كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
لما نزل قوله تعالى ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) قالوا أين ندعوه فنزلت هذه الآية وهو قول الحسن ومجاهد والضحاك ورابعها أنه خطاب للمسلمين أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فلله المشرق والمغرب والجهات كلها وهو قول علي بن عيسى وخامسها من الناس من يزعم أنها نزلت في المجتهدين الوافين بشرائط الاجتهاد سواء كان في الصلاة أو في غيرها والمراد منه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد فهو مصيب
المسألة الثانية إن فسرنا الآية بأنها تدل على تجويز التوجه إلى أي جهة أريد فالآية منسوخة وإن فسرناها بأنها تدل على نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فالآية ناسخة وإن فسرناها بسائر الوجوه فهي لا ناسخة ولا منسوخة
المسألة الثالثة اللام في قوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لام الاختصاص أي هو خالقهما ومالكهما وهو كقوله رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ( الرحمن 17 ) وقوله بِرَبّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَرَبُّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ ثم أنه سبحانه أشار بذكرهما إلى ذكر من بينهما من المخلوقات كما قال ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِى َ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 )
المسألة الرابعة الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه وبيانه من وجهين الأول أنه تعالى قال وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فبين أن هاتين الجهتين مملوكتان له وإنما كان كذلك لأن الجهة أمر ممتد في الوهم طولاً وعرضاً وعمقاً وكل ما كان كذلك فهو منقسم وكل منقسم فهو مؤلف مركب وكل ما كان كذلك فلا بد له من خالق وموجد وهذه الدلالة عامة في الجهات كلها أعني الفوق والتحت فثبت بهذا أنه تعالى خالق الجهات كلها والخالق متقدم على المخلوق لا محالة فقد كان الباري تعالى قبل خلق العالم منزهاً عن الجهات والأحياز فوجب أن يبقى بعد خلق العالم كذلك لا محالة لاستحالة انقلاب الحقائق والماهيات الوجه الثاني أنه تعالى قال فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ولو كان الله تعالى جسماً وله وجه جسماني لكان وجهه مختصاً بجانب معين وجهة معينة فما كان يصدق قوله فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فلما نص الله تعالى على ذلك علمنا أنه تعالى منزه عن الجسمية واحتج الخصم بالآية من وجهين الأول أن الآية تدل على ثبوت الوجه لله تعالى والوجه لا يحصل إلا من كان جسماً الثاني أنه تعالى وصف نفسه بكونه واسعاً والسعة من صفة الأجسام والجواب عن الأول أن الوجه وإن كان في أصل اللغة عبارة عن العضو المخصوص لكنا بينا أنا لو حملناه ههنا على العضو لكذب قوله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ لأن الوجه لو كان محاذياً للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذياً للمغرب أيضاً فإذن لا بد فيه من التأويل وهو من وجوه الأول أن إضافة وجه الله كإضافة بيت الله وناقة الله والمراد منها الإضافة بالخلق والإيجاد على سبيل التشريف فقوله فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي فثم وجهه الذي وجهكم إليه لأن المشرق والمغرب له بوجهيهما والمقصود من القبلة إنما يكون قبلة لنصبه تعالى إياها فأي وجه من وجوه العالم المضاف إليه بالخلق والإيجاد نصبه وعينه فهو قبلة الثاني أن يكون المراد من الوجه القصد والنية قال الشاعر
استغفر الله ذنباً لست أحصيه
رب العباد إليه الوجه والعمل
ونظيره قوله تعالى إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِى َ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الأنعام 79 ) الثالث أن يكون المراد منه فثم مرضاة الله ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ( الإنسان 9 ) يعني لرضوان الله وقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ( القصص 88 ) يعني ما كان لرضا الله ووجه الاستعارة أن من أراد الذهاب إلى إنسان فإنه لا يزال يقرب من وجهه وقدامه فكذلك من يطلب مرضاة أحد فإنه لا يزال يقرب من مرضاته فلهذا سمي طلب الرضا بطلب وجهه الرابع أن الوجه صلة كقوله كُلُّ شَى ْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ويقول الناس هذا وجه الأمر لا يريدون به شيئاً آخر غيره إنما يريدون به أنه من ههنا ينبغي أن يقصد هذا الأمر واعلم أن هذا التفسير صحيح في اللغة إلا أن الكلام يبقى فإنه يقال لهذا القائل فما معنى قوله تعالى فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ مع أنه لا يجوز عليه المكان فلا بد من تأويله بأن المراد فثم قبلته التي يعبد بها أو ثم رحمته ونعمته وطريق ثوابه والتماس مرضاته والجواب عن الثاني وهو أنه وصف نفسه بكونه واسعاً فلا شك أنه لا يمكن حمله على ظاهره وإلا لكان متجزئاً متبعضاً فيفتقر إلى الخالق بل لا بد وأن يحمل على السعة في القدرة والملك أو على أنه واسع العطاء والرحمة أو على أنه واسع الإنعام ببيان المصلحة للعبيد لكي يصلوا إلى رضوانه ولعل هذا الوجه بالكلام أليق ولا يجوز حمله على السعة في العلم وإلا لكان ذكر العليم بعده تكراراً فأما قوله عَلِيمٌ في هذا الموضع فكالتهديد ليكون المصلي على حذر من التفريط من حيث يتصور أنه تعالى يعلم ما يخفي وما يعلن وما يخفي على الله من شيء فيكون متحذراً عن التساهل ويحتمل أن يكون قوله تعالى واسِعٌ عَلِيمٌ أنه تعالى واسع القدرة في توفية ثواب من يقوم بالصلاة على شرطها وتوفية عقاب من يتكاسل عنها
المسألة الخامسة ولى إذا أقبل وولى إذا أدبر وهو من الأضداد ومعناه ههنا الإقبال وقرأ الحسن فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ بفتح التاء من التولي يريد فأينما توجهوا القبلة
وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
اعلم أن هذا هو النوع العاشر من مقابح أفعال اليهود والنصارى والمشركين واعلم أن الظاهر قوله تعالى وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا أن يكون راجعاً إلى قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ ( البقرة 114 ) وقد ذكرنا أن منهم من تأوله على النصارى ومنهم من تأوله على مشركي العرب ونحن قد تأولناه على اليهود وكل هؤلاء أثبتوا الولد لله تعالى لأن اليهود قالوا عزيز ابن الله والنصارى قالوا المسيح ابن الله ومشركو العرب قالوا الملائكة بنات الله فلا جرم صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات قال ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت
في كعب بن الأشرف وكعب بن أسد ووهب بن يهودا فإنهم جعلوا عزيزاً ابن الله أما قوله تعالى سُبْحَانَهُ فهو كلمة تنزيه ينزه بها نفسه عما قالوه كما قال تعالى في موضع آخر سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ( النساء 171 ) فمرة أظهره ومرة اقتصر عليه لدلالة الكلام عليه واحتج على هذا التنزيه بقوله بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ووجه الاستدلال بهذا على فساد مذهبهم من وجوه الأول أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته وكل ممكن لذاته محدث وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود والمخلوق لا يكون ولداً أما بيان أن ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاته فلأنه لو وجد موجودان واجبان لذاتهما لاشتركا في وجوب الوجود ولامتاز كل واحد منهما عن الآخر بما به التعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة ويلزم تركب كل واحد منهما من قيدين وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه من غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته فكل واحد من الموجودين الواجبين لذاتهما ممكن لذاته هذا خلف ثم نقول إن كان كل واحد من ذينك الجزءين واجباً عاد التقسيم المذكور فيه ويقضي إلى كونه مركباً من أجزاء غير متناهية وذلك محال ومع تسليم أنه غير محال فالمقصود حاصل لأن كل كثرة فلا بد فيها من الواحد فتلك الآحاد إن كانت واجبة لذواتها كانت مركبة على ما ثبت فالبسيط مركب هذا خلف وإن كانت ممكنة كان المركب المفتقر إليها أولى بالإمكان فثبت بهذا البرهان أن كل ما عدا الموجود الواجب ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فهو محتاج إلى المؤثر وتأثير ذلك المؤثر فيه إما أن يكون حال عدمه أو حال وجوده فإن كان الأول فذلك الممكن محدث وإن كان الثاني فاحتياج ذلك الموجود إلى المؤثر إما أن يكون حال بقائه أو حال حدوثه والأول محال لأنه يقتضي إيجاد الوجود فتعين الثاني وذلك يقتضي كون ذلك الممكن محدثاً فثبت أن كل ما سوى الله محدث مسبوق بالعدم وأن وجوده إنما حصل بخلق الله تعالى وإيجاده وإبداعه فثبت أن كل ما سواه فهو عبده وملكه فيستحل أن يكون شيء مما سواه ولداً له وهذا البرهان إنما استفدناه من قوله بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أي له كل ما سواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع والثاني أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده إما أن يكون قديماً أزلياً أو محدثاً فإن كان أزلياً لم يكن حكمنا بجعل أحدهما ولداً والآخر والداً أولى من العكس فيكون ذلك الحكم حكماً مجرداً من غير دليل وإن كان الولد حادثاً كان مخلوقاً لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له والثالث أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد فلو فرضنا له ولداً لكان مشاركاً له من بعض الوجوه وممتازاً عنه من وجه آخر وذلك يقتضي كون كل واحد منهما مركباً ومحدثاً وذلك محال فإذن المجانسة ممتنعة فالولدية ممتنعة الرابع أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته حال عجز الأب عن أمور نفسه فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصح على من يصح عليه الفقر والعجز والحاجة فإذا كان كل ذلك محال كان إيجاد الولد عليه سبحانه وتعالى محالاً واعلم أنه تعالى حكى في مواضع كثيرة عن هؤلاء الذين يضيفون إليه الأولاد قولهم واحتج عليهم بهذه الحجة وهي أن كل من في السموات والأرض عبد له وبأنه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون وقال في مريم ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا
كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( مريم 34 35 ) وقال أيضاً في آخر هذه السورة وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً ( مريم 88 93 ) فإن قيل ما الحكمة في أنه تعالى استدل في هذه الآية بكونه مالكاً لما في السموات والأرض وفي سورة مريم بكونه مالكاً لمن في السموات والأرض على ما قال إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِلاَّ اتِى الرَّحْمَنِ عَبْداً قلنا قوله تعالى في هذه السورة بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أتم لأن كلمة ( ما ) تتناول جميع الأشياء وأما قوله تعالى كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ( الروم 26 ) ففيه مسائل
المسألة الأولى القنوت أصله الدوام ثم يستعمل على أربعة أوجه الطاعة كقوله تعالى الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبّكِ ( آل عمران 43 ) وطول القيام كقوله عليه السلام لما سئل أي الصلاة أفضل قال ( طول القنوت ) وبمعنى السكوت كما قال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ ( البقرة 238 ) فأمسكنا عن الكلام ويكون بمعنى الدوام إذا عرفت هذا فنقول قال بعض المفسرين كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ أي كل ما في السموات والأرض قانتون مطيعون والتنوين في كل عوض عن المضاف إليه وهو قول مجاهد وابن عباس فقيل لهؤلاء الكفار ليسوا مطيعين فعند هذا قال آخرون المعنى أنهم يطيعون يوم القيامة وهو قول السدي فقيل لهؤلاء هذه صفة المكلفين وقوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ يتناول من لا يكون مكلفاً فعند هذا فسروا القنوت بوجوه أخر الأول بكونها شاهدة على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصنعة وأمارات الحدوث والدلالة على الربوبية الثاني كون جميعها في ملكه وقهره يتصرف فيها كيف يشاء وهو قول أبي مسلم وعلى هذين الوجهين الآية عامة الثالث أراد به الملائكة وعزيزاً والمسيح أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليهم بالولد أنهم قانتون له يحكى عن علي بن أبي طالب قال لبعض النصارى لولا تمرد عيسى عن عبادة الله لصرت على دينه فقال النصراني كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة الله فقال علي رضي الله عنه فإن كان عيسى إلهاً فالإله كيف يعبد غيره إنما العبد هو الذي يليق به العبادة فانقطع النصراني
المسألة الثانية لما كان القنوت في أصل اللغة عبارة عن الدوام كان معنى الآية أن دوام الممكنات وبقاءها به سبحانه ولأجله وهذا يقتضي أن العالم حال بقائه واستمراره محتاج إليه سبحانه وتعالى فثبت أن الممكن يقتضي أن لا تنقطع حاجته عن المؤثر لا حال حدوثه ولا حال بقائه
المسألة الثالثة يقال كيف جاء بما الذي لغير أولى العلم مع قوله قَانِتُونَ جوابه كأنه جاء بما دون من تحقيراً لشأنهم
أما قوله تعالى بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ففيه مسائل
المسألة الأولى البديع والمبدع بمعنى واحد قال القفال وهو مثل أليم بمعنى مؤلم وحكيم بمعنى محكم غير أن في بديع مبالغة للعدول فيه وأنه يدل على استحقاق الصفة في غير حال الفعل على تقدير أن من شأنه الإبداع فهو في ذلك بمنزلة سامع وسميع وقد يجيء بديع بمعنى مبدع والإبداع الإنشاء ونقيض
الإبداع الاختراع على مثال ولهذا السبب فإن الناس يسمون من قال أو عمل ما لم يكن قبله مبتدعاً
المسألة الثانية اعلم أن هذا من تمام الكلام الأول لأنه تعالى قال بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فبين بذلك كونه مالكاً لما في السموات والأرض ثم بين بعده أنه المالك أيضاً للسموات والأرض ثم أنه تعالى بين أنه كيف يبدع الشيء فقال وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال بعض الأدباء القضاء مصدر في الأصل سمي به ولهذا جمع على أقضية كغطاء وأغطية وفي معناه القضية وجمعها القضايا ووزنه فعال من تركيب ( ق ض ى ) وأصله ( قضاي ) إلا أن الياء لما وقعت طرفاً بعد الألف الزائدة اعتلت فقلبت ألفاً ثم لما لاقت هي ألف فعال قلبت همزة لامتناع التقاء الألفين لفظاً ومن نظائره المضاء والأتاء من مضيت وأتيت والسقاء والشفاء من سقيت وشفيت والدليل على إصالة الياء دون الهمزة ثباتها في أكثر تصرفات الكلمة تقول قضيت وقضينا وقضيت إلى قضيتن وقضيا وقضين وهما يقضيان وهي وأنت تقضي والمرأتان وأنتما تقضيان وهن يقضين وأما أنت تقضين فالياء فيه ضمير المخاطبة وأما معناه فالأصل الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع من ذلك قولهم قضى القاضي لفلان على فلان بكذا قضاء إذا حكم لأنه فصل للدعوى ولهذا قيل حاكم فيصل إذا كان قاطعاً للخصومات وحكى ابن الأنباري عن أهل اللغة أنهم قالوا القاضي معناه القاطع للأمور المحكم لها وقولهم انقضى الشيء إذا تم وانقطع وقولهم قضى حاجته معناه قطعها عن المحتاج ودفعها عنه وقضى دينه إذا أداه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه أو انقطع كل منهما عن صاحبه وقولهم قضى الأمر إذا أتمه وأحكمه ومنه قوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ( فصلت 12 ) وهو من هذا لأن في إتمام العمل قطعاً له وفراغاً منه ومنه درع قضاء من قضاها إذا أحكمها وأتم صنعها وأما قولهم قضى المريض وقضى نحبه إذا مات وقضى عليه قتله فمجاز مما ذكر والجامع بينهما ظاهر وأما تقضي البازي فليس من هذا التركيب ومما يعضد ذلك دلالة ما استعمل من تقليب ترتيب هذا التركيب عليه وهو القيض والضيق أما الأول فيقال قاضه فانقاض أي شقه فانشق ومنه قيض البيض لما انفلق من قشره الأعلى وانقاض الحائط إذا انهدم من غير هدم والقطع والشق والفلق والهدم متقاربة وأما الضيق وما يشتق منه فدلالته على معنى القطع بينة وذلك أن الشيء إذا قطع ضاق أو على العكس ومما يؤكد ذلك أن ما يقرب من هذا التركيب يدل أيضاً على معنى القطع فأولها قضيه إذا قطعه ومنه القضبة المرطبة لأنها تقضب أي تقطع تسمية بالمصدر والقضيب الغصن فعيل بمعنى مفعول والمقضب ما يقضب به كالمنجل وثانيها القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان لأن فيه قطعاً للمأكول وسيف قضيم في طرفه تكسر وتفلل وثالثها القضف وهو الدقة يقال رجل قضيف أي نحيف لأن القلة من مسببات القطع ورابعها القضأة فعلة وهي الفساد يقال قضئت القربة إذا عفيت وفسدت وفي حسبه قضأة أي عيب وهذا كله من أسباب القطع أو مسبباته فهذا هو الكلام في مفهومه الأصلي بحسب اللغة
المسألة الثانية في محامل لفظ القضاء في القرآن قالوا أنه يستعمل على وجوه أحدها بمعنى الخلق قوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ يعني خلقهن وثانيها بمعنى الأمر قال تعالى وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ( الإسراء 23 ) وثالثها بمعنى الحكم ولهذا يقال للحاكم القاضي
ورابعاً بمعنى الإخبار قال تعالى وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ ( الإسراء 4 ) أي أخبرناهم وهذا يأتي مقروناً بإلى وخامسها أن يأتي بمعنى الفراغ من الشيء قال تعالى فَلَمَّا قُضِى َ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ( الأحقاف 29 ) يعني لما فرغ من ذلك وقال تعالى وَقُضِى َ الاْمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِى ّ ( هود 44 ) يعني فرغ من إهلاك الكفار وقال لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ ( الحج 29 ) بمعنى ليفرغوا منه إذا عرفت هذا فنقول قوله إِذَا قَضَى أَمْرًا ( آل عمران 47 ) قيل إذا خلق شيئاً وقيل حكم بأنه يفعل شيئاً وقيل أحكم أمراً قال الشاعر وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
المسألة الثالثة اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص وهل هو حقيقة في الفعل والشأن الحق نعم وهو المراد بالأمر ههنا وبسط القول فيه مذكور في أصول الفقه
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر كُنْ فَيَكُونُ ( آل عمران 47 ) بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين في أول آل عمران كُنْ فَيَكُونُ الْحَقّ ( آل عمران 59 60 ) وفي الأنعام كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ ( الأنعام 73 ) فإنه رفعهما وعن الكسائي بالنصب في النحل ويس وبالرفع في سائر القرآن والباقون بالرفع في كل القرآن أما النصب فعلى جواب الأمر وقيل هو بعيد والرفع على الاستئناف أي فهو يكون
المسألة الخامسة اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( آل عمران 47 ) هو أنه تعالى يقول له كُنَّ فحينئذ يتكون ذلك الشيء فإن ذلك فاسد والذي يدل عليه وجوه الأول أن قوله كُنْ فَيَكُونُ إما أن يكون قديماً أو محدثاً والقسمان فاسدان فبطل القول بتوقف حدوث الأشياء على كُنَّ إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه الأول أن كلمة كُنَّ لفظة مركبة من الكاف والنون بشرط تقدم الكاف على النون فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لا بد وأن يكون محدثاً والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثاً الثاني أن كلمة إِذَا لا تدخل إلا على سبيل الإستقبال فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثاً لأنه دخل عليه حرف إِذَا وقوله كُنَّ مرتب على القضاء بفاء التعقيب لأنه تعالى قال فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ والمتأخر عن المحدث محدث فاستحال أن يكون كُنَّ قديماً الثالث أنه تعالى رتب تكون المخلوق على قوله كُنَّ بفاء التعقيب فيكون قوله كُنَّ مقدماً على تكون المخلوق بزمان واحد والمتقدم على المحدث بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثاً فقوله كُنَّ لا يجوز أن يكون قديماً ولا جائز أيضاً أن يكون قوله كُنَّ محدثاً لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله كُنَّ وقوله كُنَّ أيضاً محدث فيلزم افتقار كُنَّ آخر ويلزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله كُنَّ
الحجة الثانية أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق بكن قبل دخوله في الوجود أو حال دخوله في الوجود والأول باطل لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه والثاني أيضاً باطل لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجوداً وذلك أيضاً لا فائدة فيه
الحجة الثالثة أن المخلوق قد يكون جماداً وتكليف الجماد عبث ولا يليق بالحكيم
الحجة الرابعة أن القادر هوالذي يصح منه الفعل وتركه بحسب الإرادات فإذا فرضنا القادر المريد
منفكاً عن قوله كُنَّ فإما أن يتمكن من الإيجاد والأحداث أو لا يتمكن فإن تمكن لم يكن الإيجاد موقوفاً على قوله كُنَّ وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم أن لا يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه بكن فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمعتم القدرة بكن وذلك نزاع في اللفظ
الحجة الخامسة أن كُنَّ لو كان له أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة
الحجة السادسة أن كُنَّ كلمة مركبة من الكاف والنون بشرط كون الكاف متقدماً على النون فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما فإن كان الأول لم يكن لكلمة كُنَّ أثر البتة بل التأثير لأحد هذين الحرفين وإن كان الثاني فهو محال لأنه لا وجود لهذا المجموع البتة لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثاني حاصلاً وحين جاء الثاني فقد فات الأول وإن لم يكن للمجموع وجود البتة استحال أن يكون للمجموع أثر البتة
الحجة السابعة قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( آل عمران 59 ) بين أن قوله كُنَّ متأخر عن خلقه إذ المتأخر عن الشيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه فعلمنا أنه لا تأثير لقوله كُنَّ في وجود الشيء فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب وإذا ثبت هذا فنقول لا بد من التأويل وهو من وجوه
الأول وهو الأقوى أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة ونظيره قوله تعالى عند وصف خلق السموات والأرض فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ( فصلت 11 ) من غير قول كان منهما لكن على سبل سرعة نفاذ قدرته في تكوينهما من غير ممانعة ومدافعة ونظيره قول العرب قال الجدار للوتد لم تشقني قال سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي ونظيره قوله تعالى وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ( الإسراء 44 ) الثاني أنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً يحكى ذلك عن أبي الهذيل الثالث أنه خاص بالموجودين الذين قال لهم كُونُواْ قِرَدَة ً خَاسِئِينَ ( البقرة 65 ) ومن جرى مجراهم وهو قول الأصم الرابع أنه أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة والكل ضعيف والقوي هو الأول
وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَة ٌ كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
اعلم أن هذا هو النوع الحادي عشر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين ففيه مسائل
المسألة الأولى أن الله تعالى لما حكى عن اليهود والنصارى والمشركين ما يقدح في التوحيد وهو أنه تعالى اتخذ الولد حكى الآن عنهم ما يقدح في النبوة وقال أكثر المفسرين هؤلاء هم مشركو العرب والدليل عليه قوله تعالى وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا ( الإسراء 90 ) وقالوا بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ( الأنبياء 5 ) وقالوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ( الفرقان 21 ) هذا قول أكثر المفسرين إلا أنه ثبت أن أهل الكتاب سألوا ذلك والدليل عليه قوله تعالى يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ ( النساء 153 ) فإن قيل الدليل على أن المراد مشركو العرب أنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون وأهل الكتاب أهل العلم قلنا المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي وأهل الكتاب كانوا كذلك
المسألة الثانية تقرير هذه الشبهة التي تمسكوا بها أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء فلا بد وأن يختار أقرب الطرق المفضية إليه وأبعدها عن الشكوك والشبهات إذا ثبت هذا فنقول إن الله تعالى يكلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول يا محمد إنه كلمك والدليل عليه قوله تعالى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ( النجم 10 ) فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة وأيضاً فإن كان تعالى لا يفعل ذلك فلم لا يخصك بآية ومعجزة وهذا منهم طعن في كون القرآن آية ومعجزة لأنهم لو أقروا بكونه معجزة لاستحال أن يقولوا هلا يأتينا بآية ثم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وحاصل هذا الجواب أنا قد أيدنا قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بالمعجزات وبينا صحة قوله بالآيات وهي القرآن وسائر المعجزات فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنت وإذا كان كذلك لم يجب إجابتها لوجوه الأول أنه إذا حصلت الدلالة الواحدة فقد تمكن المكلف من الوصول إلى المطلوب فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة فحيث لم يكتف بها وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك للطلب من باب العناد واللجاج فلم تكن إجابتها واجبة ونظيره قوله تعالى وَقَالُواْ لَوْ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ إِنَّمَا الاْيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ( العنكبوت 50 51 ) فبكتهم بما في القرآن من الدلالة الشافية وثانيها لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآية لفعلها ولكنه علم أنه لو أعطاهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجاً فلا جرم لم يفعل ذلك ولذلك قال تعالى وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( الأنفال 23 ) وثالثها إنما حصل في تلك الآيات أنواع من المفساد وربما أوجب حصولها هلاكهم واستئصالهم إن استمروا بعد ذلك على التكذيب وربما كان بعضها منتهياً إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف وربما كانت كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة لأن الخوارق متى توالت صار انخراق العادة عادة فحينئذ يخرج عن كونه معجزاً وكل ذلك أمور لا يعلمها إلا الله علام الغيوب فثبت أن عدم إسعافهم بهذه الآيات لا يقدح في النبوة
أما قوله تعالى تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ فالمراد أن المكذبين للرسل تتشابه أقوالهم وأفعالهم فكما أن قوم موسى كانوا أبداً في التعنت واقتراح الأباطيل كقولهم لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ واحِدٍ ( البقرة 61 ) وقولهم اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ ( الأعراف 138 ) وقوله أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ( البقرة 67 ) وقولهم أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَة ً
( النساء 153 ) فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبداً في العناد واللجاج وطلب الباطل
أما قوله تعالى قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فالمراد أن القرآن وغيره من المعجزات كمجيء الشجرة وكلام الذئب وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل آيات قاهرة ومعجزات باهرة لمن كان طالباً لليقين
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْألُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ
اعلم أن القوم لما أصروا على العناد واللجاج الباطل واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بين الله تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه لا مزيد على ما فعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة وكما بين ذلك بين أنه لا مزيد على ما فعله الرسول في باب الإبلاغ والتنبيه لكي لايكثر غمه بسبب إصرارهم على كفرهم وفي قوله بِالْحَقّ وجوه أحدها أنه متعلق بالإرسال أي أرسلناك إرسالاً بالحق وثانيها أنه متعلق بالبشير والنذير أي أنت مبشر بالحق ومنذر به وثالثها أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن أي أرسلناك بالقرآن حال كونه بشيراً لمن أطاع الله بالثواب ونذيراً لمن كفر بالعقاب والأولى أن يكون البشير والنذير صفة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فكأنه تعالى قال إنا أرسلناك يا محمد بالحق لتكون مبشراً لمن اتبعك واهتدى بدينك ومنذراً لمن كفر بك وضل عن دينك
أما قوله تعالى وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ ففيه قراءتان
الجمهور برفع التاء واللام على الخبر وأما نافع فبالجزم وفتح التاء على النهي
أما على القراءة الأولى ففي التأويل وجوه أحدها أن مصيرهم إلى الجحيم فمعصيتهم لا تضرك ولست بمسؤول عن ذلك وهو كقوله فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ( الرعد 40 ) وقوله عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ ( النور 54 ) والثاني أنك هاد وليس لك من الأمر شيء فلا تأسف ولا تغتم لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب ونظيره قوله فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 ) الثالث لا تنظر إلى المطيع والعاصي في الوقت فإن الحال قد يتغير فهو غيب فلا تسأل عنه وفي الآية دلالة على أن أحداً لا يسأل عن ذنب غيره ولا يؤاخذ بما اجترمه سواه سواء كان قريباً أو كان بعيداً
أما القراءة الثانية ففيها وجهان الأول روي أنه قال ليت شعري ما فعل أبواي فنهي عن السؤال عن الكفرة وهذه الرواية بعيدة لأنه عليه الصلاة والسلام كان عالماً بكفرهم وكان عالماً بأن الكافر معذب فمع
هذا العلم كيف يمكن أن يقول ليت شعري ما فعل أبواي والثاني معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب كما إذا سألت عن إنسان واقع في بلية فيقال لك لا تسأل عنه ووجه التعظيم أن المسؤول يجزع أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته فلا تسأله ولا تكلفه ما يضجره أو أنت مستخبر لا تقدر على استماع خبره لإيحاشه السامع وإضجاره فلا تسأل والقراءة الأولى يعضدها قراءة أبي ( وما تسأل ) وقراءة عبد الله ( ولن تسأل )
وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
اعلم أنه تعالى لما صبر رسوله بما تقدم من الآية وبين أن العلة قد انزاحت من قبله لا من قبلهم وأنه لا عذر لهم في الثبات على التكذيب به عقب ذلك بأن القوم بلغ حالهم في تشددهم في باطلهم وثباتهم على كفرهم أنهم يريدون مع ذلك أن يتبع ملتهم ولا يرضون منه بالكتاب بل يريدون منه الموافقة لهم فيما هم عليه فبين بذلك شدة عداوتهم للرسول وشرح ما يوجب اليأس من موافقتهم والملة هي الدين ثم قال قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى بمعنى أن هدى الله هو الذي يهدي إلى الإسلام وهو الهدي الحق والذي يصلح أن يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى وما يدعون إلى اتباعه ما هو بهدى إنما هو هوى ألا ترى إلى قوله وَلَئِنِ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ أي من الدين المعلوم صحته بالدلائل القاطعة مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ أي معين يعصمك ويذب عنك بل الله يعصمك من الناس إذا أقمت على الطاعة والاعتصام بحبله قالوا الآية تدل على أمور منها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله فإن في هذه الصورة علم الله أنه لا يتبع أهواءهم ومع ذلك فقد توعده عليه ونظيره قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وإنما حسن هذا الوعيد لاحتمال أن الصارف له عن ذلك الفعل هو هذا الوعيد أو هذا الوعيد أحد صوارفه وثانيها أن قوله بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ يدل على أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلة وإذا صح ذلك فبأن لا يجوز الوعيد إلا بعد القدرة أولى فبطل به قول من يجوز تكليف ما لا يطاق وثالثها فيها دلالة على أن اتباع الهوى لا يكون إلا باطلاً فمن هذا الوجه يدل على بطلان التقليد ورابعها فيها دلالة على أنه لا شفيع لمستحق العقاب لأن غير الرسول إذا اتبع هواه لو كان يجد شفيعاً ونصيراً لكان الرسول أحق بذلك وهذا ضعيف لأن اتباع أهوائهم
كفر وعندنا لا شفاعة في الكفر
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَائِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
شا المسألة الأولى الَّذِينَ موضعه رفع بالابتداء و أُوْلَائِكَ ابتداء ثان و يُؤْمِنُونَ بِهِ خبره
المسألة الثانية المراد بقوله الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ من هم فيه قولان
القول الأول أنهم المؤمنون الذين آتاهم الله القرآن واحتجوا عليه من وجوه أحدها أن قوله يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ حث وترغيب في تلاوة هذا الكتاب ومدح على تلك التلاوة والكتاب الذي هذا شأنه هو القرآن لا التوراة والإنجيل فإن قراءتهما غير جائزة وثانيها أن قوله تعالى أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يدل على أن الإيمان مقصود عليهم ولو كان المراد أهل الكتاب لما كان كذلك وثالثها قوله وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ والكتاب الذي يليق به هذا الوصف هو القرآن
القول الثاني أن المراد بالذين آتاهم الكتاب هم الذين آمنوا بالرسول من اليهود والدليل عليه أن الذين تقدم ذكرهم هم أهل الكتاب فلما ذم طريقتهم وحكى عنهم سوء أفعالهم أتبع ذلك بمدح من ترك طريقتهم بل تأمل التوراة وترك تحريفها وعرف منها صحة نبوة محمد عليه السلام
أما قوله تعالى يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ فالتلاوة لها معنيان أحدهما القراءة الثاني الإتباع فعلاً لأن من اتبع غيره يقال تلاه فعلاً قال الله تعالى وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ( الشمس 2 ) فالظاهر أنه يقع عليهما جميعاً ويصح فيهما جميعاً المبالغة لأن التابع لغيره قد يستوفي حق الاتباع فلا يخل بشيء منه وكذلك التالي يستوفي حق قراءته فلا يخل بما يلزم فيه والذين تأولوه على القراءة هم الذين اختلفوا على وجوه فأولها أنهم تدبروه فعملوا بموجبه حتى تمسكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما وثانيها أنهم خضعوا عند تلاوته وخشعوا إذا قرأوا القرآن في صلاتهم وخلواتهم وثالثها أنهم عملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه وفوضوه إلى الله سبحانه ورابعها يقرؤنه كما أنزل الله ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يتأولونه على غير الحق وخامسها أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه لأنها مشتركة في مفهوم واحد وهو تعظيمها والانقياد لها لفظاً ومعنى فوجب حمل اللفظ على هذا القدر المشترك تكثيراً لفوائد كلام الله تعالى والله أعلم
يَابَنِى إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى َ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَة ٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما استقصى في شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل ثم في شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم وختم هذا الفصل بما بدأ به وهو قوله خَالِدُونَ يَابَنِى إِسْراءيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ إلى قوله وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ شرع سبحانه ههنا في نوع آخر من البيان وهو أن ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وكيفية أحواله والحكمة فيه أن إبراهيم عليه السلام شخص يعترف بفضله جميع الطوائف والملل فالمشركين كانوا معترفين بفضله متشرفين بأنهم من أولاده ومن ساكني حرمه وخادمي بيته وأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا أيضاً مقرين بفضله متشرفين بأنهم من أولاده فحكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام أموراً توجب على المشركين وعلى اليهود والنصارى قبول قول محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والاعتراف بدينه والانقياد لشرعه وبيانه من وجوه
أحدها أنه تعالى لما أمره ببعض التكاليف فلما وفى بها وخرج عن عهدتها لا جرم نال النبوة والإمامة وهذا مما ينبه اليهود والنصارى والمشركين على أن الخير لا يحصل في الدنيا والآخرة إلا بترك التمرد والعناد والانقياد لحكم الله تعالى وتكاليفه وثانيها أنه تعالى حكى عنه أنه طلب الإمامة لأولاده فقال الله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فدل ذلك على أن منصب الإمامة والرياسة في الدين لا يصل إلى الظالمين فهؤلاء متى أرادوا وجدان هذا المنصب وجب عليهم ترك اللجاج والتعصب للباطل وثالثها أن الحج من خصائص دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فحكى الله تعالى ذلك عن إبراهيم ليكون ذلك كالحجة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك ورابعها أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود والنصارى فبين الله تعالى أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه ووجوب الاقتداء به فكان ذلك مما يوجب زوال ذلك الغضب عن قلوبهم وخامسها أن من المفسرين من فسر الكلمات التي ابتلى الله تعالى إبراهيم بها بأمور يرجع حاصلها إلى تنظيف البدن وذلك مما يوجب على المشركين اختيار هذه الطريقة لأنهم كانوا معترفين بفضل إبراهيم عليه السلام ويوجب عليهم ترك ما كانوا عليه من التلطخ بالدماء وترك النظافة ومن المفسرين من فسر تلك الكلمات بما أن إبراهيم عليه السلام صبر على ما ابتلى به في دين الله تعالى وهو النظر في الكواكب والقمر والشمس ومناظرة عبدة الأوثان ثم الانقياد لأحكام الله تعالى في ذبح الولد والإلقاء في النار وهذا يوجب على هؤلاء اليهود والنصارى والمشركين الذين يعترفون بفضله أن يتشبهوا به في ذلك ويسلكوا طريقته في
ترك الحسد والحمية وكراهة الانقياد لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهذه الوجوه التي لأجلها ذكر الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أموراً يرجع بعضها إلى الأمور الشاقة التي كلفه بها وبعضها يرجع إلى التشريفات العظيمة التي خصه الله بها ونحن نأتي على تفسيرها إن شاء الله تعالى وهذه الآية دالة على تكليف حصل بعده تشريف
أما التكليف فقوله تعالى وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب الكشاف العامل في إِذَا إما مضمر نحو واذكر إذ ابتلى إبراهيم أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت وإما قَالَ إِنّى جَاعِلُكَ
