين قام مقام رجوع الضمير
واعلم أن هذه الآية دالة على تعظيم أمر الوفاء بالعهد وذلك لأن الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فالوفاء بالعهد مشتمل عليهما معاً لأن ذلك سبب لمنفعة الخلق فهو شفقة على خلق الله ولما أمر الله به كان الوفاء به تعظيماً لأمر الله فثبت أن العبارة مشتملة على جميع أنواع الطاعات والوفاء بالعهد كما يمكن في حق الغير يمكن أيضاً في حق النفس لأن الوافي بعهد النفس هو الآتي بالطاعات والتارك للمحرمات لأن عند ذلك تفوز النفس بالثواب وتبعد عن العقاب
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَائِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً الأول أنه تعالى لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس ثم من المعلوم أن الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة الثاني أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ( آل عمران 75 ) ولا شك أن عهد الله على كل مكلف أن لا يكذب على الله ولا يخون في دينه لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك الثالث أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس ثم ذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذباً ومن الناس من
قال هذه الآية ابتداء كلام مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على الأيمان الكاذبة وإذا كان كذلك وجب اعتقاد كون هذا الوعيد عاماً في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص باليهود
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفت الروايات في سبب النزول فمنهم من خصها باليهود الذين شرح الله أحوالهم في الآيات المتقدمة ومنهم من خصها بغيرهم
أما الأول ففيه وجهان الأول قال عكرمة إنها نزلت في أحبار اليهود كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا واحتج هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بَعْدِكُم ( البقرة 40 ) الثاني أنها نزلت في ادعائهم أنه لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ ( آل عمران 75 ) كتبوا بأيديهم كتاباً في ذلك وحلفوا أنه من عند الله وهو قول الحسن
وأما الاحتمال الثاني ففيه وجوه الأول أنها نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له في أرض اختصما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال للرجل ( أقم بيِّنَتَك ) فقال الرجل ليس لي بينة فقال للأشعث ( فعليك اليمين ) فهم الأشعث باليمين فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم واعترف بالحق وهو قول ابن جريج الثاني قال مجاهد نزلت في رجل حلف يميناً فاجرة في تنفيق سلعته الثالث نزلت في عبدان وامرىء القيس اختصما إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أرض فتوجه اليمين على امرىء القيس فقال أنظرني إلى الغد ثم جاء من الغد وأقر له بالأرض والأقرب الحمل على الكل
فقوله إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ يدخل فيه جميع ما أمر الله به ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به
قال تعالى وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ( التوبة 75 ) الآية وقال وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ( الإسراء 34 ) وقال يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ( الإنسان 7 ) وقال مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ( الأحزاب 23 ) وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الشراء وذلك لأن المشتري يأخذ شيئاً ويعطي شيئاً فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر وأما الأيمان فحالها معلوم وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إثبات
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ واعلم أنه تعالى فرع على ذلك الشرط وهو الشراء بعهد الله والأيمان ثمناً قليلاً خمسة أنواع من الجزاء أربعة منها في بيان صيرورتهم محرومين عن الثواب والخامس في بيان وقوعهم في أشد العذاب أما المنع من الثواب فاعلم أن الثواب عبارة عن المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم
فالأول وهو قوله أُوْلَئِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ إشارة إلى حرمانهم عن منافع الآخرة
وأما الثلاثة الباقية وهي قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكّيهِمْ فهو إشارة إلى حرمانهم عن التعظيم والإعزاز
وأما الخامس وهو قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فهو إشارة إلى العقاب ولما نبهت لهذا الترتيب فلنتكلم في شرح كل واحد من هذه الخمسة
أما الأول وهو قوله لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاْخِرَة ِ فالمعنى لا نصيب لهم في خير الآخرة ونعيمها واعلم أن هذا العموم مشروط بإجماع الأمة بعدم التوبة فإنه إن تاب عنها سقط الوعيد بالإجماع وعلى مذهبنا مشروط أيضاً بعدم العفو فإنه تعالى قال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ( النساء 48 )
وأما الثاني وهو قوله وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللَّهُ ففيه سؤال وهو أنه تعالى قال فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( الحجر 92 93 ) وقال فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ( الأعراف 6 ) فكيف الجمع بين هاتين الآيتين وبين تلك الآية قال القفال في الجواب المقصود من كل هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم لأن من منع غيره كلامه في الدنيا فإنما ذلك بسخط الله عليه وإذا سخط إنسان على آخر قال له لا أكلمك وقد يأمر بحجبه عنه ويقول لا أرى وجه فلان وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل فثبت أن هذه الكلمات كنايات عن شدة الغضب نعوذ بالله منه وهذا هو الجواب الصحيح ومنهم من قال لا يبعد أن يكون إسماع الله جلّ جلاله أولياءه كلامه بغير سفير تشريفاً عالياً يختص به أولياءه ولا يكلم هؤلاء الكفرة والفساق وتكون المحاسبة معهم بكلام الملائكة ومنهم من قال معنى هذه الآية أنه تعالى لا يكلمهم بكلام يسرهم وينفعهم والمعتد هو الجواب الأول
وأما الثالث وهو قوله تعالى وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ فالمراد إنه لا ينظر إليهم بالإحسان يقال فلان لا ينظر إلى فلان والمراد به نفي الاعتداد به وترك الإحسان إليه والسبب لهذا المجاز أن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاد نظره إليه مرة بعد أخرى فهلذا السبب صار نظر الله عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر ولا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماساً لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام وتعالى إلاهنا عن أن يكون جسماً وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف ( إلى ) ليس للرؤية وإلا لزم في هذه الآية أن لا يكون الله تعالى رائياً لهم وذلك باطل
وأما الرابع وهو قوله وَلاَ يُزَكّيهِمْ ففيه وجوه الأول أن لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة بل يعاقبهم عليها والثاني لا يزكيهم أي لا يثني عليهم كما يثني على أوليائه الأزكياء والتزكية من المزكى للشاهد مدح منه له
واعلم أن تزكية الله عباده قد تكون على ألسنة الملائكة كما قال وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( الرعد 23 24 ) وقال وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَئِكَة ُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ ( الأنبياء 103 ) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَفِى الاْخِرَة ِ ( فصلت 21 ) وقد تكون بغير واسطة أما في الدنيا فكقوله التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ( التوبة 112 ) وأما في الآخرة فكقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 )
وأما الخامس وهو قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فاعلم أنه تعالى لما بيّن حرمانهم من الثواب بيّن كونهم في العقاب الشديد المؤلم
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
اعلم أن هذه الآية تدل على أن الآية المتقدمة نازلة في اليهود بلا شك لأن هذه الآية نازلة في حق اليهود وهي معطوفة على ما قبلها فهذا يقتضي كون تلك الآية المتقدمة نازلة في اليهود أيضاً واعلم أن اللي عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال لويت يده والتوى الشيء إذا انحرف والتوى فلان على إذا غير أخلافه عن الاستواء إلى ضده ولوى لسانه عن كذا إذا غيره ولوى فلاناً عن رأيه إذا أماله عنه وفي الحديث ( لي الواجد ظلم ) وقال تعالى مُسْمَعٍ وَراعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدّينِ ( النساء 46 )
إذا عرفت هذا الأصل ففي تأويل الآية وجوه الأول قال القفال رحمه الله قوله يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم معناه وأن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفاً يتغير به المعنى وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية فلما فعلوا مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام من التوراة كان ذلك هو المراد من قوله تعالى يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم وهذا تأويل في غاية الحسن الثاني نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم كتبوا كتاباً شوشوا فيه نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قالوا هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ
إذا عرفت هذا فنقول إن لي اللسان تثنيه بالتشدق والتنطع والتكلف وذلك مذموم فعبّر الله تعالى عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلى اللسان ذماً لهم وعيباً ولم يعبر عنها بالقراءة والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد فيقولون في المدح خطيب مصقع وفي الذم مكثار ثرثار
فقوله وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ المراد قراءة ذلك الكتاب الباطل وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَاذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ ( البقرة 79 ) ثم قال وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ أي وما هو الكتاب الحق المنزّل من عند الله بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول إلى ما يرجع الضمير في قوله لِتَحْسَبُوهُ
الجواب إلى ما دل عليه قوله يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم وهو المحرّف
السؤال الثاني كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس
الجواب لعله صدر هذا العمل عن نفر قليل يجوز عليهم التواطؤ على التحريف ثم إنهم عرضوا ذلك المحرف على بعض العوام وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً والأصوب عندي في تفسير الآية وجه آخر وهو أن الآيات الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهة على السامعين واليهود كانوا يقولون مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم فكان هذا هو المراد بالتحريف وبلي الألسنة وهذا مثل ما أن المحق في زماننا إذا استدل بآية من كتاب الله تعالى فالمبطل يورد عليه الأسئلة والشبهات ويقول ليس مراد الله ما ذكرت فكذا في هذه الصورة
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ واعلم أن من الناس من قال إنه لا فرق بين قوله لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وبين قوله وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ( آل عمران 78 ) وكرر هذا الكلام بلفظين مختلفين لأجل التأكيد أما المحققون فقالوا المغايرة حاصلة وذلك لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله فإن الحكم الشرعي قد ثبت تارة بالكتاب وتارة بالسنة وتارة بالإجماع وتارة بالقياس والكل من عند الله
فقوله لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ هذا نفي خاص ثم عطف عليه النفي العام فقال وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة ويكون المراد من قولهم هو من عند الله أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أشعياء وأرمياء وحيقوق وذلك لأن القوم في نسبة التحريف إلى الله كانوا متحيرين فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبله الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرف إلى أنه من التوراة وإن وجدوا قوماً عقلاء أذكياء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين جاؤا بعد موسى عليه السلام واحتج الجبائي والكعبي به على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى فقالا لو كان لي اللسان بالتحريف والكذب خلقاً لله تعالى لصدق اليهود في قولهم إنه من عند الله ولزم الكذب في قوله تعالى إنه ليس من عند الله وذلك لأنهم أضافوا إلى الله ما هو من عنده والله ينفي عن نفسه ما هو من عنده ثم قال وكفى خزياً لقوم يجعلون اليهود أولى بالصدق من الله قال ليس لأحد أن يقول المراد من قولهم لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وبين قوله وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ فرق وإذا لم يبق الفرق لم يحسن العطف وأجاب الكعبي عن هذا السؤال أيضاً من وجهين آخرين الأول أن كون المخلوق من عند الخالق أوكد من كون المأمور به من عند الآمر به وحمل الكلام على الوجه الأقوى أولى والثاني أن قوله وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ نفي مطلق لكونه من عند الله وهذا ينفي كونه من عند الله بوجه من الوجوه فوجب أن لا يكون من عنده لا بالخلق ولا بالحكم
والجواب أما قول الجبائي لو حملنا قوله تعالى وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ على أنه كلام الله لزم التكرار فجوابه ما ذكرنا أن قوله وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ معناه أنه غير موجود في الكتاب وهذا لا يمنع من
كونه حكماً لله تعالى ثابتاً بقول الرسول أو بطريق آخر فلما قال وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثبت نفي كونه حكماً لله تعالى وعلى هذا الوجه زال التكرار
وأما الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما الكعبي فجوابه أن الجواب لا بد وأن يكون منطبقاً على السؤال والقوم ما كانوا في ادعاء أن ما ذكروه وفعلوه خلق الله تعالى بل كانوا يدعون أنه حكم الله ونازل في كتابه
فوجب أن يكون قوله وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ عائداً إلى هذا المعنى لا إلى غيره وبهذا الطريق يظهر فساد ما ذكره في الوجه الثاني والله أعلم
ثم قال تعالى وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ والمعنى أنهم يتعمدون ذلك الكذب مع العلم
واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة وإعراب ألفاظها فالمقدمون عليه يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب وإن كان المراد منه تشويش دلالة تلك الآيات على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات لم يبعد إطباق الخلق الكثير عليه والله أعلم
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَة َ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن عادة علماء أهل الكتاب التحريف والتبديل أتبعه بما يدل على أن من جملة ما حرّفوه ما زعموا أن عيسى عليه السلام كان يدعي الإلاهية وأنه كان يأمر قومه بعبادته فلهذا قال مَا كَانَ لِبَشَرٍ الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى في سبب نزول هذه الآية وجوه الأول قال ابن عباس لما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله نزلت هذه الآية الثاني قيل إن أبا رافع القرظي من اليهود ورئيس وفد نجران من النصارى قالا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً فقال عليه الصلاة والسلام ( معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ) فنزلت هذه الآية الثالث
قال رجل يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك فقال عليه الصلاة والسلام ( لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد من دون الله ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ) الرابع أن اليهود لما ادعوا أن أحداً لا ينال من درجات الفضل والمنزلة ما نالوه فالله تعالى قال لهم إن كان الأمر كما قلتم وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم ولكن يجب أن تأمروا الناس بالطاعة لله والانقياد لتكاليفه وحينئذ يلزمكم أن تحثوا الناس على الإقرار بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن ظهور المعجزات عليه يوجب ذلك وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا مِن دُونِ اللَّهِ مثل قوله اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ ( التوبة 31 )
المسألة الثانية اختلفوا في المراد بقوله مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ على وجوه الأول قال الأصم معناه أنهم لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الدليل عليه قوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الحاقه 44 ) قال لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواة ِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ( الاسراء 74 75 ) الثاني أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام موصوفون بصفات لا يحسن مع تلك الصفات ادعاء الإلاهية والربوبية منها أن الله تعالى آتاهم الكتاب والوحي وهذا لا يكون إلا في النفوس الطاهرة والأرواح الطيبة كما قال الله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ ( الأنعام 124 ) وقال الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ( الدخان 32 ) وقال الله تعالى اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَة ِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ( الحج 75 ) والنفس الطاهرة يمتنع أن يصدر عنها هذه الدعوى ومنها أن إيتاء النبوّة لا يكون إلا بعد كمال العلم وذلك لا يمنع من هذه الدعوى وبالجملة فللإنسان قوتان نظرية وعملية وما لم تكن القوة النظرية كاملة بالعلوم والمعارف الحقيقية ولم تكن القوة العملية مطهرة عن الأخلاق الذميمة لا تكون النفس مستعدة لقبول الوحي والنبوّة وحصول الكمالات في القوة النظرية والعملية يمنع من مثل هذا القول والاعتقاد الثالث أن الله تعالى لا يشرف عبده بالنبوّة والرسالة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل هذا الكلام الرابع أن الرسول ادعى أنه يبلغ الأحكام عن الله تعالى واحتج على صدقه في هذه الدعوى فلو أمرهم بعبادة نفسه فحينئذ تبطل دلالة المعجزة على كونه صادقاً وذلك غير جائز واعلم أنه ليس المراد من قوله مَا كَانَ لِبَشَرٍ ذلك أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق وظاهر الآية يدل على أنه إنما لم يكن له ذلك لأجل أن الله آتاه الكتاب والحكم والنبوّة وأيضاً لو كان المراد منه التحريم لما كان ذلك تكذيباً للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح عليه السلام لأن من ادعى على رجل فعلاً فقيل له إن فلان لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن تكذيباً له فيما ادعى عليه وإنما أراد في ادعائهم أن عيسى عليه السلام قال لهم اتخذوني إلاهاً من دون الله فالمراد إذن ما قدمناه ونظيره قوله تعالى مَّا كَانَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ ( مريم 35 ) على سبيل النفي لذلك عن نفسه لا على وجه التحريم والحظر وكذا قوله تعالى مَا كَانَ لِنَبِى ٍّ أَن يَغُلَّ ( آل عمران 161 ) والمراد النفي لا النهي والله أعلم
المسألة الثالثة قوله أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة َ إشارة إلى ثلاثة أشياء ذكرها على ترتيب في غاية الحسن وذلك لأن الكتاب السماوي ينزل أولاً ثم إنه يحصل في عقل النبي فهم ذلك الكتاب وإليه
الإشارة بالحكم فإن أهل اللغة والتفسير اتفقوا على أن هذا الحكم هو العلم قال تعالى وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( مريم 12 ) يعني العلم والفهم ثم إذا حصل فهم الكتاب فحينئذ يبلغ ذلك إلى الخلق وهو النبوّة فما أحسن هذا الترتيب
ثم قال تعالى ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ وفيه مسألتان
المسألة الأولى القراءة الظاهرة ثم يقول بنصب اللام وروي عن أبي عمرو برفعها أما النصب فعلى تقدير لا تجتمع النبوّة وهذا القول والعامل فيه ( أن ) وهو معطوف عليه بمعنى ثم أن يقول وأما الرفع فعلى الاستئناف
المسألة الثانية حكى الواحدي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى كُونُواْ عِبَادًا لّى إنه لغة مزينة يقولون للعبيد عباداً
ثم قال وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيّينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في هذه الآية إضمار والتقدير ولكن يقول لهم كونوا ربانيين فأضمر القول على حسب مذهب العرب في جواز الاضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه ونظيره قوله تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ( آل عمران 106 ) أي فيقال لهم ذلك
المسألة الثانية ذكروا في تفسير ( الرباني ) أقوالاً الأول قال سيبويه الرباني المنسوب إلى الرب بمعنى كونه عالماً به ومواظباً على طاعته كما يقال رجل إلاهي إذا كان مقبلاً على معرفة الإله وطاعته وزيادة الألف والنون فيه للدلالة على كمال هذه الصفة كما قالوا شعراني ولحياني ورقباني إذا وصف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة فإذا نسبوا إلى الشعر قالوا شعري وإلى الرقبة رقبي وإلى اللحية لحيي والثاني قال المبرّد الرَّبَّانِيُّونَ أرباب العلم وأحدهم رباني وهو الذي يرب العلم ويرب الناس أي يعلمهم ويصلحهم ويقوم بأمرهم فالألف والنون للمبالغة كما قالوا ربان وعطشان وشبعان وعريان ثم ضمت إليه ياء النسبة كما قيل لحياني ورقباني قال الواحدي فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الرب على معنى التخصيص بمعرفة الرب وبطاعته وعلى قول المبرد الرباني مأخوذ من التربية الثالث قال ابن زيد الرباني هو الذي يرب الناس فالربانيون هم ولاة الأمة والعلماء وذكر هذا أيضاً في قوله تعالى يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالاْحْبَارُ ( المائدة 63 ) أي الولاة والعلماء وهما الفريقان اللذان يطاعان ومعنى الآية على هذا التقدير لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته قال القفال رحمه الله ويحتمل أن يكون الوالي سمي ربانياً لأنه يطاع كالرب تعالى فنسب إليه الرابع قال أبو عبيدة أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية أو سريانية وسواء كانت عربية أو عبرانية فهي تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم واشتغل بتعليم طرق الخير
ثم قال تعالى بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في قوله بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ قراءتان إحداهما تَعْلَمُونَ من العلم وهي
قراءة عبد الله بن كثير وأبي عمرو ونافع والثانية تَعْلَمُونَ من التعليم وهي قراءة الباقين من السبعة وكلاهما صواب لأنهم كانوا يعلمونه في أنفسهم ويعلمونه غيرهم واحتج أبو عمرو على أن قراءته أرجح بوجهين الأول أنه قال تَدْرُسُونَ ولم يقل تَدْرُسُونَ بالتشديد الثاني أن التشديد يقتضي مفعولين والمفعول هاهنا واحد وأما الذين قرؤا بالتشديد فزعموا أن المفعول الثاني محذوف تقديره بما كنتم تعلمون الناس الكتاب أو غيركم الكتاب وحذف لأن المفعول به قد يحذف من الكلام كثيراً ثم احتجوا على أن التشديد أولى بوجهين الأول أن التعليم يشتمل على العلم ولا ينعكس فكان التعليم أولى الثاني أن الربانيين لا يكتفون بالعلم حتى يضموا إليه التعليم لله تعالى ألا ترى أنه تعالى أمر محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك فقال ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ وَالْمَوْعِظَة ِ الْحَسَنَة ِ ( النحل 125 ) ويدل عليه قول مرة بن شراحيل كان علقمة من الربانيين الذين يعلمون الناس القرآن
المسألة الثانية نقل ابن جني في ( المحتسب ) عن أبي حيوة أنه قرأ تَدْرُسُونَ بضم التاء ساكنة الدال مكسورة الراء قال ابن جني ينبغي أن يكون هذا منقولاً من درس هو أو درس غيره وكذلك قرأ وأقرأ غيره وأكثر العرب على درس ودرس وعليه جاء المصدر على التدريس
المسألة الثالثة ( ما ) في القراءتين هي التي بمعنى المصدر مع الفعل والتقدير كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين ومعلمين وبسبب دراستكم الكتاب ومثل هذا من كون ( ما ) مع الفعل بمعنى المصدر قوله تعالى فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَاذَا ( الأعراف 5 ) وحاصل الكلام أن العلم والتعليم والدراسة توجب على صاحبها كونه ربانياً والسبب لا محالة مغاير للمسبب فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانياً أمراً مغايراً لكونه عالماً ومعلماً ومواظباً على الدراسة وما ذاك إلا أن يكون بحيث يكون تعلمه لله وتعليمه ودراسته لله وبالجملة أن يكون الداعي له إلى جميع الأفعال طلب مرضاة الله والصارف له عن كل الأفعال الهرب عن عقاب الله وإذا ثبت أن الرسول يأمر جميع الخلق بهذا المعنى ثبت أنه يمتنع منه أن يأمر الخلق بعبادته وحاصل الحرف شيء واحد وهو أن الرسول هو الذي يكون منتهى جهده وجده صرف الأرواح والقلوب عن الخلق إلى الحق فمثل هذا الإنسان كيف يمكن أن يصرف عقول الخلق عن طاعة الحق إلى طاعة نفسه وعند هذا يظهر أنه يمتنع في أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يأمر غيره بعبادته
المسألة الرابعة دلّت الآية على أن العلم والتعليم والدراسة توجب كون الإنسان ربانياً فمن اشتغل بالتعلم والتعليم لا لهذا المقصود ضاع سعيه وخاب عمله وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء مونقة بمنظرها ولا منفعة بثمرها ولهذا قال عليه الصلاة والسلام ( نعوذ بالله من علم لا ينفع وقلب لا يخشع )
ثم قال تعالى وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَة َ وَالنَّبِيّيْنَ أَرْبَابًا وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ عاصم وحمزة وابن عامر وَلاَ يَأْمُرَكُمْ بنصب الراء والباقون بالرفع أما النصب فوجهه أن يكون عطفاً على ثُمَّ يَقُولُ وفيه وجهان أحدهما أن تجعل لا مزيدة والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة أن يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً كما تقول ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي والثاني أن تجعل لا غير
مزيدة والمعنى أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان ينهى قريشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح فلما قالوا أتريد أن نتخذك رباً قيل لهم ما كان لبشر أن يجعله الله نبياً ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء وأما القراءة بالرفع على سبيل الاستئناف فظاهر لأنه بعد انقضاء الآية وتمام الكلام ومما يدل على الانقطاع عن الأول ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ وَلَنْ يَأْمُرُكُمْ
المسألة الثانية قال الزجاج ولا يأمركم الله وقال ابن جريج لا يأمركم محمد وقيل لا يأمركم الأنبياء بأن تتخذوا الملائكة أرباباً كما فعلته قريش
المسألة الثالثة إنما خص الملائكة والنبيّين بالذكر لأن الذين وصفوا من أهل الكتاب بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح وعزير فلهذا المعنى خصهما بالذكر
ثم قال تعالى أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ وفيه ومسائل
المسألة الأولى الهمزة في أَيَأْمُرُكُم استفهام بمعنى الإنكار أي لا يفعل ذلك
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) قوله بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في أن يسجدوا له
المسألة الثالثة قال الجبائي الآية دالة على فساد قول من يقول الكفر بالله هو الجهل به والإيمان بالله هو المعرفة به وذلك لأن الله تعالى حكم بكفر هؤلاء وهو قوله تعالى أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ ثم إن هؤلاء كانوا عارفين بالله تعالى بدليل قوله ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللَّهِ وظاهر هذا يدل على معرفته بالله فلما حصل الكفر ههنا مع المعرفة بالله دل ذلك على أن الإيمان به ليس هو المعرفة والكفر به تعالى ليس هو الجهل به
والجواب أن قولنا الكفر بالله هو الجهل به لا نعني به مجرد الجهل بكونه موجوداً بل نعني به الجهل بذاته وبصفاته السلبية وصفاته الإضافية أن لا شريك له في المعبودية فلما جهل هذا فقد جهل بعض صفاته
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَة ٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قطعاً لعذرهم وإظهاراً لعنادهم ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه وأخبر أنهم قبلوا ذلك وحكم تعالى بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين فهذا هو المقصود من الآية فحصل الكلام أنه تعالى أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقاً لما معهم إلا أن هذه المقدمة الواحدة لا تكفي في إثبات نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما لم يضم إليها مقدمة أخرى وهي أن محمداً رسول الله جاء مصدقاً لما معهم وعند هذا لقائل أن يقول هذا إثبات للشيء بنفسه لأنه إثبات لكونه رسولاً بكونه رسولاً
والجواب أن المراد من كونه رسولاً ظهور المعجز عليه وحينئذ يسقط هذا السؤال والله أعلم ولنرجع إلى تفسير الألفاظ
أما قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ فقال ابن جرير الطبري معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيّين وقال الزجاج واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله ميثاق النبيّين
أما قوله مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ فاعلم أن المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول فيحتمل أن يكون الميثاق مأخوذاً منهم ويحتمل أن يكون مأخوذاً لهم من غيرهم فلهذا السبب اختلفوا في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين
أما الاحتمال الأول وهو أنه تعالى أخذ الميثاق منهم في أن يصدق بعضهم بعضاً وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس رحمهم الله وقيل إن الميثاق هذا مختص بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو مروي عن علي وابن عباس وقتادة والسدي رضوان الله عليهم واحتج أصحاب هذا القول على صحته من وجوه الأول أن قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ يشعر بأن آخذ الميثاق هو الله تعالى والمأخوذ منهم هم النبيون فليس في الآية ذكر الأمة فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة ويمكن أن يجاب عنه من وجوه الأول أن على الوجوه الذي قلتم يكون الميثاق مضافاً إلى الموثق عليه وعلى الوجه الذي قلنا يكون إضافته إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل وهو الموثق له ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل أقوى من إضافته إلى المفعول فإن لم يكن فلا أقل من المساواة وهو كما يقال ميثاق الله وعهده فيكون التقدير وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الله للأنبياء على أممهم الثاني أن يراد ميثاق أولاد النبيّين وهو بنو إسرائيل على حذف المضاف وهو كما يقال فعل بكر بن وائل كذا وفعل معد بن عدنان كذا والمراد أولادهم وقومهم فكذا ههنا الثالث أن يكون المراد من لفظ النَّبِيّينَ أهل الكتاب وأطلق هذا اللفظ عليهم تهكماً بهم على زعمهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوّة من محمد عليه الصلاة والسلام لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون الرابع أنه كثيراً ورد في القرآن لفظ النبي والمراد منه أمته قال تعالى الْحَكِيمُ يأيُّهَا النَّبِى ُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَاء ( الطلاق 1 )
الحجة الثانية لأصحاب هذا القول ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ( لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي )
الحجة الثالثة ما نقل عن علي رضي الله عنه أنه قال إن الله تعالى ما بعث آدم عليه السلام ومن بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد عليه الصلاة والسلام وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه فهذا يمكن نصرة هذا القول به والله أعلم
الاحتمال الثاني إن المراد من الآية أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه وهذا قول كثير من العلماء وقد بينا أن اللفظ محتمل له وقد احتجوا على صحته بوجوه الأول ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني فقال ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) عند مبعثه وكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يكونون عند مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من زمرة الأموات والميت لا يكون مكلفاً فلما كان الذين أخذ الميثاق عليهم يجب عليهم الإيمان بمحمد عليه السلام عند مبعثه ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيّين بل هم أمم النبيّين قال ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما يليق بالأمم أجاب القفال رحمه الله فقال لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ونظيره قوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض فكذا ههنا وقال وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( الحاقه 44 45 46 ) وقال في صفة الملائكة وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ( الأنبياء 29 ) مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يسبقونه بالقول وبأنهم يخافون ربهم من فوقهم فكل ذلك خرج على سبيل الفرض والتقدير فكذا ههنا ونقول إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك وقد ذكر تعالى ذلك على سبيل الفرض والتقدير في قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) فكذا ههنا
