كتاب : مفاتيح الغيب
المؤلف : الإمام العالم العلامة والحبر البحر الفهامة فخر الدين محمد بن
عمر التميمي الرازي
مال العبد لمولاه قال الفضل المفاتح واحدها مفتح بفتح الميم وواحد المفاتيح مفتح بالكسر الحادي عشر قوله مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ والمعنى أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحداً وجمعاً وكذلك الخليط والقطين والعدو ويحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد ( أخرجوا ) سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة وعن ابن عباس رضي الله عنهما الصديق أكثر من الوالدين لأن أهل الجنة لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات بل بالأصدقاء فقالوا مالنا من شافعين ولا صديق حميم وحكي أن أخاً للربيع بن خيثم في الله دخل منزله في حال غيبته فانبسط إلى جاريته حتى قدمت إليه ما أكل فلما عاد أخبرته بذلك فلسروره بذلك قال إن صدقت فأنت حرة
المسألة الخامسة احتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع لإباحة الله تعالى بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم فلا يكون ماله محرزاً منهم فإن قيل فيلزم أن لا يقطع إذا سرق من مال صديقه قلنا من أراد سرقة ماله لا يكون صديقاً له
أما قوله تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فقال أكثر المفسرين نزلت الآية في بني ليث بن عمرو وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فأعلم الله تعالى أن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وقال عكرمة وأبو صالح رحمهما الله كانت الأنصار إذا نزل بواحد منهم ضيف لم يأكل إلا وضيفه معه فرخص الله لهم أن يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين ومتفرقين وقال الكلبي كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً على حدة وكذلك للزمن والمريض فبين الله لهم أن ذلك غير واجب وقال آخرون كانوا يأكلون فرادى خوفاً من أن يحصل عند الجمعية ما ينفر أو يؤذي فبين الله تعالى أنه غير واجب وقوله جَمِيعاً نصب على الحال وأشتاتاً جمع شت وشتى جمع شتيت وشتان تثنية شت قاله المفضل وقيل الشت مصدر بمعنى التفرق ثم يوصف به ويجمع
أما قوله تعالى أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ فالمعنى أنه تعالى جعل أنفس المسلمين كالنفس الواحدة على مثال قوله تعالى وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ( النساء 29 ) قال ابن عباس فإن لم يكن أحد فعلى نفسه ليقل السلام علينا من قبل ربنا وإذا دخل المسجد فليقل السلام على رسول الله وعلينا من ربنا قال قتادة وحدثنا أن الملائكة ترد عليه قال القفال وإن كان في البيت أهل الذمة فليقل السلام على من اتبع الهدى وقوله تَحِيَّة ً نصب على المصدر كأنه قال فحيوا تحية من عند الله أي مما أمركم الله به قال ابن عباس رضي الله عنهما من قال السلام عليكم معناه اسم الله عليكم وقوله مُبَارَكَة ً طَيّبَة ً قال الضحاك معنى البركة فيه تضعيف الثواب وقال الزجاج أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك ثابت لما فيه من الأجر والثواب وأنه إذا أطاع الله فيه أكثر خيره وأجزل أجره كَذالِكَ يُبيّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ أي يفصل الله شرائعه
لكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لتفهموا عن الله أمره ونهيه وروى حميد عن أنس قال ( خدمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته لم فعلته ولا قال لي في شيء تركته لم تركته وكنت واقفاً على رأس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصب الماء على يديه فرفع رأسه إلي وقال ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بهن قلت بأبي وأمي أنت يا رسول الله بلى فقال من لقيت من أمتي فسلم عليهم يطل عمرك وإذا دخلت بيتاً فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة ( الأبرار ) الأوابين )
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ والأرض قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَى ْءٍ عَلِيمُ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قرىء عَلَى أَمْرٍ جَمِيعٌ ثم ذكروا في قوله عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ وجوهاً أحدها أن الأمر الجامع هو الأمر الموجب للاجتماع عليه فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز وذلك نحو مقاتلة عدو أو تشاور في خطب مهم أو الأمر الذي يعم ضرره ونفعه وفي قوله إِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ إشارة إلى أنه خطب جليل لا بد لرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أرباب التجارب والآراء ليستعين بتجاربهم فمفارقة أحدهم في هذه الحالة مما يشق على قلبه وثانيها عن الضحاك في أمر جامع الجمعة والأعياد وكل شيء تكون فيه الخطبة وثالثها عن مجاهد في الحرب وغيره
المسألة الثانية اختلفوا في سبب نزوله قال الكلبي كان ( صلى الله عليه وسلم ) يعرض في خطبته بالمنافقين ويعيبهم فينظر المنافقون يميناً وشمالاً فإذا لم يرهم أحد انسلوا وخرجوا ولم يصلوا وإن أبصرهم أحد ثبتوا وصلوا خوفاً فنزلت هذه الآية فكان بعد نزول هذه الآية لا يخرج المؤمن لحاجته حتى يستأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان
المنافقون يخرجون بغير إذن
المسألة الثالثة قال الجبائي هذا يدل على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ولولا ذلك لجاز أن يكونوا كاملي الإيمان وإن تركوا الاستئذان وذلك يدل على أن كل فرض لله تعالى واجتناب محرم من الإيمان والجواب هذا بناء على أن كلمة إِنَّمَا للحصر وأيضاً فالمنافقون إنما تركوا الاستئذان استخفافا ولا نزاع في أنه كفر
أما قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ إلى قوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ففيه مسائل
المسألة الأولى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَذِنُونَكَ المعنى تعظيماً لك ورعاية للأدب أُولَائِكَ هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي يعملون بموجب الإيمان ومقتضاه قال الضحاك ومقاتل المراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذلك لأنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله فأذن له وقال له انطلق فوالله ما أنت بمنافق يريد أن يسمع المنافقين ذلك الكلام فلما سمعوا ذلك قالوا ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم وإذا استأذناه لم يأذن لنا فوالله ما نراه يعدل وقال ابن عباس رضي الله عنهما إن عمر استأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في العمرة فأذن له ثم قال يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك وفي قوله وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ وجهان أحدهما أن يستغفر لهم تنبيهاً على أن الأولى أن لا يقع الاستئذان منهم وإن أذن لأن الاستغفار يدل على الذنب وربما ذكر عند بعض الرخص الثاني يحتمل أنه تعالى أمره بأن يستغفر لهم مقابلة على تمسكهم بآداب الله تعالى في الاستئذان
المسألة الثانية قال قتادة نسخت هذه الآية قوله تعالى لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ( التوبة 43 )
المسألة الثالثة الآية تدل على أنه سبحانه فوض إلى رسوله بعض أمر الدين ليجتهد فيه برأيه
أما قوله تعالى لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً ففيه وجوه أحدها وهو اختيار المبرد والقفال ولا تجعلوا أمره إياكم ودعاءه لكم كما يكون من بعضكم لبعض إذ كان أمره فرضاً لازماً والذي يدل على هذا قوله عقيب هذا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ وثانيها لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً يا محمد ولكن قولوا يا رسول الله يا نبي الله عن سعيد بن جبير وثالثها لا ترفعوا أصواتكم في دعائه وهو المراد من قوله إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ ( الحجرات 3 ) عن ابن عباس ورابعها احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره والوجه الأول أقرب إلى نظم الآية
أما قوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فالمعنى ( يتسللون ) قليلاً قليلاً ونظير تسلل تدرج وتدخل واللواذ الملاوذة وهي أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا يعني ( يتسللون ) عن الجماعة ( على سبيل الخفية ) واستتار بعضهم ببعض و ( لواذاً ) حال أي ملاوذين وقيل كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيؤذن له فينطلق الذي لم يؤذن له معه وقرىء لِوَاذاً بالفتح ثم اختلفوا على وجوه أحدها قال مقاتل كان المنافقون تثقل عليهم خطبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحابه ويخرجون من غير استئذان وثانيها قال مجاهد يتسللون من الصف في القتال وثالثها قال ابن قتيبة هذا كان في حفر الخندق ورابعها يتسللون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعن كتابه وعن ذكره وقوله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ معناه التهديد بالمجازاة
أما قوله فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ففيه مسائل
المسألة الأولى قال الأخفش ( عن ) صلة والمعنى يخالفون أمره وقال غيره معناه يعرضون عن أمره ويميلون عن سنته فدخلت ( عن ) لتضمين المخالفة معنى الإعراض
المسألة الثانية كما تقدم ذكر الرسول فقد تقدم ذكر الله تعالى لكن القصد هو الرسول فإليه ترجع الكناية وقال أبو بكر الرازي الأظهر أنها لله تعالى لأنه يليه وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها
المسألة الثالثة الآية تدل على أن ظاهر الأمر للوجوب ووجه الاستدلال به أن نقول تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر ومخالف الأمر مستحق للعقاب فتارك المأمور به مستحق للعقاب ولا معنى للوجوب إلا ذلك إنما قلنا إن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر لأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والمخالفة ضد الموافقة فكانت مخالفة الأمر عبارة عن الإخلال بمقتضاه فثبت أن تارك المأمور به مخالف وإنما قلنا إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فأمر مخالف هذا الأمر بالحذر عن العقاب والأمر بالحذر عن العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضى لنزول العقاب فثبت أن مخالف أمر الله تعالى أو أمر رسوله قد وجد في حقه ما يقتضي نزول العذاب فإن قيل لا نسلم أن تارك المأمور به مخالف للأمر قوله موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه ومخالفته عبارة عن الإخلال بمقتضاه قلنا لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه فما الدليل عليه ثم إنا نفسر موافقة الأمر بتفسيرين أحدهما أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي به على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة للأمر الثاني أن موافقة الأمر عبارة عن الاعتراف بكون ذلك الأمر حقاً واجب القبول فمخالفته تكون عبارة عن إنكار كونه حقاً واجب القبول سلمنا أن ما ذكرته يدل على أن مخالفة الأمر عبارة عن ترك مقتضاه لكنه معارض بوجوه أخر وهو أنه لو كان ترك المأمور به مخالفة للأمر لكان ترك المندوب لا محالة مخالفة لأمر الله تعالى وذلك باطل وإلا لاستحق العقاب على ما بينتموه في المقدمة الثانية سلمنا أن تارك المأمور به مخالف للأمر فلم قلت إن مخالف الأمر مستحق للعقاب لقوله تعالى فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ قلنا لا نسلم أن هذه الآية دالة على أمر من يكون مخالفاً للأمر بالحذر بل هي دالة على الأمر بالحذر عن مخالفة الأمر فلم لا يجوز أن يكون كذلك سلمنا ذلك لكنها دالة على أن المخالف عن الأمر يلزمه الحذر فلم قلت إن مخالف الأمر لا يلزمه الحذر فإن قلت لفظة ( عن ) صلة زائدة فنقول الأصل في الكلام لا سيما في كلام الله تعالى أن لا يكون زائداً سلمنا دلالة الآية على أن مخالف أمر الله تعالى مأمور بالحذر عن العذاب فلم قلت إنه يجب عليه الحذر عن العذاب أقصى ما في الباب أنه ورد الأمر به لكن لم قلت إن الأمر للوجوب وهذا أول المسألة فإن قلت هب أنه لا يدل على وجوب الحذر لكن لا بد وأن يدل على حسن الحذر وحسن الحذر إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب قلت لا نسلم أن حسن الحذر مشروط بقيام المقتضي لنزول العذاب بل الحذر يحسن عند احتمال نزول العذاب ولهذا يحسن الاحتياط وعندنا مجرد الاحتمال قائم لأن هذه المسألة احتمالية لا قطعية سلمنا دلالة الآية على وجود ما يقتضي نزول
العقاب لكن لا في كل أمر بل في أمر واحد لأن قوله عَنْ أَمْرِهِ لا يفيد إلا أمراً واحداً وعندما أن أمراً واحداً يفيد الوجوب فلم قلت إن كل أمر كذلك سلمنا أن كل أمر كذلك لكن الضمير في قوله عَنْ أَمْرِهِ يحتمل عوده إلى الله تعالى وعوده إلى الرسول والآية لا تدل إلا على أن الأمر للوجوب في حق أحدهما فلم قلتم إنه في حق الآخر كذلك الجواب قوله لم قلتم إن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه قلنا الدليل عليه أن العبد إذا امتثل أمر السيد حسن أن يقال إن هذا العبد موافق للسيد ويجري على وفق أمره ولو لم يمتثل أمره يقال إنه ما وافقه بل خالفه وحسن هذا الإطلاق معلوم بالضرورة من أهل اللغة فثبت أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه قوله الموافقة عبارة عن الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الذي يقتضيه الأمر قلنا لما سلمتم أن موافقة الأمر لا تحصل إلا عند الإتيان بمقتضى الأمر فنقول لا شك أن مقتضى الأمر هو الفعل لأن قوله افعل لا يدل إلا على اقتضاء الفعل وإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضى الأمر فلا توجد الموافقة فوجب حصول المخالفة لأنه ليس بين الموافقة والمخالفة واسطة قوله الموافقة عبارة عن اعتقاد كون ذلك الأمر حقاً واجب القبول قلنا هذا لا يكون موافقة للأمر بل يكون موافقة للدليل الدال على أن ذلك الأمر حق فإن موافقة الشيء عبارة عن الإتيان بما يقتضي تقرير مقتضاه فإذا دل على حقية الشيء كان الاعتراف بحقيته يقتضي تقرير مقتضى ذلك الدليل أما الأمر فلما اقتضى دخول الفعل في الوجود كانت موافقته عبارة عما يقرر ذلك الدخول وإدخاله في الوجود يقتضي تقرير دخوله في الوجود فكانت موافقة الأمر عبارة عن فعل مقتضاه قوله لو كان كذلك لكان تارك المندوب مخالفاً فوجب أن يستحق العقاب قلنا هذا الإلزام إنما يصح أن لو كان المندوب مأموراً به وهو ممنوع قوله لم لا يجوز أن يكون قوله فَلْيَحْذَرِ أمراً بالحذر عن المخالف لا أمراً للمخالف بالحذر قلنا لو كان كذلك لصار التقدير فليحذر المتسللون لواذاً عن الذين يخالفون أمره وحينئذ يبقى قوله أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ضائعاً لأن الحذر ليس فعلاً يتعدى إلى مفعولين قوله كلمة ( عن ) ليست بزائدة قلنا ذكرنا اختلاف الناس فيها في المسألة الأولى قوله لم قلتم إن قوله فَلْيَحْذَرِ يدل على وجوب الحذر عن العقاب قلا لا ندعي وجوب الحذر ولكن لا أقل من جواز الحذر وذلك مشروط بوجود ما يقتضي وقوع العقاب قوله لم قلت إن الآية تدل على أن كل مخالف للأمر يستحق العقاب قلنا لأنه تعالى رتب نزول العقاب على المخالفة فوجب أن يكون معللاً به فيلزم عمومه لعموم العلة قوله هب أن أمر الله أو أمر رسوله للوجوب فلم قلتم إن الأمر كذلك قلنا لأنه لا قائل بالفرق والله أعلم
المسألة الرابعة من الناس من قال لفظ الأمر مشترك بين الأمر القولي وبين الشأن والطريق كما يقال أمر فلان مستقيم وإذا ثبت ذلك كان قوله تعالى عَنْ أَمْرِهِ يتناول قول الرسول وفعله وطريقته وذلك يقتضي أن كل ما فعله عليه الصلاة والسلام يكون واجباً علينا وهذه المسألة مبنية على أن الكناية في قوله عَنْ أَمْرِهِ راجعة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أما لو كانت راجعة إلى الله تعالى فالبحث ساقط بالكلية وتمام تقرير ذلك ذكرناه في أصول الفقه والله أعلم
أما قوله تعالى أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَة ٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فالمراد أن مخالفة الأمر توجب أحد هذين
الأمرين والمراد بالفتنة العقوبة في الدنيا والعذاب الأليم عذاب الآخرة وإنما ردد الله تعالى حال ذلك المخالف بين هذين الأمرين لأن ذلك المخالف قد يموت من دون عقاب الدنيا وقد يعرض له ذلك في الدنيا فلهذا السبب أورده تعالى على سبيل الترديد ثم قال الحسن الفتنة هي ظهور نفاقهم وقال ابن عباس رضي الله عنهما القتل وقيل الزلازل والأهوال وعن جعفر بن محمد يسلط عليهم سلطان جائر
أما قوله تعالى أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فذاك كالدلالة على قدرته تعالى عليهما وعلى ما بينهما وما فيهما واقتداره على المكلف فيما يعامل به من المجازاة بثواب أو بعقاب وعلمه بما يخفيه ويعلنه وكل ذلك كالزجر عن مخالفة أمره
أما قوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ فإنما أدخل قَدْ لتوكيد علمه بما هم عليه من المخالفة في الدين والنفاق ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد وذلك لأن قد إذا أدخلت على المضارع كانت بمعنى ربما فوافقت ربما في خروجها إلى معنى التكثير كما في قوله الشاعر فإن يمس مهجور الفناء فربما
أقام به بعد الوفود وفود
والخطاب والغيبة في قوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يجوز أن يكونا جميعاً للمنافقين على طريق الالتفات ويجوز أن يكون ما أنتم عليه عاماً ويرجعون للمنافقين وقد تقدم في غير موضع أن الرجوع إليه هو الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له فلا وجه لإعادته والله أعلم
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
سورة الفرقان
سبع وسبعون آية مكيةتَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