المسألة الثانية أنه تعالى وصف تكليفه إياه ببلوى توسعاً لأن مثل هذا يكون منا على جهة البلوى والتجربة والمحنة من حيث لا يعرف ما يكون ممن يأمره فلما كثر ذلك في العرف بيننا جاز أن يصف الله تعالى أمره ونهيه بذلك مجازاً لأنه تعالى لا يجوز عليه الاختبار والامتحان لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد وقال هشام بن الحكم إنه كان في الأزل عالماً بحقائق الأشياء وماهياتها فقط فأما حدوث تلك الماهيات ودخولها في الوجود فهو تعالى لا يعلمها إلا عند وقوعها واحتج عليه بالآية والمعقول أما الآية فهي هذه الآية قال إنه تعالى صرح بأنه يبتلي عباده ويختبرهم وذكر نظيره في سائر الآيات كقوله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وقال لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وقال في هذه السورة بعد ذلك وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ ( البقرة 155 ) وذكر أيضاً ما يؤكد هذا المذهب نحو قوله فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وكلمة لَعَلَّ للترجي وقال قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( البقرة 21 ) فهذه الآيات ونظائرها دالة على أنه سبحانه وتعالى لا يعلم وقوع الكائنات قبل وقوعها أما العقل فدل على وجوه أحدها أنه تعالى لو كان عالماً بوقوع الأشياء قبل وقوعها لزم نفي القدرة عن الخالق وعن الخلق وذلك محال فما أدى إليه مثله بيان الملازمة أن ما علم الله تعالى وقوعه استحال أن لا يقع لأن العلم بوقوع الشيء وبلا وقوع ذلك الشيء متضادان والجمع بين الضدين محال وكذلك ما علم الله أنه لا يقع كان وقوعه محالاً لعين هذه الدلالة فلو كان الباري تعالى عالماً بجميع الأشياء الجزئية قبل وقوعها لكان بعضها واجب الوقوع وبعضها ممتنع الوقوع ولا قدرة البتة لا على الواجب ولا على الممتنع فيلزم نفي القدرة على هذه الأشياء عن الخالق تعالى وعن الخلق وإنما قلنا إن ذلك محال أما في حق الخالق فلأنه ثبت أن العالم محدث وله مؤثر وذلك المؤثر يجب أن يكون قادراً إذ لو كان موجباً لذاته لزم من قدمه قدم العالم أو من حدوث العالم حدوثه وأما في حق الخلق فلأنا نجد من أنفسنا وجداناً ضرورياً كوننا متمكنين من الفعل والترك على معنى أنا إن شئنا الفعل قدرنا عليه وإن شئنا الترك قدرنا على الترك فلو كان أحدهما واجباً والآخر ممتنعاً لما حصلت هذه المكنة التي يعرف ثبوتها بالضرورة وثانيها أن تعلق العلم بأحد المعلومين مغاير لتعلقه بالمعلوم الآخر ولذلك فإنه يصل منا تعقل أحد
التعلقين مع الذهول عن التعلق الآخر ولو كان التعلقان تعلقاً واحداً لاستحال ذلك لأن الشيء الواحد يستحيل أن يكون معلوماً مذهولاً عنه وإذا ثبت هذا فنقول لو كان تعالى عالماً بجميع هذه الجزئيات لكان له تعالى علوم غير متناهية أو كان لعلمه تعلقات غير متناهية وعلى التقديرين فيلزم حصول موجودات غير متناهية دفعة واحدة وذلك محال لأن مجموع تلك الأشياء أزيد من ذلك المجموع بعينه عند نقصان عشرة منه فالناقص متناه والزائد زاد على المتناهي بتلك العشرة والمتناهي إذا ضم إليه غير المتناهي كان الكل متناهياً فإذاً وجود أمور غير متناهية محال فإن قيل الموجود هو العلم فأما تلك التعلقات فهي أمور نسبية لا وجود لها في الأعيان قلنا العلم إنما يكون علماً لو كان متعلقاً بالمعلوم فلو لم يكن ذلك التعلق حاصلاً في نفس الأمر لزم أن لا يكون العلم علماً في نفس الأمر وذلك محال وثالثها أن هذه المعلومات التي لا نهاية لها هل يعلم الله عددها أو لا يعلم فإن علم عددها فهي متناهية لأن كل ما له عدد معين فهو متناه وإن لم يعلم الله تعالى عددها لم يكن عالماً بها على سبيل التفصيل وكلامنا ليس إلا في العلم التفصيلي ورابعها أن كل معلوم فهو متميز في الذهن عما عداه وكل متميز عما عداه فإن ما عداه خارج عنه وكل ما خرج عنه فهو متناه فإذن كل معلوم فهو متناه فإذن كل ما هو غير متناه استحال أن يكون معلوماً وخامسها أن الشيء إنما يكون معلوماً لو كان للعلم تعلق به ونسبة إليه وانتساب الشيء إلى الشيء يعتبر تحققه في نفسه فإنه إذا لم يكن للشيء في نفسه تعين استحال أن يكون لغيره إليه من حيث هو هو نسبة والشيء المشخص قبل دخوله في الوجود لم يكن مشخصاً البتة فاستحال كونه متعلق العلم فإن قيل يبطل هذا بالمحالات والمركبات قبل دخولها في الوجود فإنا نعلمها وإن لم يكن لها تعينات البتة قلنا هذا الذي أوردتموه نقض على كلامنا وليس جواباً عن كلامنا وذلك مما لا يزيل الشك والشبهة قال هشام فهذه الوجوه العقلية تدل على أنه لا حاجة إلى صرف هذه الآيات عن ظواهرها واعلم أن هشاماً كان رئيس الرافضة فلذلك ذهب قدماء الروافض إلى القول بالنداء أما الجمهور من المسلمين فإنهم اتفقوا على أنه سبحانه وتعالى يعلم الجزئيات قبل وقوعها واحتجوا عليها بأنها قبل وقوعها تصح أن تكون معلومة لله تعالى إنما قلنا أنها تصح أن تكون معلومة لأنا نعلمها قبل وقوعها فإنا نعلم أن الشمس غداً تطلع من مشرقها والوقوع يدل على الإمكان وإنما قلنا أنه لما صح أن تكون معلومة وجب أن تكون معلومة لله تعالى لأن تعلق علم الله تعالى بالمعلوم أمر ثبت له لذاته فليس تعلقه ببعض ما يصح أن يعلم أولى من تعلقه بغيره فلو حصل التخصيص لافتقر إلى مخصص وذلك محال فوجب أن لا يتعلق بشيء من المعلومات أصلاً وإن تعلق بالبعض فإنه يتعلق بكلها وهو المطلوب
أما الشبهة الأولى فالجواب عنها أن العلم بالوقوع تبع للوقوع والوقوع تبع للقدرة فالتابع لا ينافي المتبوع فالعلم لازم لا يغني عن القدرة
وأما الشبهة الثانية فالجواب عنها أنها منقوضة بمراتب الأعداد التي لا نهاية لها
وأما الشبهة الثالثة فالجواب عنها أن الله تعالى لا يعلم عددها ولا يلزم منه إثبات الجهل لأن الجهل هو أن يكون لها عدد معين ثم أن الله تعالى لا يعلم عددها فأما إذا لم يكن في نفسها عدد لم
يلزم من قولنا أن الله تعالى لا يعلم عددها إثبات الجهل
وأما الشبهة الرابعة فالجواب عنها أنه ليس من شرط المعلوم أن يعلم العلم تميزه عن غيره لأن العلم بتميزه عن غيره يتوقف على العلم بذلك الغير فلو كان توقف العلم بالشيء على العلم بتميزه عن غيره وثبت أن العلم بتميزه من غيره يوقف على العلم بغيره لزم أن لا يعلم الإنسان شيئاً واحداً إلا إذا علم أموراً لا نهاية لها
وأما الشبهة الخامسة فالجواب عنها بالنقض الذي ذكرناه وإذا انتقضت الشبهة سقطت فيبقى ما ذكرناه من الدلالة على عموم عالمية الله تعالى سالماً عن المعارض وبالله التوفيق
المسألة الثالثة اعلم أن الضمير لا بد وأن يكون عائداً إلى مذكور سابق فالضمير إما أن يكون متقدماً على المذكور لفظاً ومعنى وإما أن يكون متأخراً عنه لفظاً ومعنى وإما أن يكون متقدماً لفظاً ومتأخراً معنى وإما أن يكون بالعكس منه أما القسم الأول وهو أن يكون متقدماً لفظاً ومعنى فالمهشور عند النحويين أنه غير جائز وقال ابن جنى بجوازه واحتج عليه بالشعر والمعقول أما الشعر فقوله جزى ربه عني عدي بن حاتم
جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
وأما المعقول فلأن الفاعل مؤثر والمفعول قابل وتعلق الفعل بهما شديد فلا يبعد تقديم أي واحد منهما كان على الآخر في اللفظ ثم أجمعنا على أنه لو قدم المنصوب على المرفوع في اللفظ فإنه جائز فكذا إذا لم يقدم مع أن ذلك التقديم جائز القسم الثاني وهو أن يكون الضمير متأخراً لفظاً ومعنى وهذا لا نزاع في صحته كقولك ضرب زيد غلامه القسم الثالث أن يكون الضمير متقدماً في اللفظ متأخراً في المعنى وهو كقولك ضرب غلامه زيد فههنا الضمير وإن كان متقدماً في اللفظ لكنه متأخر في المعنى لأن المنصوب متأخر عن المرفوع في التقدير فيصير كأنك قلت زيد ضرب غلامه فلا جرم كان جائزاً القسم الرابع أن يكون الضمير متقدماً في المعنى متأخراً في اللفظ وهو كقوله تعالى وَإِذَا ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ فإن المرفوع مقدم في المعنى على المنصوب فيصير التقدير وإذ ابتلى ربه إبراهيم إلا أن الأمر وإن كان كذلك بحسب المعنى لكن لما لم يكن الضمير متقدماً في اللفظ بل كان متأخراً لا جرم كان جائزاً حسناً
المسألة الرابعة قرأ ابن عامر ( إبراهام ) بألف بين الهاء والميم والباقون ( إبراهيم ) وهما لغتان وقرأ ابن عباس وأبو حيوة رضي الله عنه ( إبراهيم ربه ) برفع إبراهيم ونصب ربه والمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه الله تعالى إليهن أم لا
المسألة الخامسة اختلف المفسرون في أن ظاهر اللفظ هل يدل على تلك الكلمات أم لا فقال بعضهم اللفظ يدل عليها وهي التي ذكرها الله تعالى من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بإبعاث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن هذه الأشياء أمور شاقة أما الإمامة فلأن المراد منها ههنا هو النبوة وهذا التكليف يتضمن مشاق عظيمة لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يلزمه أن يتحمل جميع المشاق والمتاعب في تبليغ الرسالة وأن لا يخون في أداء شيء منها ولو لزمه القتل بسبب ذلك ولا شك أن ذلك من أعظم المشاق ولهذا قلنا إن ثواب النبي أعظم من ثواب غيره وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف
شدة البلوى فيه ثم أنه يتضمن إقامة المناسك وقد امتحن الله الخليل عليه الصلاة والسلام بالشيطان في الموقف لرمي الجمار وغيره وأما اشتغاله بالدعاء في أن يبعث الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) في آخر الزمان فهذا مما يحتاج إليه إخلاص العمل لله تعالى وإزالة الحسد عن القلب بالكلية فثبت أن الأمور المذكورة عقيب هذه الآية تكاليف شاقة شديدة فأمكن أن يكون المراد من ابتلاء الله تعالى إياه بالكلمات هو ذلك ثم الذي يدل على أن المراد ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف من حروف العطف فلم يقبل وقال إني جاعلك للناس إماماً بل قال ءانٍ جَاعِلُكَ فدل هذا على أن ذلك الابتلاء ليس إلا التكليف بهذه الأمور المذكورة واعترض القاضي على هذا القول فقال هذا إنما يجوز لو قال الله تعالى وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم ثم أنه تعالى قال له بعد ذلك إني جاعلك للناس إماماً فأتمهن إلا أنه ليس كذلك بل ذكر قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا بعد قوله فَأَتَمَّهُنَّ وهذا يدل على أنه تعالى امتحنه بالكلمات وأتمها إبراهيم ثم أنه تعالى قال له بعد ذلك إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ويمكن أن يجاب عنه بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء في بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كأن الله تعالى ابتلاه بمجموع هذه الأشياء فأخبر الله تعالى عنه أنه ابتلاه بأمور على الإجمال ثم أخبر عنه أنه أتمها ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل وهذا مما لا يعد فيه القول الثاني أن ظاهر الآية لا دلالة فيه على المراد بهذه الكلمات وهذا القول يحتمل وجهين أحدهما بكلمات كلفه الله بهن وهي أوامره ونواهيه فكأنه تعالى قال وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ مما شاء كلفه بالأمر بها والوجه الثاني بكلمات تكون من إبراهيم يكلم بها قومه أي يبلغهم إياها والقائلون بالوجه الأول اختلفوا في أن ذلك التكليف بأي شيء كان على أقوال أحدها قال ابن عباس هي عشر خصال كانت فرضاً في شرعه وهي سنة في شرعنا خمس في الرأس وخمس في الجسد أما التي في الرأس فالمضمضة والإستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك وأما التي في البدن فالختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء وثانيها قال بعضهم ابتلاه بثلاثين خصلة من خصال الإسلام عشر منها في سورة براءة التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ( التوبة 112 ) إلى آخر الآية وعشر منها في سورة الأحزاب إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ( الأحزاب 35 ) إلى آخر الآية وعشر منها في المؤمنون قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( المؤمنون 1 ) إلى قوله أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ ( المؤمنون 10 ) وروى عشر في سَأَلَ سَائِلٌ ( المعارج 1 ) إلى قوله وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( المعارج 34 ) فجعلها أربعين سهماً عن ابن عباس وثالثها أمره بمناسك الحج كالطواف والسعي والرمي والإحرام وهو قول قتادة وابن عباس ورابعها ابتلاه بسبعة أشياء بالشمس والقمر والكواكب والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة فوفي بالكل فلهذا قال الله تعالى وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى ( النجم 37 ) عن الحسن وخامسها أن المراد ما ذكره في قوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) وسادسها المناظرات الكثيرة في التوحيد مع أبيه وقومه ومع نمرود والصلاة والزكاة والصوم وقسم الغنائم والضيافة والصبر عليها قال القفال رحمه الله وجملة القول أن الابتلاء يتناول إلزام كل ما في فعله كلفة شدة ومشقة فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء ويتناول كل واحد منها فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل ولو ثبتت الرواية
في البعض دون البعض فحينئذ يقع التعارض بين هذه الروايات فوجب التوقف والله أعلم
المسألة السادسة قال القاضي هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة لأن الله تعالى نبه على أن قيامه عليه الصلاة والسلام بهن كالسبب لأن يجعله الله إماماً والسبب مقدم على المسبب فوجب كون هذا الابتلاء متقدماً في الوجود على صيرورته إماماً وهذا أيضاً ملائم لقضايا العقول وذلك لأن الوفاء من شرائط النبوة لا يحصل إلا بالإعراض عن جميع ملاذ الدنيا وشهواتها وترك المداهنة مع الخلق وتقبيح ما هم عليه من الأديان الباطلة والعقائد الفاسدة وتحمل الأذى من جميع أصناف الخلق ولا شك أن هذا المعنى من أعظم المشاق وأجل المتاعب ولهذا السبب يكون الرسول عليه الصلاة والسلام أعظم أجراً من أمته وإذا كان كذلك فالله تعالى ابتلاه بالتكاليف الشاقة فلما وفى عليه الصلاة والسلام بها لا جرم أعطاه خلعة النبوة والرسالة وقال آخرون إنه بعد النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي فلا بد من تقدم الوحي على معرفته بكونه كذلك أجاب القاضي عنه بأنه يحتمل أنه تعالى أوحى إليه على لسان جبريل عليه السلام بهذه التكاليف الشاقة فلما تمم ذلك جعله نبياً مبعوثاً إلى الخلق إذا عرفت هذه المسألة فنقول ما قال القاضي يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكره الحسن من حديث الكوكب والشمس والقمر فإنه عليه الصلاة والسلام ابتلاه الله بذلك قبل النبوة أما ذبح الولد والهجرة والنار فكل ذلك كان بعد النبوة وكذا الختان فإنه عليه السلام يروي أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين سنة ثم قال فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله أتمهن أنه سبحانه علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة
المسألة السابعة الضمير المستكن في بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ في إحدى القراءتين لإبراهيم بمعنى فقام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان ونحوه وَإِبْراهِيمَ الَّذِى وَفَّى وفي الأخرى لله تعالى بمعنى فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً
أما قوله تعالى إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا فالإمام اسم من يؤتم به كالإزار لما يؤتزر به أي يأتمون بك في دينك وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أهل التحقيق المراد من الإمام ههنا النبي ويدل عليه وجوه أحدها أن قوله لِلنَّاسِ إِمَامًا يدل على أنه تعالى جعله إماماً لكل الناس والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولاً من عند الله مستقلاً بالشرع لأنه لو كان تبعاً لرسول آخر لكان مأموماً لذلك الرسول لا إماماً له فحينئذ يبطل العموم وثانيها أن اللفظ يدل على أنه إمام في كل شيء والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبياً وثالثها أن الأنبياء عليهم السلام أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم قال الله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ( الأنبياء 73 ) والخلفاء أيضاً أئمة لأنهم رتبوا في المحل الذي يجب على الناس اتباعهم وقبول قولهم وأحكامهم والقضاة والفقهاء أيضاً أئمة لهذا المعنى والذي يصلي بالناس يسمى أيضاً إماماً لأن من دخل في صلاته لزمه الائتمام به قال عليه الصلاة والسلام ( إنما جعل الإمام إماماً ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا ولا تختلفوا على إمامكم ) فثبت بهذ أن اسم الإمام لمن استحق الاقتداء به في الدين وقد يسمى بذلك أيضاً من يؤتم به في الباطل قال الله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ( القصص 41 ) إلا أن
اسم الإمام لا يتناوله على الإطلاق بل لا يستعمل فيه إلا مقيداً فإنه لما ذكر أئمة الضلال قيده بقوله تعالى يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ كما أن اسم الإله لا يتناول إلا المعبود الحق فأما المعبود الباطل فإنما يطلق عليه اسم الإله مع القيد قال الله تعالى فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَى ْء ( هود 101 ) وقال وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ( طه 97 ) إذا ثبت أن اسم الإمام يتناول ما ذكرناه وثبت أن الأنبياء في أعلى مراتب الإمامة وجب حمل اللفظ ههنا عليه لأن الله تعالى ذكر لفظ الإمام ههنا في معرض الامتنان فلا بد وأن تكون تلك النعمة من أعظم النعم ليحسن نسبة الامتنان فوجب حمل هذه الإمامة على النبوة
المسألة الثانية أن الله تعالى لما وعده بأن يجعله إماماً للناس حقق الله تعالى ذلك الوعد فيه إلى قيام الساعة فإن أهل الأديان على شدة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب وإما في الدين والشريعة حتى إن عبدة الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه السلام وقال الله تعالى في كتابه ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا ( النحل 123 ) وقال مِنْ يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) وقال في آخر سورة الحج مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ( الحج 78 ) وجميع أمة محمد عليه الصلاة والسلام يقولون في آخر الصلاة وارحم محمداً وآل محمد كما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
المسألة الثالثة القائلون بأن الإمام لا يصير إماماً إلا بالنص تمسكوا بهذه الآية فقالوا إنه تعالى بين أنه إنما صار إماماً بسبب التنصيص على إمامته ونظيره قوله تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَة ً ( البقرة 30 ) فبين أنه لا يحصل له منصب الخلافة بالتنصيص عليه وهذا ضعيف لأنا بينا أن المراد بالإمامة ههنا النبوة ثم إن سلمنا أن المراد منها مطلق الإمامة لكن الآية تدل على أن النص طريق الإمامة وذلك لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه هل تثبت الإمامة بغير النص وليس في هذه الآية تعرض لهذه المسألة لا بالنفي ولا بالإثبات
المسألة الرابعة قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا يدل على أنه عليه السلام كان معصوماً عن جميع الذنوب لأن الإمام هو الذي يؤتم به ويقتدى فلو صدرت المعصية منه لوجب علينا الاقتداء به في ذلك فيلزم أن يجب علينا فعل المعصية وذلك محال لأن كونه معصية عبارة عن كونه ممنوعاً من فعله وكونه واجباً عبارة عن كونه ممنوعاً من تركه والجميع محال
أما قوله مِن ذُرّيَّتِى ففيه مسائل
المسألة الأولى الذرية الأولاد وأولاد الأولاد للرجل وهو من ذرأ الله الخلق وتركوا همزها للخفة كما تركوا في البرية وفيه وجه آخر وه وأن تكون منسوبة إلى الذر
المسألة الثانية قوله وَمِن ذُرّيَتِى عطف على الكاف كأنه قال وجاعل بعض ذريتي كما يقال لك سأكرمك فتقول وزيداً
المسألة الثالثة قال بعضهم إنه تعالى أعلمه أن في ذريته أنبياء فأراد أن يعلم هل يكون ذلك في كلهم أو في بعضهم وهل يصلح جميعهم لهذا الأمر فأعلمه الله تعالى أن فيهم ظالماً لا يصلح لذلك وقال
آخرون إنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل الاستعلام ولما لم يعلم على وجه المسألة فأجابه الله تعالى صريحاً بأن النبوة لا تنال الظالمين منهم فإن قيل هل كان إبراهيم عليه السلام مأذوناً في قوله وَمِن ذُرّيَتِى أو لم يكن مأذوناً فيه فإن أذن الله تعالى في هذا الدعاء فلم رد دعاءه وإن لم يأذن له فيه كان ذلك ذنباً قلنا قوله وَمِن ذُرّيَتِى يدل على أنه عليه السلام طلب أن يكون بعض ذريته أئمة للناس وقد حقق الله تعالى إجابة دعائه في المؤمنين من ذريته كاسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهرون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وجعل آخرهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) من ذريته الذي هو أفضل الأنبياء والأئمة عليهم السلام
أما قوله تعالى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ حمزة وحفص عن عاصم عَهْدِي بإسكان الياء والباقون بفتحها وقرأ بعضهم لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمُونَ أي من كان ظالماً من ذريتك فإنه لا ينال عهدي
المسألة الثانية ذكروا في العهد وجوهاً أحدها أن هذا العهد هو الإمامة المذكورة فيما قبل فإن كان المراد من تلك الإمامة هو النبوة فكذا وإلا فلا وثانيها عَهْدِي أي رحمتي عن عطاء وثالثها طاعتي عن الضحاك ورابعها أماني عن أبي عبيد والقول الأول أولى لأن قوله وَمِن ذُرّيَتِى طلب لتلك الإمامة التي وعده بها بقوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا فقوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ لا يكون جواباً عن ذلك السؤال إلا إذا كان المراد بهذا العهد تلك الإمامة
المسألة الثالثة الآية دالة على أنه تعالى سيعطي بعض ولده ما سأل ولولا ذلك لكان الجواب لا أو يقول لا ينال عهدي ذريتك فإن قيل أفما كان إبراهيم عليه السلام عالماً بأن النبوة لا تليق بالظالمين قلنا بلى ولكن لم يعلم حال ذريته فبين الله تعالى أن فيهم من هذا حاله وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم
المسألة الرابعة الروافض احتجوا بهذه الآية على القدح في إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من ثلاثة أوجه الأول أن أبا بكر وعمر كانا كافرين فقد كانا حال كفرهما ظالمين فوجب أن يصدق عليهما في تلك الحالة أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة وإذا صدق عليهما في ذلك الوقت أنهما لا ينالان عهد الإمامة البتة ولا في شيء من الأوقات ثبت أنهما لا يصلحان للإمامة الثاني أن من كان مذنباً في الباطن كان من الظالمين فإذن ما لم يعرف أن أبا بكر وعمر ما كانا من الظالمين المذنبين ظاهراً وباطناً وجب أن لا يحكم بإمامتهما وذلك إنما يثبت في حق من تثبت عصمته ولما لم يكونا معصومين بالإتفاق وجب أن لا تتحقق إمامتهما البتة الثالث قالوا كانا مشركين وكل مشرك ظالم والظالم لا يناله عهد الإمامة فيلزم أن لا ينالهما عهد الإمامة أما أنهما كانا مشركين فبالاتفاق وأما أن المشرك ظالم فلقوله تعالى إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) وأما أن الظالم لا يناله عهد الإمامة فلهذه الآية لا يقال إنهما كانا ظالمين حال كفرهما فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم لأنا نقول الظالم من وجد منه الظلم وقولنا وجد منه الظلم أعم من قولنا وجد
منه الظلم في الماضي أو في الحال بدليل أن هذا المفهوم يمكن تقسيمه إلى هذين القسمين ومورد التقسيم بالتقسيم بالقسمين مشترك بين القسمين وما كان مشتركاً بين القسمين لايلزم انتفاؤه لانتفاء أحد القسمين فلا يلزم من نفى كونه ظالماً في الحال نفي كونه ظالماً والذي يدل عليه نظراً إلى الدلائل الشرعية أن النائم يسمى مؤمناً والإيمان هو التصديق والتصديق غير حاصل حال كونه نائماً فدل على أنه يسمى مؤمناً لأن الإيمان كان حاصلاً قبل وإذا ثبت هذا وجب أن يكون ظالماً لظلم وجد من قبل وأيضاً فالكلام عبارة عن حروف متوالية والمشي عبارة عن حصولات متوالية في أحياز متعاقبة فمجموع تلك الأشياء البتة لا وجود لها فلو كان حصول المشتق منه شرطاً في كون الإسم المشتق حقيقة وجب أن يكون اسم المتكلم والماشي وأمثالهما حقيقة في شيء أصلاً وأنه باطل قطعاً فدل هذا على أن حصول المشتق منه ليس شرطاً لكون الاسم المشتق حقيقة والجواب كل ما ذكرتموه معارض بما أنه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل بسنين متطاولة فإنه لا يحنث فدل على ما قلناه ولأن التائب عن الكفر لا يسمى كافراً والتائب عن المعصية لا يسمى عاصياً فكذا القول في نظائره ألا ترى إلى قوله وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ( هود 113 ) فإنه نهى عن الركون إليهم حال إقامتهم على الظلم وقوله مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ( التوبة 91 ) معناه ما أقاموا على الإحسان على أنا بينا أن المراد من الإمامة في هذه الآية النبوة فمن كفر بالله طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة
المسألة الخامسة قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له واختلفوا في أن الفسق الطارىء هل يبطل الإمامة أم لا واحتج الجمهور على أن الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية ووجه الاستدلال بها من وجهين الأول ما بينا أن قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ جواب لقوله وَمِن ذُرّيَتِى وقوله وَمِن ذُرّيَتِى طلب للإمامة التي ذكرها الله تعالى فوجب أن يكون المراد بهذا العهد هو الإمامة ليكون الجواب مطابقاً للسؤال فتصير الآية كأنه تعالى قال لا ينال الإمامة الظالمين وكل عاص فإنه ظالم لنفسه فكانت الآية دالة على ما قلناه فإن قيل ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهراً وباطناً ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة قلنا أما الشيعة فيستدلون بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العصمة ظاهراً وباطناً وأما نحن فنقول مقتضى الآية ذلك إلا أنا تركنا اعتبار الباطن فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة فإن قيل أليس أن يونس عليه السلام قال سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنبياء 87 ) وقال آدم رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ( الأعراف 23 ) قلنا المذكور في الآية هو الظلم المطلق وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما السلام الوجه الثاني أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر قال الله تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ ( ي س 60 ) يعني ألم آمركم بهذا وقال الله تعالى قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا ( آل عمران 183 ) يعني أمرنا ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضاتهم إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول لا يخلو قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ من أن يريد أن الظالمين غير مأمورين وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله تعالى ولما بطل الوجه الأول لاتفاق المسلمين على أن أوامر الله تعالى
لازمة للظالمين كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها فلا يكونون أئمة في الدين فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق قال عليه السلام ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ودل أيضاً على أن الفاسق لا يكون حاكماً وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولي الحكم وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا فتياه إذا أفتى ولا يقدم للصلاة وإن كان هو بحيث لو اقتدي به فإنه لا تفسد صلاته قال أبو بكر الرازي ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أنه يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة ولا يجوز كون الفاسق قاضياً قال وهذا خطأ ولم يفرق أبو حنيفة بين الخليفة والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة وكيف يكون خليفة وروايته غير مقبولة وأحكامه غير نافذة وكيف يجوز أن يدعي ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على القضاء وضربه فامتنع من ذلك فحبس فلح ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطاً فلما خيف عليه قال له الفقهاء تول له شيئاً من عمله أي شيء كان حتى يزول عنك الضرب فتولي له عد أحمال التبن التي تدخل فخلاه ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور مدينة المنصور إلى مثل ذلك وقصته في أمر زيد بن علي مشهورة وفي حمله المال إليه وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته والقتال معه وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ثم قال وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنيفة أن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه وتولي القضاء من إمام جائر فإن أحكامه نافذة والصلاة خلفه جائزة لأن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه ويمكنه تنفيذ الأحكام كانت أحكامه نافذة فلا اعتبار في ذلك بمن ولاه لأن الذي ولاه بمنزلة سائر أعوانه وليس شرط أعوان القاضي أن يكون عدولاً ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه لكان قضاؤه نافذاً وأن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان والله أعلم
المسألة السادسة الآية تدل على عصمة الأنبياء من وجهين الأول أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد الإمامة ولا شك أن كل نبي إمام فإن الإمام هو الذي يؤتم به والنبي أولى الناس وإذا دلت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقاً فبأن تدل على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقاً فاعلاً للذنب والمعصية أولى الثاني قال وَلاَ يَنَالُونَ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فهذا العهد إن كان هو النبوة وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظالمين وإن كان هو الإمامة فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به وكل فاسق ظالم لنفسه فوجب أن لا تحصل النبوة لأحد من الفاسقين والله أعلم
المسألة السابعة اعلم أنه سبحانه بين أن له معك عهداً ولك معه عهداً وبين أنك متى تفي بعهدك فإنه سبحانه يفي أيضاً بعهده فقال وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ( البقرة 40 ) ثم في سائر الآيات فإنه أفرد عهدك بالذكر وأفرد عهد نفسه أيضاً بالذكر أما عهدك فقال فيه وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ( البقرة 177 ) وقال وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ ( المؤمنون 8 ) وقال عَلِيمٌ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ( المائدة 1 ) وقال لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ( الصف 32 ) وأما عهده سبحانه وتعالى فقال فيه وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ( التوبة 111 ) م بين كيفية عهده إلى أبينا آدم فقال وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى مِن رَّبِّهِ قَبْلُ فَنَسِى َ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( طه 115 ) ثم بين كيفية عهده إلينا فقال أَلَمْ
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى وَإِذْ أَخَذَ ( ي س 60 ) ثم بين كيفية عهده مع بني إسرائيل فقال إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ ( آل عمران 183 ) ثم بين كيفية عهده مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ( البقرة 125 ) ثم بين في هذه الآية أن عهده لا يصل إلى الظالمين فقال لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فهذه المبالغة الشديدة في هذه المعاهدة تقتضي البحث عن حقيقة هذه المعاهدة فنقول العهد المأخوذ عليك ليس إلا عهد الخدمة والعبودية والعهد الذي التزمه الله تعالى من جهته ليس إلا عهد الرحمة والربوبية ثم إن العاقل إذا تأمل في حال هذه المعاهدة لم يجد من نفسه إلا نقض هذا العهد ومن ربه إلا الوفاء بالعهد فلنشرع في معاقد هذا الباب فنقول أول إنعامه عليك إنعام الخلق والإيجاد والإحياء وإعطاء العقل والآلة والمقصود من كل ذلك اشتغالك بالطاعة والخدمة والعبودية على ما قال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ( الذاريات 56 ) ونزه نفسه عن أن يكون هذا الخلق والإيجاد منه على سبيل العبث فقال وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهَا لاَعِبِينَ ( الأنبياء 16 ) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ ( الدخان 39 ) وقال أيضاً وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( ص 27 ) وقال أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ( المؤمنون 115 ) ثم بين على سبيل التفصيل ما هو الحكمة في الخلق والإيجاد فقال وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ فهو سبحانه وفى بعهد الربوبية حيث خلقك وأحياك وأنعم عليك بوجوه النعم وجعلك عاقلاً مميزاً فإذا لم تشتغل بخدمته وطاعته وعبوديته فقد نقضت عهد عبوديتك مع أن الله تعالى وفى بعهد ربوبيته وثانيها أن عهد الربوبية يقتضي إعطاء التوفيق والهداية وعهد العبودية منك يقتضي الجد والاجتهاد في العمل ثم إنه وفى بعهد الربوبية فإنه ما ترك ذرة من الذرات إلا وجعلها هادية لك إلى سبيل الحق وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الإسراء 44 ) وأنت ما وفيت البتة بعهد الطاعة والعبودية وثالثها أن نعمة الله بالإيمان أعظم النعم والدليل عليه أن هذه النعمة لو فاتتك لكنت أشقى الأشقياء أبد الآبدين ودهر الداهرين ثم هذه النعمة من الله تعالى لقوله وَمَا بِكُم مّن نّعْمَة ٍ فَمِنَ اللَّهِ ( النحل 53 ) ثم مع أن هذه النعمة منه فإنه يشكرك عليها وقال فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ( الإسراء 19 ) فإذا كان الله تعالى يشكرك على هذه النعمة فبأن تشكره على ما أعطى من التوفيق والهداية كان أولى ثم إنك ما أتيت إلا بالكفران على ما قال قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ( عبس 17 ) فهو تعالى وفى بعهده وأنت نقضت عهدك ورابعها أن تنفق نعمه في سيبل مرضاته فعهده معك أن يعطيك أصناف النعم وقد فعل وعهدك معه أن تصرف نعمه في سبيل مرضاته وأنت ما فعلت ذلك كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى ( العلق 6 7 ) وخامسها أنعم عليك بأنواع النعم لتكون محسناً إلى الفقراء وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ثم إنك توسلت به إلى إيذاء الناس وإيحاشهم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ ( الحديد 24 ) ( النساء 37 ) وسادسها أعطاك النعم العظيمة لتكون مقبلاً على حمده وأنت تحمد غيره فانظر إلى السلطان العظيم لو أنعم عليك بخلعة نفيسة ثم إنك في حضرته تعرض عنه وتبقى مشغولاً بخدمة بعض الأسقاط كيف تستوجب الأدب والمقت فكذا ههنا واعلم أنا لو اشتغلنا بشرح كيفية وفائه سبحانه بعهد الإحسان والربوبية
وكيفية نقضنا لعهد الإخلاص والعبودية لما قدرنا على ذلك فإنا من أول الحياة إلى آخرها ما صرنا منفكين لحظة واحدة من أنواع نعمه على ظاهرنا وباطننا وكل واحدة من تلك النعم تستدعي شكراً على حدة وخدمة على حدة ثم أنا ما أتينا بها بل ما تنبهنا لها وما عرفنا كيفيتها وكميتها ثم إنه سبحانه على تزايد غفلتنا وتقصيرنا يزيد في أنواع النعم والرحمة والكرم فكنا من أول عمرنا إلى آخره لا نزال نتزايد في درجات النقصان والتقصير واستحقاق الذم وهو سبحانه لا يزال يزيد في الإحسان واللطف والكرم واستحقاق الحمد والثناء فإنه كلما كان تقصيرنا أشد كان إنعامه علينا بعد ذلك أعظم وقعاً وكلما كان إنعامه علينا أكثر وقعاً كان تقصيرنا في شكره أقبح وأسوأ فلا تزال أفعالنا تزداد قبائح ومحاسن أفعاله على سبيل الدوام بحيث لا تفضي إلى الانقطاع ثم إنه قال في هذه الآية لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وهذا تخويف شديد لكنا نقول إلهنا صدر منك ما يليق بك من الكرم والعفو والرحمة والإحسان وصدر منا ما يليق بنا من الجهل والغدر والتقصير والكسل فنسألك بك وبفضلك العميم أن تتجاوز عنا يا أرحم الراحمين
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِى َ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
اعلم أنه تعالى بين كيفية حال إبراهيم عليه السلام حين كلفه بالإمامة وهذا شرح التكليف الثاني وهو التكليف بتطهير البيت ثم نقول أما البيت فإنه يريد البيت الحرام واكتفى بذكر البيت مطلقاً لدخول الألف واللام عليه إذا كانتا تدخلان لتعريف المعهود أو الجنس وقد علم المخاطبون أنه لم يرد به الجنس فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة ثم نقول ليس المراد نفس الكعبة لأنه تعالى وصفه بكونه ( أمناً ) وهذا صفة جميع الحرم لا صفة الكعبة فقط والدليل على أنه يجوز إطلاق البيت والمراد منه كل الحرم قوله تعالى هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَة ِ ( المائدة 95 ) والمراد الحرم كله لا الكعبة نفسها لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام وكذلك قوله فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَاذَا ( التوبة 28 ) المراد والله أعلم منعهم من الحج حضور مواضع النسك وقال في آية أخرى أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ( العنكبوت 67 ) وقال الله تعالى في آية أخرى مخبراً عن إبراهيم رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ( إبراهيم 35 ) فدل هذا على أنه وصف البيت بالأمن فاقتضى جميع الحرم والسبب في أنه تعالى أطلق لفظ البيت وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت
أما قوله تعالى مَثَابَة ً لّلنَّاسِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال أهل اللغة أصله من ثاب يثوب مثابة وثوباً إذا رجع يقال ثاب الماء إذا رجع إلى النهر بعد انقطاعه وثاب إلى فلان عقله أي رجع وتفرق عنه الناس ثم ثابوا أي عادوا مجتمعين والثواب من
هذا أخذ كأن ما أخرجه من مال أو غيره فقد رجع إليه والمثاب من البئر مجتمع الماء في أسفلها قال القفال قيل إن مثاباً ومثابة لغتان مثل مقام ومقامة وهو قول الفراء والزجاج وقيل الهاء إنما دخلت في مثابة مبالغة كما في قولهم نسابة وعلامة وأصل مثابة مثوبة مفعلة
المسألة الثانية قال الحسن معناه أنهم يثوبون إليه في كل عام وعن ابن عباس ومجاهد أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه قال الله تعالى فَاجْعَلْ أَفْئِدَة ً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ ( إبراهيم 37 ) وقيل مثابة أي يحجون إليه فيثابون عليه فإن قيل كون البيت مثابة يحصل بمجرد عودهم إليه وذلك يحصل بفعلهم لا بفعل الله تعالى فما معنى قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ قلنا أما على قولنا ففعل العبد مخلوق لله تعالى فهذه الآية حجة على قولنا في هذه المسألة وأما على قول المعتزلة فمعناه أنه تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعياً لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى وإنما فعل الله تعالى ذلك لما فيه من منافع الدنيا والآخرة أما منافع الدنيا فلأن أهل المشرق والمغرب يجتمعون هناك فيحصل هناك من التجارات وضروب المكاسب ما يعظم به النفع وأيضاً فيحصل بسبب السفر إلى الحج عمارة الطريق والبلاد ومشاهدة الأحوال المختلفة في الدنيا وأما منافع الدين فلأن من قصد البيت رغبة منه في النسك والتقرب إلى الله تعالى وإظهار العبودية له والمواظبة على العمرة والطواف وإقامة الصلاة في ذلك المسجد المكرم والاعتكاف فيه يستوجب بذلك ثواباً عظيماً عند الله تعالى
المسألة الثانية تمسك بعض أصحابنا في وجوب العمرة بقوله تعالى وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ ووجه الاستدلال به أن قوله وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ إخبار عن أنه تعالى جعله موصوفاً بصفة كونه مثابة للناس لكن لا يمكن إجراء الآية على هذا المعنى لأن كونه مثابة للناس صفة تتعلق باختيار الناس وما يتعلق باختيار الناس لا يمكن تحصيله بالجبر والإلجاء وإذا ثبت تعذر إجراء الآية على ظاهرها وجب حمل الآية على الوجوب لأنا متى حملناه على الوجوب كان ذلك أفضى إلى صيرورته كذلك مما إذا حملناه على الندب فثبت أن الله تعالى أوجب علينا العود إليه مرة بعد أخرى وقد توافقنا على أن هذا الوجوب لا يتحقق فيما سوى الطواف فوجب تحققه في الطواف هذا وجه الاستدلال بهذه الآية وأكثر من تكلم في أحكام القرآن طعن في دلالة هذه الآية على هذا المطلوب ونحن قد بينا دلالتها عليه من هذا الوجه الذي بيناه