الحجة الثانية أن المقصود من هذه الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وإذا كان الميثاق مأخوذاً عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذاً على الأنبياء عليهم السلام وقد أجيب عن ذلك بأن درجات الأنبياء عليهم السلام أعلى وأشرف من درجات الأمم فإذا دلت هذه الآية على أن الله تعالى أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام لو كانوا في الأحياء وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين فلأن يكون الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) واجباً على أممهم لو كان ذلك أولى فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المطلوب من هذا الوجه
الحجة الثالثة ما روي عن ابن عباس أنه قيل له إن أصحاب عبد الله يقرؤن وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ونحن نقرأ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ فقال ابن عباس رضي الله عنهما إنما أخذ الله ميثاق النبيّين على قومهم
الحجة الرابعة أن هذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وبقوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ
وَلاَ تَكْتُمُونَهُ ( آل عمران 187 ) فهذا جملة ما قيل في هذا الموضوع والله أعلم بمراده
وأما قوله تعالى لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَة ٍ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الجمهور لَّمّاً بفتح اللام وقرأ حمزة بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير لَّمّاً مشددة أما القراءة بالفتح فلها وجهان الأول أن مَا اسم موصول والذي بعده صلة له وخبره قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ والتقدير للذي آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به وعلى هذا التقدير مَا رفع بالابتداء والراجع إلى لفظة مَا وموصولتها محذوف والتقدير لما آتيتكموه فحذف الراجع كما حذف من قوله أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ( الفرقان 41 ) وعليه سؤالان
السؤال الأول إذا كانت مَا موصولة لزم أن يرجع من الجملة المعطوفة على الصلة ذكر إلى الموصول وإلا لم يجز ألا ترى أنك لو قلت الذي قام أبوه ثم انطلق زيد لم يجز
وقوله ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ ليس فيه راجع إلى الموصول قلنا يجوز إقامة المظهر مقام المضمر عند الأخفش والدليل عليه قوله تعالى إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( يوسف 90 ) ولم يقل فإن الله لا يضيع أجره وقال إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ( الكهف 30 ) ولم يقل إنا لا نضيع أجرهم وذلك لأن المظهر المذكور قائم مقام المضمر فكذا ههنا
السؤال الثاني ما فائدة اللام في قوله لَّمّاً قلنا هذه اللام هي لام الابتداء بمنزلة قولك لزيد أفضل من عمرو ويحسن إدخالها على ما يجري مجرى المقسم عليه لأن قوله إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ بمنزلة القسم والمعنى استحلفهم وهذه اللام المتلقية للقسم فهذا تقرير هذا الكلام
الوجه الثاني وهو اختيار سيبويه والمازني والزجاج أن مَا ههنا هي المتضمنة لمعنى الشرط والتقدير ما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به فاللام في قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هي المتلقية للقسم أما اللام في لَّمّاً هي لام تحذف تارة وتذكر أخرى ولا يتفاوت المعنى ونظيره قولك والله لو أن فعلت فعلت فلفظة ( أن ) لا يتفاوت الحال بين ذكرها وحذفها فكذا ههنا وعلى هذا التقدير كانت ( ما ) في موضع نصب بأتيتكم وَجَاءكُمُ جزم بالعطف على ءاتَيْتُكُم و لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هو الجزاء وإنما لم يرض سيبويه بالقول الأول لأنه لا يرى إقامة المظهر مقام المضمر وأما الوجه في قراءة لَّمّاً بكسر اللام فهو أن هذا لام التعليل كأنه قيل أخذ ميثاقهم لهذا لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء والرسل وَمَا على هذه القراءة تكون موصولة وتمام البحث فيه ما قدمناه في الوجه الأول وأما قراءة لَّمّاً بالتشديد فذكر صاحب ( الكشاف ) فيه وجهين الأول أن المعنى حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له وجب عليكم الإيمان به ونصرته والثاني أن أصل لَّمّاً لمن ما فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم فحذفوا إحداها فصارت لَّمّاً ومعناه لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به وهذا قريب من قراءة حمزة في المعنى
المسألة الثانية قرأ نافع ءاتَيْنَاكُم بالنون على التفخيم والباقون بالتاء على التوحيد حجة نافع قوله وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً ( النساء 163 ) وَاتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( مريم 12 ) وَءاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ ( الصافات 117 ) ولأن هذا أدل على العظمة فكان أكثر هيبة في قلب السامع وهذا الموضع يليق به هذا المعنى وحجة الجمهور قوله هُوَ الَّذِى يُنَزّلُ عَلَى عَبْدِهِ ءايَاتٍ بَيّنَاتٍ ( الحديد 9 ) و الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ( الكهف 1 ) وأيضاً هذه القراءة أشبه بما قبل هذه الآية وبما بعدها لأنه تعالى قال قبل هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ وقال بعدها إِصْرِى وأجاب نافع عنه بأن أحد أبواب الفصاحة تغيير العبارة من الواحد إلى الجمع ومن الجمع إلى الواحد قال تعالى وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لّبَنِى إِسْراءيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى ( الإسراء 2 ) ولم يقل من دوننا كما قال وَجَعَلْنَاهُ والله أعلم
المسألة الثالثة أنه تعالى ذكر النبيّين على سبيل المغايبة ثم قال ءاتَيْتُكُم وهو مخاطبة إضمار والتقدير وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين فقال مخاطباً لهم لما آتيتكم من كتاب وحكمة والإضمار باب واسع في القرآن ومن العلماء من التزم في هذه الآية إضماراً آخر وأراح نفسه عن تلك التكلفات التي حكيناها عن النحويين فقال تقدير الآية وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة قال إلا أنه حذف لتبلغن لدلالة الكلام عليه لأن لام القسم إنما يقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل لا جرم حذفه اختصاراً ثم قال تعالى بعده ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ولا يحتاج إلى تكليف تلك التعسفات وإذا كان لا بد من التزام الإضمار فهذا الإضمار الذي به ينتظم الكلام نظماً بيناً جلياً أولى من تلك التكلفات
المسألة الرابعة في قوله لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ إشكال وهو أن هذا الخطاب إما أن يكون مع الأنبياء أو مع الأمم فإن كان مع الأنبياء فجميع الأنبياء ما أوتوا الكتاب وإنما أوتي بعضهم وإن كان مع الأمم فالإشكال أظهر والجواب عنه من وجهين الأول أن جميع الأنبياء عليهم السلام أوتوا الكتاب بمعنى كونه مهتدياً به داعياً إلى العمل به وإن لم ينزل عليه والثاني أن أشرف الأنبياء عليهم السلام هم الذين أوتوا الكتاب فوصف الكل بوصف أشرف الأنواع
المسألة الخامسة الكتاب هو المنزل المقروء والحكمة هي الوحي الوارد بالتكاليف المفصلة التي لم يشتمل الكتاب عليها
المسألة السادسة كلمة مِنْ في قوله مِن كِتَابِ دخلت تبييناً لما كقولك ما عندي من الورق دانقان
أما قوله تعالى ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ ففيه سؤالات
السؤال الأول ما وجه قوله ثُمَّ جَاءكُمْ والرسول لا يجيء إلى النبيّين وإنما يجيء إلى الأمم
والجواب إن حملنا قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ على أخذ ميثاق أممهم فقد زال السؤال وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيّين أنفسهم كان قوله ثُمَّ جَاءكُمْ أي جاء في زمانكم
السؤال الثاني كيف يكون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مصدقاً لما معهم مع مخالفة شرعه لشرعهم
قلنا المراد به حصول الموافقة في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها فذلك في الحقيقة ليس بخلاف لأن جميع الأنبياء عليهم السلام متفقون على أن الحق في زمان موسى عليه السلام ليس إلا شرعه وأن الحق في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ليس إلا شرعه فهذا وإن كان يوهم الخلاف إلا أنه في الحقيقة وفاق وأيضاً فالمراد من قوله ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد بكونه مصدقاً لما معهم هو أن وصفه وكيفية أحواله مذكورة في التوراة والإنجيل فلما ظهر على أحوال مطابقة لما كان مذكوراً في تلك الكتب كان نفس مجيئه تصديقاً لما كان معهم فهذا هو المراد بكونه مصدقاً لما معهم
السؤال الثالث حاصل الكلام أن الله تعالى أخذ الميثاق على جميع الأنبياء بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقاً لما معهم فما معنى ذلك الميثاق
والجواب يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه فتقدير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من أخذ الميثاق ويحتمل أن يكون المراد من أخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته في كتب الأنبياء المتقدمين فإذا صارت أحواله مطابقة لما جاء في الكتب الإلاهية المتقدمة وجب الانقياد له فقوله تعالى ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ يدل على هذين الوجهين أما على الوجه الأول فقوله رَّسُولٍ وأما على الوجه الثاني فقوله مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ
أما قوله لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ فالمعنى ظاهر وذلك لأنه تعالى أوجب الإيمان به أولاً ثم الاشتغال بنصرته ثانياً واللام في لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ لام القسم كأنه قيل والله لتؤمنن به
ثم قال تعالى قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى وفيه مسائل
المسألة الأولى إن فسرنا قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ بأنه تعالى أخذ المواثيق على الأنبياء كان قوله تعالى أأقرتم معناه قال الله تعالى للنبيّين أأقرتم بالإيمان به والنصرة له وإن فسرنا أخذ الميثاق بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخذوا المواثيق على الأمم كان معنى قوله قَالَ أي قال كل نبي لأمته أأقرتم وذلك لأنه تعالى أضاف أخذ الميثاق إلى نفسه وإن كانت النبيون أخذوه على الأمم فكذلك طلب هذا الإقرار أضافه إلى نفسه وإن وقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمقصود أن الأنبياء بالغوا في إثبات هذا المعنى وتأكيده فلم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم بل طالبوهم بالإقرار بالقول وأكدوا ذلك بالإشهاد
المسألة الثانية الإقرار في اللغة منقول بالألف من قر الشيء يقر إذا ثبت ولزم مكانه وأقره غيره والمقر بالشيء يقره على نفسه أي يثبته
أما قوله تعالى ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى أي قبلتم عهدي والأخذ بمعنى القبول كثير في الكلام قال تعالى وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ( البقرة 48 ) أي يقبل منها فدية وقال وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ ( التوبة 104 ) أي
يقبلها والإصر هو الذي يلحق الإنسان لأجل ما يلزمه من عمل قال تعالى وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا ( البقرة 286 ) فسمى العهد إصراً لهذا المعنى قال صاحب ( الكشاف ) سمى العهد إصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد ومنه الإصار الذي يعقد به وقرىء إِصْرِى ويجوز أن يكون لغة في إصر
ثم قال تعالى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ وفي تفسير قوله فَأَشْهِدُواْ وجوه الأول فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأنا على إقراركم وإشهاد بعضكم بعضاً مّنَ الشَّاهِدِينَ وهذا توكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض الثاني أن قوله فَأَشْهِدُواْ خطاب للملائكة الثالث أن قوله فَأَشْهِدُواْ أي ليجعل كل أحد نفسه شاهداً على نفسه ونظيره قوله وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ( الأعراف 172 ) على أنفسنا وهذا من باب المبالغة الرابع فَأَشْهِدُواْ أي بينوا هذا الميثاق للخاص والعام لكي لا يبقى لأحد عذر في الجهل به وأصله أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى الخامس فَأَشْهِدُواْ أي فاستيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له السادس إذا قلنا إن أخذ الميثاق كان من الأمم فقوله فَأَشْهِدُواْ خطاب للأنبياء عليهم السلام بأن يكونوا شاهدين عليهم
وأما قوله تعالى وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ فهو للتأكيد وتقوية الإلزام وفيه فائدة أخرى وهي أنه تعالى وإن أشهد غيره فليس محتاجاً إلى ذلك الإشهاد لأنه تعالى لا يخفى عليه خافية لكن لضرب من المصلحة لأنه سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى ثم إنه تعالى ضم إليه تأكيداً آخر فقال فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ يعني من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول وبنصرته بعد ما تقدم من هذه الدلائل كان من الفاسقين ووعيد الفاسق معلوم وقوله فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ هذا شرط والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط والجزاء والله أعلم
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن في الآية الأولى أن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام شرع شرعه الله وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالباً ديناً غير دين الله فلهذا قال بعده أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حفص عن عاصم يَبْغُونَ و يَرْجِعُونَ
بالياء المنقطة من تحتها لوجهين أحدهما رداً لهذا إلى قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( آل عمران 82 ) والثاني أنه تعالى إنما ذكر حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فلما أصروا على كفرهم قال على جهة الاستنكار أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وقرأ أبو عمرو تبغون بالتاء خطاباً لليهود وغيرهم من الكافر و لاَ يَرْجِعُونَ بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وقرأ الباقون فيهما بالتاء على الخطاب لأن ما قبله خطاب كقوله ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ ( آل عمران 81 ) وأيضاً فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر ولكل أحد أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له من في السماوات والأرض وأن مرجعكم إليه وهو كقوله وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ( آل عمران 101 )
المسألة الثانية الهمزة للاستفهام والمراد استنكار أن يفعلوا ذلك أو تقرير أنهم يفعلونه وموضع الهمزة هو لفظة يَبْغُونَ تقديره أيبغون غير دين الله لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث إلا أنه تعالى قدم المفعول الذي هو غَيْرِ دِينِ اللَّهِ على فعله لأنه أهم من حيث أن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل وأما الفاء فلعطف جملة على جملة وفيه وجهان أحدهما التقدير فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون
واعلم أنه لو قيل أو غير دين الله يبغون جاز إلا أن في الفاء فائدة زائدة كأنه قيل أفبعد أخذ هذا الميثاق المؤكد بهذه التأكيدات البليغة تبغون
المسألة الثالثة روي أن فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به فقال عليه الصلاة والسلام كلا الفريقين برىء من دين إبراهيم عليه السلام فقالوا ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت هذه الآية ويبعد عندي حمل هذه الآية على هذا السبب لأن على هذا التقدير تكون هذه الآية منقطعة عما قبلها والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها فالوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكوراً في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك فقد كانوا عالمين بصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في النبوّة فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا طالبين ديناً غير دين الله ومعبوداً سوى الله سبحانه ثم بيّن أن التمرد على الله تعالى والإعراض عن حكمه مما لا يليق بالعقلاء فقال وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى الإسلام هو الاستسلام والانقياد والخضوع
إذا عرفت هذا ففي خضوع كل من في السماوات والأرض لله وجوه الأول وهو الأصح عندي أن كل ما سوى الله سبحانه ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه فإذن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله في طرفي وجوده وعدمه وهذا هو نهاية الانقياد والخضوع ثم إن في هذا الوجه لطيفة أخرى وهي أن قوله وَلَهُ أَسْلَمَ يفيد الحصر أي وله أسلم كل من في السماوات والأرض لا لغيره فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ولا يفنى إلا بإفنائه سواء كان عقلاً أو نفساً أو روحاً أو جسماً أو جوهراً أو عرضاً أو فاعلاً أو فعلاً ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المعنى قوله تعالى وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الرعد 15 ) وقوله وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 )
الوجه الثاني في تفسير هذه الآية أنه لا سبيل لأحد إلى الامتناع عليه في مراده وإما أن ينزلوا عليه
طوعاً أو كرهاً فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدين وينقادون له كرهاً فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك وأما الكافرون فهم ينقادون لله تعالى على كل حال كرهاً لأنهم لا ينقادون فيما يتعلق بالدين وفي غير ذلك مستسلمون له سبحانه كرهاً لأنه لا يمكنهم دفع قضائه وقدره الثالث أسلم المسلمون طوعاً والكافرون عند موتهم كرهاً لقوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ( غافر 85 ) الرابع أن كل الخلق منقادون لإلاهيته طوعاً بدليل قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ( لقمان 25 ) ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً الخامس أن انقياد الكل إنما حصل وقت أخذ الميثاق وهو قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى ( الأعراف 172 ) السادس قال الحسن الطوع لأهل السماوات خاصة وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضهم بالكره وأقول إنه سبحانه ذكر في تخليق السماوات والأرض هذا وهو قوله فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) وفيه أسرار عجيبة
أما قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فالمراد أن من خالفه في العاجل فسيكون مرجعه إليه والمراد إلى حيث لا يملك الضر والنفع سواه هذا وعيد عظيم لمن خالف الدين الحق
المسألة الثانية قال الواحدي رحمه الله الطوع الانقياد يقال طاعه يطوعه طوعاً إذا انقاد له وخضع وإذا مضى لأمره فقد أطاعه وإذا وافقه فقد طاوعه قال ابن السكيت يقال طاع له وأطاع فانتصب طوعاً وكرهاً على أنه مصدر وقع موقع الحال وتقديره طائعاً وكارهاً كقولك أتاني راكضاً ولا يجوز أن يقال أتاني كلاماً أي متكلماً لأن الكلام ليس يضرب للإتيان والله أعلم
قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاٌّ سْبَاطِ وَمَا أُوتِى َ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية المتقدمة أنه إنما أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق الرسول الذي يأتي مصدق لما معهم بيّن في هذه الآية أن من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كونه مصدقاً لما معهم فقال قُلْ ءامَنَّا بِاللَّهِ إلى آخر الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى وحد الضمير في قُلْ وجمع في مِنَ وفيه وجوه الأول إنه تعالى حين خاطبه إنما خاطبه بلفظ الوحدان وعلمه أنه حين يخاطب القوم يخاطبهم بلفظ الجمع على وجه التعظيم
والتفخيم مثل ما يتكلم الملوك والعظماء والثاني أنه خاطبه أولاً بخطاب الوجدان ليدل هذا الكلام على أنه لا مبلغ لهذا التكليف من الله إلى الخلق إلا هو ثم قال مِنَ تنبيهاً على أنه حين يقول هذا القول فإن أصحابه يوافقونه عليه الثالث إنه تعالى عينه في هذا التكليف بقوله قُلْ ليظهر به كونه مصدقاً لما معهم ثم قال مِنَ تنبيهاً على أن هذا التكليف ليس من خواصه بل هو لازم لكل المؤمنين كما قال وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ ( البقرة 285 )
المسألة الثانية قدم الإيمان بالله على الإيمان بالأنبياء لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة وفي المرتبة الثانية ذكر الإيمان بما أنزل عليه لأن كتب سائر الأنبياء حرفوها وبدلوها فلا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بما أنزل الله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان ما أنزل على محمد كالأصل لما أنزل على سائر الأنبياء فلهذا قدمه عليه وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء وهم الأنبياء الذين يعترف أهل الكتاب بوجودهم ويختلفون في نبوتهم وَالاسْبَاطَ هم أسباط يعقوب عليه السلام الذين ذكر الله أممهم الاثنى عشر في سورة الأعراف وإنما أوجب الله تعالى الإقرار بنبوّة كل الأنبياء عليهم السلام لفوائد إحداها إثبات كونه عليه السلام مصدقاً لجميع الأنبياء لأن هذا الشرط كان معتبراً في أخذ الميثاق وثانيها التنبيه على أن مذاهب أهل الكتاب متناقضة وذلك لأنهم إنما يصدقون النبي الذي يصدقونه لمكان ظهور المعجزة عليه وهذا يقتضي أن كل من ظهرت المعجزة عليه كان نبياً وعلى هذا يكون تخصيص البعض بالتصديق والبعض بالتكذيب متناقضاً بل الحق تصديق الكل والاعتراف بنبوّة الكل وثالثها إنه قال قبل هذه الآية أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( آل عمران 83 ) وهذا تنبيه على أن إصرارهم على تكذيب بعض الأنبياء إعراض عن دين الله ومنازعة مع الله فههنا أظهر الإيمان بنبوّة جميع الأنبياء ليزول عنه وعن أمته ما وصف أهل الكتاب به من منازعة الله في الحكم والتكليف ورابعها أن في الآية الأولى ذكر أنه أخذ الميثاق على جميع النبيّين أن يؤمنوا بكل من أتى بعدهم من الرسل وههنا أخذ الميثاق على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأن يؤمن بكل من أتى قبله من الرسل ولم يأخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده من الرسل فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه على أنه لا نبي بعده ألبتة فإن قيل لم عدَّى أَنَزلَ في هذه الآية بحرف الاستعلاء وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء قلنا لوجود المعنيين جميعاً لأن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر وقيل أيضاً إنما قيل عَلَيْنَا في حق الرسول لأن الوحي ينزل عليه وإلينا في حق الأمة لأن الوحي يأتيهم من الرسول على وجه الانتهاء وهذا تعسف ألا ترى إلى قوله بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ( البقرة 4 ) وأنزل إليك الكتاب وإلى قوله وَقَالَت طَّائِفَة ٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ ( آل عمران 72 )
المسألة الثانية اختلف العلماء في أن الإيمان بهؤلاء الأنبياء الذين تقدموا ونسخت شرائعهم كيف يكون وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخاً فهل تصير نبوته منسوخة فمن قال إنها تصير منسوخة قال نؤمن أنهم كانوا أنبياء ورسلاً ولا نؤمن بأنهم الآن أنبياء ورسل ومن قال إن نسخ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوّة قال نؤمن أنهم أنبياء ورسل في الحال فتنبه لهذا الموضع
المسألة الرابعة قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ فيه وجوه الأول قال الأصم التفرق قد يكون بتفضيل البعض على البعض وقد يكون لأجل القول بأنهم ما كانوا على سبيل واحد في الطاعة لله والمراد
من هذا الوجه يعني نقر بأنهم كانوا بأسرهم على دين واحد في الدعوة إلى الله وفي الانقياد لتكاليف الله الثاني قال بعضهم المراد لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ بأن نؤمن ببعض دون بعض كما تفرقت اليهود والنصارى الثالث قال أبو مسلم لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ أي لا نفرق ما أجمعوا عليه وهو كقوله وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ( آل عمران 103 ) وذم قوماً وصفهم بالتفرق فقال لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( الأنعام 94 )
أما قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ففيه وجوه الأول إن إقرارنا بنبوّة هؤلاء الأنبياء إنما كان لأجل كوننا منقادين لله تعالى مستسلمين لحكمه وأمره وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ والثاني قال أبو مسلم وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مستسلمون لأمر الله بالرضا وترك المخالفة وتلك صفة المؤمنين بالله وهم أهل السلم والكافرون يوصفون بالمحاربة لله كما قال إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ( المائدة 33 ) الثالث أن قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ يفيد الحصر والتقدير له أسلمنا لا لغرض آخر من سمعة ورياء وطلب مال وهذا تنبيه على أن حالهم بالضد من ذلك فإنهم لا يفعلون ولا يقولون إلا للسمعة والرياء وطلب الأموال والله أعلم
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاٌّ خِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ
اعلم أنه تعالى لما قال في آخر الآية المتقدمة وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( آل عمران 84 ) أتبعه بأن بيّن في هذه الآية أن الدين ليس إلا الإسلام وأن كل دين سوى الإسلام فإنه غير مقبول عند الله لأن القبول للعمل هو أن يرضى الله ذلك العمل ويرضى عن فاعله ويثيبه عليه ولذلك قال تعالى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( المائدة 27 ) ثم بيّن تعالى أن كل من له دين سوى الإسلام فكما أنه لا يكون مقبولاً عند الله فكذلك يكون من الخاسرين والخسران في الآخرة يكون بحرمان الثواب وحصول العقاب ويدخل فيه ما يلحقه من التأسف والتحسر على ما فاته في الدنيا من العمل الصالح وعلى ما تحمله من التعب والمشقة في الدنيا في تقريره ذلك الدين الباطل واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً لقوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ إلا أن ظاهر قوله تعالى قَالَتِ الاْعْرَابُ ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا ( الحجرات 14 ) يقتضي كون الإسلام مغايراً للإيمان ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي والآية الثانية على الوضع اللغوي
كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَة َ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما عظم أمر الإسلام والإيمان بقوله وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَة ِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( آل عمران 85 ) أكد ذلك التعظيم بأن بيّن وعيد من ترك الإسلام فقال كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في سبب النزول أقوال الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت هذه الآية في عشرة رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ الثاني نقل أيضاً عن ابن عباس أنه قال نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوّة فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بغياً وحسداً والثالث نزلت في الحرث بن سويد وهو رجل من الأنصار حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن اسألوا لي هل لي من توبة فأرسل إليه أخوه بالآية فأقبل إلى المدينة وتاب على يد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقبل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) توبته قال القفال رحمه الله للناس في هذه الآية قولان منهم من قال إن قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا وما بعده من قوله كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ إلى قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ نزل جميع ذلك في قصة واحدة ومنهم من جعل ابتداء القصة من قوله إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ ثم على التقديرين ففيها أيضاً قولان أحدهما أنها في أهل الكتاب والثاني أنها في قوم مرتدين عن الإسلام آمنوا ثم ارتدوا على ما شرحناه
المسألة الثانية اختلف العقلاء في تفسير قوله كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ أما المعتزلة فقالوا إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف إذ لو يعم الكل بهذه الأشياء لصار الكافر والضال معذوراً ثم إنه تعالى حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار فلا بد من تفسير هذه الهداية بشيء آخر سوى نصب الدلائل ثم ذكروا فيه وجوهاً الأول المراد من هذه الآية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثواباً لهم على إيمانهم كما قال تعالى وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ( العنكبوت 69 ) وقال تعالى وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( مريم 76 ) وقال تعالى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وقال يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ( المائدة 16 )
فدلت هذه الآيات على أن المهتدي قد يزيده الله هدى ً الثاني أن المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنة
قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ( النساء 168 169 ) وقال يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الاْنْهَارُ ( يونس 9 ) والثالث أنه لا يمكن أن يكون المراد من الهداية خلق المعرفة فيه لأن على هذا التقدير يلزم أن يكون أيضاً من الله تعالى لأنه تعالى إذا خلق المعرفة كان مؤمناً مهتدياً وإذا لم يخلقها كان كافراً ضالاً ولو كان الكفر من الله تعالى لم يصح أن يذمهم الله على الكفر ولم يصح أن يضاف الكفر إليهم لكن الآية ناطقة بكونهم مذمومين بسبب الكفر وكونهم فاعلين للكفر فإنه تعالى قال كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ فضاف الكفر إليهم وذمهم على ذلك الكفر فهذا جملة أقوالهم في هذه الآية وأما أهل السنة فقالوا المراد من الهداية خلق المعرفة قالوا وقد جرت سنة الله في دار التكليف أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإن الله تعالى يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال كيف يخلق الله فيهم المعرفة وهم قصدوا تحصيل الكفر أو أرادوه والله أعلم
المسألة الثالثة قوله وَأَشْهِدُواْ فيه قولان
الأول أنه عطف والتقدير بعد أن آمنوا وبعد أن شهدوا أن الرسول حق لأن عطف الفعل على الاسم لا يجوز فهو في الظاهر وإن اقتضى عطف الفعل على الاسم لكنه في المعنى عطف الفعل على الفعل الثاني أن الواو للحال بإضمار ( قد ) والتقدير كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم حال ما شهدوا أن الرسول حق
المسألة الرابعة تقدير الآية كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وبعد الشهادة بأن الرسول حق وقد جاءتهم البينات فعطف الشهادة بأن الرسول حق على الإيمان والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فيلزم أن الشهادة بأن الرسول حق مغاير للإيمان وجوابه إن مذهبنا أن الإيمان هو التصديق بالقلب والشهادة هو الإقرار باللسان وهما متغايران فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أن الإيمان مغاير للإقرار باللسان وأنه معنى قائم بالقلب
المسألة الخامسة اعلم أنه تعالى استعظم كفر القوم من حيث أنه حصل بعد خصال ثلاث أحدها بعد الإيمان وثانيها بعد شهادة كون الرسول حقاً وثالثها بعد مجيء البينات وإذا كان الأمر كذلك كان ذلك الكفر صلاحاً بعد البصيرة وبعد إظهار الشهادة فيكون الكفر بعد هذه الأشياء أقبح لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل
أما قوله تعالى وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ففيه سؤالان
السؤال الأول قال في أول الآية كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا وقال في آخرها وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وهذا تكرار
والجواب أن قوله كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ مختص بالمرتدين ثم إنه تعالى عمم ذلك الحكم في المرتد وفي الكافر الأصلي فقال وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
السؤال الثاني لم سمي الكافر ظالماً
الجواب قال تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) والسبب فيه أن الكافر أورد نفسه موارد
البلاء والعقاب بسبب ذلك الكفر فكان ظالماً لنفسه
ثم قال تعالى أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَة َ اللَّهِ وَالْمَلَئِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا والمعنى أنه تعالى حكم بأن الذين كفروا بعد إيمانهم يمنعهم الله تعالى من هدايته ثم بيّن أن الأمر غير مقصور عليه بل كما لا يهديهم في الدنيا يلعنهم اللعن العظيم ويعذبهم في الآخرة على سبيل التأبيد والخلود