اعلم أن الله سبحانه وتعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة ثم ختمها بذكر صفات العباد المخلصين الموقنين ولما كان إثبات الصانع وإثبات صفات جلاله يجب أن يكون مقدماً على الكل لا جرم افتتح الله هذه السورة بذلك فقال تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الزجاج تبارك تفاعل من البركة والبركة كثرة الخير وزيادته وفيه معنيان أحدهما تزايد خيره وتكاثر وهو المراد من قوله وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَة َ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ( إبراهيم 34 ) والثاني تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في ذاته وصفاته وأفعاله وهو المراد من قوله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ْء ( الشورى 11 ) وأما تعاليه عن كل شيء في ذاته فيحتمل أن يكون المعنى جل بوجوب وجوده وقدمه عن جواز الفناء والتغير عليه وأن يكون المعنى جل بفردانيته ووحدانيته عن مشابهة شيء من الممكنات وأما تعاليه عن كل شيء في صفاته فيحتمل أن يكون المعنى جل أن يكون علمه ضرورياً أو كسبياً أو تصوراً أو تصديقاً وفي قدرته أن يحتاج إلى مادة ومدة ومثال وجلب غرض ومنال وأما في أفعاله فجل أن يكون الوجود والبقاء وصلاح حال الوجود إلا من قبله وقال آخرون أصل الكلمة تدل على البقاء وهو مأخوذ من بروك البعير ومن بروك الطير على الماء وسميت البركة بركة لثبوت الماء فيها والمعنى أنه سبحانه وتعالى باق في ذاته أزلاً وأبداً ممتنع التغير وباق في صفاته ممتنع التبدل ولما كان سبحانه وتعالى هو الخالق لوجوه المنافع والمصالح والمبقى لها وجب وصفه سبحانه بأنه تبارك وتعالى
المسألة الثانية قال أهل اللغة كلمة ( الذي ) موضوعة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه بقضية معلومة وعند هذا يتوجه الإشكال وهو أن القوم ما كانوا عالمين بأنه سبحانه هو الذي نزل الفرقان فكيف حسن ههنا لفظ ( الذي ) وجوابه أنه لما قامت الدلالة على كون القرآن معجزاً ظهر بحسب الدليل كونه من عند الله فلقوة الدليل وظهوره أجراه سبحانه وتعالى مجرى المعلوم
المسألة الثالثة لا نزاع أن الفرقان هو القرآن وصف بذلك من حيث إنه سبحانه فرق به بين الحق والباطل في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبين الحلال والحرام أو لأنه فرق في النزول كما قال وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ( الإسراء 106 ) وهذا التأويل أقرب لأنه قال نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ولفظة ( نزل ) تدل على التفريق وأما لفظة ( أنزل ) فتدل على الجمع ولذلك قال في سورة آل عمران نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ وَأَنزَلَ التَّوْرَاة َ وَالإِنجِيلَ ( آل عمران 3 ) واعلم أنه سبحانه وتعالى لما قال أولاً تَبَارَكَ ومعناه كثرة الخير والبركة ثم ذكر عقبه أمر القرآن دل ذلك على أن القرآن منشأ الخيرات وأعم البركات لكن القرآن ليس إلا منبعاً للعلوم والمعارف والحكم فدل هذا على أن العلم أشرف المخلوقات وأعظم الأشياء خيراً وبركة
المسألة الرابعة لا نزاع أن المراد من العبد ههنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وعن ابن الزبير على عباده وهم رسول الله وأمته كما قال لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ ( الأنبياء 10 ) قُولُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ( البقرة 136 ) وقوله لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً فالمراد ليكون هذا العبد نذيراً للعالمين وقول من قال إنه راجع إلى الفرقان فأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله إِنَّ هَاذَا الْقُرْءانَ يِهْدِى ( الأسراء 9 ) فبعيد وذلك لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف وإذا وصف به القرآن فهو مجاز وحمل الكلام على الحقيقة إذا أمكن هو الواجب ثم قالوا هذه الآية تدل على أحكام الأول أن العالم كل ما سوى الله تعالى ويتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة لكنا أجمعنا أنه عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الملائكة فوجب أن يكون رسولاً إلى الجن والإنس جميعاً ويبطل بهذا قول من قال إنه كان رسولاً إلى البعض دون البعض الثاني أن لفظ الْعَالَمِينَ يتناول جميع المخلوقات فدلت الآية على أنه رسول للخلق إلى يوم القيامة فوجب أن يكون خاتم الأنبياء والرسل الثالث قالت المعتزلة دلت الآية على أنه سبحانه أراد الإيمان وفعل الطاعات من الكل لأنه إنما بعثه إلى الكل ليكون نذيراً للكل وأراد من الكل الاشتغال بالحسن والإعراض عن القبيح وعارضهم أصحابنا بقوله تعالى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ( لأعراف 179 ) الآية الرابع لقائل أن يقول إن قوله تَبَارَكَ كما دل على كثرة الخير والبركة لا بد وأن يكون المذكور عقيبه ما يكون سبباً لكثرة الخير والمنافع والإنذار يوجب الغم والخوف فكيف يليق هذا لهذا الموضع جوابه أن هذا الإنذار يجري مجرى تأديب الولد وكما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر كان الإحسان إليه أكثر لما أن ذاك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيراً كان رجوع الخلق إلى الله أكثر فكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة وذلك لأنه سبحانه لما وصف نفسه بأنه الذي يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ولم يذكر ألبتة شيئاً من منافع الدنيا
ثم إنه سبحانه وصف ذاته بأربع أنواع من صفات الكبرياء أولها قوله الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا كالتنبيه على الدلالة على وجوده سبحانه لأنه لا طريق إلى إثباته إلا بواسطة احتياج أفعاله إليه فكان تقديم هذه الصفة على سائر الصفات كالأمر الواجب وقوله لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والاْرْضِ إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه بزمان حدوثها وزمان بقائها في ماهيتها وفي وجودها وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء وثانيها قوله وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فبين سبحانه أنه هو المعبود أبداً ولا يصح أن يكون غيره معبوداً ووارثاً للملك عنه فتكون هذه الصفة كالمؤكدة لقوله تَبَارَكَ ولقوله الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وهذا كالرد على النصارى وثالثها قوله وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ والمراد أنه هو المنفرد بالإلهية وإذا عرف العبد ذلك انقطع خوفه ورجاؤه عن الكل ولا يبقى مشغول القلب إلا برحمته وإحسانه وفيه الرد على الثنوية والقائلين بعبادة النجوم والقائلين بعبادة الأوثان ورابعها قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وفيه سؤالات
الأول هل في قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء دلالة على أنه سبحانه خالق لأعمال العباد والجواب نعم من وجهين الأول أن قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء يتناول جميع الأشياء فيتناول أفعال العباد والثاني وهو أنه تعالى بعد أن نفى الشريك ذكر ذلك والتقدير أنه سبحانه لما نفى الشريك كأن قائلاً قال ههنا أقوام يعترفون بنفي الشركاء والأنداد ومع ذلك يقولون إنهم يخلقون أفعال أنفسهم فذكر الله تعالى هذه الآية لتكون معينة في الرد عليهم قال القاضي الآية لا تدل عليه لوجوه أحدها أنه سبحانه صرح بكون العبد خالقاً في قوله وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَة ِ الطَّيْرِ ( المائدة 110 ) وقال فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) وثانيها أنه سبحانه تمدح بذلك فلا يجوز أن يريد به خلق الفساد وثالثها أنه سبحانه تمدح بأنه قدره تقديراً ولا يجوز أن يريد به إلا الحسن والحكمة دون غيره فثبت بهذه الوجوه أنه لا بد من التأويل لو دلت الآية بظاهرها عليه فكيف ولا دلالة فيها ألبتة لأن الخلق عبارة عن التقدير فهو لا يتناول إلا ما يظهر فيه التقدير وذلك إنما يظهر في الأجسام لا في الأعراض والجواب
أما قوله وَإِذْ تَخْلُقُ وقوله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فهما معارضان بقوله اللَّهُ خَالِقُ كُلّ شَى ْء ( الزمر 62 ) وبقوله هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ( فاطر 3 ) وأما قوله لا يجوز التمدح بخلق الفساد قلنا لم لا يجوز أن يقع التمدح به نظراً إلى تقادير القدرة وإلى أن صفة الإيجاد من العدم والإعدام من الوجود ليست إلا له وأما قوله الخلق لا يتناول إلا الأجسام فنقول لو كان كذلك لكان قوله خَلَقَ كُلَّ شَى ْء خطأ لأنه يقتضي إضافة الخلق إلى جميع الأشياء مع أنه لا يصح في العقل إضافته إليها
السؤال الثاني في الخلق معنى التقدير ( فقوله ) وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ( معناه ) وقدر كل شيء فقدره تقديراً والجواب المعنى ( أنه ) أحدث كل شيء إحداثاً يراعي فيه التقدير والتسوية فقدره تقديراً وهيأه لما يصلح له مثاله أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر ( المستوي ) الذي تراه فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة ( به في باب ) الدين والدنيا وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير فقدره لأمر ما ومصلحة ما مطابقاً لما قدر ( له ) غير ( متخلف ) عنه
السؤال الثالث هل في قوله فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً دلالة على مذهبكم الجواب نعم وذلك من وجوه
أحدها أن التقدير في حقنا يرجع إلى الظن والحسبان أما في حقه سبحانه فلا معنى له إلا العلم به والإخبار عنه وذلك متفق عليه بيننا وبين المعتزلة فلما علم في الشيء الفلاني أنه لا يقع فلو وقع ذلك الشيء لزم انقلاب علمه جهلاً وانقلاب خبره الصدق كذباً وذلك محال والمفضي إلى المحال محال فإذن وقوع ذلك الشيء محال والمحال غير مراد فذلك الشيء غير مراد وإنه مأمور به فثبت أن الأمر والإرادة لا يتلازمان وظهر أن السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وثانيها أنه عند حصول القدرة والداعية الخالصة إن وجب الفعل كان فعل العبد يوجب فعل الله تعالى وحينئذ يبطل قول المعتزلة وإن لم يجب فإن استغنى عن المرجح فقد وقع الممكن لا عن مرجح وتجويزه يسد باب إثبات الصانع وإن لم يستغن عن المرجح فالكلام يعود في ذلك المرجح ولا ينقطع إلا عند الانتهاء إلى واجب الوجود وثالثها أن فعل العبد لو وقع بقدرته لما وقع إلا الشيء الذي أراد تكوينه وإيجاده لكن الإنسان لا يريد إلا العلم والحق فلا يحصل له إلا الجهل والباطل فلو كان الأمر بقدرته لما كان كذلك فإن قيل إنما كان لأنه اعتقد شبهة أوجبت له ذلك الجهل قلنا إن اعتقد تلك الشبهة لشبهة أخرى لزم التسلسل وهو محال فلا بد من الانتهاء إلى جهل أول ووقع في قلب الإنسان لا بسبب جهل سابق بل الإنسان أحدثه ابتداء من غير موجب وذلك محال لأن الإنسان قط لا يرضى لنفسه بالجهل ولا يحاول تحصيل الجهل لنفسه بل لا يحاول إلا العلم فوجب أن لا يحصل له إلا ما قصده وأراده وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الكل بقضاء سار وقدر نافذ وهو المراد من قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَى ْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَة ً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاًّنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَواة ً وَلاَ نُشُوراً
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو أردف ذلك بتزييف مذهب عبدة الأوثان وبين نقصانها من وجوه أحدها أنها ليست خالقة للأشياء والإله يجب أن يكون قادراً على الخلق والإيجاد وثانيها أنها مخلوقة والمخلوق محتاج والإله يجب أن يكون غنياً وثالثها أنها لا تملك لأنفسها ضراً ولا نفعاً ومن كان كذلك فهو لا يملك لغيره أيضاً نفعاً ومن كان كذلك فلا فائدة في عبادته ورابعها أنها لا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً أي لا تقدر على الإحياء والإماتة في زمان التكليف وثانياً في زمان المجازاة ومن كان كذلك كيف يسمى إلهاً وكيف يحسن عبادته مع أن حق من يحق له العبادة أن ينعم بهذه النعم المخصوصة وههنا سؤالات
الأول قوله وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً هل يختص بعبدة الأوثان أو يدخل فيه النصارى وعبدة الكواكب وعبدة الملائكة والجواب قال القاضي بعيد أن يدخل فيه النصارى لأنهم لم يتخذوا من دون الله آلهة على الجمع فالأقرب أن المراد به عباد الأصنام ويجوز أن يدخل فيه من عبد الملائكة لأن
لمعبودهم كثرة ولقائل أن يقول قوله وَاتَّخَذُواْ صيغة جمع وقوله ءالِهَة ً جمع والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل المفرد بالمفرد فلم يكن كون معبود النصارى واحداً مانعاً من دخوله تحت هذا اللفظ
السؤال الثاني احتج بعض أصحابنا بقوله وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقال إن الله تعالى عاب هؤلاء الكفار من حيث عبدوا ما لا يخلق شيئاً وذلك يدل على أن من خلق يستحق أن يعبد فلو كان العبد خالقاً لكان معبوداً إلهاً أجاب الكعبي عنه بأنا لا نطلق اسم الخالق إلا على الله تعالى وقال بعض أصحابنا في الخلق إنه الإحداث لا بعلاج وفكر وتعب ولا يكون ذلك إلا لله تعالى ثم قال وقد قال تعالى أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ( الأعراف 195 ) في وصف الأصنام أفيدل ذلك على أن كل من له رجل يستحق أن يعبد فإذا قالوا لا قيل فكذلك ما ذكرتم وقد قال تعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( المؤمنون 14 ) هذا كله كلام الكعبي والجواب قوله لا يطلق اسم الخالق على العبد قلنا بل يجب ذلك لأن الخلق في اللغة هو التقدير والتقدير يرجع إلى الظن والحسبان فوجب أن يكون اسم الخالق حقيقة في العبد مجازاً في الله تعالى فكيف يمكنكم منع إطلاق لفظ الخالق على العبد أما قوله تعالى أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا فالعيب إنما وقع عليهم بالعجز فلا جرم أن كل من تحقق العجز في حقه من بعض الوجوه لم يحسن عبادته وأما قوله تعالى فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فقد تقدم الكلام عليه
واعلم أن هذه الآية لا يقوى استدلال أصحابنا بها لاحتمال أن العيب لا يحصل إلا بمجموع أمرين أحدهما أنهم ليسوا بخالقين والثاني أنهم مخلوقون والعبد وإن كان خالقاً إلا أنه مخلوق فلزم أن لا يكون إلهاً معبوداً
السؤال الثالث هل تدل هذه الآية على البعث الجواب نعم لأنه تعالى ذكر النشور ومعناه أن المعبود يجب أن يكون قادراً على إيصال الثواب إلى المطيعين والعقاب إلى العصاة فمن لا يكون كذلك وجب أن لا يصلح للإلهية
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الاٌّ وَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَاواتِ والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَقَالُواْ مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاٌّ سْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّة ٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاٌّ مْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً
اعلم أنه سبحانه تكلم أولاً في التوحيد وثانياً في الرد على عبدة الأوثان وثالثاً في هذه الآية تكلم في مسألة النبوة وحكى سبحانه شبههم في إنكار نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الشبهة الأولى قولهم إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وأعانه عليه قوم آخرون ونظيره قوله تعالى إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ ( النحل 103 ) واعلم أنه يحتمل أن يريدوا به أنه كذب في نفسه ويحتمل أن يريدوا به أنه كذب في إضافته إلى الله تعالى ثم ههنا بحثان
الأول قال أبو مسلم الافتراء افتعال من فريت وقد يقال في تقدير الأديم فريت الأديم فإذا أريد قطع الإفساد قيل أفريت وافتريت وخلقت واختلقت ويقال فيمن شتم امرءاً بما ليس فيه افترى عليه
البحث الثاني قال الكلبي ومقاتل نزلت في النضر بن الحارث فهو الذي قال هذا القول وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ يعني عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار ( غلام عامر ) بن الحضرمي وجبر مولى عامر وهؤلاء الثلاثة كانوا من أهل الكتاب وكانوا يقرأون التوراة ويحدثون أحاديث منها فلما أسلموا وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتعهدهم فمن أجل ذلك قال النضر ما قال واعلم أن الله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً وفيه أبحاث
الأول أن هذا القدر إنما يكفي جواباً عن الشبهة المذكورة لأنه قد علم كل عاقل أنه عليه السلام تحداهم بالقرآن وهم النهاية في الفصاحة وقد بلغوا في الحرص على إبطال أمره كل غاية حتى أخرجهم ذلك إلى ما وصفوه به في هذه الآيات فلو أمكنهم أن يعارضوه لفعلوا ولكان ذلك أقرب إلى أن يبلغوا مرادهم فيه مما أوردوه في هذه الآية وغيرها ولو استعان محمد عليه السلام في ذلك بغيره لأمكنهم أيضاً أن يستعينوا بغيرهم لأن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) كأولئك المنكرين في معرفة اللغة وفي المكنة من الاستعانة فلما لم يفعلوا ذلك والحالة هذه علم أن القرآن قد بلغ النهاية في الفصاحة وانتهى إلى حد الإعجاز ولما تقدمت هذه الدلالة مرات وكرات في القرآن وظهر بسببها سقوط هذا السؤال ظهر أن إعادة هذا السؤال بعد تقدم هذه الأدلة الواضحة لا يكون إلا للتمادي في الجهل والعناد فلذلك اكتفى الله في الجواب بقوله فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً
البحث الثاني قال الكسائي قوله تعالى فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً أي أتوا ظلماً وكذباً وهو كقوله لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً فانتصب بوقوع المجيء عليه وقال الزجاج انتصب بنزع الخافض أي جاءوا بالظلم والزور