أما قوله تعالى وَأَمْناً أي موضع أمن ثم لا شك أن قوله جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً خبر فتارة نتركه على ظاهره ونقول أنه خبر وتارة نصرفه عن ظاهره ونقول أنه أمر
أما القول الأول فهو أن يكون المراد أنه تعالى جعل أهل الحرم آمنين من القحط والجدب على ما قال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً ( العنكبوت 67 ) وقوله أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَى ْء ( القصص 57 ) ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القتل في الحرم لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه وأيضاً فالقتل المباح قد يوجد فيه قال الله تعالى وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ( البقرة 191 ) فأخبر عن وقوع القتل فيه
القول الثاني أن نحمله على الأمر على سبيل التأويل والمعنى أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضع أمناً من الغارة والقتل فكان البيت محترماً بحكم الله تعالى وكانت الجاهلية متمسكين
بتحريمه لا يهيجون على أحد التجأ إليه وكانوا يسمون قريشاً أهل الله تعظيماً له ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليهم بالظبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكلب ورويت الأخبار في تحريم مكة قال عليه الصلاة والسلام ( إن الله حرم مكة وأنها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها كما كانت ) فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن المعنى أنها لم تحل لأحد بأن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأما من دخل البيت من الذين تجب عليهم الحدود فقال الشافعي رضي الله عنه إن الإمام يأمر بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه من الحرم فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجوز واحتج الشافعي رحمه الله بأنه عليه الصلاة والسلام أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره بمكة غيلة إن قدر عليه قال الشافعي رحمه الله وهذا في الوقت الذي كانت مكة فيه محرمة فدل أنها لا تمنع أحداً من شيء وجب عليه وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية والجواب عنه أن قوله وَأَمْناً ليس فيه بيان أنه جعله أمناً فيماذا فيمكن أن يكون أمناً من القحط وأن يكون أمناً من نصب الحروب وأن يكون أمناً من إقامة الحدود وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل بل حمله على الأمن من القحط والآفات أولى لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك فكان قول الشافعي رحمه الله أولى
أما قوله تعالى وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ففيه مسائل
المسألة الأولى قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم والكسائي وَاتَّخَذُواْ بكسر الخاء على صيغة الأمر وقرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على صيغة الخبر
أما القراءة الأولى فقوله وَاتَّخَذُواْ عطف على ماذا وفيه أقوال الأول أنه عطف على قوله اذْكُرُواْ نِعْمَتِى الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( البقرة 122 ) واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى الثاني إنه عطف على قوله الثاني إنه عطف على قوله إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) والمعنى أنه لما ابتلاه بكلمات وأتمهن قال له جزاء لما فعله من ذلك إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا وقال وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ويجوز أن يكون أمر بهذا ولده إلا أنه تعالى أضمر قوله وقال ونظيره قوله تعالى وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَاكُم بِقُوَّة ٍ ( الأعراف 171 ) الثالث أن هذا أمر من الله تعالى لأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وهو كلام اعترض في خلال ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وكأن وجهه وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَة ً لّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ أنتم من مقام إبراهيم مصلى والتقدير أنا لما شرفناه ووصفناه بكونه مثابة للناس وأمناً فاتخذوه أنتم قبلة لأنفسكم والواو والفاء قد يذكر كل واحد منهما في هذا الوضع وإن كانت الفاء أوضح أما من قرأ وَاتَّخَذُواْ بالفتح فهو إخبار عن ولد إبراهيم أنهم اتخذوا من مقامه مصلى فيكون هذا عطفاً على جَعَلْنَا الْبَيْتَ واتخذوه مصلى ويجوز أن يكون عطفاً على وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ وإذ اتخذوه مصلى
المسألة الثانية ذكروا أقوالاً في أن مقام إبراهيم عليه السلام أي شيء هو
القول الأول إنه موضع الحجر قام عليه إبراهيم عليه السلام ثم هؤلاء ذكروا وجهين أحدهما
أنه هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه فوضع إبراهيم عليه السلام رجله عليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحته وقد غاصت رجله في الحجر فوضعته تحت الرجل الأخرى فغاصت رجله أيضاً فيه فجعله الله تعالى من معجزاته وهذا قول الحسن وقتادة والربيع بن أنس وثانيها ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( البقرة 127 ) فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام
القول الثاني أن مقام إبراهيم الحرم كله وهو قول مجاهد الثالث أنه عرفة والمزدلفة والجمار وهو قول عطاء الرابع الحج كله مقام إبراهيم وهو قول ابن عباس واتفق المحققون على أن القول الأولى أولى ويدل عليه وجوه الأول ما روى جابر أنه عليه السلام لما فرغ من الطواف أتى المقام وتلا قوله تعالى وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فقراءة هذه اللفظة عند ذلك الموضع تدل على أن المراد من هذه اللفظة هو ذلك الموضع ظاهر وثانيها أن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع والدليل عليه أن سائلاً لو سأل المكي بمكة عن مقام إبراهيم لم يجبه ولم يفهم منه إلا هذا الموضع وثالثها ما روي أنه عليه السلام مر بالمقام ومعه عمر فقال يا رسول الله أليس هذا مقام أبينا إبراهيم قال بلى قال أفلا نتخذه مصلى قال لم أومر بذلك فلم تغب الشمس من يومهم حتى نزلت الآية ورابعها أن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجلا إبراهيم عليه السلام وذلك من أظهر الدلائل على وحدانية الله تعالى ومعجزة إبراهيم عليه السلام فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره به فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى وخامسها أنه تعالى قال وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وليس للصلاة تعلق بالحرم ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع فوجب أن يكون مقام إبراهيم هو هذا الموضع وسادسها أن مقام إبراهيم هو موضع قيامه وثبت بالأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل ولم يثبت قيامه على غيره فحمل هذا اللفظ أعني مقام إبراهيم عليه السلام على الحجر يكون أولى قال القفال ومن فسر مقام إبراهيم بالحجر خرج قوله وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى على مجاز قول الرجل اتخذت من فلان صديقاً وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً ووهب الله لي منك ولياً مشفقاً وإنما تدخل ( من ) لبيان المتخذ الموصوف وتميزه في ذلك المعنى من غيره والله أعلم
المسألة الثالثة ذكروا في المراد بقوله مُصَلًّى وجوهاً أحدها المصلى المدعى فجعله من الصلاة التي هي الدعاء قال الله تعالى النَّبِى ّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ( الأحزاب 56 ) وهو قول مجاهد وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله إن كل الحرم مقام إبراهيم وثانيها قال الحسن أراد به قبلة وثالثها قال قتادة والسدي أمروا أن يصلوا عنده قال أهل التحقيق هذا القول أولى لأن لفظ الصلاة إذا أطلق يعقل منه الصلاة المفعولة بركوع وسجود ألا ترى أن مصلى المصر وهو الموضع الذي يصلى فيه صلاة العيد وقال عليه السلام لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة المفعولة وقد دل
عليه أيضاً فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للصلاة عنده بعد تلاوة الآية ولأن حملها على الصلاة المعهودة أولى لأنها جامعة لسائر المعاني التي فسروا الآية بها وههنا بحث فقهي وهو أن ركعتي الطواف فرض أم سنة ينظر إن كان الطواف فرضاً فللشافعي رضي الله عنه فيه قولان أحدهما فرض لقوله تعالى وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى والأمر للوجوب والثاني سنة لقوله عليه السلام للأعرابي حين قال هل على غيرها قال لا إلا أن تطوع وإن كان الطواف نفلاً مثل طواف القدوم فركعتاه سنة والرواية عن أبي حنيفة مختلفة أيضاً في هذه المسألة والله أعلم
المسألة الرابعة في فضائل البيت روى الشيخ أحمد البيهقي كتاب شعب الإيمان عن أبي ذر قال ( قلت يا رسول الله أي مسجد وضع على الأرض أولاً قال المسجد الحرام قال قلت ثم أي قال ثم المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون سنة فأينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد ) أخرجاه في الصحيحين وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال خلق البيت قبل الأرض بألفي عام ثم دحيت الأرض منه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال عليه السلام ( أول بقعة وضعت في الأرض موضع البيت ثم مدت منها الأرض وأن أول جبل وضعه الله تعالى على وجه الأرض أبو قبيس ثم مدت منه الجبال ) وعن وهب بن منبه قال إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض استوحش منها لما رأى من سعتها ولأنه لم ير فيها أحداً غيره فقال يا رب أما لأرضك هذه عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري فقال الله تعالى إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري فيسبحني فيها خلقي وسأبوئك منها بيتاً أختاره لنفسي وأخصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي واسميه بيتي أعظمه بعظمتي وأحوطه بحرمتي وأجعله أحق البيوت كلها وأولاها بذكري وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرماً آمناً أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي ومن أحله فقد أباح حرمتي ومن آمن أهله استوجب بذلك أماني ومن أخافهم فقد أخافني ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني ومن تهاون به فقد صغر في عيني سكانها جيراني وعمارها وفدي وزوارها أضيافي اجعله أول بيت وضع للناس وأعمره بأهل السماء والأرض يأتونه أفواجاً شعثاً غبراً وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ ( الحج 27 ) يعجون بالتكبير عجاً إلي ويثجون بالتلبية ثجاً فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زارني وضافني ونزل بي ووفد علي فحق لي أن أتحفه بكرامتي وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزواره وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته تعمره يا آدم ما كنت حياً ثم يعمره من بعدك الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن ونبياً بعد نبي حتى ينتهي بعد ذلك إلى نبي من ولدك يقال له محمد عليه السلام وهو خاتم النبيين فأجعله من سكانه وعماره وحماته وولاته فيكون أميني عليه ما دام حياً فإذا انقلب إلي وجدني قد ادخرت له من أجره ما يتمكن به من القربة إلى الوسيلة عندي واجعل اسم ذلك البيت وذكره وشرفه ومجده وسناه وتكرمته لنبي من ولدك يكون قبل هذا النبي وهو أبوه يقال له إبراهيم أرفع له قواعده وأقضي على يديه عمارته وأعلمه مشاعره ومناسكه وأجعله أمة واحدة قانتاً قائماً بأمري داعياً إلى سبيلي أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم أبتليه فيصبر وأعافيه فيشكر وآمره فيفعل وينذر لي فيفي ويدعوني فأستجيب دعوته في ولده وذريته من بعده وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وولاته وحماته وسقاته وخدامه وخزانه وحجابه حتى يبدلوا أو يغيروا وأجعل إبراهيم إمام ذلك البيت
وأهل تلك الشريعة يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الجن والإنس وعن عطاء قال أهبط آدم بالهند فقال يا رب مالي لا أسمع صوت الملائكة كما كنت أسمعها في الجنة قال بخطيئتك يا آدم فانطلق إلى مكة فابن بها بيتاً تطوف به كما رأيتهم يطوفون فانطلق إلى مكة فبنى البيت فكان موضع قدمي آدم قرى وأنهاراً وعمارة وما بين خطاه مفاوز فحج آدم البيت من الهند أربعين سنة وسأل عمر كعباً فقال أخبرني عن هذا البيت فقال إن هذا البيت أنزله الله تعالى من السماء ياقوته مجوفة مع آدم عليه السلام فقال يا آدم إن هذا بيتي فطف حوله وصل حوله كما رأيت ملائكتي تطوف حول عرشي وتصلي ونزلت معه الملائكة فرفعوا قواعده من حجارة فوضع البيت على القواعد فلما أغرق الله قوم نوح رفعه الله وبقيت قواعده وعن علي رضي الله عنه قال البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح وهو بحيال الكعبة من فوقها حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً وذكر علي رضي الله عنه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم فانهدم فبنته العمالقة ومر عليه الدهر فانهدم فبنته جرهم ومر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ شاب فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثم ترفعه جميع القبائل فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوضعه وعن الزهري قال بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم عليه السلام ثلاث صفوح في كل صفح منها كتاب في الصفح الأول أنا الله ذوبكة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حفاً وباركت لأهلها في اللحم واللبن وفي الصفح الثاني أنا الله ذوبكة خلقت الرحم وشققت لها اسماً من إسمي من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته وفي الثالث أنا الله ذوبكة خلقت الخير والشر فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه
المسألة الخامسة في فضائل الحجر والمقام عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال قال عليه السلام ( الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب وما مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلا شفي ) وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال عليه السلام ( إنه كان أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا أهل الشرك ) وعن ابن عباس قال عليه السلام ( ليأتين هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق ) وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه انتهى إلى الحجر الأسود فقال إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقبلك ما قبلتك أخرجاه في الصحيح
أما قوله تعالى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فالأولى أن يراد به ألزمناهما ذلك وأمرناهما أمراً وثقناً عليهما فيه وقد تقدم من قبل معنى العهد والميثاق
أما قوله أَن طَهّرَا بَيْتِى َ فيجب أن يراد به التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت فإذا كان موضع البيت وحواليه مصلى وجب تطهيره من الأنجاس والأقذار وإذا كان موضع العبادة والإخلاص لله تعالى وجب تطهيره من الشرك وعبادة غير الله وكل ذلك داخل تحت الكلام ثم إن المفسرين ذكروا وجوهاً أحدها أن معنى طَهّرَا بَيْتِى َ ابنياه وطهراه من الشرك وأسساه على التقوى كقوله تعالى أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى
مِنَ اللَّهِ ( التوبة 109 ) وثانيها عرفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجوه وزاروه وأقاموا به ومجازه اجعلاه طاهراً عندهم كما يقال الشافعي رضي الله عنه يطهر هذا وأبو حنيفة ينجسه وثالثها ابنياه ولا تدعا أحداً من أهل الريب والشرك يزاحم الطائفين فيه بل أقراه على طهارته من أهل الكفر والريب كما يقال طهر الله الأرض من فلان وهذه التأويلات مبنية على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تطهيره من الأوثان والشرك وهو كقوله تعالى وَلَهُمْ فِيهَا أَزْواجٌ مُّطَهَّرَة ٌ ( البقرة 25 ) فمعلوم أنهن لم يطهرن من نجس بل خلقن طاهرات وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهراً والله أعلم ورابعها معناه نظفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي ليقتدي الناس بكما في ذلك وخامسها قال بعضهم إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجيف والأقذار فأمر الله تعالى إبراهيم بإزالة تلك القاذورات وبناء البيت هناك وهذا ضعيف لأن قبل البناء ما كان البيت موجوداً فتطهير تلك العرصة لا يكون تطهيراً للبيت ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتاً لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتاً ولكنه مجاز
أما قوله تعالى لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ففيه مسائل
المسألة الأولى العكف مصدر عكف يعكف بضم الكاف وكسرها عكفاً إذا لزم الشيء وأقام عليه فهو عاكف وقيل إذا أقبل عليه لا يصرف عنه وجهه
المسألة الثانية في هذه الأوصاف الثلاثة قولان الأول وهو الأقرب أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف فالمراد بالطائفين من يقصد البيت حاجاً أو معتمراً فيطوف به والمراد بالعاكفين من يقيم هناك ويجاور والمراد بالركع السجود من يصلي هناك والقول الثاني وهو قول عطاء أنه إذا كان طائفاً فهو من الطائفين وإذا كان جالساً فهو من العاكفين وإذا كان مصلياً فهو من الرجع السجود
المسألة الثالثة هذه الآية تدل على أمور أحدها أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة لأنه تعالى كما خصهم بالطواف دل على أن لهم به مزيد اختصاص وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل والصلاة لأهل مكة أفضل وثانيها تدل الآية على جواز الاعتكاف في البيت وثالثها تدل على جواز الصلاة في البيت فرضاً كانت أو نفلاً إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها وهو خلاف قول مالك في امتناعه من جواز فعل الصلاة المفروضة في البيت فإن قيل لا نسلم دلالة الآية على ذلك لأنه تعالى لم يقل والركع السجود في البيت وكما لا تدل الآية على جواز فعل الطواف في جوف البيت وإنما دلت على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصلاة إلى البيت متوجهاً إليه قلنا ظاهر الآية يتناول الركوع والسجود إلى البيت سواء كان ذلك في البيت أو خارجاً عنه وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت لأن الطواف بالبيت هو أن يطوف بالبيت ولا يسمى طائفاً بالبيت من طاف في جوفه والله تعالى إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه لقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( الحج 29 ) وأيضاً المراد لو كان التوجه إليه للصلاة لما كان للأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه إذا كان حاضر والبيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجه إليه واحتج مالك
بقوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجهاً إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه والجواب أن المتوجه الواحد يستحيل أن يكون متوجهاً إلى كل المسجد بل لا بد وأن يكون متوجهاً إلى جزء من أجزائه ومن كان داخل البيت فهو كذلك فوجب أن يكون داخلاً تحت الآية ورابعها أن قوله لِلطَّائِفِينَ يتناول مطلق الطواف سواء كان منصوصاً عليه في كتاب الله تعالى كقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ أو ثبت حكمه بالسنة أو كان من المندوبات
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاٌّ خِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
اعلم أن هذا هو النوع الثالث من أحوال إبراهيم عليه السلام التي حكاها الله تعالى ههنا قال القاضي في هذه الآيات تقديم وتأخير لأن قوله رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا لا يمكن إلا بعد دخول البلد في الوجود والذي ذكره من بعد وهو قوله وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ( البقرة 128 ) وإن كان متأخراً في التلاوة فهو متقدم في المعنى وههنا مسائل
المسألة الأولى المراد من الآية دعاء إبراهيم للمؤمنين من سكان مكة بالأمن والتوسعة بما يجلب إلى مكة لأنها بلد لا زرع ولا غرس فيه فلولا الأمن لم يجلب إليها من النواحي وتعذر العيش فيها ثم إن الله تعالى أجاب دعاءه وجعله آمناً من الآفات فلم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل وههنا سؤالان
السؤال الأول أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك
الجواب لم يكن مقصوده تخريب الكعبة لذاتها بل كان مقصوده شيئاً آخر
السؤال الثاني المطلوب من الله تعالى هو أن يجعل البلد آمناً كثير الخصب وهذا مما يتعلق بمنافع الدنيا فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها
والجواب عنه من وجوه أحدها أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين فإذا كان البلد آمناً وحصل فيه الخصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى وإذا كان البلد على ضد ذلك كانوا على ضد ذلك وثانيها أنه تعالى جعله مثابة للناس والناس إنما يمكنهم الذهاب إليه إذا كانت الطرق آمنة والأقوات هناك رخيصة وثالثها لا يبعد أن يكون الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة فحينئذ يشاهد المشاعر المعظمة والمواقف المكرمة فيكون الأمن والخصب سبب اتصاله في تلك الطاعة
المسألة الثانية بَلَدًا آمِنًا يحتمل وجهين أحدهما مأمون فيه كقوله تعالى فِى عِيشَة ٍ رَّاضِيَة ٍ ( القارعة 7 ) أي مرضية والثاني أن يكون المراد أهل البلد كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أي أهلها وهو مجاز لأن الأمن والخوف لا يلحقان البلد
المسألة الثالثة اختلفوا في الأمن المسؤول في هذه الآية على وجوه أحدها سأله الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي زرع ولا ضرع وثانيها سأله الأمن من الخسف والمسخ وثالثها سأله الأمن من القتل وهو قول أبو بكر الرازي واحتج عليه بأنه عليه السلام سأله الأمن أولاً ثم سأله الرزق ثانياً ولو كان الأمن المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرزق بعده تكراراً فقال في هذه الآية رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ وقال في آية أخرى رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا ثم قال في آخر القصة رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ إلى قوله وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ ( إبراهيم 37 ) واعلم أن هذه الحجة ضعيفة فإن لقائل أن يقول لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخسف والمسخ أو لعله الأمن من القحط ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية وقد يكون بالتوسعة فيها فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط وبالسؤال الثاني طلب التوسعة العظيمة
المسألة الرابعة اختلفوا في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه السلام أو إنما صارت كذلك بدعوته فقال قائلون إنها كانت كذلك أبداً لقوله عليه السلام ( إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ) وأيضاً قال إبراهيم رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ( إبراهيم 37 ) وهذا يقتضي أنها كانت محرمة قبل ذلك ثم إن إبراهيم عليه السلام أكده بهذا الدعاء وقال آخرون إنها إنما صارت حرماً آمناً بدعاء إبراهيم عليه السلام وقبله كانت لسائر البلاد والدليل عليه قوله عليه السلام ( اللهم إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ) والقول الثالث إنها كانت حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة فالأول يمنع الله تعالى من الاصطلام وبما جعل في النفوس من التعظيم والثاني بالأمر على ألسنة الرسل
المسألة الخامسة إنما قال في هذه السورة بَلَدًا آمِنًا على التنكير وقال في سورة إبراهيم هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا على التعريف لوجهين الأول أن الدعوة الأولى وقعت ولم يكن المكان قد جعل بلداً كأنه قال اجعل هذا الوادي بلداً آمناً لأنه تعالى حكى عنه أنه قال رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ ( إبراهيم 37 ) فقال ههنا اجعل هذا الوادي بلداً آمناً والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً فكأنه قال اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً ذا أمن وسلامة كقولك جعلت هذا الرجل آمناً الثاني أن تكون الدعوتان وقعتا بعد ما صار المكان بلداً فقوله اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا تقديره اجعل هذا البلد بلداً آمناً كقولك كان اليوم يوماً حاراً وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة لأن التنكير يدل على المبالغة فقوله رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا معناه اجعله من البلدان الكاملة في الأمن وأما قوله رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا فليس فيه إلا طلب الأمن لا طلب المبالغة وأما قوله وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ فالمعنى أنه عليه السلام سأل أن يدر على ساكني مكة أقواتهم فاستجاب الله
تعالى له فصارت مكة يجبى إليها ثمرات كل شيء أما قوله مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ فهو يدل من قوله أَهْلِهِ يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة وهو كقوله وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ( آل عمران 97 ) واعلم أنه تعالى لما أعلمه أن منهم قوماً كفاراً بقوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) لا جرم خصص دعاءه بالمؤمنين دون الكافرين وسبب هذا التخصيص النص والقياس أما النص فقوله تعالى فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( المائدة 124 ) وأما القياس فمن وجهين
الوجه الأول أنه لما سأل الله تعالى أن يجعل الإمامة في ذريته قال الله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) فصار ذلك تأديباً في المسألة فلما ميز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة لا جرم خصص المؤمنين بهذا الدعاء دون الكافرين ثم أن الله تعالى أعلمه بقوله فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً الفرق بين النبوة ورزق الدنيا لأن منصب النبوة والإمامة لا يليق بالفاسقين لأنه لا بد في الإمامة والنبوة من قوة العزم والصبر على ضروب المحنة حتى يؤدي عن الله أمره ونهيه ولا تأخذه في الدين لومة لائم وسطوة جبار أما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المطيع والكافر والصادق والمنافق فمن آمن فالجنة مسكنه ومثواه ومن كفر فالنار مستقره ومأواه
الوجه الثاني يحتمل أن إبراهيم عليه السلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكل كثر في البلد الكفار فيكون في غلبتهم وكثرتهم مفسدة ومضرة من ذهاب الناس إلى الحج فخص المؤمنين بالدعاء لهذا السبب أما قوله تعالى وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عامر فَأُمَتّعُهُ بسكون الميم خفية من أمتعت والباقون بفتح الميم مشددة من متعت والتشديد يدل على التكثير بخلاف التخفيف
المسألة الثانية أمتعه قيل بالرزق وقيل بالبقاء في الدنيا وقيل بهما إلى خروج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيقتله أو يخرجه من هذه الديار إن أقام على الكفر والمعنى أن الله تعالى كأنه قال إنك وإن كنت خصصت بدعائك المؤمنين فإني أمتع الكافر منهم بعاجل الدنيا ولا أمنعه من ذلك ما أتفضل به على المؤمنين إلى أن يتم عمره فأقبضه ثم اضطره في الآخرة إلى عذاب النار فجعل ما رزق الكافر في دار الدنيا قليلاً إذ كان واقعاً في مدة عمره وهي مدة واقعة فيما بين الأزل والأبد وهو بالنسبة إليهما قليل جداً والحاصل أن الله تعالى بين أن نعمة المؤمن في الدنيا موصولة بالنعمة في الآخرة بخلاف الكافر فإن نعمته في الدنيا تنقطع عند الموت وتتخلص منه إلى الآخرة أما قوله ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ فاعلم أن في الإضطرار قولين أحدهما أن يفعل به ما يتعذر عليه الخلاص منه وههنا كذلك كما قال الله تعالى يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا و يَوْمٍ يَسْبَحُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( القمر 48 ) يقال اضطررته إلى الأمر أي الجأته وحملته عليه من حيث كان كارهاً له وقالوا إن أصله من الضر وهو إدناء الشيء من الشيء ومنه ضرة المرأة لدنوها وقربها والثاني أن الإضطرار هو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختياراً كقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ ( البقرة 173 ) ( الأنعام 145 ) ( النحل 115 ) فوصفه بأنه مضطر إلى تناول الميتة وإن كان ذلك الأكل فعله فيكون المعنى أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار والإستقرار فيها بأن أعلمه بأنه لو رام التخلص لمنع منه لأن من هذا حاله يجعل ملجأ إلى الوقوع في النار ثم بين تعالى أن ذلك بئس المصير لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور وبئس المصير ضده
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة َ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأمور التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهو أنهما عند بناء البيت ذكرا ثلاثة من الدعاء ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قوله وَإِذْ يَرْفَعُ حكاية حال ماضية والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة ومعناها الثابتة ومنه أقعدك الله أي أسأل الله أن يقعدك أي يثبتك ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه ومعنى رفع القواعد رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافاً فوق ساف فقد رفع السافات والله أعلم
المسألة الثانية الأكثرون من أهل الأخبار على أن هذا البيت كان موجوداً قبل إبراهيم عليه السلام على ما روينا من الأحاديث فيه واحتجوا بقوله وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فإن هذا صريح في أن تلك القواعد كانت موجودة متهدمة إلا أن إبراهيم عليه السلام رفعها وعمرها
المسألة الثالثة اختلفوا في أنه هل كان إسماعيل عليه السلام شريكاً لإبراهيم عليه السلام في رفع قواعد البيت وبنائه قال الأكثرون إنه كان شريكاً له في ذلك والتقدير وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت والدليل عليه أنه تعالى عطف إسماعيل على إبراهيم فلا بد وأن يكون ذلك العطف في فعل من الأفعال التي سلف ذكرها ولم يتقدم إلا ذكر رفع قواعد البيت موجب أن يكون إسماعيل معطوفاً على إبراهيم في ذلك ثم ان اشتراكهما في ذلك يحتمل وجهين أحدهما أن يشتركا في البناء ورفع الجدران والثاني أن يكون أحدهما بانياً للبيت والآخر يرفع إليه الحجر والطين ويهيىء له الآلات والأدوات وعلى الوجهين تصح إضافة الرفع إليهما وإن كان الوجه الأول أدخل في الحقيقة ومن الناس من قال إن إسماعيل في ذلك الوقت كان طفلاً صغيراً وروي معناه عن علي رضي الله عنه وأنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر فقالا إلى من تكلنا فقال إبراهيم إلى الله فعطش إسماعيل فلم ير شيئاً من الماء فناداهما جبريل عليه السلام وفحص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم وهؤلاء جعلوا الوقف على قوله مِنَ الْبَيْتِ ثم ابتدؤا وإسماعيل ربنا تقبل منا طاعتنا ببناء هذا البيت فعلى هذا التقدير يكون إسماعيل شريكاً
في الدعاء لا في البناء وهذا التأويل ضعيف لأن قوله تَقَبَّلْ مِنَّا ليس فيه ما يدل على أنه تعالى ماذا يقبل فوجب صرفه إلى المذكور السابق وهو رفع البيت فإذا لم يكن ذلك من فعله كيف يدعو الله بأن يتقبله منه فإذن هذا القول على خلاف ظاهر القرآن فوجب رده والله أعلم
المسألة الرابعة إنما قال وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ولم يقل يرفع قواعد البيت لأن في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام من تفخيم الشأن ما ليس في العبارة الأخرى واعلم أن الله تعالى حكى عنهما بعد ذلك ثلاثة أنواع من الدعاء
النوع الأول في قوله تعالى تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وفيه مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في تفسير قوله تَقَبَّلْ مِنَّا فقال المتكلمون كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه والذي لا يثيبه عليه ولا يرضاه منه فهو المردود فههنا عبر عن أحد المتلازمين باسم الآخر فذكر لفظ القبول وأراد به الثواب والرضا لأن التقبل هو أن يقبل الرجل ما يهدى إليه فشبه الفعل من العبد بالعطية والرضا من الله بالقبول توسعاً وقال العارفون فرق بين القبول والتقبل فإن التقبل عبارة عن أن يتكلف الإنسان في قبوله وذلك إنما يكون حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل فهذا اعتراف منهما بالتقصير في العمل واعتراف بالعجز والانكسار وأيضاً فلم يكن المقصود إعطاء الثواب عليه لأن كون الفعل واقعاً موقع القبول من المخدوم ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه وتمام تحقيقه سيأتي في تفسير المحبة في قوله تعالى وَالَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ ( البقرة 165 ) والله أعلم
المسألة الثانية إنهم بعد أن أتوا بتلك العبادة مخلصين تضرعوا إلى الله تعالى في قبولها وطلبوا الثواب عليها على ما قاله المتكلمون ولو كان ترتيب الثواب على الفعل المقرون بالإخلاص واجباً على الله تعالى لما كان في هذا الدعاء والتضرع فائدة فإنه يجري مجرى أن الإنسان يتضرع إلى الله فيقول يا إلهي اجعل النار حارة والجمد بارداً بل ذلك الدعاء أحسن لأنه لا استبعاد عند المتكلم في صيرورة النار حال بقائها على صورتها في الإشراق والاشتعال باردة والجمد حال بقائه على صورته في الإنجماد والبياض حاراً ويستحيل عند المعتزلة أن لا يترتب الثواب على مثل هذا الفعل فوجب أن يكون الدعاء ههنا أقبح فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا يجب للعبد على الله شيء أصلاً والله أعلم
المسألة الثانية إنما عقب هذا الدعاء بقوله إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ كأنه يقول تسمع دعاءنا وتضرعنا وتعلم ما في قلبنا من الإخلاص وترك الالتفات إلى أحد سواك فإن قيل قوله إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يفيد الحصر وليس الأمر كذلك فإن غيره قد يكون سميعاً قلنا إنه سبحانه لكماله في هذه الصفة يكون كأنه هو المختص بها دون غيره
النوع الثاني من الدعاء قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وفيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا في مسألة خلق الأعمال بقوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد أو الاستسلام والانقياد وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلا خلق ذلك فيهما فإن الجعل عبارة عن الخلق قال الله
تعالى وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ( الأنعام 1 ) فدل هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى فإن قيل هذه الآية متروكة الظاهر لأنها تقتضي أنهما وقت السؤال غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل وإنه باطل لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين ولأن صدور هذا الدعاء منهما لا يصلح إلا بعد أن كانا مسلمين وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسك بها سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر لكن لا نسلم أن الجعل عبارة عن الخلق والإيجاد بل له معانٍ أخر سوى الخلق أحدها جعل بمعنى صير قال الله تعالى هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً ( الفرقان 47 ) وثانيها جعل بمعنى وهب نقول جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الفرس وثالثها جعل بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى وَجَعَلُواْ الْمَلَئِكَة َ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ( الزخرف 19 ) وقال وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ ( الأنعام 10 ) ورابعها جعله كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّة ً ( الأنبياء 73 ) يعني أمرناهم بالاقتداء بهم وقال إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ( البقرة 124 ) فهو بالأمر وخامسها أن يجعله بمعنى التعليم كقوله جعلته كاتباً وشاعراً إذا علمته ذلك وسادسها البيان والدلالة تقول جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت من الحجة ما يبين بطلان ذلك إذا ثبت ذلك فنقول لم لا يجوز أن يكون المراد وصفهما بالإسلام والحكم لهما بذلك كما يقال جعلني فلان لصاً وجعلني فاضلاً أديباً إذا وصفه بذلك سلمنا أن المراد من الجعل الخلق لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام وتوفيقهما لذلك فمن وفقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها فقد جعله مسلماً له ومثاله من يؤدب ابنه حتى يصير أديباً فيجوز أن يقال صيرتك أديباً وجعلتك أديباً وفي خلاف ذلك يقال جعل ابنه لصاً محتالاً سلمنا أن ظاهر الآية يقتضي كونه تعالى خالقاً للإسلام لكنه على خلاف الدلائل العقلية فوجب ترك القول به وإنما قلنا أنه على خلاف الدلائل العقلية لأنه لو كان فعل العبد خلقاً لله تعالى لما استحق العبد به مدحاً ولا ذماً ولا ثواباً ولا عقاباً ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد والجواب قوله الآية متروكة الظاهر قلنا لا نسلم وبيانه من وجوه الأول أن الإسلام عرض قائم بالقلب وأنه لا يبقى زمانين فقوله وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي اخلق هذا العرض فينافي الزمان المستقبل دائماً وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال الثاني أن يكون المراد منه الزيادة في الإسلام كقوله لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ ( الفتح 4 ) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى ( محمد 17 ) وقال إبراهيم وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى ( البقرة 26 ) فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال الثالث أن الإسلام إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد فأما إذا أضيف بحرف اللام كقوله مُسْلِمَيْنِ لَكَ فالمراد الاستسلام له والانقياد والرضا بكل ما قدر وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما
بالكلية ليحصل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر قوله يحمل الجعل على الحكم بذلك قلنا هذا مدفوع من وجوه