واعلم أن لعنة الله مخالفة للعنة الملائكة لأن لعنته بالإبعاد من الجنة وإنزال العقوبة والعذاب واللعنة من الملائكة هي بالقول وكذلك من الناس وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم فصح أن يكون جزاء لذلك وههنا سؤالان
السؤال الأول لم عم جميع الناس ومن يوافقه لا يلعنه
قلنا فيه وجوه الأول قال أبو مسلم له أن يلعنه وإن كان لا يلعنه الثاني أنه في الآخرة يلعن بعضهم بعضاً قال تعالى كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّة ٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ( الأعراف 38 ) وقال ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ( العنكبوت 25 ) وعلى هذا التقدير فقد حصل اللعن للكفار من الكفار والثالث كأن الناس هم المؤمنون والكفار ليسوا من الناس ثم لما ذكر لعن الثلاث قال أَجْمَعِينَ الرابع وهو الأصح عندي أن جميع الخلق يلعنون المبطل والكافر ولكنه يعتقد في نفسه أنه ليس بمبطل ولا بكافر فإذا لعن الكافر وكان هو في علم الله كافراً فقد لعن نفسه وإن كان لا يعلم ذلك
السؤال الثاني قوله خَالِدِينَ فِيهَا أي خالدين في اللعنة فما خلود اللعنة
قلنا فيه وجهان الأول أن التخليد في اللعنة على معنى أنهم يوم القيامة لا يزال يلعنهم الملائكة والمؤمنون ومن معهم في النار فلا يخلو شيء من أحوالهم من أن يلعنهم لاعن من هؤلاء الثاني أن المراد بخلود اللعن خلود أثر اللعن لأن اللعن يوجب العقاب فعبر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعن ونظيره قوله تعالى مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ ( طه 100 101 ) الثالث قال ابن عباس قوله خَالِدِينَ فِيهَا أي في جهنم فعلى هذا الكناية عن غير مذكور واعلم أن قوله خَالِدِينَ فِيهَا نصب على الحال مما قبله وهو قوله تعالى عَلَيْهِمْ لَعْنَة ُ اللَّهِ
ثم قال لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ معنى الانظار التأخير قال تعالى فَنَظِرَة ٌ إِلَى مَيْسَرَة ٍ ( البقرة 280 ) فالمعنى أنه لا يجعل عذابهم أخف ولا يؤخر العقاب من وقت إلى وقت وهذا تحقيق قول المتكلمين إن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة نعوذ منه بالله
ثم قال إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ والمعنى إلا الذين تابوا منه ثم بيّن أن التوبة وحدها لا تكفي حتى ينضاف إليها العمل الصالح فقال وَأَصْلَحُواْ أي أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات وذلك بأن يلعنوا بأنا كنا على الباطل حتى أنه لو اغتر بطريقتهم الفاسدة مغتر رجع عنها
ثم قال فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وفيه وجهان الأول غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر رحيم في الآخرة بالعفو الثاني غفور بإزالة العقاب رحيم بإعطاء الثواب ونظيره قوله تعالى قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن
يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ( الأنفال 38 ) ودخلت الفاء في قوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لأنه الجزاء وتقدير الكلام إن تابوا فإن الله يغفر لهم
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ
المسألة الأولى اختلفوا فيما به يزداد الكفر والضابط أن المرتد يكون فاعلاً للزيادة بأن يقيم ويصر فيكون الإصرار كالزيادة وقد يكون فاعلاً للزيادة بأن يضم إلى ذلك الكفر كفراً آخر وعلى هذا التقدير الثاني ذكروا فيه وجوهاً الأول أن أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه ثم كفروا به عند المبعث ثم ازدادوا كفراً بسبب طعنهم فيه في كل وقت ونقضهم ميثاقه وفتنتهم للمؤمنين وإنكارهم لكل معجزة تظهر الثاني أن اليهود كانوا مؤمنين بموسى عليه السلام ثم كفروا بسبب إنكارهم عيسى والإنجيل ثم ازدادوا كفراً بسبب إنكارهم محمداً عليه الصلاة والسلام والقرآن والثالث أن الآية نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة وازديادهم الكفر أنهم قالوا نقيم بمكة نتربص بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ريب المنون الرابع المراد فرقة ارتدوا ثم عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق فسمى الله تعالى ذلك النفاق كفراً
المسألة الثانية أنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين وحكم في هذه الآية بعدم قبولها وهو يوهم التناقض وأيضاً ثبت بالدليل أنه متى وجدت التوبة بشروطها فإنها تكون مقبولة لا محالة فلهذا اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ على وجوه
الأول قال الحسن وقتادة وعطاء السبب أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والله تعالى يقول وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ الاْنَ ( النساء 18 ) الثاني أن يحمل هذا على ما إذا تابوا باللسان ولم يحصل في قلوبهم إخلاص الثالث قال القاضي والقفال وابن الأنباري أنه تعالى لما قدم ذكر من كفر بعد الإيمان وبيّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير نير مقبولة وتصير كأنها لم تكن قال وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه لأن التقدير إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم الرابع قال صاحب ( الكشاف ) قوله لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ جعل كناية عن الموت على الكفر لأن الذي لا تقبل توبته من الكفار هو الذي يموت على الكفر كأنه قيل إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر داخلون في جملة من لا تقبل توبتهم الخامس لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة فقط فإن التوبة عن تلك الزيادة لا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل
وأقول جملة هذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا على المعهود السابق لا على الاستغراق وإلا فكم من مرتد تاب عن ارتداده توبة صحيحة مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف فأما الجواب الذي حكيناه عن القفال والقاضي فهو جواب مطرد سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق أو على الاستغراق
أما قوله وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ففيه سؤالان الأول وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ينفي كون غيرهم ضالاً وليس الأمر كذلك فإن كل كافر فهو ضال سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً في الأصل والجواب هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال
السؤال الثاني وصفهم أولاً بالتمادي على الكفر والغلو فيه والكفر أقبح أنواع الضلال والوصف إنما يراد للمبالغة والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى حالاً منه لا بما هو أضعف حالاً منه والجواب قد ذكرنا أن المراد أنهم هم الضالون على سبيل الكمال وعلى هذا التقدير تحصل المبالغة
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام أحدها الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( آل عمران 89 ) وثانيهما الذي يتوب عن ذلك الكفر توبة فاسدة وهو الذي ذكره الله في الآية المتقدمة وقال إنه لن تقبل توبته وثالثهما الذي يموت على الكفر من غير توبة ألبتة وهو المذكور في هذه الآية ثم إنه تعالى أخبر عن هؤلاء بثلاثة أنواع
النوع الأول قوله فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ قال الواحدي ملء الشيء قدر ما يملؤه وانتصب ذَهَبًا على التفسير ومعنى التفسير أن يكون الكلام تاماً إلا أن يكون مبهماً كقوله عندي عشرون فالعدد معلوم والمعدود مبهم فإذا قلت درهماً فسرت العدد وكذلك إذا قلت هو أحسن الناس فقد أخبرت عن حسنه ولم تبين في ماذا فإذا قلت وجهاً أو فعلاً فقد بينته ونصبته على التفسير وإنما نصبته لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه فلما خلا من هذين نصب لأن النصب أخف الحركات فيجعل كأنه لا عامل فيه قال صاحب ( الكشاف ) وقرأ الأعمش ذَهَبَ بالرفع رداً على ملء كما يقال عندي عشرون نفساً رجال
وههنا ثلاثة أسئلة
السؤال الأول لم قيل في الآية المتقدمة لَّن تُقْبَلَ بغير فاء وفي هذه الآية فَلَن يُقْبَلَ بالفاء
الجواب أن دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء وعند عدم الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطا وجزاء تقول الذي جاءني له درهم فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء وإذا قلت الذي جاءني فله درهم فهذا لا يفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء فذكر الفاء في هذه الآية يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر
السؤال الثاني ما فائدة الواو في قوله وَلَوِ افْتَدَى بِهِ
الجواب ذكروا فيه وجوهاً الأول قال الزجاج إنها للعطف والتقدير لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لم ينفعه ذلك مع كفره ولو افتدى من العذاب بملء الأرض ذهباً لم قبل منه وهذا اختيار ابن الأنباري قال وهذا أوكد في التغليظ لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه الثاني الواو دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال وذلك لأن قوله كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا يحتمل الوجوه الكثيرة فنص على نفي القبول بجهة الفدية الثالث وهو وجه خطر ببالي وهو أن من غضب على بعض عبيده فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها ألبتة إلا أنه قد يقبل منه الفدية فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضاً كان ذلك غاية الغضب والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية فحكم تعالى بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهباً ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيهاً على أنه لما لم يكن مقبولاً بهذا الطريق فبأن لا يكون مقبولاً منه بسائر الطرق أولى
السؤال الثالث أن من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً ومعلوم أن بتقدير أن يملك الذهب فلا ينفع الذهب ألبتة في الدار الآخرة فما فائدة قوله لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا
الجواب فيه وجهان أحدهما أنهم إذا ماتوا على الكفر فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهباً لن يقبل الله تعالى ذلك منهم لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة والثاني أن الكلام وقع على سبيل الفرض والتقدير فالذهب كناية عن أعز الأشياء والتقدير لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ثم قدر على بذله في غاية الكثرة لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب الله وبالجملة فالمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب
النوع الثاني من الوعيد المذكور في هذه الآية قوله وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الكافر لا يمكنه تخليص النفس من العذاب أردفه بصفة ذلك العذاب فقال وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم
النوع الثالث من الوعيد قوله وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ والمعنى أنه تعالى لما بيّن أنه لا خلاص لهم عن هذا العذاب الأليم بسبب الفدية بيّن أيضاً أنه لا خلاص لهم عنه بسبب النصرة والإعانة والشفاعة ولأصحابنا أن يحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة وذلك لأنه تعالى ختم تعديد وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر والله أعلم
لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَى ْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن الإنفاق لا ينفع الكافر ألبتة علم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة فقال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وبيّن في هذه الآية أن من أنفق مما أحب كان من جملة الأبرار ثم قال في آية أخرى إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ ( المطففين 22 ) وقال أيضاً إِنَّ الاْبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً ( الإنسان 5 ) وقال أيضاً إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الاْرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ( المطففين 22 26 ) وقال لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( البقرة 177 ) فالله تعالى لما فصل في سائر الآيات كيفية ثواب الأبرار اكتفى ههنا بأن ذكر أن من أنفق ما أحب نال البر وفيه لطيفة أخرى
وهي أنه تعالى قال لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَالْمَلَئِكَة ِ إلى آخر الآية فذكر في هذه الآية أكثر أعمال الخير وسماه البر ثم قال في هذه الآية لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ والمعنى أنكم وإن أتيتم بكل تلك الخيرات المذكورة في تلك الآية فإنكم لا تفوزون بفضيلة البر حتى تنفقوا مما تحبون وهذا يدل على أن الإنسان إذا أنفق ما يحبه كان ذلك أفضل الطاعات وههنا بحث وهو أن لقائل أن يقول كلمة حَتَّى لانتهاء الغاية فقوله لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ يقتضي أن من أنفق مما أحب فقد نال البر ومن نال البر دخل تحت الآيات الدالة على عظم الثواب للأبرار فهذا يقتضي أن من أنفق ما أحب وصل إلى الثواب العظيم وإن لم يأت بسائر الطاعات وهو باطل وجواب هذا الإشكال أن الإنسان لا يمكنه أن ينفق محبوبه إلا إذا توسل بإنفاق ذلك المحبوب إلى وجدان محبوب أشرف من الأول فعلى هذا الإنسان لا يمكنه أن ينفق الدنيا في الدنيا إلا إذا تيقن سعادة الآخرة ولا يمكنه أن يعترف بسعادة الآخرة إلا إذا أقر بوجود الصانع العالم القادر وأقر بأنه يجب عليه الانقياد لتكاليفه وأوامره ونواهيه فإذا تأملت علمت أن الإنسان لا يمكنه إنفاق الدنيا في الدنيا إلا إذا كان مستجمعاً لجميع الخصال المحمودة في الدنيا ولنرجع إلى التفسير فنقول في الآية مسائل
المسألة الأولى كان السلف إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله روي أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة يا رسول الله لي حائط بالمدينة وهو أحب أموالي إليّ أفأتصدق به فقال عليه السلام ( بخ بخ ذاك مال رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين ) فقال أبو طلحة أفعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه ويروى أنه جعلها بين حسّان بن ثابت وأُبي بن كعب رضي الله عنهما وروي أن زيد بن حارثة رضي الله عنه جاء عند نزول هذه الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله فحمل عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أسامة فوجد زيد في نفسه فقال عليه السلام ( إن الله قد قبلها ) واشترى ابن عمر جارية أعجبته فأعتقها فقيل له لم أعتقتها ولم تصب منها فقال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ
المسألة الثانية للمفسرين في تفسير البر قولان أحدهما ما به يصيرون أبراراً حتى يدخلوا في قوله
إِنَّ الاْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ فيكون المراد بالبر ما يحصل منهم من الأعمال المقبولة والثاني الثواب والجنة فكأنه قال لن تنالوا هذه المنزلة إلا بالانفاق على هذا الوجه
أما القائلون بالقول الأول فمنهم من قال الْبَرّ هو التقوى واحتج بقوله وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ إلى قوله أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( البقرة 177 ) وقال أبو ذر إن البر هو الخير وهو قريب مما تقدم
وأما الذين قالوا البر هو الجنة فمنهم من قال لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ أي لن تنالوا ثواب البر ومنهم من قال المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم وتفضله عليهم وهو من قول الناس برني فلان بكذا وبر فلان لا ينقطع عني وقال تعالى لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ إلى قول أَن تَبَرُّوهُمْ ( الممتحنة 8 )
المسألة الثالثة اختلف المفسرون في قوله مِمَّا تُحِبُّونَ منهم من قال إنه نفس المال قال تعالى وَإِنَّهُ لِحُبّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ( العاديات 8 ) ومنهم من قال أن تكون الهبة رفيعة جيدة قال تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ( البقرة 267 ) ومنهم من قال ما يكون محتاجاً إليه قال تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً ( الإنسان 8 ) أحد تفاسير الحب في هذه الآية على حاجتهم إليه وقال وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة ٌ ( الحشر 9 ) وقال عليه السلام ( أفضل الصدقة ما تصدقت به وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ) والأولى أن يقال كل ذلك معتبر في باب الفضل وكثرة الثواب
المسألة الرابعة اختلف المفسرون في أن هذا الانفاق هل هو الزكاة أو غيرها قال ابن عباس أراد به الزكاة يعني حتى تخرجوا زكاة أموالكم وقال الحسن كل شيء أنفقه المسلم من ماله طلب به وجه الله فإنه من الذين عنى الله سبحانه بقوله لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ حتى التمرة والقاضي اختار القول الأول واحتج عليه بأن هذا الانفاق وقف الله عليه كون المكلف من الأبرار والفوز بالجنة بحيث لو لم يوجد هذا الانفاق لم يصر العبد بهذه المنزلة وما ذاك إلا الانفاق الواجب وأقول لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أولى لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحب والزكاة الواجبة ليس فيها إيتاء الأحب فإنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل الندب
المسألة الخامسة نقل الواحدي عن مجاهد والكلبي أن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة وهذا في غاية البعد لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله سبحانه وتعالى
المسألة السادسة قال بعضهم كلمة مِنْ في قوله مِمَّا تُحِبُّونَ للتبعيض وقرأ عبد الله حَتَّى تُنفِقُواْ بَعْضِ مَا تُحِبُّونَ وفيه إشارة إلى أن إنفاق الكل لا يجوز ثم قال وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ( الفرقان 67 ) وقال آخرون إنها للتبيين
وأما قوله
وما ينفقوا من شيء فإن الله به عليم
ففيه سؤال
وهو أن يقال قيل فإن الله به عليم على جهة جواب الشرط مع أن الله تعالى يعلمه على كل حال
والجواب من وجهين الأول أن فيه معنى الجزاء تقديره وما تنفقوا من شيء فإن الله به يجازيكم قل أم كثر لأنه عليم به لا يخفى عليه شيء منه فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب والتعريض في مثل هذا الموضع يكون أبلغ من التصريح والثاني أنه تعالى يعلم الوجه الذي لأجله يفعلونه ويعلم أن الداعي إليه أهو الإخلاص أم الرياء ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود أم الأخس الأرذل
واعلم أن نظير هذه الآية قوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وقوله وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَة ٍ أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ( البقرة 270 ) قال صاحب ( الكشاف ) مِنْ في قوله مِن شَى ْء لتبيين ما ينفقونه أي من شيء كان طيباً تحبونه أو خبيثاً تكرهونه فإن الله به عليم يجازيكم على قدره
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاة ُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاة ِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أن الآيات المتقدمة إلى هذه الآية كانت في تقرير الدلائل الدالة على نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب
وأما هذه الآية فهي في بيان الجواب عن شبهات القوم فإن ظاهر الآية يدل على أنه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعي أن كل الطعام كان حلاً ثم صار البعض حراماً بعد أن كان حلاً والقوم نازعوه في ذلك وزعموا أن الذي هو الآن حرام كان حراماً أبداً
وإذا عرفت هذا فنقول الآية تحتمل وجوهاً الأول أن اليهود كانوا يعولون في إنكار شرع محمد ( صلى الله عليه وسلم )
على إنكار النسخ فأبطل الله عليهم ذلك بأن كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ فذاك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده فقد حصل النسخ فبطل قولكم النسخ غير جائز ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال أنكروا أن يكون حرمة ذلك الطعام الذي حرم الله بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه بل زعموا أن ذلك كان حراماً من لدن زمان آدم عليه السلام إلى هذا الزمان فعند هذا طلب الرسول عليه السلام منهم أن يحضروا التوراة فإن التوراة ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حرم بسبب أن إسرائيل حرمه على نفسه فخافوا من الفضيحة وامتنعوا من إحضار التوراة فحصل عند ذلك أمور كثيرة تقوي دلائل نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أحدها أن هذا السؤال قد توجه عليهم في إنكار النسخ وهو لازم لا محيص عنه وثانيها أنه ظهر للناس كذبهم وأنهم ينسبون إلى التوراة ما ليس فيها تارة ويمتنعون عن الإقرار بما هو فيها أخرى وثالثها أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كان رجلاً أُمياً لا يقرأ ولا يكتب فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر السماء فهذا وجه حسن علمي في تفسير الآية وبيان النظم
الوجه الثاني أن اليهود قالوا له إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم فلو كان الأمر كذلك فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم فجعلوا هذا الكلام شبهة طاعنة في صحة دعواه فأجاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن هذه الشبهة بأن قال ذلك كان حلاً لإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب عليهم السلام إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب وبقيت تلك الحرمة في أولاده فأنكر اليهود ذلك فأمرهم الرسول عليه السلام بإحضار التوراة وطالبهم بأن يستخرجوا منها آية تدل على أن لحوم الإبل وألبانها كانت محرمة على إبراهيم عليه السلام فعجزوا عن ذلك وافتضحوا فظهر عند هذا أنهم كانوا كاذبين في ادعاء حرمة هذه الأشياء على إبراهيم عليه السلام
الوجه الثالث أنه تعالى لما أنزل قوله وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا ( الأنعام 146 ) وقال أيضاً فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 ) فدلت هذه الآية على أنه تعالى إنما حرم على اليهود هذه الأشياء جزاءً لهم على بغيهم وظلمهم وقبيح فعلهم وإنه لم يكن شيء من الطعام حراماً غير الطعام الواحد الذي حرمه إسرائيل على نفسه فشق ذلك على اليهود من وجهين أحدهما أن ذلك يدل على أن تلك الأشياء حرمت بعد أن كانت مباحة وذلك يقتضي وقوع النسخ وهم ينكرونه والثاني أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال فلما حق عليهم ذلك من هذين الوجهين أنكروا كون حرمة هذه الأشياء متجددة بل زعموا أنها كانت محرمة أبداً فطالبهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بآية من التوراة تدل على صحة قولهم فعجزوا عنه فافتضحوا فهذا وجه الكلام في تفسير هذه الآية وكله حسن مستقيم ولنرجع إلى تفسير الألفاظ
أما قوله كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) كُلُّ الطَّعَامِ أي كل المطعومات أو كل أنواع الطعام وأقول اختلف الناس في أن اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام هل يفيد العموم أم لا
ذهب قوم من الفقهاء والأدباء إلى أنه يفيده واحتجوا عليه بوجوه أحدها أنه تعالى أدخل لفظ كُلٌّ على لفظ الطعام في هذه الآية ولولا أن لفظ الطعام قائم مقام لفظ المطعومات وإلا لما جاز ذلك وثانيها أنه استثنى عنه ما حرم إسرائيل على نفسه والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ الطعام وإلا لم يصح هذا الاستثناء وأكدوا هذا بقوله تعالى إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ ( العصر 2 3 ) وثالثها أنه تعالى وصف هذا اللفظ المفرد بما يوصف به لفظ الجمع فقال وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رّزْقاً لّلْعِبَادِ ( ق 10 11 ) فعلى هذا من ذهب إلى هذا المذهب لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب ( الكشاف ) أما من قال إن الاسم المفرد المحلى بالألف واللام لا يفيد العموم وهو الذي نظرناه في أصول الفقه احتاج إلى الإضمار الذي ذكره صاحب ( الكشاف )
المسألة الثانية الطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليه إنه اسم للبر خاصة وهذه الآية دالة على ضعف هذا الوجه لأنه استثنى من لفظ الطعام ما حرم إسرائيل على نفسه والمفسرون اتفقوا على أن ذلك الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان شيئاً سوى الحنطة وسوى ما يتخذ منها ومما يؤكد ذلك قوله تعالى في صفة الماء وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى ( البقرة 249 ) وقال تعالى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ( المائدة 5 ) وأراد الذبائح وقالت عائشة رضي الله عنها ما لنا طعام إلا الأسودان والمراد التمر والماء
إذا عرفت هذا فنقول ظاهر هذه الآية يدل على أن جميع المطعومات كان حلاً لبني إسرائيل ثم قال القفال لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام وكذا القول في الخنزير ثم قال فيحتمل أن يكون ذلك على الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أنها كان محرمة على إبراهيم وعلى هذا التقدير لا تكون الألف واللام في لفظ الطعام للاستغراق بل للعهد السابق وعلى هذا التقدير يزول الإشكال ومثله قوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِى مَا أُوْحِى َ إِلَى َّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَة ً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ ( الأنعام 145 ) فإنه إنما خرج هذا الكلام على أشياء سألوا عنها فعرفوا أن المحرم منها كذا وكذا دون غيره فكذا في هذه الآية
المسألة الثالثة الحل مصدر يقال حل الشيء حلاً كقولك ذلت الدابة ذلاً وعز الرجل عزاً ولذلك استوى في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال تعالى لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ ( الممتحنة 10 ) والوصف بالمصدر يفيد المبالغة فههنا الحل والمحلل واحد قال ابن عباس رضي الله عنهما في زمزم هي حل وبل رواه سفيان بن عيينة فسئل سفيان ما حل فقال محلل
أما قوله تعالى إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في الشيء الذي حرمه إسرائيل على نفسه على وجوه الأول روى ابن عباس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن يعقوب مرض مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله ليحرمن أحب الطعام والشراب عليه وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها ) وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل والثاني قيل إنه كان به عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئاً من العروق الثالث جاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر ونقل القفال رحمه الله عن ترجمة التوراة أن
يعقوب لما خرج من حران إلى كنعان بعث برداً إلى عيصو أخيه إلى أرض ساعير فانصرف الرسول إليه وقال إن عيصو هو ذا يتلقاك ومعه أربعمائة رجل فذعر يعقوب وحزن جداً وصلّى ودعا وقدم هدايا لأخيه وذكر القصة إلى أن ذكر الملك الذي لقيه في صورة رجل فدنا ذلك الرجل ووضع أصبعه على موضع عرق النسا فخدرت تلك العصبة وجفت فمن أجل هذا لا يأكل بنو إسرائيل العروق
المسألة الثانية ظاهر الآية يدل على أن إسرائيل حرم ذلك على نفسه وفيه سؤال وهو أن التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله تعالى فكيف صار تحريم يعقوب عليه السلام سبباً لحصوله الحرمة
أجاب المفسرون عنه من وجوه الأول أنه لا يبعد أن الإنسان إذا حرم شيئاً على نفسه فإن الله يحرمه عليه ألا ترى أن الإنسان يحرم امرأته على نفسه بالطلاق ويحرم جاريته بالعتق فكذلك جائز أن يقول تعالى إن حرمت شيئاً على نفسك فأنا أيضاً أحرمه عليك الثاني أنه عليه الصلاة والسلام ربما اجتهد فأدى اجتهاده إلى التحريم فقال بحرمته وإنما قلنا إن الاجتهاد جائز من الأنبياء لوجوه الأول قوله تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 ) ولا شك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام رؤساء أولي الأبصار والثاني قال لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ( النساء 83 ) مدح المستنبطين والأنبياء أولى بهذا المدح والثالث قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 ) فلو كان ذلك الإذن بالنص لم يقل لم أذنت فدل على أنه كان بالاجتهاد الرابع أنه لا طاعة إلا وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها أعظم نصيب ولا شك أن استنباط أحكام الله تعالى بطريق الاجتهاد طاعة عظيمة شاقة فوجب أن يكون للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها نصيب لا سيما ومعارفهم أكثر وعقولهم أنور وأذهانهم أصفى وتوفيق الله وتسديده معهم أكثر ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد على الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته والأظهر الأقوى أن إسرائيل صلوات الله عليه إنما حرم ذلك على نفسه بسبب الاجتهاد إذ لو كان ذلك بالنص لقال إلا ما حرّم الله على إسرائيل فلما أضاف التحريم إلى إسرائيل دل هذا على أن ذلك كان بالاجتهاد وهو كما يقال الشافعي يحل لهم الخيل وأبو حنيفة يحرمه بمعنى أن اجتهاده أدى إليه فكذا ههنا
الثالث يحتمل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا فكما يجب علينا الوفاء بالنذر كان يجب في شرعه الوفاء بالتحريم
واعلم أن هذا لو كان فإنه كان مختصاً بشرعه أما في شرعنا فهو غير ثابت قال تعالى عِلْمَا ياأَيُّهَا النَّبِى ُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ( التحريم 1 ) الرابع قال الأصم لعل نفسه كانت مائلة إلى أكل تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس وطلباً لمرضاة الله تعالى كما يفعله كثير من الزهاد فعبر من ذلك الامتناع بالتحريم الخامس قال قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب وللمتكلمين في هذه المسألة منازعات كثيرة ذكرناها في أصول الفقه
المسألة الثالثة ظاهر هذه الآية يدل على أن الذي حرمه إسرائيل على نفسه فقد حرمه الله على بني إسرائيل وذلك لأنه تعالى قال كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ فحكم بحل كل أنواع المطعومات لبني
إسرائيل ثم استثنى عنه ما حرمه إسرائيل على نفسه فوجب بحكم الاستثناء أن يكون ذلك حراماً على بني إسرائيل والله أعلم
أما قوله تعالى مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاة ُ فالمعنى أن قبل نزول التوراة كان حلاً لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرّمه إسرائيل على نفسه أما بعد التوراة فلم يبق كذلك بل حرم الله تعالى عليهم أنواعاً كثيرة روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم حرم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام أو سلّط عليهم شيئاً لهلاك أو مضرة دليله قوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ( النساء 160 )
ثم قال تعالى قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاة ِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وهذا يدل على أن القوم نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إما لأنهم ادعوا أن تحريم هذه الأشياء كان موجوداً من لدن آدم عليه السلام إلى هذا الزمان فكذبهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك وإما لأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ادعى كون هذه المطعومات مباحة في الزمان القديم وأنها إنما حرمت بسبب أن إسرائيل حرمها على نفسه فنازعوه في ذلك فطلب الرسول عليه السلام إحضار التوراة ليستخرج منها المسلمون من علماء أهل الكتاب آية موافقة لقول الرسول وعلى كلا الوجهين فالتفسير ظاهر ولمنكري القياس أن يحتجوا بهذه الآية وذلك لأن الرسول عليه السلام طالبهم فيما ادعوه بكتاب الله ولو كان القياس حجة لكان لهم أن يقولوا لا يلزم من عدم هذا الحكم في التوراة عدمه لأنا نثبته بالقياس ويمكن أن يجاب عنه بأن النزاع ما وقع في حكم شرعي وإنما وقع في أن هذا الحكم هل كان موجوداً في زمان إبراهيم وسائر الأنبياء عليهم السلام أم لا ومثل هذا لا يمكن إثباته إلا بالنص فلهذا المعنى طالبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه بنص التوراة
ثم قال تعالى فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ الافتراء اختلاق الكذب والفرية الكذب والقذف وأصله من فرى الأديم وهو قطعه فقيل للكذب افتراء لأن الكاذب يقطع به في القول من غير تحقيق في الوجود
ثم قال مِن بَعْدِ ذالِكَ أي من بعد ظهور الحجة بأن التحريم إنما كان من جهة يعقوب ولم يكن محرماً قبله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ المستحقون لعذاب الله لأن كفرهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن أضلوه عن الدين
ثم قال تعالى قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ويحتمل وجوهاً أحدها قُلْ صَدَقَ في أن ذلك النوع من الطعام صار حراماً على إسرائيل وأولاده بعد أن كان حلالاً لهم فصح القول بالنسخ وبطلت شبهة اليهود وثانيها صَدَقَ اللَّهُ في قوله إن لحوم الإبل وألبانها كانت محللة لإبراهيم عليه السلام وإنما حرمت على بني إسرائيل لأن إسرائيل حرمها على نفسه فثبت أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما أفتى بحل لحوم الإبل وألبانها فقد أفتى بملة إبراهيم وثالثها صَدَقَ اللَّهُ في أن سائر الأطعمة كانت محللة لبني إسرائيل وأنها إنما حرمت على اليهود جزاءً على قبائح أفعالهم