البحث الثالث أن الله تعالى وصف كلامهم بأنه ظلم وبأنه زور أما أنه ظلم فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ عنه فقد وضعوا الشيء في غير موضعه وذلك هو الظلم وأما الزور فلأنهم كذبوا فيه وقال أبو مسلم الظلم تكذيبهم الرسول والرد عليه والزور كذبهم عليهم
الشبهة الثانية لهم قوله تعالى وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً وفيه أبحاث
البحث الأول الأساطير ما سطره المتقدمون كأحاديث رستم واسفنديار جمع أسطار أو أسطورة كأحدوثة اكْتَتَبَهَا انتسخها محمد من أهل الكتاب يعني عامراً ويساراً وجبراً ومعنى اكتتب ههنا أمر أن يكتب له كما يقال احتجم وافتصد إذا أمر بذلك فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ أي تقرأ عليه والمعنى أنها كتبت له وهو أمي فهي تلقي عليه من كتابه ليحفظها لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب
أما قوله بُكْرَة ً وَأَصِيلاً قال الضحاك ما يملى عليه بكرة يقرؤه عليكم عشية وما يملى عليه عشية يقرؤه عليكم بكرة
البحث الثاني قال الحسن قوله فَهِى َ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَة ً وَأَصِيلاً كلام الله ذكره جواباً عن قولهم كأنه تعالى قال إن هذه الآيات تملى عليه بالوحي حالاً بعد حال فكيف ينسب إلى أنه أساطير الأولين وأما جمهور المفسرين فقد اتفقوا على أن ذلك من كلام القوم وأرادوا به أن أهل الكتاب أملوا عليه في هذه الأوقات هذه الأشياء ولا شك أن هذا القول أقرب لوجوه أحدها شدة تعلق هذا الكلام بما قبله فكأنهم قالوا اكتتب أساطير الأولين فهي تملى عليه وثانيها أن هذا هو المراد بقولهم وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ وثالثها أنه تعالى أجاب بعد ذلك عن كلامهم بقوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ قال صاحب ( الكشاف ) وقول الحسن إنما يستقيم أن لو فتحت الهمزة للاستفهام الذي في معنى الإنكار وحق الحسن أن يقف على الاْوَّلِينَ وأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وفيه أبحاث
البحث الأول في بيان أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة وتقريره ما قدمنا أنه عليه السلام تحداهم بالمعارضة وظهر عجزهم عنها ولو كان عليه السلام أتى بالقرآن بأن استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بأحد فيأتوا بمثل هذا القرآن فلما عجزوا عنه ثبت أنه وحي الله وكلامه فلهذا قال قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ وذلك لأن القادر على تركيب ألفاظ القرآن لا بد وأن يكون عالماً بكل المعلومات ظاهرها وخافيها من وجوه أحدها أن مثل هذه الفصاحة لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات وثانيها أن القرآن مشتمل على الإخبار عن الغيوب وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات وثالثها أن القرآن مبرأ عن النقص وذلك لا يتأتى إلا من العالم على ما قال تعالى وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ( النساء 82 ) ورابعها اشتماله على الأحكام التي هي مقتضية لمصالح العالم ونظام العباد وذلك لا يكون إلا من العالم بكل المعلومات وخامسها اشتماله على أنواع العلوم وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات فلما دل القرآن من هذه الوجوه على أنه ليس إلا كلام بكل المعلومات لا جرم اكتفى في جواب شبههم بقوله قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السّرَّ
البحث الثاني اختلفوا في المراد بالسر فمنهم من قال المعنى أن العالم بكل سر في السموات والأرض هو الذي يمكنه إنزال مثل هذا الكتاب وقال أبو مسلم المعنى أنه أنزله من يعلم السر فلو كذب عليه لانتقم منه لقوله تعالى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاْقَاوِيلِ لاخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( الحاقة 44 ) وقال آخرون المعنى
أنه يعلم كل سر خفي في السموات والأرض ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله مع علمكم بأن ما يقوله حق ضرورة وكذلك باطن أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبراءته مما تتهمونه به وهو سبحانه مجازيكم ومجازيه على ما علم منكم وعلم منه
البحث الثالث إنما ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع لوجهين الأول قال أبو مسلم المعنى أنه إنما أنزله لأجل الإنذار فوجب أن يكون غفوراً رحيماً غير مستعجل في العقوبة الثاني أنه تنبيه على أنهم استوجبوا بمكايدتهم هذه أن يصب عليهم العذاب صباً ولكن صرف ذلك عنهم كونه غفوراً رحيماً يمهل ولا يعجل
الشبهة الثالثة وهي في نهاية الركاكة ذكروا له صفات خمسة فزعموا أنها تخل بالرسالة إحداها قولهم مَّالِ هَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وثانيتها قولهم وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ يعني أنه لما كان كذلك فمن أين له الفضل علينا وهو مثلنا في هذه الأمور وثالثتها قولهم لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً يصدقه أو يشهد له ويرد على من خالفه ورابعتها قولهم أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أي من السماء فينفقه فلا يحتاج إلى التردد لطلب المعاش وخامستها قولهم أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّة ٌ يَأْكُلُ مِنْهَا قرأ حمزة والكسائي نَّأْكُلَ مِنْهَا بالنون وقرأ الباقون بالياء والمعنى إن لم يكن لك كنز فلا أقل من أن تكون كواحد من الدهاقين فيكون لك بستان تأكل منه وسادستها قولهم إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا وقد تقدمت هذه القصة في آخر سورة بني إسرائيل فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة من وجوه أحدها قوله انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاْمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً وفيه أبحاث
الأول أن هذا كيف يصلح أن يكون جواباً عن تلك الشبهة وبيانه أن الذي يتميز الرسول به عن غيره هو المعجزة وهذه الأشياء التي ذكروها لا يقدح شيء منها في المعجزة فلا يكون شيء منها قادحاً في النبوة فكأنه تعالى قال انظر كيف اشتغل القوم بضرب هذه الأمثال التي لا فائدة فيها لأجل أنهم لما ضلوا وأرادوا القدح في نبوتك لم يجدوا إلى القدح فيه سبيلاً ألبتة إذ الطعن عليه إنما يكون بما يقدح في المعجزات التي ادعاها لا بهذا الجنس من القول وفيه وجه آخر وهو أنهم لما ضلوا لم يبق فيهم استطاعة قبول الحق وهذا إنما يصح على مذهبنا وتقريره بالعقل ظاهر وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مستوى الداعي إلى الحق والباطل وإما أن يكون داعيته إلى أحدهما أرجح من داعيته إلى الثاني فإن كان الأول فحال الاستواء ممتنع الرجحان فيمتنع الفعل وإن كان الثاني فحال رجحان أحد الطرفين يكون حصول الطرف الآخر ممتنعاً فثبت أن حال رجحان الضلالة في قلبه استحال منه قبول الحق وما كان محالاً لم يكن عليه قدرة فثبت أنهم لما ضلوا ما كانوا مستطيعين
تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاٌّ نْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَة ِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً
اعلم أن هذا هو الجواب الثاني عن تلك الشبهة فقوله تَبَارَكَ الَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذالِكَ أي من الله ذكروه من نعم الدنيا كالكنز والجنة وفسر ذلك الخير بقوله جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً نبه بذلك سبحانه على أنه قادر على أن يعطي الرسول كل ما ذكروه ولكنه تعالى يدبر عباده بحسب الصالح أو على وفق المشيئة ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله فيفتح على واحد أبواب المعارف والعلوم ويسد عليه أبواب الدنيا وفي حس الآخر بالعكس وما ذاك إلا أنه فعال لما يريد وههنا مسائل
المسألة الأولى قال ابن عباس خير من ذلك مما عيروك بفقده الجنة لأنهم عيروك بفقد الجنة الواحدة وهو سبحانه قادر على أن يعطيك جنات كثيرة وقال في رواية عكرمة خَيْراً مّن ذالِكَ أي من المشي في الأسواق وابتغاء المعاش
المسألة الثانية قوله إِن شَاء معناه أنه سبحانه قادر على ذلك لا أنه تعالى شاك لأن الشك لا يجوز على الله تعالى وقال قوم ءانٍ ههنا بمعنى إذا أي قد جعلنا لك في الآخرة جنات وبنينا لك قصوراً وإنما أدخل إن تنبيهاً للعباد على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته وأنه معلق على محض مشيئته وأنه ليس لأحد من العباد على الله حق لا في الدنيا ولا في الآخرة
المسألة الثالثة القصور جماعة قصر وهو المسكن الرفيع ويحتمل أن يكون لكل جنة قصر فيكون مسكناً ومتنزهاً ويجوز أن يكون القصور مجموعة والجنات مجموعة وقال مجاهد إن شاء جعل لك جنات في الآخرة وقصوراً في الدنيا
المسألة الرابعة اختلف الفراء في قوله وَيَجْعَلَ فرفع ابن كثير وابن عامر وعاصم اللام وجزمه الآخرون فمن جزم فلأن المعنى إن شاء يجعل لك جنات ويجعل لك قصوراً ومن رفع فعلى الاستئناف والمعنى سيجعل لك قصوراً هذا قول الزجاج قال الواحدي وبين القراءتين فرق في المعنى فمن جزم فالمعنى إن شاء يجعل لك قصوراً في الدنيا ولا يحسن الوقوف على الأنهار ومن رفع حسن له الوقوف على الأنهار واستأنف أي ويجعل لك قصوراً في الآخرة وفي مصحف أبي وابن مسعود ( تبارك الذي إن شاء يجعل )
المسألة الخامسة عن طاوس عن ابن عباس قال ( بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس وجبريل عليه السلام عنده قال جبريل عليه السلام هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء الملك وسلم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال ( إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء لم يعطها أحداً قبلك ولا يعطيه أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئاً فقال عليه السلام بل يجمعها جميعاً لي في الآخرة فنزل قوله تبارك الذي إن شاء ) الآية وعن ابن عباس قال عليه السلام ( عرض عليَّ جبريل بطحاء
مكة ذهباً فقلت بل شبعة وثلاث جوعات ) وذلك أكثر لذكري ومسألتي لربي وفي رواية صفوان بن سليم عن عبد الوهاب قال عليه السلام ( أشبع يوماً وأجوع ثلاثاً فأحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت ) وعن الضحاك ( لما عير المشركون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالفاقة حزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لذلك فنزل جبريل عليه السلام معزياً له وقال إن الله يقرؤك السلام ويقول وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ( الفرقان 20 ) الآية قال فبينما جبريل عليه السلام والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتحدثان إذ فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك ثم قال أبشر يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضا من ربك فسلم عليه وقال إن ربك يخيرك بين أن تكون نبياً ملكاً وبين أن تكون نبياً عبداً ومعه سفط من نور يتلألأ ثم قال هذه مفاتيح خزائن الدنيا فاقبضها من غير أن ينقصك الله مما أعد لك في الآخرة جناح بعوضة فنظر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جبريل كالمستشير فأومأ بيده أن تواضع فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل نبياً عبداً ) قال فكان عليه السلام بعد ذلك لم يأكل متكئاً حتى فارق الدنيا
أما قوله تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَة ِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً فهذا جواب ثالث عن تلك الشبهة كأنه سبحانه قال ليس ما تعلقوا به شبهة عيلمة في نفس المسألة بل الذي حملهم على تكذيبك تكذيبهم بالساعة استثقالاً للاستعداد لها ويحتمل أن يكون المعنى أنهم يكذبون بالساعة فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً ولا يتحملون كلفة النظر والفكر فلهذا لا ينتفعون بما يورد عليهم من الدلائل ثم قال وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال أبو مسلم وَأَعْتَدْنَا أي جعلناها عتيداً ومعدة لهم والسعير النار الشديدة الاستعار وعن الحسن أنه اسم من أسماء جهنم
المسألة الثانية احتج أصحابنا على أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ( آل عمران 133 ) وعلى أن النار التي هي دار العقاب مخلوقة بهذه الآية وهي قوله وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً وقوله أَعْتَدْنَا إخبار عن فعل وقع في الماضي فدلت الآية على أن دار العقاب مخلوقة قال الجبائي يحتمل وأعتدنا النار في الدنيا وبها نعذب الكفار والفساق في قبورهم ويحتمل نار الآخرة ويكون معنى وَأَعْتَدْنَا أي سنعدها لهم كقوله وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ أَصْحَابَ النَّارِ ( الأعراف 44 ) واعلم أن هذا السؤال في نهاية السقوط لأن المراد من السعير إما نار الدنيا وإما نار الآخرة فإن كان الأول فإما أن يكون المراد أنه تعالى يعذبهم في الدنيا بنار الدنيا أو يعذبهم في الآخرة بنار الدنيا والأول باطل لأنه تعالى ما عذبهم بالنار في الدنيا والتالي أيضاً باطل لأنه لم يقل أحد من الأمة أنه تعالى يعذب الكفرة في الآخرة بنيران الدنيا فثبت أن المراد نار الآخرة وثبت أنها معدة وحمل الآية على أن الله سيجعلها معدة ترك للظاهر من غير دليل وعلى أن الحسن قال السعير اسم من أسماء جهنم فقوله وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَة ِ سَعِيراً صريح في أنه تعالى أعد جهنم
المسألة الثالثة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن السعيد من سعد في بطن أمه فقالوا إن الذين أعد الله تعالى لهم السعير وأخبر عن ذلك وحكم به أن صاروا مؤمنين من أهل الثواب انقلب حكم الله بكونهم من أهل السعير كذباً وانقلب بذلك علمه جهلاً وهذا الانقلاب محال والمؤدي إلى المحال محال فصيرورة أولئك مؤمنين من أهل الثواب محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقياً والشقي لا ينقلب سعيداً ثم إنه
سبحانه وتعالى وصف السعير بصفات إحداها قوله إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وفيه مسائل
المسألة الأولى السعير مذكر ولكن جاء ههنا مؤنثاً لأنه تعالى قال رَأَتْهُمْ وقال سَمِعُواْ لَهَا وإنما جاء مؤنثاً على معنى النار
المسألة الثانية مذهب أصحابنا أن البنية ليست شرطاً في الحياة فالنار على ما هي عليه يجوز أن يخلق الله الحياة والعقل والنطق فيها وعند المعتزلة ذلك غير جائز وهؤلاء المعتزلة ليس لهم في هذا الباب حجة إلا استقراء العادات ولو صدق ذلك لوجب التكذيب بانخراق العادات في حق الرسل فهؤلاء قولهم متناقض بل إنكار العادات لا يليق إلا بأصول الفلاسفة فعلى هذا قال أصحابنا قول الله تعالى في صفة النار إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً يجب إجراؤه على الظاهر لأنه لا امتناع في أن تكون النار حية رائية مغتاظة على الكفار أما المعتزلة فقد احتاجوا إلى التأويل وذكروا فيه وجوهاً أحدها قالوا معنى رأتهم ظهرت لهم من قولهم دورهم تتراءى وتتناظر وقال عليه السلام ( إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما ) أي لا تتقابلان لما يجب على المؤمن من مجانبة الكافر والمشرك ويقال دور فلان متناظرة أي متقابلة وثانيها أن النار لشدة اضطرامها وغليانها صارت ترى الكفار وتطلبهم وتتغيظ عليهم وثالثها قال الجبائي إن الله تعالى ذكر النار وأراد الخزنة الموكلة بتعذيب أهل النار لأن الرؤية تصح منهم ولا تصح من النار فهو كقوله وَاسْئَلِ الْقَرْيَة َ ( يوسف 82 ) أراد أهلها
المسألة الثالثة لقائل أن يقول التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعاً فكيف قال الله تعالى سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً والجواب عنه من وجوه أحدها أن التغيظ وإن لم يسمع فإنه قد يسمع ما يدل عليه من الصوت وهو كقوله رأيت غضب الأمير على فلان إذا رأى ما يدل عليه وكذلك يقال في المحبة فكذا ههنا والمعنى سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ وهو قول الزجاج وثانيها المعنى علموا لها تغيظاً وسمعوا لها زفيراً وهذا قول قطرب وهو كقول الشاعر مقلداً سيفاً ورمحاً وثالثها المراد تغيظ الخزنة
المسألة الرابعة قال عبيد بن عمير إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا وترعد فرائصه حتى إن إبراهيم عليه السلام يجثو على ركبتيه ويقول نفسي نفسي
الصفة الثانية للسعير قوله تعالى وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً واعلم أن الله سبحانه لما وصف حال الكفار حينما يكونون بالبعد من جهنم وصف حالهم عند ما يلقون فيها نعوذ بالله منه بما لا شيء أبلغ منه وفيه مسائل
المسألة الأولى في ضَيّقاً قراءتان التشديد والتخفيف وهو قراءة ابن كثير
المسألة الثانية نقل في تفسير الضيق أمور قال قتادة ذكر لنا عبدالله بن عمر قال ( إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج على الرمح ) وسئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذلك فقال ( والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط ) قال الكلبي الأسفلون يرفعهم اللهيب والأعلون يخفضهم الداخلون
فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة قال صاحب ( الكشاف ) الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض وجاء في الأحاديث ( إن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا ) ولقد جمع الله على أهل النار أنواع ( البلاء حيث ضم إلى العذاب الشديد الضيق )
المسألة الثالثة قالوا في تفسير قوله تعالى مُّقَرَّنِينَ فِى الاْصْفَادِ إن أهل النار مع ما هم فيه من العذاب الشديد والضيق الشديد يكونون مقرنين في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم وقيل يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد ثم إنه سبحانه حكى عن أهل النار أنهم حين ما يشاهدون هذا النوع من العقاب الشديد دعوا ثبوراً والثبور الهلاك ودعاؤهم أن يقولوا واثبوراه أي يقولوا يا ثبور هذا حينك وزمانك وروى أنس مرفوعاً ( أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على جانبيه ويسحبها من خلفه ذريته وهو يقول يا ثبوراه وينادون يا ثبورهم حتى يردوا النار )