أحدها أن الموصوف إذا حصلت الصفة له فلا فائدة في الصفة وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف وجب حمله على تحصيل الصفة ولا يقال وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح وهو مرغوب فيه قلنا نعم لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من الرغبة في تحصيل الوصف به والحكم به فكان حمله على الأول أولى وثانيها أنه متى حصل الإسلام فيهما فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذب فكان ذلك الوصف حاصلاً وأي فائدة في طلبه بالدعاء وثالثها أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كل من سمى إبراهيم مسلماً جاز أن يقال جعله مسلماً أما قوله يحمل ذلك على فعل الألطاف قلنا هذا أيضاً مدفوع من وجوه أحدها أن لفظ الجعل مضاف إلى الإسلام فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر وثانيها أن تلك الألطاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة فطلبها يكون طلباً لتحصيل الحاصل وأنه غير جائز وثالثها أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في ترجيح جانب الفعل على الترك أو لا يكون فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفاً وإن كان لها أثر في الترجيح فنقول متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح إما أن يجب الفعل أو يمتنع أو لا يجب ولا يمتنع فإن وجب فهو المطلوب وإن امتنع فهو مانع لا مرجح وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع إما أن يكون لانضمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجموع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلاً وقد فرضناه كذلك هذا خلف وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجح وهو محال فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول قوله الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم قلنا إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم تقريره مراراً وأطواراً والله أعلم
واعلم أن السؤال المشهور في هذه الآية من أنهما لما كانا مسلمين فكيف طلبا الإسلام قد أدرجناه في هذه المسألة وذكرنا عنه أجوبة شافية كافية والحمد لله على ذلك ثم إن الذي يدل من جهة العقل على أن صيرورتهما مسلمين له سبحانه لا يكون إلا منه سبحانه وتعالى ما ذكرنا أن القدرة الصالحة للإسلام هل هي صالحة لتركه أم لا فإن لم تكن صالحة لتركه فتلك القدرة موجبة فخلق تلك القدرة الموجبة فيهما جعلهما مسلمين وإن كانت صالحة لتركه فهو باطل ومع تسليم إمكانه فالمقصود حاصل أما بطلانه فلان الترك عبارة عن بقاء الشيء على عدمه الأصل والعدم نفي محض فيستحيل أن يكون للقدرة فيه أثر ولأنه عدم باق والباقي لا يكون متعلق القدرة فثبت بهذا أنه لا قدرة على ذلك العدم المستمر فإذن لا قدرة إلا على الوجود فالقدرة غير صالحة إلا للوجود وأما أن بتقدير تسليم كون القدرة صالحة للوجود والعدم فالمقصود حاصل فلأن تلك القدرة الصالحة لا تختص بطرف الوجود إلا لمرجح ويجب انتهاء المرجحات إلى فعل
الله تعالى قطعاً للتسلسل وعند حصول المرجح من الله تعالى يجب وقوع الفعل فثبت أن قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ هو الذي يصح على قوانين الدلائل العقلية
المسألة الثانية قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ يفيد الحصر أي نكون مسلمين لك لا لغيرك وهذا يدل على أن كمال سعادة العبد في أن يكون مسلماً لاحكام الله تعالى وقضائه وقدره وأن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سواه وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه السلام في موضع آخر فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 ) ثم ههنا قولان أحدهما رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي موحدين مخلصين لا نعبد إلا إياك والثاني قائمين بجميع شرائع الإسلام وهو الأوجه لعمومه
المسألة الثالثة أما إن العبد لا يخاطب الله تعالى وقت الدعاء إلا بقوله ربنا فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في تفسير قوله وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( غافر 60 ) في شرائط الدعاء
أما قوله تعالى وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ فالمعنى واجعل من أولادنا و ( من ) للتبعيض وخص بعضهم لأنه تعالى أعلمهما أن في ذريتهما الظالم بقوله تعالى لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ( البقرة 124 ) ومن الناس من قال أراد به العرب لأنهم من ذريتهما و ( أمة ) قيل هم أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بدليل قوله وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ وههنا سؤالات
السؤال الأول قد بينا أن قوله لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ كما يدل على أن في ذريته من يكون ظالماً فكذلك يوجد فيهم من لا يكون ظالماً فاذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى
الجواب تلك الدلالة ما كانت قاطعة والشفيق بسوء الظن مولع
السؤال الثاني لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجري مجرى البخل في الدعاء
والجواب الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ( التحريم 6 ) ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم وتابعهم على الخيرات ألا ترى أن المتقدمين من العلماء والكبراء إذا كانوا على السداد كيف يتسببون إلى سداد من وراءهم
السؤال الثالث الظاهر أن الله تعالى لو رد هذا الدعاء لصرح بذلك الرد فلما لم يصرح بالرد علمنا أنه أجابه إليه وحينئذ يتوجه الإشكال فإن في زمان أجداد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكن أحد من العرب مسلماً ولم يكن أحد سوى العرب من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام
والجواب قال القفال أنه لم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً ولم تزل الرسل من ذرية إبراهيم وقد كان في الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعامر بن الظرب كانوا على دين الإسلام يقرون بالإبداء والإعادة والثواب والعقاب ويوحدون الله تعالى ولا يأكلون الميتة ولا يعبدون الأوثان
أما قوله تعالى وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى في أَرِنَا قولان الأول معناه علمنا شرائع حجنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعوا
الناس إلى حجه فعلمنا شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول مجاز هذا من رؤية العلم قال الله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظّلَّ ( الفرقان 45 ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ( الفيل 1 ) الثاني أظهرها لأعيننا حتى نراها قال الحسن إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلها حتى بلغ عرفات فقال يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك قال نعم فسميت عرفات فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق فأمره جبريل عليه السلام أن يرميه بسبع حصيات ففعل فذهب الشيطان ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كل ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي الحصيات
وههنا قول ثالث وهو أن المراد العلم والرؤية معاً وهو قول القاضي لأن الحج لايتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً وهذا ضعيف لأنه يقتضي حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز معاً وأنه جائز فبقي القول المعتبر وهو القولان الأولان فمن قال بالقول الثاني قال إن المناسك هي المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها ومن قال بالأول قال إن المناسك هي أعمال الحج كالطواف والسعي والوقوف
المسألة الثانية النسك هو التعبد يقال للعابد ناسك ثم سمي الذبح نسكاً والذبيحة نسيكة وسمي أعمال الحج مناسك قال عليه السلام ( خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) والمواضع التي تقام فيها شرائع الحج تسمى مناسك أيضاً ويقال المنسك بفتح السين بمعنى الفعل وبكسر السين بمعنى المواضع كالمسجد والمشرق والمغرب قال الله تعالى لّكُلّ أُمَّة ٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ ( الحج 67 ) قرىء بالفتح والكسر وظاهر الكلام يدل على الفعل وكذلك قوله عليه السلام ( خذوا عني مناسككم ) أمرهم بأن يتعلموا أفعاله في الحج لا أنه أراد خذوا عني مواضع نسككم إذا عرفت هذا فنقول إن حملنا المناسك على مناسك الحج فإن حملناها على الأفعال فالإراءة لتعريف تلك الأعمال وإن حملناها على المواضع فالإراءة لتعريف البقاع ومن المفسرين من حمل المناسك على الذبيحة فقط وهو خطأ لأن الذبيحة إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبد ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك فما لأجله سميت الذبيحة نسكاً وهو كونه عملاً من أعمال الحج قائم في سائر الأعمال فوجب دخول الكل فيه وأن حملنا المناسك على ما يرجع إليه أصل هذه اللفظة من العبادة والتقرب إلى الله تعالى واللزوم لما يرضيه وجعل ذلك عاماً لكل ما شرعه الله تعالى لإبراهيم عليه السلام فقوله وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا أي علمنا كيف نعبدك وأين نعبدك وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك به كما يخدم العبد مولاه
المسألة الثالثة قرأ ابن كثير وأبو عمرو في بعض الروايات أَرِنَا بإسكان الراء في كل القرآن ووافقهما عاصم وابن عامر في حرف واحد في حم السجدة أَرِنَا الَّذِينَ أَضَلَّانَا ( فصلت 29 ) وقرأ أبو عمرو في بعض الروايات الظاهرة عنه باختلاس كسرة الراء من غير إشباع في كل القرآن والباقون بالكسرة مشبعة وأصله أرئنا بالهمزة المكسورة نقلت كسرة الهمزة إلى الراء وحذفت الهمزة وهو الاختيار لأن أكثر القراء عليه ولأنه سقطت الهمزة فلا ينبغي أن تسكن الراء لئلا يجحف بالكلمة وتذهب الدلالة على الهمزة وأما التسكين فعلى حذف الهمزة وحركتها وعلى التشبيه بما سكن كقولهم فخذ وكبد وأما
الاختلاس فلطلب الخفة وبقاء الدلالة على حذف الهمزة
أما قوله وَتُبْ عَلَيْنَا ففيه مسائل
المسألة الأولى احتج من جوز الذنب على الأنبياء بهذه الآية قال لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب فلولا تقدم الذنب وإلا لكان طلب التوبة طلباً للمحال وأما المعتزلة فقالوا إنا نجوز الصغيرة على الأنبياء فكانت هذه التوبة توبة من الصغيرة ولقائل أن يقول إن الصغائر قد صارت مكفرة بثواب فاعلها وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها محال لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال
وههنا أجوبة أخر تصلح لمن جوز الصغائر ولمن لم يجوزها وهي من وجوه أولها يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشدداً في الإنصراف عن المعصية لأن من تصور نفسه بصورة النادم العازم على التحرز الشديد كان أقرب إلى ترك المعاصي فيكون ذلك لطفاً داعياً إلى ترك المعاصي وثانيها أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه فإنه لاينفك عن التقصير من بعض الوجوه إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى فكان هذا الدعاء لأجل ذلك وثالثها أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالماً عاصياً لا جرم سأل ههنا أن يجعل بعض ذريته أمة مسلمة ثم طلب منه أن يوفق أولئك العصاة المذنبين للتوبة فقال وَتُبْ عَلَيْنَا أي على المذنبين من ذريتنا والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده فاعتذر الوالد عنه فقد يقول أجرمت وعصيت وأذنبت فاقبل عذري ويكون مراده إن ولدي أذنب فاقبل عذره لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه والذي يقوي هذا التأويل وجوه الأول ما حكى الله تعالى في سورة إبراهيم أنه قال وَاجْنُبْنِى وَبَنِى َّ أَن نَّعْبُدَ الاْصْنَامَ رَّبّ إِنَّهُمْ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( إبراهيم 35 36 ) فيحتمل أن يكون المعنى ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب وتغفر له ما سلف من ذنوبه الثاني ذكر أن في قراءة عبد الله وأرهم مناسكهم وتب عليهم الثالث أنه قال عطفاً على هذا رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ الرابع تأولوا قوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ( الأعراف 11 ) بجعل خلقه إياه خلقاً لهم إذ كانوا منه فكذلك لا يبعد أن يكون قوله أَرِنَا مَنَاسِكَنَا أي أر ذريتنا
المسألة الثانية احتج الأصحاب بقوله وَتُبْ عَلَيْنَا على أن فعل العبد خلق لله تعالى قالوا لأنه عليه السلام طلب من الله تعالى أن يتوب عليه فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد لكان طلبها من الله تعالى محالاً وجهلاً قالت المعتزلة هذا معارض بما أن الله تعالى طلب التوبة منا فقال تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَة ً نَّصُوحاً ( التحريم 8 ) ولو كانت فعلاً لله تعالى لكان طلبها من العبد محالاً وجهلاً وإذا ثبت ذلك حمل قوله وَتُبْ عَلَيْنَا على التوفيق وفعل الألطاف أو على قبول التوبة من العبد قال الأصحاب الترجيح معنا لأن دليل العقل يعضد قولنا من وجوه أولها أنه متى لم يخلق الله تعالى داعية موجبة للتوبة استحال حصول التوبة فكانت التوبة من الله تعالى لا من العبد وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرة وثانيها أن التوبة على ما لخصه الشيخ الغزالي رحمه الله عبارة عن مجموع أمور ثلاثة مرتبة علم
وحال وعمل فالعلم أول والحال ثانٍ وهو موجب العلم والعمل ثالث وهو موجب الحال أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب يتولد من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوت المنفعة وحصول المضرة وهذا التألم هو المسمى بالندم ثم يتولد من هذا الندم صفة تسمى إرادة ولها تعلق بالحال والماضي والمستقبل أما تعلقه بالحال فهو الترك للذنب الذي كان ملابساً له وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك ذلك الفعل المفوت للمحبوب إلى آخر العمر وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلاً للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعني بهذا العلم الإيمان واليقين فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب ثم إن هذا اليقين مهما استولى على القلب اشتعل نار الندم فيتألم به القلب حيث يبصر بإشراق نور الإيمان أنه صار محجوباً عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك فتشتعل نيران الحب في قلبه فيتولد من تلك الحالة إرادته للانتهاض للتدارك إذا عرفت هذا فنقول إن ترتب الفعل على الإرادة ضروري لأن الإرادة الجازمة الخالية عن المعارض لا بد وأن يترتب عليها الفعل وترتب الإرادة على تألم القلب أيضاً ضروري فإن من تألم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه لا بد وأن يحصل في قلبه إرادة الدفع وترتب ذلك الألم على العلم بكون ذلك الشيء جالباً للمضار ودفعاً للمنافع أيضاً أمر ضروري فكل هذه المراتب ضرورية فكيف تحصل تحت الاختبار والتكلف
بقي أن يقال الداخل تحت التكليف هو العلم إلا أن فيه أيضاً إشكالاً لأن ذلك العلم إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً فإن كان ضرورياً لم يكن داخلاً تحت الاختبار والتكليف أيضاً وإن كان نظرياً فهو مستنتج عن العلوم الضرورية فمجموع تلك العلوم الضرورية المنتجة للعلم النظري الأول إما أن يكون كافياً في ذلك الانتاج أو غير كاف فإن كان كافياً كان ترتب ذلك العلم النظري المستنتج أولاً على تلك العلوم الضرورية واجباً والذي يجب ترتبه على ما يكون خارجاً عن الاختيار كان أيضاً خارجاً عن الاختيار وإن لم يكن كافياً فلا بد من شيء آخر فذلك الآخر إن كان من العلوم الضرورية فهو إن كان حاصلاً فالذي فرضناه غير كاف وقد كان كافياً هذا خلف وإن كان من العلوم النظرية افتقر أول العلوم النظرية إلى علم نظري آخر قبله فلم يكن أول العلوم النظرية أولاً للعلوم النظرية وهذا خلف ثم الكلام في ذلك الأول كما فيما قبله فيلزم التسلسل وهو محال فثبت بما ذكرنا آخراً أن قوله تعالى وَتُبْ عَلَيْنَا محمول على ظاهره وهو الحق المطابق للدلائل العقلية وأن سائر الآيات المعارضة لهذه الآية أولى بالتأويل
أما قوله إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ فقد تقدم ذكره
النوع الثالث قوله رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ واعلم أنه لا شبهة في أن قوله رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً يريد من أراد بقوله وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّة ً مُّسْلِمَة ً لَّكَ لأنه المذكور من قبل ووصفه لذريته بذلك لا يليق إلا بأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فعطف عليه بقوله تعالى رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ وهذا الدعاء يفيد كمال حال ذريته من وجهين أحدهما أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع ويدعوهم إلى ما يثبتون به على الإسلام والثاني أن يكون ذلك المبعوث منهم لا من غيرهم لوجوه أحدها ليكون محلهم ورتبتهم في
العز والدين أعظم لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معاً من ذريته كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها وثانيها أنه إذا كان منهم فإنهم يعرفون مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته وثالثها أنه إذا كان منهم كان أحرص الناس على خيرهم وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم إذا ثبت هذا فنقول إذا كان مراد إبراهيم عليه السلام عمارة الدين في الحال وفي المستقبل وكان قد غلب على ظنه أن ذلك إنما يتم ويكمل بأن يكون القوم من ذريته حسن منه أن يريد ذلك ليجتمع له بذلك نهاية المراد في الدين وينضاف إليه السرور العظيم بأن يكون هذا الأمر في ذريته لأن لا عز ولا شرف أعلى من هذه الرتبة وأما إن الرسول هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فيدل عليه وجوه أحدها إجماع المفسرين وهو حجة وثانيها ما روي عنه عليه السلام أنه قال ( أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ) وأراد بالدعوة هذه الآية وبشارة عيسى عليه السلام ما ذكر في سورة الصف من قوله مُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ ( الصف 6 ) وثالثها أن إبراهيم عليه السلام إنما دعا بهذا الدعاء بمكة لذريته الذين يكونون بها وبما حولها ولم يبعث الله تعالى إلى من بمكة وما حولها إلا محمداً ( صلى الله عليه وسلم )
وههنا سؤال وهو أنه يقال ما الحكمة في ذكر إبراهيم عليه السلام مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في باب الصلاة حيث يقال اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
وأجابوا عنه من وجوه أولها أن إبراهيم عليه السلام دعا لمحمد عليه السلام حيث قال رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ فلما وجب للخليل على الحبيب حق دعائه له قضى الله تعالى عنه حقه بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة وثانيها أن إبراهيم عليه السلام سأل ذلك ربه بقوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) يعني ابق لي ثناء حسناً في أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأجابه الله تعالى إليه وقرن ذكره بذكر حبيبه إبقاء للثناء الحسن عليه في أمته وثالثها أن إبراهيم كان أب الملة لقوله مّلَّة َ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ( الحج 78 ) ومحمد كان أب الرحمة وفي قراءة ابن مسعود ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ) وقال في قصته بِالْمُؤْمِنِينَ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( التوبة 128 ) وقال عليه السلام ( إنما أنا لكم مثل الوالد ) يعني في الرأفة والرحمة فلما وجب لكل واحد منهم حق الأبوة من وجه قرب بين ذكرهما في باب الثناء والصلاة ورابعها أن إبراهيم عليه السلام كان منادي الشريعة في الحج وَأَذّن فِى النَّاسِ بِالْحَجّ ( الحج 27 ) وكان محمد عليه السلام منادي الدين سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ ( آل عمران 193 ) فجمع الله تعالى بينهما في الذكر الجميل
واعلم أنه تعالى لما طلب بعثة رسول منهم إليهم ذكر لذلك الرسول صفات أولها قوله يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِكَ وفيه وجهان الأول أنها الفرقان الذي أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك فوجب حمله عليه الثاني يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته سبحانه وتعالى ومعنى تلاوته إياها عليهم أنه كان يذكرهم بها ويدعوهم إليها ويحملهم على الإيمان بها وثانيها قوله وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ والمراد أنه يأمرهم بتلاوة الكتاب ويعلمهم معاني الكتاب وحقائقه وذلك لأن التلاوة مطلوبة لوجوه منها بقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصوناً عن التحريف
والتصحيف ومنها أن يكون لفظه ونظمه معجزاً لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومنها أن يكون في تلاوته نوع عبادة وطاعة ومنها أن تكون قراءته في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة فهذا حكم التلاوة إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأشرف تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام فإن الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى ونوراً لما فيه من المعاني والحكم والأسرار فلما ذكر الله تعالى أولاً أمر التلاوة ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره فقال وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ الصفة الثالثة من صفات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ( والحكمة ) أي ويعلمهم الحكمة واعلم أن الحكمة هي الإصابة في القول والعمل ولا يسمى حكيماً إلا من اجتمع له الأمران وقيل أصلها من أحكمت الشيء أي رددته فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والفعل ووضع كل شيء موضعه قال القفال وعبر بعض الفلاسفة عن الحكمة بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية واختلف المفسرون في المراد بالحكمة ههنا على وجوه أحدها قال ابن وهب قلت لمالك ما الحكمة قال معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له وثانيها قال الشافعي رضي الله عنه الحكمة سنة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو قول قتادة قال أصحاب الشافعي رضي الله عنه والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً وتعليمه ثانياً ثم عطف عليه الحكمة فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب وليس ذلك إلا سنة الرسول عليه السلام فإن قيل لم لا يجوز حمله على تعليم الدلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة قلنا لأن العقول مستقبلة بذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يستفاد من الشرع أولى وثالثها الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل وهو مصدر بمعنى الحكم كالقعدة والجلسة والمعنى يعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم وفصل أقضيتك وأحكامك التي تعلمه إياها ومثال هذا الخبر والخبرة والعذر والعذرة والغل والغلة والذل والذلة ورابعها ويعلمهم الكتاب أراد به الآيات المحكمة ( والحكمة ) أراد بها الآيات المتشابهات وخامسها يَعْلَمُهُمْ الْكِتَابِ أي يعلمهم ما فيه من الأحكام ( والحكمة ) أراد بها أنه يعلمهم حكمة تلك الشرائع وما فيها من وجوه المصالح والمنافع ومن الناس من قال الكل صفات الكتاب كأنه تعالى وصفه بأنه آيات وبأنه كتاب وبأنه حكمة الصفة الرابعة من صفات الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قوله ( ويزكيهم ) واعلم أن كمال حال الإنسان في أمرين أحدهما أن يعرف الحق لذاته والثاني أن يعرف الخير لأجل العمل به فإن أخل بشيء من هذين الأمرين لم يكن طاهراً عن الرذائل والنقائص ولم يكن زكياً عنها فلما ذكر صفات الفضل والكمال أردفها بذكر التزكية عن الرذائل والنقائص فقال ( ويزكيهم ) واعلم أن الرسول لا قدرة له على التصرف في بواطن المكلفين وبتقدير أن تحصل له هذه القدرة لكنه لا يتصرف فيها وإلا لكان ذلك الزكاء حاصلاً فيهم على سبيل الجبر لا على سبيل الاختيار فإذن هذه التزكية لها تفسيران الأول ما يفعله سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة حتى يكون ذلك كالسبب لطهارتهم وتلك الأمور ما كان يفعله عليه السلام من الوعد والإيعاد والوعظ والتذكير وتكرير ذلك عليهم ومن التشبث بأمور الدنيا إلى أن يؤمنوا ويصلحوا فقد كان عليه السلام يفعل من هذا الجنس أشياء كثيرة ليقوي بها
دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح ولذلك مدحه تعالى بأنه على خلق عظيم وأنه أوتي مكارم الأخلاق الثاني يزكيهم يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت كتزكية المزكي الشهود والأول أجود لأنه أدخل في مشاكلة مراده بالدعاء لأن مراده أن يتكامل لهذه الذرية الفوز بالجنة وذلك لا يتم إلا بتعليم الكتاب والحكمة ثم بالترغيب الشديد في العمل والترهيب عن الاخلال بالعمل وهو التزكية هذا هو الكلام الملخص في هذه الآية وللمفسرين فيه عبارات أحدها قال الحسن يزكيهم يطهرهم من شركهم فدلت الآية على أنه سيكون في ذرية إسماعيل جهال لا حكمة فيهم ولا كتاب وأن الشرك ينجسهم وأنه تعالى يبعث فيهم رسولاً منهم يطهرهم ويجعلهم حكماء الأرض بعد جهلهم وثانيها التزكية هي الطاعة لله والإخلاص عن ابن عباس وثالثها ويزكيهم عن الشرك وسائر الأرجاس كقوله وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 57 ) واعلم أنه عليه السلام لما ذكر هذه الدعوات ختمها بالثناء على الله تعالى فقال إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ والعزيز هو القادر الذي لا يغلب والحكيم هو العالم الذي لا يجهل شيئاً وإذا كان عالماً قادراً كان ما يفعله صواباً ومبرأ عن العبث والسفه ولولا كونه كذلك لما صح منه إجابة الدعاء ولا بعثة الرسل ولا إنزال الكتاب واعلم أن العزيز من صفات الذات إذا أريد اقتداره على الأشياء وامتناعه من الهضم والذلة لأنه إذا كان منزهاً عن الحاجات لم تلحقه ذلة المحتاج ولا يجوز أن يمنع من مراده حتى يلحقه اهتضام فهو عزيز لا محالة وأما الحكيم فإذا أريد به معنى العليم فهو من صفات الذات فإذا أريد بالعزة كمال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه وأريد بالحكمة أفعال الحكمة لم يكن العزيز والحكيم من صفات الذات بل من صفات الفعل والفرق بين هذين النوعين من الصفات وجوه أحدها أن صفات الذات أزلية وصفات الفعل ليست كذلك وثانيها أن صفات الذات لا يمكن أن تصدق نقائضها في شيء من الأوقات وصفات الفعل ليست كذلك وثالثها أن صفات الفعل أمور نسبية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفاعل وصفات الذات ليست كذلك واحتج النظام على أنه تعالى غير قادر على القبيح بأن قال الإله يجب أن يكون حكيماً لذاته وإذا كان حكيماً لذاته لم يكن القبيح مقدوراً والحكمة لذاتها تنافي فعل القبيح فالإله يستحيل منه فعل القبيح وما كان محال لم يكن مقدوراً إنما قلنا الإله يجب أن يكون حكيماً لأنه لو لم يجب ذلك لجاز تبدله بنقيضه فحينئذ يلزم أن يكون الإله إلهاً مع عدم الحكمة وذلك بالاتفاق محال وأما أن الحكمة تنافي فعل السفه فذلك أيضاً معلوم بالبديهة وأما أن مستلزم المنافي مناف فمعلوم بالبديهة فإذن الإلهية لا يمكن تقريرها مع فعل السفه وأما أن المحال غير مقدور فبين فثبت أن الإله لا يقدر على فعل القبيح
والجواب عنه أما على مذهبنا فليس شيء من الأفعال سفهاً منه فزال السؤال والله أعلم
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّة ِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاٌّ خِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ
اعلم أن الله تعالى بعد أن ذكر أمر إبراهيم عليه السلام وما أجراه على يده من شرائف شرائعة التي ابتلاه بها ومن بناء بيته وأمره بحج عباد الله إليه وما جبله الله تعالى عليه من الحرص على مصالح عباده ودعائه بالخير لهم وغير ذلك من الأمور التي سلف في هذه الآية السالفة عجب الناس فقال وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ والإيمان بما أتى من شرائعه فكان في ذلك توبيخ اليهود والنصارى ومشركي العرب لأن اليهود إنما يفتخرون به ويوصلون بالوصلة التي بينهم وبينه من نسب إسرائيل والنصارى فافتخارهم ليس بعيسى وهو منتسب من جانب الأم إلى إسرائيل وأما قريش فإنهم إنما نالوا كل خير في الجاهلية بالبيت الذي بناه فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله وسائر العرب وهم العدنانيون فمرجعهم إلى إسماعيل وهم يفتخرون على القحطانيين بإسماعيل بما أعطاه الله تعالى من النبوة فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام ولما ثبت أن إبراهيم عليه السلام هو الذي طلب من الله تعالى بعثة هذا الرسول في آخر الزمان وهو الذي تضرع إلى الله تعالى في تحصيل هذا المقصود فالعجب ممن أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هو دعوة إبراهيم عليه السلام ومطلوبه بالتضرع لا شك أن هذا مما يستحق أن يتعجب منه
أما قوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ففيه مسائل
المسألة الأولى يقال رغبت من الأمر إذا كرهته ورغبت فيه إذا أردته ( ومن ) الأول استفهام بمعنى الإنكار والثانية بمعنى الذي قال صاحب الكشاف ( من سفه ) في محل الرفع على البدل من الضمير في يرغب وإنما صح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك هل جاءك أحد إلا زيد
المسألة الثانية لقائل أن يقول ههنا سؤال وهو أن المراد بملة إبراهيم هو الملة التي جاء بها محمد عليه السلام لأن المقصود من الكلام ترغيب الناس في قبول هذا الدين فلا يخلو إما أن يقال إن هذه الملة عين ملة إبراهيم في الأصول والفروع أو يقال هذه الملة هي تلك الملة في الأصول أعني التوحيد والنبوة ورعاية مكارم الأخلاق ولكنهما يختلفان في فروع الشرائع وكيفية الأعمال
أما الأول فباطل لأنه عليه السلام كان يدعي أن شرعه نسخ كل الشرائع فكيف يقال هذا الشرع هو عين ذلك الشرع
وأما الثاني فهو لا يفيد المطلوب لأن الاعتراف بالأصول أعني التوحيد والعدل ومكارم الأخلاق والمعاد لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فكيف يتمسك بهذا الكلام في هذا المطلوب
وسؤال آخر وهو أن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لما اعترف بأن شرع إبراهيم منسوخ ولفظ الملة يتناول الأصول والفروع فيلزم أن يكون محمد عليه الصلاة والسلام راغباً أيضاً عن ملة إبراهيم فيلزم ما ألزم عليهم
وجوابه أنه تعالى لما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه تضرع إلى الله تعالى وطلب منه بعثه هذا الرسول ونصرته وتأييده ونشر شريعته عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم فلما سلم اليهود والنصارى والعرب كون إبراهيم عليه السلام محقاً في مقاله وجب عليهم الاعتراف بنبوة هذا الشخص الذي هو مطلوب إبراهيم عليه السلام
قال السائل إن القول ما سلموا أن إبراهيم طلب مثل هذا الرسول من الله تعالى وإنما محمد عليه الصلاة والسلام روى هذا الخبر عن إبراهيم عليه السلام ليبني على هذه الرواية إلزام أنه يجب عليهم الاعتراف بنبوة محمد عليه السلام فإذن لا تثبت نبوته ما لم تثبت هذه الرواية ولا تثبت هذه الرواية ما لم تثبت نبوته فيفضي إلى الدور وهو ساقط سلمنا أن القوم سلموا صحة هذه الرواية لكن ليس في هذه الرواية إلا أن إبراهيم طلب من الله تعالى أن يبعث رسولاً من ذريته وذرية إسماعيل فكيف القطع بأن ذلك الرسول هو هذا الشخص فلعله شخص آخر سيجيء بعد ذلك وإذا جاز أن تتأخر إجابة هذا الدعاء بمقدار ألفي سنة وهو الزمان الذي بين إبراهيم وبين محمد عليهما السلام فلم لا يجوز أن تتأخر بمقدار ثلاثة آلاف سنة حتى يكون المطلوب بهذا الدعاء شخصاً آخر سوى هذا الشخص المعين
والجواب عن السؤال الأول لعل التوراة والإنجيل شاهدان بصحة هذه الرواية ولولا ذلك لكان اليهود والنصارى من أشد الناس مسارعة إلى تكذيبه في هذه الدعوى وعن الثاني أن المعتمد في إثبات نبوته عليه السلام ظهور المعجز على يده وهو القرآن وإخباره عن الغيوب التي لا يعلمها إلا نبي مثل هذه الحكايات ثم إن هذه الحجة تجري مجرى المؤكد للمقصود والمطلوب والله تعالى أعلم
المسألة الثالثة في انتصاب ( نفسه ) قولان الأول لأنه مفعول قال المبرد سفه لازم وسفه متعد وعلى هذا القول وجوه الأول امتهنها واستخف بها وأصل السفه الخفة ومنه زمام سفيه والدليل عليه ما جاء في الحديث ( الكبر أن تسفه الحق وتغمص الناس ) وذلك أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إزالة نفسه وتعجيزها حيث خالف بها كل نفس عاقلة والثاني قال الحسن إلا من جهل نفسه وخسر نفسه وحقيقته أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من جهل فلم يفكر فيها فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنعة على وحدانية الله تعالى وعلى حكمته فيستدل بذلك على صحة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والثالث أهلك نفسه وأوبقها عن أبي عبيدة والرابع أضل نفسه القول الثاني أن نفسه ليست مفعولاً وذكروا على هذا القول وجوهاً الأول أن نفسه نصب بنزع الخافض تقديره سفه في نفسه والثاني أنه نصب على التفسير عن الفراء ومعناه سفه نفساً ثم أضاف وتقديره إلا السفيه وذكر النفس تأكيد كما يقال هذا الأمر نفسه والمقصود منه المبالغة في سفهه الثالث قرىء إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ بتشديد الفاء ثم إنه تعالى لما حكم بسفاهة من رغب عن ملة إبراهيم عليه السلام بين السبب فقال وَلَقَدْ مَتَاعٌ فِى الدُّنْيَا والمراد به أنا إذا اخترناه للرسالة من دون سائر الخليقة وعرفناه الملة التي هي جامعة للتوحيد والعدل والشرائع والأمامة الباقية إلى قيام الساعة ثم أضيف إليه حكم الله تعالى فشرفه الله بهذا اللقب الذي فيه نهاية الجلالة لمن نالها من ملك من ملوك البشر فكيف من نالها من ملك الملوك والشرائع فليحقق كل ذي لب وعقل أن الراغب عن ملته فهو سفيه ثم بين أنه في الآخرة عظيم المنزلة ليرغب في مثل طريقته لينال مثل تلك المنزلة وقيل في الآية تقديم وتأخير وتقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى قال الحسن من الذين يستوجبون الكرامة وحسن الثواب على كرم الله تعالى
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
اعلم أن هذا النوع الخامس من الأمور التي حكاها الله عن إبراهيم عليه السلام وفيه مسائل
المسألة الأولى موضع ( إذ ) نصب وفي عامله وجهان الوجه الأول أنه نصب باصطفيناه أي اصطفيناه في الوقت الذي قال له ربه أسلم فكأنه تعالى ذكر الاصطفاء ثم عقبه بذكر سبب الاصطفاء فكأنه لما أسلم نفسه لعبادة الله تعالى وخضع لها وانقاد علم تعالى من حاله أنه لا يتغير على الأوقات وأنه مستمر على هذه الطريقة وهو مع ذلك مطهر من كل الذنوب فعند ذلك اختاره للرسالة واختصه بها لأنه تعالى لا يختار للرسالة إلا من هذا حاله في البدء والعاقبة فإسلامه لله تعالى وحسن إجابته منطوق به فإن قيل قوله وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ إخبار عن النفس وقوله إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ إخبار عن المغايبة فكيف يعقل أن يكون هذا النظم واحداً قلنا هذا من باب الالتفات الذي ذكرناه مراراً الثاني أنه نصب باضمار أذكر كأنه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفي الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله
المسألة الثانية اختلفوا في أن الله تعالى متى قال له أسلم ومنشأ الإشكال أنه إنما يقال له أسلم في زمان لا يكون مسلماً فيه فهل كان إبراهيم عليه السلام غير مسلم في بعض الأزمنة ليقال له في ذلك الزمان أسلم فالأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس واطلاعه على أمارات الحدوث فيها وإحاطته بافتقارها إلى مدبر يخالفها في الجسمية وأمارات الحدوث فلما عرف ربه قال له تعالى أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن عرف ربه ويحتمل أيضاً أن يكون قوله أَسْلَمَ كان قبل الاستدلال فيكون المراد من هذا القول لا نفس القول بل دلالة الدليل عليه على حسب مذاهب العرب في هذا كقول الشاعر امتلأ الحوض وقال قطني
مهلاً رويداً قد ملأت بطني
وأصدق دلالة منه قوله تعالى أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ( الروم 35 ) فجعل دلالة البرهان كلاماً ومن الناس من قال هذا الأمر كان بعد النبوة وقوله أَسْلَمَ ليس المراد منه الإسلام والإيمان بل أمور أخر أحدها الانقياد لأوامر الله تعالى والمسارعة إلى تلقيها بالقبول وترك الإعراض بالقلب واللسان وهو المراد من قوله رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ( البقرة 128 ) وثانيها قال الأصم ( أسلم ) أي أخلص عبادتك واجعلها سليمة من الشرك وملاحظة الأغيار وثالثها استقم على الإسلام واثبت على التوحيد كقوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ اللَّهِ ( محمد 19 ) ورابعها أن الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح وأن إبراهيم عليه السلام كان عارفاً بالله تعالى بقلبه وكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح والأعضاء بقوله ( أسلم )
وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِى َّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
اعلم أن هذا هو النوع السادس من الأمور المستحسنة التي حكاها الله عن إبراهيم وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن عامر ( وأوصى ) بالألف وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام والباقون بغير ألف بالتشديد وكذلك هو في مصاحفهم والمعنى واحد إلا أن في ( وصى ) دليل مبالغة وتكثير
المسألة الثانية الضمير في ( بها ) إلى أي شيء يعود فيه قولان الأول أنه عائد إلى قوله أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ ( البقرة 131 ) على تأويل الكلمة والجملة ونحوه رجوع الضمير في قوله وَجَعَلَهَا كَلِمَة ً بَاقِيَة ً ( الزخرف 28 ) إلى قوله إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى ( الزخرف 26 ) وقوله كَلِمَة ً بَاقِيَة ً دليل على أن التأنيث على تأويل الكلمة القول الثاني أنه عائد إلى الملة في قوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ ( البقرة 130 ) قال القاضي وهذا القول أولى من الأول من وجهين الأول أن ذلك غير مصرح به ورد الإضمار إلى المصرح بذكره إذا أمكن أولى من رده إلى المدلول والمفهوم الثاني أن الملة أجمع من تلك الكلمة ومعلوم أنه ما وصى ولده إلا بما يجمع فيهم الفلاح والفوز بالآخرة والشهادة وحدها لا تقتضي ذلك
المسألة الثالثة اعلم أن هذه الحكاية اشتملت على دقائق مرغبة في قبول الدين أحدها أنه تعالى لم يقل وأمر إبراهيم بنيه بل قال وصاهم ولفظ الوصية أوكد من الأمر لأن الوصية عند الخوف من الموت وفي ذلك الوقت يكون احتياط الإنسان لدينه أشد وأتم فإذا عرف أنه عليه السلام في ذلك الوقت كان مهتماً بهذا الأمر متشدداً فيه كان القول إلى قبوله أقرب وثانيها أنه عليه السلام خصص بنيه بذلك وذلك لأن شفقة الرجل على أبنائه أكثر من شفقته على غيرهم فلما خصهم بذلك في آخر عمره علمنا أن اهتمامه بذلك كان أشد من اهتمامه بغيره وثالثها أنه عمم بهذه الوصية جميع بنيه ولم يخص أحداً منهم بهذه الوصية وذلك أيضاً يدل على شدة الاهتمام ورابعها أنه عليه السلام أطلق هذه الوصية غير مقيدة بزمان معين ومكان معين ثم زجرهم أبلغ الزجر عن أن يموتوا غير مسلمين وذلك يدل أيضاً على شدة الاهتمام بهذا الأمر وخامسها أنه عليه السلام ما مزج بهذه الوصية وصية أخرى وهذا يدل أيضاً على شدة الاهتمال بهذا الأمر ولما كان إبراهيم عليه السلام هو الرجل المشهود له بالفضل وحسن الطريقة وكمال السيرة ثم عرف أنه كان في نهاية الاهتمام بهذا الأمر عرف حينئذ أن هذا الأمر أولى الأمور بالاهتمام وأجراها بالرعاية فهذا هو السبب في أنه خص أهله وأبناءه بهذه الوصية وإلا فمعلوم من حال إبراهيم عليه السلام أنه كان يدعو الكل أبداً إلى الإسلام والدين
