كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
اعلم أنه تعالى لما قص على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خبر موسى وإبراهيم تسلية له فيما يلقاه من قومه قص عليه أيضاً نبأ نوح عليه السلام فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره لأنه كان يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ومع ذلك كذبه قومه فقال كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ وإنما قال ( كذبت ) لأن القوم مؤنث وتصغيرها قويمة وإنما حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين أحدهما أنهم وإن كذبوا نوحاً لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف فمن حيث المعنى حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين وثانيهما أن قوم نوح كذبوا بجميع رسل الله تعالى إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة
وأما قوله أَخُوهُمْ فلأنه كان منهم من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحداً منهم ثم إنه سبحانه حكى عن نوح عليه السلام أنه أولاً خوفهم وثانياً أنه وصف نفسه أما التخويف فهو قوله أَلاَ تَتَّقُونَ
واعلم أن القوم إنما قبلوا تلك الأديان للتقليد والمقلد إذا خوف خاف وما لم يحصل الخوف في قلبه لا يشتغل بالاستدلال فلهذا السبب قدم على جميع كلماته قوله أَلاَ تَتَّقُونَ وأما وصفه نفسه فذاك بأمرين أحدهما قوله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وذلك لأنه كان فيهم مشهوراً بالأمانة كمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) في قريش فكأنه قال كنت أميناً من قبل فكيف تتهموني اليوم وثانيهما قوله وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة لئلا يظن به أنه دعاهم للرغبة فإن قيل ولماذا كرر الأمر بالتقوى جوابه لأنه في الأول أراد ألا تتقون مخالفتي وأنا رسول الله وفي الثاني ألا تتقون مخالفتي ولست آخذ منكم أجراً فهو في المعنى مختلف ولا تكرار فيه وقد يقول الرجل لغيره ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً وإنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة لطاعته فقدم العلة على المعلول ثم إن نوحاً عليه السلام لما قال لهم ذلك أجابوه بقولهم أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ
قال صاحب ( الكشاف ) وقرى وَاتَّبَعَكَ الاْرْذَلُونَ جمع تابع كشاهد وأشهاد أو جمع تبع كبطل وأبطال
والواو للحال وحقها أن يضمر بعدها قد في وَاتَّبَعَكَ وقد جمع ألأرذل على الصحة وعلى التكسير في قولهم الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا ( هود 27 ) والرذالة الخسة وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا وقيل كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة
واعلم أن هذه الشبهة في نهاية الركاكة لأن نوحاً عليه السلام بعث إلى الخلق كافة فلا يختلف الحال في ذلك بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب ودناءتها فأجابهم نوع عليه السلام بالجواب الحق وهو قوله وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وهذا الكلام يدل على أنهم نسبوهم مع ذلك إلى أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة وإنما آمنوا بالهوى والطمع كما حكى الله تعالى عنهم في قوله الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِى َ الرَّأْى ( هود 27 ) ثم قال إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبّى معناه لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى ولما قال إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبّى وكانوا لا يصدقون بذلك أردفه بقوله لَوْ تَشْعُرُونَ ثم قال وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم لكي يتبعوه أو ليكونوا أقرب إلى ذلك فبين أن الذي يمنعه عن طردهم أنهم آمنوا به ثم بين أن غرضه بما حمل من الرسالة يمنع من ذلك بقوله إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ والمراد إني أخوف من كذبني ولم يقبل مني فمن قبل فهو القريب ومن رد فهو البعيد ثم إن نوحاً عليه السلام لما تمم هذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد فقالوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ نُوحٌ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ والمعنى أنهم خوفوه بأن يقتل بالحجارة فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم وقال رَبّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم ولكنه أراد إني لا أدعوك عليهم لما آذوني وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ أي فاحكم بيني وبينهم والفتاحة الحكومة والفتاح الحاكم لأنه يفتح المستغلق والمراد من هذا الحكم إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه وَنَجّنِى ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى وقد تقدم القول في قصته مشروحاً في سورة الأعراف وسورة هود
ثم قال تعالى فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ قال صاحب ( الكشاف ) الفلك السفينة وجمعه فلك قال تعالى وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ( فاطر 12 ) فالواحد بوزن قفل والجمع بوزن أسد والمشحون المملوء يقال شحنها عليهم خيلاً ورجالاً فدل ذلك على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم وبين تعالى أنه بعد أن أنجاهم أغرق الباقين وأن إغراقه لهم كان كالمتأخر عن نجاتهم
القصة الرابعة قصة هود عليه السلام
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَة ً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُواْ الَّذِى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاٌّ وَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
اعلم أن فاتحة هذه القصة وفاتحة قصة نوح عليه السلام واحدة فلا فائدة في إعادة التفسير ثم إنه تعالى ذكر الأمور التي تكلم فيها هود عليه السلام معهم وهي ثلاثة فأولها قوله أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَة ً تَعْبَثُونَ قرىء بِكُلّ رِيعٍ بالكسر والفتح وهو المكان المرتفع ومنه قوله كم ريع أرضك وهو ارتفاعها والآية العلم ثم فيه وجوه أحدها عن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل ريع علماً يعبئون فيه بمن يمر في الطريق إلى هود عليه السلام والثاني أنهم كانوا يبنون في الأماكن المرتفعة ليعرف بذلك غناهم تفاخراً فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث والثالث أنهم كانوا ممن يهتدون بالنجوم في أسفارهم فاتخذوا في طريقهم أعلاماً طوالاً فكان ذلك عبثاً لأنهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم الرابع بنوا بكل ريع بروج الحمام وثانيها قوله وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ المصانع مآخذ الماء وقيل القصور المشيدة والحصون لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلد في الدنيا أو يشبه حالكم حال من يخلد وفي مصحف أبي ( كأنكم ) وقرىء ( تخلدون ) بضم التاء مخففاً ومشدداً واعلم أن الأول إنما صار مذموماً لدلالته إما على السرف أو على الخيلاء والثاني إنما صار مذموماً لدلالته على الأمل الطويل والغفلة عن أن الدنيا دار ممر لا دار مقر وثالثها قوله وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ بين أنهم مع ذلك السرف والحرص فإن معاملتهم مع غيرهم معاملة الجبارين وقد بينا في غير هذا الموضع أن هذا الوصف في العباد ذم وإن كان في وصف الله تعالى مدحاً فكأن من يقدم على الغير لا على طريق الحق ولكن على طريق الاستعلاء يوصف بأن بطشه بطش جبار وحاصل الأمر في هذه الأمور الثلاثة أن اتخاذ الأبنية العالية يدل على حب العلو واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء والجبارية تدل على حب التفرد بالعلو فيرجع الحاصل إلى أنهم أحبوا العلو وبقاء العلو والتفرد بالعلو وهذه صفات الإلهية وهي ممتنعة الحصول للعبد فدل ذلك على أن حب الدنيا قد استولى عليهم بحيث استغرقوا فيه
وخرجوا عن حد العبودية وحاموا حول ادعاء الربوبية وكل ذلك ينبه على أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وعنوان كل كفر ومعصية ثم لما ذكر هود عليه السلام هذه الأشياء قال فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ زيادة في دعائهم إلى الآخرة وزجراً لهم عن حب الدنيا والاشتغال بالسرف والحرص والتجبر ثم وصل بهذا الوعظ ما يؤكد القبول وهو التنبيه على نعم الله تعالى عليهم بالإجمال أولاً ثم التفصيل ثانياً فأيقظهم عن سنة غفلتهم عنها حيث قال أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ ثم فصلها من بعد بقوله أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فبلغ في دعائهم بالوعظ والترغيب والتخويف والبيان النهاية فكان جوابهم سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْواعِظِينَ أظهروا قلة اكتراثهم بكلامه واستخفافهم بما أورده فإن قيل لو قال أوعظت أم لم تعظ كان أخصر والمعنى واحد جوابه ليس المعنى بواحد ( وبينهما فرق ) لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلاً من أهله ( ومباشرته ) فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك أم لم تعظ ثم احتجوا على قلة اكتراثهم بكلامه بقولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاْوَّلِينَ فمن قرأ خُلُقُ الاْوَّلِينَ بالفتح فمعناه أن ما جئت به اختلاق الأولين وتخرصهم كما قالوا أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ ( الأنعام 25 ) أو ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الخالية نحيا كحياتهم ونموت كمماتهم ولا بعث ولا حساب ومن قرأ خُلِقَ بضمتين وبواحدة فمعناه ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم كانوا به يدينون ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأولين كانوا يلفقون مثله ويسطرونه ثم قالوا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أظهروا بذلك تقوية نفوسهم فيما تمسكوا به من إنكار المعاد فعند هذا بين الله تعالى أنه أهلكهم وقد سبق شرح كيفية الهلاك في سائر السور والله أعلم
القصة الخامسة قصة صالح عليه السلام
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَآ ءَامِنِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِأايَة ٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَاذِهِ نَاقَة ٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُو ءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
اعلم أن صالحاً عليه السلام خاطب قومه بأمور أحدها قوله أَتُتْرَكُونَ فِيمَا هَاهُنَا ءامِنِينَ أي أتظنون أنكم تتركون في دياركم آمنين وتطمعون في ذلك وأن لا دار للمجازاة
وقوله فِيمَا هَاهُنَا ءامِنِينَ في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ثم فسره بقوله فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وهذا أيضاً إجمال ثم تفصيل فإن قيل لم قال وَنَخْلٍ بعد قوله فِي جَنَّاتِ والجنة تتناول النخل جوابه من وجهين الأول أنه خص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيهاً على فضله على سائر الأشجار والثاني أن يراد بالجنات غيرها من الشجر لأن اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل والطلع هو الذي يطلع من النخلة كنصل السيف في جوفه شماريخ والهضيم اللطيف أيضاً من قولهم كشح هضيم وقيل الهضيم اللين النضيج كأنه قال ونخل قد أرطب ثمره وثانيها قوله تعالى وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ قرأ الحسن وَتَنْحِتُونَ بفتح الحاء وقرىء فَارِهِينَ و فَارِهِينَ والفراهة الكيس والنشاط فقوله فَارِهِينَ حال من الناحيتين
واعلم أن ظاهر هذه الآيات يدل على أن الغالب على قوم هود هو اللذات الحالية وهي طلب الاستعلاء والبقاء والتفرد والتجبر والغالب على قوم صالح هو اللذات الحسية وهي طلب المأكول والمشروب والمساكن الطيبة الحصينة وثالثها قوله تعالى وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ وهذا إشارة إلى أنه يجب الاكتفاء من الدنيا بقدر الكفاف ولا يجوز التوسع في طلبها والاستكثار من لذاتها وشهواتها فإن قيل ما فائدة قوله وَلاَ يُصْلِحُونَ جوابه فائدته بيان أن فسادهم فساد خالص ليس معه شيء من الصلاح كما يكون حال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح ثم إن القوم أجابوه من وجهين أحدهما قولهم إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وفيه وجوه أحدها المسحر هو الذي سحر كثيراً حتى غلب على عقله وثانيها مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي من له سحر وكل دابة تأكل فهي مسحرة والسحر أعلى البطن وعن الفراء المسحر من له جوف أراد أنك تأكل الطعام وتشرب الشراب وثالثها عن المؤرج المسحر هو المخلوق بلغة بجيلة وثانيهما قولهم مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَة ٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وهذا يحتمل أمرين الأول أنك بشر مثلنا فكيف تكون نبياً وهذا بمنزلة ما كانوا يذكرون في الأنبياء أنهم لو كانوا صادقين لكانوا من جنس الملائكة الثاني أن يكون مرادهم إنك بشر مثلنا فلا بد لنا في إثبات نبوتك من الدليل فقال صالح عليه السلام هَاذِهِ نَاقَة ٌ لَّهَا شِرْبٌ وقرىء بالضم روي أنهم قالوا نريد ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة فتلد سقباً فقعد صالح يتفكر فقال له جبريل عليه السلام صل ركعتين وسل ربك
الناقة ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم وحصل لها سقب مثلها في العظم ووصاهم صالح عليه السلام بأمرين الأول قوله لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ قال قتادة إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله وشربهم في اليوم الذي لا تشرب هي والثاني قوله وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء أي بضرب أو عقر أو غيرهما فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عظم اليوم لحلول العذاب فيه ووصف اليوم به أبلغ من وصف العذاب لأن الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشد ثم إن الله تعالى حكى عنهم أنهم عقروها روي أن ( مصدعاً ) ألجأها إلى مضيق ( في شعب ) فرماها بسهم ( فأصاب رجلها ) ( 2 ) فسقطت ثم ضربها قدار فإن قيل لم أخذهم العذاب وقد ندموا جوابه من وجهين الأول أنه لم يكن ندمهم ندم التائبين لكن ندم الخائفين من العذاب العاجل الثاني أن الندم وإن كان ندم التائبين ولكن كان ذلك في غير وقت التوبة بل عند معاينة العذاب وقال تعالى وَلَيْسَتِ التَّوْبَة ُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ ( النساء 18 ) الآية واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم
القصة السادسة قصة لوط عليه السلام
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاٌّ خَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
أما قوله تعالى أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ فيحتمل عوده إلى الآتي أي أنتم من جملة العالمين صرتم مخصوصين بهذه الصفة وهي إتيان الذكران ويحتمل عوده إلى المأتي أي أنتم اخترتم الذكران من العالمين لا الإناث منهم
وأما قوله تعالى مّنْ أَزْواجِكُمْ فيصلح أن يكون تبييناً لما خلق وأن يكون للتبعيض ويراد بما خلق العضو المباح منهن وكأنهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم والعادي هو المتعدي في ظلمه ومعناه أترتكبون هذه المعصية على عظمها بل أنتم قوم عادون في جميع المعاصي فهذا من جملة ذاك أو بل أنتم قوم أحقاء بأن توصفوا بالعدوان حيث ارتكبتم مثل هذه الفاحشة فقالوا له عليه السلام لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لُوطٍ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي لتكونن من جملة من أخرجناه من بلدنا ولعلهم كانوا يخرجون من أخرجوه على أسوإ الأحوال فقال لهم لوط عليه السلام إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ الْقَالِينَ القلي البغض الشديد كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد وقوله مّنَ الْقَالِينَ أبلغ من أن يقول إني لعملكم قال كما يقال فلان من العلماء فهو أبلغ من قولك فلان عالم ويجوز أن يراد من الكاملين في قلاكم ثم قال تعالى فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ والمراد فنجيناه وأهله من عقوبة عملهم إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ فإن قيل فِى الْغَابِرِينَ صفة لها كأنه قيل إلا عجوزاً غابرة ولم يكن الغبور صفتها وقت تنجيتهم جوابه معناه إلا عجوزاً مقدراً غبورها قيل إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة قال القاضي عبد الجبار في ( تفسيره ) في قوله تعالى وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مّنْ أَزْواجِكُمْ دلالة على بطلان الجبر من جهات أحدها أنه لا يقال تذرون إلا مع القدرة على خلافه ولذلك لا يقال للمرء لم تذر الصعود إلى السماء كما يقال له لم تذر الدخول والخروج وثانيها أنه قال مَا خَلَقَ لَكُمْ ولو كان خلق الفعل لله تعالى لكان الذي خلق لهم ما خلقه فيهم وأوجبه لا ما لم يفعلوه وثالثها قوله تعالى بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ فإن كان تعالى خلق فيهم ما كانوا يعملون فكيف ينسبون إلى أنهم تعدوا وهل يقال للأسود إنك متعد في لونك فنقول حاصل هذه الوجوه يرجع إلى أن العبد لو لم يكن موجداً الأفعال نفسه لما توجه المدح والذم والأمر والنهي عليه ولهذه الآية في هذا المعنى خاصية أزيد مما ورد من الأمر والنهي والمدح والذم في قصة موسى عليه السلام وإبراهيم ونوح وسائر القصص فكيف خص هذه القصة بهذه الوجوه دون سائر القصص وإذا ثبت بطلان هذه الوجوه بقي ذلك الوجه المشهور فنحن نجيب عنها بالجوابين المشهورين الأول أن الله تعالى لما علم وقوع هذه الأشياء فعدمها محال لأن عدمها يستلزم انقلاب العلم جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال وإذا كان عدمها محالاً كان التكليف بالترك تكليفاً بالمحال الثاني أن القادر لما كان قادراً على الضدين امتنع أن يترجح أحد المقدورين على الآخر إلا لمرجح وهو الداعي أو الإرادة وذلك المرجح محدث فله مؤثر وذلك المؤثر إن كان هو العبد لزم التسلسل وهو محال وإن كان هو الله تعالى فذلك هو الجبر على قولك فثبت بهذين البرهانين القاطعين سقوط ما قاله والله أعلم
القصة السابعة قصة شعيب عليه السلام
كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأيْكَة ِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّة َ الاٌّ وَّلِينَ قَالُوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّة ِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاّيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
قرىء كَذَّبَ أَصْحَابُ بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الإضافة وهو الوجه ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد يعرف فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة في هذه السورة وفي سورة ص بغير ألف لكن قد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة على أن ليكة اسم لا يعرف روي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وتلك الشجر هي التي حملها المقل فإن قيل هلا قال أخوهم شعيب كما في سائر المواضع جوابه أن شعيباً لم يكن من أصحاب الأيكة وفي الحديث ( إن شعيباً أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة ) ثم إن شعيباً عليه السلام أمرهم بأشياء أحدها قوله أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وذلك لأن الكيل على ثلاثة أضرب واف وطفيف وزائد فأمر بالواجب الذي هو الإيفاء بقوله أَوْفُواْ الْكَيْلَ ونهى عن المحرم الذي هو التطفيف بقوله وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ ولم يذكر الزائد لأنه بحيث إن فعله فقد أحسن وإن لم يفعله فلا إثم عليه ثم إنه لما أمر بالإيفاء بين أنه كيف يفعل فقال وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ قرىء بِالْقِسْطَاسِ مضموماً ومكسوراً وهو الميزان وقيل القرسطون وثانيها قوله تعالى وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه وهذا عام في كل حق يثبت لأحد أن لا يهضم وفي كل ملك أن لا يغصب ( علية ) مالكه ( ولا يتحيف منه ) ( 1 ) ولا يتصرف فيه إلا بإذنه تصرفاً شرعياً وثالثها قوله تعالى وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ يقال عثا في الأرض وعثى وعاث وذلك نحو قطع الطريق والغارة وإهلاك الزرع وكانوا يفعلون ذلك مع توليتهم أنواع الفساد فنهوا عن ذلك ورابعها قوله تعالى وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّة َ الاْوَّلِينَ وقرىء ( الجبلة ) بوزن الأبلة وقرىء ( الجبلة ) بوزن الخلقة ومعناهن واحد أي ذوي الجبلة والمراد أنه المتفضل بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لولا خلقهم لما كانوا مخلوقين
فلم يكن للقوم جواب إلا ما لو تركوه لكان أولى بهم وهو من وجهين الأول قولهم إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فإن قيل هل اختلف المعنى بإدخال الواو ههنا وتركها في قصة ثمود جوابه إذا دخلت الواو فقد قصد معنيان كلاهما مناف للرسالة عندهم السحر والبشرية وإذا تركت الواو فلم يقصدوا إلا معنى واحداً وهو كونه مسحراً ثم قرره بكونه بشراً مثلهم الثاني قولهم وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ومعناه ظاهر ثم إن شعيباً عليه السلام كان يتوعدهم بالعذاب إن استمروا على التكذيب فقالوا فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السَّمَاء قرىء كِسَفًا بالسكون والحركة وكلاهما جمع كسفة وهي القطعة والسماء السحاب أو الظلة وهم إنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فظنوا أنه إذا لم يقع ظهر كذبه فعنده قال شعيب عليه السلام رَبّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فلم يدع عليهم بل فوض الأمر فيه إلى الله تعالى فلما استمروا على التكذيب أنزل الله عليهم العذاب على ما اقترحوا من عذاب يوم الظلة إن أرادوا بالسماء السحاب وإن أرادوا الظلة فقد خالف بهم عن مقترحهم يروى أنه حبس عنهم الريح سبعاً وسلط عليهم الرمل فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها برداً ونسيماً فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا وروي أن شعيباً بعث إلى أمتين أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلكت مدين بصيحة جبريل عليه السلام وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة وههنا آخر الكلام في هذه القصص السبع التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة تسلية لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيما ناله من الغم الشديد بقي ههنا سؤالان
السؤال الأول لم لا يجوز أن يقال إن العذاب النازل بعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ما كان ذلك بسبب كفرهم وعنادهم بل كان ذلك بسبب قرانات الكواكب واتصالاتها على ما اتفق عليه أهل النجوم وإذا قام هذا الاحتمال لم يحصل الاعتبار بهذه القصص لأن الاعتبار إنما يحصل أن لو علمنا أن نزول هذا العذاب كان بسبب كفرهم وعنادهم
الثاني أن الله تعالى قد ينزل العذاب محنة للمكلفين وابتلاء لهم على ما قال وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ ( محمد 31 ) ولأنه تعالى قد ابتلى المؤمنين بالبلاء العظيم في مواضع كثيرة وإذا كان كذلك لم يدل نزول البلاء بهم على كونهم مبطلين والجواب أن الله تعالى أنزل هذه القصص على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) تسلية وإزالة للحزن عن قلبه فلما أخبر الله تعالى محمداً أنه هو الذي أنزل العذاب عليهم وأنه إنما أنزله عليهم جزاء على كفرهم على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن الأمر كذلك فحينئذ يحصل به التسلية والفرح له عليه السلام واحتج بعض الناس على القدح في علم الأحكام بأن قال المؤثر في هذه الأشياء إما الكواكب أو البروج أو كون الكوكب في البرج المعين والأول باطل وإلا لحصلت هذه الآثار أين حصل الكوكب والثاني أيضاً باطل وإلا لزم دوام الأثر بدوام البرج والثالث أيضاً باطل لأن الفلك على قولهم بسيط لا مركب فيكون طبع كل برج مساوياً لطبع البرج الآخر في تمام الماهية فيكون حال الكوكب وهو في برجه كحاله وهو في برج آخر فيلزم أن يدوم ذلك الأثر بدوام الكوكب وللقوم أن يقولوا لم لا يجوز أن يكون صدور الأثر عن الكوكب المعين موقوفاً على كونه مسامتاً مسامتة مخصوصة لكوكب آخر فإذا فقدت تلك المسامتة فقد شرط التأثير فلا يحصل التأثير ولهم أن يقولوا هذه الدلالة إنما تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب ذواتها وطبائعها ولكنها لا تدل على أنها ليست مؤثرة بحسب جري العادة فإذا أجرى الله تعالى
عادته بحصول تأثيرات مخصوصة عقيب اتصالات الكواكب وقراناتها وأدوارها لم يلزم من حصول هذه الآثار القطع بأن الله تعالى إنما خلقها لأجل زجر الكفار بل لعله تعالى خلقها تكريراً لتلك العادات والله أعلم
القول فيما ذكره الله تعالى من أحوال محمد عليه الصلاة والسلام
وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاٌّ مِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِى ٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاٌّ وَّلِينَ
اعلم أن الله تعالى لما ختم مااقتصه من خبر الأنبياء ذكر بعد ذلك ما يدل على نبوته ( صلى الله عليه وسلم ) وهو من وجهين الأول قوله وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ وذلك لأنه لفصاحته معجز فيكون ذلك من رب العالمين أو لأنه إخبار عن القصص الماضية من غير تعليم ألبتة فلا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى وقوله بعده وَأَنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ كأنه مؤكد لهذا الاحتمال وذلك لأنه عليه السلام لما ذكر هذه القصص السبع على ما هي موجودة في زبر الأولين من غير تفاوت أصلاً مع أنه لم يشتغل بالتعلم والاستعداد دل ذلك على أنه ليس إلا من عند الله تعالى فهذا هو المقصود من الآية
فأما قوله تعالى وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ فالمراد بالتنزيل المنزل ثم قد كان يجوز في القرآن وهذه القصص أن يكون تنزيلاً من الله تعالى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بلا واسطة فقال نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ والباء في قوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ و نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ على القراءتين للتعدية ومعنى نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ جعل الله الروح نازلاً به عَلَى قَلْبِكَ ( حفظكه و ) أي فهمك إياه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى كقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ( الأعلى 6 ) والروح الأمين جبريل عليه السلام وسماه روحاً من حيث خلق من الروح وقيل لأنه نجاة الخلق في باب الدين فهو كالروح الذي تثبت معه الحياة وقيل لأنه روح كله لا كالناس الذين في أبدانهم روح وسماه أميناً لأنه مؤتمن على ما يؤديه إلى الأنبياء عليهم السلام وإلى غيرهم
وأما قوله عَلَى قَلْبِكَ ففيه قولان الأول أنه إنما قال عَلَى قَلْبِكَ وإن كان إنما أنزله عليه ليؤكد به أن ذلك المنزل محفوظ للرسول متمكن في قلبه لا يجوز عليه التغيير فيوثق بالإنذار الواقع منه الذي بين الله تعالى أنه هو المقصود ولذلك قال لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ الثاني أن القلب هو المخاطب في الحقيقة لأنه موضع التمييز والاختبار وأما سائر الأعضاء فمسخرة له والدليل عليه القرآن والحديث والمعقول أما القرآن فآيات إحداها قوله تعالى في سورة البقرة ( 97 ) فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ وقال ههنا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ وقال إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ق 37 ) وثانيها أنه ذكر أن استحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب من المساعي فقال لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ( البقرة 225 ) وقال لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ( الحج 37 ) والتقوى في القلب لأنه تعالى قال أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ( الحجرات 3 ) وقال تعالى وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ
( العاديات 10 ) وثالثها قوله حكاية عن أهل النار لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ ( الملك 10 ) ومعلوم أن العقل في القلب والسمع منفذ إليه وقال إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ( الإسراء 36 ) ومعلوم أن السمع والبصر لا يستفاد منهما إلا ما يؤديانه إلى القلب فكان السؤال عنهما في الحقيقة سؤالاً عن القلب وقال تعالى يَعْلَمُ خَائِنَة َ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ ( غافر 19 ) ولم تخف الأعين إلا بما تضمر القلوب عند التحديق بها ورابعها قوله وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالاْفْئِدَة َ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ( السجدة 9 ) فخص هذه الثلاثة بإلزام الحجة منها واستدعاء الشكر عليها وقد قلنا لا طائل في السمع والأبصار إلا بما يؤديان إلى القلب ليكون القلب هو القاضي فيه والمتحكم عليه وقال تعالى وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَة ً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ ( الأحقاف 26 ) فجعل هذه الثلاثة تمام ما ألزمهم من حجته والمقصود من ذلك هو الفؤاد القاضي فيما يؤدي إليه السمع والبصر وخامسها قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ ( البقرة 7 ) فجعل العذاب لازماً على هذه الثلاثة وقال لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ( الأعراف 179 ) وجه الدلالة أنه قصد إلى نفي العلم عنهم رأساً فلو ثبت العلم في غير القلب كثباته في القلب لم يتم الغرض فهذه الآيات ومشاكلها ناطقة بأجمعها أن القلب هو المقصود بإلزام الحجة وقد بينا أن ما قرن بذكره من ذكر السمع والبصر فذلك لأنهما آلتان للقلب في تأدية صور المحسوسات والمسموعات
وأما الحديث فما روى النعمان بن بشير قال سمعته عليه السلام يقول ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) وأما المعقول فوجوه أحدها أن القلب إذا غشي عليه فلو قطع سائر الأعضاء لم يحصل الشعور به وإذا أفاق القلب فإنه يشعر بجميع ما ينزل بالأعضاء من الآفات فدل ذلك على أن سائر الأعضاء تبع للقلب ولذلك فإن القلب إذا فرح أو حزن فإنه يتغير حال الأعضاء عند ذلك وكذا القول في سائر الأعراض النفسانية وثانيها أن القلب منبع المشاق الباعثة على الأفعال الصادرة من سائر الأعضاء وإذا كانت المشاق مبادىء للأفعال ومنبعها هو القلب كان الآمر المطلق هو القلب وثالثها أن معدن العقل هو القلب وإذا كان كذلك كان الآمر المطلق هو القلب
أما المقدمة الأولى ففيها النزاع فإن طائفة من القدماء ذهبوا إلى أن معدن العقل هو الدماغ والذي يدل على قولنا وجوه الأول قوله تعالى أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الاْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ( الحج 46 ) وقوله لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ( الأعراف 179 ) وقوله إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ ( ق 37 ) أي عقل أطلق عليه اسم القلب لما أنه معدنه الثاني أنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب وقال فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ( البقرة 10 ) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( البقرة 7 ) وقولهم قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ( النساء 155 ) يَحْذَرُ الْمُنَافِقِينَ إِن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة ٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم ( التوبة 64 ) يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ( الفتح 11 ) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( المطففين 14 ) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا
( محمد 24 ) فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ ( الحج 46 ) فدلت هذه الآيات على أن موضع الجهل والغفلة هو القلب فوجب أن يكون موضع العقل والفهم أيضاً هو القلب الثالث وهو أنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا علومنا حاصلة في ناحية القلب ولذلك فإن الواحد منا إذا أمعن في الفكر وأكثر منه أحس من قلبه ضيقاً وضجراً حتى كأنه يتألم بذلك وكل ذلك يدل على أن موضع العقل هو القلب وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المكلف هو القلب لأن التكليف مشروط بالعقل والفهم الرابع وهو أن القلب أول الأعضاء تكوناً وآخرها موتاً وقد ثبت ذلك بالتشريح ولأنه متمكن في الصدر الذي هو أوسط الجسد ومن شأن الملوك المحتاجين إلى الخدم أن يكونوا في وسط المملكة لتكتنفهم الحواشي من الجوانب فيكونوا أبعد من الآفات واحتج من قال العقل في الدماغ بأمور أحدها أن الحواس التي هي الآلات للإدراك نافذة إلى الدماغ دون القلب وثانيها أن الأعصاب التي هي الآلات في الحركات الاختيارية نافذة من الدماغ دون القلب وثالثها أن الآفة إذا حلت في الدماغ اختل العقل ورابعها أن في العرف كل من أريد وصفه بقلة العقل قيل إنه خفيف الدماغ خفيف الرأس وخامسها أن العقل أشرف فيكون مكانه أشرف والأعلى هو الأشرف وذلك هو الدماغ لا القلب فوجب أن يكون محل العقل هو الدماغ والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يقال الحواس تؤدي آثارها إلى الدماغ ثم إن الدماغ يؤدي تلك الآثار إلى القلب فالدماغ آلة قريبة للقلب للقلب والحواس آلات بعيدة فالحس يخدم الدماغ ثم الدماغ يخدم القلب وتحقيقه أنا ندرك من أنفسنا أنا إذا عقلنا أن الأمر الفلاني يجب فعله أو يجب تركه فإن الأعضاء تتحرك عند ذلك ونحن نجد التعقلات من جانب القلب لا من جانب الدماغ وعن الثاني أنه لا يبعد أن يتأدى الأثر من القلب إلى الدماغ ثم الدماغ يحرك الأعضاء بواسطة الأعصاب النابتة منه وعن الثالث لا يبعد أن يكون سلامة الدماغ شرطاً لوصول تأثير القلب إلى سائر الأعضاء وعن الرابع أن ذلك العرف إنما كان لأن القلب إنما يعتدل مزاحه بما يستمد من الدماغ من برودته فإذا لحق الدماغ خروج عن الاعتدال خرج القلب عن الاعتدال أيضاً إما لازدياد حرارته عن القدر الواجب أو لنقصان حراراته عن ذلك القدر فحينئذ يختل العقل وعن الخامس أنه لو صح ما قالوه لوجب أن يكون موضع العقل هو القحف ولما بطل ذلك ثبت فساد قولهم والله أعلم
فرع اعلم أن المعاني التي بينا كونها مختصة بالقلوب قد تضاف إلى الصدر تارة وإلى الفؤاد أخرى أما الصدر فلقوله تعالى وَحُصّلَ مَا فِى الصُّدُورِ ( العاديات 10 ) وقوله وَلِيَبْتَلِى َ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ ( آل عمران 154 ) وقوله تعالى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( هود 5 ) وَأَنْ تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ ( آل عمران 29 ) وأما الفؤاد فقوله وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ومن الناس من فرق بين القلب والفؤاد فقال القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد دون ما يكتنفها من اللحم والشحم ومجموع ذلك هو الفؤاد ومنهم من قال القلب والفؤاد لفظان مترادفان وكيف كان فيجب أن يعلم أن من جملة العضو المسمى قلباً وفؤاداً موضعاً هو الموضع في الحقيقة للعقل والاختيار وأن معظم جرم هذا العضو مسخر لذلك الموضع كما أن سائر الأعضاء مسخرة للقلب فإن العضو قد تزيد أجزاؤه من غير ازدياد المعاني المنسوبة إليه أعني العقل والفرح والحزن وقد ينقص من غير نقصان في تلك المعاني فيشبه أن يكون اسم القلب اسماً للأجزاء التي تحل فيها هذه المعاني بالحقيقة واسم الفؤاد يكون اسماً لمجموع العضو فهذا
هو الكلام في هذا الباب والله الموفق للصواب
وأما قوله تعالى لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ فيدخل تحت الإنذار الدعاء إلى كل واجب من علم وعمل والمنع من كل قبيح لأن في الوجهين جميعاً يدخل الخوف من العقاب
وأما قوله تعالى بِلِسَانٍ عَرَبِى ّ مُّبِينٍ فالباء إما أن تتعلق بالمنذرين فيكون المعنى لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد عليهم السلام وإما أن تتعلق بنزل فيكون المعنى نزله باللسان العربي لينذر به لأنه لو نزله باللسان الأعجمي ( لتجافوا عنه أهلاً و ) لقالوا له ما نصنع بما لا نفهمه فيتعذر الإنذار به وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك لأنك تفهمه ويفهمه قومك ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها
وأما قوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ فيحتمل هذه الأخبار خاصة ويحتمل أن يكون المراد صفة القرآن ويحتمل صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويحتمل أن يكون المراد وجوه التخويف لأن ذكر هذه الأشياء بأسرها قد تقدم
أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَة ً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاٌّ عْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاٌّ لِيمَ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَة ً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أن قوله تعالى أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءايَة ً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِى إِسْراءيلَ المراد منه ذكر الحجة الثانية على نبوته عليه السلام وصدقه وتقريره أن جماعة من علماء بني إسرائيل أسلموا ونصوا على مواضع في التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بصفته ونعته وقد كان مشركو قريش يذهبون إلى اليهود ويتعرفون منهم هذا الخبر وهذا يدل دلالة ظاهرة على نبوته لأن تطابق الكتب الإلهية على نعته ووصفه يدل قطعاً على نبوته واعلم أنه قرىء يَكُنِ بالتذكير وآية النصب على أنها خبره و ( أن يعلمه ) هو الاسم وقرىء تَكُنْ بالتأنيث وجعلت ( آية ) اسماً و ( أن يعلمه ) خبراً وليست كالأولى لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً ويجوز مع نصب الآية تأنيث ( يكن ) كقوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ( الأنعام 23 )