ثم قال تعالى فَاتَّبِعُواْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلوات الله عليه من ملة إبراهيم وسواء قال ملة إبراهيم حنيفاً أو قال ملة إبراهيم الحنيف لأن الحال والصفة سواء في المعنى
ثم قال وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي لم يدع مع الله إلاهاً آخر ولا عبد سواه كما فعله بعضهم من عبادة الشمس والقمر أو كما فعله العرب من عبادة الأوثان أو كما فعله اليهود من ادعاء أن عزير ابن الله وكما فعله النصارى من ادعاء أن المسيح ابن الله والغرض منه بيان أن محمداً صلوات الله عليه على دين إبراهيم عليه السلام في الفروع والأصول
أما في الفروع فلما ثبت أن الحكم بحله كان إبراهيم قد حكم بحله أيضاً وأما في الأصول فلأن محمداً صلوات الله وسلامه عليه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى وما كان إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه إلا على هذا الدين
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ
قوله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول أن المراد منه الجواب عن شبهة أخرى من شبه اليهود في إنكار نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام وذلك لأنه عليه السلام لما حول القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال وذلك لأنه وضع قبل الكعبة وهو أرض المحشر وقبلة جملة الأنبياء وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة منه إلى الكعبة باطلاً فأجاب الله تعالى عنه بقوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فبيّن تعالى أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى والثاني أن المقصود من الآية المتقدمة بيان أن النسخ هل يجوز أم لا فإن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استدل على جوازه بأن الأطعمة كانت مباحة لبني إسرائيل ثم إن الله تعالى حرم بعضها والقوم نازعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيه وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله نسخها هو القبلة لا جرم ذكر تعالى في هذه الآية بيان ما لأجله حولت الكعبة وهو كون الكعبة أفضل من غيرها الثالث أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة فَاتَّبِعُواْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( آل عمران 95 ) وكان من أعظم شعار ملة إبراهيم الحج ذكر في هذه الآية فضيلة البيت ليفرع عليه إيجاب الحج الرابع أن اليهود والنصارى زعم كل فرقة منهم أنه على ملة إبراهيم وقد سبقت هذه المناظرة في الآيات المتقدمة فإن الله تعالى بيّن كذبهم من حيث أن حج الكعبة كان ملة إبراهيم واليهود والنصارى لا يحجون فيدل هذا على كذبهم في ذلك وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قال المحققون الأول هو الفرد السابق فإذا قال أول عبد اشتريه فهو حر فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق أحد منها لأن الأول هو الفرد ثم لو اشترى في المرة الثانية عبداً واحداً لم يعتق لأن شرط الأول كونه سابقاً فثبت أن الأول هو الفرد السابق
إذا عرفت هذا فنقول إن قوله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لا يدل على أنه أول بيت خلقه الله
تعالى ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض بل ظاهر الآية يدل على أنه أول بيت وضع للناس وكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس فأما سائر البيوت فيكون كل واحد منها مختصاً بواحد من الناس فلا يكون شيء من البيوت موضوعاً للناس وكون البيت مشتركاً فيه بين كل الناس لا يحصل إلا إذا كان البيت موضوعاً للطاعات والعبادات وقبلة للخلق فدل قوله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ على أن هذا البيت وضعه الله موضعاً للطاعات والخيرات والعبادات فيدخل فيه كون هذا البيت قبلة للصلوات وموضعاً للحج ومكانا يزداد ثواب العبادات والطاعات فيه
فإن قيل كونه أولاً في هذا الوصف يقتضي أن يكون له ثان وهذا يقتضي أن يكون بيت المقدس يشاركه في هذه الصفات التي منها وجوب حجه ومعلوم أنه ليس كذلك
والجواب من وجهين الأول أن لفظ الأول في اللغة اسم للشيء الذي يوجد ابتداء سواء حصل عقيبه شيء آخر أو لم يحصل يقال هذا أول قدومي مكة وهذا أول مال أصبته ولو قال أول عبد ملكته فهو حر فملك عبداً عتق وإن لم يملك بعده عبداً آخر فكذا هنا والثاني أن المراد من قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي أول بيت وضع لطاعات الناس وعباداتهم وبيت المقدس يشاركه في كونه بيتاً موضوعاً للطاعات والعبادات بدليل قوله عليه الصلاة والسلام ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ) فهذا القدر يكفي في صدق كون الكعبة أول بيت وضع للناس وأما أن يكون بيت المقدس مشاركاً له في جميع الأمور حتى في وجوب الحج فهذا غير لازم والله أعلم
المسألة الثانية اعلم أن قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ مُبَارَكاً يحتمل أن يكون المراد كونه أولاً في الوضع والبناء وأن يكون المراد كونه أولاً في كونه مباركاً وهدى ً فحصل للمفسرين في تفسير هذه الآية قولان الأول أنه أول في البناء والوضع والذاهبون إلى هذا المذهب لهم أقوال أحدها ما روى الواحدي رحمه الله تعالى في ( البسيط ) بإسناده عن مجاهد أنه قال خلق الله تعالى هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرضين وفي رواية أخرى خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شياً من الأرض بألفي سنة وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى وروي أيضاً عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين عن أبيه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( إن الله تعالى بعث ملائكته فقال ابنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور وهذا كان قبل خلق آدم )
وأيضاً ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر ومجاهد والسدي أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء وقد خلقه الله تعالى قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض تحته قال القفال في ( تفسيره ) روى حبيب بن ثابت عن ابن عباس أنه قال وجد في كتاب في المقام أو تحت المقام ( أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحرمتها يوم وضعت هذين الحجرين وحققتها بسبعة أملاك حنفاء ) وثانيها أن آدم صلوات الله عليه وسلامه لما أهبط إلى الأرض شكا الوحشة فأمره الله تعالى ببناء الكعبة وطاف بها وبقي ذلك إلى زمان نوح عليه السلام فلما أرسل الله
تعالى الطوفان رفع البيت إلى السماء السابعة حيال الكعبة يتعبد عنده الملائكة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك سوى من دخل من قبل فيه ثم بعد الطوفان اندرس موضع الكعبة وبقي مختفياً إلى أن بعث الله تعالى جبريل صلوات الله عليه إلى إبراهيم عليه السلام ودله على مكان البيت وأمره بعمارته فكان المهندس جبريل والبناء إبراهيم والمعين إسماعيل عليهم السلام
واعلم أن هذين القولين يشتركان في أن الكعبة كانت موجودة في زمان آدم عليه السلام وهذا هو الأصوب ويدل عليه وجوه الأول أن تكليف الصلاة كان لازماً في دين جميع الأنبياء عليهم السلام بدليل قوله تعالى في سورة مريم أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّيْنَ مِن ذُرّيَّة ِ ءادَمَ وَمِمَّن حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرّيَّة ِ إِبْراهِيمَ وَإِسْراءيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً ( مريم 58 ) فدلت الآية على أن جميع الأنبياء عليهم السلام كانوا يسجدون لله والسجدة لا بد لها من قبلة فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح عليهم السلام موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ فوجب أن يقال إن قبلة أولئك الأنبياء المتقدمين هي الكعبة فدل هذا على أن هذه الجهة كانت أبداً مشرفة مكرمة الثاني أن الله تعالى سمى مكة أم القرى وظاهر هذا يقتضي أنها كانت سابقة على سائر البقاع في الفضل والشرف منذ كانت موجودة الثالث روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في خطبته يوم فتح مكة ( ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر ) وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجود مكة الرابع أن الآثار التي حكيناها عن الصحابة والتابعين دالة على أنها كانت مودة قبل زمان إبراهيم عليه السلام
واعلم أن لمن أنكر ذلك أن يحتج بوجوه الأول ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ( اللّهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ) وظاهر هذا يقتضي أن مكة بناء إبراهيم عليه السلام ولقائل أن يقول لا يبعد أن يقال البيت كان موجوداً قبل إبراهيم وما كان محرماً ثم حرمه إبراهيم عليه السلام الثاني تمسكوا بقوله تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ( البقرة 127 ) ولقائل أن يقول لعل البيت كان موجوداً قبل ذلك ثم انهدم ثم أمر الله إبراهيم برفع قواعده وهذا هو الوارد في أكثر الأخبار الثالث قال القاضي إن الذي يقال من أنه رفع زمان الطوفان إلى السماء بعيد وذلك لأن الموضع الشريف هو تلك الجهة المعينة والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ألا ترى أن الكعبة والعياذ بالله تعالى لو انهدمت ونقل الأحجار والخشب والتراب إلى موضع آخر لم يكن له شرف ألبتة ويكون شرف تلك الجهة باقياً بعد الانهدام ويجب على كل مسلم أن يصلي إلى تلك الجهة بعينها وإذا كان كذلك فلا فائدة في نقل تلك الجدران إلى السماء ولقائل أن يقول لما صارت تلك الأجسام في العزة إلى حيث أمر الله بنقلها إلى السماء وإنما حصلت لها هذه العزة بسبب أنها كانت حاصلة في تلك الجهة فصار نقلها إلى السماء من أعظم الدلائل على غاية تعظيم تلك الجهة وإعزازها فهذا جملة ما في هذا القول
القول الثاني أن المراد من هذه الأولية كون هذا البيت أولاً في كونه مباركاً وهدى ً للخلق روي أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أول مسجد وضع للناس فقال عليه الصلاة والسلام ( المسجد الحرام ثم بيت المقدس ) فقيل كم بينهما قال ( أربعون سنة ) وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً قال له أهو أول بيت قال لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة أول من بناه إبراهيم
ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبناه العمالقة وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ثم هدم فبناه قريش
واعلم أن دلالة الآية على الأولية في الفضل والشرف أمر لا بد منه لأن المقصود الأصلي من ذكر هذه الأولية بيان الفضيلة لأن المقصود ترجيحه على بيت المقدس وهذا إنما يتم بالأولية في الفضيلة والشرف ولا تأثير للأولية في البناء في هذا المقصود إلا أن ثبوت الأولية بسبب الفضيلة لا ينافي ثبوت الأولية في البناء وقد دللنا على ثبوت هذا المعنى أيضاً
المسألة الثالثة إذا ثبت أن المراد من هذه الأولية زيادة الفضيلة والمنقبة فلنذكر ههنا وجوه فضيلة البيت
الفضيلة الأولى اتفقت الأمم على أن باني هذا البيت هو الخليل عليه السلام وباني بيت المقدس سليمان عليه السلام ولا شك أن الخليل أعظم درجة وأكثر منقبة من سليمان عليه السلام فمن هذا الوجه يجب أن تكون الكعبة أشرف من بيت المقدس
واعلم أن الله تعالى أمر الخليل عليه السلام بعمارة هذا البيت فقال وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( الحج 26 ) والمبلغ لهذا التكليف هو جبريل عليه السلام فلهذا قيل ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة فالأمر هو الملك الجليل والمهندس هو جبريل والباني هو الخليل والتلميذ إسماعيل عليهم السلام
الفضيلة الثانية مَّقَامِ إِبْراهِيمَ وهو الحجر الذي وضع إبراهيم قدمه عليه فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم عليه السلام من ذلك الحجر دون سائر أجزائه كالطين حتى غاص فيه قدم إبراهيم عليه السلام وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ولا يظهره إلا على الأنبياء ثم لما رفع إبراهيم قدمه عنه خلق فيه الصلابة الحجرية مرة أخرى ثم إنه تعالى أبقى ذلك الحجر على سبيل الاستمرار والدوام فهذه أنواع من الآيات العجيبة والمعجزات الباهرة أظهرها الله سبحانه في ذلك الحجر
الفضيلة الثالثة قلة ما يجتمع فيه من حصى الجمار فإنه منذ آلاف سنة وقد يبلغ من يرمي في كل سنة ستمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير وليس الموضع الذي ترمي إليه الجمرات مسيل ماء ولا مهب رياح شديدة وقد جاء في الآثار أن من كانت حجته مقبولة رفعت حجارة جمراته إلى السماء
الفضيلة الرابعة إن الطيور تترك المرور فوق الكعبة عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنها إذا ما وصلت إلى فوقها
الفضيلة الخامسة أن عنده يجتمع الوحش لا يؤذي بعضها بعضاً كالكلاب والظباء ولا يصطاد فيه الكلاب والوحوش وتلك خاصية عجيبة وأيضاً كل من سكن مكة أمن من النهب والغارة وهو بركة دعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا ( البقرة 126 ) وقال تعالى في صفة أمنه أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( العنكبوت 67 ) وقال فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن
جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ ( قريش 3 4 ) ولم ينقل ألبتة أن ظالماً هدم الكعبة وخرب مكة بالكلية وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية
الفضيلة السادسة أن صاحب الفيل وهو أبرهة الأشرم لما قاد الجيوش والفيل إلى مكة لتخريب الكعبة وعجز قريش عن مقاومة أولئك الجيوش وفارقوا مكة وتركوا له الكعبة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل والأبابيل هم الجماعة من الطير بعد الجماعة وكانت صغاراً تحمل أحجاراً ترميهم بها فهلك الملك وهلك العسكر بتلك الأحجار مع أنها كانت في غاية الصغر وهذه آية باهرة دالة على شرف الكعبة وإرهاص لنبوّة محمد عليه الصلاة والسلام
فإن قال قائل لم لا يجوز أن يقال إن كل ذلك بسبب طلسم موضوع هناك بحيث لا يعرفه أحد فإن الأمر في تركيب الطلسمات مشهور
قلنا لو كان هذا من باب الطلسمات لكان هذا طلسماً مخالفاً لسائر الطلسمات فإنه لم يحصل لشيء سوى الكعبة مثل هذا البقاء الطويل في هذه المدة العظيمة ومثل هذا يكون من المعجزات فلا يتمكن منها سوى الأنبياء
الفضيلة السابعة إن الله تعالى وضعها بواد غير ذي زرع والحكمة من وجوه أحدها إنه تعالى قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله وثانيها أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة فإنهم يريدون طيبات الدنيا فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضع وفالمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا وثالثها أنه فعل ذلك لئلا يقصدها أحد للتجارة بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة فقط ورابعها أظهر الله تعالى بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيوت في أقل المواضع نصيباً من الدنيا فكأنه قال جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين لهم في الدنيا بيت الأمن وفي الآخرة دار الأمن وخامسها كأنه قال لما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في كل قلب خال عن محبة الدنيا فهذا ما يتعلق بفضائل الكعبة وعند هذا ظهر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس في أنواع الفضائل والمناقب وإذا ظهر هذا بطل قول اليهود إن بيت المقدس أشرف من الكعبة والله أعلم
ثم قال تعالى لَلَّذِى بِبَكَّة َ وفيه مسائل
المسألة الأولى لا شك أن المراد من بكة هو مكة ثم اختلفوا فمنهم من قال بكة ومكة اسمان لمسمى واحد فإن الباء والميم حرفان متقاربان في المخرج فيقام كل واحد منهما مقام الآخر فيقال هذه ضربة لازم وضربة لازب ويقال هذا دائم ودائب ويقال راتب وراتم ويقال سمد رأسه وسبده وفي اشتقاق بكة وجهان الأول أنه من البك الذي هو عبارة عن دفع البعض بعضاً يقال بكه يبكه بكاً إذا دفعه وزحمه وتباك القوم إذا ازدحموا فلهذا قال سعيد بن جبير سميت مكة بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة قال بعضهم رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضاً تمر المرأة بين
يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي لا بأس بذلك في هذا المكان
الوجه الثاني سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة لا يريدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه قال قطرب تقول العرب بككت عنقه أبكه بكاً إذا وضعت منه ورددت نخوته
وأما مكة ففي اشتقاقها وجوه الأول أن اشتقاقها من أنها تمك الذنوب أي تزيلها كلها من قولك أمتك الفصيل ضرع أمه إذا امتص ما فيه الثاني سميت بذلك لاجتلابها الناس من كل جانب من الأرض يقال أمتك الفصيل إذا استقصى ما في الضرع ويقال تمككت العظم إذا استقصيت ما فيه الثالث سميت مكة لقلة مائها كأن أرضها امتكت ماءها الرابع قيل إن مكة وسط الأرض والعيون والمياه تنبع من تحت مكة فالأرض كلها تمك من ماء مكة ومن الناس من فرق بين مكة وبكة فقال بعضهم إن بكة اسم للمسجد خاصة وأما مكة فهو اسم لكل البلد قالوا والدليل عليه أن اشتقاق بكة من الازدحام والمدافعة وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف لا في سائر المواضع وقال الأكثرون مكة اسم للمسجد والمطاف وبكة اسم البلد والدليل عليه أن قوله تعالى لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّة َ يدل على أن البيت حاصل في بكة ومظروف في بكة فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكة ظرفاً للبيت أما إذا جعلنا بكة اسماً للبلد استقام هذا الكلام
المسألة الثانية لمكة أسماء كثيرة قال القفال رحمه الله في ( تفسيره ) مكة وبكة وأم رحم وكويساء والبشاشة والحاطمة تحطم من استخف بها وأم القرى قال تعالى لّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ( الأنعام 92 ) وسميت بهذا الاسم لأنها أصل كل بلدة ومنها دحيت الأرض ولهذا المعنى يزار ذلك الموضع من جميع نواحي الأرض
المسألة الثالثة للكعبة أسماء أحدها الكعبة قال تعالى جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَة َ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ( المائدة 97 ) والسبب فيه أن هذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع وسمي الكعب كعباً لإشرافه وارتفاعه على الرسغ وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً لارتفاع ثديها فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض وأقدمها زماناً وأكثرها فضيلة سمي بهذا الاسم وثانيها البيت العتيق قال تعالى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 33 ) وقال وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 29 ) وفي اشتقاقه وجوه الأول العتيق هو القديم وقد بينا أنه أقدم بيوت الأرض بل عند بعضهم أن الله خلقه قبل الأرض والسماء والثاني أن الله أعتقه من الغرق حيث رفعه إلى السماء الثالث من عتق الطائر إذا قوي في وكره فلما بلغ في القوة إلى حيث أن كل من قصد تربية أهلكه الله سمي عتيقاً الرابع أن الله أعتقه من أن يكون ملكاً لأحد من المخلوقين الخامس أنه عتيق بمعنى أن كل من زاره أعتقه الله تعالى من النار وسادسها المسجد الحرام قال سبحانه سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى ( الإسراء 1 ) والمراد من كونه حراماً سيجيء إن شاء الله في تفسير هذه الآية
فإن قال قائل كيف الجمع بين قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ وبين قوله وَطَهّرْ بَيْتِى َ لِلطَّائِفِينَ ( الحج 26 ) فأضافه مرة إلى نفسه ومرة إلى الناس
والجواب كأنه قيل البيت لي ولكن وضعته لا لأجل منفعتي فإني منزّه عن الحاجة ولكن وضعته لك ليكون قبلة لدعائك والله أعلم
ثم قال تعالى مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ
واعلم أنه تعالى وصف هذا البيت بأنواع الفضائل فأولها أنه أول بيت وضع للناس وقد ذكرنا معنى كونه أولاً في الفضل ونزيد ههنا وجوهاً أُخر الأول قال علي رضي الله عنه هو أول بيت خص بالبركة وبأن من دخله كان آمناً وقال الحسن هو أول مسجد عبد الله فيه في الأرض وقال مطرف أول بيت جعل قبلة وثانيها أنه تعالى وصفه بكونه مباركاً وفيه مسألتان
المسألة الأولى انتصب مُبَارَكاً على الحال والتقدير الذي استقر هو ببكة مباركاً
المسألة الثانية البركة لها معنيان أحدهما النمو والتزايد والثاني البقاء والدوام يقال تبارك الله لثبوته لم يزل والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها وبرك البعير إذا وضع صدره على الأرض وثبت واستقر فإن فسرنا البركة بالتزايد والنمو فهذا البيت مبارك من وجوه أحدها أن الطاعات إذا أتى بها في هذا البيت ازداد ثوابها قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فضل المسجد الحرام على مسجدي كفضل مسجدي على سائر المساجد ) ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ) فهذا في الصلاة وأما الحج فقال عليه الصلاة والسلام ( من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) وفي حديث آخر ( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) ومعلوم أنه لا أكثر بركة مما يجلب المغفرة والرحمة وثانيها قال القفال رحمه الله تعالى ويجوز أن يكون بركته ما ذكر في قوله تعالى يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَى ْء فيكون كقوله إِلَى الْمَسْجِدِ الاْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( الإسراء 1 ) وثالثها أن العاقل يجب أن يستحضر في ذهنه أن الكعبة كالنقطة وليتصور أن صفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة وأجسادهم توجهت إلى هذه الكعبة الحسيّة فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه فتزداد الأنوار الإلاهية في قلبه ويعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره وهذا بحر عظيم ومقام شريف وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً
وأما إن فسرنا البركة بالدوام فهو أيضاً كذلك لأنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود وأيضاً الأرض كرة وإذا كان كذلك فكل وقت يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم وظهر لثان وعصر لثالث ومغرب لرابع وعشاء لخامس ومتى كان الأمر كذلك لم تكن الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها من طرف من أطراف العالم لأداء فرض الصلاة فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفاً من السنين دوام أيضاً فثبت كونه مباركاً من الوجهين
الصفة الثالثة من صفات هذا البيت كونه هُدًى لّلْعَالَمِينَ وفيه مسألتان
المسألة الأولى قيل المعنى أنه قبلة للعالمين يهتدون به إلى جهة صلاتهم وقيل هدى ً للعالمين
أي دلالة على وجود الصانع المختار وصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في النبوّة بما فيه من الآيات التي ذكرناها والعجائب التي حكيناها فإن كل ما يدل على النبوة فهو بعينه يدل أولاً على وجود الصانع وجميع صفاته من العلم والقدرة والحكمة والاستغناء وقيل هدى ً للعالمين إلى الجنة لأن من أدى الصلوات الواجبة إليها استوجب الجنة
المسألة الثانية قال الزجاج المعنى وذا هدى ً للعالمين قال ويجوز أن يكون وَهَدَى في موضع رفع على معنى وهو هدى
أما قوله تعالى فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ ففيه قولان الأول أن المراد ما ذكرناه من الآيات التي فيه وهي أمن الخائف وإنمحاق الجمار على كثرة الرمي وامتناع الطير من العلو عليه واستشفاء المريض به وتعجيل العقوبة لمن انتهك فيه حرمة وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا تخريبه فعلى هذا تفسير الآيات وبيانها غير مذكور
وقوله مَّقَامِ إِبْراهِيمَ لا تعلق له بقوله فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ فكأنه تعالى قال فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ ومع ذلك فهو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه لأن كل ذلك من الخلال التي بها يشرف ويعظم
القول الثاني أن تفسير الآيات مذكور وهو قوله مَّقَامِ إِبْراهِيمَ أي هي مقام إبراهيم
فإن قيل الآيات جماعة ولا يصح تفسيرها بشيء واحد أجابوا عنه من وجوه الأول أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة لأن ما كان معجزة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته وكونه غنياً منزّهاً مقدساً عن مشابهة المحدثات فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الدلائل كقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّة ً قَانِتًا ( النحل 120 ) الثاني أن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية وغوصه فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ألوف سنين فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة الثالث قال الزجاج إن قوله وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً من بقية تفسير الآيات كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين قال تعالى إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ( التحريم 4 ) وقال عليه السلام ( الاثنان فما فوقهما جماعة ) ومنهم من تمم الثلاثة فقال مقام إبراهيم وأن من دخله كان آمناً وأن لله على الناس حجه ثم حذف ( أن ) اختصاراً كما في قوله قُلْ أَمَرَ رَبّي بِالْقِسْطِ ( الأعراف 29 ) أي أمر ربي بأن تقسطوا الرابع يجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما الخامس قرأ ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة بَيّنَة ً لّقَوْمٍ على التوحيد السادس قال المبرّد مَّقَامِ مصدر فلم يجمع كما قال وَعَلَى سَمْعِهِمْ والمراد مقامات إبراهيم وهي ما أقامه إبراهيم عليه السلام من أمور الحج وأعمال المناسك ولا شك أنها كثيرة وعلى هذا فالمراد بالآيات شعائر الحج كما قال وَمَن يُعَظّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ( الحج 32 )
ثم قال تعالى مَّقَامِ إِبْراهِيمَ وفيه أقوال أحدها أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه والثاني أنه جاء زائراً من الشام إلى مكة وكان قد حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع فلما وصل إلى مكة قالت له أم إسماعيل إنزل حتى نغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على الجانب الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه ثم حولته إلى الجانب الأيسر حتى غسلت الجانب الآخر فبقي أثر قدميه عليه والثالث أنه هو الحجر الذي قام إبراهيم عليه عند الأذان بالحج قال القفال رحمه الله ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلها
ثم قال تعالى وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً ولهذه الآية نظائر منها قوله تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً ( البقرة 125 ) وقوله أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ( العنكبوت 67 ) وقال إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا ( إبراهيم 35 ) وقال تعالى الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ ( قريش 4 ) قال أبو بكر الرازي لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ موجودة في الحرم ثم قال وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وجب أن يكون مراده جميع الحرم وأجمعوا على أنه لو قتل في الحرم فإنه يستوفي القصاص منه في الحرم وأجمعوا على أن الحرم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم فالتجأ إلى الحرم فهل يستوفي منه القصاص في الحرم قال الشافعي يستوفي وقال أبو حنيفة لا يستوفي بل يمنع منه الطعام والشراب والبيع والشراء والكلام حتى يخرج ثم يستوفي منه القصاص والكلام في هذه المسألة قد تقدم في تفسير قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بهذه الآية فقال ظاهر الآية الاخبار عن كونه آمناً ولكن لا يمكن حمله عليه إذ قد لا يصير آمناً فيقع الخلف في الخبر فوجب حمله على الأمر ترك العمل به في الجنايات التي دون النفس لأن الضرر فيها أخف من الضرر في القتل وفيما إذا وجب عليه القصاص لجناية أتى بها في الحرم لأنه هو الذي هتك حرمة الحرم فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية
والجواب أن قوله كَانَ ءامِناً إثبات لمسمى الأمن ويكفي في العمل به إثبات الأمن من بعض الوجوه ونحن نقول به وبيانه من وجوه الأول أن من دخله للنسك تقرباً إلى الله تعالى كان آمناً من النار يوم القيامة قال النبي عليه السلام ( من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً ) وقال أيضاً ( من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام ) وقال ( من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) والثاني يحتمل أن يكون المراد ما أودع الله في قلوب الخلق من الشفقة على كل من التجأ إليه ودفع المكروه عنه ولما كان الأمر واقعاً على هذا الوجه في الأكثر أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً وهذا أولى مما قالوه لوجهين الأول أنا على هذا التقدير لا نجعل الخبر قائماً مقام الأمر وهم جعلوه قائماً مقام الأمر والثاني أنه تعالى إنما ذكر هذا لبيان فضيلة البيت وذلك إنما يحصل بشيء كان معلوماً للقوم حتى يصير ذلك حجة على فضيلة البيت فأما الحكم الذي بيّنه الله في شرع محمد عليه السلام فإنه لا يصير ذلك حجة على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة
الوجه الثالث في تأويل الآية أن المعنى من دخله عام عمرة القضاء مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان آمناً لأنه تعالى
قال لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ( الفتح 27 ) الرابع قال الضحاك من حج حجة كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك
واعلم أن طرق الكلام في جميع هذه الأجوبة شيء واحد وهو أن قوله كَانَ ءامِناً حكم بثبوت الأمن وذلك يكفي في العمل به إثبات الأمن من وجه واحد وفي صورة واحدة فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النص فلا يبقى للنص دلالة على ما قالوه ثم يتأكد ذلك بأن حمل النص على هذا الوجه لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص وحمله على ما قالوه يفضي إلى ذلك فكان قولنا أولى والله أعلم
قوله تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً
اعلم أنه تعالى لما ذكر فضائل البيت ومناقبه أردفه بذكر إيجاب الحج وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم حَجَّ الْبَيْتَ بكسر الحاء والباقون بفتحها قيل الفتح لغة الحجاز والكسر لغة نجد وهما واحد في المعنى وقيل هما جائزان مطلقاً في اللغة مثل رطل ورطل وبزر وبزر وقيل المكسورة اسم للعمل والمفتوحة مصدر وقال سيبويه يجوز أن تكون المكسورة أيضاً مصدراً كالذكر والعلم
المسألة الثانية في قوله مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وجوه الأول قال الزجاج موضع مِنْ خفض على البدل من النَّاسِ والمعنى ولله على من استطاع من الناس حج البيت الثاني قال الفرّاء إن نويت الاستئناف بمن كانت شرطاً وأسقط الجزاء لدلالة ما قبله عليه والتقدير من استطاع إلى الحج سبيلاً فلله عليه حج البيت الثالث قال ابن الأنباري يجوز أن يكون مِنْ في موضع رفع على معنى الترجمة للناس كأنه قيل من الناس الذين عليهم لله حج البيت فقيل هم من استطاع إليه سبيلاً
المسألة الثالثة اتفق الأكثرون على أن الزاد والراحلة شرطان لحصول الاستطاعة روى جماعة من الصحابة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه فسّر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة وروى القفال عن جويبر عن الضحاك أنه قال إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه فقال له قائل أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت فقال لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه قال لا بل ينطلق إليه ولو حبواً قال فكذلك يجب عليه حج البيت عن عكرمة أيضاً أنه قال الاستطاعة هي صحة البدن وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه
واعلم أن كل من كان صحيح البدن قادراً على المشي إذا لم يجد ما يركب فإنه يصدق عليه أنه يستطيع لذلك الفعل فتخصيص هذه الاستطاعة بالزاد والراحلة ترك لظاهر اللفظ فلا بد فيه من دليل منفصل ولا
يمكن التعويل في ذلك على الأخبار المروية في هذا الباب لأنها أخبار آحاد فلا يترك لأجلها ظاهر الكتاب لا سيما وقد طعن محمد بن جرير الطبري في رواة تلك الأخبار وطعن فيها من وجه آخر وهو أن حصول الزاد والراحلة لا يكفي في حصول الاستطاعة فإنه يعتبر في حصول الاستطاعة صحة البدن وعدم الخوف في الطريق وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك معتبراً فصارت هذه الأخبار مطعوناً فيها من هذا الوجه بل يجب أن يعول في ذلك على ظاهر قوله تعالى وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وقوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ( البقرة 185 )