أما قوله وَيَعْقُوبَ ففيه قولان الأول وهو الأشهر أنه معطوف على إبراهيم والمعنى أنه وصى
كوصية إبراهيم والثاني قرىء وَيَعْقُوبَ بالنصب عطفاً على بنيه ومعناه وصى إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب أما قوله أَوْ بَنِى فهو على إضمار القول عند البصريين وعند الكوفيين يتعلق بوصي لأنه في معنى القول وفي قراءة أبي وابن مسعود أن يا بني
أما قوله اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ فالمراد أنه تعالى استخلصه بأن أقام عليه الدلائل الظاهرة الجلية ودعاكم إليه ومنعكم عن غيره
أما قوله فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ فالمراد بعثهم على الإسلام وذلك لأن الرجل إذا لم يأمن الموت في كل طرفة عين ثم إنه أمر بأن يأتي بالشيء قبل الموت صار مأموراً به في كل حال لأنه يخشى إن لم يبادر إليه أن تعاجله المنية فيفوته الظفر بالنجاة ويخاف الهلاك فيصير مدخلاً نفسه في الخطر والغرور
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَآئِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه بالغ في وصية بنيه في الدين والإسلام ذكر عقيبه أن يعقوب وصى بنيه بمثل ذلك تأكيداً للحجة على اليهود والنصارى ومبالغة في البيان وفيه مسائل
المسألة الأولى اعلم أن ( أم ) معناها حرف الاستفهام أو حرف العطف وهي تشبه من حروف العطف ( أو ) وهي تأتي على وجهين متصلة بما قبلها ومنقطعة منه أما المتصلة فاعلم أنك إذا قلت أزيد عندك أم عمرو فأنت لا تعلم كون أحدهماعنده فتسأل هل أحد هذين عندك فلا جرم كان جوابه لا أو نعم أما إذا علمت كون أحد هذين الرجلين عنده لكنك لا تعلم أن الكائن عنده زيد أو عمرو فسألته عن التعيين قلت أزيد عندك أم عمرو أي اعلم أن أحدهما عندك لكن من هذا أو ذاك وأما المنقطعة فقالوا إنها بمعنى ( بل ) مع همزة الاستفهام مثاله إذا قال إنها لا بل أم شاء فكأن قائل هذا الكلام سبق بصره إلى الأشخاص فقدر أنها إبل فأخبر على مقتضى ظنه أنها الإبل ثم جاءه الشك وأراد أن يضرب عن ذلك الخبر وأن يستفهم أنها هل هي شاء أم لا فالإضراب عن الأول هو معنى ( بل ) والاستفهام عن أنها شاء هو المراد بهمزة الاستفهام فقولك إنها لا بل أم شاء جار مجرى قولك إنها لا بل أهي شاء فقولك أي شاء كلام مستأنف غير متصل بقوله إنها لا بل وكيف وذلك قد وقع الإضراب عنه بخلاف المتصلة فإن قولك أزيد عندك أم عمرو بمعنى أيهما عندك ولم يكن ( ما ) بعد ( أم ) منقطعاً عما قبله بدليل أن عمراً قرين زيد وكفى دليلاً على ذلك أنك تعبر عن ذلك باسم مفرد فتقول أيهما عندك وقد جاء في كتاب الله تعالى
من النوعين كثير أما المتصلة فقوله تعالى أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا ( النازعات 27 ) أي أيكما أشد وأما المنقطعة فقوله تعالى الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ( السجدة 1 3 ) والله أعلم بل يقولون افتراه فدل على الإضراب عن الأول والاستفهام عما بعده إذ ليس في الكلام معنى أي كما كان في قولك أزيد عندك أم عمرو ومن لا يحقق من المفسرين يقولون إن ( أم ) ههنا بمنزلة الهمزة وذلك غير صحيح لما ذكرنا أن ( أم ) هذه المنقطعة تتضمن معنى بل إذا عرفت هذه المقدمة فنقول ( أم ) في هذه الآية منفصلة أم متصلة ( والشهداء ) جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين عندما حضر يعقوب الموت والخطاب مع أهل الكتاب كأنه تعالى قال لهم فيما كانوا يزعمون من أن الدين الذي هم عليه دين الرسل كيف تقولون ذلك وأنتم تشهدون وصايا الأنبياء بالدين ولو شهدتم ذلك لتركتم ما أنتم عليه من الدين ولرغبتم في دين محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الذي هو نفس ما كان عليه إبراهيم عليه السلام ويعقوب وسائر الأنبياء عليهم السلام بعده
فإن قيل الاستفهام على سبيل الإنكار إنما يتوجه على كلام باطل والمحكى عن يعقوب في هذه الآية ليس كلاً ما باطلاً بل حقاً فكيف يمكن صرف الاستفهام على سبيل الإنكار إليه قلنا الاستفهام على سبيل الإنكار متعلق بمجرد ادعائهم الحضور عند وفاته هذا هو الذي أنكره الله تعالى فأما ذكره بعد ذلك من قول يعقوب عليه السلام مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى فهو كلام مفصل بل كأنه تعالى لما أنكر حضورهم في ذلك الوقت شرح بعد ذلك كيفية تلك الوصية
القول الثاني في أن ( أم ) في هذه الآية متصلة وطريق ذلك أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت يعني إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ دعا بنيه إلى ملة الإسلام والتوحيد وقد علمتم ذلك فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء
أما قوله إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قال القفال قوله إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ أن ( إذ ) الأولى وقت الشهداء والثانية وقت الحضور
المسألة الثانية الآية دالة على أن شفقة الأنبياء عليهم السلام على أولادهم كانت في باب الدين وهمتهم مصروفة إليه دون غيره
أما قوله مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى ففيه مسألتان
المسألة الأولى لفظة ( ما ) لغير العقلاء فكيف أطلقه في المعبود الحق
وجوابه من وجهين الأول أن ( ما ) عام في كل شيء والمعنى أي شيء تعبدون والثاني قوله مَا تَعْبُدُونَ كقولك عند طلب الحد والرسم ما الإنسان
المسألة الثانية قوله مِن بَعْدِى أما قوله قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ففيه مسائل
المسألة الأولى هذه الآية تمسك بها فريقان من أهل الجهل الأول المقلدة قالوا إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد وهو عليه السلام ما أنكره عليهم فدل على أن التقليد كاف الثاني التعليمية قالوا لا طريق إلى معرفة الله إلا بتعليم الرسول والإمام والدليل عليه هذه الآية فإنهم لم يقولوا نعبد الإله الذي دل عليه العقل بل قالوا نعبد الإله الذي أنت تعبده وآباءك يعبدونه وهذا يدل على أن طريق المعرفة هو التعلم
والجواب كما أنه ليس في الآية دلالة على أنهم عرفوا الإله بالدليل العقلي فليس فيها أيضاً دلالة على أنهم ما أقروا بالإله إلا على طريقة التقليد والتعليم ثم إن القول بالتقليد والتعليم لما بطل بالدليل علمنا أن إيمان القوم ما كان على هذه الطريقة بل كان حاصلاً على سبيل الاستدلال أقصى ما في الباب أن يقال فلم لم يذكروا طريقة الاستدلال
والجواب عنه من وجوه أولها أن ذلك أخصر في القول من شرح صفات الله تعالى بتوحيده وعلمه وقدرته وعدله وثانيها أنه أقرب إلى سكون نفس يعقوب عليه السلام فكأنهم قالوا لسنا نجري إلا على مثل طريقتك فلا خلاف منا عليك فيما نعبده ونخلص العبادة له وثالثها لعل هذا إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصانع على ما ذكره الله تعالى في أول هذه السورة في قوله قَدِيرٌ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى ْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ( البقرة 21 ) وههنا مرادهم بقولهم نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ أي نعبد الإله الذي دل عليه وجودك ووجود آبائك وعلى هذا الطريق يكون ذلك إشارة إلى الاستدلال لا إلى التقليد
المسألة الثانية قال القفال وفي بعض التفاسير أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون النيران والأوثان فخاف على بنيه بعد وفاته فقال لهم هذا القول تحريضاً لهم على التمسك بعبادة الله تعالى وحكى القاضي عن ابن عباس أن يعقوب عليه السلام جمعهم إليه عند الوفاة وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران فقال يا بني ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إهلك وإله آبائك ثم قال القاضي هذا بعيد لوجهين الأول أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين الثاني أنه تعالى ذكر في الكتاب حال الأسباط من أولاد يعقوب وأنهم كانوا قوماً صالحين وذلك لا يليق بحالهم
المسألة الثالثة قوله إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ عطف بيان لآبائك قال القفال وقيل أنه قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق
المسألة الرابعة قال الشافعي رضي الله عنه الأخوة والأخوات للأب والأم أو للأب لا يسقطون بالجد وهو قول عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وزيد رضي الله عنهم وهو قول مالك وأبي يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إنهم يسقطون بالجد وهو قول أبو بكر الصديق وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ومن التابعين قول الحسن وطاوس وعطاء أما الأولون وهم الذين يقولون إنهم لا يسقطون بالجد فلهم قولان أحدهما أن الجد خير الأمرين إما المقاسمة معهم أو ثلث جميع المال ثم الباقي بين الأخوة والأخوات
للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا مذهب زيد ابن ثابت وقول الشافعي رضي الله عنه والثاني أنه بمنزلة أحد الأخوة ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فإن نقصته المقاسمة من السدس أعطى السدس ولم ينقص منه شيء واحتج أبو حنيفة على قوله بأن الجد أب والأب يحجب الأخوات والأخوة فيلزم أن يحجبهم الجد وإنما قلنا إن الجد أب للآية والأثر أما الآية فاثنان هذه الآية وهي قوله تعالى نَعْبُدُ إِلَاهَكَ وَإِلَاهَ آبَائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ فأطلق لفظ الأب على الجد
فإن قيل فقد أطلقه في العم وهو إسماعيل مع أنه بالاتفاق ليس بأب
قلنا الاستعمال دليل الحقيقة ظاهراً ترك العمل به في حق العم لدليل قام فيه فيبقى في الباقي حجة الآية الثانية قوله تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام وَاتَّبَعْتُ مِلَّة َ ءابَاءي إِبْراهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ( يوسف 38 )
وأما الأثر فما روى عطاء عن ابن عباس أنه قال من شاء لاعنته عند الحجر الأسود إن الجد أب وقال أيضاً ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابناً ولا يجعل أب الأب أباً وإذا ثبت أن الجد أب وجب أن يدخل تحت قوله تعالى وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاِمّهِ الثُّلُثُ ( النساء 11 ) في استحقاق الجد الثلثين دون الأخوة كما استحقه الأب دونهم إذا كان باقياً قال الشافعي رضي الله عنه لا نسلم أن الجد أب والدليل عليه وجوه أحدها أنكم كما استدللتم بهذه الآيات على أن الجد أب فنحن نستدل على أنه ليس بأب بقوله تعالى وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ ( البقرة 132 ) فإن الله تعالى ما أدخل يعقوب في بنيه لأنه ميزه عنهم فلو كان الصاعد في الأبوة أباً لكان النازل في البنوة ابناً في الحقيقة فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجد ليس بأب وثانيها لو كان الجد أباً على الحقيقة لما صح لمن مات أبوه وجده حي أن ينفي أن له أباً كما لا يصح في الأب القريب ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة
فإن قيل اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أن رتبة الأدنى أقرب من رتبة الأبعد فلذلك صح فيه النفي
قلنا لو كان الاسم حقيقة فيهما جميعاً لم يكن الترتيب في الوجود سبباً لنفي اسم الأب عنه وثالثها لو كان الجد أباً على الحقيقة لصح القول بأنه مات وخلف أماً وآباء كثيرين وذلك مما لم يطلقه أحد من الفقهاء وأرباب اللغة والتفسير ورابعها لو كان الجد أباً ولا شك أن الصحابة عارفون باللغة لما كانوا يختلفون في ميراث الجد ولو كان الجد أباً لكانت الجدة أماً ولو كان كذلك لما وقعت الشبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر رضي الله عنه إلى السؤال عنه فهذه الدلائل دلت على أن الجد ليس بأب وخامسها قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الاْنْثَيَيْنِ ( النساء 11 ) فلو كان الجد أباً لكان ابن الابن ابناً لا محالة فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب فأما الآيات التي تمسكتم بها في بيان أن الجد أب فالجواب عن وجه التمسك بها من وجوه أولها أنه قرأ أبي وَإِلَاهَ إِبْرَاهِيمَ بطرح آبائك إلا أن هذا لا يقدح في الغرض لأن القراءة الشاذة لا ترفع القراءة المتواترة بل الجواب أن يقال إنه أطلق لفظ الأب على الجد وعلى العم وقال عليه الصلاة والسلام في العباس ( هذا بقية آبائي ) وقال ( ردوا على أبي ) فدلنا ذلك على أنه ذكره على سبيل
المجاز والدليل عليه ما قدمناه أنه يصح نفي اسم الأب عن الجد ولو كان حقيقة لما كان كذلك وأما قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظراً إلى الحكم الشرعي لا إلى الاسم اللغوي لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أرباب اللسان والله أعلم
أما قوله تعالى إِلَهاً واحِداً فهو بدل إِلَهٍ آبَائِكَ كقوله بِالنَّاصِيَة ِ نَاصِيَة ٍ كَاذِبَة ٍ ( العلق 15 16 ) أو على الاختصاص أي تريد بإله آبائك إلهاً واحداً أما قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ففيه وجوه أحدها أنه حال من فاعل نعبد أو من مفعوله لرجوع الهاء إليه في ( له ) وثانيها يجوز أن تكون جملة معطوفة على نعبد وثالثها أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة أي ومن حالنا أنا له مسلمون مخلصون للتوحيد أو مذعنون
أما قوله تعالى تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ فهو إشارة إلى من ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبنوه الموحدون و ( الأمة ) الصنف ( خلت ) سلفت ومضت وانقرضت والمعنى أني اقتصصت عليكم أخبارهم وما كانوا عليه من الإسلام والدعوة إلى الإسلام فليس لكم نفع في سيرتهم دون أن تفعلوا ما فعلوه فإن أنتم فعلتم ذلك انتفعتم وإن أبيتم لم تنتفعوا بأفعالهم والآية دالة على مسائل
المسألة الأولى الآية دالة على بطلان التقليد لأن قوله لَهَا مَا كَسَبَتْ يدل على أن كسب كل أحد يختص به ولا ينتفع به غيره ولو كان التقليد جائزاً لكان كسب المتبوع نافعاً للتابع فكأنه قال إني ما ذكرت حكاية أحوالهم طلباً منكم أن تقلدوهم ولكن لتنبهوا على ما يلزمكم فتستدلوا وتعلموا أن ما كانوا عليه من الملة هو الحق
المسألة الثانية الآية دالة على ترغيبهم في الإيمان واتباع محمد عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم من مخالفته
المسألة الثالثة الآية دالة على أن الأبناء لا يثابون على طاعة الآباء بخلاف قول اليهود من أن صلاح آبائهم ينفعهم وتحقيقه ما روي عنه عليه السلام أنه قال ( يا صفية عمة محمد يا فاطمة بنت محمد ائتوني يوم القيامة بأعمالكم لا بأنسابكم فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً ) وقال ( ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه ) وقال الله تعالى فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ ( المؤمنون 101 ) وقال تعالى لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلا أَمَانِى ّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ ( النساء 123 ) وكذلك قوله تعالى وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَة ٌ وِزْرَ أُخْرَى ( الأنعام 164 ) وقال فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ ( النور 54 )
المسألة الرابعة الآية تدل على بطلان قول من يقول الأبناء يعذبون بكفر آبائهم وكان اليهود يقولون إنهم يعذبون في النار لكفر آبائهم باتخاذ العجل وهو قوله تعالى وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَة ً ( البقرة 80 ) وهي أيام عبادة العجل فبين الله تعالى بطلان ذلك
المسألة الخامسة الآية دالة على أن العبد مكتسب وقد اختلف أهل السنة والمعتزلة في تفسير الكسب أما أهل السنة فقد اتفقوا على أنه ليس معنى كون العبد مكتسباً دخول شيء من الأعراض بقدرته
من العدم إلى الوجود ثم بعد اتفاقهم على هذا الأصل ذكروا لهذا الكسب ثلاث تفسيرات أحدها وهو قول الأشعري رضي الله عنه أن القدرة صفة متعلقة بالمقدور من غير تأثير القدرة في المقدور بل القدرة والمقدور حصلا بخلق الله تعالى كما أن العلم والمعلوم حصلا بخلق الله تعالى لكن الشيء الذي حصل بخلق الله تعالى وهو متعلق القدرة الحادثة هو الكسب وثانيها أن ذات الفعل توجد بقدرة الله تعالى ثم يحصل لذلك الفعل وصف كونه طاعة أو معصية وهذه الصفة حاصلة بالقدرة الحادثة وهو قول أبي بكر الباقلاني وثالثها أن القدرة الحادثة والقدرة القديمة إذا تعلقتا بمقدور واحد وقع المقدور بهما وكأنه فعل العبد وقع بإعانة الله فهذا هو الكسب وهذا يعزى إلى أبي إسحاق الأسفرايني لأنه يروى عنه أنه قال الكسب والفعل الواقع بالمعين
أما القائلون بأن القدرة الحادثة مؤثرة فهم فريقان الأول الذين يقولون بأن القدرة مع الداعي توجب الفعل فالله تعالى هو الخالق للكل بمعنى أنه سبحانه وتعالى هو الذي وضع الأسباب المؤدية إلى دخول هذه الأفعال في الوجود والعبد هو المكتسب بمعنى أن المؤثر في وقوع فعله هو القدرة والداعية القائمتان به وهذا مذهب إمام الحرمين رحمه الله تعالى اختاره في الكتاب الذي سماه بالنظامية ويقرب قول أبي الحسين البصري منه وإن كان لا يصرح به
الفريق الثاني من المعتزلة وهم الذين يقولون القدرة مع الداعي لا توجب الفعل بل العبد قادر على الفعل والترك متمكن منهما إن شاء فعل وإن شاء ترك وهذا الفعل والكسب قالت المعتزلة للأشعري إذا كان مقدور العبد واقعاً بخلق الله تعالى فإذا خلقه فيه استحال من العبد أن لا يتصف في ذلك الوقت بذلك الفعل وإذا لم يخلقه فيه استحال منه في ذلك الوقت أن يتصف به وإذا كان كذلك لم يكن ألبتة متمكناً من الفعل والترك ولا معنى للقادر إلا ذلك فالعبد ألبتة غير قادر وأيضاً فهذا الذي هو مكتسب العبد إما أن يكون واقعاً بقدرة الله أو لم يقع ألبتة بقدرة الله أو وقع بالقدرتين معاً فإن وقع بقدرة الله تعالى لم يكن العبد فيه مؤثراً فكيف يكون مكتسباً له وإن وقع بقدرة العبد فهذا هو المطلوب وإن وقع بالقدرتين معاً فهذا محال لأن قدرة الله تعالى مستقلة بالإيقاع فعند تعلق قدرة الله تعالى به فكيف يبقى لقدرة العبد فيه أثر وأما قول الباقلاني فضعيف لأن المحرم من الجلوس في الدار المغصوبة ليس إلا شغل تلك الأحياز فهذا الشغل إن حصل بفعل الله تعالى فنفس المنهي عنه قد خلقه الله تعالى فيه وهذا هو عين تكليف ما لا يطاق وإن حصل بقدرة العبد فهو المطلوب وأما قول الأسفرايني فضعيف لما بينا أن قدرة الله تعالى مستقلة بالتأثير فلا يبقى لقدرة العبد معها أثر ألبتة قال أهل السنة كون العبد مستقلاً بالإيجاد والخلق محال لوجوه أولها أن العبد لو كان موجداً لأفعاله لكان عالماً بتفاصيل فعله وهو غير عالم بتلك التفاصيل فهو غير موجد لها وثانيها لو كان العبد موجداً لفعل نفسه لما وقع إلا ما أراده العبد وليس كذلك لأن الكافر يقصد تحصيل العلم فلا يحصل إلا الجهل وثانيها لو كان العبد موجداً لفعل نفسه لكان كونه موجداً لذلك الفعل زائداً على ذات ذلك الفعل
وذات القدرة لأنه يمكننا أن نعقل ذات الفعل وذات القدرة مع الذهول عن كون العبد موجداً له والمعقول غير المغفول عنه ثم تلك الموجدية حادثة فإن كان حدوثها بالعبد لزم افتقارها إلى موجدية أخرى ولزم التسلسل وهو محال وإن كان الله تعالى والأثر واجب الحصول عند حصول الموجدية فيلزم استناد الفعل إلى الله تعالى ولا يلزمنا ذلك في موجدية الله تعالى لأنه قديم فكانت موجديته قديمة فلا يلزم افتقار تلك الموجودية إلى موجودية أخرى
هذا ملخص الكلام من الجانبين والمنازعات بين الفريقن في الألفاظ والمعاني كثيرة والله الهادي
وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين الدلائل التي تقدمت صحة دين الإسلام حكى بعدها أنواعاً من شبه المخالفين الطاعنين في الإسلام
الشبهة الأولى حكى عنهم أنهم قالوا كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ولم يذكروا في تقرير ذلك شبهة بل أصروا على التقليد فأجابهم الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه الأول ذكر جواباً إلزامياً وهو قوله قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وتقرير هذا الجواب أنه إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم لأن هؤلاء المختلفين قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف إن كان المعول في الدين على التقليد فكأنه سبحانه قال إن كان المعول في الدين على الاستدلال والنظر فقد قدمنا الدلائل وإن كان المعول على التقليد فالرجوع إلى دين إبراهيم عليه السلام وترك اليهودية والنصرانية أولى
فإن قيل أليس أن كل واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه السلام
قلنا لما ثبت أن إبراهيم كان قائلاً بالتوحيد وثبت أن النصارى يقولون بالتثليث واليهود يقولون بالتشبيه فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه السلام وأن محمداً عليه السلام لما دعا إلى التوحيد كان هو على دين إبراهيم
ولنرجع إلى تفسير الألفاظ أما قوله وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى فلا يجوز أن يكون المراد به التخيير إذ المعلوم من حال اليهود أنها لا تجوز اختيار النصرانية على اليهودية بل تزعم أنه كفر والمعلوم من حال النصارى أيضاً ذلك بل المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية والنصارى إلى النصرانية فكل فريق يدعو إلى دينه ويزعم أنه الهدي فهذا معنى قوله تَهْتَدُواْ أي أنكم إذا فعلتم ذلك اهتديتم وصرتم على سنن الاستقامة أما قوله بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ ففي اتنصاب ملة أربعة أقوال الأول لأنه عطف في المعنى على قوله كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى وتقديره قالوا اتبعوا اليهودية قل بل اتبعوا ملة إبراهيم الثاني على الحذف تقديره بل نتبع ملة إبراهيم الثالث تقديره بل نكون أهل ملة إبراهيم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 92 ) أي أهلها الرابع التقدير بل اتبعوا ملة إبراهيم وقرأ
الأعرج ( ملة إبراهيم ) بالرفع أي ملته ملتنا أو ديننا ملة إبراهيم وبالجملة فأنت بالخيار في أن تجعله مبتدأ أو خبراً
أما قوله حَنِيفاً ففيه مسألتان
المسألة الأولى لأهل اللغة في الحنيف قولان الأول أن الحنيف هو المستقيم ومنه قيل للأعرج أحنف تفاؤلاً بالسلامة كما قالوا للديغ سليم والمهلكة مفازة قالوا فكل من أسلم لله ولم ينحرف عنه في شيء فهو حنيف وهو مروي عن محمد بن كعب القرطي الثاني أن الحنيف المائل لأن الأحنف هو الذي يميل كل واحد من قدميه إلى الأخرى بأصابعها وتحنف إذا مال فالمعنى أن إبراهيم عليه السلام حنف إلى دين الله أي مال إليه فقوله بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا أي مخالفاً لليهود والنصارى منحرفاً عنهما وأما المفسرون فذكروا عبارات أحدها قول ابن عباس والحسن ومجاهد أن الحنيفية حج البيت وثانيها أنها اتباع الحق عن مجاهد وثالثها اتباع إبراهيم في شرائعه التي هي شرائع الإسلام ورابعها إخلاص العمل وتقديره بل نتبع ملة إبراهيم التي هي التوحيد عن الأصم قال القفال وبالجملة فالحنيف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات وأصله من إبراهيم عليه السلام
المسألة الثانية في نصب حنيفاً قولان أحدهما قول الزجاج أنه نصب على الحال من إبراهيم كقولك رأيت وجه هند قائمة الثاني أنه نصب على القطع أراد بل ملة إبراهيم الحنيف فلما سقطت الألف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فانتصب قاله نحاة الكوفة
أما قوله وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ففيه وجوه أحدها أنه تنبيه على أن في مذهب اليهود
والنصارى شركاء على ما بيناه لأنه تعالى حكى عن بعض اليهود قولهم عزير ابن الله والنصارى قالوا المسيح ابن الله وذلك شرك وثانيها أن الحنيف اسم لمن دان بدين إبراهيم عليه السلام ومعلوم أنه عليه السلام أتى بشرائع مخصوصة من حج البيت والختان وغيرهما فمن دان بذلك فهو حنيف وكان العرب تدين بهذه الأشياء ثم كانت تشرك فقيل من أجل هذا حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ونظيره قوله حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ( الحج 31 ) وقوله وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ( يوسف 106 ) قال القاضي الآية تدل على أن للواحد منا أن يحتج على غيره بما يجري مجرى المناقضة لقوله إفحاً ماله وإن لم يكن ذلك حجة في نفسه لأن من المعلوم أنه عليه السلام لم يكن يحتج على نبوته بأمثال هذه الكلمات بل كان يحتج بالمعجزات الباهرة التي ظهرت عليه لكنه عليه السلام لما كان قد أقام الحجة بها وأزاح العلة ثم وجدهم معاندين مستمرين على باطلهم فعند ذلك أورد عليهم من الحجة ما يجانس ما كانوا عليه فقال إن كان الدين بالاتباع فالمتفق عليه وهو ملة إبراهيم عليه السلام أولى بالاتباع ولقائل أن يقول اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم ومقرين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث امتنع أن يقولوا بذلك بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد ومتى كانوا قائلين بذلك لم يكن في دعوتهم إليه فائدة وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم أو كانوا مقرين به لكنهم أنكروا كونه منكراً للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقاً عليه فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه فكان الأخذ به أولى
والجواب أنه كان معلوماً بالتواتر أن إبراهيم عليه السلام ما أثبت الولد لله تعالى فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عليه السلام
قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِى َ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
اعلم أنه تعالى لما أجاب بالجواب الجدلي أولاً ذكر بعده جواباً برهانياً في هذه الآية وهو أن الطريق إلى معرفة نبوة الأنبياء عليهم السلام ظهور المعجز عليهم ولما ظهر المعجز على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وجب الاعتراف بنبوته والإيمان برسالته فإن تخصيص البعض بالقبول وتخصيص البعض بالرد يوجب المناقضة في الدليل وأنه ممتنع عقلاً فهذا هو المراد من قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا إلى آخر الآية وهذا هو الغرض الأصلي من ذكر هذه الآية فإن قيل كيف يجوز الإيمان بإبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة قلنا نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه فلا يلزم منا المناقضة أما اليهود والنصارى لما اعترفوا بنبوة بعض من ظهر المعجز عليه وأنكروا نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مع قيام المعجز على يده فحينئذ يلزمهم المناقضة فظهر الفرق ثم نقول في الآية مسائل
المسألة الأولى أن الله تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 135 ) ذكروا في مقابلته للرسول عليه السلام قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ ( البقرة 135 ) ثم قال لأمته قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وهذا قول الحسن وقال القاضي قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ يتناول جميع المكلفين أعني النبي عليه السلام وأمته والدليل عليه وجهان أحدهما أن قوله قُولُواْ خطاب عام فيتناول الكل الثاني أن قوله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا لا يليق إلا به ( صلى الله عليه وسلم ) فلا أقل من أن يكون هو داخلاً فيه واحتج الحسن على قوله بوجهين الأول أنه عليه السلام أمر من قبل بقوله قُلْ بَلْ مِلَّة َ إِبْراهِيمَ الثاني أنه في نهاية الشرف والظاهر إفراده بالخطاب
والجواب أن هذه القرائن وإن كانت محتملة إلا أنها لا تبلغ في القوة إلى حيث تقتضي تخصيص عموم قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ أما قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ فإنما قدمه لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالشرائع فمن لا يعرف الله استحال أن يعرف نبياً أو كتاباً وهذا يدل على فساد مذهب التعليمية والمقلدة القائلين بأن طريق معرفة الله تعالى الكتاب والسنة
أما قوله وَالاسْبَاطَ قال الخليل السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب وقال صاحب ( الكشاف ) السبط الحافد وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والأسباط الحفدة وهم حفدة يعقوب عليه السلام وذراري أبنائه الإثني عشر
أما قوله لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ ففيه وجهان الأول أنا لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض فإنا لو فعلنا ذلك كانت المناقضة لازمة على الدليل وذلك غير جائز الثاني لا نفرق بين أحد منهم أي لا نقول إنهم متفرقون في أصول الديانات بل هم مجتمعون على الأصول التي هي الإسلام كما قال الله تعالى شَرَعَ لَكُم فِى الدّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ الوجه الأول أليق بسياق الآية
أما قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فالمعنى أن إسلامنا لأجل طاعة الله تعالى لا لأجل الهوى وإذا كان كذلك فهو يقتضي أنه متى ظهر المعجز وجب الإيمان به فأما تخصيص بعض أصحاب المعجزات بالقبول والبعض بالرد فذلك يدل على أن المقصود من ذلك الإيمان ليس طاعة الله والانقياد له بل اتباع الهوى والميل
فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
اعلم أنه تعالى لما بين الطريق الواضح في الدين وهو أن يعترف الإنسان بنبوة من قامت الدلالة على نبوته وأن يحترز في ذلك عن المناقضة رغبهم في مثل هذا الإيمان فقال فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ
من وجوه أحدها أن المقصود منه التثبيت والمعنى إن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ومساوياً له في الصحة والسداد فقد اهتدوا لما استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد استحال الاهتداء بغيره ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه هذا هو الرأي والصواب فإن كان عندك رأى أصوب منه فاعمل به وقد علمت أن لا أصوب من رأيك ولكنك تريد تثبيت صاحبك وتوقيفه على أن ما رأيت لا رأي وراءه وإنما قلنا إنه يستحيل أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في السداد لأن هذا الدين مبناه على أن كل من ظهر عليه المعجز وجب الاعتراف بنبوته وكل ما غاير هذا الدين لا بد وأن يشتمل على المناقضة والمتناقض يستحيل أن يكون مساوياً لغير المتناقض في السداد والصحة وثانيها أن المثل صلة في الكلام قال الله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) أي ليس كهو شيء وقال الشاعر وصاليات ككما يؤثفين وكانت أم الأحنف ترقصه وتقول والله لولا حنف برجله
ودقة في ساقه من هزله
ما كان منكم أحد كمثله
وثالثها أنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف فإن آمنوا بمثل ذلك وهو التوراة من غير تصحيف وتحريف فقد اهتدوا لأنهم يتصلون به إلى معرفة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ورابعها أن يكون قوله فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ أي فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين فقد اهتدوا فالتمثيل في الآية بين الإيمانين والتصديقين وروى محمد بن جرير الطبري أن ابن عباس قال لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فليس لله مثل ولكن قولوا فإن آمنوا بالذي آمنتم به قال القاضي لا وجه لترك القراءة المتواترة من حيث يشكل المعنى ويلبس لأن ذلك إن جعله المرء مذهباً لزمه أن يغير تلاوة كل الآيات المتشابهات وذلك محظور والوجه الأول في الجواب هو المعتمد
أما قوله فَقَدِ اهْتَدَواْ فالمراد فقد عملوا بما هدوا إليه وقبلوه ومن هذا حاله يكون ولياً لله داخلاً في أهل رضوانه فالآية تدل على أن الهداية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها وبين وجوه دلالتها ثم بين على وجه الزجر ما يلحقهم إن تولوا فقال وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ وفي الشقاق بحثان
البحث الأول قال بعض أهل اللغة الشقاق مأخذو من الشق كأنه صار في شق غير شق صاحبه بسبب العداوة وقد شق عصا المسلمين إذا فرق جماعتهم وفارقها ونظيره المحادة وهي أن يكون هذا في حد وذاك في حد آخر والتعادي مثله لأن هذا يكون في عدوة وذاك في عدوة والمجانبة أن يكون هذا في جانب وذاك في جانب آخر وقال آخرون إنه من المشقة لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه ويؤذيه قال الله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا أي فراق بينهما في الاختلاف حتى يشق أحدهما على الآخر
البحث الثاني قوله وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ أي إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة والعاقل لا يلتزم المناقضة ألبتة فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طلب الدين والانقياد للحق وإنما غرضهم المنازعة وإظهار العداوة ثم للمفسرين عبارات أولها قال ابن عباس رضي الله عنهما فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ في خلاف مذ فارقوا الحق وتمسكوا بالباطل فصاروا مخالفين لله وثانيها قال أبو عبيدة ومقاتل في شقاتل أي في ضلال وثالثها قال ابن زيد في منازعة ومحاربة ورابعها قال الحسن في عداوة قال القاضي ولا يكاد يقال في المعاداة على وجه الحق أو المخالفة التي لا تكون معصية أنه شقاق وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنه وفي استحقاق النار فصار هذا القول وعيداً منه تعالى لهم وصار وصفهم بذلك دليلاً على أن القوم معادون للرسول مضمرون له السؤال مترصدون لإيقاعه في المحن فعند هذا آمنه الله تعالى من كيدهم وآمن المؤمنين من شرهم ومكرهم فقال فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تقوية لقلبه وقلب المؤمنين لأنه تعالى إذا تكفل بالكفاية في أمر حصلت الثقة به قال المتكلمون هذا أخبار عن الغيب فيكون معجزاً دالاً على صدقة وإنما قلنا إنه إخبار عن الغيب وذلك لأنا وجدنا مخبر هذا القول على ما أخبر به لأنه تعالى كفاه شر اليهود والنصارى ونصره عليهم حتى غلبهم المسلمون وأخذوا ديارهم وأموالهم فصاروا أذلاء في أيديهم يؤدون إليهم الخراج والجزية أو لا يقدرون ألبتة
على التخلص من أيديهم وإنما قلنا إنه معجز لأنه المتخرص لا يصيب في مثل ذلك على التفصيل قال الملحدون لا نسلم أن هذا معجز وذلك لأن المعجز هو الذي يكون ناقضاً للعادة وقد جرت العادة بأن كل من كان مبتلى بإيذاء غيره فإنه يقال له اصبر فإن الله يكفيك شره ثم قد يقع ذلك تارة ولا يقع أخرى وإذا كان هذا معتاداً فكيف يقال إنه معجز وأيضاً لعله توصل إلى ذلك برؤيا رآها وذلك مما لاسبيل إلى دفعه فإن المنجمين يقولون من كان سهم الغيب في طالعه فإنه يأتي بمثل هذه الأخبار وإن لم يكن نبياً والجواب أنه ليس غرضنا من قولنا أنه معجز أن هذا الإخبار وحده معجز بل غرضنا أن القرآن يشتمل على كثير من هذا النوع والإخبار عن الأشياء الكثيرة على سبيل التفصيل مما لا يتأتى من المتخرص الكاذب
ثم إنه تعالى لما وعده بالنصرة والمعونة أتبعه بما يدل على أن ما يسرون وما يعلنون من هذا الأمر لا يخفى عليه تعالى فقال وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وفيه وجهان الأول أنه وعيد لهم والمعنى أنه يدرك ما يضمرون ويقولون وهو عليم بكل شيء فلا يجوز لهم أن يقع منهم أمر إلا وهو قادر على كفايته إياهم فيه الثاني أنه وعد للرسول عليه السلام يعني يسمع دعاءك ويعلم نيتك وهو يستجيب لك ويوصلك إلى مرداك واحتج الأصحاب بقوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ على أن سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات لأن قوله عَلِيمٌ بناء مبالغة فيتناول كونه عالماً بجميع المعلومات فلو كان كونه سميعاً عبارة عن علمه بالمسموعات لزم التكرار وأنه غير جائز فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعاً أمراً زائداً على وصفه بكونه عليماً والله أعلم بالصواب
أما قوله بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ ففيه إشكال وهو أن الذي آمن به المؤمنون ليس له مثل وجوابه
صِبْغَة َ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة ً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ
اعلم أنه تعالى لما ذكر الجواب الثاني وهو أن ذكر ما يدل على صحة هذا الدين ذكر بعده ما يدل على أن دلائل هذا الدين واضحة جلية فقال صِبْغَة َ اللَّهِ ثم في الآية مسائل
المسألة الأولى الصبغ ما يلون به الثياب ويقال صبغ الثوب يصبغه بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغاً بفتح الصاد وكسرها لغتان ( والصبغة ) فعلة من صبغ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال الأول أنه دين الله وذكروا في أنه لم سمي دين الله بصبغة الله وجوهً أحدها أن بعض النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال الآن صار نصرانياً فقال الله تعالى اطلبوا صبغة الله وهي الدين والإسلام لا صبغتهم والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المشاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم اغرس كما يغرس فلان تريد رجلاً مواظباً على الكرم ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ ( البقرة 14 15 ) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
( النساء 142 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ ( آل عمران 54 ) وَجَزَاء سَيّئَة ٍ سَيّئَة ٌ مّثْلُهَا ( الشورى 40 ) إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ ( هود 38 ) وثانيها اليهود تصبغ أولادها يهودا والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قلوبهم عن قتادة قال ابن الأنباري يقال فلان يصبغ فلاناً في الشيء أي يدخله فيه ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثواب وأنشد ثعلب دع الشر وأنزل بالنجاة تحرزا
إذا أنت لم يصبغك في الشر صابغ
وثالثها سمي الدين صبغة لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطهارة والصلاة قال الله تعالى سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ( الفتح 29 ) ورابعها قال القاضي قوله صِبْغَة َ اللَّهِ متعلق بقوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ ( البقرة 136 ) إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ( العنكبوت 46 ) فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تعالى ليبين أن المباينة بين هذا الدين الذي اختاره الله وبين الدين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحس السليم القول الثاني أن صبغة الله فطرته وهو كقوله فِطْرَة َ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ( الروم 30 ) ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبنيته بالعجز والفاقة والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق فهذه الآثار كالصبغة له وكالسمة اللازمة قال القاضي من حمل قوله صِبْغَة َ اللَّهِ على الفطرة فهو مقارب في المعنى لقول من يقول هو دين الله لأن الفطرة التي أمروا بها هو الذي تقتضيه الأدلة من عقل وشرع وهو الدين أيضاً لكن الدين أظهر لأن المراد على ما بينا هو الذي وصفوا أنفسهم به في قوله قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ فكأنه تعالى قال في ذلك إن دين الله الذي ألزمكم التمسك به فالنفع به سيظهر ديناً ودنيا كظهور حسن الصبغة وإذا حمل الكلام على ما ذكرناه لم يكن لقول من يقول إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى في صبغ يستعملونه في أولادهم معنى لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه فلا فائدة فيه ولنذكر الآن بقية أقوال المفسرين
القول الثالث أن صبغة الله هي الختان الذي هو تطهير أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تطهير لهم فكذلك الختان تطهير للمسلمين عن أبي العالية