وأما قوله وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاْعْجَمِينَ فاعلم أنه تعالى لما بين بالدليلين المذكورين نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصدق لهجته بين بعد ذلك أن هؤلاء الكفار لا تنفعهم الدلائل ولا البراهين فقال وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاْعْجَمِينَ يعني إنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين فسمعوه وفهموه وعرفوا
فصاحته وأنه معجز لا يعارض بكلام مثله وانضم إلى ذلك بشارة كتب الله السالفة به فلم يؤمنوا به وجحدوه وسموه شعراً تارة وسحراً أخرى فلو نزلناه على بعض الأعجمين الذي لا يحسن العربية لكفروا به أيضاً ولتمحلوا لجحودهم عذراً ثم قال كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وهكذا مكناه وقررناه فيها وكيفما فعل بهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من الجحود والإنكار وهذا أيضاً مما يفيد تسلية الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأنه إذا عرف رسول الله إصرارهم على الكفر وأنه قد جرى القضاء الأزلي بذلك حصل اليأس وفي المثل اليأس إحدى الراحتين
المسألة الرابعة قوله كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ يدل على أن الكل بقضاء الله وخلقه قال صاحب ( الكشاف ) أراد به أنه صار ذلك التكذيب متكمناً في قلوبهم أشد التمكن فصار ذلك كالشيء الجبلي والجواب أنه إما أن يكون قد فعل الله فيهم ما يقتضي رجحان التكذيب على التصديق أو ما فعل ذلك فيهم فإن كان الأول فقد دللنا في سورة الأنعام على أن الترجيح لا يتحقق ما لم ينته إلى حد الوجوب وحينئذ يحصل المقصود فإن لم يفعل فيهم ما يقتضي الترجيح ألبتة امتنع قوله كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ كما أن طيران الطائر لما لم يكن له تعلق بكفرهم امتنع إسناد الكفر إلى ذلك الطيران
المسألة الخامسة قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت ما موقع لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ من قوله سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ قلت موقعه منه موقع الموضح ( والمبين ) لأنه مسوق ( لبيانه مؤكد للجحود ) في قلوبهم فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به حتى يعاينوا الوعيد
فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم وأنه يأتيهم العذاب بغتة أتبعه بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة فقال فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ كما يستغيث المرء عند تعذر الخلاص لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجأ لكنهم يذكرون ذلك استرواحاً
فأما قوله تعالى أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فالمراد أنه تعالى بين أنهم كانوا في الدنيا يستعجلون العذاب مع أن حالهم عند نزول العذاب طلب النظرة ليعرف تفاوت الطريقين فيعتبر به ثم بين تعالى أن استعجال العذاب على وجه التكذيب إنما يقع منهم ليتمتعوا في الدنيا إلا أن ذلك جهل وذلك لأن مدة التمتع في الدنيا متناهية قليلة ومدة العذاب الذي يحصل بعد ذلك غير متناهية وليس في العقل ترجيح لذات متناهية
قليلة على آلام غير متناهية وعن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف فقال له عظني فلم يزد على تلاوة هذه الآية فقال ميمون لقد وعظت فأبلغت وقرىء يُمَتَّعُونَ بالتخفيف ثم بين أنه لم يهلك قرية إلا وهناك نذير يقيم عليهم الحجة
أما قوله تعالى ذِكْرِى فقال صاحب ( الكشاف ) ذكرى منصوبة بمعنى تذكرة إما لأن أنذر وذكر متقاربان فكأنه قيل مذكرون تذكرة وإما لأنها حال من الضمير في مُنذِرُونَ أي ينذرونهم ذوي تذكرة وإما لأنها مفعول له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة أو مرفوعة عل أنها خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى وجعلوا ذكرى لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها ووجه آخر وهو أن يكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولاً له والمعنى وما أهلكنا من أهل قرية قوم ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ فنهلك قوماً غير ظالمين وهذا الوجه عليه المعول فإن قلت كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنه في قوله وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ ( الحجر 4 ) قلت الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ
اعلم أنه تعالى لما احتج على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بكون القرآن تنزيل رب العالمين وإنما يعرف ذلك لوقوعه من الفصاحة في النهاية القصوى ولأنه مشتمل على قصص المتقدمين من غير تفاوت مع أنه عليه السلام لم يشتغل بالتعلم والاستفادة فكان الكفار يقولون لم لا يجوز أن يكون هذا من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة فأجاب الله تعالى عنه بأن ذلك لا يتسهل للشياطين لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء ولقائل أن يقول العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بواسطة خبر النبي الصادق فإذا أثبتنا كون محمد ( صلى الله عليه وسلم ) صادقاً بفصاحة القرآن وإخباره عن الغيب ولا يمكن إثبات كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزاً إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك لزم الدور وهو باطل وجوابه لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يستفاد إلا من قول النبي وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى من الاهتمام بشأن العدو ونعلم بالضرورة أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كان يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم فلو كان هذا الغيب إنما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم فكان يجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى فلما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون عن ذلك وأنهم معزولون عن تعرف الغيوب ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب ابتدأ بخطاب الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ وذلك في الحقيقة خطاب
لغيره لأن من شأن الحكيم إذا أراد أن يؤكد خطاب الغير أن يوجهه إلى الرؤساء في الظاهر وأن كان المقصود بذلك هم الأتباع ولأنه تعالى أراد أن يتبعه ما يليق بذلك فلهذه العلة أفرده بالمخاطبة
وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاٌّ قْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تسلية رسوله أولاً ثم أقام الحجة على نبوته ثانياً ثم أورد سؤال المنكرين وأجاب عنه ثالثاً أمره بعد ذلك بما يتعلق بباب التبليغ والرسالة وهو ههنا أمور ثلاثة الأول قوله وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعده إن دعا مع الله إلهاً آخر ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب وذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولاً ثم بالأقرب فالأقرب ثانياً لم يكن لأحد فيه طعن ألبتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع وروي ( أنه لما نزلت هذه الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب وقال يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عباس عم محمد يا صفية عمة محمد إني لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من المال ما شئتم ) وروي ( أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً على رجل شاة وقعب من لبن وكان الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس فأكلوا وشربوا ثم قال يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي قالوا نعم فقال إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )
الثاني قوله وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ واعلم أن الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع كسر جناحه وخفضه وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلاً في التواضع ولين الجانب فإن قيل المتبعون للرسول هم المؤمنون وبالعكس فلم قال لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جوابه لا نسلم أن المتبعين للرسول هم المؤمنون فإن كثيراً منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين
فأما قوله فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ فمعناه ظاهر قال الجبائي هذا يدل على أنه عليه السلام كان بريئاً من معاصيهم وذلك يوجب أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم كالرسول وإلا كان مخالفاً لله كما لو رضي عمن سخط الله عليه لكان كذلك وإذا كان تعالى بريئاً من عملهم فكيف يكون فاعلاً له ومريداً له الجواب أنه تعالى بريء من المعاصي بمعنى أنه ما أمر بها بل نهى عنها فأما بمعنى أنه لا يريدها فلا نسلم والدليل عليه أنه علم وقوعها وعلم أن ما هو معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع وإلا لانقلب علمه جهلاً وهو محال والمفضي إلى المحال محال وعلم أن ما هو واجب الوقوع فإنه لا يراد عدم وقوعه فثبت ما قلناه والثالث قوله وَتَوَكَّلْ والتوكل عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر
على نفعه وضره وقوله عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ أي على الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم برحمته ثم أتبع كونه رحيماً على رسوله ما هو كالسبب لتلك الرحمة وهو قيامه وتقلبه في الساجدين وفيه وجوه أحدها المراد ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد وتقلبه في تصفح أحوال ( المجتهدين ) ليطلع على أسرارهم كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه على ما يوجد منهم من الطاعات فوجدها كبيوت الزنابير لما يسمع منها من دندنتهم بذكر الله تعالى والمراد بالساجدين المصلين وثانيها المعنى يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة وتقلبه في الساجدين تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذ كان إماماً لهم وثالثها أنه لا يخفى عليه حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين ورابعها المراد تقلب بصره فيمن ( يلي ) خلفه من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي ) ثم قال إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ أي لما تقوله الْعَلِيمُ أي بما تنويه وتعمله وهذا يدل عى أن كونه سميعاً أمر مغاير لعلمه بالمسموعات وإلا لكان لفظ العليم مفيداً فائدته واعلم أنه قرىء ونقلبك
واعلم أن الرافضة ذهبوا إلى أن آباء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا مؤمنين وتمسكوا في ذلك بهذه الآية وبالخبر أما هذه الآية فقالوا قوله تعالى تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ يحتمل الوجوه التي ذكرتم ويحتمل أن يكون المراد أن الله تعالى نقل روحه من ساجد إلى ساجد كما نقوله نحن وإذا احتمل كل هذه الوجوه وجب حمل الآية على الكل ضرورة أنه لا منافاة ولا رجحان وأما الخبر فقوله عليه السلام ( لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ) وكل من كان كافراً فهو نجس لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ( التوبة 28 ) قالوا فإن تمسكتم على فساد هذا المذهب بقوله تعالى وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ ( الأنعام 74 ) قلنا الجواب عنه أن لفظ الأب قد يطلق على العم كما قال أبناء يعقوب له نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ( البقرة 133 ) فسموا إسماعيل أباً له مع أنه كان عماً له وقال عليه السلام ( ردوا على أبي ) يعني العباس ويحتمل أيضاً أن يكون متخذاً لأصنام أب أمه فإن هذا قد يقال له الأب قال تعالى وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودُ وَسُلَيْمَانَ إلى قوله وَعِيسَى ( الأنعام 84 85 ) فجعل عيسى من ذرية إبراهيم مع أن إبراهيم كان جده من قبل الأم
واعلم أنا نتمسك بقوله تعالى لاِبِيهِ ءازَرَ وما ذكروه صرف للفظ عن ظاهره وأما حمل قوله وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ على جميع الوجوه فغير جائز لما بينا أن حمل المشترك على كل معانيه غير جائز وأما الحديث فهو خبر واحد فلا يعارض القرآن
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ
اعلم أن الله تعالى أعاد الشبهة المتقدمة وأجاب عنها من وجهين الأول قوله تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ وذلك هو الذي قررناه فيما تقدم أن الكفار يدعون إلى طاعة الشيطان ومحمداً عليه السلام كان يدعو إلى لعن الشيطان والبراءة عنه والثاني قوله يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ والمراد أنهم كان يقيسون حال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على حال سائر الكهنة فكأنه قيل لهم إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب فيجب أن يكون حال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كذلك أيضاً فلما لم يظهر في إخبار الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عن المغيبات إلا الصدق علمنا أن حاله بخلاف حال الكهنة ثم إن المفسرين ذكروا في الآية وجوهاً أحدها أنهم الشياطين روي أنهم كانوا قبل أن حجبوا بالرجم يسمعون إلى الملأ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به ممااطلعوا عليه من الغيوب ثم يوحون به إلى أوليائهم وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ فيما ( يوحى ) به إليهم لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا وثانيها يلقون إلى أوليائهم السمع أي المسموع من الملائكة وثالثها الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيلقون وحيهم إليهم ورابعها يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم فإن قلت يُلْقُون ما محله قلت يجوز أن يكون في محل النصب على الحال أي تنزل ملقين السمع وفي محل الجر صفة لكل أفاك لأنه في معنى الجمع وأن لا يكون له محل بأن يستأنف كأن قائلاً قال لم ننزل على الأفاكين فقيل يفعلون كيت وكيت فإن قلت كيف قال وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ بعدما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك قلت الأفاكون هم الذين يكثرون الكذب لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الجن وأكثرهم يفتري عليهم
وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَى َّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ
اعلم أن الكفار لما قالوا لم لا يجوز أن يقال إن الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء ثم إنه سبحانه فرق بين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبين الكهنة فذكر ههنا ما يدل على الفرق بينه عليه السلام وبين الشعراء وذلك هو أن الشعراء يتبعهم الغاوون أي الضالون ثم بين تلك الغواية بأمرين الأول أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ والمراد منه الطرق المختلفة كقولك أنا في واد وأنت في واد وذلك لأنهم قد يمدحون الشيء بعد أن ذموه وبالعكس وقد يعظمونه بعد أن استحقروه وبالعكس وذلك يدل على أنهم لا يطلبون بشعرهم الحق ولا الصدق بخلاف أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه من أول أمره إلى آخره بقي على طريق واحد وهو الدعوة إلى الله تعالى والترغيب في الآخرة والإعراض عن الدنيا
الثاني أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ وذلك أيضاً من علامات الغواة فإنهم يرغبون في الجود ويرغبون عنه وينفرون عن البخل ويصرون عليه ويقدحون في الاس بأدنى شيء صدر عن واحد من أسلافهم ثم إنهم لا يرتكبون إلا الفواحش وذلك يدل على الغواية والضلالة
وأما محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه بدأ بنفسه حيث قال الله تعالى له فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً ءاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ( الشعراء 213 ) ثم بالأقرب فالأقرب حيث قال الله تعالى له وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ ( الشعراء 214 ) وكل ذلك على خلاف طريقة الشعراء فقد ظهر بهذا الذي بيناه أن حال محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يشبه حال الشعراء ثم إن الله تعالى لما وصف الشعراء بهذه الأوصاف الذميمة بياناً لهذا الفرق استثنى عنهم الموصوفين بأمور أربعة أحدها الإيمان وهو قوله إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وثانيها العمل الصالح وهو قوله وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وثالثها أن يكون شعرهم في التوحيد والنبوة ودعوة الخلق إلى الحق وهو قوله وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً ورابعها أن لا يذكروا هجو أحد إلا على سبيل الانتصار ممن يهجوهم وهو قوله وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ قال الله تعالى لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ( النساء 148 ) ثم إن الشرط فيه ترك الاعتداء لقوله تعالى فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ( البقرة 194 ) وقيل المراد بهذا الاستثناء عبدالله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير لأنهم كانوا يهجون قريشاً وعن كعب بن مالك ( أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له أهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من رشق النبل ) وكان يقول لحسان بن ثابت ( قل وروح القدس معك )
فأما قوله تعلى وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَى َّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ فالذي عندي فيه والله أعلم أنه تعالى لما ذكر في هذه السورة ما يزيل الحزن عن قلب رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) من الدلائل العقلية ومن أخبار الأنبياء المتقدمين ثم ذكر الدلائل على نبوته عليه السلام ثم ذكر سؤال المشركين في تسميتهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) تارة بالكاهن وتارة بالشاعر ثم إنه تعالى بين الفرق بينه وبين الكاهن أولاً ثم بين الفرق بينه وبين الشاعر ثانياً ختم السورة بهذا التهديد العظيم يعني إن الذين ظلموا أنفسهم وأعرضوا عن تدبر هذه الآيات والتأمل في هذه البينات فإنهم سيعلمون بعد ذلك أي منقلب ينقلبون وقال الجمهور المراد منه الزجر عن الطريقة التي وصف الله بها هؤلاء الشعراء والأول أقرب إلى نظم السورة من أولها إلى آخرها والله أعلم
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
سورة النمل
تسعون وثلاث أو أربع أو خمس آيات مكيةطس تِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ وَهُم بِالاٌّ خِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ
اعلم أن قوله تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ وإبانته أنه قد خط فيه كل ما هو كائن فالملائكة الناظرون فيه يبينون الكائنات وإنما نكر الكتاب المبين ليصير مبهماً بالتنكير فيكون أفخم له كقوله فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ( القمر 55 ) وقرأ ابن أبي عبلة وَكِتَابٌ مُّبِينٌ بالرفع على تقدير وآيات كتاب مبين فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فإن قلت ما الفرق بين هذا وبين قوله الرَ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءانٍ مُّبِينٍ ( الحجر 1 ) قلت لا فرق لأن واو العطف لا تقتضي الترتيب
أما قوله هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ فهو في محل النصب أو الرفع فالنصب على الحال أي هادية ومبشرة والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة والرفع على ثلاثة أوجه على معنى هي هدى وبشرى وعلى البدل من الآيات وعلى أن يكون خبراً بعد خبر أي جمعت آياتها آيات الكتاب وأنها هدى وبشرى واختلفوا في وجه تخصيص الهدى بالمؤمنين على وجهين الأول المراد أنه يهديهم إلى الجنة وبشرى لهم كقوله تعالى فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَة ٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُّسْتَقِيماً ( النساء 175 ) فلهذا اختص به المؤمنون الثاني المراد بالهدى الدلالة ثم ذكروا في تخصيصه بالمؤمنين وجوهاً أحدها أنه إنما خصه بالمؤمنين لأنه ذكر مع الهدى البشرى والبشرى إنما تكون للمؤمنين وثانيها أن وجه الاختصاص أنهم تمسكوا به فخصهم بالذكر كقوله إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ( النازعات 45 ) وثالثها المراد من كونها هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ أنها زائدة في هداهم قال تعالى وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى ( مريم 76 )
أما قوله الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواة َ فالأقرب أنها الصلوات الخمس لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك وإقامة الصلاة أن يؤتى بها بشرائطها وكذا القول في الزكاة فإنها هي الواجبة وإقامتها وضعها في حقها
أما قوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ ففيه سؤال وهو أن المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لا بد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة فما الوجه من ذكره مرة أخرى جوابه من وجهين الأول أن يكون من جملة صلة الموصول ثم فيه وجهان الأول أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخبر لأجل العمل به وأما عرفان الحق فأقسام كثيرة لكن الذي يستفاد منه طريق النجاة معرفة المبدأ ومعرفة المعاد وأما الخير الذي يعمل به فأقسام كثيرة وأشرفها قسمان الطاعة بالنفس والطاعة بالمال فقوله لِلْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى معرفة المبدأ وقوله يُقِيمُونَ الصَّلواة َ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواة َ إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال وقوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ إشارة إلى علم المعاد فكأنه سبحانه وتعالى جعل معرفة المبدأ طرفاً أولاً ومعرفة المعاد طرفاً أخيراً وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطاً بينهما الثاني أن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة منهم من هو جازم بالحشر والنشر ومنهم من يكون شاكاً فيه إلا أنه يأتي بهذه الطاعات للاحتياط فيقول إن كنت مصيباً فيها فقد فزت بالسعادة وإن كنت مخطئاً فيها لم يفتني إلا خيرات قليلة في هذه المدة اليسيرة فمن يأتي بالصلاة والزكاة على هذا الوجه لم يكن في الحقيقة مهتدياً بالقرآن أما من كان حازماً بالآخرة كان مهتدياً به فلهذا السبب ذكر هذا القيد الثاني أن يجعل قوله وَهُم بِالاْخِرَة ِ هُمْ يُوقِنُونَ جملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة وهذا هو الأقرب ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هُمْ حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاٌّ خِرَة ِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُو ءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ هُمُ الاٌّ خْسَرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين ما للمؤمنين من البشرى أتبعه بما على الكفار من سوء العذاب فقال إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاْخِرَة ِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ واختلف الناس في أنه كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته مع أنه أسنده إلى الشيطان في قوله فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ ( النحل 63 ) فأما أصحابنا فقد أجروا الآية على ظاهرها وذلك لأن الإنسان لا يفعل شيئاً ألبتة إلا إذا دعاه الداعي إلى الفعل والمعقول من الداعي هو العلم والاعتقاد والظن بكون الفعل مشتملاً على منفعة وهذا الداعي لا بد وأن يكون من فعل الله تعالى لوجهين الأول أنه لو كان من فعل العبد لافتقر فيه إلى داع آخر ويلزم التسلسل وهو محال الثاني وهو أن العلم إما أن يكون ضرورياً أو كسبياً فإن كان ضرورياً فلا بد فيه من تصورين والتصور يمتنع أن يكون مكتسباً لأن المكتسب إن كان شاعراً به فهو متصور له وتحصيل الحاصل محال وإن لم يكن شاعراً به كان
غافلاً عنه والغافل عن الشيء يمتنع أن يكون طالباً له فإن قلت هو مشعور به من وجه دون وجه قلت فالمشعور به غير ما هو غير مشعور به فيعود التقسيم المتقدم في كل واحد من هذين الوجهين وإذا ثبت أن التصور غير مكتسب ألبتة والعلم الضروري هو الذي يكون حضور كل واحد من تصوريه كافياً في حصول التصديق فالتصورات غير كسبية وهي مستلزمة للتصديقات فإذن متى حصلت التصورات حصل التصديق لا محالة ومتى لم تحصل لم يحصل التصديق ألبتة فحصول هذه التصديقات البديهية ليس بالكسب ثم إن التصديقات البديهية إن كانت مستلزمة للتصديقات النظرية لم تكن التصديقات النظرية كسبية لأن لازم الضروري ضروري وإن لم تكن مستلزمة لها لم تكن تلك الأشياء التي فرضناها علوماً نظرية كذلك بل هي اعتقادات تقليدية لأنه لا معنى لاعتقاد المقلد إلا اعتقاد تحسيني يفعله ابتداء من غير أن يكون له موجب فثبت بهذا أن العلوم بأسرها ضرورية وثبت أن مبادىء الأفعال هي العلوم فأفعال العباد بأسرها ضرورية والإنسان مضطر في صورة مختار فثبت أن الله تعالى هو الذي زين لكل عامل عمله والمراد من التزيين هو أنه يخلق في قلبه العلم بما فيه من المنافع واللذات ولا يخلق في قلبه العلم بما فيه من المضار والآفات فقد ثبت بهذه الدلائل القاطعة العقلية وجوب إجراء هذه الآية على ظاهرها أما المعتزلة فإنهم ذكروا في تأويلها وجوهاً أحدها أن المراد بينا لهم أمر الدين وما يلزمهم أن يتمسكوا به وزيناه بأن بينا حسنه وما لهم فيه من الثواب لأن التزيين من الله تعالى للعمل ليس إلا وصفه بأنه حسن وواجب وحميد العاقبة وهو المراد من قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الاْيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ ( الحجرات 7 ) ومعنى فَهُمْ يَعْمَهُونَ يدل على ذلك لأن المراد فهم يعدلون وينحرفون عما زينا من أعمالهم وثانيها أنه تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق جعلوا إنعام الله تعالى بذلك عليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وعدم الانقياد لما يلزمهم من التكاليف فكأنه تعالى زين بذلك أعمالهم وإليه إشارة الملائكة عليهم السلام في قولهم وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ ( الفرقان 18 ) وثالثها أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند إليه والجواب عن الأول أن قوله تعالى أَعْمَالَهُمْ صيغة عموم توجب أن يكون الله تعالى قد زين لهم كل أعمالهم حسناً كان العمل أو قبيحاً ومعنى التزيين قد قدمناه وعن الثاني أن الله تعالى لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق فهل لهذه الأمور أثر في ترجيح فاعلية المعصية على تركها أوليس لها فيه أثر فإن كان الأول فقد دللنا على أن الترجيح متى حصل فلا بد وأن ينتهي إلى حد الاستلزام وحينئذ يحصل الغرض وإن لم يكن فيه أثر صارت هذه الأشياء بالنسبة إلى أعمالهم كصرير الباب ونعيق الغراب وذلك يمنع من إسناد فعلهم إليها وهذا بعينه هو الجواب عن التأويل الثالث الذي ذكروه والله أعلم
أما قوله تعالى فَهُمْ يَعْمَهُونَ فالعمه التحير والتردد كما يكون حال الضال عن الطريق
أما قوله أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوء الْعَذَابِ ففيه وجهان الأول أنه القتل والأسر يوم بدر والثاني مطلق العذاب سواء كان في الدنيا أو في الآخرة والمراد بالسوء شدته وعظمه
وأما قوله هُمُ الاْخْسَرُونَ ففيه وجهان الأول أنه لا خسران أعظم من أن يخسر المرء نفسه بأن يسلب عنه الصحة والسلامة في الدنيا ويسلم في الآخرة إلى العذاب العظيم الثاني المراد أنهم خسروا منازلهم في الجنة لو أطاعوا فإنه لا مكلف إلا وعين له منزل في الجنة لو أطاع فإذا عصى عدل به إلى غيره فيكون قد خسر ذلك المنزل
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قَالَ مُوسَى لاًّهْلِهِ إِنِّى آنَسْتُ نَاراً سَأاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ءَاتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِى َ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
أما قوله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ فمعناه لتؤتاه ( وتلقاه ) من عند أي حكيم وأي عليم وهذا معنى مجيئهما نكرتين وهذه الآية بساط وتمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من الأقاصيص و ( إذ ) منصوب بمضمر وهو اذكر كأنه قال على أثر ذلك خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى ويجوز أن ينتصب بعليم فإن قيل الحكمة أما أن تكون نفس العلم والعلم إما أن يكون داخلاً فيها فلما ذكر الحكمة فلم ذكر العلم جوابه الحكمة هي العلم بالأمور العملية فقط والعلم أعم منه لأن العلم قد يكون عملياً وقد يكون نظرياً والعلوم النظرية أشرف من العلوم العملية فذكر الحكمة المشتملة على العلوم العملية ثم ذكر العليم وهو البالغ في كمال العلم وكمال العلم يحصل من جهات ثلاثة وحدته وعموم تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصوناً عن كل التغيرات وما حصلت هذه الكمالات الثلاثة إلا في علمه سبحانه وتعالى
واعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة أنواعاً من القصص
القصة الأولى قصة موسى عليه الصلاة والسلام
أما قوله إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ فيدل على أنه لم يكن مع موسى عليه السلام غير امرأته ابنة شعيب عليه السلام وقد كنى الله تعالى عنها بالأهل فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع وهو قوله امْكُثُواْ ( القصص 29 )
أما قوله إِنّى آنَسْتُ نَاراً فالمعنى أنهما كانا يسيران ليلاً وقد اشتبه الطريق عليهما والوقت وقت برد وفي مثل هذا الحال تقوى النفس بمشاهدة نار من بعد لما يرجى فيها من زوال الحيرة في أمر الطريق ومن الانتفاع بالنار للاصطلاء فلذلك بشرها فقال إِنّى آنَسْتُ نَاراً وقد اختلفوا فقال بعضهم المراد أبصرت ورأيت وقال آخرون بل المراد صادفت ووجدت فآنست به والأول أقرب لأنهم لا يفرقون بين قول القائل آنست ببصري ورأيت ببصري
أما قوله إِذْ قَالَ مُوسَى فالخبر ما يخبر به عن حال الطريق لأنه كان قد ضل ثم في الكلام حذف وهو أنه لما أبصر النار توجه إليها وقال إِذْ قَالَ مُوسَى يعرف به الطريق
أما قوله إِذْ قَالَ مُوسَى لاِهْلِهِ فالشهاب الشعلة والقبس النار المقبوسة وأضاف الشهاب إلى القبس لأنه يكون قبساً وغير قبس ومن قرأ بالتنوين جعل القبس بدلاً أو صفة لما فيه من معنى القبس ثم ههنا أسئلة
السؤال الأول إِذْ قَالَ مُوسَى و فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ ( القصص 29 ) كالمتدافعين لأن أحدهما ترج والآخر تيقن نقول جوابه قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه سأفعل كذا وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة
السؤال الثاني كيف جاء بسين التسويف جوابه عدة منه لأهله أنه يأتيهم به وإن أبطأ أو كانت المسافة بعيدة
السؤال الثالث لماذا أدخل ( أو ) بين الأمرين وهلا جمع بينهما لحاجته إليهما معاً جوابه بنى الرجاء على أنه إن لم يظفر بهذين المقصودين ظفر بأحدهما إما هداية الطريق وإما اقتباس النار ثقة بعادة الله تعالى لأنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده
وأما قوله تعالى لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فالمعنى لكي تصطلون وذلك يدل على حاجة بهم إلى الاصطلاء وحينئذ لا يكون ذلك إلا في حال برد
أما قوله تعالى نُودِى َ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ففيه أبحاث
البحث الأول ءانٍ أن هي المفسرة لأن النداء فيه معنى القول والمعنى قيل له بورك
البحث الثاني اختلفوا فيمن في النار على وجوه أحدها أَن بُورِكَ بمعنى تبارك والنار بمعنى النور والمعنى تبارك من في النور وذلك هو الله سبحانه وَمَنْ حَوْلَهَا يعني الملائكة وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وإن كنا نقطع بأن هذه الرواية موضوعة مختلفة وثانيها مَن فِى النَّارِ هو نور الله وَمَنْ حَوْلَهَا الملائكة وهو مروي عن قتادة والزجاج وثالثها أن الله تعالى ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة فكانت الشجرة محلاً للكلام والله هو المكلم له بأن فعله فيه دون الشجرة ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها ملائكة فلذلك قال بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وهو قول الجبائي ورابعها مَن فِى النَّارِ هو موسى عليه السلام لقربه منها مِنْ حَوْلَهَا يعني الملائكة وهذا أقرب لأن القريب من الشيء قد يقال إنه فيه وخامسها قول صاحب ( الكشاف ) بُورِكَ مَن فِى النَّارِ أي من في مكان النار ومن حول مكانها هي البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى مِن شَاطِىء الْوَادِى الايْمَنِ فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ ( القصص 30 ) ويدل عليه قراءة أبي ( تباركت الأرض ومن حولها ) وعنه أيضاً ( بوركت النار )
البحث الثالث السبب الذي لأجله بوركت البقعة وبورك من فيها وحواليها حدوث هذا الأمر
العظيم فيها وهو تكليم الله موسى عليه السلام وجعله رسولاً وإظهار المعجزات عليه ولهذا جعل الله أرض الشام موسومة بالبركات في قوله وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الاْرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 71 ) وحقت أن تكون كذلك فهي مبعث الأنبياء صلوات الله عليهم ومهبط الوحي وكفاتهم أحياء وأمواتاً
البحث الرابع أنه سبحانه جعل هذا القول مقدمة لمناجاة موسى عليه السلام فقوله بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا يدل على أنه قد قضى أمر عظيم تنتشر البركة منه في أرض الشام كلها وقوله وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فيه فائدتان إحداهما أنه سبحانه نزه نفسه عما لا يليق به في ذاته وحكمته ليكون ذلك مقدمة في صحة رسالة موسى عليه السلام الثانية أن يكون ذلك إيذاناً بأن ذلك الأمر مريده ومكونه رب العالمين تنبيهاً على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الوقائع
أما قوله إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فقال صاحب ( الكشاف ) الهاء في ( إنه ) يجوز أن يكون ضمير الشأن و أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر و العَزِيزُ الحَكِيمُ صفتان للخبر وأن يكون راجعاً إلى ما دل عليه ما قبله يعني أن مكلمك أنا والله بيان لأنا والعزيز الحكيم صفتان ( للتعيين ) وهذا تمهيد لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية الفاعل ( كل ) ما أفعله بحكمة وتدبير فإن قيل هذا النداء يجوز أن يكون من عند غير الله تعالى فكيف علم موسى عليه السلام أنه من الله جوابه لأهل السنة فيه طريقان الأول أنه سمع الكلام المنزه عن مشابهة الحروف والأصوات فعلم بالضرورة أنه صفة الله تعالى الثاني قول أئمة ما وراء النهر وهو أنه عليه السلام سمع الصوت من الشجرة فنقول إنما عرف أن ذلك من الله تعالى لأمور أحدها أن النداء إذا حصل في النار أو الشجرة علم أنه من قبل الله تعالى لأن أحداً منا لا يقدر عليه وهو ضعف لاحتمال أن يقال الشيطان دخل في النار والشجرة ثم نادى وثانيها يجوز في نفس النداء أن يكون قد بلغ في العظم مبلغاً لا يكون إلا معجزاً وهو أيضاً ضعيف لأنا لا نعرف مقادير قوى الملائكة والشياطين فلا قدر إلا ويجوز صدوره منهم وثالثها أنه قد اقترن به معجز دل على ذلك فقيل إن النار كانت مشتعلة في شجرة خضراء لم تحترق فصار ذلك كالمعجز وهذا هو الأصح والله أعلم
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَى َّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُو ءٍ فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُو ءٍ فِى تِسْعِ ءَايَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَة ً قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُفْسِدِينَ
اعلم أن أكثر ما في هذا الآيات قدر مر شرحه ولنذكر ما هو من خواص هذا الموضع يقال علام عطف قوله وَأَلْقِ عَصَاكَ جوابه على بُورِكَ مَن فِى النَّارِ ( النمل 8 ) ( وأن ألق عصاك كلاهما تفسير لنودي )
أما قوله كَأَنَّهَا جَانٌّ فالجان الحية الصغيرة سميت جاناً لأنها تستتر عن الناس وقرأ الحسن جَانٌّ على لغة من يهرب من التقاء الساكنين فيقول شأبة ودأبة
أما قوله وَلَمْ يُعَقّبْ معناه لم يرجع يقال عقب المقاتل إذا ( مر ) بعد الفرار وإنما خاف لظنه أن ذلك لأمر أريد به ويدل عليه إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَى َّ الْمُرْسَلُونَ وقال بعضهم المراد إني إذا أمرتهم بإظهار معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة
أما قوله تعالى إَلاَّ مَن ظَلَمَ معناه لكن من ظلم وهو محمول على ما يصدر من الأنبياء من ترك الأفضل أو الصغيرة ويحتمل أن يكون المقصود منه التعريض بما وجد من موسى وهو من التعريضات اللطيفة قال الحسن رحمه الله كان والله موسى ممن ظلم بقتل القبطي ثم بدل فإنه عليه السلام قال رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى ( القصص 16 ) وقرىء ( ألا من ظلم ) بحرف التنبيه
أما قوله تعالى ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فالمراد حسن التوبة وسوء الذنب وعن أبي بكر في رواية عاصم ( حسناً ) أما قوله وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى فهو كلام مستأنف وحرف الجر فيه يتعلق بمحذوف والمعنى اذهب في تسع آيات إلى فرعون ولقائل أن يقول كانت الآيات إحدى عشرة اثنتان منها اليد والعصا والتسع الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم
أما قوله فَلَمَّا جَاءتْهُمْ ءايَاتُنَا مُبْصِرَة ً فقد جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأملها وذلك بسبب نظرهم وتفكرهم فيها أو جعلت كأنها لظهورها تبصر فتهتدي وقرأ علي بن الحسين وقتادة مُبْصِرَة ً وهو نحو مجبنة ومبخلة أي مكاناً يكثر فيه التبصر
أما قوله وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ فالواو فيها واو الحال وقد بعدها مضمرة وفائدة ذكر الأنفس أنهم جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم وضمائرهم والاستيقان أبلغ من الإيقان