المسألة الرابعة احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا لأن ظاهر قوله تعالى وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يعم المؤمن والكافر وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً ومخصصاً لهذا العموم لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط صحة الإيمان بمحمد عليه السلام غير حاصل والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة غير حاصل فلم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلفاً بالمشروط فكذا ههنا والله أعلم
المسألة الخامسة احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن الاستطاعة قبل الفعل فقالوا لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج مستطيعاً للحج ومن لم يكن مستطيعاً للحج لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية فيلزم أن كل من لم يحج أن لا يصير مأموراً بالحج بسبب هذه الآية وذلك باطل بالاتفاق
أجاب الأصحاب بأن هذا أيضاً لازم لهم وذلك لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل أو بعد حصوله أما قبل حصول الداعي فمحال لأن قبل حصول الداعي يمتنع حصول الفعل فيكون التكليف به تكليف ما لا يطاق وأما بعد حصول الداعي فالفعل يصير واجب الحصول فلا يكون في التكليف به فائدة وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف المذكور في هذه الآية على أحد
المسألة السادسة روي أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله أكتب الحج علينا في كل عام ذكروا ذلك ثلاثاً فسكت الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال في الرابعة ( لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ولو لم تقوموا بها لكفرتم ألا فوادعوني ما وادعتكم وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة احتلافهم على أنبيائهم ) ثم احتج العلماء بهذا الخبر على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين الأول أن الأمر ورد بالحج ولم يفد التكرار والثاني أن الصحابة استفهموا أنه هل يوجب التكرار أم لا ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما احتاجوا إلى الاستفهام مع كونهم عالمين باللغة
المسألة السابعة استطاعة السبيل إلى الشيء عبارة عن إمكان الوصول قال تعالى فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ ( غافر 11 ) وقال هَلْ إِلَى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ ( الشورى 44 ) وقال مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ( التوبة 91 ) فيعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن وزوال خوف التلف من السبع أو العدو وفقدان الطعام والشراب والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد والراحلة وأن يقضي جميع الديون ويرد جميع
الودائع وإن وجب عليه الإنفاق على أحد لم يجب عليه الحج إلا إذا ترك من المال ما يكفيهم في المجيء والذهاب وتفاصيل هذا الباب مذكور في كتب الفقهاء والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى في هذه الآية قولان
القول الأول أنها كلام مستقل بنفسه ووعيد عام في حق كل من كفر بالله ولا تعلق له بما قبله
القول الثاني أنه متعلق بما قبله والقائلون بهذا القول منهم من حمله على تارك الحج ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوب الحج أما الذين حملوه على تارك الحج فقد عولوا فيه على ظاهر الآية فإنه لما تقدم الأمر بالحج ثم أتبعه بقوله وَمَن كَفَرَ فهم منه أن هذا الكفر ليس إلا ترك ما تقدم الأمر به ثم إنهم أكدوا هذا الوجه بالأخبار روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً ) وعن أبي أمامة قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائز فليمت على أي حال شاء يهودياً أو نصرانياً ) وعن سعيد بن جبير لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصل عليه فإن قيل كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب ترك الحج
أجاب القفال رحمه الله تعالى عنه يجوز أن يكون المراد منه التغليظ أي قد قارب الكفر وعمل ما يعمله من كفر بالحج ونظيره قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( الأحزاب 10 ) أي كادت تبلغ ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام ( من ترك صلاة متعمداً فقد كفر ) وقوله عليه الصلاة والسلام ( من أتى امرأة حائضاً أو في دبرها فقد كفر ) وأما الأكثرون فهم الذين حملوا هذا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحج قال الضحاك لما نزلت آية الحج جمع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أهل الأديان الستة المسلمين والنصارى واليهود والصابئين والمجوس والمشركين فخطبهم وقال ( إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا ) فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فأنزل الله تعالى قوله وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وهذا القول هو الأقوى
المسألة الثانية اعلم أن تكليف الشرع في العبادات قسمان منها ما يكون أصله معقولاً إلا أن تفاصيله لا تكون معقولة مثل الصلاة فإن أصلها معقول وهو تعظيم الله أما كيفية الصلاة فغير معقولة وكذا الزكاة أصلها دفع حاجة الفقير وكيفيتها غير معقولة والصوم أصله معقول وهو قهر النفس وكيفيته غير معقولة أما الحج فهو سفر إلى موضع معين على كيفيات مخصوصة فالحكمة في كيفيات هذه العبادات غير معقولة وأصلها غير معلومة
إذا عرفت هذا فنقول قال المحققون إن الإتيان بهذا النوع من العبادة أدل على كمال العبودية والخضوع والانقياد من الإتيان بالنوع الأول وذلك لأن الآتي بالنوع الأول يحتمل أنه إنما أتى به لما عرف بعقله من وجوه المنافع فيه أما الآتي بالنوع الثاني فإنه لا يأتي به إلا لمجرد الانقياد والطاعة والعبودية فلأجل هذا المعنى اشتمل الأمر بالحج في هذه الآية على أنواع كثيرة من التوكيد أحدها قوله وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ والمعنى أنه سبحانه لكونه إلاهاً ألزم عبيده هذه الطاعة فيجب الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أو لم يعرفوا وثانيها أنه ذكر النَّاسِ ثم أبدل منه مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وفيه ضربان من التأكيد أما أولاً فلأن الإبدال تثنية للمراد وتكرير وذلك يدل على شدة العناية وأما ثانياً فلأنه أجمل أولاً وفصل ثانياً وذلك يدل على شدة الاهتمام وثالثها أنه سبحانه عبّر عن هذا الوجوب بعبارتين إحداهما لام الملك في قوله وَللَّهِ وثانيتهما كلمة عَلَى وهي للوجوب في قوله وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ ورابعها أن ظاهر اللفظ يقتضي إيجابه على كل إنسان يستطيعه وتعميم التكليف يدل على شدة الاهتمام وخامسها أنه قال وَمَن كَفَرَ مكان ومن لم يحج وهذا تغليظ شديد في حق تارك الحج وسادسها ذكر الاستغناء وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان وسابعها قوله عَنِ الْعَالَمِينَ ولم يقل عنه لأن المستغني عن كل العالمين أولى أن يكون مستغنياً عن ذلك الإنسان الواحد وعن طاعته فكان ذلك أدل على السخط وثامنها أن في أول الآية قال وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ فبيّن أن هذا الإيجاب كان لمجرد عزة الإلاهية وكبرياء الربوبية لا لجر نفع ولا لدفع ضر ثم أكد هذا في آخر الآية بقوله فَإِنَّ الله غَنِى ٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ومما يدل من الأخبار على تأكيد الأمر بالحج قوله عليه الصلاة والسلام ( حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالث ) وروي ( حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه ) قيل معناه أنه يتعذر عليكم السفر في البر في مكة لعدم الأمن أو غيره وعن ابن مسعود ( حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا هلكت )
قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
إعلم أن في كيفية النظم وجهين الأول وهو الأوفق أنه تعالى لما أورد الدلائل على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام مما ورد في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه ثم ذكر عقيب ذلك شبهات القوم
فالشبهة الأولى ما يتعلق بإنكار النسخ
وأجاب عنها بقوله كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ ( آل عمران 93 )
والشبهة الثانية ما يتعلق بالكعبة ووجوب استقبالها في الصلاة ووجوب حجها
وأجاب عنها بقوله إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ( آل عمران 96 ) إلى آخرها فعند هذا تمت وظيفة الاستدلال وكمل الجواب عن شبهات أرباب الضلال فعند ذلك خاطبهم بالكلام اللين وقال لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ بعد ظهور البينات وزوال الشبهات وهذا هو الغاية القصوى في ترتيب الكلام وحسن نظمه
الوجه الثاني وهو أنه تعالى لما بين فضائل الكعبة ووجوب الحج والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق والملة الصحيحة قال لهم لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ بعد أن علمتم كونها حقة صحيحة
واعلم أن المبطل إما أن يكون ضالاً فقط وإما أن يكون مع كونه ضالاً يكون مضلاً والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً فبدأ تعالى بالإنكار عليهم في الصفة الأولى على سبيل الرفق واللطف
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قوله يَشْعُرُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ واختلفوا فيمن المراد بأهل الكتاب فقال الحسن هم علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوته واستدل عليه بقوله وَأَنْتُمْ شُهَدَاء وقال بعضهم بل المراد كل أهل الكتاب لأنهم وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم فكأنهم بترك الاستدلال والعدول إلى التقليد بمنزلة من علم ثم أنكر
فإن قيل ولم خص أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار
قلنا لوجهين الأول أنا بينا أنه تعالى أورد الدليل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام ثم أجاب عن شبههم في ذلك ثم لما تمّ ذلك خاطبهم فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فهذا الترتيب الصحيح الثاني أن معرفتهم بآيات الله أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة بصدق الرسول والبشارة بنبوته
المسألة الثانية قالت المعتزلة في قوله تعالى لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ دلالة على أن الكفر من قبلهم حتى يصح هذا التوبيخ وكذلك لا يصح توبيخهم على طولهم وصحتهم ومرضهم
والجواب عنه المعارضة بالعلم والداعي
المسألة الثالثة المراد مِنْ آيَاتِ اللَّهِ الآيات التي نصبها الله تعالى على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام والمراد بكفرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام
ثم قال وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ الواو للحال والمعنى لم تكفرون بآيات الله التي دلتكم على صدق محمد عليه الصلاة والسلام والحال أن الله شهيد على أعمالكم ومجازيكم عليها وهذه الحال توجب أن لا تجترؤا على الكفر بآياته
ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد ذلك الإنكار عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين فقال قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءامَنَ قال الفرّاء يقال صددته أصده صداً وأصددته إصداداً وقرأ الحسن تَصُدُّونَ بضم التاء من أصده قال المفسرون وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاء الشبه والشكوك في قلوب الضعفة من المسلمين وكانوا ينكرون كون صفته ( صلى الله عليه وسلم ) في كتابهم
ثم قال تَبْغُونَهَا عِوَجاً العوج بكسر العين الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى وهو الدين والقول فأما الشيء الذي يرى فيقال فيه عوج بفتح العين كالحائط والقناة والشجرة قال ابن الأنباري البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك بغيت المال والأجر والثواب وأُريد ههنا تبغون لها عوجاً ثم أسقطت اللام كما قالوا وهبتك درهماً أي وهبت لك درهماً ومثله صدت لك ظبياً وأنشد فتولى غلامهم ثم نادى
أظليما أصيدكم أم حماراً
أراد أصيد لكم والهاء في تَبْغُونَهَا عائدة إلى السَّبِيلِ لأن السبيل يؤنث ويذكر و العوج يعني به الزيغ والتحريف أي تلتمسون لسبيله الزيغ والتحريف بالشبه التي توردونها على الضعفة نحو قولهم النسخ يدل على البداء وقولهم إنه ورد في التوراة أن شريعة موسى عليه السلام باقية إلى الأبد وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون لَّهُ عِوَجَا في موضع الحال والمعنى تبغونها ضالين وذلك أنهم كأنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقال الله تعالى إنكم تبغون سبيل الله ضالين وعلى هذا القول لا يحتاج إلى إضمار اللام في تبغونها
ثم قال وَأَنْتُمْ شُهَدَاء وفيه وجوه الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني أنتم شهداء أن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام الثاني وأنتم شهداء على ظهور المعجزات على نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) الثالث وأنتم شهداء أنه لا يجوز الصد عن سبيل الله الرابع وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ويعولون على شهادتكم في عظام الأمور وهم الأحبار والمعنى أن من كان كذلك فكيف يليق به الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال
ثم قال وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ والمراد التهديد وهو كقول الرجل لعبده وقد أنكر طريقة لا يخفى على ما أنت عليه ولست غافلاً عن أمرك وإنما ختم الآية الأولى بقوله وَللَّهِ شَهِيدٌ وهذه الآية بقوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه وَاللَّهُ شَهِيدٌ وفيما أضمروه وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وإنما كرر في الآيتين قوله قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِى َ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ
واعلم أنه تعالى لما حذر الفريق من أهل الكتاب في الآية الأولى عن الإغواء والإضلال حذر المؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم روي أن شاس بن قيس اليهودي كان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد فاتفق أنه مرّ على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج فرآهم في مجلس لهم يتحدثون وكان قد زال ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة ببركة الإسلام فشق ذلك على اليهودي فجلس إليهم وذكرهم ما كان بينهم من الحروب قبل ذلك وقرأ عليهم بعض ما قيل في تلك الحروب من الأشعار فتنازع القوم وتغاضبوا وقالوا السلاح السلاح فوصل الخبر إلى النبي عليه السلام فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار وقال أترجعون إلى أحوال الجاهلية وأنا بين أظهركم وقد أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم فعرف القوم أن ذلك كان من عمل الشيطان ومن كيد ذلك اليهودي فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يحتمل أن يكون المراد هذه الواقعة ويحتمل أن يكون المراد جميع ما يحاولونه من أنواع الإضلال فبيّن تعالى أن المؤمنين إن لانوا وقبلوا منهم قولهم أدى ذلك حالاً بعد حال إلى أن يعودوا كفاراً والكفر يوجب الهلاك في الدنيا والدين أما في الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء وهيجان الفتنة وثوران المحاربة المؤدية إلى سفك الدماء وأما في الدين فظاهر
ثم قال تعالى وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وكلمة كَيْفَ تعجب والتعجب إنما يليق بمن لا يعلم السبب وذلك على الله محال والمراد منه المنع والتغليظ وذلك لأن تلاوة آيات الله عليهم حالاً بعد حال مع كون الرسول فيهم الذي يزيل كل شبهة ويقرر كل حجة كالمانع من وقوعهم في الكفر فكان صدور الكفر على الذين كانوا بحضرة الرسول أبعد من هذا الوجه فقوله إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ تنبيه على أن المقصد الأقصى لهؤلاء اليهود والمنافقين أن يردوا المسلمين عن الإسلام ثم أرشد المسلمين إلى أنه يجب أن لا يلتفتوا إلى قولهم بل الواجب أن يرجعوا عند كل شبهة يسمعونها من هؤلاء اليهود إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يكشف عنها ويزيل وجه الشبهة فيها
ثم قال وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِى َ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ والمقصود إنه لما ذكر الوعيد أردفه بهذا
الوعد والمعنى ومن يتمسك بدين الله ويجوز أن يكون حثاً لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار والاعتصام في اللغة الاستمساك بالشيء وأصله من العصمة والعصمة المنع في كلام العرب والعاصم المانع واعتصم فلان بالشيء إذا تمسك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ( يوسف 32 ) قال قتادة ذكر في الآية أمرين يمنعان عن الوقوع في الكفر أحدهما تلاوة كتاب الله والثاني كون الرسول فيهم أما الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقد مضى إلى رحمة الله وأما الكتاب فباق على وجه الدهر
وأما قوله فَقَدْ هُدِى َ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ فقد احتج به أصحابنا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله فلما جعل ذلك الاعتصام فعلاً لهم وهداية من الله ثبت ما قلناه أما المعتزلة فقد ذكروا فيه وجوهاً الأول أن المراد بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات كما قال تعالى يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ( المائدة 16 ) وهذا اختاره القفال رحمه الله والثاني أن التقدير من يعتصم بالله فنعم ما فعل فإنه إنما هدي إلى الصراط المستقيم ليفعل ذلك الثالث أن من يعتصم بالله فقد هدى إلى طريق الجنة والرابع قال صاحب ( الكشاف ) فَقَدْ هُدِى َ أي فقد حصل له الهدى لا محالة كما تقول إذا جئت فلانا فقد أفلحت كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلاً وذلك لأن المعتصم بالله متوقع للهدى كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة ٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اعلم أنه تعالى لما حذر المؤمنين من إضلال الكفار ومن تلبيساتهم في الآية الأولى أمر المؤمنين في هذه الآيات بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات فأمرهم أولاً بتقوى الله وهو قوله اتَّقُواْ اللَّهَ وثانياً بالاعتصام بحبل الله وهو قوله وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ وثالثاً بذكر نعم الله وهو قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ والسبب في هذا الترتيب أن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللاً إما بالرهبة وإما بالرغبة والرهبة مقدمة على الرغبة لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع فقوله اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ إشارة إلى التخويف من عقاب الله تعالى ثم جعله سبباً للأمر بالتمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله ثم أردفه بالرغبة وهي
قوله وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فكأنه قال خوف عقاب الله يوجب ذلك وكثرة نعم الله توجب ذلك فلم تبق جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله ووجوب طاعتكم لحكم الله فظهر بما ذكرناه أن الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية مرتبة على أحسن الوجوه ولنرجع إلى التفسير
أما قوله تعالى اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال بعضهم هذه الآية منسوخة وذلك لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين لأن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى والعباد لا طاقة لهم بذلك فأنزل الله تعالى بعد هذه فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ونسخت هذه الآية أولها ولم ينسخ آخرها وهو قوله وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وزعم جمهور المحققين أن القول بهذا النسخ باطل واحتجوا عليه من وجوه الأول ما روي عن معاذ أنه عليه السلام قال له ( هل تدري ما حق الله على العباد قال الله ورسوله أعلم قال هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ) وهذا لا يجوز أن ينسخ الثاني أن معنى قوله اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ أي كما يحق أن يتقى وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأنه إباحة لبعض المعاصي وإذا كان كذلك صار معنى هذا ومعنى قوله تعالى فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( التغابن 16 ) واحداً لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته ولا يجوز أن يكون المراد بقوله حَقَّ تُقَاتِهِ ما لا يستطاع من التقوى لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة ونظير هذه الآية قوله وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ( الحج 78 )
فإن قيل أليس أنه تعالى قال وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( الأنعام 91 )
قلنا سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين أما الذين قالوا إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات وكذلك قوله أن يشكر فلا يكفر لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم الله بالبال فأما عند السهو فلا يجب وكذلك قوله أن يذكر فلا ينسى فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ
قال المصنف رضي الله تعالى عنه أقول للأولين أن يقرروا قولهم من وجهين الأول أن كنه الإلاهية غير معلوم للخلق فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوماً للخلق وإذا لم يحصل العلم بذلك لم يحصل الخوف اللائق بذلك فلم يحصل الاتقاء اللائق به الثاني أنهم أمروا بالاتقاء المغلظ والمخفف معاً فنسخ المغلظ وبقي المخفف وقيل إن هذا باطل لأن الواجب عليه أن يتقي ما أمكن والنسخ إنما يدخل في الواجبات لا في النفي لأنه يوجب رفع الحجر عما يقتضي أن يكون الإنسان محجوراً عنه وإنه غير جائز
المسألة الثانية قوله تعالى حَقَّ تُقَاتِهِ أي كما يجب أن يتقى يدل عليه قوله تعالى حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) ويقال هو الرجل حقاً ومنه قوله عليه السلام ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) وعن علي رضي الله عنه أنه قال أنا علي لا كذب أنا ابن عبد المطلب والتقى اسم الفعل من قولك اتقيت كما أن الهدى اسم الفعل من قولك اهتديت
أما قوله تعالى وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ فلفظ النهي واقع على الموت لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم ومضى الكلام في هذا عند قوله إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ( البقرة 132 )
ثم قال تعالى وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً
واعلم أنه تعالى لما أمرهم بالاتقاء عن المحظورات أمرهم بالتمسك بالاعتصام بما هو كالأصل لجميع الخيرات والطاعات وهو الاعتصام بحبل الله
واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق وقد انزلق رجل الكثير من الحلق عنه فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف فكان المراد من الحبل ههنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين وهو أنواع كثيرة فذكر كل واحد من المفسرين واحداً من تلك الأشياء فقال ابن عباس رضي الله عنهما المراد بالحبل ههنا العهد المذكور في قوله وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وقال إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ النَّاسِ ( آل عمران 112 ) أي بعهد وإنما سمي العهد حبلاً لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف وقيل إنه القرآن روي عن علي رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( أما إنها ستكون فتنة ) قيل فما المخرج منها قال ( كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين ) وروي عن ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( هذا القرآن حبل الله ) وروي عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ) وقيل إنه دين الله وقيل هو طاعة الله وقيل هو إخلاص التوبة وقيل الجماعة لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله وَلاَ تَفَرَّقُواْ وهذه الأقوال كلها متقاربة والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزاً من السقوط فيها وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزاً لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلاً لله وأمروا بالاعتصام به
ثم قال تعالى وَلاَ تَفَرَّقُواْ وفيه مسألتان
المسألة الأولى في التأويل وجوه الأول أنه نهى عن الاختلاف في الدين وذلك لأن الحق لا يكون إلا واحداً وما عداه يكون جهلاً وضلالاً فلما كان كذلك وجب أن يكون النهي عن الاختلاف في الدين وإليه الإشارة بقوله تعالى فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ( يونس 32 ) والثاني أنه نهى عن المعاداة والمخاصمة فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على المحاربة والمنازعة فنهاهم الله عنها الثالث أنه نهى عما يوجب الفرقة ويزيل الألفة والمحبة
واعلم أنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد والباقي في النار فقيل ومن هم يا رسول الله قال الجماعة ) وروي ( السواد الأعظم ) وروي ( ما أنا عليه وأصحابي )
والوجه المعقول فيه أن النهي عن الاختلاف والأمر بالاتفاق يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً وإذا كان كذلك كان الناجي واحداً
المسألة الثانية استدلت نفاة القياس بهذه الآية فقالوا الأحكام الشرعية إما أن يقال إنه سبحانه نصب عليها دلائل يقينية أو نصب عليها دلائل ظنية فإن كان الأول امتنع الاكتفاء فيها بالقياس الذي يفيد الظن لأن الدليل الظني لا يكتفى به في الموضع اليقيني وإن كان الثاني كان الأمر بالرجوع إلى تلك الدلائل الظنية يتضمن وقوع الاختلاف ووقوع النزاع فكان ينبغي أن لا يكون التفرق والتنازع منهياً عنه لكنه منهي عنه لقوله تعالى وَلاَ تَفَرَّقُواْ وقوله وَلاَ تَنَازَعُواْ ولقائل أن يقول الدلائل الدالة على العمل بالقياس تكون مخصصة لعموم قوله وَلاَ تَفَرَّقُواْ ولعموم قوله وَلاَ تَنَازَعُواْ والله أعلم
ثم قال تعالى وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ واعلم أن نعم الله على الخلق إما دنيوية وإما أُخروية وإنه تعالى ذكرهما في هذه الآية أما النعمة الدنيوية فهي قوله تعالى إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وفيه مسائل
المسألة الأولى قيل إن ذلك اليهودي لما ألقى الفتنة بين الأوس والخزرج وهم كل واحد منهما بمحاربة صاحبه فخرج الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يزل يرفق بهم حتى سكنت الفتنة وكان الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام فالآية إشارة إليهم وإلى أحوالهم فإنهم قبل الإسلام كان يحارب بعضهم بعضاً ويبغض بعضهم بعضاً فلما أكرمهم الله تعالى بالإسلام صاروا إخواناً متراحمين متناصحين وصاروا إخوة في الله ونظير هذه الآية قوله لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ( الأنفال 63 )
واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا كان معادياً لأكثر الخلق ومن كان وجهه إلى خدمة الله تعالى لم يكن معادياً لأحد والسبب فيه أنه ينظر من الحق إلى الخلق فيرى الكل أسيراً في قبضة القضاء والقدر فلا يعادي أحداً ولهذا قيل إن العارف إذا أمر أمر برفق ويكون ناصحاً لا يعنف ويعير فهو مستبصر بسر الله في القدر
المسألة الثانية قال الزجاج أصل الأخ في اللغة من التوخي وهو الطلب فالأخ مقصده مقصد أخيه والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين صاحبه ما في قلبه ولا يخفي عنه شيئاً وقال أبو حاتم قال أهل البصرة الاخوة في النسب والإخوان في الصداقة قال وهذا غلط قال الله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة ٌ ( الحجرات 10 ) ولم يعن النسب وقال أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ ( النور 61 ) وهذا في النسب
المسألة الثالثة قوله فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً يدل على أن المعاملات الحسنة الجارية بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله لأنه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم وكانت تلك الداعية نعمة من الله مستلزمة لحصول الفعل وذلك يبطل قول المعتزلة في خلق الأفعال قال الكعبي إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعرفة والألطاف
قلنا كل هذا كان حاصلاً في زمان حصول المحاربات والمقاتلات فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم
ثم قال تعالى وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة ٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا
واعلم أنه تعالى لما شرح النعمة الدنيوية ذكر بعدها النعمة الأخروية وهي ما ذكره في آخر هذه الآية وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المعنى أنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم لأن جهنم مشبهة بالحفرة التي فيها النار فجعل استحقاقهم للنار بكفرهم كالإشراف منهم على النار والمصير منهم إلى حفرتها فبيّن تعالى أنه أنقذهم من هذه الحفرة وقد قربوا من الوقوع فيها
قالت المعتزلة ومعنى ذلك أنه تعالى لطف بهم بالرسول عليه السلام وسائر ألطافه حتى آمنوا قال أصحابنا جميع الألطاف مشترك فيه بين المؤمن والكافر فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار والله تعالى حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار فدل هذا على أن خالق أفعال العباد هو الله سبحانه وتعالى
المسألة الثانية شفا الشيء حرفه مقصور مثل شفا البئر والجمع الإشفاء ومنه يقال أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حده وحرفه وقوله فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا قال الأزهري يقال نقذته وأنقذته واستنقذته أي خلصته ونجيته
وفي قوله فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا سؤال وهو أنه تعالى إنما ينقذهم من الموضع الذي كانوا فيه وهم كانوا على شفا حفرة وشفا الحفرة مذكر فكيف قال منها
وأجابوا عنه من وجوه الأول الضمير عائد إلى الحفرة ولما أنقذهم من الحفرة فقد أنقذهم من شفا الحفرة لأن شفاها منها والثاني أنها راجعة إلى النار لأن القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة وهذا قول الزجاج الثالث أن شفا الحفرة وشفتها طرفها فجاز أن يخبر عنه بالتذكير والتأنيث
المسألة الثالثة أنهم لو ماتوا على الكفر لوقعوا في النار فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالعقود على حرفها وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء ثم قال كَذالِكَ يُبَيّنُ اللَّهُ الكاف في موضع نصب أي مثل البيان المذكور يبين الله لكم سائر الآيات لكي تهتدوا بها قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى يريد منهم الاهتداء أجاب الواحدي عنه في ( البسيط ) فقال بل المعنى لتكونوا على رجاء هداية
وأقول وهذا الجواب ضعيف لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ومن المعلوم أن على مذهبنا قد لا يريد ذلك الرجاء فالجواب الصحيح أن يقال كلمة ( لعلّ ) للترجي والمعنى أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك والله أعلم
وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّة ٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأرض وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاٍّ مُورُ
اعلم أنه تعالى في الآيات المتقدمة عاب أهل الكتاب على شيئين أحدهما أنه عابهم على الكفر فقال قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ ( آل عمران 70 ) ثم بعد ذلك عابهم على سعيهم في إلقاء الغير في الكفر فقال قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( آل عمران 99 ) فلما انتقل منه إلى مخاطبة المؤمنين أمرهم أولاً بالتقوى والإيمان فقال اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً ( آل عمران 102 103 ) ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة فقال وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّة ٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وهذا هو الترتيب الحسن الموافق للعقل وفي الآية مسألتان
المسألة الأولى في قوله مّنكُمْ قولان أحدهما أن مِنْ ههنا ليست للتبعيض لدليلين الأول أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ( آل عمران 110 ) والثاني هو أنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما بيده أو بلسانه أو بقلبه ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس إذا ثبت هذا فنقول معنى هذه الآية كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأما كلمة مِنْ فهي هنا للتبيين لا للتبعيض كقوله تعالى فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 ) ويقال أيضاً لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يريد بذلك جميع أولاده وغلمانه لا بعضهم كذا ههنا ثم قالوا إن
ذلك وإن كان واجباً على الكل إلا أنه متى قام به قوم سقط التكليف عن الباقين ونظيره قوله تعالى انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً ( التوبة 41 ) وقوله إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( التوبة 39 ) فالأمر عام ثم إذا قامت به طائفة وقعت الكفاية وزال التكليف عن الباقين