أما قوله لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً أي يقال لهم ذلك وهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن ثم قول ومعنى وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم منه واحداً إنما هو ثبور كثير إما لأن العذاب أنواع وألوان لكل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها أو لأن ذلك العذاب دائم خالص عن الشوب فلهم في كل وقت من الأوقات التي لا نهاية لها ثبور أو لأنهم ربما يجدون بسبب ذلك القول نوعاً من الخفة فإن المعذب إذا صاحب وبكى وجد بسببه نوعاً من الخفة فيزجرون عن ذلك ويخبرون بأن هذا الثبور سيزداد كل يوم ليزداد حزنهم وغمهم نعوذ بالله منه قال الكلبي نزل هذا كله في حق أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات
قُلْ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّة ُ الْخُلْدِ الَّتِى وَعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً
في الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أنه تعالى لما وصف حال العقاب المعد للمكذبين بالساعة أتبعه بما يؤكد الحسرة والندامة فقال لرسوله قُلْ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّة ُ الْخُلْدِ أن يلتمسوها بالتصديق والطاعة فإن قيل كيف يقال العذاب خير أم جنة الخلد وهل يجوز أن يقول العاقل السكر أحلى أم الصبر قلنا هذا يحسن في معرض التفريع كما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر فيضربه ضرباً وجيعاً ويقول على سبيل التوبيخ هذا أطيب أم ذاك
المسألة الثانية احتج أصحابنا بقوله وُعِدَ الْمُتَّقُونَ على أن الثواب غير واجب على الله تعالى لأن من قال السلطان وعد فلاناً أن يعطيه كذا فإنه يحمل ذلك على التفضيل فأما لو كان ذلك الإعطاء واجباً لا يقال إنه وعده به أما المعتزلة فقد احتجوا به أيضاً على مذهبهم قالوا لأنه سبحانه أثبت ذلك الوعد للموصوفين بصفة التقوى وترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية فكذا يدل هذا على أن ذلك الوعد
إنما حصل معللاً بصفة التقوى والتفضيل غير مختص بالمتقين فوجب أن يكون المختص بهم واجباً
المسألة الثالثة قال أبو مسلم جنة الخلد هي التي لا ينقطع نعيمها والخلد والخلود سواء كالشكر والشكور قال الله تعالى لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُوراً ( الإنسان 9 ) فإن قيل الجنة اسم لدار الثواب وهي مخلدة فأي فائدة في قوله جَنَّة ُ الْخُلْدِ قلنا الإضافة قد تكون للتمييز وقد تكون لبيان صفة الكمال كما يقال الله الخالق البارىء وما هنا من هذا الباب
أما قوله كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً ففيه مسائل
المسألة الأولى المعتزلة احتجوا بهذه الآية على إثبات الاستحقاق من وجهين الأول أن اسم الجزاء لا يتناول إلا المستحق فأما الوعد بمحض التفضيل فإنه لا يسمى جزاء والثاني لو كان المراد من الجزاء الأمر الذي يصيرون إليه بمجرد الوعد فحينئذ لا يبقى بين قوله جَزَاء وبين قوله مَصِيراً تفاوت فيصير ذلك تكراراً من غير فائدة قال أصحابنا رحمهم الله لا نزاع في كونه جَزَاء إنما النزاع في أن كونه جزاء ثبت بالوعد أو بالاستحقاق وليس في الآية ما يدل على التعيين
المسألة الثانية قالت المعتزلة الآية تدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة من وجهين الأول أن صاحب الكبيرة يستحق العقاب فوجب أن لا يكون مستحقاً للثواب لأن الثواب هو النفع الدائم الخالص عن شوب الضرر والعقاب هو الضرر الدائم الخالص عن شوب النفع والجمع بينهما محال وما كان ممتنع الوجود امتنع أن يحصل استحقاقه فإذن متى ثبت استحقاق العقاب وجب أن يزول استحقاق الثواب فنقول لو عفا الله عن صاحب الكبيرة لكان إما أن يخرجه من النار ولا يدخله الجنة وذلك باطل بالإجماع لأنهم أجمعوا على أن المكلفين يوم القيامة إما أن يكونوا من أهل الجنة أو من أهل النار لأنه تعالى قال فَرِيقٌ فِى الْجَنَّة ِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ ( الشورى 7 ) وإما أن يخرجه من النار ويدخله الجنة وذلك باطل لأن الجنة حق المتقين لقوله تعالى كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً فجعل الجنة لهم ومختصة بهم وبين أنها إنما كانت لهم لكونها جزاء لهم على أعمالهم فكانت حقاً لهم وإعطاء حق الإنسان لغيره لا يجوز ولما بطلت الأقسام ثبت أن العفو غير جائز أجاب أصحابنا لم لا يجوز أن يقال المتقون يرضون بإدخال الله أهل العفو في الجنة فحينئذ لا يمتنع دخولهم فيها الوجه الثاني قالوا المتقي في عرف الشرع مختص بمن اتقى الكفر والكبائر وإن اختلفنا في أن صاحب الكبيرة هل يسمى مؤمناً أم لا لكنا اتفقنا على أنه لا يسمى متقياً ثم قال في وصف الجنة إنها كانت لهم جزاء ومصيراً وهذا للحصر والمعنى أنها مصير للمتقين لا لغيرهم وإذا كان كذلك وجب أن لا يدخلها صاحب الكبيرة قلنا أقصى ما في الباب أن هذا العموم صريح في الوعيد فتخصه بآيات الوعد
المسألة الثالثة لقائل أن يقول إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيراً لكنها بعد ما صارت كذلك فلم قال الله تعالى كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيراً جوابه من وجهين الأول أن ما وعد الله فهو في تحققه كأنه قد كان والثاني أنه كان مكتوباً في اللوح قبل أن يخلقهم الله تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم
أما قوله تعالى لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ خَالِدِينَ فهو نطير قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ( فصلت 31 ) وفيه مسائل
المسألة الأولى لقائل أن يقول أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها فإذا سألوها ربهم فإن أعطاهم إياها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ وأيضاً فالأب إذا كان ولده في درجات النيران وأشد العذاب إذا اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه فإن فعل الله تعالى ذلك قدح في أن عذاب الكافر مخلد وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وفي قوله لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ وجوابه أن الله تعالى يزيل ذلك الخاطر عن قلوب أهل الجنة بل يكون اشتغال كل واحد منهم بما فيه من اللذات شاغلاً عن الالتفات إلى حال غيره
المسألة الثانية شرط نعيم الجنة أن يكون دائماً إذ لو انقطع لكان مشوباً بضرب من الغم ولذلك قال المتنبي أشد الغم عندي في سرور
تيقن عنه صاحبه انتقالا
ولذلك اعتبر الخلود فيه فقال لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ خَالِدِينَ
المسألة الثالثة قوله تعالى لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ كالتنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة فأما في غيرها فلا يحصل ذلك بل لا بد في الدنيا من أن تكون راحاتها مشوبة بالجراحات ولذلك قال عليه السلام ( من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق فقيل وما هو يا رسول الله فقال سرور يوم )
أما قوله كَانَ عَلَى رَبّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً ففيه مسائل
المسألة الأولى كلمة ( على ) للوجوب قال عليه السلام ( من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى ) فقوله كَانَ عَلَى رَبِّكَ يفيد أن ذلك واجب على الله تعالى والواجب هو الذي لو لم يفعل لاستحق تاركه بفعله الذم أو أنه الذي يكون عدمه ممتنعاً فإن كان الوجوب على التفسير الأول كان تركه محالاً لأن تركه لما استلزم استحقاق الذم واستحقاق الله تعالى الذم محال ومستلزم المحال محال كان ذلك الترك محالاً والمحال غير مقدور فلم يكن الله تعالى قادراً على أن لا يفعل فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل وإن كان الوجوب على التفسير الثاني وهو أن يقال الواجب ما يكون عدمه ممتنعاً يكون القول بالإلجاء لازماً فلم يكن الله قادراً فإن قيل إنه ثبت بحكم الوعد فنقول لو لم يفعل لانقلب خبره الصدق كذباً وعلمه جهلاً وذلك محال والمؤدي إلى المحال محال فالترك محال فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل والملجأ إلى الفعل لا يكون قادراً ولا يكون مستحقاً للثناء والمدح تمام السؤال وجوابه أن فعل الشيء متقدم على الإخبار عن فعله وعن العلم بفعله فيكون ذلك الفعل فعلاً لا على سبيل الإلجاء فكان قادراً ومستحقاً للثناء والمدح
المسألة الثانية قوله وَعْداً يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق وقد تقدم تقريره
المسألة الثالثة قوله مَسْؤُولاً ذكروا فيه وجوهاً أحدها أن المكلفين سألوه بقولهم رَبَّنَا ءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ( آل عمران 194 ) وثانيها أن المكلفين سألوه بلسان الحال لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته كان ذلك قائماً مقام السؤال قال المتنبي وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي كلام عندها وخطاب
وثالثها الملائكة سألوا الله تعالى ذلك بقولهم رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ( غافر 8 ) ورابعها وَعْداً مَسْؤُولاً أي واجباً يقال لأعطينك ألفاً وعداً مسؤولاً أي واجباً وإن لم تسأل قال الفراء وسائر الوجوه أقرب من هذا لأن سائر الوجوه أقرب إلى الحقيقة وما قاله الفراء مجاز وخامسها مسؤولاً أي من حقه أن يكون مسؤولاً لأنه حق واجب إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة أو بحكم الوعد على قول أهل السنة
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَءَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَاؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاٌّ سْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
اعلم أن قوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ راجع إلى قوله وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءالِهَة ً ( الفرقان 3 ) ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى يَحْشُرُهُمْ فنقول كلاهما بالنون والياء وقرىء نَحْشُرُهُمْ بكسر الشين
المسألة الثانية ظاهر قوله وَمَا يَعْبُدُونَ أنها الأصنام وظاهر قوله فَيَقُولُ أَءنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وغيرهما لأن الإضلال وخلافه منهم يصح فلأجل هذا اختلفوا
فمن الناس من حمله على الأوثان فإن قيل لهم الوثن جماد فكيف خاطبه الله تعالى وكيف قدر على الجواب فعند ذلك ذكروا وجهين أحدهما أن الله تعالى يخلق فيهم الحياة فعند ذلك يخاطبهم فيردون الجواب وثانيها أن يكون ذلك الكلام لا بالقول اللساني بل على سبيل لسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات وكلام الأيدي والأرجل وكما قيل سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً وأما الأكثرون فزعموا أن المراد هو الملائكة وعيسى وعزير عليهم السلام قالوا ويتأكد هذا القول بقوله تعالى وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَة ِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ( سبأ 40 ) وإذا قيل لهم لفظة ( ما ) لا تستعمل في العقلاء أجابوا عنه من وجهين الأول لا نسلم أن كلمة ( ما ) لما لا يعقل بدليل أنهم قالوا ( من ) لما لا يعقل والثاني أريد به الوصف كأنه قيل ( ومعبودهم ) وقوله تعالى وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا ( الشمس 5 ) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ( لكافرون 3 ) لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين وكيف كان فالسؤال ساقط
المسألة الثالثة حاصل الكلام أن الله تعالى يحشر المعبودين ثم يقول لهم أأنتم أوقعتم عبادي في الضلال عن طريق الحق أم هم ضلوا عنه بأنفسهم قالت المعتزلة وفيه كسر بين لقول من يقول إن الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقولوا إلهنا ههنا قسم ثالث غيرهما هو الحق وهو أنك أنت أضلتهم فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا إضلالهم إلى أنفسهم علمنا أن الله تعالى لا يضل أحداً من عباده فإن قيل لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه فإنهم قالوا وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم وهو أنه سبحانه وتعالى متعهم وآباءهم بنعيم الدنيا قلنا لو كان الأمر كذلك لكان يلزمهم أن يصير الله محجوباً في يد أولئك المعبودين ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملزماً هذا تمام تقرير المعتزلة في الآية أجاب أصحابنا بأن القدرة على الضلال إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله تعالى وإن صلحت له لم تترجح مصدريتها للإضلال على مصدريتها للاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى وعند لذلك يعود السؤال وأما ظاهر هذه الآية فهو وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظواهر المطابقة لقولنا
المسألة الرابعة ظاهر الآية يدل على أن هذا السؤال من الله تعالى وإن احتمل أن يكون ذلك من الملائكة بأمر الله تعالى بقي على الآية سؤالات
الأول ما فائدة أنتم وهم وهلا قيل أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل الجواب ليس السؤال عن الفعل ووجوده لأنه لولا وجوده لما توجه هذا العتاب وإنما هو عن فاعله فلا بد من ذكره وإيلائه حرف الاستفهام حتى يعلم أنه المسؤول عنه
السؤال الثاني أنه سبحانه كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال الجواب هذا استفهام على سبيل التقريع للمشركين كما قال لعيسى قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِى وَأُمّى َ إِلَاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ ( المائدة 116 ) ولأن أولئك المعبودين لما برؤا أنفسهم وأحالوا ذلك الضلال عليهم صار تبرؤ
المعبودين عنهم أشد في حسرتهم وحيرتهم
السؤال الثالث قال تعالى أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ والقياس أن يقال ضل عن السبيل الجواب الأصل ذلك إلا أن الإنسان إذا كان متناهياً في التفريط وقلة الاحتياط يقال ضل السبيل
أما قوله سُبْحَانَكَ فاعلم أنه سبحانه حكى جوابهم وفي قوله سُبْحَانَكَ وجوه أحدها أنه تعجب منهم فقد تعجبوا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وثانيها أنهم نطقوا بسبحانك ليدلوا على أنهم المسبحون ( المقدسون المؤمنون ) بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده وثالثها قصدوا به تنزيهه عن الأنداد سواء كان وثناً أو نبياً أو ملكاً ورابعها قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إيذاء من كان بريئاً عن الجرم بل إنه إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم
أما قوله مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء ففيه مسائل
المسألة الأولى القراءة المعروفة أَن نَّتَّخِذَ بفتح النون وكسر الخاء وعن أبي جعفر وابن عامر برفع النون وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله قال الزجاج أخطأ من قرأ أَن نَّتَّخِذَ بضم النون لأن ( من ) إنما تدخل في هذا الباب في الأسماء إذا كان مفعولاً أولاً ولا تدخل على مفعول الحال تقول ما اتخذت من أحد ولياً ولا يجوز ما اتخذت أحداً من ولي قال صاحب ( الكشاف ) اتخذ يتعدى إلى مفعول واحد كقولك اتخذ ولياً وإلى مفعولين كقولك اتخذ فلاناً ولياً قال الله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً ( النساء 125 ) والقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد وهو مِنْ أَوْلِيَاء والأصل أن نتخذ أولياء فزيدت من لتأكيد معنى النفي والثانية من المتعدي إلى مفعولين فالأول ما بني له الفعل والثاني مِنْ أَوْلِيَاء من للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء وتنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام
المسألة الثانية ذكروا في تفسير هذه الآية وجوهاً أولها وهو الأصح الأقوى أن المعنى إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك أولياء فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك وثانيها ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما يوليهم الكفار قال تعالى فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ ( النساء 76 ) يريد الكفرة وقال وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ( البقرة 257 ) عن أبي مسلم وثالثها ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلناه والحاصل أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ورابعها قالت الملائك إنهم عبيدك فلا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك ولياً ولا حبيباً فضلاً عن أن يتخذ عبد عبداً آخر إلهاً لنفسه وخامسها أن على قراءة أبي جعفر الإشكال زائل فإن قيل هذه القراءة غير جائزة لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء قلنا المراد إنا لا نصلح لذلك فكيف ندعوهم إلى عبادتنا وسادسها أن هذا قول الأصنام وأنها قالت لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادعاؤنا أنا من المعبودين
المسألة الثالثة الآية تدل على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله فكل ولاية مبنية على ميل النفس ونصيب الطبع فذاك على خلاف الشرع
أما قوله تعالى وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً ففيه مسائل
المسألة الأولى معنى الآية أنك يا إلهنا أكثرت عليهم وعلى آبائهم من النعم وهي توجب الشكر والإيمان لا الإعراض والكفران والمقصود من ذلك بيان أنهم ضلوا من عند أنفسهم لا بإضلالنا فإنه لولا عنادهم الظاهر وإلا فمع ظهور هذه الحجة لا يمكن الإعراض عن طاعة الله تعالى وقال آخرون إن هذا الكلام كالرمز فيما صرح به موسى عليه السلام في قوله إِنْ هِى َ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ( الأعراف 155 ) وذلك لأن المجيب قال إلهي أنت الذي أعطيته جميع مطالبه من الدنيا حتى صار كالغريق في بحر الشهوات واستغراقه فيها صار صاداً له عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك فإن هي إلا فتنتك