أما قوله ظُلْماً وَعُلُوّاً فأي ظلم أفحش من ظلم من استيقن أنها آيات بينة من عند الله تعالى ثم كابر بتسميتها سحراً بيناً وأما العلو فهو التكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى كقوله فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ ( المؤمنون 46 ) وقرىء ( علياً ) و ( علياً ) بالضم والكسر كما قرىء ( عتياً ) عِتِيّاً ( مريم 8 69 ) والله أعلم
القصة الثانية قصة داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَى ْءٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَة ٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ وَعَلَى وَالِدَى َّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ
أما قوله تعالى عِلْمًا فالمراد طائفة من العلم أو علماً سنياً ( عزيزاً ) فإن قيل أليس هذا موضع الفاء دون الواو كقولك أعطيته فشكر ( ومنعته ) ( 1 ) فصبر جوابه أن الشكر باللسان إنما يحسن موقعه إذا كان مسبوقاً بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات ولما كان الشكر باللسان يجب كونه مسبوقاً بهما فلا جرم صار كأنه قال ولقد آتيناهما علماً فعملا به قلباً وقالباً وقالا باللسان الحمد لله الذي فعل كذا وكذا
وأما قوله تعالى الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ففيها أبحاث
أحدها أن الكثير المفضل عليه هو من لم يؤت علماً أو من لم يؤت مثل علمهما وفيه أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير وثانيها في الآية دليل على علو مرتبة العلم لأنهما أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم وثالثها أنهم لم يفضلوا أنفسهم على الكل وذلك يدل على حسن التواضع ورابعها أن الظاهر يقتضي أن تلك الفضيلة ليست إلا ذلك العلم ثم العلم بالله وبصفاته أشرف من غيره فوجب أن يكون هذا الشكر ليس إلا على هذا العلم ثم إن هذا العلم حاصل لجميع المؤمنين فيستحيل أن يكون ذلك سبباً لفضيلتهم على المؤمنين فإذن الفضيلة هو أن يصير العلم بالله وبصفاته جلياً بحيث يصير المرء مستغرقاً فيه بحيث لا يخطر بباله شيء من الشبهات ولا يغفل القلب عنه في حين من الأحيان ولا ساعة من الساعات
أما قوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودُ فقد اختلفوا فيه فقال الحسن المال لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث وقال غيره بل النبوة وقال آخرون بل الملك والسياسة ولو تأمل الحسن لعلم أن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمناً ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً لكن الله تعالى جعل سبب الإرث فيمن يرث الموت على شرائط وليس كذلك النبوة لأن الموت لا يكون سبباً لنبوة الولد فمن هذا الوجه يفترقان وذلك لا يمنع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام به عند موته كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته ومما يبين ما قلناه أنه تعالى لو فصل فقال وورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله وَقَالَ يأَبَتِ أَيُّهَا النَّاسُ عُلّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ معنى وإذا قلنا وورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك لأن تعليم منطق الطير يكون داخلاً في جملة ما ورثه وكذلك قوله تعالى وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء لأن وارث الملك يجمع ذلك ووارث المال لا يجمعه وقوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ لا يليق أيضاً إلا بما ذكرنا دون المال الذي قد يحصل للكامل والناقص وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده لا يليق إلا بما ذكرناه فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لم يرث إلا المال فأما إذا قيل ورث المال والملك معاً فهذا لا يبطل بالوجوه التي ذكرناها بل بظاهر قوله عليه السلام ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث )
فأما قوله يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فالمقصود منه تشهير نعمة الله تعالى والتنويه بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير قال صاحب ( الكشاف ) المنطق كل ما يصوّت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد وقد ترجم يعقوب كتابه ( بإصلاح المنطق ) وما أصلح فيه إلا مفردات الكلم وقالت العرب نطقت الحمامة ( وكل صنف من ) الطير يتفاهم أصواته فالذي علم سليمان عليه السلام من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من مقاصده وأغراضه
أما قوله تعالى وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء فالمراد كثرة ما أوتي وذلك لأن الكل والبعض الكثير يشتركان في صفة الكثرة والمشاركة سبب لجواز الاستعارة فلا جرم يطلق لفظ الكل على الكثير ومثله قوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 )
أما قوله إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ فهو تقرير لقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا والمقصود منه الشكر والمحمدة كما قال عليه السلام ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) فإن قيل كيف قال عَلِمْنَا وَأُوتِينَا وهو من كلام المتكبرين جوابه من وجهين الأول أن يريد نفسه وأباه والثاني أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع وكان ملكاً مطاعاً وقد يتعلق بتعظيم الملك مصالح فيصير ذلك التعظيم واجباً
وأما قوله وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فالحشر هو الإحضار والجمع من الأماكن المختلفة والمعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده ولا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده ولا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف فلذلك قلنا إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل وغيره
وأما قوله تعالى فَهُمْ يُوزَعُونَ معناه يحبسون وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع ويكون له تسلط على من يرده ويكفه ويصرفه فالظاهر يشهد بهذا القدر والذي جاء في الخبر من أنهم كانوا يمنعون من يتقدم ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب فغير ممتنع
أما قوله تعالى حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ فقيل هو واد بالشام كثير النمل ويقال لم عدي أَتَوْا بعلى فجوابه من وجهين الأول أن إتيانهم كان من فوق فأتى بحرف الاستعلاء والثاني أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشيء إذا ( أنفذه و ) بلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي وقرىء نَمْلَة ٌ يأَيُّهَا أَيُّهَا النَّمْلِ بضم الميم وبضم النون والميم وكان الأصل النمل بوزن الرجل والنمل الذي عليه الاستعمال تخفيف عنه ( كقولهم السبع في السبع ) ( 1 )
أما قوله تعالى قَالَتْ نَمْلَة ٌ فالمعنى أنها تكلمت بذلك وهذا غير مستبعد فإن الله تعالى قادر على أن يخلق فيها العقل والنطق وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة رحمه الله حاضراً وهو غلام حدث فقال سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة رضي الله عنه كانت أنثى فقيل له من أين عرفت فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله قَالَتْ نَمْلَة ٌ ولو كان ذكراً لقال ( قال نملة ) وذلك لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي
أما قوله تعالى ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ فاعلم أن النملة لما قاربت حد العقل لا جرم ذكرت بما يذكر به العقلاء فلذلك قال تعالى ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ فإن قلت لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ ما هو قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر والمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم على طريقة لا أرينك ههنا وفي هذه الآية تنبيه على أمور أحدها أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز وإنما يلزم من في الطريق التحرز وثانيها أن النملة قالت وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ كأنها عرفت أن النبي معصوم فلا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء عليهم السلام وثالثها ما رأيت في بعض الكتب أن تلك النملة إنما أمرت غيرها بالدخول لأنها خافت على قومها أنها إذا رأت سليمان في جلالته فربما وقعت في كفران نعمة الله تعالى وهذا هو المراد بقوله لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ فأمرتها بالدخول في مساكنها لئلا ترى تلك النعم فلا تقع في كفران نعمة الله تعالى وهذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة ورابعها قرىء ( مسكنكم ) و ( لا يحطمنكم ) بتخفيف النون وقرىء ( لا يحطمنكم ) بفتح الطاء وكسرها وأصلها يحطمنكم
أما قوله تعالى فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مّن قَوْلِهَا يعني تبسم شارعاً في الضحك ( وآخذاً فيه ) بمعنى أنه قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك وإنما ضحك لأمرين أحدهما إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده ( وشفقتهم ) وعلى شهرة حاله وحالهم في باب التقوى وذلك قولها وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ والثاني سروره بما آتاه الله مما لم يؤت أحداً من سماعه لكلام النملة وإحاطته بمعناه
أما قوله تعالى رَبّ أَوْزِعْنِى فقال صاحب ( الكشاف ) حقيقة أوزعنى اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأكفه عن أن ينقلب عني حتى أكون شاكراً لك أبداً وهذا يدل على مذهبنا فإن عند المعتزلة كل ما أمكن فعله من الألطاف فقد صارت مفعولة وطلب تحصيل الحاصل عبث
وأما قوله تعالى وَعَلَى وَالِدَى َّ فذلك لأنه عد نعم الله تعالى على والديه نعمة عليه ومعنى قوله وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ طلب الإعانة في الشكر وفي العمل الصالح ثم قال وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ فلما طلب في الدنيا الإعانة على الخيرات طلب أن يجعل في الآخرة من الصالحين وقوله بِرَحْمَتِكَ يدل على أن دخول الجنة برحمته وفضله لا باستحقاق من جانب العبد واعلم أن سليمان عليه السلام طلب ما يكون وسيلة إلى ثواب الآخرة أولاً ثم طلب ثواب الآخرة ثانياً أما وسيلة الثواب فهي أمران أحدهما شكر النعمة السالفة والثاني الاشتغال بسائر أنواع الخدمة أما الاشتغال بشكر النعمة السالفة فهي قوله تعالى رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى َّ ولما كان الإنعام على الآباء إنعاماً على الأبناء لأن انتساب الابن إلى أب شريف نعمة من الله تعالى على الابن لا جرم اشتغل بشكر نعم الله على الآباء بقوله وَعَلَى وَالِدَى َّ وأما الاشتغال بسائر أنواع الخدمة فقوله وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وأما طلب ثواب الآخرة فقوله وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ فإن قيل درجات الأنبياء أعظم من درجات الأولياء والصالحين فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين فقال يوسف تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وقال سليمان أَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ جوابه الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية وهذه درجة عالية والله أعلم
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاّذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَة ً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَى ْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ
اعلم أن سليمان عليه السلام لما تفقد الطير أوهم ذلك أنه إنما تفقده لأمر يختص به ذلك الطير واختلفوا فيما لأجله تفقده على وجوه أحدها قول وهب أنه أخل بالنوبة التي كان ينوبها فلذلك تفقده
وثانيها أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه وكان يعرف الفصل بين قريبه وبعيده فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه وتفقده وثالثها أنه كان يظله من الشمس فلما فقد ذلك تفقده
أما قوله فَقَالَ مَالِيَ لِى َ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ فأم هي المنقطعة نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره فقال ما لي لا أراه على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر ستره أو غير ذلك ثم لاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول أهو غائب كأنه يسأل عن صحة ما لاح له ومثله قولهم إنها لإبل أم شاء
أما قوله لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فهذا لا يجوز أن يقوله إلا فيمن هو مكلف أو فيمن قارب العقل فيصلح لأن يؤدب ثم اختلفوا في قوله لاعَذّبَنَّهُ فقال ابن عباس إنه نتف الريش والإلقاء في الشمس وقيل أن يطلى بالقطران ويشمس وقيل أن يلقى للنمل فتأكله وقيل إيداعه القفص وقيل التفريق بينه وبين إلفه وقيل لألزمنه صحبة الأضداد وعن بعضهم أضيق السجون معاشرة الأضداد وقيل لألزمنه خدمة أقرانه
أما قوله فَمَكَثَ فقد قرىء بفتح الكاف وضمها غَيْرَ بَعِيدٍ ( غير زمان بعيد ) كقولك عن قريب ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفاً من سليمان وليعلم كيف كان الطير مسخراً له
أما قوله أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ففيه تنبيه لسليمان على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علماً بما لم يحط به فيكون ذلك لطفاً في ترك الإعجاب والإحاطة بالشيء علماً أن يعلم من جميع جهاته
أما قوله وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ فاعلم أن سبأ قرىء بالصرف ومنعه وقد روي بسكون الباء وعن ابن كثير في رواية سبا بالألف كقولهم ذهبوا أيدي سبا وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فمن جعله اسماً للقبيلة لم يصرف ومن جعله اسماً للحي أو للأب الأكبر صرف ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام والنبأ الخبر الذي له شأن
وقوله مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ وشرط حسنه صحة المعنى ولقد جاء ههنا زائداً على الصحة فحسن لفظاً ومعنى ألا ترى أنه لو وضع مكان ( بنبأ ) بخبر لكان المعنى صحيحاً ولكن لفظ النبأ أولى لما فيه من الزيادة التي يطابقها وصف الحال
أما قوله إِنّى وَجَدتُّ امْرَأَة ً تَمْلِكُهُمْ فالمرأة بلقيس بنت شراحيل وكان أبوها ملك أرض اليمن وكانت هي وقومها مجوساً يعبدون الشمس والضمير في تملكهم راجع إلى سبأ فإن أريد به القوم فالأمر ظاهر وإن أريدت المدين فمعناه تملك أهلها
وأما قوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ففيه سؤال وهو أنه كيف قال وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء مع قول سليمان وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 16 ) فكأن الهدهد سوى بينهما جوابه أن قول سليمان عليه السلام يرجع إلى ما أوتي من النبوة والحكمة ثم إلى الملك وأسباب الدنيا وأما قول الهدهد فلم يكن إلا إلى ما يتعلق بالدنيا
وأما قوله وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ ففيه سؤال وهو أنه كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان وأيضاً فكيف سوى بين عرش بلقيس وعرش الله تعالى في الوصف بالعظيم والجواب عن
الأول يجوز أن يستصغر حالها إلى حال سليمان فاستعظم لها ذلك العرش ويجوز أن لا يكون لسليمان مع جلالته مثله كما قد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله عند السلطان وعن الثاني أن وصف عرشها بالعظم تعظيم له بالإضافة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ووصف عرش الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض واعلم أن ههنا بحثين
البحث الأول أن الملاحدة طعنت في هذه القصة من وجوه أحدها أن هذه الآيات اشتملت على أن النملة والهدهد تكلما بكلام لا يصدر ذلك الكلام إلا من العقلاء وذلك يجر إلى السفسطة فإنا لو جوزنا ذلك لما أمنا في النملة التي نشاهدها في زماننا هذا أن تكون أعلم بالهندسة من إقليدس وبالنحو من سيبويه وكذا القول في القملة والصئبان ويجوز أن يكون فيهم الأنبياء والتكاليف والمعجزات ومعلوم أن من جوز ذلك كان إلى الجنون أقرب وثانيها أن سليمان عليه السلام كان بالشام فكيف طار الهدهد في تلك اللحظة اللطيفة من الشام إلى اليمن ثم رجع إليه وثالثها كيف خفي على سليمان عليه السلام حال مثل تلك الملكة العظيمة مع ما يقال إن الجن والإنس كانوا في طاعة سليمان وإنه عليه السلام كان ملك الدنيا بالكلية وكان تحت راية بلقيس على ما يقال اثنا عشر ألف ملك تحت راية كل واحد منهم مائة ألف ومع أنه يقال إنه لم يكن بين سليمان وبين بلدة بلقيس حال طيران الهدهد إلا مسيرة ثلاثة أيام ورابعها من أين حصل للهدهد معرفة الله تعالى ووجوب السجود له وإنكار سجودهم للشمس وإضافته إلى الشيطان وتزيينه والجواب عن الأول أن ذلك الاحتمال قائم في أول العقل وإنما يدفع ذلك بالإجماع وعن البواقي أن الإيمان بافتقار العالم إلى القادر المختار يزيل هذه الشكوك
البحث الثاني قالت المعتزلة قوله يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ يدل على أن فعل العبد من جهته لأنه تعالى أضاف ذلك إلى الشيطان بعد إضافته إليهم ولأنه أورده مورد الذم ولأنه بين أنهم لا يهتدون والجواب من وجوه أحدها أن هذا قول الهدهد فلا يكون حجة وثانيها أنه متروك الظاهر فإنه قال فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وعندهم الشيطان ما صد الكافر عن السبيل إذ لو كان مصدوداً ممنوعاً لسقط عنه التكليف فلم يبق ههنا إلا التمسك بفصل المدح والذم والجواب قد تقدم عنه مراراً فلا فائدة في الإعادة والله أعلم
أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَاوَاتِ والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن في قوله تعالى أَلاَّ يَسْجُدُواْ قراءات أحدها قراءة من قرأ بالتخفيف ( ألا )
للتنبيه ويا حرف النداء ومناداه محذوف كما حذفه من قال ألا يا اسلمى يا دار ميَّ على البلى
ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
وثانيها بالتشديد أراد فصدهم عن السبيل لئلا يسجدوا فحذف الجار مع أن ويجوز أن تكون لا مزيدة ويكون المعنى فهم لا يهتدون ( إلا ) أن يسجدوا وثالثها وهي حرف عبدالله و ( هي ) قراءة الأعمش هلا بقلب الهمزة هاء وعن عبدالله هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب ورابعها قراءة أبي إِلا يَسْجُدُونَ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَيَعْلَمَ سِرَّكُمْ وَمَا تُعْلِنُونَ
المسألة الثانية قال أهل التحقيق قوله أَلاَّ يَسْجُدُواْ يجب أن يكون بمعنى الأمر لأنه لو كان بمعنى المنع من السجدة لم يكن لوصفه تعالى بما يوجب أن يكون السجود له وهو كونه قادراً على إخراج الخبء عالماً بالأسرار معنى
المسألة الثالثة الآية دلت على وصف الله تعالى بالقدرة والعلم أما القدرة فقوله يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وسمي المخبوء بالمصدر وهو يتناول جميع أنواع الأرزاق والأموال وإخراجه من السماء بالغيث ومن الأرض بالنبات وأما العلم فقوله وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
واعلم أن المقصود من هذا الكلام الرد على من يعبد الشمس وتحرير الدلالة هكذا الإله يجب أن يكون قادراً على إخراج الخبء وعالماً بالخفيات والشمس ليست كذلك فهي لا تكون إلهاً وإذا لم تكن إلهاً لم يجز السجود لها أما أنه سبحانه وتعالى يجب أن يكون قادراً عالماً على الوجه المذكور فلما أنه واجب لذاته فلا تختص قادريته وعالميته ببعض المقدورات والمعلومات دون البعض وأما أن الشمس ليست كذلك فلأنها جسم متناه وكل ما كان متناهياً في الذات كان متناهياً في الصفات وإذا كان كذلك فحينئذ لا يعلم كونها قادرة على إخراج الخبء عالمة بالخفيات فإذا لم يعلم من حالها ذلك لم يعلم من حالها كونها قادرة على جلب المنافع ودفع المضار فرجع حاصل الدلالة إلى ما ذكره إبراهيم عليه السلام في قوله لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ( مريم 42 ) وفي قوله للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْء فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وجه آخر وهو أن هذا إشارة إلى ما استدل به إبراهيم عليه السلام في قوله رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ( البقرة 258 ) وفي قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ( البقرة 258 ) وذلك لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخرج الشمس من المشرق بعد أفولها في المغرب فهذا هو إخراج الخبء في السموات وهو المراد من قول إبراهيم عليه السلام لا أُحِبُّ الاْفِلِينَ ( الأنعام 76 ) ومن قوله فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ومن قوله موسى عليه السلام رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ( الشعراء 28 ) وحاصله يرجع إلى أن أفول الشمس وطلوعها يدلان على كونها تحت تدبير مدبر قاهر فكانت العبادة لقاهرها والمتصرف فيها أولى وأما إخراج الخبء من الأرض فهو يتناول إخراج النطفة من الصلب والترائب وتكوين الجنين منه فإن قيل إن إبراهيم وموسى عليهما السلام قدما دلالة الأنفس على دلالة الآفاق فإن إبراهيم قال رَبّيَ الَّذِى يُحْى ِ وَيُمِيتُ ثم قال فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ وموسى عليه السلام قال رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ ( الشعراء 26 ) ثم قال رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فلم كان الأمر ههنا بالعكس فقدم خبء السموات على خبء الأرض جوابه أن إبراهيم وموسى عليهما السلام ناظراً مع من ادعى إلهية البشر فلا جرم ابتدأ بإبطال إلهية البشر ثم انتقلا إلى إبطال إلهية السموات وههنا المناظرة مع من ادعى إلهية الشمس لقوله وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ
فلا جرم ابتدأ بذكر السماويات ثم بالأرضيات
أما قوله اللَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فالمراد منه أنه سبحانه لما بين افتقار السموات والأرض وما بينهما إلى المدبر ذكر بعد ذلك أن ما هو أعظم الأجسام فهي مخلوقة ومربوبة وذلك يدل على أنه سبحانه هو المنتهى في القدرة والربوبية إلى ما لا يزيد عليه والله أعلم
المسألة الرابعة قيل من أَحَطتُ إلى الْعَظِيمِ كلام الهدهد وقيل كلام رب العزة
المسألة الخامسة الحق أن سجدة التلاوة واجبة في القراءتين جميعاً وهو قول الشافعي وأبي حنيفة رحمة الله عليهما لأنهم أجمعوا على أن سجدات القرآن أربع عشرة سجدة وهذا واحد منها ولأن مواضع السجدة إما أمر بها أو مدح لمن أتى بها أو ذم لمن تركها وإحدى القراءتين أمر بالسجود والأخرى ذم للتارك فثبت أن الذي ذكره الزجاج من وجوب السجدة مع التخفيف دون التشديد غير ملتفت إليه
المسألة السادسة يقال هل يفرق الواقف بين القراءتين جوابه نعم إذا خفف وقف على فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ ( النمل 24 ) ثم ابتدأ بألا يسجدوا وإن شاء وقف على ألا يا ثم ابتدأ اسجدوا وإذا شدد لم يقف إلا على ( العرش العظيم )
أما قوله سَنَنظُرُ فمن النظر الذي هو التأمل وأراد صدقت أم كذبت إلا أن أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ أبلغ لأنه إذا كان معروفاً بالكذب كان متهماً بالكذب فيما أخبر به فلم يوثق به وإنما قال فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ على لفظ الجمع لأنه قال وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ ( النمل 24 ) فقال فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أي إلى الذين هذا دينهم
أما قوله ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك و يَرْجِعُونَ من قوله تعالى يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ( سبأ 30 ) ويقال دخل عليها من كوة وألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة
قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنَّى أُلْقِى َ إِلَى َّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَى َّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَة ً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّة ٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالاٌّ مْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ
اعلم أن قوله قَالَتْ ياأَيُّهَا أَيُّهَا الْمَلا إِنّى أُلْقِى َ إِلَى َّ كِتَابٌ كَرِيمٌ بمعنى أن يقال إن الهدهد ألقى إليها الكتاب فهو محذوف كأنه ثابت روي أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية وقيل نقرها فانتبهت فزعة
أما قوله كِتَابٌ كَرِيمٌ ففيه ثلاثة أوجه أحدها حسن مضمونه وما فيه وثانيها وصفته بالكريم لأنه من عند ملك كريم وثالثها أن الكتاب كان مختوماً وقال عليه السلام ( كرم الكتاب ختمه ) وكان عليه السلام ( يكتب إلى العجم فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتاباً عليه خاتم فاتخذ لنفسه خاتماً )
أما قوله إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ففيه أبحاث
البحث الأول أنه استئناف وتبيين لما ألقى إليها كأنها لما قالت إني ألقي إليَّ كتاب كريم قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه من سليمان وإنه كيت وكيت وقرأ عبدالله إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ عطفاً على إِنّى وقرىء إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بالفتح وفيه وجهان أحدهما أنه بدل من كتاب كأنه قيل ألقي إليَّ أنه من سليمان وثانيهما أن يريد أن من سليمان ولأنه بسم الله كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله وقرأ أبي ( أن من سليمان وأن بسم الله ) على أن المفسرة وأن في ( ألا تعلوا ) مفسرة أيضاً ومعنى لا تعلوا لا تتكبروا كما تفعل الملوك وقرأ ابن عباس بالغين معجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد
البحث الثاني يقال لما قدم سليمان اسمه على قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ جوابه حاشاه من ذلك بل ابتدأ هو ببسم الله الرحمن الرحيم وإنما ذكرت بلقيس أن هذا الكتاب من سليمان ثم حكت ما في الكتاب والله تعالى حكى ذلك فالتقديم واقع في الحكاية
البحث الثالث أن الأنبياء عليهم السلام لا يطيلون بل يقتصرون على المقصود وهذا الكتاب مشتمل على تمام المقصود وذلك لأن المطلوب من الخلق إما العلم أو العمل والعلم مقدم على العمل فقوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مشتمل على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وإثبات كونه عالماً قادراً حياً مريداً حكيماً رحيماً
وأما قوله أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَى َّ فهو نهي عن الانقياد لطاعة النفس والهوى والتكبر
وأما قوله وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ فالمراد من المسلم إما المنقاد أو المؤمن فثبت أن هذا الكتاب على وجازته يحوي كل ما لا بد منه في الدين والدنيا فإن قيل النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولاً حقاً يدل على الاكتفاء بالتقليد جوابه معاذ الله أن يكون هناك تقليد وذلك لأن رسول سليمان إلى بلقيس كان الهدهد ورسالة الهدهد معجز والمعجز يدل على وجود الصانع وعلى صفاته ويدل على صدق المدعي فلما كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة لا جرم لم يذكر في الكتاب دليلاً آخر
أما قوله قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى فالفتوى هي الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن أي أجيبوني في الأمر الفتى وقصدت بالانقطاع إليهم واستطلاع رأيهم تطييب قلوبهم مَا كُنتُ قَاطِعَة ً أَمْراً أَيُّ لا لَكَ أمْراً إلا بمحضركم
أما قوله قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّة ٍ فالمراد قوة الأجسام وقوة الآلات ( والعدد ) والمراد بالبأس النجدة ( والثبات ) في الحرب وحاصل الجواب أن القوم ذكروا أمرين أحدهما إظهار القوة الذاتية والعرضية ليظهر أنها إن أرادتهم للدفع والحرب وجدتهم بحيث تريد والآخر قولهم وَالاْمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ وفي ذلك إظهار الطاعة لها إن أرادت السلم ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا والله أعلم
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَة ً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّة َ أَهْلِهَآ أَذِلَّة ً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّى مُرْسِلَة ٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّة ٍ فَنَاظِرَة ٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ ءَاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّة ً وَهُمْ صَاغِرُونَ
اعلم أنها لما عرضت الواقعة على أكابر قومها وقالوا ما تقدم أظهرت رأيها وهو أن الملوك إذا دخلوا قرية بالقهر أفسدوها أي خربوها وأذلوا أعزتها فذكرت لهم عاقبة الحرب
وأما قوله وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ فقد اختلفوا أهو من كلامها أو من كلام الله تعالى كالتصويب لها والأقرب أنه من كلامها وأنها ذكرته تأكيداً لما وصفته من حال الملوك أما الكلام في صفة الهدية فالناس أكثروا فيها لكن لا ذكر لها في الكتاب وقولها فَنَاظِرَة ٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فيه دلالة على أنها لم تثق بالقبول وجوزت الرد وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان ولما وصلت الهدايا إلى سليمان عليه السلام ذكر أمرين الأول قوله أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فأظهر بهذا الكلام قلة الاكتراث بذلك المال
أما قوله بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن الهدية اسم للمهدي كما أن العطية اسم للمعطي فتضاف إلى المهدي وإلى المهدى إليه والمضاف إليه ههنا هو المهدى إليه والمعنى أن الله تعالى آتاني الدين الذي هو السعادة القصوى وآتاني من الدنيا ما لا مزيد عليه فكيف يستمال مثلي بمثل هذه الهدية بل أنتم تفرحون بما يهدى إليكم لكن حالي خلاف حالكم وثانيها بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون من حيث إنكم قدرتم على إهداء مثلها وثالثها كأنه قال بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها الثاني قوله ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فقيل ارجع خطاب للرسول وقيل للهدهد محملاً كتاباً آخر
أما قوله تعالى لاَّ قِبَلَ أي لا طاقة وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة أي لا يقدرون أن يقابلوهم وقرأ ابن مسعود ( لا قبل لهم بهم ) والضمير في ( منها ) لسبأ والذل أن يذهب عنهم ما كان عندهم من العز والملك والصغار أن يقعوا في أسر واستعباد ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً
قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِى ٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِى أَءَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِى ٌّ كَرِيمٌ
اعلم أن في قوله تعالى قَالَ يَاءادَمُ أَيُّهَا الْمَلاَ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا دلالة على أنها عزمت على اللحوق بسليمان ودلالة على أن أمر ذلك العرش كان مشهوراً فأحب أن يحصل عنده قبل حضورها واختلفوا في غرض سليمان عليه السلام من إحضار ذلك العرض على وجوه أحدها أن المراد أن يكون ذلك دلالة لبلقيس على قدرة الله تعالى وعلى نبوة سليمان عليه السلام حتى تنضم هذه الدلالة إلى سائر الدلائل التي سلفت وثانيها أراد أن يؤتى بذلك العرش فيغير وينكر ثم يعرض عليها حتى أنها هل تعرفه أو تنكره والمقصود اختبار عقلها وقوله تعالى قَالَ نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى ( النمل 41 ) كالدلالة على ذلك وثالثها قال قتادة أراد أن يأخذه قبل إسلامها لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها ورابعها أن العرش سرير المملكة فأراد أن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه
أما قوله قَالَ عِفْرِيتٌ مّن الْجِنّ فالعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه ومن الشياطين الخبيث المارد
أما قوله قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ فالمعنى من مجلسك ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت فقيل المراد مجلس الحكم بين الناس وقيل الوقت الذي يخطب فيه الناس وقيل إلى انتصاف النهار
وأما قوله لَقَوِى ٌّ أي على حمله أَمِينٌ آتي به كما هو لا أختزل منه شيئاً
أما قوله قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ ففيه بحثان
الأول اختلفوا في ذلك الشخص على قولين قيل كان من الملائكة وقيل كان من الإنس فمن قال بالأول اختلفوا قيل هو جبريل عليه السلام وقيل هو ملك أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام ومن قال بالثاني اختلفوا على وجوه أحدها قول ابن مسعود إنه الخضر عليه السلام وثانيها وهو المشهور من قول ابن عباس إنه آصف بن برخيا وزير سليمان وكان صديقاً يعلم الاسم الأعظم إذا دعا به أجيب وثالثها قول قتادة رجل من الإنس كان يعلم اسم الله الأعظم ورابعها قول ابن زيد كان رجلاً صالحاً في جزيرة في البحر خرج ذلك اليوم ينظر إلى سليمان وخامسها بل هو سليمان نفسه والمخاطب هو العفريت الذي كلمه وأراد سليمان عليه السلام إظهار معجزة فتحداهم أولاً ثم بين للعفريت أنه يتأتى له من سرعة الإتيان بالعرش ما لا يتهيأ للعفريت وهذا القول أقرب لوجوه أحدها أن لفظة ( الذي ) موضوعة
في اللغة للإشارة إلى شخص معين عند محاولة تعريفه بقصة معلومة والشخص المعروف بأنه عنده علم الكتاب هو سليمان عليه السلام فوجب انصرافه إليه أقصى ما في الباب أن يقال كان آصف كذلك أيضاً لكنا نقول إن سليمان عليه السلام كان أعرف بالكتاب منه لأنه هو النبي فكان صرف هذا اللفظ إلى سليمان عليه السلام أولى الثاني أن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لآصف دون سليمان لاقتضى ذلك تفضيل آصف على سليمان عليه السلام وأنه غير جائز الثالث أن سليمان عليه السلام لو افتقر في ذلك إلى آصف لاقتضى ذلك قصور حال سليمان في أعين الخلق الرابع أن سليمان قال هَاذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وظاهره يقتضي أن يكون ذلك المعجز قد أظهره الله تعالى بدعاء سليمان
البحث الثاني اختلفوا في الكتاب فقيل اللوم المحفوظ والذي عنده علم منه جبريل عليه السلام وقيل كتاب سليمان أو كتاب بعض الأنبياء ومعلوم في الجملة أن ذلك مدح وأن لهذا الوصف تأثيراً في نقل ذلك العرش فلذلك قالوا إنه الاسم الأعظم وإن عنده وقعت الإجابة من الله تعالى في أسرع الأوقات
أما قوله تعالى قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءاتِيكَ ففيه بحثان
الأول ( آتيك ) في الموضعين يجوز أن يكون فعلاً واسم فاعل
الثاني اختلفوا في قوله قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ على وجهين الأول أنه أراد المبالغة في السرعة كما تقول لصاحبك افعل ذلك في لحظة وهذا قول مجاهد الثاني أن نجريه على ظاهره والطرف تحريك الأجفان عند النظر فإذا فتحت الجفن فقد يتوهم أن نور العين امتد إلى المرئي وإذا أغمضت الجفن فقد يتوهم أن ذلك النور ارتد إلى العين فهذا هو المراد من ارتداد الطرف وههنا سؤال وهو أنه كيف يجوز والمسافة بعيدة أن ينقل العرش في هذا القدر من الزمان وهذا يقتضي إما القول بالطفرة أو حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في مكانين جوابه أن المهندسين قالوا كرة الشمس مثل كرة الأرض مائة وأربعة وستين مرة ثم إن زمان طلوعها زمان قصير فإذا قسمنا زمان طلوع تمام القرص على زمان القدر الذي بين الشام واليمن كانت اللمحة كثيرة فلما ثبت عقلاً إمكان وجود هذه الحركة السريعة وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات زال السؤال ثم إنه عليه السلام لما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر والكلام في تفسير الابتلاء قد مر غير مرة ثم إنه عليه السلام بين أن نفع الشكر عائد إلى الشاكر لا إلى الله تعالى أما أنه عائد إلى الشاكر فلوجوه أحدها أنه يخرج عن عهدة ما وجب عليه من الشكر وثانيها أنه يستمد به المزيد على ما قال لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ ( إبرهيم 7 ) وثالثها أن المشتغل بالشكر مشتغل باللذات الحسية وفرق ما بينهما كفرق ما بين المنعم والنعمة في الشرف ثم قال وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِى ٌّ كَرِيمٌ غني عن شكره لا يضره كفرانه كريم لا يقطع عنه نعمه بسبب إعراضه عن الشكر
قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِى أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ
اعلم أن قوله نَكّرُواْ معناه اجعلوا العرش منكراً مغيراً عن شكله كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه وذلك لأنه لو ترك على ما كان لعرفته لا محالة وكان لا تدل معرفتها به على ثبات عقلها وإذا غير دلت معرفتها أو توقفها فيه على فضل عقل ولا يمتنع صحة ما قيل إن سليمان عليه السلام ألقى إليه أن فيها نقصان عقل لكي لا يتزوجها أو لا تحظى عنده على وجه الحسد فأراد بما ذكرنا اختبار عقلها
أما قوله نَنظُرْ فقرىء بالجزم على الجواب وبالرفع على الاستئناف واختلفوا في أَتَهْتَدِى على وجهين أحدهما أتعرف أنه عرشها أم لا كما قدمنا الثاني أتعرف به نبوة سليمان أم لا ولذلك قال أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ وذلك كالذم ولا يليق إلا بطريقة الدلالة فكأنه عليه السلام أحب أن تنظر فتعرف به نبوته من حيث صار متنقلاً من المكان البعيد إلى هناك وذلك يدل على قدرة الله تعالى وعلى صدق سليمان عليه السلام ويعرف بذلك أيضاً فضل عقلها لأغراض كانت له فعند ذلك سألها
أما قوله أَهَكَذَا عَرْشُكِ فاعلم أن هكذا ثلاث كلمات حرف التنبيه وكاف التشبيه واسم الإشارة ولم يقل أهذا عرشك ولكن أمثل هذا عرشك لئلا يكون تلقيناً فقالت كَأَنَّهُ هُوَ ولم تقل هو هو ولا ليس به وذلك من كمال عقلها حيث توقفت في محل التوقف