والقول الثاني أن مِنْ ههنا للتبعيض والقائلون بهذا القول اختلفوا أيضاً على قولين أحدهما أن فائدة كلمة مِنْ هي أن في القوم من لا يقدر على الدعوة ولا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل النساء والمرضى والعاجزين والثاني أن هذا التكليف مختص بالعلماء ويدل عليه وجهان الأول أن هذه الآية مشتملة على الأمر بثلاثة أشياء الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومعلوم أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر فإن الجاهل ربما عاد إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء ولا شك أنهم بعض الأمة ونظير هذه الآية قوله تعالى فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَة ٍ مّنْهُمْ طَائِفَة ٌ لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدّينِ ( التوبة 122 ) والثاني أنا جمعنا على أن ذلك واجب على سبيل الكفاية بمعنى أنه متى قام به البعض سقط عن الباقين وإذا كان كذلك كان المعنى ليقم بذلك بعضكم فكان في الحقيقة هذا إيجاباً على البعض لا على الكل والله أعلم
وفيه قول رابع وهو قول الضحاك إن المراد من هذه الآية أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأنهم كانوا يتعلمون من الرسول عليه السلام ويعلمون الناس والتأويل على هذا الوجه كونوا أمة مجتمعين على حفظ سنن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتعلم الدين
المسألة الثانية هذه الآية اشتملت على التكليف بثلاثة أشياء أولها الدعوة إلى الخير ثم الأمر بالمعروف ثم النهي عن المنكر ولأجل العطف يجب كون هذه الثلاثة متغايرة فنقول أما الدعوة إلى الخير فأفضلها الدعوة إلى إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وإنما قلنا إن الدعوة إلى الخير تشتمل على ما ذكرنا لقوله تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَة ِ ( النحل 125 ) وقوله تعالى قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِى ادْعُواْ إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى ( يوسف 108 )
إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الخير جنس تحته نوعان أحدهما الترغيب في فعل ما ينبغي وهو بالمعروف والثاني الترغيب في ترك ما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر فذكر الجنس أولاً ثم أتبعه بنوعية مبالغة في البيان وأما شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمذكورة في كتب الكلام
ثم قال تعالى وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وقد سبق تفسيره وفيه مسائل
المسألة الأولى منهم من تمسك بهذه الآية في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال لأن هذه الآية تدل على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من المفلحين والفاسق ليس من المفلحين فوجب أن يكون الآمر بالمعروف ليس بفاسق وأجيب عنه بأن هذا ورد على سبيل الغالب فإن الظاهر أن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر لم يشرع فيه إلا بعد صلاح أحوال نفسه لأن العاقل يقدم مهم
نفسه على مهم الغير ثم إنهم أكدوا هذا بقوله تعالى أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ( التوبة 44 ) قوله لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 2 3 ) ولأنه لو جاز ذلك لجاز لمن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت وجهها ومعلوم أن ذلك في غاية القبح والعلماء قالوا الفاسق له أن يأمر بالمعروف لأنه وجب عليه ترك ذلك المنكر ووجب عليه النهي عن ذلك المنكر فبأن ترك أحد الواجبين لا يلزمه ترك الواجب الآخر وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول لا أقول ما لا أفعل فقال وأينا يفعل ما يقول ودَّ الشيطان لو ظفر بهذه الكلمة منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن المنكر
المسألة الثانية عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر كان خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه ) وعن علي رضي الله عنه أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال أيضاً من لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً نكس وجعل أعلاه أسفله وروى الحسن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال يا أيها الناس ائتمروا بالمعروف وانتهوا عن المنكر تعيشوا بخير وعن الثوري إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن
المسألة الثالثة قال الله سبحانه وتعالى وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ ( الحجرات 9 ) قدم الإصلاح على القتال وهذا يقتضي أن يبدأ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأرفق مترقياً إلى الأغلظ فالأغلظ وكذا قوله تعالى وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ( النساء 34 ) يدل على ما ذكرناه ثم إذا لم يتم الأمر بالتغليظ والتشديد وجب عليه القهر باليد فإن عجز فباللسان فإن عجز فبالقلب وأحوال الناس مختلفة في هذا الباب
ثم قال تعالى وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في النظم وجهان الأول أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بيّن في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله ثم ختم ذلك بأن حذر المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص فقال وَلاَ تَكُونُواْ أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ من أهل الكتاب مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة فعلى هذا الوجه تكون الآية من تتمة جملة الآيات المتقدمة والثاني وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادراً على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الإلفة والمحبة بين أهل الحق والدين لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سبباً لعجزهم عن القيام بهذا التكليف وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط
المسألة الثانية قوله تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ فيه وجوه الأول تفرقوا واختلفوا بسبب اتباع الهوى وطاعة النفس والحسد كما أن إبليس ترك نص الله تعالى بسبب حسده لآدم الثاني تفرقوا حتى صار كل فريق منهم يصدق من الأنبياء بعضاً دون بعض فصاروا بذلك إلى العداوة والفرقة الثالث صاروا مثل مبتدعة هذه الأمة مثل المشبهة والقدرية والحشوية
المسألة الثالثة قال بعضهم تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ معناهما واحد وذكرهما للتأكيد وقيل بل معناهما مختلف ثم اختلفوا فقيل تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين وقيل تفرقوا بسبب استخراج التأويلات الفاسدة من تلك النصوص ثم اختلفوا بأن حاول كل واحد منهم نصرة قوله ومذهبه والثالث تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيساً في بلد ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة
المسألة الرابعة إنما قال مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ ولم يقل جَاءتْهُمْ لجواز حذف علامة من الفعل إذا كان فعل المؤنث متقدماً
ثم قال تعالى وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يعني الذين تفرقوا لهم عذاب عظيم في الآخرة بسبب تفرقهم فكان ذلك زجراً للمؤمنين عن التفرق
ثم قال تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ اعلم أنه تعالى لما أمر اليهود ببعض الأشياء ونهاهم عن بعض ثم أمر المسلمين بالبعض ونهاهم عن البعض أتبع ذلك بذكر أحوال الآخرة تأكيداً للأمر وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في نصب يَوْمٍ وجهان الأول أنه نصب على الظرف والتقدير ولهم عذاب عظيم في هذا اليوم وعلى هذا التقدير ففيه فائدتان إحداهما أن ذلك العذاب في هذا اليوم والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن تبيض فيه وجوه وتسود وجوه والثاني أنه منصوب بإضمار ( اذكر )
المسألة الثانية هذه الآية لها نظائر منها قوله تعالى وَيَوْمَ الْقِيَامَة ِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّة ٌ ( الزمر 60 ) ومنها قوله وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّة ٌ ( يونس 26 ) ومنها قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ ( عبسى 38 41 ) ومنها قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة ٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَة ٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَة ٌ ( القيامة 22 25 ) ومنها قوله تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَة َ النَّعِيمِ ( المطففين 24 ) ومنها قوله يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ( الرحمن 41 )
إذا عرفت هذا فنقول في هذا البياض والسواد والغبرة والقترة والنضرة للمفسرين قولان أحدهما أن البياض مجاز عن الفرح والسرور والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِالاْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( النحل 58 ) ويقال لفلان عندي يد بيضاء أي جلية سارة ولما سلم الحسن بن علي رضي الله عنه الأمر لمعاوية قال له بعضهم يا مسود وجوه المؤمنين ولبعضهم في الشيب
يا بياض القرون سودت وجهي
عند بيض الوجوه سود القرون
فلعمري لأخفينك جهدي
عن عياني وعن عيان العيون
بسواد فيه بياض لوجهي
وسواد لوجهك الملعون
وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل وعند التهنئة بالسرور يقولون الحمد لله الذي بيض وجهك ويقال لمن وصل إليه مكروه إربد وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته فعلى هذا معنى الآية أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه فإن كان ذلك من الحسنات ابيض وجهه بمعنى استبشر بنعم الله وفضله وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسود وجهه بمعنى شدة الحزن والغم وهذا قول أبي مسلم الأصفهاني
والقول الثاني إن هذا البياض والسواد يحصلان في وجوه المؤمنين والكافرين وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما ولا دليل يوجب ترك الحقيقة فوجب المصير إليه قلت ولأبي مسلم أن يقول الدليل دل على ما قلناه وذلك لأنه تعالى قال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد بالغبرة والقترة ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً فعلمنا أن المراد من هذه الغبرة والقترة الغم والحزن حتى يصح هذا التقابل ثم قال القائلون بهذا القول الحكمة في ذلك أن أهل الموقف إذا رأوا البياض في وجه إنسان عرفوا أنه من أهل الثواب فزادوا في تعظيمه فيحصل له الفرح بذلك من وجهين أحدهما أن السعيد يفرح بأن يعلم قومه أنه من أهل السعادة قال تعالى مخبراً عنهم قَالَ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ ( يس 26 27 ) الثاني أنهم إذا عرفوا ذلك خصوه بمزيد التعظيم فثبت أن ظهور البياض في وجه المكلف سبب لمزيد سروره في الآخرة وبهذا الطريق يكون ظهور السواد في وجه الكفار سبباً لمزيد غمهم في الآخرة فهذا وجه الحكمة في الآخرة وأما في الدنيا فالمكلف حين يكون في الدنيا إذا عرف حصول هذه الحالة في الآخرة صار ذلك مرغباً له في الطاعات وترك المحرمات لكي يكون في الآخرة من قبيل من يبيض وجهه لا من قبيل من يسود وجهه فهذا تقرير هذين القولين
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر وأنه ليس ههنا منزلة بين المنزلتين كما يذهب إليه المعتزلة فقالوا إنه تعالى قسم أهل القيامة إلى قسمين منهم من يبيض وجهه وهم المؤمنون ومنهم من يسود وجهه وهم الكافرون ولم يذكر الثالث فلو كان ههنا قسم ثالث لذكره الله تعالى قالوا وهذا أيضاً متأكد بقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَة ٌ ضَاحِكَة ٌ مُّسْتَبْشِرَة ٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَة ٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَة ٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَة ُ الْفَجَرَة ُ ( عبسى 38 42 )
أجاب القاضي عنه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه يبين ذلك أنه تعالى إنما قال يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فذكرهما على سبيل التنكير وذلك لا يفيد العموم وأيضاً المذكور في الآية المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين فكذا القول في الفساق
واعلم أن وجه الاستدلال بالآية هو أنا نقول الآيات المتقدمة ما كانت إلا في الترغيب في الإيمان بالتوحيد والنبوّة وفي الزجر عن الكفر بهما ثم إنه تعالى اتبع ذلك بهذه الآية فظاهرها يقتضي أن يكون ابيضاض الوجه نصيباً لمن آمن بالتوحيد والنبوّة واسوداد الوجه يكون نصيباً لمن أنكر ذلك ثم دل ما بعد هذه الآية على أن صاحب البياض من أهل الجنة وصاحب السواد من أهل النار فحينئذ يلزم نفي المنزلة بين المنزلتين وأما قوله يشكل هذا بالكافر الأصلي فجوابنا عنه من وجهين الأول أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد منه أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم وإذا كان كذلك كان الكل داخلاً فيه والثاني وهو أنه تعالى قال في آخر الآية فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فجعل موجب العذاب هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث أنه بعد الإيمان وإذا وقع التعليل بمطلق الكفر دخل كل الكفار فيه سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً أصلياً والله أعلم
ثم قال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وفي الآية سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى ذكر القسمين أولاً فقال يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فقدم البياض على السواد في اللفظ ثم لما شرع في حكم هذين القسمين قدم حكم السواد وكان حق الترتيب أن يقدم حكم البياض
والجواب عنه من وجوه أحدها أن الواو للجمع المطلق لا للترتيب وثانيها أن المقصود من الخلق إيصال الرحمة لا إيصال العذاب قال عليه الصلاة والسلام حاكياً عن رب العزة سبحانه ( خلقتهم ليربحوا علي لا لأربح عليهم ) وإذا كان كذلك فهو تعالى ابتدأ بذكر أهل الثواب وهم أهل البياض لأن تقديم الأشرف على الأخس في الذكر أحسن ثم ختم بذكرهم أيضاً تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال ( سبقت رحمتي غضبي ) وثالثها أن الفصحاء والشعراء قالوا يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ويشرح الصدر ولا شك أن ذكر رحمة الله هو الذي يكون كذلك فلا جرم وقع الابتداء بذكر أهل الثواب والاختتام بذكرهم
السؤال الثاني أين جواب ( أما )
والجواب هو محذوف والتقدير فيقال لهم أكفرتم بعد إيمانكم وإنما حسن الحذف لدلالة الكلام عليه ومثله في التنزيل كثير قال تعالى وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) وقال وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ( البقرة 127 ) وقال وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُؤُوسَهُمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا ( السجدة 12 )
السؤال الثالث من المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم
والجواب للمفسرين فيه أقوال أحدها قال أُبي بن كعب الكل آمنوا حال ما استخرجهم من صلب آدم عليه السلام فكل من كفر في الدنيا فقد كفر بعد الإيمان ورواه الواحدي في ( البسيط ) بإسناده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وثانيها أن المراد أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو الدلائل التي نصبها الله تعالى على التوحيد والنبوّة والدليل على صحة هذا التأويل قوله تعالى فيما قبل هذه الآية يَشْعُرُونَ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ
تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ( آل عمران 70 ) فذمهم على الكفر بعد وضوح الآيات وقال للمؤمنين وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ ( آل عمران 105 )
ثم قال ههنا أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فكان ذلك محمولاً على ما ذكرناه حتى تصير هذه الآية مقررة لما قبلها وعلى هذين الوجهين تكون الآية عامة في حق كل الكفار وأما الذين خصصوا هذه الآية ببعض الكفار فلهم وجوه الأول قال عكرمة والأصم والزجاج المراد أهل الكتاب فإنهم قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا مؤمنين به فلما بعث ( صلى الله عليه وسلم ) كفروا به الثاني قال قتادة المراد الذين كفروا بعد الإيمان بسبب الارتداد الثالث قال الحسن الذين كفروا بعد الإيمان بالنفاق الرابع قيل هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة الخامس قيل هم الخوارج فإنه عليه الصلاة والسلام قال فيهم ( إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ) وهذان الوجهان الأخيران في غاية البعد لأنهما لا يليقان بما قبل هذه الآية ولأنه تخصيص لغير دليل ولأن الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة
السؤال الرابع ما الفائدة في همزة الاستفهام في قوله أَكْفَرْتُمْ
الجواب هذا استفهام بمعنى الإنكار وهو مؤكد لما ذكر قبل هذه الآية وهو قوله قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( آل عمران 98 99 )
ثم قال تعالى فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
وفيه فوائد الأولى أنه لو لم يذكر ذلك لكان الوعيد مختصاً بمن كفر بعد إيمانه فلما ذكر هذا ثبت الوعيد لمن كفر بعد إيمانه ولمن كان كافراً أصلياً الثانية قال القاضي قوله أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يدل على أن الكفر منه لا من الله وكذا قوله فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الثالثة قالت المرجئة الآية تدل على أن كل نوع من أنواع العذاب وقع معللاً بالكفر وهذا ينفي حصول العذاب لغير الكافر
ثم قال تعالى وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وفيه سؤالات
السؤال الأول ما المراد برحمة الله
الجواب قال ابن عباس المراد الجنة وقال المحققون من أصحابنا هذا إشارة إلى أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمة الله وكيف لا نقول ذلك والعبد ما دامت داعيته إلى الفعل وإلى الترك على السوية يمتنع منه الفعل فإذن ما لم يحصل رجحان داعية الطاعة امتنع أن يحصل منه الطاعة وذلك الرجحان لا يكون إلا بخلق الله تعالى فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله في حق العبد فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله وبرحمته وبكرمه لا باستحقاقنا
السؤال الثاني كيف موقع قوله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ بعد قوله فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ
الجواب كأنه قيل كيف يكونون فيها فقيل هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون
السؤال الثالث الكفار مخلدون في النار كما أن المؤمنين مخلدون في الجنة ثم إنه تعالى لم ينص على خلود أهل النار في هذه الآية مع أنه نص على خلود أهل الجنة فيها فما الفائدة
والجواب كل ذلك إشعارات بأن جانب الرحمة أغلب وذلك لأنه ابتدأ في الذكر بأهل الرحمة وختم بأهل الرحمة ولما ذكر العذاب ما أضافه إلى نفسه بل قال فَذُوقُواْ الْعَذَابَ مع أنه ذكر الرحمة مضافة إلى نفسه حيث قال فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ ولما ذكر العذاب ما نص على الخلود مع أنه نص على الخلود في جانب الثواب ولما ذكر العذاب علله بفعلهم فقال فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ولما ذكر الثواب علله برحمته فقال فَفِى رَحْمَة ِ اللَّهِ ثم قال في آخر الآية وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ وهذا جار مجرى الاعتذار عن الوعيد بالعقاب وكل ذلك مما يشعر بأن جانب الرحمة مغلب يا أرحم الراحمين لا تحرمنا من برد رحمتك ومن كرامة غفرانك وإحسانك
ثم قال تعالى تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ فقوله تِلْكَ فيه وجهان الأول المراد أن هذه الآيات التي ذكرناها هي دلائل الله وإنما جاز إقامة تِلْكَ مقام هَاذِهِ لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر فصار كأنها بعدت فقيل فيها تِلْكَ والثاني إن الله تعالى وعده أن ينزل عليه كتاباً مشتملاً على كل ما لابد منه في الدين فلما أنزل هذه الآيات قال تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك بالحق وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة في تفسير قوله ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 2 ) وقوله بِالْحَقّ فيه وجهان الأول أي ملتبسة بالحق والعدل من إجزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه الثاني بالحق أي بالمعنى الحق لأن معنى التلو حق
ثم قال تعالى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى إنما حسن ذكر الظلم ههنا لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة وهو سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين فكأنه تعال يعتذر عن ذلك وقال إنهم ما وقعوا فيه إلا بسبب أفعالهم المنكرة فإن مصالح العالم لا تستقيم إلا بتهديد المذنبين وإذا حصل هذا التهديد فلا بد من التحقيق دفعاً للكذب فصار هذا الاعتذار من أدل الدلائل على أن جانب الرحمة غالب ونظيره قوله تعالى في سورة ( عم ) بعد أن ذكر وعيد الكفار إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً ( النبأ 27 28 ) أي هذا الوعيد الشديد إنما حصل بسبب هذه الأفعال المنكرة
المسألة الثانية قال الجبائي هذه الآية تدل على أنه سبحانه لا يريد شيئاً من القبائح لا من أفعاله ولا من أفعال عباده ولا يفعل شيئاً من ذلك وبيانه وهو أن الظلم إما أن يفرض صدوره من الله تعالى أو من العبد وبتقدير صدوره من العبد فإما أن يظلم نفسه وذلك بسبب إقدامه على المعاصي أو يظلم غيره فأقسام الظلم هي هذه الثلاثة وقوله تعالى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ نكرة في سياق النفي فوجب أن لا يريد شيئاً مما يكون ظلماً سواء كان ذلك صادراً عنه أو صادراً عن غيره فثبت أن هذه الآية تدل على أنه لا يريد شيئاً من هذه الأقسام الثلاثة وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يكون فاعلاً لشيء من هذه الأقسام ويلزم منه أن لا يكون فاعلاً للظلم أصلاً ويلزم أن لا يكون فاعلاً لأعمال العباد لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم وظلم بعضهم بعضاً وإنما قلنا إن الآية تدل على كونه تعالى غير فاعل للظلم ألبتة لأنها دلت على أنه غير مريد لشيء منها ولو كان فاعلاً لشيء من أقسام الظلم لكان مريداً لها وقد بطل ذلك قالوا فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم وغير فاعل لأعمال العباد وغير مريد للقبائح من أفعال العباد ثم قالوا إنه
تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريداً له فدلت هذه الآية على كونه تعالى قادراً على الظلم وعند هذا تبجحوا وقالوا هذه الآية الواحدة وافية بتقرير جميع أصول المعتزلة في مسائل العدل ثم قالوا ولما ذكر تعالى أنه لا يريد الظلم ولا يفعل الظلم قال بعده وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ وإنما ذكر هذه الآية عقيب ما تقدم لوجهين الأول أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح إما للجهل أو العجز أو الحاجة وكل ذلك على الله محال لأنه مالك لكل ما في السماوات وما في الأرض وهذه المالكية تنافي الجهل والعجز والحاجة وإذا امتنع ثبوت هذه الصفات في حقه تعالى امتنع كونه فاعلاً للقبيح والثاني أنه تعالى لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجه من الوجوه كان لقائل أن يقول إنا نشاهد وجود الظلم في العالم فإذا لم يكن وقوعه بإرادته كان على خلاف إرادته فيلزم كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً وذلك محال
فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ أي أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر ولما كان قادراً على ذلك خرج عن كونه عاجزاً ضعيفاً لا أنه تعالى أراد منهم ترك المعصية اختياراً وطوعاً ليصيروا بسبب ذلك مستحقين للثواب فلو قهرهم على ترك المعصية لبطلت هذه الفائدة فهذا تلخيص كلام المعتزلة في هذه الآية وربما أوردوا هذا الكلام من وجه آخر فقالوا المراد من قوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ إما أن يكون هو لا يريد أن يظلمهم أو أنه لا يريد منهم أن يظلم بعضهم بعضاً فإن كان الأول فهذا لا يستقيم على قولكم لأن مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء عن الذنب بأشد العذاب لم يكن ظلماً بل كان عادلاً لأن الظلم تصرف في ملك الغير وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه فاستحال كونه ظالماً وإذا كان كذلك لم يكن حمل الآية على أنه لا يريد أن يظلم الخلق وإن حملتم الآية على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضاً فهذا أيضاً لا يتم على قولكم لأن كل ذلك بإرادة الله وتكوينه على قولكم فثبت أن على مذهبكم لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى لا يريد أن يظلم أحداً من عباده قوله الظلم منه محال على مذهبكم فامتنع التمدح به قلنا الكلام عليه من وجهين الأول أنه تعالى تمدح بقوله لاَ تَأْخُذُهُ سِنَة ٌ وَلاَ نَوْمٌ ( البقرة 255 ) وبقوله وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ( الأنعام 14 ) ولا يلزم من ذلك صحة النوم والأكل عليه فكذا ههنا الثاني أنه تعالى إن عذب من لم يكن مستحقاً للعذاب فهو وإن لم يكن ظلماً في نفسه لكنه في صور الظلم وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) ونظائره كثيرة في القرآن هذا تمام الكلام في هذه المناظرة
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ على كونه خالقاً لأعمال العباد فقالوا لا شك أن أفعال العباد من جملة ما في السماوات والأرض فوجب كونها له بقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وإنما يصح قولنا إنها له لو كانت مخلوقة له فدلت هذه الآية على أنه خالق لأفعال العباد
أجاب الجبائي عنه بأن قوله لِلَّهِ إضافة ملك لا إضافة فعل ألا ترى أنه يقال هذا البناء لفلان
فيريدون أنه مملوكه لا أنه مفعوله وأيضاً المقصود من الآية تعظيم الله لنفسه ومدحه لإلاهية نفسه ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب إلى نفسه الفواحش والقبائح وأيضاً فقوله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ إنما يتناول ما كان مظروفاً في السماوات والأرض وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض
أجاب أصحابنا عنه بأن هذه الإضافة إضافة الفعل بدليل أن القادر على القبيح والحسن لا يرجح الحسن على القبيح إلا إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى فعل الحسن وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله تعالى دفعاً للتسلسل وإذا كان المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية وثبت أن مجموع القدرة والداعية بخلق الله تعالى ثبت أن فعل العبد مستند إلى الله تعالى خلقاً وتكويناً بواسطة فعل السبب فهذا تمام القول في هذه المناظرة
المسألة الرابعة قوله تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ زعمت الفلاسفة أنه إنما قدم ذكر ما في السماوات على ذكر ما في الأرض لأن الأحوال السماوية أسباب للأحوال الأرضية فقدم السبب على المسبب وهذا يدل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأحوال السماوية ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلق الله وتكوينه فيكون الجبر لازماً أيضاً من هذا الوجه
المسألة الخامسة قال تعالى وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ فأعاد ذكر الله في أول الآيتين والغرض منه تأكيد التعظيم والمقصود أن تمنه مبدأ المخلوقات وإليه معادهم فقوله وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول وقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ إشارة إلى أنه هو الآخر وذلك يدل إحاطة حكمه وتصرفه وتدبيره بأولهم وآخرهم وأن الأسباب منتسبة إليه وأن الحاجات منقطعة عنده
المسألة السادسة كلمة إِلَى في قوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ لا تدل على كونه تعالى في مكان وجهة بل المراد أن رجوع الخلق إلى موضع لا ينفذ فيه حكم أحد إلا حكمه ولا يجري فيه قضاء أحد إلا قضاؤه
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاٌّ دُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
في النظم وجهان الأول أنه تعالى لما أمر المؤمنين ببعض الأشياء ونهاهم عن بعضها وحذرهم من أن يكونوا مثل أهل الكتاب في التمرد والعصيان وذكر عقيبه ثواب المطيعين وعقاب الكافرين كان الغرض من كل هذه الآيات حمل المؤمنين المكلفين على الانقياد والطاعة ومنعهم عن التمرد والمعصية ثم إنه تعالى أردف ذلك بطريق آخر يقتضي حمل المؤمنين على الانقياد والطاعة فقال كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ والمعنى أنكم كنتم في اللوح المحفوظ خير الأمم وأفضلهم فاللائق بهذا أن لا تبطلوا على أنفسكم هذه الفضيلة وأن لا تزيلوا عن أنفسكم هذه الخصلة المحمودة وأن تكونوا منقادين مطيعين في كل ما يتوجه عليكم من التكاليف الثاني أن الله تعالى لما ذكر كمال حال الأشقياء وهو قوله فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ( آل عمران 106 ) وكمال حال السعداء وهو قوله وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ( آل عمران 107 ) نبه على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ ( آل عمران 108 ) يعني أنهم إنما استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة ثم نبه في هذه الآية على ما هو السبب لوعد السعداء بقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي تلك السعادات والكمالات والكرامات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وفي الآية مسائل
المسألة الأولى لفظة كَانَ قد تكون تامة وناقصة وزائدة على ما هو مشروح في النحو واختلف المفسرون في قوله كُنتُمْ على وجوه الأول أن ( كان ) ههنا تامة بمعنى الوقوع والحدوث وهو لا يحتاج إلى خبر والمعنى حدثتم خير أمة ووجدتم وخلقتم خير أمة ويكون قوله خَيْرَ أُمَّة ٍ بمعنى الحال وهذا قول جمع من المفسرين الثاني أن ( كان ) ههنا ناقصة وفيه سؤال وهو أن هذا يوهم أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة وأنهم ما بقوا الآن عليها
والجواب عنه أن قوله ( كان ) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام ولا يدل ذلك على انقطاع طارىء بدليل قوله اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً ( نوح 10 ) قوله وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( الفتح 14 ) إذا ثبت هذا فنقول للمفسرين على هذا التقدير أقوال أحدها كنتم في علم الله خير أمة وثانيها كنتم في الأمم الذين كانوا قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة وهو كقوله أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ( الفتح 29 ) إلى قوله ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاة ِ ( الفتح 29 ) فشدتهم على الكفار أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وثالثها كنتم في اللوح المحفوظ موصوفين بأنكم خير أمة ورابعها كنتم منذ آمنتم خير أمة أخرجت للناس وخامسها قال أبو مسلم قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ تابع لقوله وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ( آل عمران 107 ) والتقدير أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة كنتم في دنياكم خير أمة فاستحقيتم ما أنتم فيه من الرحمة وبياض الوجه بسببه ويكون ما عرض بين أول القصة وآخرها كما لا يزال يعرض في القرآن من مثله وسادسها قال بعضهم لو شاء الله تعالى لقال ( أنتم ) وكان هذا التشريف حاصلاً لكلنا ولكن قوله كُنتُمْ مخصوص بقوم معينين من أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهم السابقون الأولون ومن صنع مثل ما صنعوا وسابعها كنتم مذ آمنتم خير أمة تنبيهاً على أنهم كانوا موصوفين بهذه الصفة مذ كانوا
الاحتمال الثالث أن يقال ( كان ) ههنا زائدة وقال بعضهم قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ هو كقوله وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ( الأعراف 86 ) وقال في موضع آخر وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ ( الأنفال 26 ) وإضمار كان وإظهارها سواء إلا أنها تذكر للتأكيد ووقوع الأمر لا محالة قال ابن الأنباري هذا القول ظاهر
الاختلال لأن ( كان ) تلغى متوسطة ومؤخرة ولا تلغى متقدمة تقول العرب عبد الله كان قائم وعبد الله قائم كان على أن كان ملغاة ولا يقولون كان عبد الله قائم على إلغائها لأن سبيلهم أن يبدؤا بما تنصرف العناية إليه والمعنى لا يكون في محل العناية وأيضاً لا يجوز إلغاء الكون في الآية لانتصاب خبره وإذا عمل الكون في الخبر فنصبه لم يكن ملغى
الاحتمال الرابع أن تكون ( كان ) بمعنى صار فقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ معناه صرتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر أي صرتم خير أمة بسبب كونكم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومؤمنين بالله
ثم قال وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ يعني كما أنكم اكتسبتم هذه الخيرية بسبب هذه الخصال فأهل الكتاب لو آمنوا لحصلت لهم أيضاً صفة الخيرية والله أعلم