المسألة الثانية الذكر ذكر الله والإيمان به ( و ) القرآن والشرائع أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة
المسألة الثالثة قال أبو عبيدة يقال رجل بور ورجلان بور ورجال بور وكذلك الأنثى ومعناه هالك وقد يقال رجل بائر وقوم بور وهو مثل هائر وهور والبوار الهلاك وقد احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة القضاء والقدر ولا شك أن المراد منه وكانوا من الذين حكم عليهم في الآخرة بالعذاب والهلاك فالذي حكم الله عليه بعذاب الآخرة وعلم ذلك وأثبته في اللوح المحفوظ وأطلع الملائكة عليه لو صار مؤمناً لصار الخبر الصدق كذباً ولصار العلم جهلاً ولصارت الكتابة المثبتة في اللوح المحفوظ باطلة ولصار اعتقاد الملائكة جهلاً وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال فصدور الإيمان منه محال فدل على أن السعيد لا يمكنه أن ينقلب شقياً والشقي لا يمكنه أن ينقلب سعيداً ومن وجه آخر هو أنهم ذكروا أن الله تعالى آتاهم أسباب الضلال وهو إعطاء المرادات في الدنيا واستغراق النفس فيها ودلت الآية على أن ذلك السبب بلغ مبلغاً يوجب البوار فإن ذكر البوار عقيب ذلك السبب يدل على أن البوار إنما حصل لأجل ذلك السبب فرجع حاصل الكلام إلى أنه تعالى فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر وحينئذ ظهر أن السعيد لا ينقلب شقياً وأن الشقي لا ينقلب سعيداً
أما قوله تعالى فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فاعلم أنه قرىء يَقُولُونَ بالياء والتاء فمعنى من قرأ بالتاء فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة أي كذبوكم في قولكم إنهم آلهة ومن قرأ بالياء المنقوطة من تحت فالمعنى أنهم كذبوكم ( بقولكم ) سُبْحَانَكَ ومثاله قولك كتبت بالقلم
أما قوله فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً فاعلم أنه قرىء يَسْتَطِيعُونَ بالياء والتاء أيضاً يعني فما تستطيعون أنتم يا أيها الكفار صرف العذاب عنكم وقيل الصرف التوبة وقيل الحيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال أو فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب ( و ) أن يحتالوا لكم
أما قوله تعالى وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً ففيه مسألتان
المسألة الأولى قرىء يذقه بالياء وفيه ضمير الله تعالى أو ضمير ( الظلم )
المسألة الثانية أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية في القطع بوعيد أهل الكبائر فقالوا ثبت أن ( من ) للعموم في معرض الشرط وثبت أن الكافر ظالم لقوله بِاللَّهِ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( لقمان 13 ) والفاسق ظالم لقوله وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( الحجرات 11 ) فثبت بهذه الآية أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة
والجواب أنا لا نسلم أن كلمة ( من ) في معرض الشرط للعموم والكلام فيه مذكور في أصول الفقه سلمنا أنه للعموم ولكن قطعاً أم ظاهراً ودعوى القطع ممنوعة فإنا نرى في العرف العام المشهور استعمال صيغ العموم مع أن المراد هو الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون والدليل عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( البقرة 6 ) ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع له إلا أن يقال قوله الَّذِينَ كَفَرُواْ وإن كان يفيد العموم لكن المراد منه الغالب أو المراد منه أقوام مخصوصون وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة وذلك لا ينفي تجويز العفو سلمنا دلالته قطعاً ولكنا أجمعنا على أن قوله وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ مشروط بأن لا يوجد ما يزيله وعند هذا نقول هذا مسلم لكن لم قلت بأن لم يوجد ما يزيله فإن العفو عندنا أحد الأمور التي تزيله وذلك هو أحد الثلاثة أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ( الكهف 107 ) فإن قيل آيات الوعيد أولى لأن السارق يقطع على سبيل التنكيل ومن لم يكن مستحقاً للعقاب لا يجوز قطع يده على سبيل التنكيل فإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب أحبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال قلنا لا نسلم أن السارق يقطع على سبيل التنكيل ألا ترى أنه لو تاب فإنه يقطع لا على سبيل التنكيل بل على سبيل المحنة نزلنا عن هذه المقامات ولكن قوله تعالى وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ إنه خطاب مع قوم مخصوصين معينين فهب أنه لا يعفو عنهم فلم قلت إنه لا يعفو عن غيرهم
أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاْسْوَاقِ ففيه مسائل
المسألة الأولى هذا جواب عن قولهم مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاْسْوَاقِ ( الفرقان 7 ) بين الله تعالى أن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن
المسألة الثانية حق الكلام أن يقال أَلاَ إِنَّهُمْ بفتح الألف لأنه متوسط والمكسورة لا تليق إلا بالابتداء فلأجل هذا ذكروا وجوهاً أحدها قال الزجاج الجملة بعد ( إلا ) صفة لموصوف محذوف والمعنى وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين وإنما حذف لأن في قوله مِنَ الْمُرْسَلِينَ دليلاً عليه ونظيره قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ( الصافات 164 ) على معنى وما منا أحد وثانيها قال الفراء إنه صلة لاسم متروك اكتفى بقوله مِنَ الْمُرْسَلِينَ عنه والمعنى إلا من أنهم كقوله وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ أي من له مقام معلوم وكذلك قوله وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( مريم 71 ) أي إلا من يردها فعلى قول الزجاج الموصوف محذوف وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين وثالثها قال ابن الأنباري تكسر إن بعد الاستثناء بإضمار واو على تقدير إلا وإنهم ورابعها قال بعضهم المعنى إلا قيل إنهم
المسألة الثالثة قرىء يَمْشُونَ على البناء للمفعول أي تمشيهم حوائجهم أو الناس ولو قرىء يَمْشُونَ لكان أوجه لولا الرواية
أما قوله تعالى وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً ففيه مسائل
المسألة الأولى فيه أقوال أحدها أن هذا في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أنف أن يسلم فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه ودليله قوله تعالى لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ( الأحقاف 11 ) وهذا قول الكلبي والفراء والزجاج وثانيها أن هذا عام في جميع الناس روى أبو الدرداء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ويل للعالم من الجاهل وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وويل للمالك من المملوك وويل للشديد من الضعيف وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة ) وقرأ هذه الآية وثالثها أن هذا في أصحاب البلاء والعافية هذا يقول لم لم أجعل مثله في الخلق والخلق وفي العقل وفي العلم وفي الرزق وفي الأجل وهذا قول ابن عباس والحسن ورابعها هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية وصفاتها فابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وأنواع أذاهم على ما قال وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً ( آل عمران 186 ) والمرسل إليهم يتأذون أيضاً من المرسل بسبب الحسد وصيرورته مكلفاً بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيساً مخدوماً والأولى حمل الآية على الكل لأن بين الجميع قدراً مشتركاً
المسألة الثانية قال أصحابنا الآية تدل على القضاء والقدر لأنه تعالى قال وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً قال الجبائي هذا الجعل هو بمعنى التعريف كما يقال فيمن سرق إن فلاناً لص جعله لصاً وهذا التأويل ضعيف لأنه تعالى أضاف الجعل إلى وصف كونه فتنة لا إلى الحكم بكونه كذلك بل العقل يدل على أن المراد غير ما ذكره وذلك لأن فاعل السبب فاعل للمسبب فمن خلقه الله تعالى على مزاج الصفراء والحرارة وخلق الغضب فيه ثم خلق فيه الإدراك الذي يطلعه على الشيء المغضب فمن فعل هذا المجموع كان هو الفاعل للغضب لا محالة وكذا القول في الحسد وسائر الأخلاق والأفعال وعند هذا يظهر أنه سبحانه هو الذي جعل البعض فتنة للبعض سلمنا أن المراد ما قاله الجبائي أن المراد من الجعل هو الحكم ولكن المجعول إن انقلب لزم انقلابه انقلاب حكم الله تعالى من الصدق إلى الكذب وذلك محال فانقلاب ذلك الجعل محال فانقلاب المجعول أيضاً محال وعند ذلك يظهر القول بالقضاء والقدر
المسألة الثالثة الوجه في تعلق هذه الآية بما قبلها أن القوم لما طعنوا في الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) بأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وبأنه فقير كانت هذه الكلمات جارية مجرى الخرافات فإنه لما قامت الدلالة على النبوة لم يكن لشيء من هذه الأشياء أثر في القدح فيها فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتأذى منهم من حيث إنهم كانوا يشتمونه ومن حيث إنهم كانوا يذكرون الكلام المعوج الفاسد وما كانوا يفهمون الجواب الجيد فلا جرم صبره الله تعالى على كل تلك الأذية وبين أنه جعل الخلق بعضهم فتنة للبعض
أما قوله تعالى أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ففيه مسائل
المسألة الأولى قالت المعتزلة لو كان المراد من قوله وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَة ً الخبر لما ذكر عقيبه أَتَصْبِرُونَ لأن أمر العاجز غير جائز
المسألة الثانية المعنى أتصبرون على البلاء فقد علمتم ما وعد الله الصابرين وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
أي هو العالم بمن يصبر ومن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب
المسألة الثالثة قوله أَتَصْبِرُونَ استفهام والمراد منه التقرير وموقعه بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً
وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَة َ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً
اعلم أن قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا هو الشبهة الرابعة لمنكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وحاصلها لم لم ينزل الله الملائكة حتى يشهدوا أن محمداً محق في دعواه أَوْ نَرَى رَبَّنَا حتى يخبرنا بأنه أرسله إلينا وتقرير هذه الشبهة أن من أراد تحصيل شيء وكان له إلى تحصيله طريقان أحدهما يفضي إليه قطعاً والآخر قد يفضي وقد لا يفضي فالحكيم يجب عليه في حكمته أن يختار في تحصيل ذلك المقصود الطريق الأقوى والأحسن ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا بصدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أكثر إفضاء إلى المقصود فلو أراد الله تعالى تصديق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لفعل ذلك وحيث لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أراد تصديقه هذا حاصل الشبهة ثم ههنا مسائل
المسألة الأولى قال الفراء قوله تعالى وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا معناه لا يخافون لقاءنا ووضع الرجاء في موضع الخوف لغة تهامية إذا كان معه جحد ومثله قوله تعالى مَالَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ( نوح 13 ) أي لا تخافون له عظمة وقال القاضي لا وجه لذلك لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجز حمله على المجاز ومعلوم أن من حال عباد الأصنام أنهم كما لا يخافون العقاب لتكذيبهم بالمعاد فكذلك لا يرجون لقاءنا ووعدنا على الطاعة من الجنة والثواب ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب أيضاً فالخوف تابع لهذا الرجاء
المسألة الثانية المجسمة تمسكوا بقوله تعالى لِقَاءنَا أنه جسم وقالوا اللقاء هو الوصول يقال هذا الجسم لقي ذلك أي وصل إليه واتصل به وقال تعالى فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ( القمر 12 ) فدلت الآية على أنه سبحانه جسم والجواب على طريقين الأول طريق بعض أصحابنا قال المراد من اللقاء هو الرؤية وذلك لأن الرائي يصل برؤيته إلى حقيقة المرئي فسمى اللقاء أحد أنواع الرؤية والنوع الآخر الاتصال والمماسة فدلت الآية من هذا الوجه على جواز الرؤية الطريق الثاني وهو كلام المعتزلة قال
القاضي تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة فيقال في الدعاء لقاك الله الخير وقد يقول القائل لم ألق الأمير وإن رآه من بعد أو حجب عنه ويقال في الضرير لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب وقد يلقاه في الليلة الظلماء ولا يراه بل المراد من اللقاء ههنا هو المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً لا أن رؤية البصر واعلم أن هذا الكلام ضعيف لأنا لا نفسر اللقاء برؤية البصر بل نفسره بمعنى مشترك بين رؤية البصر وبين الاتصال والمماسة وهو الوصول إلى الشيء وقد بينا أن الرائي يصل برؤيته إلى المرئي واللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة ينطلق على كل واحد من تلك المعاني فيصح قوله لقاك الخير ويصح قول الأعمى لقيت الأمير ويصح قول البصير لقيته بمعنى رأيته وما لقيته بمعنى ما وصلت إليه وإذا ثبت هذا فنقول قوله وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا مذكور في معرض الذم لهم فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلاً ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني وبين الوصول بالرؤية وقد تعذر الأول فتعين الثاني وقوله المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل على وجوبها بل على أن إنكارها ليس إلا من دين الكفار
المسألة الثالثة قوله لَوْلا أُنزِلَ معناه هلا أنزل قال الكلبي ومقاتل نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما الذين كانوا منكرين للنبوة والبعث
أما قوله تعالى لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً فاعلم أن هذا هو الجواب عن تلك الشبهة وفيه مسائل
المسألة الأولى في تقرير كونه جواباً وذلك من وجوه أحدها أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد ثبتت دلالة نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض الاستكبار والتعنت وثانيها أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضاً من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك بل لعموم كونه معجزاً فيكون قبول ذلك المعجز ورد ذلك المعجز الآخر ترجيحاً لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجح وهو محض الاستكبار والتعنت وثالثها أنهم بتقدير أن يروا الرب ويسألوه عن صدق محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو سبحانه يقول نعم هو رسولي فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأنا بينا أن المعجز يقوم مقام التصديق بالقول إذ لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول اللهم إن كنت صادقاً فأحيى هذا الميت فيحييه الله تعالى والعادة لم تجر بمثله وبين أن يقول له صدقت وإذا كان التصديق الحاصل بالقول أو الحاصل بالمعجز في كونه تصديقاً للمدعى كان تعيين أحدهما محض الاستكبار والتعنت ورابعها وهو أنا نعتقد أن الله سبحانه وتعالى يفعل بحسب المصالح على ما يقوله المعتزلة أن نقول إن الله تعالى يفعل بحسب المشيئة عى ما يقوله أصحابنا فإن كان الأول لم يجز لهم أن يعينوا المعجز إذ ربما كان إظهار ذلك المعجز مشتملاً على مفسدة لا يعرفها إلا الله تعالى وكان التعيين استكباراً وعتواً من حيث إنه لما ظنه مصلحة قطع بكونه مصلحة فمن قال ذلك فقد اعتقد في نفسه أنه عالم بكل المعلومات وذلك استكبار عظيم وإن كان الثاني وهو قول أصحابنا فليس للعبد أن يقترح على ربه فإنه سبحانه فعال لما يريد فكان الاقتراح استكباراً وعتواً وخروجاً عن حد العبودية إلى مقام المنازعة والمعارضة وخامسها وهو أن المقصود من بعثة الأنبياء الإحسان إلى الخلق فالملك الكبير إذا أحسن إلى
بعض الضعفاء رحمة عليه فأخذ ذلك الضعيف إلى اللجاج والنزاع ويقول لا أريد هذا بل أريد ذاك حسن أن يقال إن هذا المكدى قد استكبر في نفسه وعتا عتواً شديداً من حيث لا يعرف قدر نفسه ومنتهى درجته فكذا ههنا وسادسها يمكن أن يكون المراد أن الله تعالى قال لو علمت أنهم ما ذكروا هذا السؤال لأجل الاستكبار والعتو الشديد لأعطيتهم مقترحهم ولكني علمت أنهم ذكروا هذا الاقتراح لأجل الاستكبار والتعنت فلو أعطيتهم مقترحهم لما انتفعوا به فلا جرم لا أعطيهم ذلك وهذا التأويل يعرف من اللفظ وسابعها لعلهم سمعوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه تعالى لا ينزل الملائكة في الدنيا على عوام الخلق ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك على سبيل التعنت أو على سبيل الاستهزاء
المسألة الثانية قالت المعتزلة الآية دلت على أن الله تعالى لا تجوز رؤيته لأن رؤيته لو كانت جائزة لما كان سؤالها عتواً واستكباراً قالوا وقوله لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ليس إلا لأجل سؤال الرؤية حتى لو أنهم اقتصروا على نزول الملائكة لما خوطبوا بذلك والدليل عليه أن الله تعالى ذكر أمر الرؤية في آية أخرى على حدة وذكر الاستعظام وهو قوله لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَة ً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَة ُ ( البقرة 55 ) وذكر نزول الملائكة على حدة في آية أخرى فلم يذكر الاستعظام وهو قولهم لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ وهل نرى الملائكة فثبت بهذا أن الاستكبار والعتو في هذه الآية إنما حصل لأجل سؤال الرؤية