أما قوله وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا ففيه سؤالان وهو أن هذا الكلام كلام من وأيضاً فعلى أي شيء عطف هذا الكلام وعنه جوابان الأول أنه كلام سليمان وقومه وذلك لأن بلقيس لما سئلت عن عرشها ثم إنها أجابت بقولها كَأَنَّهُ هُوَ فالظاهر أن سليمان وقومه قالوا إنها قد أصابت في جوابها وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام ثم عطفوا على ذلك قولهم وأوتينا نحن العلم بالله وبقدرته قبل علمها ويكون غرضهم من ذلك شكر الله تعالى في أن خصهم بمزية التقدم في الإسلام الثاني أنه من كلام بلقيس موصولاً بقولها كَأَنَّهُ هُوَ والمعنى وأوتينا العلم بالله وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو قبل هذه الحالة ثم أن قوله وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إلى آخر الآية يكون من كلام رب العزة
أما قوله تعالى وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ ففيه وجهان الأول المراد وصدها عبادتها لغير الله عن الإيمان الثاني وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل وقرىء أنها بالفتح على أنه بدل من فاعل صد وبمعنى لأنها واحتجت المعتزلة بهذه الآية فقالوا لو كان تعالى خلق الكفر فيها لم يكن الصاد لها كفرها المتقدم ولا كونها من جملة الكفار بل كان يكون الصاد لها عن الإيمان تجدد خلق الله الكفر فيها والجواب أما على التأويل الثاني فلا شك في سقوط الاستدلال وأما على الأول فجوابنا أن كونها من جملة الكفار صار سبباً لحصول الداعية المستلزمة للكفر وحينئذ يبقى ظاهر الآية موافقاً لقولنا والله أعلم
قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّة ً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى إقامتها على الكفر مع كل ما تقدم من الدلائل ذكر أن سليمان عليه السلام أظهر من الأمر ما صار داعياً لها إلى الإسلام وهو قوله قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ والصرح القصر كقوله فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً وقيل صحن الدار وقرأ ابن كثير عن سَاقَيْهَا بالهمز ووجهه أنه سمع سؤقاً فأجرى عليه الواحد والممرد المملس روي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض كالماء بياضاً ثم أرسل الماء تحته وألقى فيه السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الإنس والجن والطير وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاماً لأمره وتحققاً لنبوته وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية وقيل خافوا أن يولد له منها ولد فيجتمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا إن في عقلها نقصاناً وإنها شعراء الساقين ورجلها كحافر حمار فاختبر سليمان عقلها بتنكير العرش واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ومعلوم من حال الزجاج الصافي أنه يكون كالماء فلما أبصرت ذلك ظنته ماءاً راكداً فكشفت عن ساقيها لتخوضه فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً وهذا على طريقة من يقول تزوجها وقال آخرون كان المقصود من الصرح تهويل المجلس وتعظيمه وحصل كشف الساق على سبيل التبع فلما قيل لها هو صرح ممرد من قوارير استترت وعجبت من ذلك واستدلت به على التوحيد والنبوة فقالت رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فيما تقدم بالثبات على الكفر ثم قالت وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ وقيل حسبت أن سليمان عليه السلام يغرقها في اللجة فقالت ظلمت نفسي بسوء ظني سليمان واختلفوا في أنه هل تزوجها أم لا وأنه تزوجها في هذه الحال أو قبل أن كشفت عن ساقيها والأظهر في كلام الناس أنه تزوجها وليس لذلك ذكر في الكتاب ولا في خبر مقطوع بصحته ويروى عن ابن عباس أنها لما أسلمت قال لها اختاري من قومك من أزوجك منه فقالت مثلي لا ينكح الرجال مع سلطاني فقال النكاح من الإسلام فقالت إن كان كذلك فزوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن ولم يزل بها ملكاً والله أعلم
القصة الثالثة قصة صالح عليه السلام
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ ياقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِى الْمَدِينَة ِ تِسْعَة ُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَة ً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذالِكَ لاّيَة ً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
قرىء أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ بالضم على اتباع النون الباء
أما قوله فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ ففيه قولان أحدهما المراد فريق مؤمن وفريق كافر الثاني المراد قوم صالح قبل أن يؤمن منهم أحد
أما قوله يَخْتَصِمُونَ فالمعنى أن الذين آمنوا إنما آمنوا لأنهم نظروا في حجته فعرفوا صحتها وإذا كان كذلك فلا بد وأن يكون خصماً لمن لم يقبلها وإذا كان هذا الاختصام في باب الدين دل ذلك على أن الجدال في باب الدين حق وفيه إبطال التقليد
أما قوله قَالَ ياقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ ففيه بحثان الأول في تفسير استعجال السيئة قبل الحسنة وجهان أحدهما أن الذين كذبوا صالحاً عليه السلام لما لم ينفهم الحجاج توعدهم صالح عليه السلام بالعذاب فقالوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( العنكبوت 29 ) على وجه الاستهزاء فعنده قال صالح لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيّئَة ِ قَبْلَ الْحَسَنَة ِ والمراد أن الله تعالى قد مكنكم من التوصل إلى رحمة الله تعالى وثوابه فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه وثانيهما أنهم كانوا يقولون لجهلهم إن العقوبة التي يعدها صالح إن وقعت على زعمه أتينا حينئذ واستغفرنا فحينئذ يقبل الله توبتنا ويدفع العذاب عنا فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وقال هلا تستغفرون الله قبل نزول العذاب فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر
البحث الثاني أن المراد بالسيئة العقاب وبالحسنة الثواب فأما وصف العذاب بأنه سيئة فهو مجاز وسبب هذا التجويز إما لأن العقاب من لوازمه أو لأنه يشبهه في كونه مكروهاً وأما وصف الرحمة بأنها حسنة فمنهم من قال إنه حقيقة ومنهم من قال إنه مجاز والأول أقرب ثم إن صالحاً عليه السلام لما قرر هذا الكلام الحق أجابوه بكلام فاسد وهو قولهم اطَّيَّرْنَا بِكَ أي تشاءمنا بك لأن الذي يصيبنا من شد وقحط فهو بشؤمك وبشؤم من معك
قال صاحب ( الكشاف ) كان الرجل يخرج مسافراً فيمر بطائر فيزجره فإن مر سانحاً تيمن وإن مر بارحاً تشاءم فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان للخير والشر وهو قدر الله وقسمته فأجاب صالح عليه السلام بقوله طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ أي السبب الذي منه يجيء خيركم وشركم عند الله وهو قضاؤه وقدره إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم وقيل بل المراد إن جزاء الطيرة منكم عند الله وهو العقاب والأقرب الوجه الأول لأن القوم أشاروا إلى الأمر الحاصل فيجب في جوابه أن يكون فيه لا في غيره ثم بين أهذا جهل منهم بقوله بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ فيحتمل أن غيرهم دعاهم إلى هذا القول ويحتمل أن يكون المراد أن الشيطان يفتنكم بوسوسته ثم إنه سبحانه قال وَكَانَ فِى الْمَدِينَة ِ تِسْعَة ُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ والأقرب أن يكون المراد تسعة جمع إذ الظاهر من الرهط الجماعة لا الواحد ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد لاختلاف صفتهم وأحوالهم لا لاختلاف السبب فبين تعالى أنهم يفسدون في الأرض ولا يمزجون ذلك الفساد بشيء من الصلاح فلهذا قال يُفْسِدُونَ فِى الاْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ ثم بين تعالى أن من جملة ذلك ما هموا به من أمر صالح عليه السلام
أما قوله تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ فيحتمل أن يكون أمراً أو خبراً في محل الحال بإضمار قد أي قالوا متقاسمين والبيات متابعة العدو ليلاً
أما قوله ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ يعني لو اتهمنا قومه حلفنا لهم أنا لم نحضر وقرىء ( مهلك ) بفتح الميم واللام وكسرها من هلك ومهلك بضم الميم من أهلك ويحتمل المصدر والمكان والزمان ثم إنه سبحانه قال وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وقد اختلفوا في مكر الله تعالى على وجوه أحدها أن مكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون شبه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة روي أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فهلكوا وهلك الباقون بالصيحة وثانيها جاؤا بالليل شاهرين سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة يرون الأحجار ولا يرمون رامياً وثالثها أن الله تعالى أخبر صالحاً بمكرهم فتحرز عنهم فذاك مكر الله تعالى في حقهم
أما قوله أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ استئناف ومن قرأ بالفتح رفعه بدلاً من العاقبة أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هي تدمرهم أو نصبه على معنى لأنا أو على أنه خبر كان أي كان عاقبة مكرهم الدمار
أما قوله خَاوِيَة ٍ فهو حال عمل فيها ما دل عليه تلك وقرأ عيسى بن عمر ( خاوية ) بالرفع على خبر المبتدأ المحذوف والله أعلم
القصة الرابعة قصة لوط عليه السلام
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَءِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَة ً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخْرِجُوا ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ
قال صاحب ( الكشاف ) واذكر لوطاً أو أرسلنا لوطاً بدلالة وَلَقَدْ أَرْسَلنَا ( النمل 45 ) عليه و ( إذ ) بدل على الأول ظرف على الثاني
أما قوله أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَة َ فهو على وجه التنكير وإن كان بلفظ الاستفهام وربما كان التوبيخ بمثل هذا اللفظ أبلغ
أما قوله وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ففيه وجوه أحدها أنهم كانوا لا يتحاشون من إظهار ذلك على وجه الخلاعة ولا يتكاتمون وذلك أحد ما لأجله عظم ذلك الفعل منهم فذكر في توبيخه لهم ماله عظم ذلك الفعل وثانيها أن المراد بصر القلب أي تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا إليها وأن الله تعالى لم يخلق الذكر للذكر فهي مضادة لله في حكمته وثالثها تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم فإن قلت فسرت ( تبصرون ) بالعلم وبعده بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فكيف يكونون علماء وجهلاء قلت أراد تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك أو تجهلون العاقبة أو أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها ثم إنه تعالى بين جهلهم بأن حكى عنهم أنهم أجابوا عن هذا الكلام بما لا يصلح أن يكون جواباً له فقال فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءالَ لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
فجعلوا الذي لأجله يخرجون أنهم يتطهرون من هذا الصنيع الفاحش وهذا يوجب تنعيمهم وتعظيمهم أولى لكن في المفسرين من قال إنما قالوا ذلك على وجه الهزء ثم بين تعالى أنه نجاه وأهله إلا امرأته وأهلك الباقين وقد تقدم كل ذلك مشروحاً والله أعلم وههنا آخر القصص في هذه السورة والله أعلم
القول في خطاب الله عز وجل مع محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
في هذه الآية قولان الأول أنه متعلق بما قبله من القصص والمعنى الحمد لله على إهلاكهم وسلام على عباده الذين اصطفى بأن أرسلهم ونجاهم الثاني أنه مبتدأ فإنه تعالى لما ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام وكان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كالمخالف لمن قبله في أمر العذاب لأن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه أمره تعالى بأن يشكر ربه على ما خصه بهذه النعم وبأن يسلم على الأنبياء عليهم السلام الذين صبروا على مشاق الرسالة
فأما قوله اللَّهِ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ فهو تبكيت للمشركين وتهكم بحالهم وذلك أنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الله تعالى ولا يؤثر عاقل شيئاً على شيء إلا لزيادة خير ومنفعة فقيل لهم هذا الكلام تنبيهاً على نهاية ضلالهم وجهلهم وقرىء يُشْرِكُونَ بالياء والتاء عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه كان إذا قرأها قال ( بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم )
ثم اعلم أنه سبحانه وتعالى تكلم بعد ذلك في عدة فصول
الفصل الأول في الرد على عبدة الأوثان ومدار هذا الفصل على بيان أنه سبحانه وتعالى هو الخالق لأصول النعم وفروعها فكيف تحسن عبادة ما لا منفعة منه ألبتة ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر أنواعا
النوع الأول ما يتعلق بالسموات
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَة ٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) الفرق بين أم وأم في أَمَّا يُشْرِكُونَ و أَمَّنْ خَلَقَ أن الأولى متصلة لأن المعنى أيهما خير وهذه منقطعة بمعنى بل والحديقة البستان عليه سور من الإحداق وهو الإحاطة وقيل ذَاتُ لأن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة كما يقال النساء ذهبت والبهجة الحسن لأن الناظر يبتهج به مَّعَ الله بَلْ أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له وقرىء أَنَّ مَعَ اللَّهِ بمعنى ( تدعون أو تشركون )
المسألة الثانية أنه تعالى بين أنه الذي اختص بأن خلق السموات والأرض وجعل السماء مكاناً للماء والأرض للنبات وذكر أعظم النعم وهي الحدائق ذات البهجة ونبه تعالى على أن هذا الإنبات في الحدائق لا يقدر عليه إلا الله تعالى لأن أحدنا لو قدر عليه لما احتاج إلى غرس ومصابرة على ظهور الثمرة وإذا كان تعالى هو المختص بهذا الإنعام وجب أن يخص بالعبادة ثم قال بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ وقد
اختلفوا فيه فقيل يعدلون عن هذا الحق الظاهر وقيل يعدلون بالله سواه ونظير هذه الآية أول سورة الإنعام
المسألة الثالثة يقال ما حكمة الالتفات في قوله فَأَنبَتْنَا جوابه أنه لا شبهة للعاقل في أن خالق السموات والأرض ومنزل الماء من السماء ليس إلا الله تعالى وربما عرضت الشبهة في أن منبت الشجرة هو الإنسان فإن الإنسان يقول أنا الذي ألقى البذر في الأرض الحرة وأسقيها الماء وأسعى في تشميسها وفاعل السبب فاعل للمسبب فإذن أنا المنبت للشجرة فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم أزال هذا الاحتمال فرجع من لفظ الغيبة إلى قوله فَأَنبَتْنَا وقال مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا لأن الإنسان قد يأتي بالبذر والسقي والكرب والتشميس ثم لا يأتي على وفق مراده والذي يقع على وفق مراده فإنه يكون جاهلاً بطبعه ومقداره وكيفيته فكيف يكون فاعلاً لها فلهذه النكتة حسن الالتفات ههنا
النوع الثاني ما يتعلق بالأرض
أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِى َ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلاهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
قال صاحب ( الكشاف ) أَمَّن جَعَلَ وما بعده بدل من أَمَّنْ خَلَقَ ( النمل 6 ) فكان ( حكمها ) حكمه
واعلم أنه تعالى ذكر من منافع الأرض أموراً أربعة
المنفعة الأولى كونها قراراً وذلك لوجوه الأول أنه دحاها وسواها للاستقرار الثاني أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة والرخاوة فليست في الصلابة كالحجر الذي يتألم الإنسان بالاضطجاع عليه وليست في الرخاوة كالماء الذي يغوص فيه الثالث أنه تعالى جعلها كثيفة غبراء ليستقر عليها النور ولو كانت لطيفة لما استقر النور عليها ولو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات الرابع أنه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها عن مدار منطقة الكل بحيث تبعد تارة وتقرب أخرى من سمت الرأس ولولا ذلك لما اختلفت الفصول ولما حصلت المنافع الخامس أنه سبحانه وتعالى جعلها ساكنة فإنها لو كانت متحركة لكانت إما متحركة على الاستقامة أو على الاستدارة وعلى التقديرين لا يحصل الانتفاع بالسكنى على الأرض السادس أنه سبحانه جعلها كفاتاً للأحياء والأموات وأنه يطرح عليها كل قبيح ويخرج منها كل مليح
المنفعة الثانية الأرض قوله وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً فاعلم أن أقسام المياه المنبعثة عن الأرض أربعة الأول ماء العيون السيالة وهي تنبعث من أبخرة كثيرة المادة قوية الاندفاع تفجر الأرض بقوة ثم لا يزال يستتبع جزء منها جزءاً الثاني ماء العيون الراكدة وهي تحدث من أبخرة بلغت من قوتها أن اندفعت
إلى وجه الأرض ولم تبلغ من قوتها وكثرة مادتها أن يطرد تاليها سابقها الثالث مياه القنى والأنهار وهي متولدة من أبخرة ناقصة القوة على أن تشق الأرض فإذا أزيل عن وجهها ثقل التراب صادفت حينئذ تلك الأبخرة منفذاً تندفع إليه بأدنى حركة الرابع مياه الآبار وهي نبعية كمياه الأنهار إلا أنه لم يجعل له سيل إلى موضع يسيل إليه ونسبة القنى إلى الآبار نسبة العيون الراكدة فقد ظهر أنه لولا صلابة الأرض لما اجتمعت تلك الأبخرة في باطنها إذ لولا اجتماعها في باطنها لما حدثت هذه العيون في ظاهرها
المنفعة الثالثة للأرض قوله وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِى َ والمراد منها الجبال فنقول أكثر العيون والسحب والمعدنيات إنما تكون في الجبال أو فيما يقرب منها أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فإذن هذه الأبخرة لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرض فلا جرم كانت أقواها على حبس هذا البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءاً ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الأنبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئاً من البخار يتحلل ونفس الأرض التي تحته كالقرعة والعيون كالأذناب والبخار كالقوابل ولذلك فإن أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وذلك الأقل لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة وأما أن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه ثلاثة أحدها أن في باطن الجبال من النداوات مالا يكون في باطن الأرضين الرخوة وثانيها أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الأنداء ومن الثلوج ما لا يبقى على ظهر سائر الأرضين وثالثها أن الأبخرة الصاعدة تكون محبوسة بالجبال فلا تتفرق ولا تتحلل وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب كثرة السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهراً وباطناً أكثر والاحتقان أشد السبب المحلل وهو الحر أقل فلذلك كانت السحب في الجبال أكثر وأما المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة يكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإلى بقاء مدة طويلة يتم النضج فيها فلا شيء لها في هذا المعنى كالجبال
المنفعة الرابعة للأرض قوله وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً فالمقصود منه أن لا يفسد العذب بالاختلاط وأيضاً فلينتفع بذلك الحاجز وأيضاً المؤمن في قلبه بحران بحر الإيمان والحكمة وبحر الطغيان والشهوة وهو بتوفيقه جعل بينهما حاجزاً لكي لا يفسد أحدهما بالآخر وقال بعض الحكماء في قوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 19 20 ) قال عند عدم البغي يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ( الرحمن 22 ) فعند عدم البغي في القلب يخرج الدين والإيمان بالشكر فإن قيل ولم جعل البحر ملحاً قلنا لولا ملوحته لأجن وانتشر فساد أجونته في الأرض وأحدث الوباء العام واعلم أن اختصاص البحر بجانب من الأرض دون جانب أمر غير واجب بل الحق أن البحر ينتقل في مدد لا تضبطها التواريخ المنقولة من قرن إلى قرن لأن استمداد البحر في الأكثر من الأنهار والأنهار تستمد في الأكثر من العيون وأما مياه السماء فإن حدوثها في فصل بعينه دون فصل ثم لا العيون ولا مياه السماء يجب أن تتشابه أحوالها في بقاع واحدة بأعيانها تشابهاً مستمراً فإن كثيراً من العيون يغور وكثيراً ما تقحط السماء فلا بد حينئذ من نضوب الأودية والأنهار فيعرض بسبب ذلك نضوب البحار وإذا حدثت العيون من جانب آخر حدثت
الأنهار هناك فحصلت البحار من ذلك الجانب ثم إنه سبحانه لما بين أنه هو المختص بالقدرة على خلق الأرض التي فيها هذه المنافع الجليلة وجب أن يكون هو المختص بالإلهية ونبه بقوله تعالى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ على عظم جهلهم بالذهاب عن هذا التفكر
النوع الثالث ما يتعلق باحتياج الخلق إليه سبحانه
أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّو ءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرض أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
اعلم أنه سبحانه نبه في هذه الآية على أمرين أحدهما قوله أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ قال صاحب ( الكشاف ) الضرورة الحالة المحوجة إلى الالتجاء والاضطرار افتعال منها يقال اضطره إلى كذا والفاعل والمفعول مضطر واعلم أن المضطر هو الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى التضرع إلى الله تعالى وعن السدي الذي لا حول له ولا قوة وقيل المذنب إذا استغفر فإن قيل قد عم المضطرين بقوله أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وكم من مضطر يدعو فلا يجاب جوابه قد بينا في أصول الفقه أن المفرد المعرف لا يفيد العموم وإنما يفيد الماهية فقط والحكم المثبت للماهية يكفي في صدقه ثبوته في فرد واحد من أفراد الماهية وأيضاً فإنه تعالى وعد بالاستجابة ولم يذكر أنه يستجيب في الحال وتمام القول في شرائط الدعاء والإجابة مذكور في قوله تعالى وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) فأما قوله تعالى وَيَكْشِفُ السُّوء فهو كالتفسير للاستجابة فإنه لا يقدر أحد على كشف ما دفع إليه من فقر إلى غنى ومرض إلى صحة وضيق إلى سعة إلا القادر الذي لا يعجز والقاهر الذي لا ينازع وثانيهما قوله وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء الاْرْضِ فالمراد توارثهم سكناها والتصرف فيها قرناً بعد قرن وأراد بالخلافة الملك والتسلط وقرىء يَذَّكَّرُونَ بالياء مع الإدغام وبالتاء مع الإدغام وبالحذف وما مزيدة أي يذكرون تذكرا قليلاً والمعنى نفي التذكر والقلة تستعمل في معنى النفي
النوع الرابع ما يتعلق أيضاً باحتياج الخلق ولكنه حاجة خاصة في وقت خاص
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
اعلم أنه تعالى نبه في هذه الآية على أمرين الأول قوله أَمَّن يَهْدِيكُمْ والمراد يهديكم بالنجوم في السماء والعلامات في الأرض إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر الثاني قوله وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ فإنه سبحانه هو الذي يحرك الرياح فتثير السحاب ثم تسوقه إلى حيث يشاء فإن قيل لا نسلم أنه تعالى هو الذي يحرك الرياح فإن الفلاسفة قالت الرياح إنما تتولد عن الدخان وليس الدخان كله هو الجسم الأسود المرتفع مما احترق بالنار بل كل جسم أرضي يرتفع بتصعيد الحرارة سواء كانت الحرارة حرارة النار أو حرارة الشمس فهو دخان قالوا وتولد الرياح من الأدخنة على وجهين أحدهما أكثري والآخر أقلي أما الأكثري فهو أنه إذا صعدت أدخنة كثيرة إلى فوق فعند وصولها إلى الطبقة الباردة إما أن ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء أو لا ينكسر فإن انكسر فلا محالة يثقل وينزل فيحصل من نزولها تموج الهواء فتحدث الريح وإن لم ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء فلا بد وأن يتصاعد إلى أن يصل إلى كرة النار المتحركة بحركة الفلك وحينئذ لا يتمكن من الصعود بسبب حركة النار فترجع تلك الأدخنة وتصير ريحاً لا يقال لو كان اندفاع هذه الأدخنة بسبب حركة الهواء العالي لما كانت حركتها إلى أسفل بل إلى جهة حركة الهواء العالي لأنا نقول الجواب من وجهين أحدهما أنه ربما أوجبت هيئة صعود تلك الأدخنة وهيئة لحوق المادة بها أن يتحرك إلى خلاف جهة المتحرك المانع كالسهم يصيب جسماً متحركاً فيعطفه تارة إلى جهته إن كان الحابس كما يقدر على صرف المتحرك عن متوجهه يقدر أيضاً على صرفه إلى جهة حركة نفسه وتارة إلى خلاف تلك الجهة إذا كان المفارق يقدر على الحبس ولا يقدر على الصرف الثاني أنه ربما كان صعود بعض الأدخنة من تحت مانعاً للأدخنة النازلة من فوق إلى أن يتسفل ذلك فلأجل هذا السبب يتحرك إلى سائر الجوانب واعلم أن لأهل الإسلام ههنا مقامين الأول أن يقيم الدلالة على فساد هذه العلة وبيانه من وجهين الأول أن الأجزاء الدخانية أرضية فهي أثقل من الأجزاء البخارية المائية ثم إن البخار لما يبرد ينزل على الخط المستقيم مطراً فالدخان لما برد فلماذا لم ينزل على الخط المستقيم بل ذهب يمنة ويسرة الثاني أن حركة تلك الأجزاء إلى أسفل طبيعية وحركتها يمنة ويسرة عرضية والطبيعية أقوى من العرضية وإذا لم يكن أقوى فلا أقل من المساواة ثم إن الريح عند حركتها يمنة ويسرة ربما تقوى على قلع الأشجار ورمي الجدار بل الجبال فتلك الأجزاء الدخانية عندما تحركت حركتها الطبيعية التي لها وهي الحركة إلى السفل وجب أن تهدم السقف ولكنا نرى الغبار الكثير ينزل من الهواء ويسقط على السقف ولا يحس بنزوله فضلاً عن أن يهدمه فثبت فساد ما ذكروه المقام الثاني هب أن الأمر كما ذكروه ولكن الأسباب الفاعلية والقابلية لها مخلوقة لله سبحانه وتعالى فإنه لولا الشمس وتأثيرها في تصعيد الأبخرة والأدخنة ولولا طبقات الهواء وإلا لما حدثت هذه الأمور ومعلوم أن من وضع أسباباً فأدته إلى منافع عجيبة وحكم بالغة فذلك الواضع هو الذي فعل تلك المنافع فعلى جميع الأحوال لا بد من شهادة هذه الأمور على مدبر حكيم واجب لذاته قطعاً لسلسلة الحاجات
النوع الخامس ما يتعلق بالحشر والنشر
أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض أَءِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
اعلم أنه تعالى لما عدد نعم الدنيا أتبع ذلك بنعم الآخرة بقوله أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ لأن نعم الآخرة بالثواب لا تتم إلا بالإعادة بعد الابتداء والإبلاغ إلى حد التكليف فقد تضمن الكلام كل هذه النعم ومعلوم أنها لا تتم إلا بالأرزاق فلذلك قال وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَّمَاء والاْرْضِ ثم قال مَّعَ الله بَلْ منكراً لما هم عليه ثم بين بقوله قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أن لا برهان لكم فإذن هم مبطلون وهذا يدل على أنه لا بد في الدعوى من وعلى فساد التقليد فإن قيل كيف قيل لهم أَم مَّنْ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهم منكرون للإعادة جوابه كانوا معترفين بالابتداء ودلالة الابتداء على الإعادة دلالة ظاهرة قوية فلما كان الكلام مقروناً بالدلالة الظاهرة صاروا كأنهم لم يبق لهم عذر في الإنكار وههنا آخر الدلائل المذكورة على كمال قدرة الله تعالى
قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاواتِ والأرض الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاٌّ خِرَة ِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين أنه المختص بالقدرة فكذلك بين أنه هو المختص بعلم الغيب وإذا ثبت ذلك ثبت أنه هو الإله المعبود لأن الإله هو الذي يصح منه مجازاة من يستحق الثواب على وجه لا يلتبس بأهل العقاب فإن قيل الاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لوجب أو لصح دخوله تحت المستثنى منه ودلت الآية ههنا على استثناء الله سبحانه وتعالى عمن في السموات والأرض فوجب كونه ممن في السموات والأرض وذلك يوجب كونه تعالى في المكان والجواب هذه الآية متروكة الظاهر لأن من قال إنه تعالى في المكان زعم أنه فوق السموات ومن قال إنه ليس في مكان فقد نزهه عن كل الأمكنة فثبت بالإجماع أنه تعالى ليس في السموات والأرض فإذن وجب تأويله فنقول إنه تعالى ممن في السموات والأرض كما يقول المتكلمون الله تعالى في كل مكان على معنى أن علمه في الأماكن كلها لا يقال إن كونه في السموات والأرض مجاز وكونهم فيهن حقيقة وإرادة المتكلم بعبارة واحدة ومجازاً غير جائزة لأنا نقول كونهم في السموات والأرض كما أنه حاصل حقيقة وهو حصول ذواتهم في الأحياز فكذلك حاصل مجازاً وهو كونهم عالمين
بتلك الأمكنة فإذا حملنا هذه الغيبة على المعنى المجازي وهو الكون فيها بمعنى العلم دخل الرب سبحانه وتعالى والعبيد فيه فصح الاستثناء
أما قوله وَمَا يَشْعُرُونَ فهو صفة لأهل السموات والأرض نفى أن يكون لهم علم الغيب وذكر في جملة الغيب متى البعث بقوله أَيَّانَ يُبْعَثُونَ فأيان بمعنى متى وهي كلمة مركبة من أي والآن وهو الوقت وقرىء أَيَّانَ بكسر الهمزة
أما قوله بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاْخِرَة ِ فاعلم أن كلام صاحب ( الكشاف ) فيه مرتب على ثلاثة أبحاث
البحث الأول فيه اثنتا عشرة قراءة بل أدرك بل أدرك بل ادارك بل تدارك بل أأدرك بهمزتين بل آأدرك بألف بينهما بل آدرك بالتخفيف والنقل بل ادرك بفتح اللام وتشديد الدال وأصله بل أدرك على الاستفهام بلى أدرك بلى أأدرك أم تدارك أو أدرك
البحث الثانث ادارك أصله تدارك فأدغمت التاء في الدال وادَّرك افتعل
البحث الثالث معنى ادَّرك علمهم انتهى وتكامل وأدرك تتابع واستحكم ثم فيه وجوه أحدها أن أسباب استحكام العلم وتكامله بأن القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم ومكنوا من معرفتها وهم شاكون جاهلون وذلك قوله بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا بَلْ هُم مّنْهَا عَمُونَ يريد المشركين ممن في السماوات والأرض لأنهم لما كانوا من جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع كما يقال بنو فلان فعلوا كذا وإنما فعله ناس منهم فإن قيل الآية سيقت لاختصاص الله تعالى بعلم الغيب وإن العباد لا علم لهم بشيء منه وإن وقت بعثهم ونشورهم من جملة الغيب وهم لا يشعرون به فكيف ناسب هذا المعنى وصف المشركين بإنكارهم البعث مع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة والجواب كأنه سبحانه قال كيف يعلمون الغيب مع أنهم شكوا في ثبوت الآخرة التي دلت الدلائل الظاهرة القاهرة عليها فمن غفل عن هذا الشيء الظاهر كيف يعلم الغيب الذي هو أخفى الأشياء الوجه الثاني أن وصفهم باستحكام العلم تهكم بهم كما تقول لأجهل الناس ما أعلمك على سبيل الهزء وذلك حيث شكوا في إثبات ما الطريق إليه واضح ظاهر الوجه الثالث أن يكون أدرك بمعنى انتهى وفنى من قولك أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك أما وجه قراءة من قرأ بل أأدرك على الاستفهام فهو أنه استفهام على وجه الإنكار لإدراك علمهم وكذا من قرأ أم أدرك وأم تدارك لأنها أم هي التي بمعنى بل والهمزة وأما من قرأ بلى أدرك فإنه لما جاء ببلى بعد قوله وَمَا يَشْعُرُونَ كان معناه بلى يشعرون ثم فسر الشعور بقوله أدرك علمهم في الآخرة على سبيل التهكم الذي معناه المبالغة في نفي العلم فكأنه قال شعورهم بوقت الآخرة أنهم لا يعلمون كونها فيرجع إلى نفي الشعور على أبلغ ما يكون وأما من قرأ بلى أأدرك على الاستفهام فمعناه بلى يشعرون متى يبعثون ثم أنكر علمهم بكونها وإذ أنكر علمهم بكونها وإذا أنكر علمهم بكونها لم يتحصل لهم شعور بوقت كونها فإن قلت هذه الإضرابات الثلاث ما معناها قلت ماهي إلا بيان درجاتهم وصفهم أولاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم بأنهم لا يعلون أن القيامة كائنة ثم بأنهم يخبطون في شك ومرية ثم بما هو أسوأ حالاً وهو العمى وفيه نكتة وهي أنه تعالى جعل الآخرة مبدأ
عماهم فلذلك عداه بمن دون عن لأن الفكر بالعاقبة والجزاء هو الذي جعلهم كالبهائم
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَآؤُنَآ أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَآئِبَة ٍ فِى السَّمَآءِ والأرض إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في حال المبدأ تكلم بعده في حال المعاد وذلك لأن الشك في المعاد لا ينشأ إلا من الشك في كمال القدرة أو في كمال العلم فإذا ثبت كونه تعالى قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات ثبت أنه تعالى يمكنه تمييز أجزاء بدن كل واحد من المكلفين عن أجزاء بدن غيره وثبت أنه قادر على أن يعيد التركيب والحياة إليها وإذا ثبت إمكان ذلك ثبت صحة القول بالحشر فلما بين الله تعالى هذين الأصلين فيما قبل هذه الآية لا جرم لم يحكه في هذه الآية فحكى عنهم أنهم تعجبوا من إخراجهم أحياء وقد صاروا تراباً وطعنوا فيه من وجهين الأول قولهم لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا أي هذا كلام كما قيل لنا فقد قيل لمن قبلنا ولم يظهر له أثر فهو إذن من أساطير الأولين يريدون ما لا يصح من الأخبار فإن قيل ذكر ههنا لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا وفي آية أخرى لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هَاذَا ( المؤمنون 83 ) فما الفرق قلنا التقديم دليل على أن المقدم هو المقصود الأصلي وأن الكلام سيق لأجله ثم إنه سبحانه لما كان قد بين الدلالة على هذين الأصلين ومن الظاهر أن كل من أحاط بهما فقد عرف صحة الحشر والنشر ثبت أنهم أعرضوا عنها ولم يتأملوها وكان سبب ذلك الإعراض حب الدنيا وحب الرياسة والجاه وعدم الانقياد للغير لا جرم اقتصر على بيان أن الدنيا فانية زائلة فقال قُلْ سِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الْمُجْرِمِينَ وفيه سؤالان
السؤال الأول لم لم يقل كيف كانت عاقبة المجرمين جوابه لأن تأنيثها غير حقيقي ولأن المعنى كيف كان آخر أمرهم
السؤال الثاني لم لم يقل عاقبة الكافرين جوابه الغرض أن يحصل التخويف لكل العصاة ثم إنه تعالى صبر رسوله على ما يناله من هؤلاء الكفار فقال وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ فجمع بين إزالة الغم عنه بكفرهم وبين إزالة الخوف من جانبهم وصار ذلك كالتكفل بنصرته عليهم وقوله وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ أي في حرج قلب يقال ضاق الشيء ضيقاً وضيقاً بالفتح والكسر والضيق تخفيف الضيق ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم الوجه الثاني للكفار قولهم مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ وقوله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ دل على أنهم ذكروا ذلك على سبيل السخرية فأجاب الله تعالى بقوله عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ ( البقرة 195 ) أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو دنا لكم وأزف لكم ومعناه تبعكم ولحقكم وقرأ الأعرج رَدِفَ لَكُم بوزن ذهب وهما لغتان والكسر أفصح وههنا بحثان
البحث الأول أن عسى ولعل في وعد الملوك ووعيدهم يدلان على صدق الأمر وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام لوثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده
الثاني أنه قد ثبت بالدلائل العقلية أن عذاب الحجاب أشد من عذاب النار ولذلك قال كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ( المطففين 15 16 ) فقدم الحجاب على الجحيم ثم إنهم كانوا محجوبين في الحال فكان سبب العذاب بكماله حاصلاً إلا أن الاشتغال بالدنيا ولذاتها كالعائق عن إدراك ذلك الألم كما أن العضو الخدر إذا مسته النار فإن سبب الألم حاصل في الحال لكنه لا يحصل الشعور بذلك الألم لقيام العائق فإذا زال العائق عظم البلاء فكذا ههنا إذا زال البدن عظم عذاب الحجاب فقوله سبحانه عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ يعني المقتضي له والمؤثر فيه حاصل وتمامه إنما يحصل بعد الموت ثم إنه سبحانه بين السبب في ترك تعجيل العذاب فقال وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ والفضل الإفضال ومعناه أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة وأكثرهم لا يعرفون هذه النعمة ولا يشكرونها وهذه الآية تبطل قول من قال إنه لا نعمة لله على الكفار ثم بين سبحانه أنه مطلع على ما في قلوبهم فقال وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وههنا بحث عقلي وهو أنه قدم ما تكنه صدورهم على ما يعلنون من العلم والسبب أن ما تكنه صدورهم هو الدواعي والقصود وهي أسباب لما يعلنون وهي أفعال الجوارح والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول فهذا هو السبب في ذلك التقديم قرىء ( تكن ) يقال كننت الشيء وأكننته إذا سترته وأخفيته يعني أنه تعالى يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة الرسول ومكايدهم
أما قوله وَمَا مِنْ غَائِبَة ٍ فقال صاحب ( الكشاف ) سمى الشيء الذي يغيب ويخفى غائبة وخافية فكانت التاء فيها بمنزلتها في العاقبة والعافية والنطيحة والذبيحة والرمية في أنها أسماء غير صفات ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة كالراوية في قولهم ويل للشاعر من راوية السوء كأنه تعالى قال وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله تعالى وأحاط به وأثبته في اللوح المحفوظ والمبين الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة
إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لِّلْمُؤمِنِينَ إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِأايَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ
اعلم أنه سبحانه لما تمم الكلام في إثبات المبدإ والمعاد ذكر بعد ذلك ما يتعلق بالنبوة ولما كانت العمدة الكبرى في إثبات نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) هو القرآن لا جرم بين الله تعالى أولاً كونه معجزة من وجوه أحدها أن الأقاصيص المذكورة في القرآن موافقة لما كانت مذكورة في التوراة والإنجيل مع العلم بأنه عليه الصلاة والسلام كان أمياً وأنه لم يخالط أحداً من العلماء ولم يشتغل قط بالاستفادة والتعلم فإذن لا يكون ذلك إلا من قبل الله تعالى واختلفوا فقال بعضهم أراد به ما اختلفوا فيه وتباينوا وقال آخرون أراد به ما حرفه بعضهم وقال بعضهم بل أراد به أخبار الأنبياء والأول أقرب وثانيها قوله وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَة ٌ لّلْمُؤمِنِينَ وذلك لأن بعض الناس قال إنا لما تأملنا القرآن فوجدنا فيه من الدلائل العقلية على التوحيد والحشر والنبوة وشرح صفات الله تعالى وبيان نعوت جلاله ما لم نجده في شيء من الكتب ووجدنا ما فيه من الشرائع مطابقة للعقول موافقة لها وجدناه مبرأ عن التناقض والتهافت فكان هدى ورحمة من هذه الجهات ووجدنا القوى البشرية قاصرة على جمع كتاب على هذا الوجه فعلمنا أنه ليس إلا من عند الله تعالى فكان القرآن معجزاً من هذه الجهة وثالثها أنه هدى ورحمة للمؤمنين لبلوغه في الفصاحة إلى حيث عجزوا عن معارضته وذلك معجز ثم إنه تعالى لما بين كونه معجزاً دالاً على الرسالة ذكر بعده أمرين الأول قوله إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ والمراد أن القرآن وإن كان يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون لكن لا تكن أنت في قيدهم فإن ربك هو الذي يقضي بينهم أي بين المصيب والمخطىء منهم وذلك كالزجر للكفار فلذلك قال وَهُوَ الْعَزِيزُ أي القادر الذي لا يمنع العليم بما يحكم فلا يكون إلا الحق فإن قيل القضاء والحكم شيء واحد فقوله يَقْضِى بِحُكْمِهِ كقوله يقضي بقضائه ويحكم بحكمه والجواب معنى قوله بِحُكْمِهِ أي بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل أو أراد بحكمه ويدل عليه قراءة من قرأ ( بحكمه ) جمع حكمة الثاني أنه تعالى أمره بعد ظهور حجة رسالته بأن يتوكل على الله ولا يلتفت إلى أعداء الله ويشرع في تمشية مهمات الرسالة بقلب قوي فقال فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثم علل ذلك بأمرين أحدهما قوله إِنَّكَ عَلَى الْحَقّ الْمُبِينِ وفيه بيان أن المحق حقيق بنصرة الله تعالى وأنه لا يخذل وثانيهما قوله إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وإنما حسن جعله سبباً للأمر بالتوكل وذلك