القول الرابع إنه حجة الله عن الأصم وقيل إنه سنة الله عن أبي عبيدة والقول الجيد هو الأول والله أعلم
المسألة الثانية في نصب صبغة أقوال أحدها أنه بدل من ملة وتفسير لها الثاني اتبعوا صبغة الله الثالث قال سيبويه إنه مصدر مؤكد فينتصب عن قوله بِاللَّهِ فَإِذَا كما انتصب وعد الله عما تقدمه
أما قوله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة ً فالمراد أنه يصبغ عباده بالإيمان ويطهرهم به من أوساخ الكفر فلا صبغة أحسن من صبغته
أما قوله تعالى وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ فقال صاحب ( الكشاف ) إنه عطف على بِاللَّهِ فَإِذَا وهذا يرد قول من يزعم أن صبغة الله بدل من ملة إبراهيم أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الله لما فيه من فك النظم وانتصابها على أنها مصدر مؤكد هو الذي ذكره سيبويه والقول ما قالت حذام
قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ
اعلم أن في الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في تلك المحاجة وذكروا وجوهاً أحدها أن ذلك كان قولهم أنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم والمعنى أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسول من العرب لا منكم وتقولون لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم وترونكم أحق بالنبوة منا وثانيها قولهم نحن أحق بالإيمان من العرب الذين عبدوا الأوثان وثالثها قولهم نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقولهم لَن يَدْخُلَ الْجَنَّة َ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ( البقرة 111 ) وقولهم كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ ( البقرة 135 ) عن الحسن ورابعها أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللَّهِ أي أتحاجوننا في دين الله
المسألة الثانية هذه المحاجة كانت مع من ذكروا فيه وجوهاً أحدها أنه خطاب لليهود والنصارى وثانيها أنه خطاب مع مشركي العرب حيث قالوا لَوْلا أُنزِلَ هَاذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ( الزخرف 31 ) والعرب كانوا مقرين بالخالق وثالثها أنه خطاب مع الكل والقول الأول أليق بنظم الآية
أما قوله وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ففيه وجهان الأول أنه أعلم بتدبير خلقه وبمن يصلح للرسالة وبمن لا يصلح لها فلا تعترضوا على ربكم فإن العبد ليس له أن يعترض على ربه بل يجب عليه تفويض الأمر بالكلية له الثاني أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلا بالعبودية وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم فلم ترجحون أنفسكم علينا بل الترجيح من جانبنا لأنا مخلصون له في العبودية ولستم كذلك وهو المراد بقوله وَنَحْنُ لَهُ وهذا التأويل أقرب
أما قوله تعالى وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ فالمراد منه النصيحة في الدين كأنه تعالى قال لنبيه قل لهم هذا القول على وجه الشفقة والنصيحة أي لا يرجع إلى من أفعالكم القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر وإنما المراد نصحكم وإرشادكم إلى الأصلح وبالجملة فالإنسان إنما يكون مقبول القول إذا كان خالياً عن الأغراض الدنيوية فإذا كان لشيء من الأغراض لم ينجع قوله في القلب ألبتة فهذا هو المراد فيكون فيه من الردع والزجر ما يبعث على النظر وتحرك الطباع على الاستدلال وقبول الحق وأما معنى الإخلاص فقد تقدم
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَة ً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
اعلم أن في الآية مسألتين
المسألة الأولى قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم أَمْ تَقُولُونَ بالتاء على المخاطبة كأنه قال أتحاجوننا أم تقولون والباقون بالياء على أنه إخبار عن اليهود والنصارى فعلى الأول يحتمل أن تكون ( أم ) متصلة وتقديره بأي الحجتين تتعلقون في أمرنا أبالتوحيد فنحن موحدون أم باتباع دين الأنبياء فنحن متبعون وأن تكون منقطعة بمعنى بل أتقولون والهمزة للإنكار أيضاً وعلى الثاني تكون منقطعة لانقطاع معناه بمعنى الانقطاع إلى حجاج آخر غير الأول كأنه قيل أتقولون إن الأنبياء كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هوداً أو نصارى
المسألة الثانية إنما أنكر الله تعالى ذلك القول عليهم لوجوه أحدها لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ثبتت نبوته بسائر المعجزات وقد أخبر عن كذبهم في ذلك فثبت لا محالة كذبهم فيه وثانيها شهادة التوراة والإنجيل على أن الأنبياء كانوا على التوحيد والحنيفية وثالثها أن التوراة والإنجيل أنزلا بعدهم ورابعها أنهم ادعوا ذلك من غير برهان فوبخهم الله تعالى على الكلام في معرض الاستفهام على سبيل الإنكار والغرض منه الزجر والتوبيخ وأن يقرر الله في نفوسهم أنهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين فيما يقولون
أما قوله تعالى قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ فمعناه أن الله أعلم وخبره أصدق وقد أخبر في التوراة والإنجيل وفي القرآن على لسان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أنهم كانوا مسلمين مبرئين عن اليهودية والنصرانية فإن قيل إنما يقال هذا فيمن لا يعلم وهم علموه وكتموه فكيف يصح الكلام قلنا من قال إنهم كانوا على ظن وتوهم فالكلام ظاهر ومن قال علموا وجحدوا فمعناه أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله أعلم
أما قوله وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَة ً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ ففيه ثلاثة أوجه أحدها أن في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير ومن أظلم عند الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه هود أو نصارى ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم شهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزهه عن الكذب علمنا أنه ليس الأمر كذلك وثانيها ومن أظلم منكم معاشر اليهود والنصارى إن كتمتم هذه الشهادة من الله فمن في قوله مِنَ اللَّهِ تتعلق بالكاتم على القول الأول وبالمكتوم منه على القول الثاني كأنه قال ومن أظلم ممن عنده شهادة فلم يقمها عند الله بل كتمها وأخفاها وثالثها أن يكون مِنْ في قوله مِنَ اللَّهِ صلة الشهادة والمعنى ومن أظلم ممن كتم شهادة جاءته من عند الله فجحدها كقول الرجل لغيره عندي شهادة منك أي شهادة سمعتها منك وشهادة جاءتني من جهتك ومن عندك
أما قوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فهو الكلام الجامع لكل وعيد ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه ولا يخفى عليه خافية أنه من وراء مجازاته إن خيراً فخير وإن شراً فشر لا يمضي عليه طرفة عين إلا وهو حذر خائف ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعد عليه الأنفاس لكان دائم الحذر والوجل مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول
تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْألُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
اعلم أنه تعالى لما حاج اليهود في هؤلاء الأنبياء بهذه الآية لوجوه أحدها ليكون وعظاً لهم وزجراً حتى لا يتكلوا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله وثانيها أنه تعالى بين أنه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم لاختلاف المصالح لم يستنكر أن تختلف المصالح فينقلكم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من ملة إلى ملة أخرى وثالثها أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك بل كل إنسان مسؤول عن عمله ولا عذر له في ترك الحق بأن توهم أنه متمسك بطريقة من تقدم لأنهم أصابوا أم أخطأوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد فإن قيل لم كررت الآية قلنا فيه قولان أحدهما أنه عني بالآية الأولى إبراهيم ومن ذكر معه والثانية أسلاف اليهود قال الجبائي قال القاضي هذا بعيد لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يجر لهم ذكر مصرح وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه إنهم كانوا هوداً فكأنهم قالوا إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول تِلْكَ أُمَّة ٌ قَدْ خَلَتْ ويعينهم ولكن ذلك كالتعسف بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه فقوله تِلْكَ أُمَّة ٌ يجب أن يكون عائداً إليهم والقول الثاني أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التكرار عبثاً فكأنه تعالى قال ما هذا إلا بشر فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا الجنس فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة فلها ما كسبت وانظروا فيما دعاكم إليه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم ولا تسألون إلا عن عملكم
سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
اعلم أن هذا هو الشبهة الثانية من الشبه التي ذكرها اليهود والنصارى طعناً في الإسلام فقالوا النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل وكلاهما لا يليق بالحكيم وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القيد وإما أن يكون مقيداً بلا دوام وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام فإن كان خالياً عن القيد لم يقتض الفعل إلا مرة واحدة فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً وإن كان مقيداً بقيد اللا دوام فههنا ظاهر أن الوارد بعده على خلافه لا يكون ناسخاً له وإن كان مقيداً بقيد الدوام فإن كان الأمر يعتقد فيه أنه يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً ثم إنه رفعه بعد ذلك فههنا كان جاهلاً ثم بدا له ذلك وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدل على أنه يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً فثبت أن النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل وهما محالان على الله تعالى فكان النسخ منه محالاً فالآتي بالنسخ في أحكام الله تعالى يجب أن
يكون مبطلاً فبهذا الطريق توصلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة فقالوا إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح وههنا الجهات متساوية في أنها لله تعالى ومخلوقة له فتغيير القبلة من جانب فعل خال عن المصلحة فيكون عبثاً والعبث لا يليق بالحكيم فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى فتوصلوا بهذا الوجه إلى الطعن في الإسلام ولنتكلم الآن في تفسير الألفاظ ثم لنذكر الجواب عن هذه الشبهة على الوجه الذي قرره الله تعالى في كتابه الكريم
أما قوله سَيَقُولُ السُّفَهَاء ففيه قولان الأول وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً لكنه قد يستعمل في الماضي أيضاً كالرجل يعمل عملاً فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول أنا أعلم أنهم سيطعنون علي فيما فعلت ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد فإذا ذكروه مرة فسيذكرونه بعد ذلك مرة أخرى فصح على هذا التأويل أن يقال سيقول السفهاء من الناس ذلك وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية القول الثاني إن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد أحدها أنه عليه الصلاة والسلام إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه كان هذا اخباراً عن الغيب فيكون معجزاً وثانيها أنه تعالى إذا أخبر عن ذلك أولاً ثم سمعه منهم فإنه يكون تأذية من هذا الكلام أقل مما إذا سمعه منهم أولاً وثالثها أن الله تعالى إذا أسمعه ذلك أولاً ثم ذكر جوابه معه فحين يسمعه النبي عليه الصلاة والسلام منهم يكون الجواب حاضراً فكان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً وأما السفه في أصل اللغة فقد شرحناه في تفسير قوله تعالى قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء ( البقرة 13 ) وبالجملة فإن من لا يميز بين ما له وعليه ويعدل عن طريق منافعه إلى ما يضره يوصف بالخفة والسفه ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم مضرة منه في باب الدنيا فإذا كان العادل عن الرأي الواضح في أمر دنياه يعد سفيهاً فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه فهذا اللفظ يمكن حمله على اليهود وعلى المشركين وعلى المنافقين وعلى جملتهم ولقد ذهب إلى كل واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين فأولها قال ابن عباس ومجاهد هم اليهود وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القبلة وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية فلما تحول عن تلك القبلة استوحشوا من ذلك واغتموا وقالوا قد عاد إلى طريقة آبائه واشتاق إلى دينهم ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة فقالوا ما حكى الله عنهم في هذه الآية وثالثها قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم إنهم مشركو العرب وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان متوجهاً إلى بيت المقدس حين كان بمكة والمشركون كانوا يتأذون منه بسبب ذلك فلما جاء إلى المدينة وتحول إلى الكعبة قالوا أبى إلا الرجوع إلى موافقتنا ولو ثبت عليه لكان أولى به وثالثها أنهم المنافقون وهو قول السدي وهؤلاء إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض
الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها فكان هذا التحويل مجرد البعث والعمل بالرأي والشهوة وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين لأن هذا الاسم مختص بهم قال الله تعالى أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَاكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ( البقرة 13 ) ورابعها أنه يدخل فيه الكل لأن لفظ السفهاء لفظ عموم دخل فيه الألف واللام وقد بينا صلاحيته لكل الكفار بحسب الدليل العقلي والنص أيضاً يدل عليه وهو قوله وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّة ِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ( البقرة 130 ) فوجب أن يتناول الكل قال القاضي المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة وإذا كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيداً قلنا هذا القدر لا ينافي العموم ولا يقتضي تخصيصه بل الأقرب أن يكون الكل قد قال ذلك لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً ألبتة
أما قوله تعالى مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى ولاه عنه صرفه عنه وولى إليه بخلاف ولى عنه ومنه قوله وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ( الأنفال 16 ) وقوله مَا وَلَّاهُمْ استفهام على جهة الاستهزاء والتعجب
المسألة الثانية في هذا التولي وجهان الأول وهو المشهور المجمع عليه عند المفسرين أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة من بيت المقدس عاب الكفار المسلمين فقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فالضمير في قوله مَا وَلَّاهُمْ للرسول والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس واختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام متى حول القبلة بعد ذهابه إلى المدينة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر وعن معاذ بعد ثلاثة عشر شهراً وعن قتادة بعد ستة عشر شهراً وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهراً وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال وعن بعضهم ثمانية عشر شهراً من مقدمه قال الواقدي صرفت القبلة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً وقال آخرون بل سنتان الوجه الثاني قول أب مسلم وهو أنه لما صح الخبر بأن الله تعالى حوله عن بيت المقدس إلى الكعبة وجب القول به ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله كانوا عليها أي السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قبلة اليهود وقبلة النصارى فالأولى إلى المغرب والثانية إلى المشرق وما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجهوا إلى شيء من الجهات فلما رأوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متوجهاً نحو الكعبة كان ذلك عندهم مستنكراً فقالوا كيف يتوجه أحد إلى هاتين الجهتين المعروفتين فقال الله تعالى راداً عليهم قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ واعلم أن أبا مسلم صدق فإنه لولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملاً والله أعلم
المسألة الثالثة قال القفال القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان وهي من المقابلة وإنما سميت القبلة قبلة لأن المصلي يقابلها وتقابله وقال قطرب يقولون في كلامهم ليس لفلان قبلة أي ليس له جهة يأوي إليها وهو أيضاً مأخوذ من الإستقبال وقال غيره إذ تقابل الرجلان فكل واحد منهما قبلة للآخر وقال بعض المحدثين
جعلت مأواك لي قرارا
وقبلة حيثما لجأت
أما قوله تعالى قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فاعلم أن هذا هو الجواب الأول عن تلك الشبهة وتقريره أن الجهات كلها لله ملكاً وملكاً فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة وإذا كان الأمر كذلك فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى جهة أخرى فإن قيل ما الحكمة أولاً في تعيين القبلة ثم ما الحكمة في تحويل القبلة من جهة إلى جهة قلنا أما المسألة الأولى ففيها الخلاف الشديد بين أهل السنة والمعتزلة أما أهل السنة فإنهم يقولون لا يجب تعليل أحكام الله تعالى ألبتة واحتجوا عليه بوجوه أحدها أن كل من فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده وإما أن لا يكون كذلك بل الوجود والعدم بالنسبة إليه سيان فإن كان الأول كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره وذلك على الله محال وإن كان الثاني استحال أن يكون غرضاً ومقصوداً ومرجحاً فإن قيل إنه وإن كان وجوده وعدمه بالنسبة إليه على السوية إلا أن وجوده لما كان أنفع للغير من عدمه فالحكيم يفعله ليعود النفع إلى الغير قلنا عود النفع إلى الغير ولا عوده إليه هل هما بالنسبة إلى الله تعالى على السواء أو ليس الأمر كذلك وحينئذ يعود التقسيم وثانيها أن كل من فعل فعلاً لغرض فإما أن يكون قادراً على تحصيل ذلك الغرض من دون تلك الواسطة أو لا يكون قادراً عليه فإن كان الأول كان توسط تلك الواسطة عبثاً وإن كان الثاني كان عجزاً وهو على الله محال وثالثها أنه تعالى إن فعل فعلاً لغرض فذلك الغرض وإن كان قديماً لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال وإن كان محدثاً توقف إحداثه على غرض آخر ولزم الدور أو التسلسل وهو محال ورابعها أن تخصيص إحداث العالم بوقت معين دون ما قبله وما بعده إن كان لحكمة اختص بها ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده كان طلب العلة في أنه لم حصلت تلك الحكمة في ذلك الوقت دون سائر الأوقات كطلب العلة في أنه لم حصل العالم في ذلك الوقت دون سائر الأوقات فإن استغنى أحدهما عن المرجح فكذا الآخر وإن افتقر فكذا الآخر وإن لم يتوقف ذلك على الحكمة فقد بطل توفيق فاعلية الله على الحكمة والغرض وخامسها ما سبق من الدلائل على أن جميع الكائنات من الخير والشر والكفر والإيمان والطعة والعصيان واقع بقدرة الله تعالى وإرادته وذلك يبطل القول بالغرض لأنه يستحيل أن يكون لله غرض يرجع إلى العبد في خلق الكفر فيه وتعذيبه عليه أبد الآباد وسادسها أن تعلق قدرة الله تعالى وإرادته بإيجاد الفعل المعين في الأزل إما أن يكون جائزاً أو وجباً فإن كان جائزاً افتقر إلى مؤثر آخر ويلزم التسلسل ولأنه يلزم صحة العدم على القديم وإن كان واجباً فالواجب لا يعلل فثبت عندنا بهذه الوجوه أن تعليل أفعالي الله وأحكامه بالدواعي والأغراض محال وإذا كان كذلك كانت فاعليته بمحض الإلهية والقدرة والنفاذ والاستيلاء وهذا هو الذي دل عليه صريح قوله
تعالى قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فإنه علل جواز النسخ بكونه مالكاً للمشرق والمغرب والملك يرجع حاصله إلى القدرة ولم يعلل ذلك بالحكمة على ما تقوله المعتزلة فثبت أن هذه الآية دالة بصريحها على قولنا ومذهبنا أما المعتزلة فقد قالوا لما دلت الدلائل على أنه تعالى حكيم والحكيم لا يجوز أن تكون أفعاله خالية عن الأغراض علمنا أن له سبحانه في كل أفعاله وأحكامه حكماً وأغراضاً ثم إنها تارة تكون ظاهرة جلية لنا وتارة مستورة خفية عنا وتحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى يمكن أن يكون لمصالح خفية وأسرار مطوية عنا وإذا كان الأمر كذلك استحال الطعن بهذا التحويل في دين الإسلام
المسألة الرابعة في الكلام في تلك الحكم على سبيل التفصيل واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تكون قطعية بل غايتها أن تكون أموراً احتمالية أما تعيين القبلة في الصلاة فقد ذكروا فيه حكماً أحدها أن الله تعالى خلق في الإنسان قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات وقوة خيالية متصرفة في عالم الأجساد وقلما تنفك القوة العقلية عن مقارنة القوة الخيالية ومصاحبتها فإذا أراد الإنسان استحضار أمر عقلي مجرد وجب أن يضع له صورة خيالية يحسبها حتى تكون تلك الصورة الخيالية معينة على إدراك تلك المعاني العقلية ولذلك فإن المهندس إذا أراد إدراك حكم من أحكام المقادير وضع له صورة معينة وشكلاً معيناً ليصير الحس والخيال معينين للعقل على إدراك ذلك الحكم الكلي ولما كان العبد الضعيف إذا وصل إلى مجلس الملك العظيم فإنه لا بد وأن يستقبله بوجهه وأن لا يكون معرضاً عنه وأن يبالغ في الثناء عليه بلسانه ويبالغ في الخدمة والتضرع له فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلاً للملك لا معرضاً عنه والقراءة والتسبيحات تجري مجرى الثناء عليه والركوع والسجود يجري مجرى الخدمة وثانيها أن المقصود من الصلاة حضور القلب وهذا الحضور لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات والحركة وهذا لا يتأتى إلا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلاً لجهة واحدة على التعيين فإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام كان استقبال تلك الجهة أولى وثالثها أن الله تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين وقد ذكر المنة بها عليهم حيث قال وَاذْكُرُواْ نِعْمَة َ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ( المائدة 7 ) إلى قوله إِخْوَانًا ولو توجه كل واحد في صلاته إلى ناحية أخرى لكان ذلك يوهم اختلافاً ظاهراً فعين الله تعالى لهم جهة معلومة وأمرهم جميعاً بالتوجه نحوها ليحصل لهم الموافقة بسبب ذلك وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحب الموافقة بين عباده في أعمال الخير ورابعها أن الله تعالى خص الكعبة بإضافتها إليه في قوله بَيْتِى َ وخص المؤمنين باضافتهم بصفة العبودية إليه وكلتا الإضافتين للتخصيص والتكريم فكأنه تعالى قال يا مؤمن أنت عبدي والكعبة بيتي والصلاة خدمتي فأقبل بوجهك في خدمتي إلى بيتي وبقلبك إلي وخامسها قال بعض المشايخ إن اليهود استقبلوا القبلة لأن النداء لموسى عليه السلام جاء منه وذلك قوله وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِى ّ ( القصص 44 ) الآية والنصارى استقبلوا المغرب لأن جبريل عليه السلام إنما ذهب إلى مريم عليها السلام من جانب المشرق لقوله تعالى وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً ( مريم 16 ) والمؤمنون استقبلوا الكعبة لأنها قبلة خليل الله ومولد حبيب
الله وهي موضع حرم الله وكان بعضهم يقول استقبلت النصارى مطلع الأنوار وقد استقبلنا مطلع سيد الأنوار وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فمن نوره خلقت الأنوار جميعاً وسادسها قالوا الكعبة سرة الأرض ووسطها فأمر الله تعالى جميع خلقه بالتوجه إلى وسط الأرض في صلاتهم وهو إشارة إلى أنه يجب العدل في كل شيء ولأجله جعل وسط الأرض قبلة للخلق وسابعها أنه تعالى أظهر حبه لمحمد عليه الصلاة والسلام بواسطة أمره باستقبال الكعبة وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتمنى ذلك مدة لأجل مخالفة اليهود فأنزل الله تعالى قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ( البقرة 144 ) الآية وفي الشاهد إذا وصف واحد من الناس بمحبة آخر قالوا فلان يحول القبلة لأجل فلان على جهة التمثيل فالله تعالى قد حول القبلة لأجل حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام على جهة التحقيق وقال فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا ( البقرة 144 ) ولم يقل قبلة أرضاها والإشارة فيه كأنه تعالى قال يا محمد كل أحد يطلب رضاي وأنا أطلب رضاك في الدارين أما في الدنيا فهذا الذي ذكرناه وأما في الآخرة فقوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ( الضحى 5 ) وفيه إشارة أيضاً إلى شرف الفقراء فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( الأنعام 52 ) وقال في الإعراض عن القبلة وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ فكأنه تعالى قال الكعبة قبلة وجهك والفقراء قبلة رحمتي فإعراضك عن قبلة وجهك يوجب كونك ظالماً فالأعراض عن قبلة رحمتي كيف يكون وثامنها العرش قبلة الحملة والكرسي قبلة البررة والبيت المعمور قبلة السفرة والكعبة قبلة المؤمنين والحق قبلة المتحيرين من المؤمنين قال الله تعالى فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 ) وثبت أن العرش مخلوق من النور والكرسي من الدر والبيت المعمور من الياقوت والكعبة من جبال خمسة من طور سينا وطور زيتا والجودي ولبنان وحراء والإشارة فيه كأن الله تعالى يقول إن كانت عليك ذنوب بمثقال هذه الجبال فأتيت الكعبة حاجاً أو توجهت نحوها مصلياً كفرتها عنك وغفرتها لك فهذا جملة الوجوه المذكورة في هذا الباب والتحقيق هو الأول
المسألة الخامسة في حكمة تحويل القبلة من جهة إلى جهة قد ذكرنا شبهة القوم في إنكار هذا التحويل وهي أن الجهات لما كانت متساوية في جميع الصفات كان تحويل القبلة من جهة إلى جهة مجرد العبث فلا يكون ذلك من فعل الحكيم
والجواب عنه أما على قول أهل السنة إنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى بالحكم فالأمر ظاهر وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان الأول أنه لا يمتنع اختلاف المصالح بحسب اختلاف الجهات وبيانه من وجوه أحدها أنه إذا ترسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهات أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل وعظمه كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً وذلك مصلحة مطلوبة وثانيها أنه لما كان بناء هذا البيت سبباً لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في تعظيمه أشد وثالثها أن اليهود لما كانوا يعيرون المسلمين عند استقبال بيت المقدس بأنه لولا أنا أرشدناكم إلى القبلة لما كنتم تعرفون القبلة فصار ذلك سبباً لتشويش الخواطر وذلك مخل بالخضوع والخشوع فهذا يناسب
الصرف عن تلك القبلة ورابعها أن الكعبة منشأ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد عليه الصلاة والسلام وذلك أمر مطلوب لأنه متى رسخ في قلبهم تعظيمه كان قبولهم لأوامره ونواهيه في الدين والشريعة أسرع وأسهل والمفضي إلى المطلوب مطلوب فكان تحويل القبلة مناسباً وخامسها أن الله تعالى بين ذلك في قوله وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ( البقرة 143 ) فأمرهم الله تعالى حين كانوا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين فلما هاجروا إلى المدينة وبها اليهود أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود
أما قوله يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ فالهداية قد تقدم القول فيها قالت المعتزلة إنما هي الدلالة الموصلة والمعنى أنه تعالى يدل على ما هو للعبادة أصلح والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم إذا تمسكوا به إلى الجنة قال أصحابنا هذه الهداية إما أن يكون المراد منها الدعوة أو الدلالة أو تحصيل العلم فيه والأولان باطلان لأنهما عامان لجميع المكلفين فوجب حمله على الوجه الثالث وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى
وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
قوله تعالى وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا
اعلم أن في هذه الآية مسائل
المسألة الأولى الكاف في كَذالِكَ كاف التشبيه والمشبه به أي شيء هو وفيه وجوه أحدها أنه راجع إلى معنى يهدي أي كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم أمة وسطاً وثانيها قول أبي مسلم تقريره كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القبل وكذلك جعلناكم أمة وسطاً وثالثها أنه عائد إلى ما تقدم من قوله في حق إبراهيم عليه السلام وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ( البقرة 130 ) أي فكما اصطفيناه في الدنيا فكذلك جعلناكم أمة وسطاً ورابعها يحتمل عندي أن يكون التقدير وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ( البقرة 115 ) فهذه الجهات بعد استوائها في كونها ملكاً لله وملكاً له خص بعضها بمزيد التشريف والتكريم بأن جعله قبلة فضلاً منه وإحساناً فكذلك العباد كلهم مشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة فضلاً منه وإحساناً لا وجوباً وخامسها أنه قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً كقوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَة ِ الْقَدْرِ ( القدر 1 ) ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من شاء وإذلال من شاء فقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أي ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً
المسألة الثانية اعلم أنه إذا كان الوسط اسماً حركت الوسط كقوله أُمَّة ً وَسَطًا والظرف مخفف تقول جلست وسط القوم واختلفوا في تفسير الوسط وذكروا أمور أحدها أن الوسط هو العدل
والدليل عليه الآية والخبر والشعر والنقل والمعنى أما الآية فقوله تعالى قَالَ أَوْسَطُهُمْ ( القلم 28 ) أي أعدلهم وأما الخبر فما روى القفال عن الثوري عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمة وسطاً قال عدلاً ) وقال عليه الصلاة والسلام ( خير الأمور أوسطها ) أي أعدلها وقيل كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أوسط قريش نسباً وقال عليه الصلاة والسلام ( عليكم بالنمط الأوسط ) وأما الشعر فقول زهير هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
إذا نزلت إحدى الليالي العظائم
وأما النقل فقال الجوهري في ( الصحاح ) وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا أي عدلاً وهو الذي قاله الأخفش والخليل وقطرب وأما المعنى فمن وجوه أحدها أن الوسط حقيقة في البعد عن الطرفين ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رديئان فالمتوسط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين فكان معتدلاً فاضلاً وثانيها إنما سمي العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين وثالثها لا شك أن المراد بقوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا طريقة المدح لهم لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفاً ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله ( وسطاً ) ما يتعلق بالمدح في باب الدين ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلا بكونهم عدولاً فوجب أن يكون المراد في الوسط العدالة ورابعها أن أعدل بقاع الشيء وسطه لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوسط محمية محوطة فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة
القول الثاني أن الوسط من كل شيء خياره قالوا وهذا التفسير أولى من الأول لوجوه الأول أن لفظ الوسط يستعمل في الجمادات قال صاحب ( الكشاف ) اكتريت جملاً من أعرابي بمكة للحج فقال أعطى من سطا تهنة أراد من خيار الدنانير ووصف العدالة لا يوجد في الجمادات فكان هذا التفسير أولى الثاني أنه مطابق لقوله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ( آل عمران 110 )
القول الثالث أن الرجل إذا قال فلان أوسطنا نسباً فالمعنى أنه أكثر فضلاً وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة وأصل هذا أن الاتباع يحوشون الرئيس فهو في وسطهم وهم حوله فقيل وسط لهذا المعنى
القول الرابع يجوز أن يكونوا وسطاً على معنى أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر في الأشياء لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابناً وإلهاً ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه
واعلم أن هذه الأقوال متقاربة غير متنافية والله أعلم
المسألة الثالثة احتج الأصحاب بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيريتهم بجعل الله وخلقه وهذا صريح في المذهب قالت المعتزلة المراد من هذا الجعل فعل الألطاف التي علم الله تعالى أنه متى فعلها لهذه الأمة اختاروا عندها الصواب في القول والعمل أجاب الأصحاب عنه من وجوه الأول أن هذا ترك للظاهر وذلك مما لا يصار إليه إلا عند قيام الدلائل
على أنه لا يمكن حمل الآية على ظاهرها لكنا قد بينا أن الدلائل العقلية الباهرة ليست إلا معنا أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسك بفصل المدح والذم والثواب والعقاب وقد بينا مراراً كثيرة أن هذه الطريقة منتقضة على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي والكلام المنقوض لا التفات إليه ألبتة الوجه الثاني أنه تعالى قال قبل هذه الآية يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( البقرة 142 ) وقد بينا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه تعالى يخص البعض بالهداية دون البعض فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منهما مؤكدة لمضمون الأخرى الوجه الثالث أن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف في حق الكل فقد فعله وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة الوجه الرابع وهو أن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الامتنان على هذه الأمة وفعل اللطف واجب والواجب لا يجوز ذكره في معرض الامتنان
المسألة الرابعة احتج جمهور الأصحاب وجمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا أخبر الله تعالى عن عدالة هذه الأمة وعن خيريتهم فلو أقاموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة فإن قيل الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة فلا بد من حملها على البعض فنحن نحملها على الأئمة المعصومين سلمنا أنها ليست متروكة الظاهرة لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين الأول أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات واجتناب المحرمات وهذا من فعل العبد وقد أخبر الله تعالى أن جعلهم وسطاً فاقتضى ذلك أن كونهم وسطاً من فعل الله تعالى وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولاً وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال الثاني أن الوسط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك وهو خلال الأصل سلمنا اتصافهم بالخيرية ولكن لم لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم ومما يؤكد هذا الاحتمال أنه تعالى حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ولكن الله تعالى بين أن اتصافهم بذلك إنما كان لكونهم شهداء على الناس معلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمل وذلك لا نزاع فيه لأن الأمة تصير معصومة في الآخرة فلم قلت إنهم في الدنيا كذلك سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا لكن المخاطبين بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية لأن الخطاب مع من لم يوجد محال وإذا كان كذلك فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت ولا تقتضي عدالة غيرهم فهذه الآية تدل على أن إجماع أولئك حق فيجب أن لا نتمسك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه لكن ذلك لا يمكن إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم وعلمنا بقاء كل واحد منهم إلى ما بعد وفاة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ولما كان ذلك كالمتعذر امتنع التمسك بالإجماع
والجواب عن قوله الآية متروكة الظاهر قلنا لا نسلم فإن قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا يقتضي أنه تعالى جعل كل واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه فإن كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر بل إذا اختلفوا فعند ذلك قد يفعلون القبيح وإنما قلنا إن هذا خطاب معهم حال الاجتماع لأن قوله جَعَلْنَاكُمْ خطاب لمجموعهم لا لكل واحد منهم وحده على أن وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد منهم عدلاً لكنا نقول ترك العمل به في حق البعض لدليل قام عليه فوجب أن يبقى معمولاً به في حق الباقي وهذا معنى ما قال العلماء ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة فإذا كنا لا نعلم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماع جماعتهم على القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم مثاله أن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا قال إن واحداً من أولاد فلان لا بد وإن يكون مصيباً في الرأي والتدبير فإذا لم نعلمه بعينه ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقاً لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقاً لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد الذي خالف ولهذا قال كثير من العلماء إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة بقول المخطىء قوله لو كان المراد من كونهم وسطاً هو المراد من عدالتهم لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى قلنا هذا مذهبنا على ما تقدم بيانه قوله لم قلتم أن إخبار الله تعالى عن عدالتهم وخيريتهم يقتضي اجتنابهم عن الصغائر قلنا خبر الله تعالى صدق والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه وفعل الصغيرة ليس بخير فالجمع بينهما متناقض ولقائل أن يقول الإخبار عن الشخص بأنه خير أعم من الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور أو في بعض الأمور ولذلك فإنه يصح تقسيمه إلى هذين القسمين فيقال الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض أو في كل الأمور ومورد التقسيم مشترك بين القسمين فمن كان خيراً من بعض الوجوه دون البعض يصدق عليه أنه خير فإذن إخبار الله تعالى عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره تعالى عن خيريتهم في كل الأمور فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلا أن هذا السؤال وارد عليها أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة كما أن قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ ( البقرة 178 ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ ( البقرة 183 ) يتناول الكل ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت وكذلك سائر تكاليف الله تعالى وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة فإن قيل لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة فإنما حكم لجماعتهم بالعدالة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم قلنا لأنه تعالى لما جعلهم شهداء على الناس فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة فإن الأمة اسم للجماعة التي تؤم جهة واحدة ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ولأنه تعالى قال أُمَّة ً وَسَطًا فعبر عنهم بلفظ النكرة ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر
المسألة الخامسة اختلف الناس في أن الشهادة المذكورة في قوله تعالى لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ
تحصل في الآخرة أو في الدنيا فالقول الأول إنها تقع في الآخرة والذاهبون إلى هذا القول لهم وجهان الأول وهو الذي عليه الأكثرون أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أنهم الذين يكذبونهم روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء فيطالب الله تعالى الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا وهو أعلم فيؤتى بأمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الله عليه وسلم فيشهدون فتقول الأمم من أين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد عليه الصلاة والسلام فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وقد طعن القاضي في هذه الرواية من وجوه
أولها أن مدار هذه الرواية عن أن الأمم يكذبون أنبياءهم وهذا بناء على أن أهل القيامة قد يكذبون وهذا باطل عند القاضي إلا أنا سنتكلم على هذه المسألة في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ( الأنعام 23 24 )
وثانيها أن شهادة الأمة وشهادة الرسول مستندة في الآخرة إلى شهادة الله تعالى على صدق الأنبياء وإذا كان كذلك فلم لم يشهد الله تعالى لهم بذلك ابتداء وجوابه الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الفضل عن سائر الأمم بالمبادرة إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء والإيمان بهم جميعاً فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق فلذلك يقبل الله شهادتهم على سائر الأمم ولا يقبل شهادة الأمم عليهم إظهاراً لعدالتهم وكشفاً عن فضيلتهم ومنقبتهم
وثالثها أن مثل هذه الأخبار لا تسمى شهادة وهذا ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام ( إذا علمت مثل الشمس فاشهد ) والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس فوجب جواز الشهادة عليه
الوجه الثاني قالوا معنى الآية لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها قال ابن زيد الأشهاد أربعة أولها الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد قال تعالى وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ( ق 21 ) وقال مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ( ق 18 ) وقال وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ( الإنفطار 10 12 ) وثانيها شهادة الأنبياء وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عليه السلام وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلّ شَى ْء شَهِيدٌ ( المائدة 117 ) وقال في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمته في هذه الآية لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وقال فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) وثالثها شهادة أمة محمد خاصة قال تعالى وَجِىء بِالنَّبِيّيْنَ وَالشُّهَدَاء ( الز ( مر 69 ) وقال تعالى وَيَوْمَ يَقُومُ الاْشْهَادُ ( غافر 51 ) ورابعها شهادة الجوارح وهي بمنزلة الإقرار بل أعجب منه قال تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ( النور 24 ) الآية وقال الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ ( يس 65 ) الآية القول الثاني أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا وتقريره أن الشهادة والمشاهدة والشهود هو
الرؤية يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته ولما كان بين الإبصار بالعين وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهوداً والعارف بالشيء شاهداً ومشاهداً ثم سميت الدلالة على الشيء شاهداً على الشيء لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً ولما كان المخبر عن الشيء والمبين لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً ثم اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة إذا عرفت هذا فنقول إن كل من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه والله تعالى وصف هذه الأمة بالشهادة فهذه الشهادة إما أن تكون في الآخرة أو في الدنيا لا جائز أن تكون في الآخرة لأن الله تعالى جعلهم عدولاً في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا إنما قلنا إنه تعالى جعلهم عدولاً في الدنيا لأنه تعالى قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وهذا إخبار عن الماضي فلا أقل من حصوله في الحال وإنما قلنا إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا لأنه تعالى قال وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّة ً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا فإن قيل تحمل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا ومتحمل الشهادة قد يسمى شاهداً وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة قلنا الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل بدليل أنه تعالى اعتبر العدالة في هذه الشهادة والشهادة التي يعتبر فيها العدالة هي الأداء لا التحمل فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدين للشهادة في دار الدنيا وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجة ولا معنى لقولنا الإجماع حجة إلا هذا فثبت أن الآية تدل على أن الإجماع حجة من هذا الوجه أيضاً واعلم أن الدليل الذي ذكرناه على صحة هذا القول لا يبطل القولين الأولين لأنا بينا بهذه الدلالة أن الأمة لا بد وأن يكونوا شهوداً في الدنيا وهذا لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به فالحاصل أن قوله تعالى لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ إشارة إلى أن قولهم عند الإجماع حجة من حيث أن قولهم عند الإجماع يبين للناس الحق ويؤكد ذلك قوله تعالى وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا يعني مؤدياً ومبيناً ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا أثبتوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم
المسألة السادسة دلت الآية على أن من ظهر كفره وفسقه نحو المشبهة والخوارج والروافض فإنه لا يعتد به في الإجماع لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخيرية ولا يختلف في ذلك الحكم من فسق أو كفر بقوله أو فعل ومن كفر برد النص أو كفر بالتأويل
المسألة السابعة إنما قال شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ولم يقل شهداء للناس لأن قولهم يقتضي التكليف إما بقول وإما بفعل وذلك عليه لا له في الحال فإن قيل لم أخرت صلة الشهادة أولاً وقدمت آخراً قلنا لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الآخر الاختصاص بكون الرسول شهيداً عليهم
قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ
اعلم أن قوله وَمَا جَعَلْنَا معناه ما شرعنا وما حكمنا كقوله مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَة ٍ ( المائدة 103 ) أي ما شرعها ولا جعلها ديناً وقوله كُنتَ عَلَيْهَا أي كنت معتقداً لاستقبالها كقول القائل كان لفلان على فلان دين وقوله كُنتَ عَلَيْهَا ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعولي جعل يريد وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الجهة التي كنت عليها ثم ههنا وجهان الأول أن يكون هذا الكلام بياناً للحكمة في جعل القبلة وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تأليفاً لليهود ثم حول إلى الكعبة فنقول وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الجهة الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا أولاً يعني وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاء الثاني يجوز أن يكون قوله الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا لساناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني إن أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمراً عارضاً لغرض وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا وهي بيت المقدس لنمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه وينفر عنه وههنا وجه ثالث ذكره أبو مسلم فقال لولا الروايات لم تدل الآية على قبلة من قبل الرسول عليه الصلاة والسلام عليها لأنه قد يقال كنت بمعنى صرت كقوله تعالى كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة ٍ ( آل عمران 110 ) وقد يقال كان في معنى لم يزل كقوله تعالى وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ( النساء 158 ) فلا يمتنع أن يراد بقوله وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا أي التي لم تزل عليها وهي الكعبة إلا كذا وكذا
أما قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى اللام في قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ لام الغرض والكلام في أنه هل يصح الغرض على الله أو لا يصح وبتقدير أن لا يصح فكيف تأويل هذا الكلام فقد تقدم
المسألة الثانية وما جعلنا كذا وكذا إلا لنعلم كذا يوهم أن العلم بذلك الشيء لم يكن حاصلاً فهو فعل ذلك الفعل ليحصل له ذلك العلم وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يعلم تلك الأشياء قبل وقوعها ونظيره في الإشكال قوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ ( محمد 31 ) وقوله الئَانَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ( الأنفال 66 ) وقوله لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( طه 44 ) وقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ ( العنكبوت 3 ) وقوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّة َ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ( آل عمران 142 ) وقوله وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاْخِرَة ِ ( سبأ 21 ) والكلام في هذه المسألة أمر مستقصى في قوله وَإِذِ ابْتَلَى والمفسرون أجابوا عنه من وجوه
أحدها أن قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ معناه إلا ليعلم حزبنا من النبيين والمؤمنين كما يقول الملك فتحنا البلدة الفلانية بمعنى فتحها أولياؤنا ومنه يقال فتح عمر السواد ومنه قول عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه ( استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني ولم يكن ينبغي له أن يشتمني يقول وادهراه وأنا الدهر ) وفي الحديث ( من أهان لي ولياً فقد أهانني ) وثانيها معناه ليحصل المعدوم فيصير موجوداً فقوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ معناه إلا لنعلمه موجوداً فإن قيل فهذا يقتضي حدوث العلم قلنا اختلفوا في أن العلم بأن الشيء سيوجد هل هو علم بوجوده إذا وجد الخلاف فيه مشهور وثالثها إلا لنميز هؤلاء من هؤلاء بانكشاف ما في قلوبهم من الإخلاص والنفاق فيعلم المؤمنون من يوالون منهم ومن يعادون فسمي التمييز علماً لأنه أحد فوائد العلم وثمراته ورابعها إِلاَّ لِنَعْلَمَ معناه إلا لنرى ومجاز هذا أن العرب تضع العلم مكان الرؤية والرؤية مكان العلم كقوله أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ( الفجر 6 ) ( الفيل 1 ) ( إبراهيم 19 ) ورأيت وعلمت وشهدت ألفاظ متعاقبة وخامسها ما ذهب إليه الفراء وهو أن حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين ومثاله أن جاهلاً وعاقلاً اجتمعا فيقول الجاهل الحطب يحرق النار ويقول العاقل بل النار تحرق الحطب وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه معناه لنعلم أينا الجاهل فكذلك قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ إلا لتعلموا والغرض من هذا الجنس من الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى ( سبأ 24 ) فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب ورفقاً بالمخاطب فكذا قوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ وسادسها نعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم إذ العدل يوجب ذلك وسابعها أن العلم صلة زائدة فقوله إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ معناه إلا ليحصل اتباع المتبعين وانقلاب المنقلبين ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني والمعنى أنه لو كان لعلمه الله
المسألة الثالثة اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة أو بسبب تحويلها فمن الناس من قال إنما حصلت بسبب تعيين القبلة لأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة فلما جاء المدينة صلى إلى بيت المقدس فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ثم إنه لما حوله مرة أخرى إلى الكعبة شق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم وأما الأكثرون من أهل التحقيق قالوا هذه المحنة إنما حصلت بسبب التحويل فإنهم قالوا إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه روى القفال عن ابن جريح أنه قال بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا مرة ههنا ومرة ههنا وقال السدي لما توجه النبي عليه الصلاة والسلام نحو المسجد الحرام اختلف الناس فقال المنافقون ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها وقال المسلمون لسنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس وقال آخرون اشتاق إلى بلد أبيه ومولده وقال المشركون تحير في دينه
واعلم أن هذا القول الأخير أولى لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة وقد وصفها الله تعالى بالكبيرة فقال وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فكان حمله عليه أولى
المسألة الرابعة قوله مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ استعارة ومعناه من يكفر بالله ورسوله ووجه الاستعارة أن المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه فلما تركوا الإيمان والدلائل صاروا بمنزلة المدبر عما بين يديه فوصفوا بذلك كما قال تعالى ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ( المدثر 23 ) وكما قال كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( طه 48 ) وكل ذلك تشبيه
أما قوله تعالى وَإِن كَانَتْ ففيه مسائل
المسألة الأولى ( إن ) المكسورة الخفيفة معناها على أربعة أوجه جزاء ومخففة من الثقيلة وجحد وزائدة أما الجزاء فهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى فالمستلزم هو الشرط واللازم هو الجزاء كقولك إن جئتني أكرمتك وأما الثانية وهي المخففة من الثقيلة فهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة ءانٍ المشددة كقولك إن زيداً لقائم قال الله تعالى إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ( الطارق 4 ) وقال إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً ( الإسراء 108 ) ومثله في القرآن كثير والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها والفرق بينها وبين التي للجحد في قوله تعالى إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ ( الملك 20 ) وقوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَى َّ ( الأحقاف 9 ) إذ كانت كل واحدة منهما يليها الإسم والفعل جميعاً كما وصفنا وأما الثالثة وهي التي للجحد كقوله إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ ( الأنعام 57 ) وقال إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ( الأنعام 148 ) وقال وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا ( فاطر 41 ) أي ما يمسكهما وأما الرابعة وهي الزائدة فكقولك ما إن رأيت زيداً
إذا عرفت هذا فنقول ءانٍ في قوله وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً ( البقرة 143 ) هي المخففة التي تلزمها اللام والغرض منها توكيد المعنى في الجملة
المسألة الثانية الضمير في قوله كَانَتْ إلى أي شيء يعود فيه وجهان
الأول أنه يعود إلى القبلة لأنه لا بد له من مذكور سابق وما ذاك إلا القبلة في قوله وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَة َ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا ( البقرة 143 ) الثاني أنه عائد إلى ما دل عليه الكلام السابق وهي مفارقة القبلة والتأنيث للتولية لأنه قال مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ثم قال عطفاً على هذا وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً أي وإن كانت التولية لأن قوله وَمَا وَلَّاهُمْ يدل على التولية كما قيل في قوله تعالى وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ( الأنعام 121 ) ويحتمل أن يكون المعنى وإن كانت هذه الفعلة نظيره قوله فيها ونعمت واعلم أن هذا البحث متفرع على المسألة التي قدمناها وهي أن الامتحان والابتلاء حصل بنفس القبلة أو بتحويل القبلة وقد بينا أن الثاني أولى لأن الإشكال الحاصل بسبب النسخ أقوى من الإشكال الحاصل بسبب تلك الجهات ولهذا وصفه الله تعالى بالكبيرة في قوله وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً
أما قوله تعالى لَكَبِيرَة ٌ فالمعنى لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله كَبُرَتْ كَلِمَة ً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ
( الكهف 5 ) أي عظمت الفرية بذلك وقال الله تعالى سُبْحَانَكَ هَاذَا عَذَابٌ عظِيمٌ ( النور 16 ) وقال إِنَّ ذالِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً ( الأحزاب 53 ) ثم إنا إن قلنا الامتحان وقع بنفس القبلة قلنا إن تركها ثقيل عليهم لأن ذلك يقتضي ترك الألف والعادة والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف وإن قلنا الامتحان وقع بتحريف القبلة قلنا إنها لثقيلة من حيث أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف أن ذلك حق إلا بعد أن عرف مسألة النسخ وتخلص عما فيها من السؤالات وذلك أمر ثقيل صعب إلا على من هداه الله تعالى حتى عرف أنه لا يستنكر نقل القبلة من جهة إلى جهة كما لا يستنكر نقلة إياهم من حال إلى حال في الصحة والسقم والغنى والفقر فمن اهتدى لهذا النظر ازداد بصره ومن سفه واتبع الهوى وظواهر الأمور ثقلت عليه هذه المسألة
أما قوله إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فاحتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة خلق الأعمال فقالوا المراد من الهداية إما الدعوة أو وضع الدلالة أو خلق المعرفة والوجهان الأولان ههنا باطلان وذلك لأنه تعالى حكم بكونها ثقيلة على الكل إلا على الذين هدى الله فوجب أن يقال إن الذي هداه الله لا يثقل ذلك عليه والهداية بمعنى الدعوة ووضع الدلائل عامة في حق الكل فوجب أن لا يثقل ذلك على أحد من الكفار فلما ثقل عليهم علمنا أن المراد من الهداية ههنا خلق المعرفة والعلم وهو المطلوب قالت المعتزلة الجواب عنه من ثلاثة أوجه أحدها أن الله تعالى ذكرهم على طريق المدح فخصهم بذلك وثانيها أراد به الاهتداء وثالثها أنهم الذين انتفعوا بهدى الله فغيرهم كأنه لم يعتد بهم
والجواب عن الكل أنه ترك للظاهر فيكون على خلاف الأصل والله أعلم
أما قوله تعالى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ففيه مسائل
المسألة الأولى أن رجالاً من المسلمين كأبي أمامة وسعد بن زرارة والبراء بن عازب والبراء بن معرور وغيرهم ماتوا على القبلة الأولى فقال عشائرهم يا رسول الله توفى إخواننا على القبلة الأولى فكيف حالهم فأنزل الله تعالى هذه الآية
واعلم أنه لا بد من هذا السبب وإلا لم يتصل بعض الكلام ببعض ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوزوا النسخ إلا مع البداء يقولون إنه لما تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة وباطلاً فوقع في قلبهم بناء على هذا السؤال أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الإشكال وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ومن تكليف إلى تكليف والأول كالثاني في أن القائم به متمسك بالدين وأن من هذا حاله فإنه لا يضيع أجره ونظيره ما سألوا بعد تحريم الخمر عمن مات وكان يشربها فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ ( المائدة 93 ) فعرفهم الله تعالى أنه لا جناح عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى فإن قيل إذا كان الشك إنما تولد من تجويز البداء على الله تعالى فكيف يليق ذلك بالصحابة قلنا الجواب من وجوه أحدها أن ذلك الشك وقع لمنافق فذكر الله تعالى ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق وثانيها لعلهم اعتقدوا أن الصلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا ليت إخواننا ممن مات أدرك ذلك فذكر الله
تعالى هذا الكلام جواباً عن ذلك وثالثها لعله تعالى ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك السؤال لو خطر ببالهم
القول الثاني وهو قول ابن زيد أن الله تعالى إذا علم أن الصلاح في نقلكم من بيت المقدس إلى الكعبة فلو أقركم على الصلاة إلى بيت المقدس كان ذلك إضاعة عنه لصلاتكم لأنها تكون على هذا التقدير خالية عن المصالح فتكون ضائعة والله تعالى لا يفعل ذلك
القول الثالث أنه تعالى لما ذكر ما عليهم من المشقة في هذا التحويل عقبه بذكر ما لهم عنده من الثواب وأنه لا يضيع ما عملوه وهذا قول الحسن
القول الرابع كأنه تعالى قال وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا ولو كفروا لضاع إيمانهم فقال وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ فلا جرم وفقكم لقبول هذا التكليف وأعانكم عليه
المسألة الثانية اختلفوا في أن قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ خطاب مع من على قولين الأول أنه مع المؤمنين وذكر القفال على هذا القول وجوهاً أربعة الأول أن الله خاطب به المؤمنين الذين كانوا موجودين حينئذ وذلك جواب عما سألوه من قبل الثاني أنهم سألوا عمن مات قبل نسخ القبلة فأجابهم الله تعالى بقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي وإذا كان إيمانكم الماضي قبل النسخ لا يضيعه الله فكذلك إيمان من مات قبل النسخ الثالث يجوز أن يكون الأحياء قد توهموا أن ذلك لما نسخ بطل وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كفارة لما سلف واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ولم يأتوا بما يكفر ما سلف فقيل وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ والمراد أهل ملتكم كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا ( البقرة 72 ) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ( البقرة 50 ) الرابع يجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً فإنهم اشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين فقيل إيمانكم للأحياء والأموات إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب فيقولوا كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم
القول الثاني قول أبي مسلم وهو أنه يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب والمراد بالإيمان صلاتهم وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ وإنما اختار أبو مسلم هذا القول لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا
المسألة الثالثة استدلت المعتزلة بقوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات فإنه تعالى أراد بالإيمان ههنا الصلاة والجواب لا نسلم أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة بل المراد منه التصديق والإقرار فكأنه تعالى قال أنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة سلمنا أن المراد من الإيمان ههنا الصلاة ولكن الصلاة أعظم الإيمان وأشرف نتائجه وفوائده فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الإستعارة من هذه الجهة
المسألة الرابعة قوله وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي لا يضيع ثواب إيمانكم لأن الإيمان قد
انقضى وفنى وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته إلا أن استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه فصح حفظه وإضاعته وهو كقوله تعالى أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ ( آل عمران 195 )
أما قوله إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال القفال رحمه الله الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضرر كقوله وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَة ٌ فِى دِينِ اللَّهِ ( النور 2 ) أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام وقد سمى الله تعالى المطر رحمة فقال وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ ( الأعراف 57 ) لأنه إفضال من الله وإنعام فذكر الله تعالى الرأفة أولاً بمعنى أنه لا يضيع أعمالهم ويخفف المحن عنهم ثم ذكر الرحمة لتكون أعم وأشمل ولا تختص رحمته بذلك النوع بل هو رحيم من حيث أنه دافع للمضار التي هي الرأفة وجالب للمنافع معاً
المسألة الثانية ذكروا في وجه تعلق هذين الاسمين بما قبلهما وجوهاً أحدها أنه تعالى لما أخبر أنه لا يضيع إيمانهم قال إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ ( الحج 65 ) والرؤف الرحيم كيف يتصور منه هذه الإضاعة وثانيها أنه لرؤف رحيم فلذلك ينقلكم من شرع إلى شرع آخر وهو أصلح لكم وأنفع في الدين والدنيا وثالثها قال وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَة ً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فكأنه تعالى قال وإنما هداهم الله ولأنه رؤف رحيم
المسألة الثالثة قرأ عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ مهموزاً غير مشبع على وزن رعف والباقون رؤف مثقلاً مهموزاً مشبعاً على وزن رعوف وفيه أربع لغات رئف أيضاً كحزر ورأف على وزن فعل
المسألة الرابعة استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا لأنه تعالى بين أنه بالناس لرؤف رحيم والكفار من الناس فوجب أن يكون رؤفاً رحيماً بهم وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكفر الذي يجرهم إلى العقاب الدائم والعذاب السرمدي ولو لم يكلفهم ما لا يطيقون فإنه تعالى لو كان مع مثل هذا الإضرار رؤفاً رحيماً فلعى أي طريق يتصور أن لا يكون رؤفاً رحيماً واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مراراً والله أعلم
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
اعلم أن قوله رَّحِيمٌ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فيه قولان
القول الأول وهو المشهور الذي عليه أكثر المفسرين أن ذلك كان لانتظار تحويله من بيت المقدس إلى الكعبة والقائلون بهذا القول ذكروا وجوهاً أحدها أنه كان يكره التوجه إلى بيت المقدس ويحب التوجه إلى الكعبة إلا أنه ما كان يتكلم بذلك فكان يقلب وجهه في السماء لهذا المعنى روى عن ابن عباس أنه قال ( يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها فقد كرهتها ) فقال له جبريل ( أنا عبد مثلك فاسأل ربك ذلك ) فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فأنزل الله تعالى هذه الآية وهؤلاء ذكروا في سبب هذه المحنة أموراً الأول أن اليهود كانوا يقولون إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل فعند ذلك كره أن يتوجه إلى قبلتهم الثاني أن الكعبة كانت قبلة إبراهيم الثالث أنه عليه السلام كان يقدر أن يصير ذلك سبباً لاستمالة العرب ولدخولهم في الإسلام الرابع أنه عليه السلام أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه لا في مسجد آخر واعترض القاضي على هذا الوجه وقال أنه لا يليق به عليه السلام أن يكره قبلة أمر أن يصلي إليها وأن يحب أن يحوله ربه عنها إلى قبلة يهواها بطبعه ويميل إليها بحسب شهوته لأنه عليه السلام علم وعلم أن الصلاح في خلاف الطبع والميل واعلم أن هذا التأويل قليل التحصيل لأن المستنكر من الرسول أن يعرض عما أمره الله تعالى به ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه فأما أن يميل قلبه إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه فذلك مما لا إنكار عليه لا سيما إذا لم ينطق به أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه
الوجه الثاني أنه عليه السلام قد استأذن جبريل عليه السلام في أن يدعو الله تعالى بذلك فأخبره جبريل بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئاً إلا بإذن منه لئلا يسألوا ما لا صلاح فيه فلا يجابوا إليه فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم فلما أذن الله تعالى له في الإجابة علم أنه يستجاب إليه فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في الإجابة
الوجه الثالث قال الحسن إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخبره أن الله تعالى سيحول القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى ولم يبين له إلى أي موضع يحولها ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الكعبة فكان رسول الله يقلب وجهه في السماء ينتظر الوحي لأنه عليه السلام علم أن الله تعالى لا يتركه بغير صلاة فأتاه جبريل عليه السلام فأمره أن يصل نحو الكعبة والقائلون بهذا الوجه اختلفوا فمنهم من قال إنه عليه السلام منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة فكان يخاف أن يرد وقت الصلاة ولم تظهر القبلة فتتأخر صلاته فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم وقال آخرون بل وعد بذلك وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك ولأنه كان يرجو عند التحويل عن بيت المقدس إلى الكعبة وجوهاً كثيرة من المصالح الدينية نحو رغبة العرب في الإسلام والمباينة عن اليهود وتمييز الموافق من المنافق فلهذا كان يقلب وجهه وهذا الوجه أولى وإلا لما كانت القبلة الثانية ناسخة للأولى بل كانت مبتدأة والمفسرة أجمعوا على أنها ناسخة للأولى ولأنه لا يجوز أن
يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه الرابع أن تقلب وجهه في السماء هو الدعاء
القول الثاني وهو قول أبي مسلم الأصفهاني قالوا لولا الأخبار التي دلت على هذا القول وإلا فلفظ الآية يحتمل وجهاً آخر وهو أنه يحتمل أنه عليه السلام إنما كان يقلب وجهه في أول مقدمة المدينة فقد روي أنه عليه السلام كان إذا صلى بمكة جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس وهذه صلاة إلى الكعبة فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه فانتظر أمر الله تعالى حتى نزل قوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
المسألة الثانية اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدس فقال قوم كان بمكة يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً وقال قوم بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها وقال قوم بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وبالمدينة أولاً سبعة عشر شهراً ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح
المسألة الثالثة اختلفوا في توجه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره أو كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مخيراً في توجهه إليه وإلى غيره فقال الربيع بن أنس قد كان مخيراً في ذلك وقال ابن عباس كان التوجه إليه فرضاً محققاً بلا تخيير
واعلم أنه على أي الوجهين كان قد صار منسوخاً واحتج الذاهبون إلى القول الأول بالقرآن والخبر أما القرآن فقوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ( البقرة 115 ) وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء وأما الخبر فما روى أبو بكر الرازي في كتاب ( أحكام القرآن ) أن نفراً قصدوا الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة وكان فيهم البراء بن معرور فتوجه بصلاته إلى الكعبة في طريقه وأبى الآخرون وقالوا إنه عليه السلام يتوجه إلى بيت المقدس فلما قدموا مكة سألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثبت عليها أجزأك ولم يأمره باستئناف الصلاة فدل على أنهم قد كانوا مخيرين واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأنه تعالى قال فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا فدل على أنه عليه السلام ما كان يرتضي القبلة الأولى فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجه إليها فحيث توجه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكعبة
المسألة الرابعة المشهور أن التوجه إلى بيت المقدس إنما صار منسوخاً بالأمر بالتوجه إلى الكعبة ومن الناس من قال التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ واحتجوا عليه بالقرآن والأثر أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولاً قوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ثم ذكر بعد سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ( البقرة 142 ) ثم ذكر بعده فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وهذا الترتيب يقتضي صحة المذهب الذي قلناه بأن التوجه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فلزم أن يكون قوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل فثبت ما قلناه وأما الأثر فما روي عن ابن عباس أمر القبلة أول ما نسخ من القرآن والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن إنما المذكور في القرآن وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فوجب أن يكون قوله فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ناسخاً لذلك لا للأمر بالتوجه إلى بيت المقدس
أما قوله فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَة ً تَرْضَاهَا ففيه مسائل
المسألة الأولى فَلَنُوَلّيَنَّكَ فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها من قولك وليته كذا إذا جعلته والياً له أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سميت بيت المقدس
المسألة الثانية قوله تَرْضَاهَا فيه وجوه أحدها ترضاها تحبها وتميل إليها لأن الكعبة كانت أحب إليه من غيرها بحسب ميل الطبع قال القاضي هذا لا يجوز فإنه من المحال أن يقول الله تعالى فلنولينك قبلة يميل طبعك إليها لأن ذلك يقدح في حكمته تعالى فيما يكلف ويقدح في حال النبي عليه الصلاة والسلام فيما يريده في حال التكليف وهذا الاعتراض ضعيف لأن الطعن إنما يتوجه لو قال الله تعالى أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها بمجرد ميل طبعك فأما لو قال أنا حولناك إلى القبلة التي مال طبعك إليها لأجل أن الحكمة والمصلحة وافقت ميل طبعك فأي ضرر يلزم منه وقال عليه الصلاة والسلام ( وجعلت قرة عيني في الصلاة ) فكان طبعه يميل إلى الصلاة مع أن المصلحة كانت موافقة لذلك وثانيها قِبْلَة ً تَرْضَاهَا أي تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية وثالثها قال الأصم أي كل جهة وجهك الله إليها فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من انقلب على عقيبه من العرب الذين كانوا قد أسلموا فلما تحولت القبلة ارتدوا ورابعها تَرْضَاهَا أي ترضى عاقبتها لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام فمن يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها أو مال يكتسبه
أما قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ففيه مسائل
المسألة الأولى المراد من الوجه ههنا جملة بدن الإنسان لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء لأن الوجه أشرف الأعضاء ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه
المسألة الثانية قال أهل اللغة الشطر اسم مشترك يقع على معنيين أحدهما النصف يقال شطرت الشيء أي جعلته نصفين ويقال في المثل أجلب جلباً لك شطره أي نصفه والثاني نحوه وتلقاءه وجهته واستشهد الشافعي رضي الله عنه في كتاب ( الرسالة ) على هذا بأبيات أربعة قال خقاف بن ندبة ألا من مبلغ عمراً رسولا
وما تغني الرسالة شطر عمرو
وقال ساعدة بن جؤبة أقول لأم زنباع أقيمي
صدور العيس شطر بني تميم
وقال لقيط الأيادي وقد أظلكم من شطر شعركم
هول له ظلم يغشاكم قطعا
وقال آخر إن العسير بها داء مخامرها
فشطرها بصر العينين مسحور
قال الشافعي رضي الله عنه يريد تلقاءها بصر العينين مسحور إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان
الأول وهو قول جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين واختيار الشافعي رضي الله عنه في كتاب الرسالة أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه وجانبه قرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام
القول الثاني وهو قول الجبائي واختيار القاضي أن المراد من الشطر ههنا وسط المسجد ومنتصفه لأن الشطر هو النصف والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب فلما كان الواجب هو التوجه إلى الكعبة وكانت الكعبة واقعة في نصف المسجد حسن منه تعالى أن يقول فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يعني النصف من كل جهة وكأنه عبارة عن بقعة الكعبة قال القاضي ويدل على أن المراد ما ذكرنا وجهان الأول أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لا تصح صلاته الثاني أنا لو فسرنا الشطر بالجانب لم يبق لذكر الشطر مزيد فائدة لأنك إذا قلت فول وجهك شطر المسجد الحرام فقد حصلت الفائدة المطلوبة أما لو فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة فإنه لو قيل فول وجهك المسجد الحرام لا يفهم منه وجوب التوجه إلى منتصفه الذي هو موضع الكعبة فلما قيل فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حصلت هذه الفائدة الزائدة فكان حمل هذا اللفظ على هذا المحمل أولى فإن قيل لو حملنا الشطر على الجانب يبقى لذكر الشطر فائدة زائدة وهي أنه لو قال فول وجهك المسجد الحرام لزم تكليف ما لا يطاق لأن من في أقصى المشرق أو المغرب لا يمكنه أن يولي وجهه المسجد أما إذا قال فول وجهك شطر المسجد الحرام أي جانب المسجد دخل فيه الحاضرون والغائبون قلنا هذه الفائدة مستفادة من قوله مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فلا يبقى لقوله شطر المسجد الحرام زيادة فائدة هذا تقرير هذا الوجه وفيه إشكال لأنه يصير التقدير فول وجهك نصف المسجد وهذا بعيد لأن هذا التكليف لا تعلق له بالنصف وفرق بين النصف وبين الموضع الذي عليه يقبل التنصيف والكلام إنما يستقيم لو حمل على الثاني إلا أن اللفظ لا يدل عليه وقد اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام أي شيء هو فحكي في كتاب ( شرح السنة ) عن ابن عباس أنه قال البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب وهذا قول مالك وقال آخرون القبلة هي الكعبة والدليل عليه ما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أخبرني أسامة بن زيد قال لما دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج صلى ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة قال القفال وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة وفي خبر البراء بن عازب ثم صرف إلى الكعبة وكان يحب أن يتوجه إلى الكعبة وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء فأتاهم آت فقال إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حول إلى الكعبة وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس جاء منادي رسول الله فنادى أن القبلة حولت إلى الكعبة وهكذا عامة الروايات وقال آخرون بل المراد المسجد الحرام كله قالوا لأن الكلام
يجب إجراؤه على ظاهر لفظه إلا إذا منع منه مانع وقال آخرون المراد من المسجد الحرام الحرم كله والدليل عليه قوله تعالى سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ( الإسراء 1 ) وهو عليه الصلاة والسلام إنما أسرى به خارج المسجد فدل هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام
المسألة الثالثة قال صاحب التهذيب الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام والقوم يقفون مستديرين بالبيت فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز فلو امتد الصف في المسجد فإنه لا تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة وعند أبي حنيفة تصح لأن عنده الجهة كافية وهذا اختيار الشيخ الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء حجة الشافعي رضي الله عنه القرآن والخبر والقياس أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه وجانب الشيء هو الذي يكون محاذياً له وواقعاً في سمته والدليل عليه أنه إنما يقال إن زيداً ولى وجهه إلى جانب عمرو ولو قابل بوجهه وجهه وجعله محاذياً له حتى أنه لو كان وجه كل واحد منهما إلى جانب المشرق إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذياً لوجه الآخر لا يقال إنه ولى وجهه إلى جانب عمرو فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب
وأما الخبر فما روينا أنه عليه الصلاة والسلام لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قبلة الكعبة وقال هذه القبلة وهذه الكلمة تفيد الحصر فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة وكذلك سائر الأخبار التي رويناها في أن القبلة هي الكعبة وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في تعظيم الكعبة أمر بلغ مبلغ التواتر والصلاة من أعظم شعائر الدين وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة بما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة فوجب أن يكون مشورعاً ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم وكون غيرها قبلة أمر مكشوك والأولى رعاية الاحتياط في الصلاة فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة واحتج أبو حنيفة بأمور الأول ظاهر هذه الآية وذلك لأنه تعالى أوجب على المكلف أن يولي وجهه إلى جانبه فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه فقد أتى بما أمر به سواء كان مستقبلاً للكعبة أم لا فوجب أن يخرج عن العهدة وأما الخبر فما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال ( ما بين المشرق والمغرب قبلة ) قال أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى ليس المراد من هذا الحديث أن كل ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة لأن جانب القطب الشمالي يصدق عليه ذلك وهو بالاتفاق ليس بقبلة بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ومغرب معين قبلة ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي وبين المغرب الصيفي فإن ذلك قبلة وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل والذي بينهما هو سمت مكة قالوا فهذا الحديث بأن يدل على مذهبنا أولى منه بالدلالة على مذهبكم أما فعل الصحابة فمن وجهين الأول أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين للكعبة لأن المدينة بينهما فقيل لهم ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة ولم ينكر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم وسمي مسجدهم بذي القبلتين ومقابلة العين من المدينة إلى مكة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل الثاني أن الناس من عهد
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام ولم يحضروا قط مهندساً عند تسوية المحراب ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة
وأما القياس فمن وجوه الأول لو كان استقبال عين الكعبة واجباً إما علماً أو ظناً وجب أن لا تصح صلاة أحد قط لأنه إذا كان محاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعاً فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة هذا المقدار بل المعلوم أن الذي يقع منهم في محاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب والنادر ملحق به فوجب أن لا تصح صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في محاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في محاذاتها وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة غير معتبرة فإن قيل الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائرة إلا أن الدائرة إذا صغرت صغر التقوس والانحناء في جميعها وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسميها بل نرى كل قطعة منها شبيهاً بالخط المستقيم فلا جرم صحت الجماعة بصف طويل في المشرق والمغرب يزيد طولها على أضعاف البيت والكل يسمون متوجهين إلى عين الكعبة قلنا هب أن الأمر على ما ذكرتموه ولكن القطعة من الدائرة العظيمة وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في الحس إلا أنها لا بد وأن تكون منحنية في نفسها لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة فحينئذ تكون الدائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتصل بعضها ببعض فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطأ مستقيماً وكل ذلك محال فعلمنا أن كل قطعة من الدائرة الكبيرة فهي في نفسها منحنية فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منهم مستقبلاً لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على الخط المستقيم بل إذا حصل فيها ذلك الانحناء القليل إلا أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس البتة لا يمكن أن يكون في محل التكليف وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلاً بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أم لا فلو كان استقبال عين الكعبة شرطاً لكان حصول هذا الشرط مجهولاً للكل والشك في حصول الشرط يقتضي الشك في حصول المشروط فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكاً في صحة صلاته وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العهدة البتة وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علماً ولا ظناً وهذا كلام بين الثاني أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجباً ولا سبيل إليه إلا بالدلالة الهندسية وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجباً على كل أحد ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب فإن قيل عندنا استقبال عين الجهة واجب ظناً لا يقيناً والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقيناً لا ظناً قلنا لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لكان القادر على تحصيل اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن والرجل قادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة واجب
الثالث لو كان استقبال العين واجباً إما علماً أو ظناً ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الإمارات وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الامارات فرض عين على كل واحد من المكلفين ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال العين غير واجب
المسألة الرابعة في دلائل القبلة اعلم أن الدلائل إما أرضية وهي الاستدلال بالجبال والقرى والأنهار أو هوائية وهي الاستدلال بالرياح أو سماوية وهي النجوم
أما الأرضية والهوائية غير مضبوطة ضبطاً كلياً فرب طريق فيه جبل مرتفع لا يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه فكذلك الرياح قد تدل في بعض البلاد ولسنا نقدر على استقصاء ذلك إذ كل بلد بحكم آخر في ذلك
أما السماوية فأدلتها منها تقريبية ومنها تحقيقية أما التقريبية فقد قالوا هذه الأدلة إما أن تكون نهارية أو ليلية أما النهارية فالشمس فلا بد وأن يراعى قبل الخروج من البلد أن الشمس عند الزوال أهي بين الحاجبين أم هي على العين اليمنى أم اليسرى أو تميل إلى الجبين ميلاً أكثر من ذلك فإن الشمس لا تعدو في البلاد الشمالية هذه المواقع وكذلك يراعى موقع الشمس وقت العصر وأما وقت المغرب فإنما يعرف ذلك بموضع الغروب وهو أن يعرف بأن الشمس تغرب عن يمين المستقبل أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه وكذلك يعرف وقت العشاء الآخرة بموضع الشفق ويعرف وقت الصبح بمشرق الشمس فكان الشمس تدل على القبلة في الصلوات الخمس ولكن يختلف حكم ذلك بالشتاء والصيف فإن المشارق والمغارب كثيرة وكذلك يختلف الحكم في هذا الباب بحسب اختلاف البلاد وأما الليليلة فهو أن يستدل على القبلة بالكوكب الذي يقال له الجدي فإنه كوكب كالثابت لا تظهر حركته من موضعه وذلك إما أن يكون على قفا المستقبل أو منكبه الأيمن من ظهره أو منكبه الأيسر في البلاد الشمالية من مكة وفي البلاد الجنوبية منها كاليمن وما وراءها يقع في مقابلة المستقبل فليعلم ذلك وما عرفه ببلده فليعول عليه في الطريق كله إلا إذا طال السفر فإن المسافة إذا بعدت اختلف موقع الشمس وموقع القطر وموقع المشارق والمغارب إلى أن ينتهي في أثناء سفره إلى بلد فينبغي أن يسأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو مستقبل محراب جامع البلد حتى يتضح له ذلك فمهما تعلم هذه الأدلة فله أن يعول عليها
وأما الطريقة اليقينية وهي الوجوه المذكورة في كتب الهيئة قالوا سمت القبلة نقطة التقاطع بين دائرة الأفق وبين دائرة عظيمة تمر بسمت رؤسنا ورؤوس أهل مكة وانحراف القبلة قوس من دائرة الأفق ما بين سمت القبلة دائرة نصف النهار في بلدنا وما بين سمت القبلة ومغرب الاعتدال تمام الانحراف قالوا ويحتاج في معرفة سمت القبلة إلى معرفة طول مكة وعرضها فإن كان طول البلد مساوياً لطول مكة وعرضها مخالف لعرض مكة كان سمت قبلتها على خط نصف النهار فإن كان البلد شمالياً فإلى الجنوب وإن كان جنوبياً فإلى الشمالي وأما إذا كان عرض البلد مساوياً لعرض مكة وطوله مخالفاً لطولها فقد يظن أن سمت قبلة ذلك البلد على خط الاعتدال وهو ظن خطأ وقد يمكن أيضاً في البلاد التي أطوالها وعروضها مخالفة لطول مكة وعرضها أن يكون سمت قبلتها مطلع الاعتدال ومعربه وإذا كان كذلك فلا بد من استخراج قدر الانحراف ولذلك طرق أسهلها أن يعرف الجزء الذي يسامت رؤس أهل مكة من فلك البروج وهو ( زيح ) من الجوزاء ( وكج ح ) من
السرطان فيضع ذلك الجزء على خط وسط السماء في الاسطرلاب المعمول لعرض البلد ويعلم على المرئي علامة ثم يدير العنكبوت إلى ناحية المغرب إن كان البلد شرقياً عن مكة كما في بلاد خراسان والعراق بقدر ما بين الطولين من أجزاء الخجرة ثم ينظر أين وقع ذلك الجزء من مقنطرات الارتفاع فما كان فهو الارتفاع الذي عنده يسامت ذلك الجزء رؤوس أهل مكة ثم يرصد مسامتة الشمس ذلك الجزء فإذا انتهى ارتفاع الشمس إلى ذلك الارتفاع فقد سامتت الشمس رؤس أهل مكة فينصب مقياساً ويخط على ظل المقياس خطاً من مركز العمود إلى طرف الظل فذلك الخط خط الظل فيبني عليه المحراب فهذا هو الكلام في دلائل القبلة
المسألة الخامسة معرفة دلائل القبلة فرض على العين أم فرض على الكفاية ففيه وجهان أصحهما فرض على العين لأن كل مكلف فهو مأمور بالاستقبال ولا يمكنه الاستقبال إلا بواسطة معرفة دلائل القبلة وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب
المسألة السادسة اعلم أن قوله تعالى مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عام في الأشخاص والأحوال إلا أنا أجمعنا على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب بل أنه طاعة لقوله عليه السلام ( خير المجالس ما استقبل به القبلة ) فيبقى أن وجوب الاستقبال من خواص الصلاة ثم نقول الرجل إما أن يكون معايناً للقبلة أو غائباً عنها أما المعاين فقد أجمعوا على أنه يجب عليه الاستقبال وأما الغائب فإما أن يكون قادر على تحصيل اليقين أو لا يقدر عليه لكنه يقدر على تحصيل الظن أو لا يقدر على تحصيل اليقين ولا على تحصيل الظن فهذه أقسام ثلاثة
القسم الأول القادر على تحصيل العلم وفيه بحثان
البحث الأول قد عرفت أن الغائب عن القبلة لا سبيل له إلى تحصيل اليقين بجهة القبلة إلا بالدلائل الهندسية وما لا سبيل إلى أداء الواجب إلا به فهو واجب فيلزم من هذا أن يكون تعلم الدلائل الهندسية فرض عين على كل أحد إلا أن الفقهاء قالوا إن تعلمها غير واجب بل ربما قالوا إن تعلمها مكروه أو محرم ولا أدري ما عذرهم فيه هذا
البحث الثاني المصلي إذا كان بأرض مكة وبينه وبين الكعبة حائل واشتبه عليه فهل له أن يجتهد قال صاحب ( التهذيب ) نظر إن كان الحائل أصلياً كالجبال فله الاجتهاد وإن لم يكن أصلياً كالأبنية فعلى وجهين أحدهما له الاجتهاد لأن بينه وبينها حائلاً يمنع المشاهدة كما في الحائل الأصلي والثاني ليس له الاجتهاد لأن فرضه الرجوع إلى اليقين وهو قادر على تحصيل اليقين فوجب أن لا يكتفي فيه بالظن وهذا الوجه هو اللائق بمساق الآية لأنها لما دلت على وجوب التوجه إلى الكعبة والمكلف إذا كان قادراً على تحصيل العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن فوجب عليه طلب اليقين
القسم الثاني القادر على تحصيل الظن دون اليقين واعلم أن لتحصيل هذا الظن طرقاً
الطريق الأول الاجتهاد وظاهر قول الشافعي رضي الله عنه يقتضي أن الاجتهاد يقدم على الرجوع إلى قول الغير وهو الحق والذي يدل عليه وجوه أحدها قوله تعالى فَاعْتَبِرُواْ ياأُوْلِى أُوْلِى الاْبْصَارِ ( الحشر 2 )
أمر بالاعتبار والرجل قادر على الاعتبار في هذه الصورة فوجب أن يتناوله الأمر وثانيها أن ذلك الغير إنما وصل إلى جهة القبلة بالاجتهاد لأنه لو عرف القبلة بالتقليد أيضاً لزم إما التسلسل أو الدور وهما باطلان فلا بد من الانتهاء آخر الأمر إلى الاجتهاد فيرجع حاصل الكلام إلى أن الاجتهاد أولى أم تقليد صاحب الاجتهاد ولا شك أن الأول أولى لأنه إذا أتى بالاجتهاد فلا يتطرق إليه احتمال الخطأ من جهة واحدة فإذا قلد صاحب الاجتهاد فقد تطرق إلى عمله احتمال الخطأ من وجهين ولا شك أنه متى وقع التعارض بين طريقين فأقلهما خطأ أولى بالرعاية وثالثها قوله عليه السلام ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) فههنا أمر بالاستقبال وهو قادر على الاجتهاد في الطلب فوجب أن يجب عليه ذلك
فإن قيل أليس أن صاحب ( التهذيب ) ذكر أنه إذا كان في قرية كبيرة فيها محاريب منصوبة إلى جهة واحدة أو وجد محراباً أو علامة للقبلة في طريق هي جادة للمسلمين يجب عليه أن يتوجه إليها ولا يجوز له الاجتهاد في الجهة قال لأن هذه العلامات كاليقين أما في الانحراف يمنة أو يسرة فيجوز أن يجتهد مع هذه العلامات وكان عبد الله بن المبارك يقول بعد رجوعه من الحج تياسروا يا أهل مرو وكذلك لو أخبره مسلم بأن قال رأيت غالب المسلمين أو جماعة المسلمين اتفقوا على هذه الجهة فعليه قبوله وليس هذا بتقليد بل هو قبول الخبر من أهله كما في الوقت وهو ما إذا أخبره عدل إني رأيت الفجر قد طلع أو الشمس قد زالت يجب قبول قوله هذا كله لفظ صاحب ( التهذيب ) واعلم أن هذا الكلام مشكل من وجوه أحدها أنه لا معنى للتقليد إلا قبول قول الغير من غير حجة ولا شبهة فإذا قبلنا قول الغير أو فعله في تعيين القبلة من غير حجة ولا شبهة كان هذا تقليداً ونحن قد ذكرنا الدليل على أن القادر على الاجتهاد لا بد وأن يكون مأموراً بالاجتهاد وثانيها أنه جوز المخالفة في اليمين واليسار بناء على الاجتهاد فنقول هو قادر على تحصيل الظن بناء على الاجتهاد الذي يتولاه بنفسه فوجب أن تجوز له المخالفة كما في اليمين واليسار وثالثها إما أن يكون ممنوعاً من الاجتهاد أو من العمل بمقتضى الاجتهاد والأول باطل لأن معاذاً لما قال اجتهد برأي مدحه الرسول عليه السلام على ذلك فدل على أن الاجتهاد غير ممنوع عنه والثاني أيضاً باطل لأنه لما علم أو ظن أن القبلة ليست في الجهة التي فيها المحاريب فلو وجب عليه التوجه إلى ذلك المحراب لكان ذلك ترجيحاً للتقليد على الاستدلال وأنه خطأ ورابعها أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يجوز للمجتهد تقليد المجتهد فالقادر على تحصيل جهة القبلة بالامارات كيف يجوز له تقليد محاريب البلاد واحتج القائلون بترجيح محاريب الأمصار على البلاد من وجوه الأول أنها كالتواتر مع الاجتهاد فوجب رجحانه عليه والثاني أن الرجل إذا رأى المؤذن فرغ من الأذان والإقامة وقد تقدم الإمام فههنا لا يحتاج إلى تعرف الوقت فكذا ههنا الثالث أن أهل البلد رضوا به والظاهر أنه لو كان خطأ لتنبهوا له ولو تنبهوا له لما رضوا به فهذا ما يمكن أن يقال في الجانبين
الطريق الثاني الرجوع إلى قول الغير مثل ما إذا أخبره عدل عن كون القبلة في هذه الجهة فهذا يفيد ظن أن القبلة هناك واتفقوا على أنه لا بد من شرطين الإسلام والعقل فلا عبرة في هذا الباب بقول الكافر والمجنون ولا بعلمهما واختلفوا في شرائط ثلاثة أولها البلوغ حكى الخيضري نصاً عن الشافعي أنه لا يقبل قول الصبي وحكى أبو زيد أيضاً عن الشافعي أنه يقبل وثانيها العدالة قالوا لا يقبل خبر الفاسق
لأنه كالشهادة وقيل يقبل وثالثها العدد فمنهم من اعتبره كما في الشهادة لاسيما الذين اعتبروا العدد في الرواية أيضاً ومنهم من لم يعتبر العدد ويتفرع على ما قلناه أحكام أولها أن كل من كان الأخذ بقوله يفيد ظناً أقوى كان الأخذ بقوله مقدماً على الأخذ بقول من يفيد ظناً أضعف مثاله أن تقليد المتيقن راجح على تقليد الظان بالاجتهاد وتقليد المجتهد الظان أولى من تقليد من قلد غيره وهلم جرا وثانيها أنه إذا علم أن الاجتهاد لا يتم إلا بعد انقضاء الوقت فالأولى له تحصيل الاجتهاد حتى تصير الصلاة قضاء أو تقليد الغير حتى تبقى الصلاة أداء فيه تردد وثالثها أن من لا يعرف دلائل القبلة فله الرجوع إلى قول الغير حين الصلاة بل يجب
الطريق الثالث إن شاهد في دار الإسلام محراباً منصوباً جاز له التوجه إليه على التفصيل الذي تقدم أما إذا رأى القبلة منصوبة في طريق يقل فيه مرور الناس أو في طريق يمر فيه المسلمون والمشركون ولا يدري من نصبها أو رأى محراباً في قرية ولا يدري بناه المسلمون أو المشركون أو كانت قرية صغيرة للمسلمين لا يغلب على الظن كون أهلها مطلعين على دلائل القبلة وجب عليه الاجتهاد
الطريق الرابع ما يتركب من الاجتهاد وقول الغير وهو أن يخبره إنسان بمواقع الكواكب وكان هو عالماً بالاستدلال بها على القبلة فههنا يجب عليه الاستدلال بما يسمع إذا كان عاجزاً عن رؤيتها بنفسه
القسم الثالث الذي عجز عن تحصيل العلم والظن وهو الكائن في الظلمة التي خفيت الأمارات بأسرها عليه أو الأعمى الذي لا يجد من يخبره أو تعارضت الأمارات لديه وعجز عن الترجيح وفيه أبحاث
البحث الأول أن هذا الشخص يستحيل أن يكون مأموراً بالاجتهاد لأن الاجتهاد من غير دلالة ولا أمارة تكليف ما لا يطاق وهو منفي فلم يبق إلا أحد أمور ثلاثة إما أن يقال التكاليف بالصلاة مشروط بالاستقبال وتعذر الشرط يوجب سقوط التكليف بالمشروط فههنا لا تجب عليه الصلاة أو يقال شرط الاستقبال قد سقط عن المكلف بعذر أقل من هذا وهو حال المسابقة فيسقط ههنا أيضاً فيجب عليه أن يأتي بالصلاة إلى أي جهة شاء ويسقط عنه شرط الاستقبال أو يقال إنه يأتي بتلك الصلاة إلى جميع الجهات ليخرج عن العهدة بيقين فهذه هي الوجوه الممكنة أما سقوط الصلاة عنه فذلك باطل بالإجماع وأيضاً فلأنا رأينا في الشرع في الجملة أن الصلاة صحت بدون الاستقبال كما في حال المسايفة وفي النافلة وأما إيجاب الصلاة إلى جميع الجهات فهو أيضاً باطل لقيام الدلالة على أن الواجب عليه صلاة واحدة ولقائل أن يقول أليس أن من نسي صلاة من صلوات يوم وليلة ولا يدري عينها فإنها يجب عليها قضاء تلك الصلوات بأسرها ليخرج عن العهدة باليقين فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا كذلك قالوا ولما بطل القسمان تعين الثالث وهو التخيير في جميع الجهات
البحث الثاني أنه إذا مال قلبه إلى أن هذه الجهة أولى بأن تكون قبلة من سائر الجهات من غير أن يكون ذلك الترجيح مبنياً على استدلال بل يحصل ذلك بمجرد التشهي وميل القلب إليه فهل يعد هذا اجتهاداً وهل المكلف مكلف بأن يعول عليه أم لا الأولى أن يكون ذلك معتبراً لقوله عليه السلام ( المؤمن ينظر بنور الله ) ولأن سائر وجوه الترجيح لما انسدت وجب الاكتفاء بهذا القدر
البحث الثالث إذا أدى هذه الصلاة فالظاهر يقتضي أن لا يجب القضاء لأنه أدى وظيفة الوقت وقد صحت منه فوجب أن لا تجب عليه الإعادة وظاهر قول الشافعي رضي الله عنه أنه تجب الإعادة سواء بأن صوابه أو خطؤه
المسألة السابعة تجوز الصلاة في جوف الكعبة عند عامة أهل العلم ويتوجه إلى أي جانب شاء وقال مالك يكره أن يصلى في الكعبة المكتوبة لأن من كان داخل الكعبة لا يكون متوجهاً إلى كل الكعبة بل يكون متوجهاً إلى بعض أجزائها ومستدبراً عن بعض أجزائها وإذا كان كذلك لم يكن مستقبلاً لكل الكعبة فوجب أن لا تصح صلاته لأن الله تعالى أمر باستقبال البيت قال وأما النافلة فجائزة لأن استقبال القبلة فيها غير واجب حجة الجمهور ما أخرجه الشيخان في الصحيحين ورواه الشافعي رضي الله عنه أيضاً عن مالك عن نافع عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن أبي طلحة وبلال فأغلقها عليه ومكث فيها قال عبد الله بن عمر فسألت بلالاً حين خرج ماذا صنع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال جعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ثم صلى واعلم أن الاستدلال بهذا الخبر ضعيف من وجوه أحدها أن خبر الواحد لا يعارض ظاهر القرآن وثانيها لعل تلك الصلاة كانت نافلة وذلك عند مالك جائز وثالثها أن مالكاً خالف هذا الخبر ومخالفة الراوي وإن كانت لا توجب الطعن في الخبر إلا أنها تفيد نوع مرجوحية بالنسبة إلى خبر واحد حلى عن هذا الطعن فكيف بالنسبة إلى القرآن ورابعها أن الشيخين أوردا في الصحيحين عن ابن جريح عن عطاء سمعت ابن عباس قال لما دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال ( هذه القبلة ) والتعارض حاصل من وجهين الأول أن النفي والإثبات يتعارضان والثاني قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذه القبلة ) يدل على أنه لا بد من توجه ذلك الموضع ومن جوز الصلاة داخل البيت لا يوجب عليه استقبال ذلك الموضع بل جوز استدباره والجواب عن استدلال مالك رحمه الله أن نقول قوله ( وحيثما كنتم ) إما أن يكون صيغة عموم أو لا يكون فإن كان صيغة عموم فقد تناول الإنسان الذي يكون في البيت فكأنه تعالى أمر من كان في البيت أن يتوجه إليه فالآتي به يكون خارجاً عن العهدة وإن لم يكن صيغة عموم لم تكن الآية متناولة لهذه المسألة ألبتة فلا تدل على حكمها لا بالنفي ولا بالأثبات ثم المعتمد في المسألة أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يتوجه إلى كل البيت بل إنما يمكنه أن يتوجه إلى جزء من أجزاء البيت والذي في البيت يتوجه إلى جزء من أجزاء البيت فقد كان آتياً بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة
المسألة الثامنة اعلم أن الكعبة عبارة عن أجسام مخصوصة هي السقف والحيطان والبناء ولا شك أن تلك الأجسام حاصلة في أحياز مخصوصة فالقبلة إما أن تكون تلك الأحياز فقط أو تلك الأجسام فقط أو تلك الأجسام بشرط حصولها في تلك الأحياز لا جائز أن يقال أنها تلك الأجسام فقط لأنا أجمعنا على أنه لو نقل تراب الكعبة وما في بنائها من الأحجار والخشب إلى موضع آخر وبني به بناء وتوجه إليه أحد في الصلاة لم يجز ذلك ولا جائز أن يقال إنها تلك الأجسام بشرط كونها في تلك الأحياز لأن الكعبة لو انهدمت والعياذ بالله وأزيل عن تلك الأحياز تلك الأحجار والخشب وبقيت العرصة خالية فإن أهل المشرق والمغرب إذا
توجهوا إلى ذلك الجانب صحت صلاتهم وكانوا مستقبلين للقبلة فلم يبق إلا أن يقال القبلة هو ذلك الخلاء الذي حصل فيه تلك الأجسام وهذا المعنى كما ثبت بالدليل العقلي الذي ذكرناه فهو أيضاً مطابق للآية لأن المسجد الحرام اسم لذلك البناء المركب من السقف والحيطان والمقدار وجهة المسجد الحرام هو الأحياز التي حصلت فيها تلك الأجسام فإذا أمر الله تعالى بالتوجه إلى جهة المسجد الحرام كانت القبلة هو ذلك القدر من الخلاء والفضاء إذا ثبت هذا فنقول قال أصحابنا لو انهدمت الكعبة والعياذ بالله فالواقف في عرصتها لا تصح صلاته لأنه لا يعد مستقبلاً للقبلة وذكر ابن سريج أنه يصح وهو قول أبي حنيفة والاختيار عندي والدليل عليه ما بينا أن القبلة هي ذلك القدر المعين من الخلاء والواقف في العرصة مستقبل لجزء من أجزاء ذلك الخلاء فيكون مستقبلاً للقبلة فوجب أن تصح صلاته وقالوا أيضاً الواقف على سطح الكعبة من غير أن يكون في قبالته جدار لا تصح صلاته إلا على قول ابن سريج وهو الاختيار عندي لأنه مستقبل لذلك الخلاء والفضاء الذي هو القبلة فوجب أن تصح صلاته
المسألة التاسعة لما دلت الآية على وجوب الاستقبال وثبت بالعقل أنه لا سبيل إلى الاستقبال إلى الجهات إلا بالاجتهاد وثبت بالعقل أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب لزم القطع بوجوب الاجتهاد والاجهاد لا بد وأن يكون مبنياً على الظن فكانت الآية دالة على التكليف بالظن فثبت بهذا أن التكليف بالظن واقع في الجملة وقد استدل الشافعي رضي الله عنه بذلك على أن القياس حجة في الشرع وهو ضعيف لأنه إثبات للقياس بالقياس وذلك لا سبيل إليه والله أعلم
المسألة العاشرة الظاهر أنه لا يجب نية استقبال القبلة لأن الآية دلت على وجوب الاستقبال والآتي به آت بما دلت الآية عليه فوجب أن لا يجب عليه نية أخرى كما في ستر العورة وطهارة المكان والثوب
المسألة الحادية عشرة استقبال القبلة ساقط عند قيام العذر كما في حال المسايفة ويلحق به الخوف على النفس من العدو أو من السبع أو من الجمل الصائل أو عند الخطأ في القبلة بسبب التيامن والتياسر أو في أداء النوافل وهذا يقتضي أن العاجز عن تحصيل العلم والظن إذا أدى الصلاة أن يسقط عنه القضاء وكذا المجتهد إذا بان له تعين الخطأ
المسألة الثانية عشرة إذا توجه إلى جهة ثم تغير اجتهاده وهو في الصلاة فعليه أن ينحرف ويتحول ويبني لأن عارض الاجتهاد لا يبطل السابق فكذلك فيمن صدق مخبراً ثم جاء آخر نفسه إليه أسكن فأخبره بخلافه فهذا ما يتعلق بالمسائل المستنبطة من هذه الآية في حكم الاستقبال والله أعلم
قوله تعالى مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فيه مسألتان
المسألة الأولى هذا ليس بتكرار وبيانه من وجهين أحدهما أن قوله تعالى فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خطاب مع الرسول عليه السلام لا مع الأمة وقوله مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ خطاب مع الكل وثانيهما أن المراد بالأولى مخاطبتهم وهم بالمدينة خاصة وقد كان من الجائز لو وقع الاختصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل المدينة خاصة فبين الله تعالى أنهم أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة
المسألة الثانية قوله مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ يعني وأينما كنتم وموضع ( كنتم ) من الإعراب جزم بالشرط كأنه قيل حيثما تكونوا والفاء جواب
أما قوله تعالى وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى المراد بقوله وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ اليهود خاصة والكتاب هو التوراة عن السدي وقيل بل المراد أحبار اليهود وعلماء النصارى وهو الصحيح لعموم اللفظ والكتاب المتقدم هو التوراة والإنجيل ولا بد أن يكونوا عدداً قليلاً لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان
المسألة الثانية الضمير في قوله أَنَّهُ الْحَقُّ راجع إلى مذكور سابق وقد تقدم ذكر الرسول كما تقدم ذكر القبلة فجاز أن يكون المراد أن القوم يعلمون أن الرسول مع شرعه ونبوته حق فيشتمل ذلك على أمر القبلة وغيرها ويحتمل أن يرجع إلى هذا التكليف الخاص بالقبلة وأنهم يعلمون أنه الحق وهذا الاحتمال الأخير أقرب لأنه أليق بالكلام إذ المقصود بالآية ذلك دون غيره ثم اختلفوا في أنهم كيف عرفوا ذلك وذكروا فيه وجوهاً أحدها أن قوماً من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وخبر القبلة وأنه يصلي إلى القبلتين وثانيها أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله تعالى قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وثالثها أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما ظهر عليه من المعجزات ومتى علموا نبوته فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق فكان هذا التحويل حقاً
وأما قوله وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرأ ابن عمار وحمزة والكسائي تَعْمَلُونَ بالتاء على الخطاب للمسلمين والباقون بالياء على أنه راجع إلى اليهود
المسألة الثانية إنا إن جعلناه خطاباً للمسلمين فهو وعد لهم وبشارة أي لا يخفى على جدكم واجتهادهم في قبول الدين فلا أخل بثوابكم وإن جعلناه كلاماً مع اليهود فهو وعيد وتهديد لهم ويحتمل أيضاً أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم وإن لم يعجلها لهم كقوله تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ ( إبراهيم 42 )
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ ءَايَة ٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة َ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن هذه القبلة حق بين بعد ذلك صفتهم لا تتغير في الاستمرار على المعاندة وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اختلفوا في قوله وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ فقال الأصم المراد علماؤهم الذين أخبر الله تعالى عنهم في الآية المتقدمة بقوله وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ ( البقرة 144 ) واحتج عليه بوجوه أحدها قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم فوصفهم بأنهم يتبعون الهوى ومن اعتقد في الباطل أنه حق فإنه لا يكون متبعاً لهوى النفس بل يكون في ظنه أنه متبع للهدى فأما الذين يعلمون بقلوبهم ثم ينكرون بألسنتهم فهم المتبعون للهوى وثانيها أن ما قبل هذه الآية وهو قوله وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لِيَعْلَمُواْ أَنَّهُ الْحَقُّ لا يتناول عوامهم بل هو مختص بالعلماء وما بعدها وهو قوله الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ( الأنعام 20 ) مختص بالعلماء أيضاً إذ لو كان عاماً في الكل امتنع الكتمان لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكتمان وإذا كان ما قبلها وما بعدها خاصاً فكذا هذه الآية المتوسطة وثالثها أن الله تعالى أخبر عنهم بأنهم مصرون على قولهم ومستمرون على باطلهم وأنهم لا يرجعون عن ذلك المذهب بسبب شيء من الدلائل والآيات وهذا شأن المعاند اللجوج لا شأن المعاند المتحير ورابعها أنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً لأن كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وتبع قبلته
وقال آخرون بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى واحتجوا عليه بأن قوله الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ صيغة عموم فيتناول الكل ثم أجابوا عن الحجة الأولى أن صاحب الشبهة صاحب هوى في الحقيقة لأنه ما تمم النظر والاستدلال فإنه لو أتى بتمام النظر والاستدلال لوصل إلى الحق فحيث لم يصل إليه علمنا أنه ترك النظر التام بمجرد الهوى وأجابوا عن الحجة الثانية بأنه ليس يمتنع أن يراد في الآية الأولى بعضهم وفي الآية الثانية كلهم وأجابوا عن الحجة الثالثة أن العلماء لما كانوا مصرين على الشبهات والعوام كانوا مصرين على اتباع أولئك العلماء كان الإصرار حاصلاً في الكل وأجابوا عن الحجة الرابعة بأنه تعالى أخبر عنهم أنهم بكليتهم لا يؤمنون وقولنا كل اليهود لا يؤمنون مغاير لقولنا إن أحداً منهم لا يؤمن
المسألة الثانية احتج الكعبي بهذه الآية على جواز أن لا يكون في المقدور لطف لبعضهم قال لأنه لو حصل في المقدور لهؤلاء لطف لكان في جملة الآيات ما لو أتاهم به لكانوا يؤمنون فكان لا يصح هذا الخبر على وجه القطع
المسألة الثالثة احتج أبو مسلم بهذه الآية على أن علم الله تعالى في عباده وما يفعلونه ليس بحجة لهم فيما يرتكبون فإنهم مستطيعون لأن يفعلوا الخير الذي أمروا به ويتركوا ضده الذي نهوا عنه واحتج أصحابنا به على القول بتكليف ما لا يطاق وهو أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يتبعون قبلته فلو اتبعوا قبلته لزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً وعلمه جهلاً وهو محال ومستلزم المحال محال فكان ذلك محالاً وقد أمروا به فقد أمروا بالمحال وتمام القول فيه مذكور في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 )
المسألة الرابعة إنما حكم الله تعالى عليهم بأنهم لا يرجعون عن أباطيلهم بسبب البرهان وذلك لأن إعراضهم عن قبول هذا الدين ليس عن شبهة يزيلها بإيراد الحجة بل هو محض المكابرة والعناد والحسد وذلك لا يزول بإيراد الدلائل
المسألة الخامسة اختلفوا في قوله مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ قال الحسن والجبائي أراد جميعهم كأنه قال لا يجتمعون على اتباع قبلتك على نحو قوله وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ( الأنعام 35 ) وقال
الأصم وغيره بل المراد أن أحداً منهم لا يؤمن قال القاضي إن أريد بأهل الكتاب كلهم العلماء منهم والعوام فلا بد من تأويل الحسن وإن أريد به العلماء نظرنا فإن كان في علمائهم المخاطبين بهذه الآية من قد آمن وجب أيضاً ذلك التأويل وإن لم يكن فيهم من قد آمن صح إجراؤه على ظاهره في رجوع النفي إلى كل واحد منهم لأن ذلك أليق بالظاهر إذ لا فرق بين قوله مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وبين قوله ما تبع أحد منهم قبلتك
المسألة السادسة لَئِنْ بمعنى لَوْ وأجيب بجواب لو وللعلماء فيه خلاف فقيل إنهما لما تقاربا استعمل كل واحد منهما مكان الآخر وأجيب بجوابه نظيره قوله تعالى وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا ( الروم 51 ) ثم قال لَّظَلُّواْ على جواب لَوْ وقال وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ واتَّقَوْا ( البقرة 103 ) ثم قال لَمَثُوبَة ٌ على جواب لَئِنْ وذلك أن أصل لَوْ للماضي وَلَئِنِ للمستقبل هذا قول الأخفش وقال سيبويه إن كل واحدة منهما على موضعها وإنما الحق في الجواب هذا التداخل لدلالة اللام على معنى القسم فجاء الجواب كجواب القسم
المسألة السابعة الآية وزنها فعلة أصلها أية فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفاً لانفتاح ما قبلها والآية الحجة والعلامة وآية الرجل شخصه وخرج القوم بآيتهم جماعتهم وسميت آية القرآن بذلك لأنها جماعة حروف وقيل لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها وقيل لأنها دالة على انقطاعها عن المخلوقين وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى
المسألة الثامنة روي أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أئتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية والأقرب أن هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة
أما قوله تعالى وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ففيه أقوال الأول أنه دفع لتجويز النسخ وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة والثاني حسماً لأطماع أهل الكتاب فإنهم قالوا لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجوا أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم الثالث المقابلة يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك الرابع أراد أنه لا يجب عليك استصلاحهم باتباع قبلتهم لأن ذلك معصية الخامس وما أنت بتابع قبلة جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن قبلة اليهود مخالفة لقبلة النصارى فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق فالزم قبلتك ودع أقوالهم
أما قوله وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة َ بَعْضٍ قال القفال هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال أما على الحال فمن وجوه الأول أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها الثاني أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك مع أنهم فيما بينهم مختلفون الثالث أن هذا إبطال لقولهم إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَة َ بَعْضٍ ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان فلم يثبت عندنا أن
أحداً منهم يتبع قبلة الآخر فالخلف غير لازم وإن حملناه على الكل قلنا إنه عام دخله التخصيص
أما قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ففيه مسألتان
المسألة الأولى الهوى المقصور هو ما يميل إليه الطبع والهواء الممدود معروف
المسألة الثانية اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب قال بعضهم الرسول وقال بعضهم الرسول وغيره وقال آخرون بل غيره لأنه تعالى عرف أن الرسول لا يفعل ذلك فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب وهذا القول الثالث خطأ لأن كل ما لو وقع من الرسول لقبح والالجاء عنه مرتفع فهو منهى عنه وإن كان المعلوم منه أنه لا يفعله ويدل عليه وجوه أحدها أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب أن لا ينهاه عنه لكان ما علم أنه يفعله وجب أن لا يأمره به وذلك يقتضي أن لا يكون النبي مأموراً بشيء ولا منهياً عن شيء وأنه بالاتفاق باطل وثانيها لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فلما كان ذلك الاحتراز مشروطاً بذلك النهي والتحذير فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير وثالثها أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذلك في العقل فيكون الغرض منه التأكيد ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعد ما قررها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل فأي بعد في مثل هذا الغرض ههنا ورابعاً قوله تعالى في حق الملائكة وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إِلَاهٌ مّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( الأنبياء 29 ) مع أنه تعالى أخبر عن عصمتهم في قوله يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( النمل 50 ) وقال في حق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( الزمر 65 ) وقد أجمعوا على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك وما مال إليه وقال مُّنتَظِرُونَ ياأَيُّهَا النَّبِى ّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ( المائدة 67 ) وقال تعالى وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( القلم 9 ) وقال بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ( المائدة 67 ) وقوله وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( الأنعام 14 ) فثبت بما ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام منهي عن ذلك وأن غيره أيضاً منهي عنه لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواص الرسول عليه الصلاة والسلام بقي أن يقال فلم خصه بالنهي دون غيره فنقول فيه وجوه أحدها أن كل من كان نعم الله عليه أكثر كان صدور الذنب منه أقبح ولا شك أن نعم الله تعالى على الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر فكان حصول الذنب منه أقبح فكان أولى بالتخصيص وثانيها أن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير وثالثها أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن اختاروه وارتكبوه وفي عادة الناس أن يوجهوا أمرهم ونهيهم إلى من هو أعظم درجة تنبيهاً للغير أو توكيداً فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية
القول الثاني أن قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ليس المراد منه أن اتبع أهواءهم في كل الأمور فلعله عليه الصلاة والسلام كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم مثل ترك المخاشنة في القول والغلظة في الكلام