واعلم أن الكلام على ذلك قد تقدم في سورة البقرة والذي نريده ههنا أنا بينا أن قوله وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا يدل على الرؤية وأما الاستكبار والعتو فلا يمكن أن يدل ذلك على أن الرؤية مستحيلة لأن من طلب شيئاً محالاً لا يقال إنه عتا واستكبر ألا ترى أنهم لما قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ ءالِهَة ٌ لم يثبت لهم بطلب هذا المحال عتواً واستكباراً بل قال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( الأعراف 138 ) بل العتو والاستكبار لا يثبت إلا إذا طلب الإنسان ما لا يليق به ممن فوقه أو كان لائقاً به ولكنه يطلبه على سبيل التعنت وبالجملة فقد ذكرنا وجوهاً كثيرة في تحقيق معنى الاستكبار والعتو سواء كانت الرؤية ممتنعة أو ممكنة ومما يدل عليه أن موسى لما سأل الرؤية ما وصفه الله تعالى بالاستكبار والعتو لأنه عليه السلام طلب الرؤية شوقاً وهؤلاء طلبوها امتحاناً وتعنتاً لا جرم وصفهم بذلك فثبت فساد ما قاله المعتزلة
المسألة الثالثة إنما قال فِى أَنفُسِهِمْ لأنهم أضمروا الاستكبار ( عن الحق وهو الكفر والعناد ) في قلوبهم واعتقدوه كما قال إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ( غافر 56 ) وقوله وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً أي تجاوزوا الحد في الظلم يقال عتا ( عتا ) فلان وقد وصف العتو بالكبر فبالغ في إفراطه يعني أنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو
أما قوله تعالى يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَئِكَة َ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً فهو جواب لقولهم لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَئِكَة ُ فبين تعالى أن الذي سألوه سيوجد ولكنهم يلقون منه ما يكرهون وههنا مسائل
المسألة الأولى ذكروا في انتصاب يَوْمٍ وجهين الأول أن العامل ما دل عليه لاَ بُشْرَى أي يوم يرون الملائكة
( يبغون البشرى ) و يَوْمَئِذٍ للتكرير الثاني أن التقدير اذكر يوم يرون الملائكة
المسألة الثانية اختلفوا في ذلك اليوم فقال ابن عباس يريد عند الموت وقال الباقون يريد يوم القيامة
المسألة الثالثة إنما يقال للكافر لا بشرى لأن الكافر وإن كان ضالاً مضلاً إلا أنه يعتقد في نفسه أنه كان هادياً مهتدياً فكان يطمع في ذلك الثواب العظيم ولأنهم ربما عملوا ما رجوا فيه النفع كنصرة المظلوم وعطية الفقير وصلة الرحم ولكنه أبطلها بكفره فبين سبحانه أنهم في أول الأمر يشافهون بما يدل على نهاية اليأس والخيبة وذلك هو النهاية في الإيلام وهو المراد من قوله وَبَدَا لَهُمْ مّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ( الزمر 47 )
المسألة الرابعة حق الكلام أن يقال يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم لكنه قال لا بشرى للمجرمين وفيه وجهان أحدهما أنه ظاهر في موضع ضمير والثاني أنه عام فقد تناولهم بعمومه قالت المعتزلة تدل الآية على القطع بوعيد الفساق وعدم العفو لأن قوله لاَ بُشْرَى لّلْمُجْرِمِينَ نكرة في سياق النفي فيعم جميع أنواع البشرى في جميع الأوقات بدليل أن من أراد تكذيب هذه القضية قال بل له بشرى في الوقت الفلاني فلما كان ثبوت البشرى في وقت من الأوقات يذكر لتكذيب هذه القضية علمنا أن قوله تعالى لاَ بُشْرَى يقتضي نفي جميع أنواع البشرى في كل الأوقات ثم إنه سبحانه أكد هذا النفي بقوله حِجْراً مَّحْجُوراً والعفو من الله من أعظم البشرى والخلاص من النار بعد دخولها من أعظم البشرى وشفاعة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من أعظم البشرى فوجب أن لا يثبت ذلك لأحد من المجرمين والكلام على التمسك بصيغ العموم قد تقدم غير مرة قال المفسرون المراد بالمجرمين ههنا الكفار بدليل قوله إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّة َ ( المائدة 72 )
المسألة الخامسة في تفسير قوله حِجْراً مَّحْجُوراً ذكر سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو معاذ الله وقعدك ( الله ) وعمرك ( الله ) وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو ( موتور ) أو هجوم نازلة ونحو ذلك يضعونها موضع الاستعاذة قال سيبويه يقول الرجل للرجل ( يفعل ) كذا وكذا فيقول حجراً وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه فكان المعنى أسأل الله أن يمنع ذلك منعاً ويحجره حجراً ومجيئه على فعل أو فعل في قراءة الحسن تصرف فيه لاختصاصه بموضع واحد فإن قيل لما ثبت أنه من باب المصادر فما معنى وصفه بكونه محجوراً قلنا جاءت هذه الصفة لتأكيد معنى الحجر كما قالوا ( ذبل ذابل فالذبل ) الهوان وموت مائت وحرام محرم
المسألة السادسة اختلفوا في أن الذين يقولون حجراً محجوراً من هم على ثلاثة أقوال القول الأول أنهم هم الكفار وذلك لأنهم كانوا يطلبون نزول الملائكة ويقترحونه ( ثم ) إذا رأوهم عند الموت ( و ) يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو ( الموتور ) ونزول الشدة القول الثاني أن القائلين هم الملائكة ومعناه حراماً محرماً عليكم الغفران والجنة والبشرى أي جعل الله ذلك حراماً عليكم ثم اختلفوا على هذا القول فقال بعضهم إن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم حجراً محجوراً وقال الكلبي الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين حجراً محجوراً وقال عطية إذا كان يوم القيامة يلقى الملائكة المؤمنين بالبشرى
فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم بشرونا فيقولون حجراً محجوراً القول الثالث وهو قول القفال والواحدي وروي عن الحسن أن الكفار يوم القيامة إذا شاهدوا ما يخافونه فيتعوذون منه ويقولون حجراً محجوراً فتقول الملائكة لا يعاذ من شر هذا اليوم
أما قوله تعالى وَقَدِمْنَا فقد استدلت المجسمة بقوله وَقَدِمْنَا لأن القدوم لا يصح إلا على الأجسام وجوابه أنه لما قامت الدلالة على امتناع القدوم عليه لأن القدوم حركة والموصوف بالحركة محدث ولذلك استدل الخليل عليها السلام بأفول الكواكب على حدوثها وثبت أن الله عز وجل لا يجوز أن يكون محدثاً فوجب تأويل لفظ القدوم وهو من وجوه أحدها وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ أي وقصدنا إلى أعمالهم فإن القادم إلى الشيء قاصد له فالقصد هو المؤثر في المقدوم إليه وأطلق المسبب على السبب مجازاً وثانيها المراد قدوم الملائكة إلى موضع الحساب في الآخرة ولما كانوا بأمره يقدمون جاز أن يقول وَقَدِمْنَا على سبيل التوسع ونظيره قوله فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ ( الزخرف 55 ) وثالثها إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَة ً أَفْسَدُوهَا ( النمل 34 ) فلما أباد الله أعمالهم وأفسدها بالكلية صارت شبيهة بالمواضع التي يقدمها الملك فلا جرم قال وَقَدِمْنَا
أما قوله إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ يعني الأعمال التي اعتقدوها براً وظنوا أنها تقربهم إلى الله تعالى والمعنى إلى ما عملوا من أي عمل كان
أما قوله فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً فالمراد أبطلناه وجعلناه بحيث لا يمكن الانتفاع به كالهباء المنثور الذي لا يمكن القبض عليه ونظيره قوله تعالى كَسَرَابٍ بِقِيعَة ٍ ( النور 39 ) كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ ( إبراهيم 18 ) كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ( الفيل 5 ) قال أبو عبيدة والزجاج الهباء مثل الغبار يدخل من الكوة مع ضوء الشمس وقال مقاتل إنه الغبار الذي يستطير من حوافر الدواب
أما قوله أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً فاعلم أنه سبحانه لما بين حال الكفار في الخسار الكلي والخيبة التامة شرح وصف أهل الجنة تنبيهاً على أن الحظ كل الحظ في طاعة الله تعالى وههنا سؤالات
الأول كيف يكون أصحاب الجنة خيراً مستقراً من أهل النار ولا خير في النار ولا يقال في العسل هو أحل من الخل والجواب من وجوه الأول ما تقدم في قوله أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّة ُ الْخُلْدِ ( الفرقان 15 ) والثاني يجوز أن يريد أنهم في غاية الخير لأن مستقر خير من النار كقول الشاعر ف إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتاً دعائمه أعز وأطول
الثالث التفاضل الذي ذكر بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه الرابع هذا التفاضل واقع على هذا التقدير أي لو كان لهم مستقر فيه خير لكان مستقر أهل الجنة خيراً منه
السؤال الثاني الآية دلت على أن مستقرهم غير مقيلهم فكيف ذلك والجواب من وجوه الأول أن المستقر مكان الاستقرار والمقيل زمان القيلولة فهذا إشارة إلى أنهم من المكان في أحسن مكان ومن
الزمان في أطيب زمان الثاني أن مستقر أهل الجنة غير مقيلهم فإنهم يقيلون في الفردوس ثم يعودون إلى مستقرهم الثالث أن بعد الفراغ من المحاسبة والذهاب إلى الجنة يكون الوقت وقت القيلولة قال ابن مسعود ( لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ) وقرأ ابن مسعود ( ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ) وقال سعيد بن جبير إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم بقدر ما بين صلاة الغداة إلى انتصاف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وقال مقاتل يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة
السؤال الثالث كيف يصح القيلولة في الجنة والنار وعندكم أن أهل الجنة في الآخرة لا ينامون وأهل النار أبداً في عذاب يعرفونه وأهل الجنة في نعيم يعرفونه والجواب قال الله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَة ً وَعَشِيّاً ( مريم 62 ) وليس في الجنة بكرة وعشى لقوله تعالى لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( الإنسان 13 ) ولأنه إذا لم يكن هناك شمس لم يكن هناك نصف النهار ولا وقت القيلولة بل المراد منه بيان أن ذلك الموضع أطيب المواضع وأحسنها كما أن موضع القيلولة يكون أطيب المواضع والله أعلم
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَئِكَة ُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً
اعلم أن هذا الكلام مبني على ما استدعوه من إنزال الملائكة فبين سبحانه أنه يحصل ذلك في يوم له صفات
الصفة الأولى أن في ذلك اليوم تشقق السماء بالغمام وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ( الانفطار 1 ) يدل على التشقق وقوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ ( البقرة 210 ) يدل على الغمام فقوله تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ جامع لمعنى الآيتين ونظيره قوله تعالى وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْواباً ( النبأ 19 ) وقوله فَهِى َ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة ٌ ( الحاقة 16 )
المسألة الثانية قرأ أبو عمرو وأهل الكوفة بتخفيف الشين ههنا وفي سورة ق والباقون بالتشديد قال أبو عبيدة الاختيار التخفيف كما يخفف تساءلون ومن شدد فمعناه تتشقق
المسألة الثالثة قال الفراء المراد من قوله بِالْغَمَامِ أي عن الغمام لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام وقال القاضي لا يمتنع أن يجعل تعالى الغمام بحيث تشقق السماء باعتماده عليه وهو كقوله السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ ( المزمل 18 )
المسألة الرابعة لا بد من أن يكون لهذا التشقق تعلق بنزول الملائكة فقيل الملائكة في أيام الأنبياء عليهم السلام كانوا ينزلون من مواضع مخصوصة والسماء على اتصالها ثم في ذلك اليوم تتشقق السماء فإذا انشقت خرج من أن يكون حائلاً بين الملائكة وبين الأرض فنزلت الملائكة إلى الأرض
المسألة الخامسة قوله وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ صيغة عموم فيتناول الكل ولأن السماء مقر الملائكة فإذا تشقق وجب أن ينزلوا إلى الأرض ثم قال مقاتل تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر من سكان الدنيا كذلك تتشقق سماء سماء ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش ثم ينزل الرب تعالى وروى الضحاك عن ابن عباس قال تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصيرون سبع صفوف حول العالم واعلم أن نزول الرب بالذات باطل قطعاً لأن النزول حركة والموصوف بالحركة محدث والإله لا يكون محدثاً وأما نزول الملائكة إلى الأرض فعليه سؤال وذلك لأنه ثبت أن الأرض بالقياس إلى سماء الدنيا كحلقة في فلاة فكيف بالقياس إلى الكرسي والعرش فملائكة هذه المواضع بأسرها كيف تتسع لهم الأرض جميعاً فلعل الله تعالى يزيد في طول الأرض وعرضها ويبلغها مبلغاً يتسع لكل هؤلاء ومن المفسرين من قال الملائكة يكونون في الغمام منه والله تعالى يسكن الغمام فوق أهل القيامة ويكون ذلك الغمام مقر الملائكة قال الحسن والغمام سترة بين السماء والأرض تعرج الملائكة فيه بنسخ أعمال بني آدم والمحاسبة تكون في الأرض
المسألة السادسة أما نزول الملائكة فظاهر ومعنى تَنْزِيلاً توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه
المسألة السابعة الألف واللام في الغمام ليس للعموم فهو للمعهود والمراد ما ذكروه في قوله هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة ُ ( البقرة 210 )
المسألة الثامنة قرىء وَنُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ وَنُنَزّلُ الْمَلَائِكَة َ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ وَنُزّلَ الْمَلَائِكَة ُ على حذف النون الذي هو فاء الفعل من ننزل قراءة أهل مكة
الصفة الثانية لذلك اليوم قوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ الرَّحْمَنُ قال الزجاج الحق صفة للملك وتقديره الملك الحق يومئذ للرحمن ويجوز الحق بالنصب على تقدير أعني ولم يقرأ به ومعنى وصفه بكونه حقاً أنه لا يزول ولا يتغير فإن قيل مثل هذا الملك لم يكن قط إلا للرحمن فما الفائدة في قوله يَوْمَئِذٍ قلنا لأن في ذلك اليوم لا مالك سواه لا في الصورة ولا في المعنى فتخضع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل له الجبابرة بخلاف سائر الأيام واعلم أن هذه الآية دالة على فساد قول المعتزلة في أنه يجب على الله الثواب والعوض وذلك لأنه لو وجب لاستحق الذم بتركه فكان خائفاً من أن لا يفعل فلم يكن ملكاً مطلقاً وأيضاً فقوله الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ يفيد أنه ليس لغيره ملك وذلك لا يتم على قول المعتزلة لأن كل من استحق عليه شيئاً فإنه يكون مالكاً له ولا يكون هو سبحانه مالكاً لذلك المستحق لأنه سبحانه إذا استحق على أحد شيئاً أمكنه أن يعفو عنه أما غيره إذا استحق عليه شيئاً فإنه لا يصح إبراؤه عنه فكانت العبودية ههنا أتم ولأن من كفر بالله إلى آخر عمره ثم في آخر عمره عرف الله لحظة ومات فهو سبحانه لو أعطاه ألف ألف
سنة أنواع الثواب وأراد بعد ذلك أن لا يعطيه لحظة واحدة صار سفيهاً وهذا نهاية العبودية والذل فكيف يليق بمن هذا حاله أن يقال له الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وأيضاً فكل من فعل فعلاً لو لم يفعله لكان مستوجباً للذم وكان بذلك الفعل مكتسباً للكمال وبتركه مكتسباً للنقصان فلم يكن ملكاً بل فقيراً مستحقاً فثبت أن قوله سبحانه الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ غير لائق بأصول المعتزلة
الصفة الثالثة قوله وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً فالمعنى ظاهر لأنه تعالى عالم بالأحوال قادر على كل ما يريده وأما غيره فالكل في ربقة العجز ولجام القهر فكان في نهاية العسر على الكافر
الصفة الرابعة قوله وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ وفيه مسائل
المسألة الأولى الألف واللام في الظالم فيه قولان أحدهما أنه للعموم والثاني أنه للمعهود والقائلون بالمعهود على قولين الأول قال ابن عباس المراد عقبة بن أبي معيط بن أمية بن عبد شمس كان لا يقدم من مقر إلا صنع طعاماً يدعو إليه جيرته من أهل مكة ويكثر مجالسة الرسول ويعجبه حديثه فصنع طعاماً ودعا الرسول فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ما آكل من طعامك حتى تأتي بالشهادتين ففعل فأكل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من طعامه فبلغ أمية بن خلف فقال صبوت يا عقبة وكان خليله فقال إنما ذكرت ذلك ليأكل من طعامي فقال لا أرضى أبداً حتى تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ على عنقه ففعل فقال عليه السلام لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فنزل وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ندامة يعني عقبة يقول يا ليتني لم أتخذ أمية خليلاً لقد أضلني عن الذكر أي صرفني عن الذكر وهو القرآن والإيمان بعد إذ جاءني مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبراً ولم يقتل يومئذ من الأسارى غيره وغير النضر بن الحارث الثاني قالت الرافضة هذا الظالم هو رجل بعينه وإن المسلمين غيروا اسمه وكتموه وجعلوا فلاناً بدلاً من اسمه وذكروا فاضلين من أصحاب رسول الله واعلم أن إجراء اللفظ على العموم ليس لنفس اللفظ لأنا بينا في أصول الفقه أن الألف واللام إذا دخل على الاسم المفرد لا يفيد العموم بل إنما يفيده للقرينة من حيث إن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بعلية الوصف فدل ذلك على أن المؤثر في العض على اليدين كونه ظالماً وحينئذ يعم الحكم لعموم علته وهذا القول أولى من التخصيص بصورة واحدة لأن هذا الذي ذكرناه يقتضي العموم ونزوله في واقعة أخرى خاصة لا ينافي أن يكون المراد هو العموم حتى يدخل فيه تلك الصورة وغيرها ولأن المقصود من الآية زجر الكل عن الظلم وذلك لا يحصل إلا بالعموم وأما قول الرافضة فذلك لا يتم إلا بالطعن في القرآن وإثبات أنه غير وبدل ولا نزاع في أنه كفر
المسألة الثانية استدلت المعتزلة بقوله وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ قالوا الظالم يتناول الكافر والفاسق فدل على أن الله تعالى لا يعفو عن صاحب الكبيرة والكلام عليه تقدم