لأن الإنسان ما دام يطمع في أحد أن يأخذ منه شيئاً فإنه لا يقوى قلبه على إظهار مخالفته فإذا قطع طمعه عنه قوي قلبه على إظهار مخالفته فالله سبحانه وتعالى قطع محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) عنهم بأن بين له أنهم كالموتى وكالصم وكالعمى فلا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ولا يلتفتون إلى شيء من الدلائل وهذا سبب لقوة قلبه عليه الصلاة والسلام على إظهار الدين كما ينبغي فإن قيل ما معنى قوله إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ جوابه هو تأكيد لحال الأصم لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن تولى عنه مدبراً كان أبعد عن إدراك صوته
أما قوله تعالى وَمَا أَنتَ بِهَادِى الْعُمْى ِ عَن ضَلَالَتِهِمْ فالمعنى ما يجدي إسماعك إلا الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته أي يصدقون بها فهم مسلمون أي مخلصون من قوله بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ( البقرة 112 ) يعني جعله سالماً لله تعالى خالصاً له والله أعلم
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّة ً مِّنَ الأرض تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِأايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّة ٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِأايَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِأايَاتِى وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
اعلم أن الله تعالى بين بالدلائل القاهرة كمال القدرة وكمال العلم ثم فرع عليهما القول بإمكان الحشر ثم بين الوجه في كون القرآن معجزاً ثم فرع عليه نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم تكلم الآن في مقدمات قيام القيامة وإنما أخر تعالى الكلام في هذا الباب عن إثبات النبوة لما أن هذه الاْشياء لا يمكن معرفتها إلا بقول النبي الصادق وهذا هو النهاية في جودة الترتيب واعلم أنه تعالى ذكر تارة ما يكون كالعلامة لقيام القيامة وتارة الأمور التي تقع عند قيام القيامة فذكر أولاً من علامات القيامة دابة الأرض والناس تكلموا فيها من وجوه أحدها في مقدار جسمها وفي الحديث أن طولها ستون ذراعاً وروي أيضاً أن رأسها تبلغ السحاب وعن أبي هريرة ما بين قرنيها فرسخ للراكب وثانيها في كيفية خلقتها فروي أن لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان وعن ابن جريج في وصفها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن إيَّل وصدر أسد ولون نمر وخاصرة ( بقرة ) وذنب كبش وخف بعير وثالثها في كيفية خروجها عن علي عليه السلام أنه تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها وعن الحسن لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام ورابعها في موضع خروجها ( سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أين تخرج الدابة فقال من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى المسجد
الحرام ) وقيل تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية وخامسها في عدد خروجها فروي أنها تخرج ثلاث مرات تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية ثم تكمن دهراً طويلاً فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد فقوم يهربون وقوم يقفون ( نظارة )
واعلم أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور فإن صح الخبر فيه عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قبل وإلا لم يلتفت إليه
أما قوله تعالى وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم فالمراد من القول متعلقه وهو ما وعدوا به من قيام الساعة ووقوعه حصوله والمراد مشارفة الساعة وظهور أشراطها أما دابة الأرض فقد عرفتها
وأما قوله تُكَلّمُهُمْ فقرىء ( تكْلِمهم ) من الكلم وهو الجرح روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا موسى عليه السلام وخاتم سليمان فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى عليه السلام فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه وتنكت الكافر في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه واعلم أنه يجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضاً على معنى التكثير يقال فلان مكلم أي مجرح وقرأ أبي ( تنبئهم ) وقرأ ابن مسعود تكلمهم بأن الناس والقراءة بإن مكسورة حكاية لقول الدابة ذلك أو هي حكاية لقول الله تعالى بين به أنه أخرج الدابة لهذه العلة فإن قيل إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف يقول ( بآياتنا ) جوابه أن قولها حكاية لقول الله تعالى أو على معنى بآيات ربنا أو لاختصاصها بالله تعالى أضافت آيات الله إلى نفسها كما يقال بعض خاصة الملك خيلنا وبلادنا وإنما هي خيل مولاه وبلاده ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار أي تكلمهم بأن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون
وأما قوله وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّة ٍ فَوْجاً مّمَّن يُكَذّبُ بِئَايَاتِنَا فاعلم أن هذا من الأمور الواقعة بعد قيام القيامة فالفرق بين من الأولى والثانية أن الأولى للتبعيض والثانية للتبيين كقوله مِنَ الاْوْثَانِ ( الحج 30 )
أما قوله فَهُمْ يُوزَعُونَ معناه يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه كما وصفت جنود سليمان بذلك وقوله حَتَّى إِذَا جَاءوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِئَايَاتِى فهذا وإن احتمل معجزات الرسل كما قاله بعضهم فالمراد كل الآيات فيدخل فيه سائر الكفار الذين كذبوا بآيات الله أجمع أو بشيء منها
أما قوله وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً فالواو للحال كأنه قال أكذبتم بها بادي الرأي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها
أما قوله بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فالمراد لما لم تشتغلوا بذلك العمل المهم فأي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك ا كأنه قال كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل ثم قال وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب تكذيبهم بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار كقوله هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ ( المرسلات 35 ) ثم إنه سبحانه بعد أن خوفهم بأحوال القيامة ذكر كلاماً يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً
أما وجه دلالته على التوحيد فلما ظهر في العقول أن التقليب من النور إلى الظلمة ومن الظلمة إلى النور لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية وإما وجه دلالته على الحشر فلأنه لما ثبتت قدرته تعالى في هذه الصورة على القلب من النور إلى الظلمة وبالعكس فأي امتناع في ثبوت قدرته على القلب من الحياة إلى الموت مرة ومن الموت إلى الحياة أخرى وأما وجه دلالته على النبوة فلأنه تعالى يقلب الليل والنهار لمنافع المكلفين وفي بعثة الأنبياء والرسل إلى الخلق منافع عظيمة فما المانع من بعثتهم إلى الخلق لأجل تحصيل تلك المنافع فقد ثبت أن هذه الكلمة الواحدة كافية في إقامة الدلالة على تصحيح الأصول الثلاثة التي منها منشؤ كفرهم واستحقاقهم العذاب ثم في الآية سؤالان
السؤال الأول ما السبب في أن جعل الإبصار للنهار وهو لأهله جوابه تنبيهاً على كمال هذه الصفة فيه
السؤال الثاني لما قال جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ فلم لم يقل والنهار لتبصروا فيه جوابه لأن السكون في الليل هو المقصود من الليل وأما الإبصار في النهار فليس هو المقصود بل هو وسيلة إلى جلب المنافع الدينية والدنيوية
وأما قوله إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خص المؤمنين بالذكر وإن كانت أدلة للكل من حيث اختصوا بالقبول والانتفاع على ما تقدم في نظائره
وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ
اعلم أن هذا هو العلامة الثانية لقيام القيامة
أما قوله وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ ففيه وجوه أحدها أنه شيء شبيه بالقرن وأن إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه بإذن الله تعالى فإذا سمع الناس ذلك الصوت وهو في الشدة بحيث لا تحتمله طبائعهم يفزعون عنده ويصعقون ويموتون وهو كقوله تعالى فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ ( المدثر 8 ) وهذا قول الأكثرين وثانيها يجوز أن يكون تمثيلاً لدعاء الموت فإن خروجهم من قبورهم كخروج الجيش عند سماع صوت الآلة وثالثها أن الصور جمع الصور وجعلوا النفخ فيها نفخ الروح والأول أقرب لدلالة الظاهر عليه ولا مانع يمنع منه
أما قوله فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ فاعلم أنه إنما قال ( ففزع ) ولم يقل فيفزع للإشعار بتحقيق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعاً به والمراد فزعهم عند النفخة الأولى
أما قوله إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ فالمراد إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة قالوا هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وقيل الشهداء وعن الضحاك الحور وخزنة النار وحملة العرش وعن جابر موسى منهم لأنه صعق مرة ومثله قوله تعالى وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ ( الزمر 68 ) وليس فيه خبر مقطوع والكتاب إنما يدل على الجملة
أما قوله وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ فقرىء ( أتوه ) و ( أتاه ) ودخرين وداخرين فالجمع على المعنى والتوحيد على اللفظ والداخر والدخر الصاغر وقيل معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمر الله وانقيادهم له
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَة ً وَهِى َ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَى ْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ
اعلم أن هذا هو العلامة الثالثة لقيام القيامة وهي تسيير الجبال والوجه في حسبانهم أنها جامدة فلأن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر إليها أنها واقفة مع أنها تمر مراً حثيثاً
أما قوله صُنْعَ اللَّهِ فهو من المصادر المؤكدة كقوله وَعَدَ اللَّهُ ( النساء 95 ) و صِبْغَة َ اللَّهِ ( البقرة 138 ) إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ والمعنى أنه لما قدم ذكر هذه الأمور التي لا يقدر عليها سواه جعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب قال القاضي عبد الجبار فيه دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه والجواب أن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات فيمتنع وصف الأعراض بها والله أعلم
مَن جَآءَ بِالْحَسَنَة ِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَة ِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما تكلم في علامات القيامة شرح بعد ذلك أحوال المكلفين بعد قيام القيامة والمكلف إما أن يكون مطيعاً أو عاصياً أما المطيع فهو الذي جاء بالحسنة وله أمران أحدهما أن له ما هو خير منها وذلك هو الثواب فإن قيل الحسنة التي جاء العبد بها يدخل فيها معرفة الله تعالى والإخلاص في الطاعات والثواب إنما هو الأكل والشرب فكيف يجوز أن يقال الأكل والشرب خير من معرفة الله جوابه من جوابه
أحدها أن ثواب المعرفة النظرية الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة ولذة النظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة ولو لم تحمل الآية على ذلك لزم أن يكون الأكل والشرب خيراً من معرفة الله تعالى وأنه باطل وثانيها أن الثواب خير من العمل من حيث إن الثواب دائم والعمل منقضي ولأن العمل فعل العبد والثواب فعل الله تعالى وثالثها فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا أي له خير حاصل من جهتها وهو الجنة
السؤال الثاني الحسنة لفظة مفردة معرفة وقد ثبت أنها لا تفيد العموم بل يكفي في تحققها حصول فرد وإذا كان كذلك فلنحملها على أكمل الحسنات شأناً وأعلاها درجة وهو الإيمان فلهذا قال ابن عباس من أفراد الحسنة كلمة الشهادة وهذا يوجب القطع بأن لا يعاقب أهل الإيمان وجوابه ذلك الخير هو أن لا يكون عقابه مخلداً الأمر الثاني للمطيع هو أنهم آمنون من كل فزع لا كما قال بعضهم إن أهوال القيامة تعم المؤمن والكافر فإن قيل أليس أنه تعالى قال في أول الآية فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاْرْضِ ( النمل 87 ) فكيف نفى الفزع ههنا جوابه أن الفزع الأول هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس لشدة تقع وهو يفجأ من رعب وهيبة وإن كان المحسن يأمن وصول ذلك الضرر إليه كما قيل يدخل الرجل بصدر هياب وقلب وجاب وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة وأما الثاني فالخوف من العذاب أما قراءة من قرأ من فزع بالتنوين فهي تحتمل معنيين من فزع واحد وهو خوف العقاب وأما ما يلحق الإنسان من الهيبة والرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد وفي الأخبار ما يدل عليه ومن فزع شديد مفرط الشدة لا يكتنهه الوصف وهو خوف النار وأمن يعدي بالجار وبنفسه كقوله تعالى أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ ( الأعراف 99 ) فهذا شرح حال المطيعين أما شرح حال العصاة فهو قوله وَمَن جَاء بِالسَّيّئَة ِ قيل السيئة الإشراك وقوله فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ فاعلم أنه يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة فكأنه قيل فكبوا في النار كقوله فَكُبْكِبُواْ ( الشعراء 94 ) ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذاناً بأنهم يلقون على وجوههم فيها ( مكبوبين )
أما قوله هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فيجوز فيه الالتفات وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول
إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَة ِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَى ءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين المبدأ والمعاد والنبوة ومقدمات القيامة وصفة أهل القيامة من الثواب
والعقاب وذلك كمال ما يتعلق ببيان أصول الدين ختم الكلام بهذه الخاتمة اللطيفة فقال قل يا محمد إني أمرت بأشياء الأول أني أمرت أن أخص الله وحده بالعبادة ولا أتخذ له شريكاً وأن الله تعالى لما قدم دلائل التوحيد فكأنه أمر محمداً بأن يقول لهم هذه الدلائل التي ذكرتها لكم إن لم تفد لكم القول بالتوحيد فقد أفادت لي ذلك فسواء قبلتم هذه الدعوة أو أعرضتم عنها فإني مصر عليها غير مرتاب فيها ثم إنه وصف الله تعالى بأمرين أحدهما أنه رب هذه البلدة والمراد مكة وإنما اختصها من بين سائر البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه وأشار إليها إشارة تعظيم لها دالاً على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه
أما قوله الَّذِى حَرَّمَهَا فقرىء ( التي حرمها ) وإنما وصفها بالتحريم لوجوه أحدها أنه حرم فيها أشياء على من يحج وثانيها أن اللاجيء إليها آمن وثالثها لا ينتهك حرمتها إلا ظالم ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها وإنما ذكر ذلك لأن العرب كانوا معترفين بكون مكة محرمة وعلموا أن تلك الفضيلة ليست من الأصنام بل من الله تعالى فكأنه قال لما علمت وعلمتم أنه سبحانه هو المتولي لهذه النعم وجب عليَّ أن أخصه بالعبادة وثانيها وصف الله تعالى بقوله وَلَهُ كُلُّ شَىء وهذا إشارة إلى ما تقدم من الدلائل المذكورة في هذه السورة على التوحيد من كونه تعالى خالقاً لجميع النعم فأجمل ههنا تلك المفصلات وهذا كمن أراد صفة بعض الملوك بالقوة فيعد تلك التفاصيل ثم بعد التطويل يقول إن كل العالم له وكل الناس في طاعته الثاني أمر بأن يكون من المسلمين الثالث أمر بأن يتلو القرآن عليهم ولقد قام بكل ذلك صلوات الله عليه أتم قيام فمن اهتدى في هذه المسائل الثلاث المتقدمة وهي التوحيد والحشر والنبوة فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ أي منفعة اهتدائه راجعة إليه وَمَن ضَلَّ فلا علي وما أنا إلا رسول منذر ثم إنه سبحانه ختم هذه ( السورة ) بخاتمة في نهاية الحسن وهي قوله وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أعطاني من نعمة العلم والحكمة والنبوة أو على ما وفقني من القيام بأداء الرسالة وبالإنذار سَيُرِيكُمْ ءايَاتِهِ القاهرة فَتَعْرِفُونَهَا لكن حين لا ينفعكم الإيمان وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ لأنه من وراء جزاء العاملين والله أعلم
تم تفسير السورة والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيدنا محمد النبي الأمي
وعلى آله وصحبه أجمعين على أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين
والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين
سورة القصص
مكية كلها إلا قوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ إِلَى قَوْلُهُ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ وقيل إلا آية وهي إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءانَ الآية وهي سبعأو ثمان وثمانون آية
طس م تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَة ً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْى ِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة ً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الأرض وَنُرِى َ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ
اعلم أن قوله تعالى طسم كسائر الفواتح وقد تقدم القول فيها و تِلْكَ إشارة إلى آيات السورة و الْكِتَابِ الْمُبِينِ هو إما اللوح وإما الكتاب الذي وعد الله إنزاله على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فبين أن آيات هذه السورة هي آيات ذلك الكتاب ووصفه بأنه مبين لأنه بين فيه الحلال والحرام أو لأنه بين بفصاحته أنه من كلام الله دون كلام العباد أو لأنه يبين صدق نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أو لأنه يبين خبر الأولين والآخرين أو لأنه يبين كيفية التخلص عن شبهات أهل الضلال
أما قوله تعالى نَقُصُّ عَلَيْكَ أي على لسان جبريل عليه السلام لأنه كان يتلو على محمد حتى يحفظه وقوله مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فهو مفعول نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نتلو عليك بعض خبرهما بالحق محقين كقوله تَنبُتُ بِالدُّهْنِ ( المؤمنون 20 ) وقوله لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيه وجهان أحدهما أنه تعالى قد أراد
بذلك من لا يؤمن أيضاً لكنه خص المؤمنين بالذكر لأنهم قبلوا وانتفعوا فهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والثاني يحتمل أنه تعالى علم أن الصلاح في تلاوته هو إيمانهم وتكون إرادته لمن لا يؤمن كالتبع قوله تعالى إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ قرىء فرعون بضم الفاء وكسرها والكسر أحسن وهو كالقسطاس والقسطاس عَلاَ استكبر وتجبر وتعظم وبغى والمراد به قوة الملك والعلو في الأرض يعني أرض مملكته ثم فصل الله تعالى بعض ذلك بقوله وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً أي فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه لا يملك أحد منهم مخالفته أو يشيع بعضهم بعضاً في استخدامه أو أصنافاً في استخدامه أو فرقاً مختلفة قد أغرى بينهم العداوة ليكونوا له أطوع أو المراد ما فسره بقوله يَسْتَضْعِفُ طَائِفَة ً مّنْهُمْ أي يستخدمهم يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فهذا هو المراد بالشيع قوله يَسْتَضْعِفُ طَائِفَة ً مّنْهُمْ تلك الطائفة بنو إسرائيل وفي سبب ذبح الأبناء وجوه أحدها أن كاهناً قال له يولد مولود في بني إسرائيل في ليلة كذا يذهب ملكك على يده فولد تلك الليلة اثنا عشر غلاماً فقتلهم وعند أكثر المفسرين بقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة قال وهب قتل القبط في طلب موسى عليه السلام تسعين ألفاً من بني إسرائيل قال بعضهم في هذا دليل على حمق فرعون فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن وإن كذب فما وجه القتل وهذا السؤال قد يذكر في تزييف علم الأحكام من علم النجوم ونظيره ما يقوله نفاة التكليف إن كان زيد في علم الله وفي قضائه من السعداء فلا حاجة إلى الطاعة وإن كان من الأشقياء فلا فائدة في الطاعة وأيضاً فهذا السؤال لو صح لبطل علم التعبير ومنفعته وأيضاً فجواب المنجم أن النجوم دلت على أنه يولد ولد لو لم يقتل لصار كذا وكذا وعلى هذا التقدير لا يكون السعي في قتله عبثاً
واعلم أن هذا الوجه ضعيف لأن إسناد مثل هذا الخبر إلى الكاهن اعتراف بأنه قد يخبر عن الغيب على سبيل التفصيل ولو جوزناه لبطلت دلالة الأخبار عن الغيب على صدق الرسل وهو بإجماع المسلمين باطل وثانيها وهو قول السدي أن فرعون رأى في منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس واشتملت على مصر فأحرقت القبط دون بني إسرائيل فسأل عن رؤياه فقالوا يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه رجل يكون على يده هلاك مصر فأمر بقتل الذكور وثالثها أن الأنبياء الذين كانوا قبل موسى عليه السلام بشروا بمجيئه وفرعون كان قد سمع ذلك فلهذا كان يذبح أبناء بني إسرائيل وهذا الوجه هو الأولى بالقبول قال صاحب ( الكشاف ) يَسْتَضْعِفُ حال من الضمير في وَجَعَلَ أو صفة لشيعا أو كلام مستأنف و يُذَبّحُ بدل من يَسْتَضْعِفُ وقوله إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يدل على أن ذلك القتل ما حصل منه إلا الفساد وأنه لا أثر له في دفع قضاء الله تعالى
أما قوله وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ فهو جملة معطوفة على قوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ لأنها نظيرة تلك في وقوعها تفسيراً لنبأ موسى عليه السلام وفرعون واقتصاصاً له واللفظ في قوله وَنُرِيدُ للاستقبال ولكن أريد به حكاية حال ماضية ويجوز أن يكون حالاً من يَسْتَضْعِفُ أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم فإن قيل كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله تعالى المن عليهم وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يتوقف إلى وقت آخر قلنا لما كان منة الله عليهم بتخليصهم من فرعون قريبة الوقوع جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم
أما قوله وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّة ً أي متقدمين في الدنيا والدين وعن مجاهد دعاة إلى الخير وعن قتادة ولاة كقوله وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ( المائدة 20 ) وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ يعني لملك فرعون وأرضه وما في يده
أما قوله وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الاْرْضِ فاعلم أنه يقال مكن له إذا جعل له مكاناً يقعد عليه ( أو يرقد ) فوطأه ومهده ونظيره أرض له ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام أن ينفذ أمرهم ويطلق أيديهم وقوله وَنُرِى َ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ قرىء وَيَرَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا أي يرون منهم ما كانوا خائفين منه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود بني إسرائيل
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمِّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّة ُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ ( القصص 5 ) ابتدأ بذكر أوائل نعمه في هذا الباب بقوله وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمّ مُوسَى والكلام في هذا الوحي ذكرناه في سورة طه ( 37 38 ) في قوله وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّة ً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى وقوله أَنْ أَرْضِعِيهِ كالدلالة على أنها أرضعته وليس في القرآن حد ذلك فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ أن يفطن به جيرانك ويسمعون صوته عند البكاء فَأَلْقِيهِ فِى اليَمّ قال ابن جريج إنه بعد أربعة أشهر صاح فألقى في اليم والمراد باليم ههنا النيل وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِى والخوف غم يحصل بسبب مكروه يتوقع حصوله في المستقبل والحزن غم يلحقه بسبب مكروه حصل في الماضي فكأنه قيل ولا تخافي من هلاكه ولا تحزني بسبب فراقه أَنَاْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ لتكوني أنت المرضعة له وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إلى أهل مصر والشام وقصة الإلقاء في اليم قد تقدمت في سورة طه وقال ابن عباس إن أم موسى عليه السلام لما تقارب ولادها كانت قابلة من القوابل التي وكلهم فرعون بالحبالى مصافية لأم موسى عليه السلام فلما أحست بالطلق أرسلت إليها وقالت لها قد نزل بي ما نزل ولينفعني اليوم حبك إياي فجلست القابلة فلما وقع موسى عليه السلام إلى الأرض هالها نور بين عينيه فارتعش كل مفصل منها ودخل حب موسى عليه السلام قلبها فقالت يا هذه ما جئتك إلا لقتل مولودك ولكني وجدت لابنك هذا حباً شديداً فاحتفظي بابنك فإنه أراه عدونا فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل
على أم موسى فقالت أخته يا أماه هذا الحرس فلفته ووضعته في تنور مسجور فطاش عقلها فلم تعقل ما تصنع فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا لم دخلت القابلة عليك قالت إنها حبيبة لي دخلت للزيارة فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى أين الصبي قالت لا أدري فسمعت بكاء في التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً فأخذته ثم إن أم موسى عليه السلام لما رأت فرعون جد في طلب الولدان خافت على ابنها فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتاً ثم تقذف التابوت في النيل فذهبت إلى نجار من أهل مصر فاشترت منه تابوتاً فقال لها ما تصنعين به فقالت ابن لي أخشى عليه كيد فرعون أخبؤه فيه وما عرفت أنه يفشي ذلك الخبر فلما انصرفت ذهب النجار ليخبر به الذباحين فلما جاءهم أمسك الله لسانه وجعل يشير بيده فضربوه وطردوه فلما عاد إلى موضعه رد الله عليه نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم به فضربوه وطردوه فلما عاد إلى موضعه رد الله نطقه فذهب مرة أخرى ليخبرهم به فضربوه وطردوه فأخذ الله بصره ولسانه فجعل لله تعالى أنه إن رد عليه بصره ولسانه فإنه لا يد لهم عليه فعلم الله تعالى منه الصدق فرد عليه بصره ولسانه وانطلقت أم موسى وألقته في النيل وكان لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها فقالوا أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك وذلك في يوم كذا في شهر كذا حين تشرق الشمس فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه آسية بنت مزاحم وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطىء إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأمواج وتعلق بشجرة فقال فرعون ائتوني به فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه فنظرت آسية فرأت نوراً في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته وفتحته فإذا هي بصبي صغير في المهد وإذا نور بين عينيه فألقى الله محبته في قلوب القوم وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت وضمته إلى صدرها فقالت الغواة من قوم فرعون إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر فرقاً منك فهم فرعون بقتله فاستوهبته امرأة فرعون وتبنته فترك قتله
أما قوله ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ فالالتقاط إصابة الشيء من غير طلب والمراد بآل فرعون جواريه
أما قوله لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً فالمشهور أن هذه اللام يراد بها العاقبة قالوا وإلا نقض قوله وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّة ُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ ونقض قوله وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّة ً مّنّى ( طه 39 ) ونظير هذه اللام قوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( الأعراف 179 ) وقوله الشاعر لدوا للموت وابنوا للخراب
واعلم أن التحقيق ما ذكره صاحب ( الكشاف ) وهو أن هذه اللام هي لام التعليل على سبيل المجاز وذلك لأن مقصود الشيء وغرضه يؤول إليه أمره فاستعملوا هذه اللام فيما يؤول إليه الشيء على سبيل التشبيه كإطلاق لفظ الأسد على الشجاع والبليد على الحمار قرأ حمزة والكسائي ( حزناً ) بضم الحاء وسكون الزاي والباقون بالفتح وهما لغتان مثل السقم والسقم
أما قوله كانوا خاطئين ففيه وجهان أحدهما قال الحسن معنى كَانُواْ خَاطِئِينَ ليس من الخطيئة
بل المعنى وهم لا يشعرون أنه الذي يذهب بملكهم وأما جمهور المفسرين فقالوا معناه كانوا خاطئين فيما كانوا عليه من الكفر والظلم فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم وقرىء خاطين تخفيف خاطئين أي خاطين الصواب إلى الخطأ وبين تعالى أنها التقطته ليكون قرة عين لها وله جميعاً قال ابن إسحق إن الله تعالى ألقى محبته في قلبها لأنه كان في وجهه ملاحة كل من رآه أحبه ولأنها حين فتحت التابوت رأت النور ولأنها لما فتحت التابوت رأته يمتص إصبعه ولأن ابنة فرعون لما لطخت برصها بريقه زال برصها ويقال ما كان لها ولد فأحبته قال ابن عباس لما قالت فِرْعَوْنَ قُرَّة ُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ فقال فرعون يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه فقال عليه السلام ( والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت لهداه الله تعالى كما هداها ) قال صاحب ( الكشاف ) قُرَّة ُ عَيْنٍ خبر مبتدأ محذوف ولا يقوى أن يجعل مبتدأ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ خبراً ولو نصب لكان أقوى وقراءة ابن مسعود دليل على أنه خبر قرأ لاَ تَقْتُلُوهُ قُرَّة ُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ وذلك لتقديم لا تقتلوه ثم قالت المرأة عَسَى أَن يَنفَعَنَا فنصيب منه خيراً أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا لأنه أهل للتبني
أما قوله وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فأكثر المفسرين على أنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لا يشعرون أن هلاكهم بسببه وعلى يده وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل وقال ابن عباس يريد لا يشعرون إلى ماذا يصير أمر موسى عليه السلام وقال آخرون هذا من تمام كلام المرأة أي لا يشعر بنو إسرائيل وأهل مصر أن التقطناه وهذا قول الكلبي
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
ذكروا في قوله فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغاً وجوهاً أحدها قال الحسن فارغاً من كل هم إلا من هم موسى عليه السلام وثانيها قال أبو مسلم فراغ الفؤاد هو الخوف والإشفاق كقوله وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ( إبراهيم 43 ) وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) فارغاً صفراً من العقل والمعنى أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والخوف ورابعها قال الحسن ومحمد بن إسحق فارغاً من الوحي الذي أوحينا إليها أن ألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك فجاءها الشيطان فقال لها كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجر فتوليت إهلاكه ولما أتاها خبر موسى عليه السلام أنه وقع في يد فرعون فأنساها عظم البلاء ما كان من عهد الله إليها وخامسها قال أبو عبيدة فارغاً من الحزن لعلمها بأنه لا يقتل اعتماداً على تكفل الله بمصلحته قال ابن قتيبة وهذا من العجائب كيف يكون فؤادها فارغاً من الحزن والله تعالى يقول لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يمتنع
أنها لشدة ثقتها بوعد الله لم تخف عند إظهار اسمه وأيقنت أنها وإن أظهرت فإنه يسلم لأجل ذلك الوعد إلا أنه كان في المعلوم أن الإظهار يضر فربط الله على قلبها ويحتمل قوله إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا بالوحي فأمنت وزال عن قلبها الحزن فعلى هذا الوجه يصح أن يتأول على أن قلبها سلم من الحزن على موسى أصلاً وفيه وجه ثالث وهو أنها سمعت أن امرأة فرعون عطفت عليه وتبنته إن كادت لتبدي به بأنه ولدها لأنها لم تملك نفسها فرحاً بما سمعت لولا أن سكنا ما بها من شدة الفرح والابتهاج لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الواثقين بوعد الله تعالى لا يتبنى امرأة فرعون اللعين وبعطفها وقرىء ( قرعاً ) أي خالياً من قولهم أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء وفرغاً من قولهم دماؤهم بينهم فرغ أي هدر يعني بطل قلبها من شدة ما ورد عليها
أما قوله إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ فاعلم أن على قول من فسر الفراغ بالفراغ من الحزن قد ذكرنا تفسير قوله إِن كَادَتْ لَتُبْدِى وأما على قول من فسر الفراغ بحصول الخوف فذكروا وجوهاً أحدها قال ابن عباس كادت تخبر بأن الذي وجدتموه ابني وقال في رواية عكرمة كادت تقول واإبناه من شدة وجدها به وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع وقال الكلبي ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون وقال السدي لما أخذ ابنها كادت تقول هو ابني فعصمها الله تعالى ثم قال لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من المصدقين بوعد الله وهو قوله إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ( القصص 7 )
أما قوله وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ أي اتبعي أثره وانظري إلى أن وقع وإلى من صار وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم فَبَصُرَتْ بِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما أبصرته قال المبرد أبصرته وبصرت به بمعنى واحد وقوله عَن جُنُبٍ أي عن بعد وقرىء عن جانب وعن جنب والجنب الجانب أي نظرت نظرة مزورة متجانبة وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بحالها وغرضها
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَى ْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
اعلم أن قوله وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ يقتضي تحريمها من قبله فإذا لم يصح بالتعبد والنهي لتعذر التمييز فلا بد من فعل سواه وذلك الفعل يحتمل أنه تعالى مع حاجته إلى اللبن أحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء فلذلك لم يرضع أو أحدث في لبنهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه أو وضع في لبن أمه
لذة فلما تعودها لا جرم كان يكره لبن غيرها وعن الضحاك كانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر حتى عرف ريحها والمراضع جمع مرضع وهي المرأة التي ترضع أو جمع مرضع وهو موضع الرضاع أي الثدي أو الرضاع وقوله مِن قَبْلُ أي من قبل أن رددناه إلى أمه ومن قبل مجيء أخت موسى عليه السلام ومن قبل ولادته في حكمنا وقضائنا فعند ذلك قالت أخته هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه وهم له ناصحون لا يمنعونه ما ينفعه في تربيته وإغذائه ولا يخونونكم فيه والنصح إخلاص العمل من شائبة الفساد وقال السدي إنها لما قالت وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ دل ظاهر ذلك على أن أهل البيت يعرفونه فقال لها هامان قد عرفت هذا الغلام فدلينا على أهله فقالت ما أعرفه ولكني إنما قلت هم للملك ناصحون ليزول شغل قلبه وكل ما روي في هذا الباب يدل على أن فرعون كان بمنزلة آسية في شدة محبته لموسى عليه السلام لا على ما قال من زعم أنها كانت مختصة بذلك فقط ثم قال تعالى فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمّهِ بهذا الضرب من اللطف كَى ْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي فيما كان وعدها من أنه يرده إليها ولقد كانت عالمة بذلك ولكن ليس الخبر كالعيان فتحققت بوجود الموعود وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فيه وجوه أربعة أحدها ولكن أكثر الناس في ذلك العهد وبعد لا يعلمون لإعراضهم عن النظر في آيات الله وثانيها قال الضحاك ومقاتل يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعدها برده إليها وثالثها هذا كالتعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى عليه السلام فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً ورابعها أن يكون المعنى إنا إنما رددناه إليها لَتَعْلَمُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ والمقصود الأصلي من ذلك الرد هذا الغرض الديني ولكن الأكثر لا يعلمون أن هذا هو الغرض الأصلي وأن ما سواه من قرة العين وذهاب الحزن تبع قال الضحاك لما قبل ثديها قال هامان إنك لأمه قالت لا قال فما بالك قبل ثديك من بين النسوة قالت أيها الملك إني امرأة طيبة الريح حلوة اللبن ما شم ريحي صبي إلا أقبل على ثديي قالوا صدقت فلم يبق أحد من آل فرعون إلا أهدى إليها وأتحفها بالذهب والجواهر