المسألة الثانية احتج أصحابنا بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة وتقريره من وجهين الأول قوله تعالى وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّة ٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ ( الأعراف 159 ) ثم قال في هذه الآية كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ فوجب بحكم هذه الآية أن تكون هذه الآية أفضل من أولئك الذين يهدون بالحق من قوم موسى وإذا كان هؤلاء أفضل منهم وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق إذ لو جاز في هذه الآية أن تحكم بما ليس بحق لامتنع كون هذه الأمة أفضل من الأمة التي تهدي بالحق لأن المبطل يمتنع أن يكون خيراً من المحق فثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق وإذا كان كذلك كان إجماعهم حجة
الوجه الثاني وهو ( أن الألف واللام ) في لفظ الْمَعْرُوفِ ولفظ الْمُنْكَرَ يفيدان الاستغراق وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقاً وصدقاً لا محالة فكان حجة والمباحث الكثيرة فيه ذكرناها في الأصول
المسألة الثالثة قال الزجاج قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ظاهر الخطاب فيه مع أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولكنه عام في كل الأمة ونظيره قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) كِتَابَ عَلِيمٌ الْقِصَاصِ ( البقرة 178 ) فإن كل ذلك خطاب مع الحاضرين بحسب اللفظ ولكنه عام في حق الكل كذا ههنا
المسألة الرابعة قال القفال رحمه الله أصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد فأمة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به والإقرار بنبوته وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته أنهم أمته إلا أن لفظ الأمة إذا أطلقت وحدها وقع على الأول ألا ترى أنه إذا قيل أجمعت الأمة على كذا فهم منه الأول وقال عليه الصلاة والسلام ( أمتي لا تجتمع على ضلالة ) وروي أنه عليه الصلاة والسلام يقول يوم القيامة ( أمتي أمتي ) فلفظ الأمة في هذه المواضع وأشباهها يفهم منه المقرون بنبوته فأما أهل دعوته فإنه إنما يقال لهم إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم إلا لفظ الأمة بهذا الشرط
أما قوله أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ففيه قولان الأول أن المعنى كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار فقوله أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أي أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها والثاني أن قوله لِلنَّاسِ من تمام قوله كُنتُمْ والتقدير كنتم للناس خير أمة ومنهم من قال
أُخْرِجَتْ صلة والتقدير كنتم خير أمة للناس
ثم قال تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
واعلم أن هذا كلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقروناً بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف فههنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات
وههنا سؤالات
السؤال الأول من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات الثلاثة كانت حاصلة في سائر الأمم
والجواب قال القفال تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة وأنكر المنكرات الكفر بالله فكان الجهاد في الدين محملاً لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع لا جرم صار ذلك موجباً لفضل هذه الأمة على سائر الأمم وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إلاه إلا الله ويقروا بما أنزل الله وتقاتلونهم عليه و ( لا إلاه إلا الله ) أعظم المعروف والتكذيب هو أنكر المنكر
ثم قال القفال فائدة القتال على الدين لا ينكره منصف وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الألف والعادة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم فإذا أكره على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل ولا يزال يقوى في قلبه حب الدين الحق إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم
السؤال الثاني لم قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان بالله لا بد وأن يكون مقدماً على كل الطاعات
والجواب أن الإيمان بالله أمر مشترك فيه بين جميع الأمم المحقة ثم إنه تعالى فضل هذه الأمة على سائر الأمم المحقة فيمتنع أن يكون المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الإيمان الذي هو القدر المشترك بين الكل بل المؤثر في حصول هذه الزيادة هو كون هذه الأمة أقوى حالاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سائر الأمم فإذن المؤثر في حصول هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات مؤثراً في
صفة الخيرية فثبت أن الموجب لهذه الخيرية هو كونهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر وأما إيمانهم فذاك شرط التأثير والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ذكر الإيمان
السؤال الثالث لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ولم يذكر الإيمان بالنبوة مع أنه لا بد منه
والجواب الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوّة لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجز على وفق دعواه صادقاً لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول فلما شاهدنا ظهور المعجز على وفق دعوى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكان الاقتصار على ذكر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة
ثم قال تعالى وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وفيه وجهان الأول ولو آمن أهل الكتاب بهذا الدين الذي لأجله حصلت صفة الخيرية لأتباع محمد عليه الصلاة والسلام لحصلت هذه الخيرية أيضاً لهم فالمقصود من هذا الكلام ترغيب أهل الكتاب في هذا الدين الثاني إن أهل الكتاب إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العلوم ولو آمنوا لحصلت لهم هذه الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة فكان ذلك خيراً لهم مما قنعوا به
واعلم أنه تعالى أتبع هذا الكلام بجملتين على سبيل الابتداء من غير عاطف إحداهما قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ( آل عمران 110 ) وثانيتهما قوله لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ قال صاحب ( الكشاف ) هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب كما يقول القائل وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ولذلك جاء مِن غير عاطف
أما قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ففيه سؤالان
السؤال الأول الألف واللام في قوله الْمُؤْمِنُونَ للاستغراق أو للمعهود السابق
والجواب بل للمعهود السابق والمراد عبد الله بن سلاّم ورهطه من اليهود والنجاشي ورهطه من النصارى
السؤال الثاني الوصف إنما يذكر للمبالغة فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق
والجواب الكافر قد يكون عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً في دينه فيكون مردوداً عند الطوائف كلهم لأن المسلمين لا يقبلونه لكفره والكفار لا يقبلونه لكونه فاسقاً فيما بينهم فكأنه قيل أهل الكتاب فريقان منهم من آمن والذين ما آمنوا فهم فاسقون في أديانهم فليسوا ممن يجب الاقتداء بهم ألبتة عند أحد من العقلاء
أما قوله تعالى لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى فاعلم أنه تعالى لما رغب المؤمنين في التصلب في إيمانهم وترك الالتفات إلى أقوال الكفار وأفعالهم بقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ رغبهم فيه من وجه آخر وهو أنهم لا قدرة لهم على الاضرار بالمسلمين إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به ولو أنهم قاتلوا المسلمين صاروا منهزمين مخذولين وإذا كان كذلك لم يجب الالتفات إلى أقوالهم وأفعالهم وكل ذلك تقرير لما تقدم من
قوله إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ( آل عمران 100 ) فهذا وجه النظم فأما قوله لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى فمعناه أنه ليس على المسلمين من كفار أهل الكتاب ضرر وإنما منتهى أمرهم أن يؤذوكم باللسان إما بالطعن في محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام وإما بإظهار كلمة الكفر كقولهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) و الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ( التوبة 30 ) و اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَة ٍ ( المائدة 73 ) وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل وإما بإلقاء الشبه في الأسماع وإما بتخويف الضعفة من المسلمين ومن الناس من قال إن قوله إِلاَّ أَذًى استثناء منقطع وهو بعيد لأن كل الوجوه المذكورة يوجب وقوع الغم في قلوب المسلمين والغم ضرر فالتقدير لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى فهو استثناء صحيح والمعنى لن يضروكم إلا ضرراً يسيراً والأذى وقع موقع الضرر والأذى مصدر أذيت الشيء أذى
ثم قال تعالى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ وهو إخبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لصاروا منهزمين مخذولين ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ أي إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ولا قوة البتة ومثله قوله تعالى وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ( الحشر 12 ) قوله قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ ( آل عمران 12 ) وقوله نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( القمر 44 45 ) وكل ذلك وعد بالفتح والنصرة والظفر
واعلم أن هذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة منها أن المؤمنين آمنون من ضررهم ومنها أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا ومنها أنه لا يحصل لهم قوة وشوكة بعد الانهزام وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا وما أقدموا على محاربة وطلب رياسة إلا خذلوا وكل ذلك إخبار عن الغيب فيكون معجزاً وههنا سؤالات
السؤال الأول هب أن اليهود كذلك لكن النصارى ليسوا كذلك فهذا يقدح في صحة هذه الآيات قلنا هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول على ذلك فزال هذا الإشكال
السؤال الثاني هلا جزم قوله ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
قلنا عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الأخبار ابتداء كأنه قيل أخبركم أنهم لا ينصرون والفائدة فيه أنه لو جزم لكان نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبار وحين رفع كان نفي النصر وعداً مطلقاً كأنه قال ثم شأنهم وقصتهم التي أخبركم عنها وأبشركم بها بعد التولية أنهم لا يجدون النصرة بعد ذلك قط بل يبقون في الذلة والمهانة أبداً دائماً
السؤال الثالث ما الذي عطف عليه قوله ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
الجواب هو جملة الشرط والجزاء كأنه قيل أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم أنهم لا ينصرون وإنما ذكر لفظ ثُمَّ لإفادة معنى التراخي في المرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الاخبار بتوليتهم الأدبار
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّة ُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَة ُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِأايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الاٌّ نْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
واعلم أنه تعالى لما بيّن أنهم إن قاتلوا رجعوا مخذولين غير منصورين ذكر أنهم مع ذلك قد ضربت عليهم الذلة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قد ذكرنا تفسير هذه اللفظة في سورة البقرة والمعنى جعلت الذلة ملصقة ربهم كالشيء يضرب على الشيء فيلصق به ومنه قولهم ما هذا علي بضربة لازب ومنه تسمية الخراج ضريبة
المسألة الثانية الذلة هي الذل وفي المراد بهذا الذل أقوال الأول وهو الأقوى أن المراد أن يحاربوا ويقتلوا وتغنم أموالهم وتسبى ذراريهم وتملك أراضيهم فهو كقوله تعالى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( البقرة 191 )
ثم قال تعالى إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ والمراد إلا بعهد من الله وعصمة وذمام من الله ومن المؤمنين لأن عند ذلك تزول الأحكام فلا قتل ولا غنيمة ولا سبي الثاني أن هذه الذلة هي الجزية وذلك لأن ضرب الجزية عليهم يوجب الذلة والصغار والثالث أن المراد من هذه الذلة أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً بل هم مستخفون في جميع البلاد ذليلون مهينون
واعلم أنه لا يمكن أن يقال المراد من الذلة هي الجزية فقط أو هذه المهانة فقط لأن قول إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ يقتضي زوال تلك الذلة عند حصول هذا الحبل والجزية والصغار والدناءة لا يزول شيء منها عند حصول هذا الحبل فامتنع حمل الذلة على الجزية فقط وبعض من نصر هذا القول أجاب عن هذا السؤال بأن قال إن هذا الاستثناء منقطع وهو قول محمد بن جرير الطبري فقال اليهود قد ضربت عليهم الذلة سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا فلا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة فقوله إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ تقديره لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس واعلم أن هذا ضعيف لأن حمل لفظ إِلا على ( لكن ) خلاف الظاهر وأيضاً إذا حملنا الكلام على أن المراد لكن قد يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس لم يتم هذا القدر فلا بد من إضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه والإضمار خلاف الأصل فلا يصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة فإذا كان لا ضرورة ههنا إلى ذلك كان المصير إليه غير جائز بل ههنا وجه آخر وهو أن يحمل الذلة على كل هذه الأشياء أعني القتل والأسر وسبي
الذراري وأخذ المال وإلحاق الصغار والمهانة ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام وهو أخذ القليل من أموالهم الذي هو مسمى بالجزية وبقاء المهانة والحقارة والصغار فيهم فهذا هو القول في هذا الموضع وقوله أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أي وجدوا وصودفوا يقال ثقفت فلاناً في الحرب أي أدركته وقد مضى الكلام فيه عند قوله حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ( البقرة 191 )
المسألة الثالثة قوله إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللَّهِ فيه وجوه الأول قال الفرّاء التقدير إلا أن يعتصموا بحبل من الله وأنشد على ذلك رأتني بحبلها فصدت مخافة
وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
واعترضوا عليه فقالوا لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته لأن الموصول هو الأصل والصلة فرع فيجوز حذف الفرع لدلالة الأصل عليه أما حذف الأصل وإبقاء الفرع فهو غير جائز الثاني أن هذا الاستثناء واقع على طريق المعنى لأن معنى ضرب الذلة لزومها إياهم على أشد الوجوه بحيث لا تفارقهم ولا تنفك عنهم فكأنه قيل لا تنفك عنهم الذلة ولن يتخلصوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس الثالث أن تكون الباء بمعنى ( مع ) كقولهم اخرج بنا نفعل كذا أي معنا والتقدير إلا مع حبل من الله
المسألة الرابعة المراد من حبل الله عهده وقد ذكرنا فيما تقدم أن العهد إنما سمي بالحبل لأن الإنسان لما كان قبل العهد خائفاً صار ذلك الخوف مانعاً له من الوصول إلى مطلوبه فإذا حصل العهد توصل بذلك العهد إلى الوصول إلى مطلوبه فصار ذلك شبيهاً بالحبل الذي من تمسك به تخلص من خوف الضرر
فإن قيل إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس وذلك يقتضي المغايرة فكيف هذه المغايرة
قلنا قال بعضهم حبل الله هو الإسلام وحبل الناس هو العهد والذمة وهذا بعيد لأنه لو كان المراد ذلك لقال أو حبل من الناس وقال آخرون المراد بكلام الحبلين العهد والذمة والأمان وإنما ذكر تعالى الحبلين لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين هو الأمان المأخوذ بإذن الله وهذا عندي أيضاً ضعيف والذي عندي فيه أن الأمان الحاصل للذمي قسمان أحدهما الذي نص الله عليه وهو أخد الجزية والثاني الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه تارة وينقص بحسب الاجتهاد فالأول هو المسمى بحبل الله والثاني هو المسمى بحبل المؤمنين والله أعلم
ثم قال وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وقد ذكرنا أن معناه أنهم مكثوا ولبثوا وداموا في غضب الله وأصل ذلك مأخوذ من البوء وهو المكان ومنه تبوأ فلان منزل كذا وبوأته إياه والمعنى أنهم مكثوا في غضب من الله وحلوا فيه وسواء قولك حل بهم الغضب وحلوا به
ثم قال وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَة ُ والأكثرون حملوا المسكنة على الجزية وهو قول الحسن قال وذلك لأنه تعالى أخرج المسكنة عن الاستثناء وذلك يدل على أنها باقية عليهم غير زائلة عنهم والباقي عليهم ليس إلا الجزية وقال آخرون المراد بالمسكنة أن اليهودي يظهر من نفسه الفقر وإن كان غنياً موسراً وقال بعضهم هذا إخبار من الله سبحانه بأنه جعل اليهود أرزاقاً للمسلمين فيصيرون مساكين ثم إنه تعالى
لما ذكر هذه الأنواع من الوعيد قال ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ والمعنى أنه تعالى ألصق باليهود ثلاثة أنواع من المكروهات أولها جعل الذلة لازمة لهم وثانياً جعل غضب الله لازماً لهم وثالثها جعل المسكنة لازمة لهم ثم بيّن في هذه الآية أن العلة لإلصاق هذه الأشياء المكروهة بهم هي أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق وهنا سؤالات
السؤال الأول هذه الذلة والمسكنة إنما التصقت باليهود بعد ظهور دولة الإسلام والذين قتلوا الأنبياء بغير حق هم الذين كانوا قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بأدوار وأعصار فعلى هذا الموضع الذي حصلت فيه العلة وهو قتل الأنبياء لم يحصل فيه المعلول الذي هو الذلة والمسكنة والموضع الذي حصل فيه هذا المعلول لم تحصل فيه العلة فكان الإشكال لازماً
والجواب عنه أن هؤلاء المتأخرين وإن كان لم يصدر عنهم قتل الأنبياء عليهم السلام لكنهم كانوا راضين بذلك فإن أسلافهم هم الذين قتلوا الأنبياء وهؤلاء المتأخرون كانوا راضين بفعل أسلافهم فنسب ذلك الفعل إليهم من حيث كان ذلك الفعل القبيح فعلاً لآبائهم وأسلافهم مع أنهم كانوا مصوبين لأسلافهم في تلك الأفعال
السؤال الثاني لم كرر قوله ذالِكَ بِمَا عَصَواْ وما الحكمة فيه ولا يجوز أن يقال التكرير للتأكيد لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقوى من المؤكد والعصيان أقل حالاً من الكفر فلم يجز تأكيد الكفر بالعصيان
والجواب من وجهين الأول أن علة الذلة والغضب والمسكنة هي الكفر وقتل الأنبياء وعلة الكفر وقتل الأنبياء هي المعصية وذلك لأنهم لما توغلوا في المعاصي والذنوب فكانت ظلمات المعاصي تتزايد حالاً فحالاً ونور الإيمان يضعف حالاً فحالاً ولم يزل كذلك إلى أن بطل نور الإيمان وحصلت ظلمة الكفر وإليه الإشارة بقوله كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( المطففين 14 ) فقوله ذالِكَ بِمَا عَصَواْ إشارة إلى علة العلة ولهذا المعنى قال أرباب المعاملات من ابتلي بترك الآداب وقع في ترك السنن ومن ابتلي بترك السنن وقع في ترك الفريضة ومن ابتلي بترك الفريضة وقع في استحقار الشريعة ومن ابتلي بذلك وقع في الكفر الثاني يحتمل أن يريد بقوله ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ من تقدم منهم ويريد بقوله ذالِكَ بِمَا عَصَواْ من حضر منهم في زمان الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى هذا لا يلزم التكرار فكأنه تعالى بيّن علة عقوبة من تقدم ثم بيّن أن من تأخر لما تبع من تقدم كان لأجل معصيته وعداوته مستوجباً لمثل عقوبتهم حتى يظهر للخلق أن ما أنزله الله بالفريقين من البلاء والمحنة ليس إلا من باب العدل والحكمة
لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَآئِمَة ٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَائِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في قوله لَيْسُواْ سَوَاء قولين أحدهما أن قوله لَيْسُواْ سَوَاء كلام تام وقوله مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ كلام مستأنف لبيان قوله لَيْسُواْ سَوَاء كما وقع قوله تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ( آل عمران 110 ) بياناً لقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 ) والمعنى أن أهل الكتاب الذين سبق ذكرهم ليسوا سواء وهو تقرير لما تقدم من قوله مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ثم ابتدأ فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ وعلى هذا القول احتمالان أحدهما أنه لما قال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ كان تمام الكلام أن يقال ومنهم أمة مذمومة إلا أنه أضمر ذكر الأمة المذمومة على مذهب العرب من أن ذكر أحد الضدين يغني عن ذكر الضد الآخر وتحقيقه أن الضدين يعلمان معاً فذكر أحدهما يستقل بإفادة العلم بهما فلا جرم يحسن إهمال الضد الآخر
قال أبو ذؤيب دعاني إليها القلب إني لامرؤ
مطيع فلا أدري أرشد طلابها
أراد ( أم غي ) فاكتفى بذكر الرشد عن ذكر الغي وهذا قول الفراء وابن الأنباري وقال الزجاج لا حاجة إلى إضمار الأمة المذمومة لأن ذكر الأمة المذمومة قد جرى فيما قبل هذه الآيات فلا حاجة إلى إضمارها مرة أخرى لأنا قد ذكرنا أنه لما كان العلم بالضدين معاً كان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر وهذا كما يقال زيد وعبد الله لا يستويان زيد عاقل دين زكي فيغني هذا عن أن يقال وعبد الله ليس كذلك فكذا ههنا لما تقدم قوله لَيْسُواْ سَوَاء أغنى ذلك عن الإضمار
والقول الثاني أن قوله لَيْسُواْ سَوَاء كلام غير تام ولا يجوز الوقف عنده بل هو متعلق بما بعده والتقدير ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وأمة مذمومة فأمة رفع بليس وإنما قيل لَّيْسُواْ على مذهب من يقول أكلوني البراغيث وعلى هذا التقدير لا بد من إضمار الأمة المذمومة وهو اختيار أبي عبيدة إلا أن أكثر النحويين أنكروا هذا القول لاتفاق الأكثرين على أن قوله أكلوني البراغيث وأمثالها لغة ركيكة والله أعلم
المسألة الثانية يقال فلان وفلان سواء أي متساويان وقوم سواء لأنه مصدر لا يثنى ولا يجمع ومضى الكلام في سَوَآء في أول سورة البقرة
المسألة الثالثة في المراد بأهل الكتاب قولان الأول وعليه الجمهور أن المراد منه الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام روي أنه لما أسلم عبد الله بن سلاّم وأصحابه قال لهم بعض كبار اليهود لقد كفرتم وخسرتم فأنزل الله تعالى لبيان فضلهم هذه الآية وقيل إنه تعالى لما وصف أهل الكتاب في الآية المتقدمة بالصفات المذمومة ذكر هذه الآية لبيان أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك بل فيهم من يكون موصوفاً بالصفات الحميدة والخصال المرضية قال الثوري بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد عليه الصلاة والسلام
والقول الثاني أن يكون المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان وعلى هذا القول يكون المسلمين من جملتهم قال تعالى ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ( فاطر 32 ) ومما يدل على هذا ما روى ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخر صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال ( أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم ) وقرأ هذه الآية قال القفال رحمه الله ولا يبعد أن يقال أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب فقيل ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا ولم يبعد أيضاً أن يقال المراد كل من آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فسماهم الله بأهل الكتاب كأنه قيل أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا يستويان فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيداً لما تقدم من قوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 ) وهو كقوله أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ ( السجدة 18 )
ثم اعلم أنه تعالى مدح الأمة المذكورة في هذه الآية بصفات ثمانية
الصفة الأولى أنها قائمة وفيها أقوال الأول أنها قائمة في الصلاة يتلون آيات الله آناء الليل فعبّر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل وهو كقوله وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ( الفرقان 64 ) وقوله إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى ِ الَّيْلِ ( المزمل 20 ) وقوله قُمِ الَّيْلَ ( المزمل 2 ) وقوله وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) والذي يدل على أن المراد من هذا القيام في الصلاة قوله وَهُمْ يَسْجُدُونَ والظاهر أن السجدة لا تكون إلا في الصلاة
والقول الثاني في تفسير كونها قائمة أنها ثابتة على التمسك بالدين الحق ملازمة له غير مضطربة في التمسك به كقوله إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ( آل عمران 75 ) أي ملازماً للاقتضاء ثابتاً على المطالبة مستقصياً فيها ومنه قوله تعالى قَائِمَاً بِالْقِسْطِ ( آل عمران 18 )
وأقول إن هذه الآية دلّت على كون المسلم قائماً بحق العبودية وقوله قَائِمَاً بِالْقِسْطِ يدل على أن المولى قائم بحق الربوبية في العدل والإحسان فتمت المعاهدة بفضل الله تعالى كما قال أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) وهذا قول الحسن البصري واحتج عليه بما روي أن عمر بن الخطاب قال يا رسول
الله إن أناساً من أهل الكتاب يحدثوننا بما يعجبنا فلو كتبناه فغضب ( صلى الله عليه وسلم ) وقال أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب كما تهوكت اليهود قال الحسن متحيرون مترددون ( أما والذي نفسي بيده لقد أتيتكم بها بيضاء نقية ) وفي رواية أخرى قال عند ذلك ( إنكم لم تكلفوا أن تعملوا بما في التوراة والإنجيل وإنما أمرتم أن تؤمنوا بهما وتفوضوا علمهما إلى الله تعالى وكلفتم أن تؤمنوا بما أنزل علي في هذا الوحي غدوة ً وعشياً والذي نفس محمد بيده لو أدركني إبراهيم وموسى وعيسى لآمنوا بي واتبعوني ) فهذا الخبر يدل على أن الثبات على هذا الدين واجب وعدم التعلق بغيره واجب فلا جرم مدحهم الله في هذه الآية بذلك فقال مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ
القول الثالث أُمَّة ٌ قَائِمَة ٌ أي مستقيمة عادلة من قولك أقمت العود فقام بمعنى استقام وهذا كالتقرير لقوله كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ
الصفة الثانية قوله تعالى يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وفيه مسائل
المسألة الأولى يَتْلُونَ وَيُؤْمِنُونَ في محل الرفع صفتان لقوله أُمَّة ٍ أي أمة قائمة تالون مؤمنون
المسألة الثانية التلاوة القراءة وأصل الكلمة من الاتباع فكأن التلاوة هي اتباع اللفظ اللفظ
المسألة الثالثة آيات الله قد يراد بها آيات القرآن وقد يراد بها أصناف مخلوقاته التي هي دالة على ذاته وصفاته والمراد ههنا الأولى
المسألة الرابعة أَمَّنْ هُوَ أصلها في اللغة الأوقات والساعات وواحدها إنا مثل معى وأمعاء وإنى مثل نحى وإنحاء مكسور الأول ساكن الثاني قال القفال رحمه الله كأن الثاني مأخوذ منه لأنه انتظار الساعات والأوقات وفي الخبر أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة ( آذيت وآنيت ) أي دافعت الأوقات
الصفة الثالثة قوله تعالى وَهُمْ يَسْجُدُونَ وفيه وجوه الأول يحتمل أن يكون حالاً من التلاوة كأنهم يقرؤن القرآن في السجدة مبالغة في الخضوع والخشوع إلا أن القفال رحمه الله روى في ( تفسيره ) حديثاً أن ذلك غير جائز وهو قوله عليه السلام ( ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً أو ساجداً ) الثاني يحتمل أن يكون كلاماً مستقلاً والمعنى أنهم يقومون تارة يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله تعالى وهو كقوله وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ( الفرقان 64 ) وقوله أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الاْخِرَة َ وَيَرْجُواْ رَحْمَة َ رَبّهِ ( الزمر 9 ) قال الحسن يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه وهذا على معنى إرادة الراحة وإزالة التعب وإحداث النشاط الثالث يحتمل أن يكون المراد بقوله وَهُمْ يَسْجُدُونَ أنهم يصلون وصفهم بالتهجد بالليل والصلاة تسمى سجوداً وسجدة وركوعاً وركعة وتسبيحاً وتسبيحة قال تعالى وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ( البقرة 43 ) أي صلوا وقال فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ( الروم 17 ) والمراد الصلاة الرابع يحتمل أن يكون المراد بقوله وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي يخضعون ويخشعون لله لأن العرب تسمي الخشوع سجوداً كقوله وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ ( النمل 49 ) وكل هذه الوجوه ذكرها القفال رحمه الله
الصفة الرابعة قوله يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ واعلم أن اليهود كانوا أيضاً يقومون في الليالي للتهجد وقراءة التوراة فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وقد بينا أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورسله والإيمان باليوم الآخر يستلزم الحذر من المعاصي وهؤلاء اليهود ينكرون أنبياء الله ولا يحترزون عن معاصي الله فلم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ والمعاد
واعلم أن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وأفضل الأعمال الصلاة وأفضل الأذكار ذكر الله وأفضل المعارف معرفة المبدأ ومعرفة المعاد فقوله يَتْلُونَ ءايَاتِ اللَّهِ ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ إشارة إلى الأعمال الصالحة الصادرة عنهم وقوله يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ إشارة إلى فضل المعارف الحاصلة في قلوبهم فكان هذا إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية وفي القوة النظرية وذلك أكمل أحوال الإنسان وهي المرتبة التي يقال لها إنها آخر درجات الإنسانية وأول درجات الملكية
الصفة الخامسة قوله وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
الصفة السادسة قوله وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ واعلم أن الغاية القصوى في الكمال أن يكون تاماً وفوق التمام فكون الإنسان تاماً ليس إلا في كمال قوته العملية والنظرية وقد تقدم ذكره وكونه فوق التمام أن يسعى في تكميل الناقصين وذلك بطريقين إما بإرشادهم إلى ما ينبغي وهو الأمر بالمعروف أو يمنعهم عما لا ينبغي وهو النهي عن المنكر قال ابن عباس رضي الله عنهما يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بتوحيد الله وبنبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي ينهون عن الشرك بالله وعن إنكار نبوّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) واعلم أن لفظ المعروف والمنكر مطلق فلم يجز تخصيصه بغير دليل فهو يتناول كل معروف وكل منكر
الصفة السابعة قوله وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وفيه وجهان أحدهما أنهم يتبادرون إليها خوف الفوت بالموت والآخر يعملونها غير متثاقلين فإن قيل أليس أن العجلة مذمومة قال عليه الصلاة والسلام ( العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن ) فما الفرق بين السرعة وبين العجلة قلنا السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين لأن من رغب في الأمر آثر الفور على التراخي قال تعالى وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَة ٍ مّن رَّبّكُمْ ( آل عمران 133 ) وأيضاً العجلة ليست مذمومة على الإطلاق بدليل قوله تعالى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى ( طه 84 )
الصفة الثامنة قوله وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ والمعنى وأولئك الموصوفون بما وصفوا به من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله تعالى ورضيهم واعلم أن الوصف بذلك غاية المدح ويدل عليه القرآن والمعقول أما القرآن فهو أن الله تعالى مدح بهذا الوصف أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال بعد ذكر إسماعيل وإدريس وذي الكفل وغيرهم وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مّنَ الصَّالِحِينَ ( الأنبياء 86 ) وذكر حكاية عن سليمان عليه السلام أنه قال وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ( النمل 19 ) وقال فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ( التحريم 4 ) وأما المعقول فهو أن الصلاح ضد الفساد وكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد سواء كان ذلك في العقائد أو في الأعمال فإذا كان كل ما حصل من باب
ما ينبغي أن يكون فقد حصل الصلاح فكان الصلاح دالاً على أكمل الدرجات
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الصفات الثمانية قال وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ بالياء على المغايبة لأن الكلام متصل بما قبله من ذكر مؤمني أهل الكتاب يتلون ويسجدون ويؤمنون ويأمرون وينهون ويسارعون ولن يضيع لهم ما يعلمون والمقصود أن جهال اليهود لما قالوا لعبد الله بن سلاّم إنكم خسرتم بسبب هذا الإيمان قال تعالى بل فازوا بالدرجات العظمى فكان المقصود تعظيمهم ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال ثم هذا وإن كان بحسب اللفظ يرجع إلى كل ما تقدم ذكره من مؤمني أهل الكتاب فإن سائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلة
وأما الباقون فإنهم قرؤا بالتاء على سبيل المخاطبة فهو ابتداء خطاب لجميع المؤمنين على معنى أن أفعال مؤمني أهل الكتاب ذكرت ثم قال وما تفعلوا من خير معاشر المؤمنين الذين من جملتكم هؤلاء فلن تكفروه والفائدة أن يكون حكم هذه الآية عاماً بحسب اللفظ في حق جميع المكلفين ومما يؤكد ذلك أن نظائر هذه الآية جاءت مخاطبة لجميع الخلائق من غير تخصيص بقوم دون قوم كقوله وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ( البقرة 197 ) وما تفعلوا من خير يوف إليكم وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ وأما أبو عمرو فالمنقول عنه أنه كان يقرأ هذه الآية بالقراءتين
المسألة الثانية فَلَنْ أي لن تمنعوا ثوابه وجزاءه وإنما سمي منع الجزاء كفر لوجهين الأول أنه تعالى سمى إيصال الثواب شكراً قال الله تعالى خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( البقرة 158 ) وقال فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) فلما سمى إيصال الجزاء شكراً سمى منعه كفراً والثاني أن الكفر في اللغة هو الستر فسمي منع الجزاء كفراً لأنه بمنزلة الجحد والستر
فإن قيل لم قال فَلَنْ فعداه إلى مفعولين مع أن شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد يقال شكر النعمة وكفرها
قلنا لأنا بينا أن معنى الكفر ههنا هو المنع والحرمان فكان كأنه قال فلن تحرموه ولن تمنعوا جزاءه
المسألة الثالثة احتج القائلون بالموازنة من الذاهبين إلى الإحباط بهذه الآية فقال صريح هذه الآية يدل على أنه لا بد من وصول أثر فعل العبد إليه فلو انحبط ولم ينحبط من المحبط بمقداره شيء لبطل مقتضى هذه الآية ونظير هذه الآية قوله تعالى أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة ٍ شَرّاً يَرَهُ ( الزلزلة 7 8 )
ثم قال وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ والمعنى أنه تعالى لما أخبر عن عدم الحرمان والجزاء أقام ما يجري مجرى الدليل عليه وهو أن عدم إيصال الثواب والجزاء إما أن يكون للسهو والنسيان وذلك محال في حقه لأنه عليم بكل المعلومات وإما أن يكون للعجز والبخل والحاجة وذلك محال لأنه إلاه جميع المحدثات فاسم
الله تعالى يدل على عدم العجز والبخل والحاجة وقوله عَلِيمٌ يدل على عدم الجهل وإذا انتفت هذه الصفات امتنع المنع من الجزاء لأن منع الحق لا بد وأن يكون لأجل هذه الأمور والله أعلم إنما قال عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مع أنه عالم بالكل بشارة للمتقين بجزيل الثواب ودلالة على أنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب جامعاً بين الزجر والترغيب والوعد والوعيد فلما وصف من آمن من الكفار بما تقدم من الصفات الحسنة أتبعه تعالى بوعيد الكفار فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم وفي الآية مسائل
المسألة الأولى في قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ قولان الأول المراد منه بعض الكفار ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها قال ابن عباس يريد قريظة والنضير وذلك لأن مقصود رؤساء اليهود في معاندة الرسول ما كان إلا المال والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ( البقرة 41 ) وثانيها أنها نزلت في مشركي قريش فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله ولهذا السبب نزل فيه قوله وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ( مريم 74 ) وقوله خَاطِئَة ٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة َ ( العلق 17 18 ) وثالثها أنها نزلت في أبي سفيان فإنه أنفق مالاً كثيراً على المشركين يوم بدر وأحد في عداوة النبي ( صلى الله عليه وسلم )
والقول الثاني أن الآية عامة في حق جميع الكفار وذلك لأنهم كلهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال وكانوا يعيرون الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وأتباعه بالفقر وكان من جملة شبههم أن قالوا لو كان محمد على الحق لما تركه ربه في هذا الفقر والشدة ولأن اللفظ عام ولا دليل يوجب التخصيص فوجب إجراؤه على عمومه وللأولين أن يقولوا إنه تعالى قال بعد هذه الآية مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فالضمير في قوله يُنفِقُونَ عائد إلى هذا الموضع وهو قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثم إن قوله يُنفِقُونَ مخصوص ببعض الكفار فوجب أن يكون هذا أيضاً مخصوصاً
المسألة الثانية إنما خص تعالى الأموال والأولاد بالذكر لأن أنفع الجمادات هو الأموال وأنفع الحيوانات هو الولد ثم بيّن تعالى أن الكافر لا ينتفع بهما ألبتة في الآخرة وذلك يدل على عدم انتفاعه
بسائر الأشياء بطريق الأولى ونظيره قوله تعالى يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الشعراء 88 89 ) وقوله وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ( البقرة 48 ) الآية وقوله فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ ( آل عمران 91 ) وقوله وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ( سبأ 37 ) ولما بيّن تعالى أنه لا انتفاع لهم بأموالهم ولا بأولادهم قال وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة لا يبقون في النار أبداً فقالوا قوله وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ كلمة تفيد الحصر فإنه يقال أولئك أصحاب زيد لا غيرهم وهم المنتفعون به لا غيرهم ولما أفادت هذه الكلمة معنى الحصر ثبت أن الخلود في النار ليس إلا للكافر
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِاذِهِ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً ثم إنهم ربما أنفقوا أموالهم في وجوه الخيرات فيخطر ببال الإنسان أنهم ينتفعون بذلك فأزال الله تعالى بهذه الآية تلك الشبهة وبيّن أنهم لا ينتفعون بتلك الإنفاقات وإن كانوا قد قصدوا بها وجه الله
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المثل الشبه الذي يصير كالعلم لكثرة استعماله فيما يشبه به وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم كما أن الريح الباردة تهلك الزرع
فإن قيل فعلى هذا التقدير مثل إنفاقهم هو الحرث الذي هلك فكيف شبه الإنفاق بالريح الباردة المهلكة
قلنا المثل قسمان منه ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين وهذا هو المسمى بالتشبيه المركب ومنه ما حصلت المشابهة فيه بين المقصود من الجملتين وبين أجزاء كل واحدة منهما فإذا جعلنا هذا المثل من القسم الأول زال السؤال وإن جعلناه من القسم الثاني ففيه وجوه الأول أن يكون التقدير مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للحرث الثاني مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث الثالث لعلّ الإشارة في قوله مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ إلى ما أنفقوا في إيذاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جمع العساكر عليه وكان هذا الإنفاق مهلكاً
لجميع ما أتوا به من أعمال الخير والبر وحينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار وتقديم وتأخير والتقدير مثل ما ينفقون في كونه مبطلاً لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث وهذا الوجه خطر ببالي عند كتابتي على هذا الموضع فإن انفاقهم في إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أعظم أنواع الكفر ومن أشدها تأثيراً في إبطال آثار أعمال البر
المسألة الثانية اختلفوا في تفسير هذا الإنفاق على قولين الأول أن المراد بالإنفاق ههنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة سماه الله إنفاقاً كما سمى ذلك بيعاً وشراء في قوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ( التوبة 111 ) إلى قوله فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ ( التوبة 111 ) ومما يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ( آل عمران 92 ) والمراد به جميع أعمال الخير وقوله تعالى لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ( البقرة 188 ) والمراد جميع أنواع الانتفاعات
والقول الثاني وهو الأشبه أن المراد إنفاق الأموال والدليل عليه ما قبل هذه الآية وهو قوله لَن تُغْنِى َ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم ( آل عمران 10 )
المسألة الثالثة قوله مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ المراد منه جميع الكفار أو بعضهم فيه قولان الأول المراد بالإخبار عن جميع الكفار وذلك لأن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق منه أثر ألبتة في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر وإن كان لمنافع الآخرة لم ينتفع به في الآخرة لأن الكفر مانع من الانتفاع به فثبت أن جميع نفقات الكفار لا فائدة فيها في الآخرة ولعلّهم أنفقوا أموالهم في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والاحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل وكان ذلك المنفق يرجو من ذلك الإنفاق خيراً كثيراً فإذا قدم الآخرة رأى كفره مبطلاً لآثار الخيرات فكان كمن زرع زرعاً وتوقع منه نفعاً كثيراً فأصابته ريح فأحرقته فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف هذا إذا أنفقوا الأموال في وجوه الخيرات أما إذا أنفقوها فيما ظنوه أنه الخيرات لكنه كان من المعاصي مثل إنفاق الأموال في إيذاء الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وفي قتل المسلمين وتخريب ديارهم فالذي قلناه فيه أسد وأشد ونظير هذه الآية قوله تعالى وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً ( الفرقان 23 ) وقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة ً ( الأنفال 36 ) وقوله وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ ( النور 39 ) فكل ذلك يدل على الحسنات من الكفار لا تستعقب الثواب وكل ذلك مجموع في قوله تعالى إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( المائدة 27 ) وهذا القول هو الأقوى والأصح
واعلم أنا إنما فسرنا الآية بخيبة هؤلاء الكفار في الآخرة ولا يبعد أيضاً تفسيرها بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا الأموال الكثيرة في جمع العساكر وتحملوا المشاق ثم انقلب الأمر عليهم وأظهر الله الإسلام وقواه فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الخيبة والحسرة
والقول الثاني المراد منه الإخبار عن بعض الكفار وعلى هذا القول ففي الآية وجوه الأول أن المنافقين كانوا ينفقون أموالهم في سبيل الله ولكن على سبيل التقية والخوف من المسلمين وعلى سبيل المداراة لهم فالآية فيهم الثاني نزلت هذه الآية في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر عند تظاهرهم على
الرسول عليه السلام الثالث نزلت في إنفاق سفلة اليهود على أحبارهم لأجل التحريف والرابع المراد ما ينفقون ويظنون أنه تقرب إلى الله تعالى مع أنه ليس كذلك
المسألة الرابعة اختلفوا في الصر على وجوه الأول قال أكثر المفسرين وأهل اللغة الصر البرد الشديد وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد والثاني أن الصر هو السموم الحارة والنار التي تغلي وهو اختيار أبي بكر الأصم وأبي بكر بن الأنباري قال ابن الأنباري وإنما وصفت النار بأنها فِيهَا صِرٌّ لتصويتها عند الالتهاب ومنه صرير الباب والصرصر مشهور والصرة الصيحة ومنه قوله تعالى فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِى صَرَّة ٍ ( الذاريات 29 ) وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما في فِيهَا صِرٌّ قال فيها نار وعلى القولين فالمقصود من التشبيه حاصل لأنه سواء كان برداً مهلكاً أو حراً محرقاً فإنه يصير مبطلاً للحرث والزرع فيصح التشبيه به
المسألة الخامسة المعتزلة احتجوا بهذه الآية على صحة القول بالإحباط وذلك لأنه كما أن هذه الريح تهلك الحرث فكذلك الكفر يهلك الإنفاق وهذا إنما يصح إذا قلنا إنه لولا الكفر لكان ذلك الإنفاق موجباً لمنافع الآخرة وحينئذ يصح القول بالإحباط وأجاب أصحابنا عنه بأن العمل لا يستلزم الثواب إلا بحكم الوعد والوعد من الله مشروط بحصول الإيمان فإذا حصل الكفر فات المشروط لفوات شرطه لأن الكفر أزاله بعد ثبوته ودلائل بطلان القول بالإحباط قد تقدمت في سورة البقرة
ثم قال تعالى أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وفيه سؤال وهو أن يقال لم لم يقتصر على قوله أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ وما الفائدة في قوله ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ
قلنا في تفسير قوله ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وجهان الأول أنهم عصوا الله فاستحقوا هلاك حرثهم عقوبة لهم والفائدة في ذكره هي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه شيء وحرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب بالكلية ولا يحصل منه منفعة لا في الدنيا ولا في الآخرة فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب بالكلية لأنه وإن كان يذهب صورة فلا يذهب معنى لأن الله تعالى يزيد في ثوابه لأجل وصول تلك الأحزان إليه والثاني أن يكون المراد من قوله ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ هو أنهم زرعوا في غير موضع الزرع أو في غير وقته لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وعلى هذا التفسير يتأكد وجه التشبيه فإن من زرع لا في موضعه ولا في وقته يضيع ثم إذا أصابته الريح الباردة كان أولى بأن يصير ضائعاً فكذا ههنا الكفار لما أتوا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤم كفرهم امتنع أن لا يصير ضائعاً والله أعلم
ثم قال تعالى وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ والمعنى أن الله تعالى ما ظلمهم حيث لم يقبل نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث أتوا بها مقرونة بالوجوه المانعة من كونها مقبولة لله تعالى قال صاحب ( الكشاف ) قرىء وَلَاكِنِ بالتشديد بمعنى ولكن أنفسهم يظلمونها ولا يجوز أن يراد ولكنه أنفسهم يظلمون على إسقاط ضمير الشأن لأنه لا يجوز إلا في الشعر
ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاٌّ يَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين في هذه الآية وههنا مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في أن الذين نهى الله المؤمنين عن مخالطتهم من هم على أقوال الأول أنهم هم اليهود وذلك لأن المسلمين كانوا يشاورونهم في أمورهم ويؤانسونهم لما كان بينهم من الرضاع والحلف ظناً منهم أنهم وإن خالفوهم في الدين فهم ينصحون لهم في أسباب المعاش فنهاهم الله تعالى بهذه الآية عنه وحجة أصحاب هذا القول أن هذه الآيات من أولها إلى آخرها مخاطبة مع اليهود فتكون هذه الآية أيضاً كذلك الثاني أنهم هم المنافقون وذلك لأن المؤمنين كانوا يغترون بظاهر أقوال المنافقين ويظنون أنهم صادقون فيفشون إليهم الأسرار ويطلعونهم على الأحوال الخفية فالله تعالى منعهم عن ذلك وحجة أصحاب هذا القول أن ما بعد هذه الآية يدل على ذلك وهو قوله هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ( آل عمران 119 ) ومعلوم أن هذا لا يليق باليهود بل هو صفة المنافقين ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ ( البقرة 14 ) الثالث المراد به جميع أصناف الكفار والدليل عليه قوله تعالى تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ فمنع المؤمنين أن يتخذوا بطانة من غير المؤمنين فيكون ذلك نهياً عن جميع الكفار وقال تعالى الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء ( الممتحنة 1 ) ومما يؤكد ذلك ما روي أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ههنا رجل من أهل الحيرة نصراني لا يعرف أقوى حفظاً ولا أحسن خطأ منه فإن رأيت أن تتخذه كاتباً فامتنع عمر من ذلك وقال إذن اتخذت بطانة من غير المؤمنين فقد جعل عمر رضي الله عنه هذه الآية دليلاً على النهي عن اتخاذ بطانة وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاماً وآخرها إذا كان خاصاً لم يكن خصوص آخر الآية مانعاً من عموم أولها
المسألة الثانية قال أبو حاتم عن الأصمعي بطن فلان بفلان يبطن به بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به داخلاً في أمره فالبطانة مصدر يسمى به الواحد والجمع وبطانة الرجل خاصته الذين يبطنون أمره وأصله من البطن خلاف الظهر ومنه بطانة الثوب خلاف ظهارته والحاصل أن الذي يخصه الإنسان بمزيد التقريب يسمى بطانة لأنه بمنزلة ما يلي بطنه في شدة القرب منه
المسألة الثالثة قوله تعالى لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً نكرة في سياق النفي فيفيد العموم
أما قوله مّن دُونِكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى من دونكم أي من دون المسلمين ومن غير أهل ملتكم ولفظ مّن دُونِكُمْ يحسن حمله على هذا الوجه كما يقال الرجل قد أحسنتم إلينا وأنعمتم علينا وهو يريد أحسنتم إلى إخواننا وقال تعالى وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ حَقّ ( آل عمران 21 ) أي آباؤهم فعلوا ذلك
المسألة الثانية في قوله مّن دُونِكُمْ احتمالان أحدهما أن يكون متعلقاً بقوله لاَ تَتَّخِذُواْ أي لا تتخذوا من دونكم بطانة والثاني أن يجعل وصفاً للبطانة والتقدير بطانة كائنات من دونكم
فإن قيل ما الفرق بين قوله لا تتخدوا من دونكم بطانة وبين قوله لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَة ً مّن دُونِكُمْ
قلنا قال سيبويه إنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وههنا ليس المقصود اتخاذ البطانة إنما المقصود أن يتخذ منهم بطانة فكان قوله لا تتخذوا من دونكم بطانة أقوى في إفادة المقصود
المسألة الثالثة قيل مِنْ زائدة وقيل للنبيّين لا تتخذوا بطانة من دون أهل ملتكم فإن قيل هذه الآية تقتضي المنع من مصاحبة الكفار على الإطلاق وقال تعالى لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ ( الممتحنة 8 9 ) فكيف الجمع بينهما قلنا لا شك أن الخاص يقدم على العام
واعلم أنه تعالى لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذكر علة هذا النهي وهي أمور أحدها قوله تعالى لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) يقال ( ألا ) في الأمر يألوا إذا قصر فيه ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم لا آلوك نصحاً ولا آلوك جهداً على التضمين والمعنى لا أمنعك نصحاً ولا أنقصك جهداً
المسألة الثانية الخبال الفساد والنقصان وأنشدوا
لستم بيد إلا يداً أبدا مخبولة العضد
أي فاسدة العضد منقوضتها ومنه قيل رجل مخبول ومخبل ومختبل لمن كان ناقص العقل وقال تعالى لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ( التوبة 47 ) أي فساداً وضرراً
المسألة الثالثة قوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً أي لا يدعون جهدهم في مضرتكم وفسادكم يقال ما ألوته نصحاً أي ما قصرت في نصيحته وما ألوته شراً مثله
المسألة الرابعة انتصب الخبال بلا يألونكم لأنه يتعدى إلى مفعولين كما ذكرنا وإن شئت نصبته على المصدر لأن معنى قوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً لا يخبلونكم خبالا وثانيها قوله تعالى وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى يقال وددت كذا أي أحببته و ( العنت ) شدة الضرر والمشقة قال تعالى وَلَوْ شَاء اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ ( البقرة 220 )
المسألة الثانية ما مصدرية كقوله ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ( غافر 75 ) أي بفرحكم ومرحكم وكقوله وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا وَالاْرْضِ وَمَا طَحَاهَا ( الشمس 5 6 ) أي بنائه إياها وطحيه إياها
المسألة الثالثة تقدير الآية أحبوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر
المسألة الرابعة قال الواحدي رحمه الله لا محل لقوله وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ لأنه استئناف بالجملة وقيل إنه صفة لبطانة ولا يصح هذا لأن البطانة قد وصفت بقوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً فلو كان هذا صفة أيضاً لوجب إدخال حرف العطف بينهما
المسألة الخامسة الفرق بين قوله لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وبين قوله وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ في المعنى من وجوه الأول لا يقصرون في إفساد دينكم فإن عجزوا عنه ودوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر الثاني لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا فإذا عجزوا عنه لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم والثالث لا يقصرون في إفساد أموركم فإن لم يفعلوا ذلك لمانع من خارج فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم وثالثها قوله تعالى قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وفيه مسائل
المسألة الأولى البغضاء أشد البغض فالبغض مع البغضاء كالضر مع الضراء
المسألة الثانية الأفواه جمع الفم والفم أصله فوه بدليل أن جمعه أفواه يقال فوه وأفواه كسوط وأسواط وطوق وأطواق ويقال رجل مفوه إذا أجاد القول وأفوه إذا كان واسع الفهم فثبت أن أصل الفم فوه بوزن سوط ثم حذفت الهاء تخفيفاً ثم أقيم الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان
المسألة الثالثة قوله قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ إن حملناه على المنافقين ففي تفسيره وجهان الأول أنه لا بد في المنافق من أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ومفارقة لطريق المخالصة في الود والنصيحة ونظيره قوله تعالى وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ الْقَوْلِ ( محمد 30 ) الثاني قال قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك أما إن حملناه على اليهود فتفسير قوله قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ فهو أنهم يظهرون تكذيب نبيّكم وكتابكم وينسبونكم إلى الجهل والحمق ومن اعتقد في غيره الإصرار على الجهل والحمق امتنع أن يحبه بل لا بد وأن يبغضه فهذا هو المراد بقوله قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ
ثم قال تعالى وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ يعني الذي يظهر على لسان المنافق من علامات البغضاء أقل مما في قلبه من النفرة والذي يظهر من علامات الحقد على لسانه أقل مما في قلبه من الحقد ثم بيّن تعالى أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من نعمه عليهم فقال قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ أي من أهل العقل والفهم والدراية وقيل إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ الفصل بين ما يستحقه العدو والولي والمقصود بعثهم على استعمال العقل في تأمل هذه الآية وتدبر هذه البينات والله أعلم
هَآأَنتُمْ أُوْلا ءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاٌّ نَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
واعلم أن هذا نوع آخر من تحذير المؤمنين عن مخالطة المنافقين وفيه مسائل
المسألة الأولى قال السيد السرخسي سلمه الله ها للتنبيه و وَإِذْ أَنتُمْ مبتدأ و أُوْلاء خبره و تُحِبُّونَهُمْ في موضع النصب على الحال من اسم الإشارة ويجوز أن تكون أُوْلاء بمعنى الذين و تُحِبُّونَهُمْ صلة له والموصول مع الصلة خبر أَنتُمْ وقال الفرّاء أُوْلاء خبر و تُحِبُّونَهُمْ خبر بعد خبر
المسألة الثانية أنه تعالى ذكر في هذه الآية أموراً ثلاثة كل واحد منها على أن المؤمن لا يجوز أن يتخذ غير المؤمن بطانة لنفسه فالأول قوله تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وفيه وجوه أحدها قال المفضل تُحِبُّونَهُمْ تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ لأنهم يريدون بقاءكم على الكفر ولا شك أنه يوجب الهلاك الثاني تُحِبُّونَهُمْ بسبب ما بينكم وبينهم من الرضاعة والمصاهرة وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ بسبب كونكم مسلمين الثالث تُحِبُّونَهُمْ بسبب أنهم أظهروا لكم الإيمان وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ بسبب أن الكفر مستقر في باطنهم الرابع قال أبو بكر الأصم تُحِبُّونَهُمْ بمعنى أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات والمحن وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ بمعنى أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمحن ويتربصون بكم الدوائر الخامس تُحِبُّونَهُمْ بسبب أنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ لأنهم يعلمون أنكم تحبون الرسول وهم يبغضون الرسول ومحب المبغوض مبغوض السادس تُحِبُّونَهُمْ أي تخالطونهم وتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ أي لا يفعلون مثل ذلك بكم
واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى الأسباب الموجبة لكون المؤمنين يحبونهم ولكونهم يبغضون المؤمنين فالكل داخل تحت الآية ولما عرفهم تعالى كونهم مبغضين للمؤمنين وعرفهم أنهم مبطلون في ذلك البغض صار ذلك داعياً من حيث الطبع ومن حيث الشرع إلى أن يصير المؤمنون مبغضين لهؤلاء المنافقين
والسبب الثاني لذلك قوله تعالى وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى في الآية إضمار والتقدير وتؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون به وحسن الحذف لما بينا أن الضدين يعلمان معاً فكان ذكر أحدهما مغنياً عن ذكر الآخر
المسألة الثانية ذكر ( الكتاب ) بلفظ الواحد لوجوه أحدها أنه ذهب به مذهب الجنس كقولهم كثر الدرهم في أيدي الناس وثانيها أن المصدر لا يجمع إلا على التأويل فلهذا لم يقل الكتب بدلاً من الكتاب وإن كان لو قاله لجاز توسعاً
المسألة الثالثة تقدير الكلام أنكم تؤمنون بكتبهم كلها وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم مع ذلك تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونظيره قوله تعالى فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ ( النساء 104 )
السبب الثالث لقبح هذه المخالطة قوله تعالى هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ والمعنى أنه إذا خلا بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة وشدة الغيظ على المؤمنين حتى تبلغ تلك الشدة إلى عض الأنامل كما يفعل ذلك أحدنا إذا اشتد غيظه وعظم حزنه على فوات مطلوبه ولما كثر هذا الفعل من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب حتى يقال في الغضبان إنه يعض يده غيظاً وإن لم يكن هناك عض قال المفسرون وإنما حصل لهم هذا الغيظ الشديد لما رأوا من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم
ثم قال تعالى قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ وهو دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به والمراد من ازدياد الغيظ ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام وعزة أهله وما لهم في ذلك من الذل والخزي
فإن قيل قوله قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ أمر لهم بالإقامة على الغيظ وذلك الغيظ كفر فكان هذا أمراً بالإقامة على الكفر وذلك غير جائز
قلنا قد بينا أنه دعاء بازدياد ما يوجب هذا الغيظ وهو قوة الإسلام فسقط السؤال
وأيضاً فإنه دعاء عليهم بالموت قبل بلوغ ما يتمنون
ثم قال إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وفيه مسائل
المسألة الأولى ( ذات ) كلمة وضعت لنسبة المؤنث كما أن ( ذو ) كلمة وضعت لنسبة المذكر والمراد بذات الصدور الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه وهي لكونها حالة في القلب منتسبة إليه فكانت ذات الصدور والمعنى أنه تعالى عالم بكل ما حصل في قلوبكم من الخواطر والبواعث والصوارف
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) يحتمل أن تكون هذه الآية داخلة في جملة المقول وأن لا تكون أما الأول فالتقدير أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه أما الثاني وهو أن لا يكون داخلاً في المقول فمعناه قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم ولم يظهروه بألسنتهم ويجوز أن لا يكون ثم قول وأن يكون قوله قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ أمر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله إياه أنهم يهلكون غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به كأنه قيل حدث نفسك بذلك والله تعالى أعلم
إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَة ٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
واعلم أن هذه الآية من تمام وصف المنافقين فبيّن تعالى أنهم مع ما لهم من الصفات الذميمة والأفعال القبيحة مترقبون نزول نوع من المحنة والبلاء بالمؤمنين وفي الآية مسائل
المسألة الأولى المس أصله باليد ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء ( ماساً ) على سبيل التشبيه فيقال فلان مسّه التعب والنصب قال تعالى وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ( ق 38 ) وقال وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ( الإسراء 67 ) قال صاحب ( الكشاف ) المس ههنا بمعنى الإصابة قال تعالى إِن تُصِبْكَ حَسَنَة ٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَة ٌ ( التوبة 50 ) وقوله مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَة ٍ فَمِن نَّفْسِكَ ( النساء 79 ) وقال إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ( المعارج 20 21 )
المسألة الثانية المراد من الحسنة ههنا منفعة الدنيا على اختلاف أحوالها فمنها صحة البدن وحصول الخصب والفوز بالغنيمة والاستيلاء على الأعداء وحصول المحبة والالفة بين الأحباب والمراد بالسيئة أضدادها وهي المرض والفقر والهزيمة والانهزام من العدو وحصول التفرق بين الأقارب والقتل والنهب والغارة فبيّن تعالى أنهم يحزنون ويغتمون بحصول نوع من أنواع الحسنة للمسلمين ويفرحون بحصول نوع من أنواع السيئة لهم
المسألة الثالثة يقال ساء الشيء يسوء فهو سيء والأنثى سيئة أي قبح ومنه قوله تعالى سَاء مَا يَعْمَلُونَ ( المائدة 66 ) والسوأى ضد الحسنى
ثم قال وَأَن تَصْبِرُواْ يعني على طاعة الله وعلى ما ينالكم فيها من شدة وغم وَتَتَّقُواْ كل ما نهاكم عنه وتتوكلوا في أموركم على الله لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو لاَ يَضُرُّكُمْ بفتح الياء وكسر الضاد وسكون الراء وهو من ضاره يضيره ويضوره ضوراً إذا ضرَّه والباقون لاَ يَضُرُّكُمْ بضم الضاد والراء المشددة وهو من الضر وأصله يضرركم جزماً فأدغمت الراء في الراء ونقلت ضمة الراء الأولى إلى الضاد وضمت الراء الأخيرة اتباعاً لأقرب الحركات وهي ضمة الضاد وقال بعضهم هو على التقديم والتأخير تقديره ولا يضركم كيدهم شيئاً إن تصبروا وتتقوا قال صاحب ( الكشاف ) وروى المفضل عن عاصم لاَ يَضُرُّكُمْ بفتح الراء
المسألة الثانية الكيد هو أن يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه وابن عباس فسّر الكيد ههنا بالعداوة
المسألة الثالثة شَيْئاً نصب على المصدر أي شيئاً من الضر
المسألة الرابعة معنى الآية أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى واتقى كل ما نهى الله عنه كان في حفظ الله فلا يضره كيد الكافرين ولا حيل المحتالين
وتحقيق الكلام في ذلك هو أنه سبحانه إنما خلق الخلق للعبودية كما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) فمن وفى بعهد العبودية في ذلك فالله سبحانه أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه عن الآفات والمخافات وإليه الإشارة بقوله وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ( الطلاق 2 3 ) إشارة إلى أنه يوصل إليه كل ما يسره وقال بعض الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسد فاجتهد في اكتساب الفضائل
ثم قال تعالى إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وفيه مسائل
المسألة الأولى قرىء بما يعملون بالياء على سبيل المغايبة بمعنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم فيعاقبهم عليه ومن قرأ بالتاء على سبيل المخاطبة فالمعنى أنه عالم محيط بما تعملون من الصبر والتقوى فيفعل بكم ما أنتم أهله
المسألة الثانية إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه وذلك من صفات الأجسام لكنه تعالى لما كان عالماً بكل الأشياء قادراً على كل الممكنات جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها ومنه قوله وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ ( البروج 20 ) وقال وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ( البقرة 19 ) وقال وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ( طه 11 ) وقال وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَى ْء عَدَداً ( الجن 28 )
المسألة الثالثة إنما قال إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ولم يقل إن الله محيط بما يعملون لأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعني وليس المقصود ههنا بيان كونه تعالى عالماً بينا أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ومجازيهم عليها فلا جرم قد ذكر العمل والله أعلم
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّى ءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ( آل عمران 120 ) أتبعه بما يدلهم على سنة الله تعالى فيهم في باب النصرة والمعونة ودفع مضار العدو إذا هم صبروا واتقوا وخلاف ذلك فيهم إذا لم