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ءَاتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَة َ عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَب إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَى َّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ
اعلم أن في قوله بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى قولين أحدهما أنهما بمعنى واحد وهو استكمال القوة
واعتدال المزاج والبنية والثاني وهو الأصح أنهما معنيان متغايران ثم اختلفوا على وجوه أحدها وهو الأقرب أن الأشد عبارة عن كمال القوة الجسمانية البدنية والاستواء عبارة عن كمال القوة العقلية وثانيها الأشد عبارة عن كمال القوة والاستواء عبارة عن كمال البنية والخلقة وثالثها الأشد عبارة عن البلوغ والاستواء عبارة عن كمال الخلقة ورابعها قال ابن عباس الأشد ما بين الثمان عشرة سنة إلى الثلاثين ثم من الثلاثين سنة إلى الأربعين يبقى سواء من غير زيادة ولا نقصان ومن الأربعين يأخذ في النقصان وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما حق لأن الإنسان يكون في أول العمر في النمو والتزايد ثم يبقى من غير زيادة ولا نقصان ثم يأخذ في الانتقاص فنهاية مدة الازدياد من أول العمر إلى العشرين ومن العشرين إلى الثلاثين يكون التزايد قليلاً والقوة قوية جداً ثم من الثلاثين إلى الأربعين يقف فلا يزداد ولا ينتقص ومن الأربعين إلى الستين يأخذ في الانتقاص الخفي ومن الستين إلى آخر العمر يأخذ في الانتقاص البين الظاهر ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة والحكمة فيه ظاهرة لأن الإنسان يكون إلى رأس الأربعين قواه الجسمانية من الشهوة والغضب والحس قوية مستكلمة فيكون الإنسان منجذباً إليها فإذا انتهى إلى الأربعين أخذت القوى الجسمانية في الانتقاص والقوة العقلية في الازدياد فهناك يكون الرجل أكمل ما يكون فلهذا السر اختار الله تعالى هذا السن للوحي
المسألة الثانية اختلفوا في واحد الأشد قال الفراء الأشد واحدها شد في القياس ولم يسمع لها بواحد وقال أبو الهيثم واحد الأشد شدة كما أن واحدة الأنعم نعمة والشدة القوة والجلادة
أما قوله اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ففيه وجهان الأول أنها النبوة وما يقرن بها من العلوم والأخلاق وعلى هذا التقدير ليس في الآية دليل على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده لأن الواو في قوله وَدَخَلَ الْمَدِينَة َ لا تفيد الترتيب الثاني آتيناه الحكمة والعلم قال تعالى وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة ِ ( الأحزاب 34 ) وهذا القول أولى لوجوه أحدها أن النبوة أعلى الدرجات البشرية فلا بد وأن تكون مسبوقة بالكمال في العلم والسيرة المرضية التي هي أخلاق الكبراء والحكماء وثانيها أن قوله وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ يدل على أنه إنما أعطاه الحكم والعلم مجازاة على إحسانه والنبوة لا تكون جزاء على العمل وثالثها أن المراد بالحكم والعلم لو كان هو النبوة لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين لقوله وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ لأن قوله وَكَذالِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من الحكم والعلم ثم بين إنعامه عليه قبل قتل القبطي وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في المدينة فالجمهور على أنها هي المدينة التي كان يسكنها فرعون وهي قرية على رأس فرسخين من مصر وقال الضحاك هي عين شمس
المسألة الثانية اختلفوا في معنى قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ مّنْ أَهْلِهَا على أقوال فالقول الأول أن موسى عليه السلام لما بلغ أشده واستوى وآتاه الله الحكم والعلم في دينه ودين آبائه علم أن فرعون وقومه على الباطل فتكلم بالحق وعاب دينهم واشتهر ذلك منه حتى آل الأمر إلى أن أخافوه وخافهم وكان له من بني
إسرائيل شيعة يقتدون به ويسمعون منه وبلغ في الخوف بحيث ما كان يدخل مدينة فرعون إلا خائفاً فدخلها يوماً على حين غفلة من أهلها ثم الأكثرون على أنه عليه السلام دخلها نصف النهار وقت ما هم قائلون وعن ابن عباس يريد بين المغرب والعشاء والأول أولى لأنه تعالى أضاف الغفلة إلى أهلها وإذا دخل المرء مستتراً لأجل خوف لا تضاف الغفلة إلى القوم القول الثاني قال السدي إن موسى عليه السلام حين كبر كان يركب مراكب فرعون ويلبس مثل ما يلبس ويدعى موسى ابن فرعون فركب يوماً في أثره فأدركه المقيل في موضع فدخلها نصف النهار وقد خلت الطرق فهو قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ القول الثالث قال ابن زيد ليس المراد من قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ مّنْ أَهْلِهَا حصول الغفلة في تلك الساعة بل المراد الغفلة من ذكر موسى وأمره فإن موسى حين كان صغيراً ضرب رأس فرعون بالعصا ونتف لحيته فأراد فرعون قتله فجيء بجمر فأخذه وطرحه في فيه فمنه عقدة لسانه فقال فرعون لا أقتله ولكن أخرجوه عن الدار والبلد فأخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر والقوم نسوا ذكره وذلك قوله عَلَى حِينِ غَفْلَة ٍ ولا مطمع في ترجيح بعض هذه الروايات على بعض لأنه ليس في القرآن ما يدل على شيء منها
المسألة الثالثة قال تعالى فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ قال الزجاج قال هذا وهذا وهما غائبان على وجه الحكاية أي وجد فيها رجلين يقتتلان إذا نظر الناظر إليهما قال هذا من شيعته وهذا من عدوه ثم اختلفوا فقال مقاتل الرجلان كانا كافرين إلا أن أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط واحتج عليه بأن موسى عليه السلام قال له في اليوم الثاني إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ ( القصص 18 ) والمشهور أن الذي من شيعته كان مسلماً لأنه لا يقال فيمن يخالف الرجل في دينه وطريقه إنه من شيعته وقيل إن القبطي الذي سخر الإسرائيلي كان طباخ فرعون استسخره لحمل الحطب إلى مطبخه وقيل الرجلان المقتتلان أحدهما السامري وهو الذي من شيعته والآخر طباخ فرعون والله أعلم بكيفية الحال فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه أي سأله أن يخلصه منه واستنصره عليه فوكزه موسى عليه السلام الوكز الدفع بأطراف الأصابع وقيل بجمع الكف وقرأ ابن مسعود ( فلكزه موسى ) وقال بعضهم الوكز في الصدر واللكز في الظهر وكان عليه السلام شديد البطش وقال بعض المفسرين فوكزه بعصاه قال المفضل هذا غلط لأنه لا يقال وكزه بالعصا فَقَضَى عَلَيْهِ أي أماته وقتله
المسألة الرابعة احتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء عليه السلام من وجوه أحدها أن ذلك القبطي إما أن يقال إنه كان مستحق القتل أو لم يكن كذلك فإن كان الأول فلم قال هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ولم قال رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ ولم قال في سورة أخرى فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ ( الشعراء 20 ) وإن كان الثاني وهو أن ذلك القبطي لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنباً وثانيها أن قوله وَهَاذَا مِنْ عَدُوّهِ يدل على أنه كان كافراً حربياً فكان دمه مباحاً فلم استغفر عنه والاستغفار عن الفعل المباح غير جائز لأنه يوهم في المباح كونه حراماً وثالثها أن الوكز لا يقصد به القتل ظاهراً فكان ذلك القتل قتل خطأ فلم استغفر منه والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يقال إنه كان لكفره مباح الدم
أما قوله هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ففيه وجوه أحدها لعل الله تعالى وإن أباح قتل الكافر إلا أنه قال
الأولى تأخير قتلهم إلى زمان آخر فلما قتل فقد ترك ذلك المندوب فقوله هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان وثانيها أن قوله ( هذا ) إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه فقوله هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أي عمل هذا المقتول من عمل الشيطان المراد منه بيان كونه مخالفاً لله تعالى مستحقاً للقتل وثالثها أن يكون قوله ( هذا ) إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه يقال فلان من عمل الشيطان أي من أحزابه
أما قوله رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فعلى نهج قول آدم عليه السلام رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) والمراد أحد وجهين إما على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه وإن لم يكن هناك ذنب قط أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب
أما قوله فَاغْفِرْ لِى أي فاغفر لي ترك هذا المندوب وفيه وجه آخر وهو أن يكون المراد رب إني ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الملعون فإن فرعون لو عرف ذلك لقتلني به فَاغْفِرْ لِى أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون فَغَفَرَ لَهُ أي ستره عن الوصول إلى فرعون ويدل على هذا التأويل أنه على عقبه قال رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى َّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ولو كانت إعانة المؤمن ههنا سبباً للمعصية لما قال ذلك
وأما قوله فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ فلم يقل إني صرت بذلك ضالاً ولكن فرعون لما ادعى أنه كان كافراً في حال القتل نفى عن نفسه كونه كافراً في ذلك الوقت واعترف بأنه كان ضالاً أي متحيراً لا يدري ما يجب عليه أن يفعله وما يدبر به في ذلك أما قوله إن كان كافراً حربياً فلم استغفر عن قتله قلنا كون الكافر مباح الدم أمر يختلف باختلاف الشرائع فلعل قتلهم كان حراماً في ذلك الوقت أو إن كان مباحاً لكن الأولى تركه على ما قررنا قوله ذلك القتل كان قتل خطأ قلنا لا نسلم فلعل الرجل كان ضعيفاً وموسى عليه السلام كان في نهاية الشدة فوكزه كان قاتلاً قطعاً ثم إن سلمنا ذلك ولكن لعله عليه السلام كان يمكنه أن يخلص الإسرائيلي من يده بدون ذلك الوكز الذي كان الأولى تركه فلهذا أقدم على الاستغفار على أنا وإن سلمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية لكنا بينا أنه لا دليل ألبتة على أنه كان رسولاً في ذلك الوقت فيكون ذلك صادراً منه قبل النبوة وذلك لا نزاع فيه
المسألة الخامسة قالت المعتزلة الآية دلت على بطلان قول من نسب المعاصي إلى الله تعالى لأنه عليه السلام قال هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فنسب المعصية إلى الشيطان فلو كانت بخلق الله تعالى لكانت من الله لا من الشيطان وهو كقول يوسف عليه السلام مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى ( يوسف 100 ) وقول صاحب موسى عليه السلام وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ ( الكهف 63 ) وقوله تعالى لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الْجَنَّة ِ ( الأعراف 27 )
أما قوله رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَى َّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لّلْمُجْرِمِينَ ففيه وجوه أحدها أن ظاهره يدل على أنه قال إنك لما أنعمت علي بهذا الإنعام فإني لا أكون معاوناً لأحد من المجرمين بل أكون معاوناً للمسلمين وهذا يدل على أن ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي كان طاعة لا معصية إذ لو كانت معصية لنزل الكلام منزلة ما إذا قيل إنك لما أنعمت علي بقبول توبتي عن تلك المعصية فإني أكون مواظباً على مثل تلك المعصية وثانيها قال القفال كأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرماً والباء للقسم أي
بنعمتك علي وثالثها قال الكسائي والفراء إنه خبر ومعناه الدعاء كأنه قال فلا تجعلني ظهيراً قال الفراء وفي حرف عبدالله فَلاَ تَجْعَلْنِى ظَهِيرًا واعلم أن في الآية دلالة على أنه لا يجوز معاونة الظلمة والفسقة وقال ابن عباس لم يستثن ولم يقل فلن أكون ظهيراً إن شاء الله فابتلي به في اليوم الثاني وهذا ضعيف لأنه في اليوم الثاني ترك الإعانة وإنما خاف منه ذلك العدو فقال إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ ( القصص 19 ) لا أنه وقع منه
فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَة ِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالاٌّ مْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يامُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاٌّ مْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ يَسْعَى قَالَ يامُوسَى إِنَّ الْمَلاّ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
اعلم أن عند موت ذلك الرجل من الوكز أصبح موسى عليه السلام من غد ذلك اليوم خائفاً من أن يظهر أنه هو القاتل فيطلب به وخرج على استتار فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ وهو الإسرائيلي بِالاْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ يطلب نصرته بصياح وصراخ قال له موسى إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ قال أهل اللغة الغوي يجوز أن يكون فعيلاً بمعنى مفعل أي إنك لمغو لقومي فإني وقعت بالأمس فيما وقعت فيه بسببك ويجوز أن يكون بمعنى الغاوي واحتج به من قدح في عصمة الأنبياء عليهم السلام فقال كيف يجوز لموسى عليه السلام أن يقول لرجل من شيعته يستصرخه إِنَّكَ لَغَوِى ٌّ مُّبِينٌ الجواب من وجهين الأول أن قوم موسى عليه السلام كانوا غلاظاً جفاة ألا ترى إلى قولهم بعد مشاهدة الآيات اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) فالمراد بالغوي المبين ذلك الثاني أنه عليه السلام إنما سماه غوياً لأن من تكثر منه المخاصمة على وجه يتعذر عليه دفع خصمه عما يرومه من ضرره يكون خلاف طريقة الرشد واختلفوا في قوله تعال قَالَ يَاءادَمُ مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ أهو من كلام الإسرائيلي أو القبطي فقال بعضهم لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غوي ورآه على غضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده فقال هذا القول وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس للرجل إلا هو وصار ذلك سبباً لظهور القتل ومزيد الخوف وقال آخرون بل هو قول القبطي وقد كان عرف القصة من الإسرائيلي والظاهر هذا الوجه لأنه تعالى قال فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يامُوسَى مُوسَى
فهذا القول إذن منه لا من غيره وأيضاً فقوله إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاْرْضِ لا يليق إلا بأن يكون قولاً للكافر
واعلم أن الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن وقيل المتعظم الذي لا يتواضع لأمر أحد ولما وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وانتهى إلى فرعون وهموا بقتله
أما قوله وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ يَسْعَى قال صاحب ( الكشاف ) يسعى يجوز ارتفاعه وصفاً لرجل وانتصابه حالاً عنه لأنه قد تخصص بقوله مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَة ِ والائتمار التشاور يقال الرجلان ( يتآمران ) يأتمران لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر والمعنى يتشاورون بسببك وأكثر المفسرين على أن هذا الرجل مؤمن آل فرعون فعلى وجه الإشفاق أسرع إليه ليخوفه بأن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك
أما قوله فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ أي خائفاً على نفسه من آل فرعون ينتظر هل يلحقه طلب فيؤخذ ثم التجأ إلى الله تعالى لعلمه بأنه لا ملجأ سواه فقال رَبّ نَجّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وهذا يدل على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنباً وإلا لكان هو الظالم لهم وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم إياه ليقتلوه قصاصاً
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّة ً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَأجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجَرْتَ الْقَوِى ُّ الأَمِينُ قَالَ إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى َّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى َ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاٌّ جَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَى َّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
اعلم أن الناس اختلفوا في قوله وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ فال بعضهم إنه خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة فأوصله الله تعالى إلى مدين وهذا قول ابن عباس وقال آخرون لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى ومن الناس من قال بل جاءه جبريل عليه السلام وعلمه الطريق وذكر ابن جرير عن السدي لما أخذ موسى عليه السلام في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين واحتج من قال إنه خرج وما قصد مدين بأمرين أحدهما قوله وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ ولو كان قاصداً للذهاب إلى مدين لقال ولما توجه إلى مدين فلما لم يقل ذلك بل قال تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ علمنا أنه لم يتوجه إلا إلى ذلك الجانب من غير أن يعلم أن ذلك الجانب إلى أين ينتهي والثاني قوله عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السَّبِيلِ وهذا كلام شاك لا عالم والأقرب أن يقال إنه قصد الذهاب إلى مدين وما كان عالماً بالطريق ثم إنه كان يسأل الناس عن كيفية الطريق لأنه يبعد من موسى عليه السلام في عقله وذكائه أن لا يسأل ثم قال ابن إسحاق خرج من مصر إلى مدين بغير زاد ولا ظهر وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر
أما قوله عَسَى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السَّبِيلِ فهو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبّى سَيَهْدِينِ ( الصافات 99 ) وموسى عليه السلام قلما يذكر كلاماً في الاستدلال والجواب والدعاء والتضرع إلا ما ذكره إبراهيم عليه السلام وهكذا الخلف الصدق للسلف الصالح صلوات الله عليهم وعلى جميع الطيبين المطهرين وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وهو الماء الذي يسقون منه وكان بئراً فيما روي ووروده مجيئه والوصول إليه وَجَدَ عَلَيْهِ أي فوق شفيره ومستقاه أُمَّة ٍ جماعة كثيرة العدد مِنَ النَّاسِ من أناس مختلفين وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ والذود الدفع والطرد فقوله ( تذودان ) أي تحبسان ثم فيه أقوال الأول تحبسان أغنامهما واختلفوا في علة ذلك الحبس على وجوه أحدها قال الزجاج لأن على الماء من كان أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي وثانيها كانتا تكرهان المزاحمة على الماء وثالثها لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ورابعها لئلا تختلطا بالرجال القول الثاني كانتا تذودان عن وجوههما نظراً الناظر ليراهما والقول الثالث تذودان الناس عن غنمهما القول الرابع قال الفراء تحبسانها عن أن تتفرق وتتسرب قَالَ مَا خَطْبُكُمَا أي ما شأنكما وحقيقته ما مخطوبكما أي مطلوبكما من الذياد فسمى المخطوب خطباً كما يسمى المشئون شأناً في قولك ما شأنك قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
وذلك يدل على ضعفهما عن السقي من وجوه أحدها أن العادة في السقي للرجال والنساء يضعفن عن ذلك وثانيها ما ظهر من ذودهما الماشية على طريق التأخير وثالثها قولهما حتى يصدر الرعاء ورابعها انتظارهما لما يبقى من القوم من الماء وخامسها قولهما وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ودلالة ذلك على أنه لو كان قوياً حضر ولو حضر لم يتأخر السقي فعند ذلك سقى لهما قبل صدر الرعاء وعادتا إلى أبيهما قبل الوقت المعتاد قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم بفتح الياء وضم الدال وقرأ الباقون بضم الياء وكسر الدال فالمعنى في القرارة الأولى حتى ينصرفوا عن الماء ويرجعوا عن سقيهم وصدر ضد ورد ومن قرأ بضم الياء فالمعنى في القراءة حتى يصدر القوم مواشيهم
أما قوله فَسَقَى لَهُمَا أي سقى غنمهما لأجلهما وفي كيفية السقي أقوال أحدها أنه عليه السلام سأل القوم أن يسمحوا فسمحوا وثانيهما قال قوم عمد إلى بئر على رأسه صخرة لا يقلها إلا عشرة وقيل أربعون وقيل مائة فنحاها بنفسه واستقى الماء من ذلك البئر وثالثها أن القوم لما زاحمهم موسى عليه السلام تعمدوا إلقاء ذلك الحجر على رأس البئر فهو عليه السلام رمى ذلك الحجر وسقى لهما وليس بيان ذلك في القرآن والله أعلم بالصحيح منه لكن المرأة وصفت موسى عليه السلام بالقوة فدل ذلك على أنها شاهدت منه ما يدل على فضل قوته وقال تعالى ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظّلّ وفيه دلالة على أنه سقى لهما في شمس وحر وفيه دلالة أيضاً على كمال قوة موسى عليه السلام قال الكلبي أتى موسى أهل الماء فسألهم دلواً من ماء فقالوا له إن شئت ائت الدلو فاستق لهما قال نعم وكان يجتمع على الدلو أربعون رجلاً حتى يخرجوه من البئر فأخذ موسى عليه السلام الدلو فاستقى به وحده وصب في الحوض ودعا بالبركة ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما فإن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب أن يرضى لابنتيه بسقي الماشية قلنا ليس في القرآن ما يدل على أن أباهما كان شعيباً والناس مختلفون فيه فقال ابن عباس رضي الله عنهما إن أباهما هو بيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعدما عمي وهو اختيار أبي عبيد وقال الحسن إنه رجل مسلم قبل الدين عن شعيب على أنا وإن سلمنا أنه كان شعيباً عليه السلام لكن لا مفسدة فيه لأن الدين لا يأباه وأما المروءة فالناس فيها مختلفون وأحوال أهل البادية غير أحوال أهل الحضر لا سيما إذا كانت الحالة حالة الضرورة
وأما قوله قَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَى َّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فالمعنى إني لأي شيء أنزلت إلي من خير قليل أو كثير غث أو سمين لفقير وإنما عدى فقيراً باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب
واعلم أن هذا الكلام يدل على الحاجة إما إلى الطعام أو إلى غيره إلا أن المفسرين حملوه على الطعام قال ابن عباس يريد طعاماً يأكله وقال الضحاك مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وروي أن موسى عليه السلام لما قال ذلك رفع صوته ليسمع المرأتين ذلك فإن قيل إنه عليه السلام لما بقي معه من القوة ما قدر بها على حمل ذلك الدلو العظيم فكيف يليق بهمته العالية أن يطلب الطعام أليس أنه عليه السلام قال ( لا تحل الصدقة لغني ولا لذي قوة سوي ) قلنا أما رفع الصوت بذلك لإسماع المرأتين وطلب الطعام فذاك لا يليق بموسى عليه السلام ألبتة فلا تقبل تلك الرواية ولكن لعله عليه السلام قال ذلك في نفسه مع ربه تعالى وفي الآية وجه آخر كأنه قال رب إني بسبب ما أنزلت إلي من خير الدين صرت فقيراً
في الدنيا لأنه كان عند فرعون في ملك وثروة فقال ذلك رضي بهذا البدل وفرحاً به وشكراً له وهذا التأويل أليق بحال موسى عليه السلام
أما قوله تعالى فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَاء فقوله عَلَى اسْتِحْيَاء في موضع الحال أي مستحيية قال عمر بن الخطاب قد استترت بكم قميصها وقيل ماشية على بعد مائلة عن الرجال وقال عبد العزيز بن أبي حازم على إجلال له ومنهم من يقف على قوله تَمْشِى ثم يبتدىء فيقول عَلَى اسْتِحْيَاء قالت إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ يعني أنها على الاستحياء قالت هذا القول لأن الكريم إذا دعا غيره إلى الضيافة يستحيي لا سيما المرأة وفي ذلك دلالة على أن شعيباً لم يكن له معين سواهما وروي أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس قال لهما ما أعجلكما قالتا وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا فقال لإحداهما اذهبي فادعيه لي أما الاختلاف في أن ذلك الشيخ كان شعيباً عليه السلام أو غيره فقد تقدم والأكثرون على أنه شعيب وقال محمد بن إسحاق في البنتين اسم الكبرى صفورا والصغرى ليا وقال غيره صفرا وصفيرا وقال الضحاك صافورا والتي جاءت إلى موسى عليه السلام هي الكبرى على قول الأكثرين وقال الكلبي الصغرى وليس في القرآن دلالة على شيء من هذه التفاصيل
أما قوله قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ففيه إشكالات أحدها كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية فإن ذلك يورث التهمة العظيمة وقال عليه السلام ( اتقوا مواضع التهم ) وثانيها أنه سقى أغنامهما تقرباً إلى الله تعالى فكيف يليق به أخذ الأجرة عليه فإن ذلك غير جائز في المروءة ولا في الشريعة وثالثها أنه عرف فقرهن وفقر أبيهن وعجزهم وأنه عليه السلام كان في نهاية القوة بحيث كان يمكنه الكسب الكثير بأقل سعي فكيف يليق بمروءة مثله طلب الأجرة على ذلك القدر من السقي من الشيخ الفقير والمرأة الفقيرة ورابعها كيف يليق بشعيب النبي عليه السلام أن يبعث ابنته الشابة إلى رجل شاب قبل العلم بكون ذلك الرجل عفيفاً أو فاسقاً والجواب عن الأول أن نقول أما العمل بقول امرأة فكما نعمل بقول الواحد حراً كان أو عبداً ذكراً كان أو أنثى في الأخبار وما كانت إلا مخبرة عن أبيها وأما المشي مع المرأة فلا بأس به مع الاحتياط والتورع والجواب عن الثاني أن المرأة وإن قالت ذلك فلعل موسى عليه السلام ما ذهب إليهم طلباً للأجرة بل للتبرك برؤية ذلك الشيخ وروي أنها لما قالت ليجزيك كره ذلك ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمناً حتى قال شعيب عليه السلام هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا وأيضاً فليس بمنكر أن الجوع قد بلغ إلى حيث ما كان يطيق تحمله فقبل ذلك على سبيل الاضطرار وهذا هو الجواب عن الثالث فإن الضرورات تبيح المحظورات والجواب عن الرابع لعله عليه السلام كان قد علم بالوحي طهارتها وبراءتها فكان يعتمد عليها
أما قوله فَلَمَّا جَاءهُ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام يمشي والجارية أمامه فهبت الريح فكشفت عنها فقال موسى عليه السلام إني من عنصر إبراهيم عليه السلام فكوني من خلفي حتى لا ترفع الريح ثيابك فأرى ما لا يحل لي فلما دخل على شعيب فإذا الطعام موضوع فقال شعيب تناول يا فتى فقال موسى عليه السلام أعوذ بالله قال شعيب ولم قال لأنا من أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهباً
فقال شعيب ولكن عادتي وعادة آبائي إطعام الضيف فجلس موسى عليه السلام فأكل وإنما كره أكل الطعام خشية أن يكون ذلك أجرة له على عمله ولم يكره ذلك مع الخضر حين قال لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ( الكهف 77 ) والفرق أن أخذ الأجر على الصدقة لا يجوز أما الاستئجار ابتداء فغير مكروه
أما قوله وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ فالقصص مصدر كالعلل سمي به المقصوص قال الضحاك لما دخل عليه قال له من أنت يا عبدالله فقال أنا موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب وذكر له جميع أمره من لدن ولادته وأمر القوابل والمراضع والقذف في اليم وقتل القبطي وأنهم يطلبونه ليقتلوه فقال شعيب لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا سلطان له بأرضنا فلسنا في مملكته وليس في الآية دلالة على أنه قال ذلك عن الوحي أو على ما تقتضيه العادة فإن قيل المفسرون قالوا إن فرعون يوم ركب خلف موسى عليه السلام ركب في ألف ألف وستمائة ألف فالملك الذي هذا شأنه كيف يعقل أن لا يكون في ملكه قرية على بعد ثمانية أيام من دار مملكته قلنا هذا وإن كان نادراً إلا أنه ليس بمحال
أما قوله قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ ياأَبَتِ اسْتَجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ الْقَوِى ُّ الامِينُ ففيه مسائل
المسألة الأولى وصفته بالقوة لما شاهدت من كيفية السقي وبالأمانة لما حكينا من غض بصره حال ذودهما الماشية وحال سقيه لهما وحال مشيه بين يديها إلى أبيها
المسألة الثانية إنما جعل خَيْرَ مَنِ اسْتَجَرْتَ اسماً و الْقَوِى ُّ الامِينُ خبراً مع أن العكس أولى لأن العناية هي سبب التقديم
المسألة الثالثة القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما الفطنة والكياسة فلم أهمل أمر الكياسة ويمكن أن يقال إنها داخلة في الأمانة عن ابن مسعود رضي الله ( أفرس الناس ثلاثة بنت شعيب وصاحب يوسف وأبو بكر في عمر )
أما قوله قَالَ إِنّى أُرِيدُ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَى َّ فلا شبهة في أن هذا اللفظ وإن كان على الترديد لكنه عند التزويج عين ولا شبهة في أن العقد وقع على أقل الأجلين فكانت الزيادة كالتبرع والفقهاء ربما استدلوا به على أن العمل قد يكون مهراً كالمال وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز ولكنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا ويدل على أنه قد كان جائزاً في تلك الشريعة أن يشرط للولي منفعة وعلى أنه كان جائزاً في تلك الشريعة نكاح المرأة بغير بدل تستحقه المرأة وعلى أن عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد ثم قال هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِى َ حِجَجٍ تأجرني من أجرته إذا كنت له أجيراً وثماني حجج ظرفه أو من أجرته كذا إذا أثبته إياه ومنه أجركم الله ورحمكم وثماني حجج مفعول به ومعناه رعية ثماني حجج ثم قال وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ وفيه وجهان الأول لا أريد أن أشق عليك بإلزام أثم الرجلين فإن قيل ما حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر قلنا حقيقته أن الأمر إذا تعاظمك فكأنه شق عليك ظنك باثنين تقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه الثاني لا أريد أن أشق عليك في الرعي ولكني أساهلك فيها وأسامحك بقدر الإمكان ولا أكلفك الاحتياط الشديد في كيفية الرعي وهكذا كان الأنبياء عليهم السلام آخذين بالأسمح في معاملات الناس ومنه الحديث ( كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شريكي فكان خير شريك لا يداري ولا يشاري ولا يماري ) ثم قال سَتَجِدُنِى إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وفيه وجهان الأول يريد بالصلاح حسن المعاملة
ولين الجانب والثاني يريد الصلاح على العموم ويدخل تحته حسن المعاملة وإنما قال إن شاء الله للاتكال على توفيقه ومعونته
فإن قيل فالعقد كيف ينعقد مع هذا الشرط فإنك لو قلت امرأتي طالق إن شاء الله لا تطلق قلنا هذا مما يختلف بالشرائع
أما قوله تعالى قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ فاعلم أن ذلك مبتدأ وبيني وبينك خبره وهو إشارة إلى ما عاهده عليه شعيب عليه السلام يريد ذلك الذي قلته وعاهدتني عليه قائم بيننا جميعاً لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما شرطت علي ولا أنت عما شرطت على نفسك ثم قال أَيَّمَا الاْجَلَيْنِ قَضَيْتُ من الأجلين أطولهما الذي هو العشر أو أقصرهما الذي هو الثمان فَلاَ عُدْوَانَ عَلَى َّ أي لا يعتدي عليَّ في طلب الزيادة أراد بذلك تقرير أمر الخيار يعني إن شاء هذا وإن شاء هذا ويكون اختيار الأجل الزائد موكولاً إلى رأيه من غير أن يكون لأحد عليه إجبار ثم قال وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ والوكيل هو الذي وكل إليه الأمر ولما استعمل الوكيل في معنى الشاهد عدي بعلي لهذا السبب
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاٌّ جَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لاًّهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى ءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى ءَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَة ٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِى َ مِن شَاطِى ءِ الْوَادِى الأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ مِنَ الشَّجَرَة ِ أَن يامُوسَى إِنِّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاٌّ مِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُو ءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ
اعلم أنه روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( تزوج صغراهما وقضى أوفاهما ) أي قضى أوفى الأجلين وقال مجاهد قضى الأجل عشر سنين ومكث بعد ذلك عنده عشر سنين وقوله فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءانَسَ
يدل على أن ذلك الإيناس حصل عقيب مجموع الأمرين ولا يدل على أنه حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل فبطل ما قاله القاضي من أن ذلك يدل على أنه لم يزد عليه وقوله وَسَارَ بِأَهْلِهِ ليس فيه دلالة على أنه خرج منفرداً معها وقوله امْكُثُواْ فيه دلالة على الجمع
أما قوله إِنّى آنَسْتُ نَاراً فقد مر تفسيره في سورة طه والنمل
أما قوله فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ ففيه أبحاث
الأول قال صاحب ( الكشاف ) الجذوة باللغات الثلاث وقد قرىء بهن جميعاً وهو العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن قال الزجاج الجذوة القطعة الغليظة من الحطب
الثاني قد حكينا في سورة طه أنه أظلم عليه الليل في الصحراء وهبت ريح شديدة فرقت ماشيته وضل وأصابهم مطر فوجدوا برداً شديداً فعنده أبصر ناراً بعيدة فسار إليها يطلب من يدله على الطريق وهو قوله مّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ أو آتيكم من هذه النار بجذوة من الحطب لعلكم تصطلون وفي قوله فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ دلالة على إنه ضل وفي قوله لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ دلالة على البرد
أما قوله فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِى َ مِن شَاطِىء الْوَادِى الايْمَنِ فِى الْبُقْعَة ِ الْمُبَارَكَة ِ مِنَ الشَّجَرَة ِ أَن يامُوسَى مُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فاعلم أن شاطىء الوادي جانبه وجاء النداء عن يمين موسى من شاطىء الوادي من قبل الشجرة وقوله مِنَ الشَّجَرَة ِ بدل من قوله مِن شَاطِىء الْوَادِى بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطىء كقوله لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ ( الزخرف 33 ) وإنما وصف البقعة بكونها مباركة لأنه حصل فيها ابتداء الرسالة وتكليم الله تعالى إياه وههنا مسائل
المسألة الأولى احتجت المعتزلة على قولهم إن الله تعالى متكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله مِنَ الشَّجَرَة ِ فإن هذا صريح في أن موسى عليه السلام سمع النداء من الشجرة والمتكلم بذلك النداء هو الله سبحانه وهو تعالى منزه أن يكون في جسم فثبت أنه تعالى إنما يتكلم بخلق الكلام في جسم أجاب القائلون بقدم الكلام فقالوا لنا مذهبان الأول قول أبي منصور الماتريدي وأئمة ما وراء النهر وهو أن الكلام القديم القائم بذات الله تعالى غير مسموع إنما المسموع هو الصوت والحرف وذلك كان مخلوقاً في الشجرة ومسموعاً منها وعلى هذا التقدير زال السؤال الثاني قول أبي الحسن الأشعري وهو أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعاً كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية فعلى هذا القول لا يبعد أنه سمع الحرف والصوت من الشجرة وسمع الكلام القديم من الله تعالى لا من الشجرة فلا منافاة بين الأمرين واحتج أهل السنة بأن محل قوله إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لو كان هو الشجرة لكان قد قالت الشجرة إني أنا الله والمعتزلة أجابوا بأن هذا إنما يلزم لو كان المتكلم بالكلام هو محل الكلام لا فاعله وهذا هو أصل المسألة أجاب أهل السنة بأن الذراع المسموم قال لا تأكل مني فإني مسموم ففاعل ذلك الكلام هو الله تعالى فإن كان المتكلم بالكلام هو فاعل ذلك الكلام لزم أن يكون الله قد قال لا تأكل مني فإني مسموم وهذا باطل وإن كان المتكلم هو محل الكلام لزم أن تكون الشجرة قد قالت إني أنا الله وكل ذلك باطل
المسألة الثانية يحتمل أن يقال إنه تعالى خلق فيه علماً ضرورياً بأن ذلك الكلام كلام الله والمعتزلة لا يرضون بذلك قالوا لأنه لو علم بالضرورة أن ذلك الكلام كلام الله لوجب أن يعلم بالضرورة وجود الله تعالى
لأنه يستحيل أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلومة بالنظر ولو علم موسى أنه الله تعالى بالضرورة لزال التكليف ويحتمل أن يقال إنه تعالى لما أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت عرف أن مثل ذلك الكلام لا يمكن أن يكون كلام الخلق ويحتمل أن يقال إن ظهور الكلام من الشجرة كظهور التسبيح من الحصى في أنه يعلم أن مثل ذلك لا يكون إلا من الله تعالى ويحتمل أن يكون المعجز هو أنه رأى النار في الشجرة الرطبة فعلم أنه لا يقدر على الجمع بين النار وبين خضرة الشجرة إلا الله تعالى ويحتمل أن يصح ما يروى أن إبليس لما قال له كيف عرفت أنه نداء الله تعالى قال لأني سمعته بجميع أجزائي فلما وجد حس السمع من جميع الأجزاء علم أن ذلك مما لا يقدر عليه أحد سوى الله تعالى وهذا إنما يصح على مذهبنا حيث قلنا البنية ليست شرطاً
المسألة الثالثة قال في سورة النمل ( 8 ) نُودِى َ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وقال ههنا يامُوسَى إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقال في طه ( 11 12 ) نُودِى َ إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء
المسألة الرابعة قال الحسن إن موسى عليه السلام نودي نداء الوحي لا نداء الكلام والدليل عليه قوله تعالى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى قال الجمهور إن الله تعالى كلمه من غير واسطة والدليل عليه قوله تعالى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( النساء 164 ) وسائر الآيات وأما الذي تمسك به الحسن فضعيف لأن قوله فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى لم يكن بالوحي لأنه لو كان ذلك أيضاً بالوحي لانتهى آخر الأمر إلى كلام يسمعه المكلف لا بالوحي وإلا لزم التسلسل بل المراد من قوله فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى وصيته بأن يتشدد في الأمور التي تصل إليه في مستقبل الزمان بالوحي
أما قوله وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ يامُوسَى مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاْمِنِينَ فقد تقدم تفسير كل ذلك وقوله كَأَنَّهَا جَانٌّ صريح في أنه تعالى شبهها بالجان ولم يقل إنه في نفسه جان فلا يكون هذا مناقضاً لكونه ثعباناً بل شبهها بالجان من حيث الاهتزاز والحركة لا من حيث المقدار وقد تقدم الكلام في خوفه ومعنى وَلَمْ يُعَقّبْ لم يرجع يقال عقب المقاتل إذا كر بعد الفر وقال وهب إنها لم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعتها حتى سمع موسى عليه السلام صرير أسنانها وسمع قعقعة الصخر في جوفها فحينئذ ولى واختلفوا في العصا على وجوه أحدها قالوا إن شعيباً كانت عنده عصي الأنبياء عليهم السلام فقال لموسى بالليل إذا دخلت ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي فأخذ عصا هبط بها آدم عليه السلام من الجنة ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب عليه السلام فقال أرني العصا فلمسها وكان مكفوفاً فضن بها فقال خذ غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له معها شأناً وروي أيضاً أن شعيباً عليه السلام أمر ابنته أن تأتي بعصا لأجل موسى عليه السلام فدخلت البيت وأخذت العصا وأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها فلم يقع في يدها غيرها فلما رأى الشيخ ذلك رضي به ثم ندم بعد ذلك وخرج يطلب موسى عليه السلام فلما لقيه قال أعطني العصا قال موسى هي عصاي فأبى أن يعطيه إياها فاختصما ثم توافقا على أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما فأتاهما ملك يمشي فقضى بينهما فقال ضعوها على الأرض فمن حملها فهي له فعالجها الشيخ فلم
يطق وأخذها موسى عليه السلام بسهولة فتركها الشيخ لع ورعى له عشر سنين وثانيها روى ابن صالح عن ابن عباس قال كان في دار بيرون ابن أخي شعيب بيت لا يدخله إلا بيرون وابنته التي زوجها من موسى عليه السلام وأنها كانت تكنسه وتنطفه وكان في ذلك البيت ثلاث عشرة عصا وكان لبيرون أحد عشر ولداً من الذكور فكلما أدرك منهم ولد أمره بدخول البيت وإخراج عصا من تلك العصي فرجع موسى ذات يوم إلى منزله فلم يجد أهله واحتج إلى عصا لرعيه فدخل ذلك البيت وأخذ عصا من تلك العصي وخرج بها فلما علمت المرأة ذلك انطلقت إلى أبيها وأخبرته بذلك فسر بذلك بيرون وقال لها إن زوجك هذا لنبي وإن له مع هذه العصا لشأناً وثالثها في بعض الأخبار أن موسى عليه السلام لما عقد العقد مع شعيب وأصبح من الغد وأراد الرعي قال له شعيب عليه السلام اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ بها أكثر فإن بها تنيناً عظيماً فأخشى عليك وعلى الأغنام منه فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين فاجتهد موسى على أن يردها فلم يقدر فسار على أثرها فرأى عشباً كثيراً ثم إن موسى عليه السلام نام والأغنام ترعى وإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى عليه السلام فقاتلته حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى وهي دامية فلما استيقظ موسى عليه السلام رأى العصا دامية والتنين مقتولاً فارتاح لذلك وعلم أن لله تعالى في تلك العصا قدرة وآية وعاد إلى شعيب عليه السلام وكان ضريراً فمس الأغنام فإذا هي أحسن حالاً مما كانت فسأله عن ذلك فأخبره موسى عليه السلام بالقصة ففرح بذلك وعلم أن لموسى عليه السلام وعصاه شأناً فأراد أن يجازي موسى عليه السلام على حسن رعيه إكراماً وصلة لابنته فقال إني وهبت لك من السخال التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقي الغنم منه ففعل ثم سقى الأغنام منه فما أخطت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى عليه السلام وامرأته فوفى له شرطه ورابعها قال بعضهم تلك العصا هي عصا آدم عليه السلام وإن جبريل عليه السلام أخذ تلك العصا بعد موت آدم عليه السلام فكانت معه حتى لقي بها موسى عليه السلام ربه ليلاً وخامسها قال الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضاً أي أخذها من عرض الشجر يقال اعترض إذا لم يتخير وعن الكلبي الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه ولا مطمع في ترجيح بعض هذه الوجوه على بعض لأنه ليس في القرآن ما يدل عليها والأخبار متعارضة والله أعلم بها
أما قوله تعالى اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء فاعلم أن الله تعالى قد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات أحدها هذه وثانيها قوله في طه ( 22 ) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء وثالثها قوله في النمل ( 12 ) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ قال العزيزي في غريب القرآن اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ أدخلها فيه
أما قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فأحسن الناس كلاماً فيه قال صاحب ( الكشاف ) فيه معنيان أحدهما أن موسى عليه السلام لما قلب الله له العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران اجتناب ما هو غضاضة عليك وإظهار
معجزة أخرى والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه الثاني أن يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعاره من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران ومعنى قوله مِنَ الرَّهْبِ من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك وقوله اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني إخفاء الرهب فإن قيل قد جعل الجناح وهو اليد في أحد الموضعين مضموماً وفي الآخر مضموماً إليه وذلك قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ وقوله وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ( طه 22 ) فما التوفيق بينهما قلنا المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى وبالمضموم إليه اليد اليسرى وكل واحدة من يمنى اليدين ويسراهما جناح هذا كله كلام صاحب ( الكشاف ) وهو في نهاية الحسن
أما قوله تعالى فَذَانِكَ قرىء مخففاً ومشدداً فالمخفف مثنى ( ذا ) والمشدد مثنى ( ذان ) قوله بُرْهَانَانِ مِن رَّبّكَ حجتان نيرتان على صدقه في النبوة وصحة ما دعاهم إليه من التوحيد وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون حتى عرف ما الذي يظهره عنده من المعجزات لأنه تعالى حكى بعد ذلك عن موسى عليه السلام أنه قال إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ ( القصص 33 ) قال القاضي وإذا كان كذلك فيجب أن يكون في حال ظهور البرهانين هناك من دعاه إلى رسالته من أهله أو غيرهم إذا المعجزات إنما تظهر على الرسل في حال الإرسال لا قبله وإنما تظهر لكي يستدل بها غيرهم على الرسالة وهذا ضعيف لأنه ثبت أنه لا بد في إظهار المعجزة من حكمة ولا حكمة أعظم من أن يستدل بها الغير على صدق المدعي وأما كونه لا حكمة ههنا فلا نسلم فلعل هناك أنواعاً من الحكم والمقاصد سوى ذلك لا سيما وهذه الآيات متطابقة على أنه لم يكن هناك مع موسى عليه السلام أحد
قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِأايَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِأايَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى ءَابَآئِنَا الاٌّ وَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّى أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما قال فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ( القصص 32 ) تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه فعند ذلك طلب من الله تعالى ما يقوي قلبه ويزيل خوفه فقال رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً لأنه كان في لسانه حبسة إما في أصل الخلقة وإما لأجل أنه وضع الجمرة في فيه عندما نتف لحية فرعون
أما قوله فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ رِدْءاً يُصَدّقُنِى ففيه أبحاث
البحث الأول الردء اسم ما يستعان به فعل بمعنى مفعول به كما أن الدفء اسم لما يدفأ به يقال ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشب أو غيره لئلا يسقط
البحث الثاني قرأ نافع ( رداً ) بغير همز والباقون بالهمز وقرأ عاصم وحمزة ( يصدقني ) برفع القاف ويروى ذلك أيضاً عن أبي عمرو والباقون بجزم القاف وهو المشهور عن أبي عمرو فمن رفع فالتقدير ردءاً مصدقاً لي ومن جزم كان على معنى الجزاء يعني أن أرسلته صدقني ونظيره قوله فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى ( مريم 5 6 ) بجزم الثاء من يرثني وروى السدي عن بعض شيوخه ردءاً كيما يصدقني
البحث الثالث الجمهور على أن التصديق لهرون وقال مقاتل المعنى كي يصدقني فرعون والمعنى أرسل معي أخي حتى يعاضدني على إظهار الحجة والبيان فعند اجتماع البرهانين ربما حصل المقصود من تصديق فرعون
البحث الرابع ليس الغرض بتصديق هرون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى وإنما هو أن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد ألا ترى إلى قوله وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِى َ وفائدة الفصاحة إنما تظهر فيما ذكرناه لا في مجرد قوله صدقت
البحث الخامس قال الجبائي إنما سأل موسى عليه السلام أن يرسل هرون بأمر الله تعالى وإن كان لا يدري هل يصلح هرون للبعثة أم لا فلم يكن ليسأل مالا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة ويحتمل أيضاً أن يقال إنه سأله لا مطلقاً بل مشروطاً على معنى إن اقتضت الحكمة ذلك كما يقوله الداعي في دعائه
البحث السادس قال السدي إن نبيين وآيتين أقوى من نبي يواحد وآية واحدة قال القاضي والذي قاله من جهة العادة أقوى فأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ونبي ونبيين لأن المبعوث إليه إن نظر في أيهما كان علم وإن لم ينظر فالحالة واحدة هذا إذا كانت طريقة الدلالة في المعجزتين واحدة فإما إذا اختلفت وأمكن في إحداهما إزالة الشبهة ما لا يمكن في الأخرى فغير ممتنع أن يختلفا ويصلح عند ذلك أن يقال إنهما بمجموعهما أقوى من إحداهما على ما قاله السدي لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهرون عليهما السلام لأن معجزتهما كانت واحدة لا متغايرة
أما قوله سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ فاعلم أن العضد قوام اليد وبشدتها تشتد يقال في دعاء الخير شد الله عضدك وفي ضده فت الله في عضدك ومعنى سنشد عضدك بأخيك سنقويك به فإما أن يكون ذلك لأن اليد تشتد لشدة العضد والجملة تقوى بشدة اليد على مزاولة الأمور وإما لأن الرجل شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد فجعل كأنه يد مشتدة بعضد شديدة
أما قوله وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا فالمقصود أن الله تعالى آمنه مما كان يحذر فإن قيل بين تعالى أن السلطان هو بالآيات فكيف لا يصلون إليهما لأجل الآيات أو ليس فرعون قد وصل إلى صلب السحرة وإن كانت هذه الآيات ظاهرة قلنا إن الآية التي هي قلب العصا حية كما أنها معجزة فهي أيضاً تمنع من وصول ضرر فرعون إلى موسى وهرون عليهما السلام لأنهم إذا علموا أنه متى ألقاها صارت حية عظيمة وإن أراد إرسالها عليهم أهلكتهم زجرهم ذلك عن الإقدام عليهما فصارت مانعة من الوصول إليهما بالقتل وغيره وصارت آية ومعجزة فجمعت بين الأمرين فأما صلب السحرة ففيه خلاف فمنهم من قال ما صلبوا وليس في القرآن ما يدل عليه وإن سلمنا ذلك ولكنه تعالى قال فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا فالمنصوص أنهم لا يقدرون على إيصال الضرر إليهما وإيصال الضرر إلى غيرهما لا يقدح فيه ثم قال أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ والمراد إما الغلبة بالحجة والبرهان في الحال أو الغلبة في الدولة والمملكة في ثاني الحال والأول أقرب إلى اللفظ
أما قوله فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَى بِئَايَاتِنَا بَيّنَاتٍ فقد بينا في سورة طه أنه كيف أطلق لفظ الآيات وهو جمع على العصا واليد
أما قوله قَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى فقد اختلفوا في مفترى فقال بعضهم المراد أنه إذا كان سحراً وفاعله يوهم خلافه فهو المفترى وقال الجبائي المراد أنه منسوب إلى الله تعالى وهو من قبله فكأنهم قالوا هو كذب من هذا الوجه ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم وهو قولهم وَمَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى ءابَائِنَا الاْوَّلِينَ أي ما حدثنا بكونه فيهم ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا مثله أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته أو ما كان الكهان يخبرون بظهور موسى عليه السلام ومجيئه بما جاء به
واعلم أن هذه الشبهة ساقطة لأن حاصلها يرجع إلى التقليد ولأن حال الأولين لا يخلو من وجهين إما أن لا يورد عليهم بمثل هذه الحجة فحينئذ الفرق ظاهر أو أورد عليهم فدفعوه فحينئذ لا يجوز جعل جهلهم وخطئهم حجة فعند ذلك قال موسى عليه السلام وقد عرف منهم العناد رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ فإن من أظهر الحجة ولم يجد من الخصم اعتراضاً عليها وإنما لما وجد منه العناد صح أن يقول ربي أعلم بمن معه الهدى والحجة منا جميعاً ومن هو على الباطل ويضم إليه طريق الوعيد والتخويف وهو قوله وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَة ُ الدَّارِ من ثواب على تمسكه بالحق أو من عقاب وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة والدليل عليه قوله تعالى أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتِ عَدْنٍ ( الرعد 22 23 ) وقوله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى ( البلد 42 ) والمراد بالدار الدنيا وعاقبتها وعقباها أن يختم للعبد بالرحمة والرضوان وتلقى الملائكة بالبشرى عند الموت فإن قيل العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسمى عاقبة الدار لأن الدنيا قد تكون خاتمتها بخير في حق البعض وبشر في حق البعض الآخر فلم
اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمتها بالشر قلنا إنه قد وضع الله سبحانه الدنيا مجازاً إلى الآخرة وأمر عباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير ليبلغوا خاتمة الخير وعاقبة الصدق فمن عمل فيها خلاف ما وضعها الله له فقد حرف فإذن عاقبتها الأصلية هي عاقبة الخير وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار ثم إنه عليه السلام أكد ذلك بقوله بِئَايَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ والمراد أنهم لا يظفرون بالفوز والنجاة والمنافع بل يحصلون على ضد ذلك وهذا نهاية في زجرهم عن العناد الذي ظهر منهم
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأَيُّهَا الْملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحاً لَّعَلِّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنِّى لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة ُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَة ِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً وَيَوْمَ القِيَامَة ِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاٍّ ولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَة ً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
اعلم أن فرعون كانت عادته متى ظهرت حجة موسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروجها على أغمار قومه وذكر ههنا شبهتين الأولى قوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى وهذا في الحقيقة يشتمل على كلامين أحدهما نفى إله غيره والثاني إثبات إلهية نفسه فأما الأول فقد كان اعتماده على أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته أما أنه لا دليل عليه فلأن هذه الكواكب والأفلاك كافية في اختلاف أحوال هذا العالم السفلي فلا حاجة إلى إثبات صانع وأما أن ما لا دليل عليه لم يجز إثباته فالأمر فيه ظاهر
واعلم أن المقدمة الأولى كاذبة فإنا لا نسلم أنه لا دليل على وجود الصانع وذلك لأنا إذا عرفنا بالدليل حدوث الأجسام عرفنا حدوث الأفلاك والكواكب وعرفنا بالضرورة أن المحدث لا بد له من محدث فحينئذ
نعرف بالدليل أن هذا العالم له صانع والعجب أن جماعة اعتمدوا في نفي كثير من الأشياء على أن قالوا لا دليل عليه فوجب نفيه قالوا وإنما قلنا إنه لا دليل لأنا بحثنا وسبرنا فلم نجد عليه دليلاً فرجع حاصل كلامهم بعد التحقيق إلى أن كل ما لا يعرف عليه دليل وجب نفيه وإن فرعون لم يقطع بالنفي بل قال لا دليل عليه فلا أثبته بل أظنه كاذباً في دعواه ففرعون على نهاية جهله أحسن حالاً من هذا المستدل أما الثاني وهو إثباته إلهية نفسه فاعلم أنه ليس المراد منه أنه كان يدعي كونه خالقاً للسموات والأرض والبحار والجبال وخالقاً لذوات الناس وصفاتهم فإن العلم بامتناع ذلك من أوائل العقول فالشك فيه يقتضي زوال العقل بل الإله هو المعبود فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره فهذا هو المراد من ادعائه الإلهية لا ما ظنه الجمهور من ادعائه كونه خالقاً للسماء والأرض لا سيما وقد دللنا في سورة طه ( 49 ) في تفسير قوله فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى مُوسَى على أنه كان عارفاً بالله تعالى وأنه كان يقول ذلك ترويجاً على الأغمار من الناس الشبهة الثانية قوله فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّى صَرْحاً لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وههنا أبحاث
الأول تعلقت المشبهة بهذه الآية في أن الله تعالى في السماء قالوا لولا أن موسى عليه السلام دعاه إلى ذلك لما قال فرعون هذا القول والجواب أن موسى عليه السلام دل فرعون بقوله رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الشعراء 24 ) ولم يقل هو الذي في السماء دون الأرض فأوهم فرعون أنه يقول إن إلهه في السماء وذلك أيضاً من خبث فرعون ومكره ودهائه
الثاني اختلفوا في أن فرعون هل بنى هذا الصرح فال قوم إنه بناه قالوا إنه لما أمر ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع قطعة وقعت على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل وقطعة وقعت في البحر وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا وقد هلك ويروى في هذه القصة أن فرعون ارتقى فوقه ورمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردت إليهم وهي ملطوخة بالدم فقال قد قتلت إله موسى فعند ذلك بعث الله تعالى جبريل عليه السلام لهدمه ومن الناس من قال إنه لم يبن ذلك الصرح لأنه يبعد من العقلاء أن يظنوا أنهم بصعود الصرح يقربون من السماء مع علمهم بأن من على أعلى الجبال الشاهقة يرى السماء كما كان يراها حين كان على قرار الأرض ومن شك في ذلك خرج عن حد العقل وهكذا القول فيما يقال من رمى السهم إلى السماء ورجوعه متلطخاً بالدم فإن كل من كان كامل العقل يعلم أنه لا يمكنه إيصال السهم إلى السماء وأن من حاول ذلك كان من المجانين فلا يليق بالعقل والدين حمل القصة التي حكاها الله تعالى في القرآن على محمل يعرف فساده بضرورة العقل فيصير ذلك مشرعاً قوياً لمن أحب الطعن في القرآن فالأقرب أنه كان أوهم البناء ولم يبن أو كان هذا من تتمة قوله مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى يعني لا سبيل إلى إثباته بالدليل فإن حركات الكواكب كافية في تغير هذا العالم ولا سبيل إلى إثباته بالحس فإن الإحساس به لا يمكن إلا بعد صعود السماء وذلك مما لا سبيل إليه ثم قال عند ذلك لهامان ابْنِ لِى صَرْحاً أَبْلُغُ بِهِ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ وإنما قال ذلك على سبيل التهكم فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع ثم إنه رتب النتيجة عليه فقال وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ
فهذا التأويل أولى مما عداه
الثالث إنما قال غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياهَامَانُ عَلَى الطّينِ ولم يقل اطبخ لي الآجر واتخذه لأنه أول من عمل الآجر فهو يعلمه الصنعة ولأن هذه العبارة أليق بفصاحة القرآن وأشبه بكلام الجبابرة وأمر هامان وهو وزيره بالإيقاد على الطين فنادى باسمه بيافي وسط الكلام دليل على التعظم والتجبر والطلوع والاطلاع الصعود يقال طلع الجبل واطلع بمعنى واحد
أما قوله وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ فاعلم أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى وهو المتكبر في الحقيقة أي المبالغ في كبرياء الشأن قال عليه السلام فيما حكى عن ربه ( الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار ) وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق
المسألة الثانية قال الجبائي الآية تدل على أنه تعالى ما أعطاه الملك وإلا لكان ذلك بحق وهكذا كل متغلب لا كما ادعى ملوك بني أمية عند تغلبهم أن ملكهم من الله تعالى فإن الله تعالى قد بين في كل غاصب لحكم الله أنه أخذ ذلك بغير حق واعلم أن هذا ضعيف لأن وصول ذلك الملك إليه إما أن يكون منه أو من الله تعالى أو لا منه ولا من الله تعالى فإن كان منه فلم لم يقدر عليه غيره فربما كان العاجز أقوى وأعقل بكثير من المتولي للأمر وإن كان من الله تعالى فقد صح الغرض وإن كان من سائر الناس فلم اجتمعت دواعي الناس على نصرة أحدهما وخذلان الآخر واعلم أن هذا أظهر من أن يرتاب فيه العاقل
أما قوله وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فهذا يدل على أنهم كانوا عارفين بالله تعالى إلا أنهم كانوا ينكرون البعث فلأجل ذلك تمردوا وطغوا
أما قوله فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمّ فهو من الكلام المفحم الذي دل به على عظم شأنه وكبرياء سلطانه شبههم استحقاراً لهم واستقلالاً لعددهم وإن كانوا الكبير الكثير والجم الغفير بحصيات أخذهن آخذ في كفه فطرحهن في البحر ونحو ذلك وقوله وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِى َ شَامِخَاتٍ ( المرسلات 27 ) وَحُمِلَتِ الاْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّة ً واحِدَة ً ( الحاقة 14 ) وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( الزمر 67 ) سبحانه وتعالى وليس الغرض منه إلا تصوير أن كل مقدور وإن عظم فهو حقير بالقياس إلى قدرته
أما قوله وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ فقد تمسك به الأصحاب في كونه تعالى خالقاً للخير والشر قال الجبائي المراد بقوله وَجَعَلْنَاهُمْ أي بينا ذلك من حالهم وسميناهم به ومنه قوله وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وتقول أهل اللغة في تفسير فسقه وبخله جعله فاسقاً وبخيلاً لا أنه خلقهم أئمة لأنهم حال خلقهم لهم كانوا أطفالاً وقال الكعبي إنما قال وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً من حيث خلى بينهم وبين ما فعلوه ولم يعاجل بالعقوبة ومن حيث كفروا ولم يمنعهم بالقسر وذلك كقوله فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا ( التوبة 125 ) لما زادوا عندها ونظير ذلك أن الرجل يسأل ما يثقل عليه وإن أمكنه فإذا
بخل به قيل للسائل جعلت فلاناً بخيلاً أي قد بخلته وقال أبو مسلم معنى الإمامة التقدم فلما عجل الله تعالى لهم العذاب صاروا متقدمين لمن وراءهم من الكافرين واعلم أن الكلام فيه قد تقدم في سورة مريم ( 83 ) في قوله أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ومعنى دعوتهم إلى النار دعوتهم إلى موجباتها من الكفر والمعاصي فإن أحداً لا يدعو إلى النار ألبتة وإنما جعلهم الله تعالى أئمة في هذا الباب لأنهم بلغوا في هذا الباب أقصى النهايات ومن كان كذلك استحقق أن يكون إماماً يقتدى به في ذلك الباب ثم بين تعالى أن ذلك العقاب سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه وهو معنى قوله وَيَوْمَ الْقِيامَة ِ لاَ يُنصَرُونَ أو يكون معناه ويوم القيامة لاينصرون كما ينصر الأئمة الدعاة إلى الجنة
أما قوله وَأُتْبِعُواْ فِى هَاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَة ً معناه لعنة الله والملائكة لهم وأمره تعالى بذلك فيها للمؤمنين وبين أنهم يوم القيامة من المقبوحين أي المبعدين الملعونين والقبح هو الإبعاد قال الليث يقال قبحه الله أي نحاه عن كل خير وقال ابن عباس رضي الله عنهما من المشئومين بسواد الوجه وزرقة العين وعلى الجملة فالأولون حملوا القبح على القبح الروحاني وهو الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى والباقون حملوه على القبح في الصور وقيل فيه إنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم ويجمع بين الفضيحتين ثم بين تعالى أن الذي يجب التمسك به ما جاء به موسى عليه السلام فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاْولَى والكتاب هو التوراة ووصفه تعالى بأنه بصائر للناس من حيث يستبصر به في باب الدين وهدى من حيث يستدل به ومن حيث إن المتمسك به يفوز بطلبته من الثواب ووصفه بأنه رحمة لأنه من نعم الله تعالى على من تعبد به وروى أبو سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما أهلك الله تعالى قرناً من القرون بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل التوراة غير أهل القرية التي مسخها قردة )
أما قوله لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فالمراد لكي يتذكروا قال القاضي وذلك يدل على إرادة التذكر من كل مكلف سواء اختار ذلك أو لم يختره ففيه إبطال مذهب المجبرة الذين يقولون ما أراد التذكر إلا ممن يتذكر فأما من لا يتذكر فقد كره ذلك منه ونص القرآن دافع لهذا القول قلنا أليس أنكم حملتم قوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( الأعراف 179 ) على العاقبة فلم لا يجوز حمله ههنا على العاقبة فإن عاقبة الكل حصول هذا التذكر له وذلك في الآخرة
وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الاٌّ مْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَة ً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَة ٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أن في الآية سؤالات
السؤال الأول الجانب موصوف والغربي صفة فكيف أضاف الموصوف إلى الصفة الجواب هذه مسألة خلافية بين النحويين فعند البصريين لا يجوز إضافة الموصوف إلى الصفة إلا بشرط خاص سنذكره وعند الكوفيين يجوز ذلك مطلقاً حجة البصريين أن إضافة الموصوف إلى الصفة تقتضي إضافة الشيء إلى نفسه وهذا غير جائز فذاك أيضاً غير جائز بيان الملازمة أنك إذا قلت جاءني زيد الظريف فلفظ الظريف يدل على شيء معين في نفسه مجهول بحسب هذا اللفظ حصلت له الظرافة فإذا نصصت على زيد عرفنا أن ذلك الشيء الذي حصلت له الظرافة هو زيد إذا ثبت هذا فلو أضفت زيداً إلى الظريف كنت قد أضفت زيداً إلى زيد وإضافة الشيء إلى نفسه غير جائزة فإضافة الموصوف إلى صفته وجب أن لا تجوز إلا أنه جاء على خلاف هذه القاعدة ألفاظ وهي قوله تعالى في هذه الآية وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ وقوله وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَة ِ ( البينة 5 ) وقوله حَقُّ الْيَقِينِ ( الواقعة 95 ) وَلَدَارُ الاْخِرَة ِ ( النحل 30 ) ويقال صلاة الأولى ومسجد الجامع وبقلة الحمقاء فقالوا التأويل فيه جانب المكان الغربي ودين الملة القيمة وحق الشيء اليقين ودار الساعة الآخرة وصلاة الساعة الأولى ومسجد المكان الجامع وبقلة الحبة الحمقاء ثم قالوا في هذه المواضع المضاف إليه ليس هو النعت بل المنعوت إلا أنه حذف المنعوت وأقيم النعت مقامه فههنا ينظر إن كان ذلك النعت كالمتعين لذلك المنعوت حسن ذلك وإلا فلا ألا ترى أنه ليس لك أن تقول عندي جيد على معنى عندي درهم جيد ويجوز مررت بالفقيه على معنى مررت بالرجل الفقيه لأن الفقيه يعلم أنه لا يكون إلا من الناس والجيد قد يكون درهماً وقد يكون غيره وإذا كان كذلك حسن قوله جانب الغربي لأن الشيء الموصوف بالغربي الذي يضاف إليه الجانب لا يكون إلا مكاناً أو ما يشبهه فلا جرم حسنت هذه الإضافة وكذا القول في البواقي والله أعلم
السؤال الثاني ما معنى قوله إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ الجواب الجانب الغربي هو المكان الواقع في شق الغرب وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور وكتب الله ( له ) في الألواح والأمر المقضي إلى موسى عليه السلام الوحي الذي أوحى إليه والخطاب للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) يقول وما كنت حاضراً المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى عليه السلام ولا كنت من جملة الشاهدين للوحي إليه أو على ( الموحى ) إليه ( وهي لأن الشاهد لا بد وأن يكون حاضراً ) وهم نقباؤه الذين اختارهم للميقات
السؤال الثالث لما قال وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ثبت أنه لم يكن شاهداً لأن الشاهد لا بد أن يكون حاضراً فما الفائدة في إعادة قوله وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الجواب قال ابن عباس رضي الله عنهما التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى
السؤال الرابع كيف يتصل قوله وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً بهذا الكلام ومن أي وجه يكون استدراكاً له الجواب معنى الآية ولكنا أنشأنا بعد عهد موسى عليه السلام إلى عهدك قروناً كثيرة فتطاول عليهم العمر وهو القرن الذي أنت فيه فاندرست العلوم فوجب إرسالك إليهم فأرسلناك وعرفناك أحوال الأنبياء وأحوال موسى فالحاصل كأنه قال وما كنت شاهداً لموسى وما جرى عليه ولكنا أوحيناه إليك فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب فإذن هذا الاستدراك شبيه الاستدراكين بعده واعلم أن هذا تنبيه على المعجز كأنه قال إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله دلالة ظاهرة على نبوتك كما قال أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَة ُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْولَى ( طه 133 )
أما قوله وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ فالمعنى ما كنت مقيماً فيه
وأما قوله تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا ففيه وجهان الأول قال مقاتل يقول لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ أي أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك لما علمتها الثاني قال الضحاك يقول إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولاً فأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء
أما قوله وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه وَلَاكِن رَّحْمَة ً مّن رَّبِكَ أي علمناك رحمة وقرأ عيسى بن عمر بالرفع أي هي رحمة وذكر المفسرون في قوله إِذْ نَادَيْنَا وجوهاً أخر أحدها إذ نادينا أي قلنا لموسى وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَى ْء إلى قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( الأعراف 156 157 ) وثانيها قال ابن عباس إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم ( يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ) قال وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى عليه السلام سبعين رجلاً لميقات ربه وثالثها قال وهب ( لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال رب أرنيهم قال إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم قال بلى يا رب فقال سبحانه يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فأسمعه الله تعالى أصواتهم ثم قال أجبتكم قبل أن تدعوني ) الحديث كما ذكره ابن عباس ورابعها روى سهل بن سعد قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا قال كتب الله كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى ( يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله أدخلته الجنة )
أما قوله لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ فالإنذار هو التخويف بالعقاب على المعصية واعلم أنه تعالى لما بين قصة موسى عليه السلام قال لرسوله وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ فجمع تعالى بين كل ذلك لأن هذه الأحوال الثلاثة هي الأحوال العظيمة التي اتفقت لموسى عليه السلام إذ المراد بقوله إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الاْمْرَ إنزال التوراة حتى تكامل دينه واستقر شرعه والمراد بقوله وَمَا كُنتَ ثَاوِياً أول أمره والمراد ناديناه وسط أمره وهو ليلة المناجاة ولما بين تعالى أنه عليه السلام لم يكن في هذه الأحوال حاضراً بين تعالى أنه بعثه وعرفه هذه الأحوال رحمة للعالمين
ثم فسر تلك الرحمة بأن قال لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أَتَاهُم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ واختلفوا فيه فقال بعضهم لم يبعث إليهم نذير منهم وقال بعضهم حجة الأنبياء كانت قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجد تلك الحجة عليهم وقال بعضهم لا يبعد وقوع الفترة في التكاليف فبعثه الله تعالى تقريراً للتكاليف وإزالة لتلك الفترة
أما قوله وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَة ٌ الآية فقال صاحب ( الكشاف ) ( لولا ) الأولى امتناعية وجوابها محذوف والثانية تحضيضية والفاء في قوله فَيَقُولُواْ للعطف ( وفي قوله للعطف ) وفي قوله فَنَتَّبِعَ جواب ( لولا ) لكونها في حكم الأمر من قبل أن الأمر باعث على الفعل والباعث والمحضض من واد واحد والمعنى لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بما قدموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولاً محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم يعني إنما أرسلنا الرسول إزالة لهذا العذر وهو كقوله لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة ٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( النساء 165 ) أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ ( المائدة 19 ) لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءايَاتِكَ واعلم أنه تعالى لم يقل ولولا أن يقولوا هذا العذر لما أرسلنا بل قال وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَة ٌ فَيَقُولُواْ هذا العدو لما أرسلنا وإنما قال ذلك لنكتة وهي أنهم لو لم يعاقبوا مثلاً وقد عرفوا بطلان دينهم لما قالوا ذلك بل إنما يقولون ذلك إذا نالهم العقاب فيدل ذلك على أنهم لم يذكروا هذا العذر تأسفاً على كفرهم بل لأنهم ما أطاقوا وفيه تنبيه على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم كقوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) وفي الآية مسائل
المسألة الأولى احتج الجبائي على وجوب فعل اللطف قال لو لم يجب ذلك لم يكن لهم أن يقولوا هلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك إذ من الجائز أن لا يبعث إليهم وإن كانوا لا يختارون الإيمان إلا عنده على قول من خالف في وجوب اللطف كما مر أن الجائز إذا كان في المعلوم لو خلق له لم يمكن إلا أن يفعل ذلك
المسألة الثانية احتج الكعبي به على أن الله تعالى يقبل حجة العباد وليس الأمر كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لا يقبل الحجة وظهر بهذا أنه ليس المراد من قوله لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ( الأنبياء 23 ) ما يظنه أهل السنة وإذا ثبت أنه يقبل الحجة وجب أن لا يكون فعل العبد بخلق الله تعالى وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى
المسألة الثالثة قال القاضي فيه إبطال القول بالجبر من جهات إحداها أن اتباعهم وإيمانهم موقوف على أن يخلق الله ذلك فيهم سواء أرسل الرسول إليهم أم لا وثانيتها أنه إذا خلق القدرة على ذلك فيهم وجب سواء أرسل الرسول أم لا وثالثتها إذا أراد ذلك وجب أرسل الرسول إليهم أم لا فأي فائدة في قولهم هذا لو كانت أفعالهم خلقاً لله تعالى فيقال للقاضي هب أنك نازعت في الخلق والإرادة ولكنك وافقت في العلم فإذا علم الكفر منهم فهل يجب أم لا فإن لم يجب أمكن أن لا يوجد الكفر مع حصول العلم بالكفر وذلك جمع بين الضدين وإن وجب لزمك ما أوردته علينا واعلم أن الكلام وإن كان قوياً حسناً إلا أنه إذا توجه عليه النقض الذي لا محيص عنه فكيف يرضى العاقل بأن يعول عليه
فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلا أُوتِى َ مِثْلَ مَآ أُوتِى َ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِى َ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَائِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيِّئَة َ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم عند الخوف قالوا هلا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك بين أيضاً أنه بعد الإرسال إلى أهل مكة قالوا لَوْلا أُوتِى َ مِثْلَ مَا أُوتِى َ مُوسَى فهؤلاء قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى فظهر أنه لا مقصود لهم سوى الزيغ والعناد
أما قوله فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا أي جاءهم الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر وتظليل الغمام وانفجار الحجر بالماء والمن والسلوى ومن أن الله كلمه وكتب له في الألواح وغيرها من الآيات فجاؤا بالاقتراحات المبنية على التعنت والعناد كما قالوا لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ ( هود 12 ) وما أشبه ذلك
واعلم أن الذي اقترحوه غير لازم لأنه لا يجب في معجزات الأنبياء عليهم السلام أن تكون واحدة ولا فيما ينزل إليهم من الكتب أن يكون على وجه واحد إذ الصلاح قد يكون في إنزاله مجموعاً كالتوراة ومفرقاً كالقرآن ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى مِن قَبْلُ واختلفوا في أن الضمير في قوله أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ إلى من يعود وذكروا وجوهاً أحدها أن اليهود أمروا قريشاً أن يسألوا محمداً أن يؤتى مثل ما أوتي موسى عليه السلام فقال تعالى أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى يعني أو لم
تكفروا يا هؤلاء اليهود الذين استخرجوا هذا السؤال بموسى عليه السلام مع تلك الآيات الباهرة وثانيها أن الذين أوردوا هذا الاقتراح كفار مكة والذين كفروا بموسى هم الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لأنهم في الكفر والتعنت كالشيء الواحد وثالثها قال الكلبي إن مشركي مكة بعثوا رهطاً إلى يهود المدينة ليسألهم عن محمد وشأنه فقالوا إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الرهط إليهم وأخبروهم بقول اليهود قالوا إنه كان ساحراً كما أن محمداً ساحر فقال تعالى أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى ورابعها قال الحسن قد كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام فمعناه على هذا أو لم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهرون ساحران وخامسها قال قتادة أو لم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام فقالوا ساحران وسادسها وهو الأظهر عندي أن كفار قريش ومكة كانوا منكرين لجميع النبوات ثم إنهم لما طلبوا من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) معجزات موسى عليه السلام قال الله تعالى أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى مِن قَبْلُ بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل فعلمنا أنه لا غرض لكم في هذا الاقتراح إلا التعنت ثم إنه تعالى حكى كيفية كفرهم بما أوتي موسى من وجهين الأول قولهم وَإِن تَظَاهَرَا قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة ( ساحران ) بالألف وقرأ أهل الكوفة بغير ألف وذكروا في تفسير الساحرين وجوهاً أحدها المراد هرون وموسى عليهما السلام تظاهرا أي تعاونا وقرىء ( اظاهرا ) على الإدغام وسحران بمعنى ذوي سحر وجعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر وكثير من المفسرين فسروا قوله سِحْرَانِ بأن المراد هو القرآن والتوراة واختار أبو عبيدة القراءة بالألف لأن المظاهرة بالناس وأفعالهم أشبه منها بالكتب وجوابه إنا بينا أن قوله سِحْرَانِ يمكن حمله على الرجلين وبتقدير أن يكون المراد الكتابين لكن لما كان كل واحد من الكتابين يقوي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما تقول تظاهرت الأخبار وهذه التأويلات إنما تصح إذا حملنا قوله أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِى َ مُوسَى إما على كفار مكة أو على الكفار الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام ولا شك أن ذلك أليق بمساق الآية الثاني قولهم إِنَّا بِكُلّ كَافِرُونَ أي بما أنزل على محمد وموسى وسائر الأنبياء عليهم السلام ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق إلا بالمشركين لا باليهود وذلك مبالغة في أنهم مع كثرة آيات موسى عليه السلام كذبوه فما الذي يمنع من مثله في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وإن ظهرت حجته ولما أجاب الله تعالى عن شبههم ذكر الحجة الدالة على صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ وهذا تنبيه على عجزهم عن الإتيان بمثله قال الزجاج ( أتبعه ) بالجزم على الشرط ومن قرأ ( أتبعه ) بالرفع فالتقدير أنا أتبعه ثم قال فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ قال ابن عباس يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج وقال مقاتل فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما وهذا أشبه بالآية فإن قيل الاستجابة تقتضي دعاء فأين الدعاء ههنا قلنا قوله فَأْتُواْ بِكِتَابٍ أمر والأمر دعاء إلى الفعل ثم قال فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ يعني قد صاروا ملزمين ولم يبق لهم شيء إلا اتباع الهوى ثم زيف طريقتهم بقوله وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ اللَّهِ وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد وأنه لا بد من الحجة والاستدلال إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وهو عام يتناول الكافر لقوله إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ واحتج الأصحاب به في أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمنين
وقالت المعتزلة الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقاً ومنها ما لا يحسن إلا بعد الإيمان والدليل عليه
قوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) فقوله إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ محمول على القسم الثاني ولا يجوز حمله على القسم الأول لأنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن عدم بعثة الرسول جار مجرى العذر لهم فبأن يكون عدم الهداية عذراً لهم أولى ولما بين تعالى نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه الدلالة قال وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ وتوصيل القول هو إتيان بيان بعد بيان وهو من وصل البعض بالبعض وهذا القول الموصل يحتمل أن يكون المراد منه إنا أنزلنا القرآن منجماً مفرقاً يتصل بعضه ببعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكير والتنبيه فإنهم كل يوم يطلعون على حكمة أخرى وفائدة زائدة فيكونون عند ذلك أقرب إلى التذكر وعلى هذا التقدير يكون هذا جواباً عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة كما أوتي موسى كتابه كذلك ويحتمل أن يكون المراد وصلنا أخبار الأنبياء بعضها ببعض وأخبار الكفار في كيفية هلاكهم تكثيراً لمواضع الاتعاظ والانزجار ويحتمل أن يكون المراد بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزاً مرة بعد أخرى لعلهم يتذكرون ثم إنه تعالى لما أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بأن قال الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ أي من قبل القرآن أسلموا بمحمد فمن لا يعرف الكتب أولى بذلك واختلفوا في المراد بقوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وذكروا فيه وجوهاً أحدها قال قتادة إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها فلما بعث الله تعالى محمداً آمنوا به من جملتهم سلمان وعبدالله بن سلام وثانيها قال مقاتل نزلت في أربعين رجلاً من أهل الإنجيل وهم أصحاب السفينة جاؤا من الحبشة مع جعفر وثالثها قال رفاعة بن قرظة نزلت في عشرة أنا أحدهم وقد عرفت أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكل من حصل في حقه تلك الصفة كان داخلاً في الآية ثم حكى عنهم ما يدل على تأكيد إيمانهم وهو قولهم بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ فقوله إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّنَا يدل على التعليل يعني أن كونه حقاً من عند الله يوجب الإيمان به وقوله إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ بيان لقوله بِهِ إِنَّهُ لأنه يحتمل أن يكون إيماناً قريب العهد وبعيده فأخبروا أن إيمانهم به متقادم وذلك لما وجدوه في كتب الأنبياء عليهم السلام المتقدمين من البشارة بمقدمه ثم إنه تعالى لما مدحهم بهذا المدح العظيم قال أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وذكروا فيه وجوهاً أحدها أنهم يؤتون أجرهم مرتين بإيمانهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل بعثته وبعد بعثته وهذا هو الأقرب لأنه تعالى لما بين أنهم آمنوا به بعد البعثة وبين أيضاً أنهم كانوا به قبل مؤمنين البعثة ثم أثبت الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك وثانيها يؤتون الأجر مرتين مرة بإيمانهم بالأنبياء الذي كانوا قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومرة أخرى بإيمانهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وثالثها قال مقاتل هؤلاء لما آمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) شتمهم المشركون فصفحوا عنهم فلهم أجران أجر على الصف وأجر على الإيمان يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه قال السدي اليهود عابوا عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول سلام عليكم ثم قال وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ والمعنى ( يدفعون ) بالطاعة المعصية المتقدمة ويحتمل أن يكون المراد دفعوا بالعفو والصفح الأذى ويحتمل أن يكون المراد من الحسنة امتناعهم من المعاصي لأن نفس الامتناع حسنة ويدفع به ما لولاه لكان سيئة ويحتمل التوبة والإنابة والاستقرار عليها ثم قال وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
واعلم أنه تعالى مدحهم أولاً بالإيمان ثم
بالطاعات البدنية في قوله وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَة ِ السَّيّئَة َ ثم بالطاعات المالية في قوله وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ قال القاضي دل هذا المدح على أن الحرام لا يكون رزقاً جوابه أن كلمة من للتبعيض فدل على أنهم استحقوا المدح بإنفاق بعض ما كان رزقاً وعلى هذا التقدير يسقط استدلاله ثم لما بين كيفية اشتغالهم بالطاعات والأفعال الحسنة بين كيفية إعراضهم عن الجهال فقال وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ واللغو ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وغيره وكانوا يسمعون ذلك فلا يخوضون فيه بل يعرضون عنه إعراضاً جميلاً فلذلك قال تعالى وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وما أحسن ما قال الحسن رحمه الله في أن هذه الكلمة تحية بين المؤمنين وعلامة الاحتمال من الجاهلين ونظير هذه الآية قوله تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ( الفرقان 63 ) ثم أكد تعالى ذلك بقوله حاكياً عنهم لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ والمراد لا نجازيهم بالباطل على باطلهم قال قوم نسخ ذلك بالأمر بالقتال وهو بعيد لأن ترك المسافهة مندوب وإن كان القتال واجباً
بداية الجزء الخامس والعشرين من تفسير الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن عمر التميمى الرازى الشافعى رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
دار النشر : دار الكتب العلمية - بيروت - 1421هـ - 2000 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 32
إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَى ْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
إعلم أن في قوله تعالى إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء مسائل
المسألة الأولى هذه الآية لا دلالة في ظاهرها على كفر أبي طالب ثم قال الزجاج أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وذلك أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بني عبد مناف أطيعوا محمداً وصدقوه تفلحوا وترشدوا فقال عليه السلام ( يا عم تأمرهم بالنصح لأنفسهم وتدعها لنفسكا قال فما تريد يا ابن أخي قال أريد منك كلمة واحدة فإنك في آخر يوم من أيام الدنيا أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى قال يا أخي قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت ولولا أن يكون عليك وعلى بني إبيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ولأقررت بها عينك عند الفراق لما أرى من شدة وجدك ونصحك ولكني سوف أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف )
المسألة الثانية أنه تعالى قال في هذه الآية إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وقال في آية أخرى وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( الشورى 52 ) ولا تنافي بينهما فإن الذي أثبته وأضافه إليه الدعوة والبيان والذي نفى عنه هداية التوفيق وشرح الصدر وهو نور يقذف في القلب فيحيا به القلب كما قال سبحانه أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا ( الأنعام 122 ) الآية
المسألة الثالثة احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال فقالوا قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء يقتضي أن تكون الهداية في الموضعين بمعنى واحد لأنه لو كان المراد من
الهداية في قوله إِنَّكَ لاَ تَهْدِى شيئاً وفي قوله وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء شيئاً آخر لاختل النظم ثم إما أن يكون المراد من الهداية بيان الدلالة أو الدعوة إلى الجنة أو تعريف طريق الجنة أو خلق المعرفة في القلوب على سبيل الإلجاء أو خلق المعرفة في القلوب لا على سبيل الإلجاء لا جائز أن يكون المراد بيان الأدلة لأنه عليه السلام هدى الكل بهذا المعنى فهي غير الهداية التي نفى الله عمومها وكذا القول في الهداية بمعنى الدعوة إلى الجنة وأما الهداية بمعنى تعريف طريق الجنة فهي أيضاً غير مرادة من الآية لأنه تعالى علق هذه الهداية على المشيئة وتعريف طريق الجنة غير معلق على المشيئة لأنه واجب على الله تعالى والواجب لا يكون معلقاً على المشيئة فمن وجب عليه أداء عشرة دنانير لا يجوز أن يقول إني أعطي عشرة دنانير إن شئت وأما الهداية بمعنى الإلجاء والقسر فغير جائز لأن ذلك عندهم قبيح من الله تعالى في حق المكلف وفعل القبيح مستلزم للجهل أو الحاجة وهما محالان ومستلزم المحال محال فذلك محال من الله تعالى والمحال لا يجوز تعليقه في المشيئة ولما بطلت الأقسام لم يبق إلا أن المراد أنه تعالى يخص البعض بخلق الهداية والمعرفة ويمنع البعض منها ولا يسأل عما يفعل ومتى أوردت الكلام على هذا الوجه سقط كل ما أورده القاضي عذراً عن ذلك
أما قوله وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فالمعنى أنه المختص بعلم الغيب فيعلم من يهتدي بعد ومن لا يهتدي ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر شبههم وأجاب عنها بالأجوبة الواضحة وبين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله تعالى حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بأحوال الدنيا وهي قولهم إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ( القصص 57 ) قال المبرد الخطف الانتزاع بسرعة روى أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكن يمنعنا من ذلك تخطفنا من أرضنا أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا من أرضنا فأجاب الله سبحانه وتعالى عنها من وجوه الأول قوله أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً أي أعطيناكم مسكناً لا خوف لكم فيه إما لأن العرب كانوا يحترمون الحرم وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكانه فإنه يروى أن العرب خارج الحرم كانوا مشتغلين بالنهب والغارة وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكان الحر أو لقوله تعالى وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً ( آل عمران 97 ) وأما قوله يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَى ْء فهو تعالى كما بين كون ذلك الموضع خالياً عن المخاوف والآفات بين كثرة النعم فيه ومعنى يُجْبَى يجمع من قولهم جبيت الماء في الحوض إذا جمعته قرأ أهل المدينة تجبى بالتاء وأهل الكوفة وأبو عمرو بالياء وذلك أن تأنيث الثمرات تأنيث جمع وليس بتأنيث حقيقي فيجوز تأنيثه على اللفظ وتذكيره على المعنى ومعنى الكلية الكثرة كقوله وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَى ْء ( النمل 23 ) وحاصل الجواب أنه تعالى لما جعل الحرم آمناً وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان فلو آمنوا لكان بقاء هذه الحالة أولى قال القاضي ولو أن الرسول قال لهم إن الذي ذكرتم من التخطف لو كان حقاً لم يكن عذراً لكم في أن لا تؤمنوا وقد ظهرت الحجة لانقطعوا أو قال لهم إن تخطفهم لكن بالقتل وغيره وقد آمنتم كالشهادة لكم فهو نفع عائد علكيم لانقطعوا أيضاً ولو قال لهم ما قدر مضرة التخطف في جنب العقاب الدائم الذي أخوفكم منه إن بقيتم على كفركم لانقطعوا لكنه تعالى احتج بما هو أقوى من حيث بين كذبهم في أنهم يتخطفون من حيث عرفوا من حال البقعة بالعادة أن ذلك لا يجري إن آمنوا ومثل ذلك إذا أمكن بيانه للخصم فهو أولى من سائر ما ذكرنا فلذلك قدمه الله تعالى
والآية دالة على صحة الحجاج الذي يتوصل به إلى إزالة شبهة المبطلين بقي ههنا بحثان
الأول قال صاحب ( الكشاف ) في انتصاب رزقاً إن جعلته مصدراً جاز أن ينتصب بمعنى ما قبله لأن معنى يجبى إليه ثمرات كل شيء ويرزق ثمرات كل شيء واحد وأن يكون مفعولاً له وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالاً من الثمرات لتخصيصها بالإضافة كما ينتصب عن النكرة المتخصصة بالصفة
الثاني احتج الأصحاب بقوله رّزْقاً مّن لَّدُنَّا في أن فعل العبد خلق الله تعالى وبيانه أن تلك الأرزاق إنما كانت تصل إليهم لأن الناس كانوا يحملونها إليهم فلو لم يكن فعل العبد خلقاً لله تعالى لما صحت تلك الإضافة فإن قيل سبب تلك الإضافة أنه تعالى هو الذي ألقى تلك الدواعي في قلوب من ذهب بتلك الأرزاق إليهم قلنا تلك الدواعي إن اقتضت الرجحان فقد بينا في غير موضع أنه متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب وحينئذ يحصل المقصود وإن لم يحصل الرجحان انقطعت الإضافة بالكلية واعلم أنه تعالى إنما بين أن تلك الأرزاق ما وصلت إليهم إلا من الله تعالى لأجل أنهم متى علموا ذلك صاروا بحيث لا يخافون أحداً سوى الله تعالى ولا يرجون أحداً غير الله تعالى فيبقى نظرهم منقطعاً عن الخلق متعلقاً بالخالق وذلك يوجب كمال الإيمان والإعراض بالكلية عن غير الله تعالى والإقبال بالكلية على طاعة الله تعالى
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة ٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة وذلك لأنه تعالى لما بين لأهل مكة ما خصوا به من النعم أتبعه بما أنزله الله تعالى بالأمم الماضية الذين كانوا في نعم الدنيا فلما كذبوا الرسل أزال الله عنهم تلك النعم والمقصود أن الكفار لما قالوا إنا لا نؤمن خوفاً من زوال نعمة الدنيا فالله تعالى بين لهم أن الإصرار على عدم قبول الإيمان هو الذي يزيل هذه النعم لا الإقدام على الإيمان قال صاحب ( الكشاف ) البطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله تعالى فيه وانتصبت معيشتها إما بحذف الجار واتصال الفعل كقوله وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ ( الأعراف 155 ) أو بتقدير حذف الزمان المضاف وأصله بطرت أيام معيشتها وإما تضمين بطرت معنى كفرت
فأما قوله فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً ففي هذا الاستثناء وجوه أحدها قال ابن عباس رضي الله عنهما لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوماً أو ساعة وثانيها يحتمل أن شؤم معاصي
المهلكين بقي أثره في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يبق فيها إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين لها بعد هلاك أهلها وإذا لم يبق للشيء مالك معين قيل إنه ميراث الله لأنه الباقي بعد فناء خلقه ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه أهلك تلك القرى بسبب بطر أهلها فكأن سائلاً أورد السؤال من وجهين الأول لماذا ما أهلك الله الكفار قبل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع أنهم كانوا مستغرقين في الكفر والعناد الثاني لماذا ما أهلكهم بعد مبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع تمادي القوم في الكفر بالله تعالى والتكذيب بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأجاب عن السؤال الأول بقوله وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا وحاصل الجواب أنه تعالى قدم بيان أن عدم البعثة يجري مجرى العذر للقوم فوجب أن لا يجوز إهلاكهم إلا بعد البعثة ثم ذكر المفسرون وجهين أحدهما وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً أي في القرية التي هي أمها وأصلها وقصبتها التي هي أعمالها وتوابعها رسولاً لإلزام الحجة وقطع المعذرة الثاني وما كان ربك مهلك القرى التي في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعني مكة رسولاً وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خاتم الأنبياء ومعنى يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِنَا يؤدي ويبلغ وأجاب عن السؤال الثاني بقوله وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ أنفسهم بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فإن بعضهم قد آمن وبعضهم علم الله منهم أنهم سيؤمنون وبعض آخرون علم الله أنهم وإن لم يؤمنوا لكنه يخرج من نسلهم من يكون مؤمناً
وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَى ْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَواة ِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَة ِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ
اعلم أن هذا هو الجواب الثالث عن تلك الشبهة لأن حاصل شبهتهم أن قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى أما أنه خير فلوجهين أحدهما أن المنافع هناك أعظم وثانيهما أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار فيها أكثر وأما أنها أبقى فلأنها دائمة غير منقطعة ومنافع الدنيا منقطعة ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدماً فكيف ونصيب كل أحد بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر فظهر من هذا أن منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة ألبتة فكان من الجهل العظيم ترك منافع الآخرة لاستبقاء منافع الدنيا ولما نبه سبحانه على ذلك قال أَفَلاَ تَعْقِلُونَ يعني أن من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجاً عن حد العقل ورحم الله الشافعي حيث قال من أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير وما هم إلا المشتغلون بالطاعة فكأنه رحمه الله إنما أخذه من هذه الآية ثم إنه تعالى أكد هذا الترجيح من وجه آخر وهو أنا لو قدرنا أن نعم الله كانت تنتهي إلى الانقطاع والفناء وما كانت تتصل بالعذاب الدائم لكان صريح العقل يقتضي ترجيح نعم الآخرة
على نعم الدنيا فكيف إذا اتصلت نعم الدنيا بعقاب الآخرة فأي عقل يرتاب في أن نعم الآخرة راجحة عليها وهذا هو المراد بقوله أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ ( الصافات 57 ) فهو يكون كمن أعطاه الله قدراً قليلاً من متاع الدنيا ثم يكون في الآخرة من المحضرين للعذاب والمقصود أنهم لما قالوا تركنا الدين للدنيا فقال الله لهم لو لم يحصل عقيب دنياكم مضرة العقاب لكان العقل يقتضي ترجيح منافع الآخرة على منافع الدنيا فكيف وهذه الدنيا يحصل بعدها العقاب الدائم وأورد هذا الكلام على لفظ الاستفهام ليكون أبلغ في الاعتراف بالترجيح وتخصيص لفظ المحضرين بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن قال تعالى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ( الصافات 57 ) فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ( الصافات 127 ) وفي لفظه إشعار به لأن الإحضار مشعر بالتكليف والإلزام وذلك لا يليق بمجالس اللذة إنما يليق بمجالس الضرر والمكاره
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَاؤُلا ءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاٌّ نبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر في هذه الآية أنه يسأل الكفار يوم القيامة عن ثلاثة أشياء أحدها قوله وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ لما ثبت أن الكفار يوم القيامة قد عرفوا بطلان ما كانوا عليه وعرفوا صحة التوحيد والنبوة بالضرورة فيقول لهم أين ما كنتم تعبدونه وتجعلونه شريكاً في العبادة وتزعمون أنه يشفع أين هو لينصركم ويخلصكم من هذا الذي نزل بكم ثم بين تعالى ما يقوله من حق عليه القول والمراد من القول هو قوله لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( هود 119 ) ومعنى حق عليه القول أي حق عليه مقتضاه واختلفوا في أن الذين حق عليهم هذا القول من هم فقال بعضهم الرؤساء الدعاة إلى الضلال وقال بعضهم الشياطين قوله رَبَّنَا هَؤُلاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا هؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته والراجع إلى الموصوف محذوف وأغويناهم الخبر والكاف صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا والمراد كما أن غينا باختيارنا فكذا غيهم باختيارهم يعني أن أغواءنا لهم ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين بالإقدام على تلك العقائد والأعمال وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان أنه قال إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِى َ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تلوموني ولوموا أنفسكم إبراهيم 22
وقال تعالى لإبليس إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ( إبراهيم 22 ) فقوله إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ ( الحجر 42 ) يدل على أن ذلك الاتباع لهم من قبل أنفسهم لا من قبل إلجاء الشيطان إلى ذلك ثم قال تبرأنا إليك منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أهواءهم والحاصل أنهم يتبرءون منهم كما قال تعالى إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ( البقرة 166 ) وأيضاً فلا يمتنع في قوله تعالى أَيْنَ شُرَكَائِى َ ( النحل 27 ) أن يريد به هؤلاء الرؤساء والشياطين فإنهم لما أطاعوهم فقد صيروهم لمكان الطاعة بمنزله الشريك لله تعالى وإذا حمل الكلام على هذا الوجه كان جوابهم أن يقولوا إلهنا هؤلاء ما عبدونا إنما عبدوا أهواءهم الفاسدة وثانيها قوله تعالى وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ والأقرب أن هذا على سبيل التقرير لأنهم يعلمون أنه لا فائدة في دعائهم لهم فالمراد أنهم لو دعوهم لم يوجد منهم إجابة في النصرة وأن العذاب ثابت فيهم وكل ذلك على وجه التوبيخ وفي ذكره ردع وزجر في دار الدنيا فأما قوله تعالى لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ فكثير من المفسرين زعموا أن جواب لو محذوف وذكروا فيه وجوهاً أحدها قال الضحاك ومقاتل يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة وثانيها لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا لعلموا أن العذاب حق وثالثها ودوا حين رأوا العذاب لو كانوا في الدنيا يهتدون ورابعها لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب وخامسها قد آن لهم أن يهتدوا لو أنهم كانوا يهتدون إذا رأوا العذاب ويؤكد ذلك قوله تعالى لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاْلِيمَ ( الشعراء 201 ) وعندي أن الجواب غير محذوف وفي تقريره وجوه أحدها أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله ادْعُواْ فههنا يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار ويصيرون بحيث لا يبصرون شيئاً فقال تعالى لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ شيئاً أما لما صاروا من شدة الخوف بحيث لا يبصرون شيئاً لا جرم ما رأوا العذاب وثانيها أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الأصنام أنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين ولكنها ليست كذلك فلا جرم ما رأت العذاب فإن قيل قوله وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ ضمير لا يليق إلا بالعقلاء فكيف يصح عوده إلى الأصنام قلنا هذا كقوله فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وإنما ورد ذلك على حسب اعتقاد القوم فكذا ههنا وثالثها أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب في الدنيا لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك النظم من الآية الأمر الثالث من الأمور التي يسأل الله الكفار عنها قوله وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاْنبَاء ( القصص 65 66 ) أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعاً لا تهتدي إليهم فهم لا يتساءلون لا يسأل بعضهم بعضاً كما يتساءل الناس في المشكلات لأنهم يتساوون جميعاً في عمي الأنباء عليهم والعجز عن الجواب وقرىء فعميت وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك يتعتعون في الجواب عن مثل هذا السؤال ويفوضون الأمر إلى علم الله وذلك قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( المائدة 109 ) فما ظنك بهؤلاء الضلال قال القاضي هذه الآية تدل على بطلان القول بالجبر لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله تعالى ويجب وقوعه بالقدرة والإرادة لما عميت عليهم الأنباء ولقالوا إنما أتينا في تكذيب الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم والقدرة
الموجبة لذلك فكانت حجتهم على الله تعالى طاهرة وكذلك القول فيما تقدم لأن الشيطان كان له أن يقول إنما أغويت بخلقك في الغواية وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك فتكون الحجة لهم في ذلك قوية والعذر ظاهراً والجواب أن القاضي لا يترك آية من الآيات المشتملة على المدح والذم والثواب والعقاب إلا ويعيد استدلاله بها وكما أن وجه استدلاله في الكل هذا الحرف فكذا وجه جوابنا حرف واحد وهو أن علم الله تعالى بعدم الإيمان مع وقوع الإيمان متنافيان لذاتيهما فمع العلم بعدم الإيمان إذا أمر بإدخال الإيمان في الوجود فقد أمر بالجمع بين الضدين والذي اعتمد القاضي عليه في دفع هذا الحرف في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن بل الواجب السكوت ولو أورد الكافر هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهراً فثبت أن الإشكال مشترك والله أعلم
فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة ُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاٍّ ولَى وَالاٌّ خِرَة ِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين حال المعذبين من الكفار وما يجري عليهم من التوبيخ أتبعه بذكر من يتوب منهم في الدنيا ترغيباً في التوبة وزجراً عن الثبات على الكفر فقال فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وفي عسى وجوه أحدها أنه من الكرام تحقيق والله أكرم الأكرمين وثانيها أن يراد ترجي التائب وطمعه كأنه قال فليطمع في الفلاح وثالثها عسى أن يكونوا كذلك إن داموا على التوبة والإيمان لجواز أن لا يدوموا واعلم أن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى ويقولون لَوْلاَ نُزّلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) يعنون الوليد بن المغيرة أو أبا مسعود الثقفي فأجاب الله تعالى عنه بقوله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ والمراد أنه المالك المطلق وهو منزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء لا اعتراض عليه ألبتة وعلى طريقة المعتزلة لما ثبت أنه حكيم مطلق علم أنه كل ما فعله كان حكمة وصواباً فليس لأحد أن يعترض عليه وقوله مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة ُ والخيرة اسم من الاختيار قام مقام المصدر والخيرة أيضاً اسم للمختار يقال محمد خيرة الله في خلقه إذا عرفت هذا فنقول في الآية وجهان الأول وهو الأحسن أن يكون تمام الوقف على قوله وَيَخْتَارُ ويكون ما نفياً والمعنى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ ليس لهم الخيرة إذ ليس لهم أن يختاروا على الله أن يفعل والثاني أن يكون ما بمعنى الذي فيكون الوقف عند قوله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء ثم يقول وَيَخْتَارُ ما كان لهم الخيرة قال
أبو القاسم الانصاري وهذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه وأي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله فإن قيل لما كلفه استوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا إذا علم قطعاً إنه لا يحصل ذلك الأفضل فتوريطه في العقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة ثم قولهم المستحق خير من المتفضل به جهل لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله أما الذي ما حصل الذات والصفات إلا بخلقه وبفضله وإحسانه فكيف يستنكف من تفضله ثم قال سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ والمقصود أن يعلم أن الخلق والاختيار والاعزاز والإذلال مفوض إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة ثم أكد ذلك بأنه يعلم ما تكن صدورهم من عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما يعلنون من مطاعنهم فيه وقولهم هلا اختير غيره في النبوة ولما بين علمه بما هم عليه من الغل والحسد والسفاهة قال وَهُوَ اللَّهُ لا إله هُوَ وفيه تنبيه على كونه قادراً على كل الممكنات وعالماً بكل المعلومات منزهاً عن النقائص والآفات يجازي المحسنين على طاعتهم ويعاقب العصاة على عصيانهم وفيه نهاية الزجر والردع للعصاة ونهاية تقوية القلب للمطيعين ويحتمل أيضاً أن لما بين فساد طريق المشركين من قوله يَوْمٍ يُنَادِيهِمْ فيقول أَيْنَ شُرَكَائِى َ ( النحل 27 ) ختم الكلام في ذلك بإظهار هذا التوحيد وبيان أن الحمد والثناء لا يليق إلا به
أما قوله لَهُ الْحَمْدُ فِى الاْولَى وَالاْخِرَة ِ فو ظاهر على قولنا لأن الثواب غير واجب عليه بل هو سبحانه يعطيه فضلاً وإحساناً فله الحمد في الأولى والآخرة ويؤكد ذلك قول أهل الجنة الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ( فاطر 34 ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ ( الزمر 74 ) ءاخَرَ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ( يونس 10 ) أما المعتزلة فعندهم الثواب مستحق فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة وأما أهل النار فما أنعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم قال القاضي إنه يستحق الحمد والشكر من أهل النار أيضاً بما فعله بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والإلطاف وسائر النعم لأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله عليهم من أن يوجب الشكر وهذا فيه نظر لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا بالضرورة أن التوبة عن القبائح يجب على الله قبولها وعلموا بالضرورة أن الاشتغال بالشكر الواجب عليهم يوجب على الله الثواب وهم قادرون على ذلك وعالمون بأن بذلك مما يخلصهم عن العذاب ويدخلهم في استحقاق الثواب أفترى أن الإنسان مع العلم بذلك والقدرة عليه يترك هذه التوبة كلا بل لا بد أن يتوبوا وأن يشتغلوا بالشكر ومتى فعلوا ذلك فقد بطل العقاب
أما قوله وَلَهُ الْحُكْمُ فهو إما في الدنيا أو في الآخرة فأما في الدنيا فحكم كل أحد سواه إنما نفذ بحكمه فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده ولا على الزوجة حكم زوجها ولا على الابن حكم أبيه ولا على الرعية حكم سلطانهم ولا على الأمة حكم الرسول فهو الحاكم في الحقيقة وأما في الآخرة فلا شك أنه هو الحاكم لأنه الذي يتولى الحكم بين العباد في الآخرة فينتصف للمظلومين من الظالمين
أما قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فالمعنى وإلى محل حكمه وقضائه ترجعون فإن كلمة إلى لانتهاء الغاية وهو تعالى منزه من المكان والجهة
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
اعلم أنه تعالى لما بين من قبل استحقاقه للحمد على وجه الإجمال بقوله وَهُوَ اللَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاْولَى وَالاْخِرَة ِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( القصص 70 ) فصل عقيب ذلك ببعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه فقال لرسوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة ِ فنبه على أن الوجه في كون الليل والنهار نعمتان يتعاقبان على الزمان لأن المرء في الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار ولأجله يحصل الاجتماع فيمكن المعاملات ومعلوم أن ذلك لا يتم لولا الراحة والسكون بالليل فلا بد منهما والحالة هذه فأما في الجنة فلا نصب ولا تعب فلا حاجة بهم إلى الليل فلذلك يدوم لهم الضياء واللذات فبين تعالى أنه لا قادر على ذلك إلا الله تعالى وإنما قال أَفَلاَ تَسْمَعُونَ أَفلاَ تُبْصِرُونَ لأن الغرض من ذلك الانتفاع بما يسمعون ويبصرون من جهة التدبر فلما لم ينتفعوا نزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر قال الكلبي قوله أَفَلاَ تَسْمَعُونَ معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك وقوله أَفلاَ تُبْصِرُونَ معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال قال صاحب ( الكشاف ) السرمد الدائم المتصل من السرد وهو المتابعة ومنه قولهم في الأشهر الحرم ثلاثة سرد وواحد فرد فإن قيل هلا قال بنهار تتصرفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه قلنا ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده والظلام ليس بتلك المنزلة وإنما قرن بالضياء أفلا تسمعون لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده وقرن بالليل أفلا تبصرون لأن غيرك يدرك من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه ومن رحمته زاوج بين الليل والنهار لأغراض ثلاثة لتسكنوا في أحدهما وهو الليل ولتبتغوا من فضله في الآخر وهو النهار ولأداء الشكر على المنفعتين معاً
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّة ٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
اعلم أنه سبحانه لما هجن طريقة المشركين أولاً ثم ذكر التوحيد ودلائله ثانياً عاد إلى تهجين طريقتهم مرة أخرى وشرح حالهم في الآخرة فقال وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أي القيامة فيقول أَيْنَ شُرَكَائِى َ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ والمعنى أين الذين ادعيتم إلهيتهم لتخلصكم أو أين قولكم تقربنا إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله فيكون ذلك زائداً في غمهم إذا خوطبوا بهذا القول
أما قوله وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّة ٍ شَهِيداً فالمراد ميزنا واحداً ليشهد عليهم ثم قال بعضهم هم الأنبياء يشهدون بأنهم بلغوا القوم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زائداً في غمهم وقال آخرون بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب لأنه تعالى عم كل أمة وكل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه الأحوال التي لم يوجد فيها النبي وهي أزمنة الفترات والأزمنة التي حصلت بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعلموا حينئذٍ أن الحق لله ولرسله وَضَلَّ عَنْهُم غاب عنهم غيبة الشىء الضائع مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ من الباطل والكذب
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَة ِ أُوْلِى الْقُوَّة ِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاٌّ خِرَة َ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الأرض إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّة ً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
اعلم أن نص القرآن يدل على أن قارون كان من قوم موسى عليه السلام وظاهر ذلك يدل على أنه كان ممن قد أمن به ولا يبعد أيضاً حمله على القرابة قال الكلبي إنه كان ابن عم موسى عليه السلام لأنه كان قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى وموسى بن عمران بن قاهث بن لاوى وقال محمد بن إسحق إنه كان عم موسى عليه السلام لأن موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث وقارون بن يصهر بن قاهث وعن ابن