المسألة الثالثة قوله يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ قال الضحاك يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت وقال أهل التحقيق هذه اللفظة مشعرة بالتحسر والغم يقال عض أنامله وعض على يديه
المسألة الرابعة كما بينا أن الظالم غير مخصوص بشخص واحد بل يعم جميع الظلمة فكذا المراد بقوله فلاناً ليس شخصاً واحداً بل كل من أطيع في معصية الله واستشهد القفال بقوله وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيراً
( الفرقان 55 ) وَيَقُولُ الْكَافِرُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُراباً ( النبأ 40 ) يعني به جماعة الكفار
المسألة الخامسة قرىء يا ويلتي بالياء وهو الأصل لأن الرجل ينادي ويلته وهي هلكته يقول لها تعالى فهذا أوانك وإنما قلبت الياء ألفاً كما في صحارى و ( عذارى )
المسألة السادسة قوله لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذّكْرِ أي عن ذكر الله أو القرآن وموعظة الرسول ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق ( وغيرته ) على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله سماه شيطاناً لأنه أضله كما يضل الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة أو أراد إبليس فإنه هو الذي حمله على أن صار خليلاً لذلك المضل ومخالفة الرسول ثم خذله أو أراد الجنس وكل من تشيطن من الجن والإنس ويحتمل أن يكون وَكَانَ الشَّيْطَانُ حكاية كلام الظالم وأن يكون كلام الله
وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِى ٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً
اعلم أن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وشكاهم إلى الله تعالى وقال الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ وفيه مسائل
المسألة الأولى أكثر المفسرين أنه قول واقع من الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال أبو مسلم بل المراد أن الرسول عليه السلام يقوله في الآخرة وهو كقوله فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّة ٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً ( النساء 41 ) والأول أولى لأنه موافق للفظ ولأن ما ذكره الله تعالى من قوله وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ ( الفرقان 31 ) تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يليق إلا إذا كان وقع ذلك القول منه
المسألة الثانية ذكروا في المهجور قولين الأول أنه من الهجران أي تركوا الإيمان به ولم يقبلوه وأعرضوا عن استماعه الثاني أنه من أهجر أي مهجورا فيه ثم حذف الجار ويؤكده قوله تعالى مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ ( المؤمنون 67 ) ثم هجرهم فيه أنهم كانوا يقولون إنه سحر وشعر وكذب وهجر أي هذيان وروى أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( من تعلم القرآن ( وعلمه ) وعلق مصحفاً لم يتعهده ولم ينطر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه ) ثم إنه تعالى قال مسلياً لرسوله عليه الصلاة والسلام ومعزياً له وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وبين بذلك أن له أسوة بسائر الرسل فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا ثم فيه مسائل
المسألة الأولى احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى خلق الخير والشر لأن قوله تعالى جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً يدل على أن تلك العداوة من جعل الله ولا شك أن تلك العداوة كفر قال الجبائي المراد من الجعل التبيين فإنه تعالى لما بين أنهم أعداؤه جاز أن يقول جعلناهم أعداءه كما إذا بين الرجل أن فلاناً
لص يقال جعله لصاً كما يقال في الحاكم عدل فلاناً وفسق فلاناً وجرحه قال الكعبي إنه تعالى لما أمر الأنبياء بعداوة الكفار وعداوتهم للكفار تقتضي عداوة الكفار لهم فلهذا جاز أن يقول وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ لأنه سبحانه هو الذي حمله ودعاه إلى ما استعقب تلك العداوة وقال أبو مسلم يحتمل في العدو أنه البعيد لا القريب إذ المعاداة المباعدة كما أن النصر القرب والمظاهرة وقد باعد الله تعالى بين المؤمنين والكافرين والجواب عن الأول أن التبيين لا يسمونه ألبتة جعلاً لأن من بين لغيره وجود الصانع وقدمه لا يقال إنه جعل الصانع وجعل قدمه والجواب عن الثاني أن الذي أمره الله تعالى به هل له تأثير في وقوع العداوة في قلوبهم أو ليس له تأثير فإن كان الأول فقد تم الكلام لأن عداوتهم للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كفر فإذا أمر الله الرسول بما له أثر في تلك العداوة فقد أمره بما له أثر في وقوع الكفر وإن لم يكن فيه تأثير ألبتة كان منقطعاً عنه بالكلية فيمتنع إسناده إليه وهذا هو الجواب عن قول أبي مسلم
المسألة الثانية لقائل أن يقول إن قول محمد عله السلام لِلإِنْسَانِ خَذُولاً وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ في المعنى كقول نوح عليه السلام رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً ( نوح 5 6 ) وكما أن المقصود من هذا إنزال العذاب فكذا ههنا فكيف يليق هذا بمن وصفه الله بالرحمة في قوله وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَة ً لّلْعَالَمِينَ ( الأنبياء 107 ) جوابه أن نوحاً عليه السلام لما ذكر ذلك دعا عليهم وأما محمد عليه الصلاة والسلام فلما ذكر هذا ما دعا عليهم بل انتظر فلما قال تعالى وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِى ّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ كان ذلك كالأمر له بالصبر على ذلك وترك الدعاء عليهم فظهر الفرق
المسألة الثالثة قوله جَعَلْنَا صيغة العظماء والتعظيم إذا ذكر نفسه في كل معرض من التعظيم وذكر أنه يعطي فلا بد وأن تكون تلك العطية عظيمة كقوله وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي ( الحجر 87 ) وقوله إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( الكوثر 1 ) فكيف يليق بهذه الصيغة أن تكون تلك العطية هي العداوة التي هي منشأ الضرر في الدين والدنيا وجوابه أن خلق العداوة سبب لازدياد المشقة التي هي موجبة لمزيد الثواب والله أعلم
المسألة الرابعة يجوز أن يكون العدو واحداً وجمعاً كقوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ( الشعراء 77 ) وجاء في التفسير أن عدو الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أبو جهل
أما قوله وَكَفَى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً فقال الزجاج الباء زائدة يعني كفى ربك وهادياً ونصيراً منصوبان على الحال هادياً إلى مصالح الدين والدنيا ونصيراً على الأعداء ونظيره حَكِيمٌ يَاأَيُّهَا النَّبِى ُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( الأنفال 64 )
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَة ً وَاحِدَة ً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً
اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة لمنكري نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأن أهل مكة قالوا تزعم أنك رسول من عند الله أفلا تأتينا بالقرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة جملة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود وعن ابن جريج بين أوله وآخره اثنتان أو ثلاث وعشرون سنة وأجاب الله بقوله كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وبيان هذا الجواب من وجوه أحدها أنه عليه السلام لم يكن من أهل القراءة والكتابة فلو نزل عليه ذلك جملة واحدة كان لا يضبطه ولجاز عليه الغلط والسهو وإنما نزلت التوراة جملة لأنها مكتوبة يقرؤها موسى وثانيها أن من كان الكتاب عنده فربما اعتمد على الكتاب وتساهل في الحفظ فالله تعالى ما أعطاه الكتاب دفعة واحدة بل كان ينزل عليه وظيفة ليكون حفظه له أكمل فيكون أبعد له عن المساهلة وقلة التحصيل وثالثها أنه تعالى لو أنزل الكتاب جملة واحدة على الخلق لنزلت الشرائع بأسرها دفعة واحدة على الخلق فكان يثقل عليهم ذلك أما لما نزل مفرقاً منجماً لا جرم نزلت التكاليف قليلاً قليلاً فكان تحملها أسهل ورابعها أنه إذا شاهد جبريل حالاً بعد حال يقوى قلبه بمشاهدته فكان أقوى على أداء ما حمل وعلى الصبر على عوارض النبوة وعلى احتماله أذية قومه وعلى الجهاد وخامسها أنه لما تم شرط الإعجاز فيه مع كونه منجماً ثبت كونه معجزاً فإنه لو كان ذلك في مقدور البشر لوجب أن يأتوا بمثله منجماً مفرقاً وسادسها كان القرآن ينزل بحسب أسئلتهم والوقائع الواقعة لهم فكانوا يزدادون بصيرة لأن بسبب ذلك كان ينضم إلى الفصاحة الإخبار عن الغيوب وسابعها أن القرآن لما نزل منجماً مفرقاً وهو عليه السلام كان يتحداهم من أول الأمر فكأنه تحداهم بكل واحد من نجوم القرآن فلما عجزوا عنه كان عجزهم عن معارضة الكل أولى فبهذا الطريق ثبت في فؤاده أن القوم عاجزون عن المعارضة لا محالة وثامنها أن السفارة بين الله تعالى وبين أنبيائه وتبليغ كلامه إلى الخلق منصب عظيم فيحتمل أن يقال إنه تعالى لو أنزل القرآن على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) دفعة واحدة لبطل ذلك المنصب على جبريل عليه السلام فلما أنزله مفرقاً منجماً بقي ذلك المنصب العالي عليه فلأجل ذلك جعله الله سبحانه وتعالى مفرقاً منجماً
أما قوله كَذالِكَ ففيه وجهان الأول أنه من تمام كلام المشركين أي جملة واحدة كذلك أي كالتوراة والإنجيل وعلى هذا لا يحتاج إلى إضمار في الآية وهو أن يقول أنزلناه مفرقاً لتثبت به فؤادك الثاني أنه كلام الله تعالى ذكره جواباً لهم أي كذلك أنزلناه مفرقاً فإن قيل ذلك في كَذالِكَ يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه والذي تقدم فهو إنزاله جملة ( واحدة ) فكيف فسر به كذلك أنزلناه مفرقاً قلنا لأن قولهم لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ جُمْلَة ً واحِدَة ً معناه لم نزل مفرقاً فذلك إشارة إليه
أما قوله تعالى وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً فمعنى الترتيل في الكلام أن يأتي بعضه على أثر بعض على تؤدة وتمهل وأصل الترتيل في الأسنان وهو تفلجها يقال ثغر رتل وهو ضد المتراص ثم إنه سبحانه وتعالى لما بين فساد قولهم بالجواب الواضح قال وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ من الجنس الذي تقدم ذكره من الشبهات إلا جئناك بالحق الذي يدفع قولهم كما قال تعالى بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ( الأنبياء 18 )
وبين أن الذي يأتي به أحسن تفسيراً لأجل ما فيه من المزية في البيان والظهور ولما كان التفسير هو الكشف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا تفسير هذا الكلام كيت وكيت كما قيل معناه كذا وكذا
أما قوله الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ففيه مسائل
المسألة الأولى عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يحشر الناس على ثلاثة أصناف صنف على الدواب وصنف على الأقدام وصنف على الوجوه ) وعنه عليه السلام ( إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن مشيهم على وجوههم )
المسألة الثانية الأقرب أنه صفة للقوم الذين أوردوا هذه الأسئلة على سبيل التعنت وإن كان غيرهم من أهل النار يدخل معهم
المسألة الثالثة حمله بعضهم على أنهم يمشون في الآخرة مقلوبين وجوههم إلى القرار وأرجلهم إلى فوق روي ذلك عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وقال آخرون المراد أنهم يحشرون ويسحبون على وجوههم وهذا أيضاً مروي عن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أولى وقال الصوفية الذين تعلقت قلوبهم بما سوى الله فإذا ماتوا بقي ذلك التعلق فعبر عن تلك الحالة بأنهم يحشرون على وجوههم إلى جهنم ثم بين تعالى أنهم شر مكاناً من أهل الجنة وأضل سبيلاً وطريقاً والمقصود منه الزجر عن طريقهم والسؤال عليه كما ذكرناه على قوله أَصْحَابُ الْجَنَّة ِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ( الفرقان 24 ) وقد تقدم الجواب عنه
واعلم أنه تعالى بعد أن تكلم في التوحيد ونفي الأنداد وإثبات النبوة والجواب عن شبهات المنكرين لها وفي أحوال القيامة شرع في ذكر القصص على السنة المعلومة
القصة الأولى قصة موسى عليه السلام
وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِأايَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً
اعلم أنه تعالى لما قال وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِى ّ عَدُوّاً ( الفرقان 31 ) أتبعه بذكر جماعة من الأنبياء وعرفه بما نزل بمن كذب من أممهم فقال وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً والمعنى لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب وآتيناه الآيات فرد فقد آتينا موسى التوراة وقوينا عضده بأخيه هرون ومع ذلك فقد رد وفيه مسائل
المسألة الأولى كونه وزيراً لا يمنع من كونه شريكاً له في النبوة فلا وجه لقول من قال في قوله فَقُلْنَا اذْهَبَا إنه خطاب لموسى عليه السلام وحده بل يجري مجرى قوله اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( طه 43 )
فإن قيل إن كونه وزيراً كالمنافي لكونه شريكاً بل يجب أن يقال إنه لما صار شريكاً خرج عن كونه وزيراً قلنا لا منافاة بين الصفتين لأنه لا يمتنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيراً وظهيراً ومعيناً له
المسألة الثانية قال الزجاج الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويتحصن برأيه والوزر ما يعتصم به ومنه كَلاَّ لاَ وَزَرَ ( القيامة 11 ) أي لا منجى ولا ملجأ قال القاضي ولذلك لا يوصف تعالى بأن له وزيراً ولا يقال فيه أيضاً بأنه وزير لأن الالتجاء إليه في المشاورة والرأي على هذا الحد لا يصح
المسألة الثالثة دَمَّرْنَاهُمْ أهلكناهم إهلاكاً فإن قيل الفاء للتعقيب والإهلاك لم يحصل عقيب ذهاب موسى وهرون إليهم بل بعد مدة مديدة قلنا التعقيب محمول ههنا على الحكم لا على الوقوع وقيل إنه تعالى أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أولها وآخرها لأنهما المقصود من القصة بطولها أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم
المسألة الرابعة قوله تعالى اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا إن حملنا تكذيب الآيات على تكذيب آيات الإلهية فلا إشكال وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ وإن كان للماضي إلا أن المراد هو المستقبل
القصة الثانية قصة نوح عليه السلام
وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَة ً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً
اعلم أنه تعالى إنما قال كَذَّبُواْ الرُّسُلَ إما لأنهم كانوا من البراهمة المنكرين لكل الرسل أو لأنه كان تكذيبهم لواحد منهم تكذيباً للجميع لأن تكذيب الواحد منهم لا يمكن إلا بالقدح في المعجز وذلك يقتضي تكذيب الكل أو لأن المراد بالرسل وإن كان نوحاً عليه السلام وحده ولكنه كما يقال فلان يركب الأفراس
أما قوله أَغْرَقْنَاهُمْ فقال الكلبي أمظر الله عليهم السماء أربعين يوماً وأخرج ماء الأرض أيضاً في تلك الأربعين فصارت الأرض بحراً واحداً وَجَعَلْنَاهُمْ أي وجعلنا إغراقهم أو قصتهم آية وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ أي لكل من سلك سبيلهم في تكذيب الرسل عذاباً أليماً ويحتمل أن يكون المراد قوم نوح
القصة الثالثة قصة عاد وثمود وأصحاب الرس
وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَالِكَ كَثِيراً وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاٌّ مْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً
المسألة الأولى عطف عَاداً على ( هم ) في وَجَعَلْنَاهُمْ أو على ( الظالمين ) لأن المعنى ووعدنا الظالمين
المسألة الثانية قرىء و ثَمُودُ على تأويل القبيلة وأما على المنصرف فعلى تأويل الحي أو لأنه اسم للأب الأكبر
المسألة الثالثة قال أبو عبيدة الرس هو البئر غير المطوية قال أبو مسلم في البلاد موضع يقال له الرس فجائز أن يكون ذلك الوادي سكناً لهم والرس عند العرب الدفن ويسمى به الحفر يقال رس الميت إذا دفن وغيب في الحفرة وفي التفسير أنه البئر وأي شيء كان فقد أخبر الله تعالى عن أهل الرس بالهلاك انتهى
المسألة الرابعة ذكر المفسرون في أصحاب الرس وجوهاً أحدها كانوا قوماً من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش فبعث الله تعالى إليهم شعيباً عليه السلام فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه فبينما هم حول الرس خسف الله بهم وبدارهم وثانيها الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وثالثها أصحاب النبي حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا ورابعها هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود وخامسها الرس أنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار وقيل ( كذبوه ) ورسوه في بئر أي دسوه فيها وسادسها عن علي عليه السلام أنهم كانوا قوماً يعبدون شجرة الصنوبر وإنما سموا بأصحاب الرس لأنهم رسوا نبيهم في الأرض وسابعها أصحاب الرس قوم كانت لهم قرى على شاطىء نهر يقال له الرس من بلاد المشرق فبعث الله تعالى إليهم نبياً من ولد يهودا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمناً فشكى إلى الله تعالى منهم فحفروا بئراً ورسوه فيها وقالوا نرجو أن يرضى عنا إلهنا وكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم يقول إلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف قلبي وقلة حيلتي فعجل قبض روحي حتى مات فأرسل الله تعالى ريحاً عاصفة شديدة الحمرة فصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقد وأظلتهم سحابة سوداء فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص وثامنها روى ابن جرير عن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أن الله بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا عبد أسود ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئراً فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه حجراً ضخماً وكان ذلك العبد يحتطب فيشتري له طعاماً وشراباً ويرفع الصخرة ويدليه إليه فكان ذلك ما شاء الله فاحتطب يوماً فلما أراد أن يحملها وجد نوماً فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين نائماً ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر فنام سبع سنين أخرى ثم هب فحمل حزمته فظن أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته واشترى طعاماً وشراباً وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحداً وكان قومه قد استخرجوه وآمنوا به وصدقوه وكان ذلك النبي يسألهم عن الأسود فيقولون لا ندري حاله حتى قبض الله النبي وقبض ذلك الأسود فقال عليه السلام ( إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة )
واعلم أن القول ما قاله أبو مسلم وهو أن شيئاً من هذه الروايات غير معلوم بالقرآن ولا بخبر قوي الإسناد ولكنهم كيف كانوا فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم أهلكوا بسبب كفرهم
المسألة الخامسة قال النخعي القرن أربعون سنة وقال علي عليه السلام بل سبعون سنة وقيل مائة وعشرون
المسألة السادسة قوله بين ذلك أي بَيْنَ ذالِكَ المذكور وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ويحسب الحاسب أعداداً متكاثرة ثم يقول فذلك كيت وكيت على معنى فذلك المحسوب أو المعدود
أما قوله وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاْمْثَالَ فالمراد بينا لهم وأزحنا عللهم فلما كذبوا تبرناهم تتبيراً ويحتمل وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاْمْثَالَ بأن أجبناهم عما أوردوه من الشبه في تكذيب الرسل كما أورده قومك يا محمد فلما لم ينجع فيه تبرناهم تتبيراً فحذر تعالى بذلك قوم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) في الاستمرار على تكذيبه لئلا ينزل بهم مثل الذي نزل بالقوم عاجلاً وآجلاً
المسألة السابعة ( كلاً ) الأول منصوب بما دل عليه ضَرَبْنَا لَهُ الاْمْثَالَ وهو أنذرنا أو حذرنا والثاني بتبرنا لأنه فارغ له
المسألة الثامنة التتبير التفتيت والتكسير ومنه التبر وهو كسارة الذهب والفضة والزجاج
القصة الرابعة قصة لوط عليه السلام
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَة ِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً
واعلم أنه تعالى أراد بالقرية سدوم من قرى قوم لوط عليه السلام وكانت خمساً أهلك الله تعالى أربعاً بأهلها وبقيت واحدة و ( مطر السوء ) الحجارة يعني أن قريشاً مروا مراراً كثيرة في متاجرهم إلى الشأم
على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء أَفَلَمْ يَكُونُواْ في ( مرار ) مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله تعالى ونكاله ( ويذَّكرون ) بَلْ كَانُواْ قوماً كفرة لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً وذكروا في تفسير يَرْجُونَ وجوها أحدها وهو الذي قاله القاضي وهو الأقوى أنه محمول على حقيقة الرجاء لأن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف ومشاق النظر والاستدلال إلا لرجاء ثواب الآخرة فإذا لم يؤمن بالآخرة لم يرج ثوابها فلا يتحمل تلك المشاق والمتاعب وثانيها معناه لا يتوقعون نشوراً ( وعاقبة ) فوضع الرجاء موضع التوقع لأنه إنما يتوقع العاقبة من يؤمن وثالثها معناه لا يخافون على اللغة التهامية وهو ضعيف والأول هو الحق
وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاٌّ نْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً
اعلم أنه سبحانه لما بين مبالغة المشركين في إنكار نبوته وفي إيراد الشبهات في ذلك بين بعد ذلك أنهم إدا رأوا الرسول اتخذوه هزواً فلم يقتصروا على ترك الإيمان به بل زادوا عليه بالاستهزاء والاستحقار ويقول بعضهم لبعض أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً وفيه مسائل
المسألة الأولى قال صاحب ( الكشاف ) ( إنْ ) الأولى نافية والثانية مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينهما
المسألة الثانية جواب ( إذا ) هو ما أضمر من القول يعني وإذا رأوك مستهزئين قالوا أبعث الله هذا رسولاً وقوله إِن يَتَّخِذُونَكَ جملة اعترضت بين ( إذا ) وجوابها
المسألة الثالثة اتخذوه هزواً في معنى استهزؤا به والأصل اتخذوه موضع هزء أو مهزوءاً به
المسألة الرابعة اعلم أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول أتوا بنوعين من الأفعال أحدهما أنهم يستهزئون به وفسر ذلك الاستهزاء بقوله أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً وذلك جهل عظيم لأن الاستهزاء إما أن يقع بصورته أو بصفته أما الأول فباطل لأنه عليه الصلاة والسلام كان أحسن منهم صورة وخلقة وبتقدير أنه لم يكن كذلك لكنه عليه السلام ما كان يدعي التمييز عنهم بالصورة بل بالحجة وأما الثاني فباطل لأنه عليه السلام ادعى التميز عنهم في ظهور المعجز عليه دونهم وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ودلالته ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ثم إنهم لوقاحتهم قلبوا القضية واستهزؤا بالرسول عليه السلام وذلك يدل على أنه ليس للمبطل في كل الأوقات إلا السفاهة والوقاحة وثانيهما أنهم كانوا يقولون فيه إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وذلك يدل على أمور الأول أنهم سموا ذلك إضلالاً وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم وفي استعظام صنيعه ( صلى الله عليه وسلم ) في صرفهم عنه وذلك يدل على أنهم كانوا يعتقدون أن هذا هو الحق فمن هذا الوجه يبطل قول أصحاب المعارف في أنه لا يكفر إلا من يعرف الدلائل لأنهم جهلوه ثم نسبهم الله تعالى إلى الكفر واضلال وقولهم لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا يدل أيضاً على ذلك الثاني يدل هذا القول منهم على جد الرسول عليه السلام واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان ولولا ذلك لما قالوا إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا
وهكذا كان عليه السلام فإنه في أول الأمر بالغ في إيراد الدلائل والجواب عن الشبهات وتحمل ما كانوا يفعلونه من أنواع السفاهة وسوء الأدب الثالث أن هذا يدل على اعتراف القوم بأنهم لم يعترضوا ألبتة على دلائل الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وما عارضوها إلا بمحض الجحود والتقليد لأن قولهم لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا إشارة إلى الجحود والتقليد ولو ذكروا اعتراضاً على دلائل الرسول عليه السلام لكان ذكر ذلك أولى من ذكر مجرد الجحود والإصرار الذي هو دأب الجهال وذلك يدل على أن القوم كانوا مقهورين تحت حجته عليه السلام وأنه ما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة الرابع الآية تدل على أن القوم صاروا في ظهور حجته عليه السلام عليهم كالمجانين لأنهم استهزؤا به أولاً ثم وصفوه بأنه كاد يضلنا عن آلهتنا لولا أن قابلناه بالجحود والإصرار فهذا الكلام الأخير يدل على أن القوم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل والكلام الأول وهو السخرية والاستهزاء لا يليق إلا بالجاهل العاجز فالقوم لما جمعوا بين هذين الكلامين دل ذلك على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره فتارة بالوقاحة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليق إلا بالعالم الكامل ثم إنه سبحانه لما حكى عنهم هذا الكلام زيف طريقتهم في ذلك من ثلاثة أوجه أولها قوله وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً لأنهم لما وصفوه بالإضلال في قولهم إِن كَانَ بين تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه فهو وعيد شديد لهم على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر وثانيها قوله تعالى سَبِيلاً أَرَءيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً والمعنى أنه سبحانه بين أن بلوغ هؤلاء في جهالتهم وإعراضهم عن الدلائل إنما كان لاستيلاء التقليد عليهم وأنهم اتخذوا أهواءهم آلهة فكل ما دعاهم الهوى إليه انقادوا له سواء منع الدليل منه أو لم يمنع ثم ههنا أبحاث
الأول قوله أَرَأَيْتَ كلمة تصلح للإعلام والسؤال وههنا هي تعجيب من جهل من هذا وصفه ونعته
الثاني قوله اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ معناه اتخذ إلهه ما يهواه أو إلهاً يهواه وقيل هو مقلوب ومعناه اتخذ هواه إلهه وهذا ضعيف لأن قوله اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ يفيد الحصر أي لم يتخذ لنفسه إلهاً إلا هواه وهذا المعنى لا يحصل عند القلب قال ابن عباس الهوى إله يعبد وقال سعيد بن جبير كان الرجل من المشركين يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه واتخذ الآخر وعبده
الثالث قوله أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أي حافظاً تحفظه من اتباع هواه أي لست كذلك
الرابع نظير هذه الآية قوله تعالى لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ( الغاشية 22 ) وقوله وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ ( ق 45 ) وقوله لا إِكْرَاهَ فِى الدّينِ ( البقرة 256 ) قال الكلبي نسختها آية القتال وثالثها قوله أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ أم ههنا منقطعة معناه بل تحسب وذلك يدل على أن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول لأنهم لشدة عنادهم لا يصغون إلى الكلام وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه فكأنه ليس لهم عقل ولا سمع ألبتة فعند ذلك شبههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكر وإقبالهم على اللذات الحاضرة الحسية وإعراضهم عن طلب السعادات الباقية العقلية وها هنا سؤالات
السؤال الأول لم قال أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ فحكم بذلك على الأكثر دون الكل والجواب لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل
السؤال الثاني لم جعلوا أضل من الأنعام الجواب من وجوه أحدها أن الأنعام تنقاد لأربابها وللذي يعلفها ويتعهدها وتميز بين من يحسن إليها وبين من يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يميزون بين إحسانه إليهم وبين إساءة الشيطان إليهم الذين هو عدو لهم ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يحترزون من العقاب الذي هو أعظم المضار وثانيها أن قلوب الأنعام كما أنها تكون خالية عن العلم فهي خالية عن الجهل الذي هو اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو عليه مع التصميم وأما هؤلاء فقلوبهم كما خلت عن العلم فقد اتصفت بالجهل فإنهم لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون بل هم مصرون على أنهم يعلمون وثالثها أن عدم علم الأنعام لا يضر بأحد أما جهل هؤلاء فإنه منشأ للضرر العظيم لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ورابعها أن الأنعام لا تعرف شيئاً ولكنهم عاجزون عن الطلب وأما هؤلاء الجهال فإنهم ليسوا عاجزين عن الطلب والمحروم عن طلب المراتب العالية إذا عجز عنه لا يكون في استحقاق الذم كالقادر عليه التارك له لسوء اختياره وخامسها أن البهائم لا تستحق عقاباً على عدم العلم أما هؤلاء فإنهم يستحقون عليه أعظم العقاب وسادسها أن البهائم تسبح الله تعالى على مذهب بعض الناس على ما قال وَإِن مّن شَى ْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ( الأسراء 44 ) وقال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ إلى قوله وَالدَّوَابّ ( الحج 18 ) وقال وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ( النور 41 ) وإذا كان كذلك فضلال الكفار أشد وأعظم من ضلال هذه الأنعام
السؤال الثالث أنه سبحانه لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث الرسول إليهم فإن من شرط التكليف العقل الجواب ليس المراد أنهم لا يعقلون بل إنهم لا ينتفعون بذلك العقل فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم إنما أنت أعمى وأصم
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَى ْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِى َّ كَثِيراً
اعلم أنه تعالى لما بين جهل المعرضين عن دلائل الله تعالى وفساد طريقهم في ذلك ذكر بعده أنواعاً من الدلائل الدالة على وجود الصانع
النوع الأول الاستدلال بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وفيه مسائل
المسألة الأولى قوله أَلَمْ تَرَ فيه وجهان أحدهما أنه من رؤية العين والثاني أنه من رؤية القلب يعني العلم فإن حلمناه على رؤية العين فالمعنى أم تر إلى الظل كيف مده ربك وإن كان تخريج لفظه على عادة العرب أفصح وإن حملناه على العلم وهو اختيار الزجاج فالمعنى ألم تعلم وهذا أولى وذلك أن الظل إذا جعلناه من المبصرات فتأثير قدرة الله تعالى في تمديده غير مرئي بالاتفاق ولكنه معلوم من حيث إن كل متغير جائز فله مؤثر فحمل هذا اللفظ على رؤية القلب أولى من هذا الوجه
المسألة الثانية المخاطب بهذا الخطاب وإن كان هو الرسول عليه السلام بحسب ظاهر اللفظ ولكن الخطاب عام في المعنى لأن المقصود من الآية بيان نعم الله تعالى بالظل وجميع المكلفين مشتركون في أنه يجب تنبههم لهذه النعمة وتمكنهم من الاستدلال بها على وجود الصانع
المسألة الثالثة الناس أكثروا في تأويل هذه الآية والكلام الملخص يرجع إلى وجهين
الأول أن الظل هو الأمر المتوسط بين الضوء الخالص وبين الظلمة الخالصة وهو ما بين ظهور الفجر إلى طلوع الشمس وكذا الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأفنية الجدران وهذه الحالة أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس وأما الضوء الخالص وهو الكيفية الفائضة من الشمس فهي لقوتها تبهر الحس البصري وتفيد السخونة القوية وهي مؤذية فإذن أطيب الأحوال هو الظل ولذلك وصف الجنة به فقال وَظِلّ مَّمْدُودٍ ( الواقعة 30 ) وإذا ثبت هذا فنقول إنه سبحانه بين أنه من النعم العظيمة والمنافع الجليلة ثم إن الناظر إلى الجسم الملون وقت الظل كأنه لا يشاهد شيئاً سوى الجسم وسوى اللون ونقول الظل ليس أمراً ثالثاً ولا يعرف به إلا إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم زال ذلك الظل فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً وماهية لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها فلولا الشمس لما عرف الظل ولولا الظلمة لما عرف النور فكأنه سبحانه وتعالى لما طلع الشمس على الأرض وزال الظل فحينئذ ظهر للعقول أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون فلهذا قال سبحانه ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً أي خلقنا الظل أولاً بما فيه من المنافع واللذات ثم إنا هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت الشمس دليلاً على وجود هذه النعمة ثم قبضناه أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيراً يسيراً فإن كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل في جانب المغرب ولما كان الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيراً يسيراً فكذا زوال الإظلال لا يكون دفعة بل يسيراً يسيراً ولأن قبض الظل لو حصل دفعة لاختلت المصالح ولكن قبضها يسيراً يسيراً يفيد معه أنواع مصالح العالم والمراد بالقبض الإزالة والإعدام هذا أحد التأويلين
التأويل الثاني وهو أنه سبحانه وتعالى لما خلق الأرض والسماء وخلق الكواكب والشمس والقمر وقع الظل على الأرض ثم إنه سبحانه خلق الشمس دليلاً عليه وذلك لأن بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فإنهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر وكما أن المهتدي
يهتدي بالهادي والدليل ويلازمه فكذا الأظلال كأنها مهتدية وملازمة للأضواء فلهذا جعل الشمس دليلاً عليها
وأما قوله ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً فأما أن يكون المراد منه انتهاء الأظلال يسيراً يسيراً إلى غاية نقصاناتها فسمى إزالة الأظلال قبضاً لها أو يكون المراد من قبضها يسيراً قبضها عند قيام الساعة وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الأظلال وقوله يَسِيراً هو كقوله ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ( ق 44 ) فهذا هو التأويل الملخص
المسألة الرابعة وجه الاستدلال به على وجود الصانع المحسن أن حصول الظل أمر نافع للأحياء والعقلاء وأما حصول الضوء الخالص أو الظلمة الخالصة فهو ليس من باب المنافع فحصول ذلك الظل إما أن يكون من الواجبات أو من الجائزات والأول باطل وإلا لما تطرق التغير إليه لأن الواجب لا يتغير فوجب أن يكون من الجائزات فلا بد له في وجوده بعد العدم وعدمه بعد الوجود من صانع قادر مدبر محسن يقدره بالوجه النافع وما ذاك إلا من يقدر على تحريك الأجرام العلوية وتدبير الأجسام الفلكية وترتيبها على الوصف الأحسن والترتيب الأكمل وما هو إلا الله سبحانه وتعالى فإن قيل الظل عبارة عن عدم الضوء عما شأنه أن يضيء فكيف استدل بالأمر العدمي على ذاته وكيف عده من النعم قلنا الظل ليس عدماً محضاً بل هو أضواء مخلوطة بظلم والتحقيق أن الظل عبارة عن الضوء الثاني وهو أمر وجودي وفي تحقيقه وبسطه كلام دقيق يرجع فيه إلى كتبنا العقلية
النوع الثاني قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً اعمل أنه تعالى شبه الليل من حيث إنه يستر الكل ويغطي باللباس الساتر للبدن ونبه على ما لنا فيه من النفع بقوله وَالنَّوْمَ سُبَاتاً والسبات هو الراحة وجعل النوم سباتاً لأنه سبب للراحة قال أبو مسلم السبات الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة مسبوت وقال صاحب ( الكشاف ) السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة قال وهذا كقوله وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ ( الأنعام 60 ) وإنما قلنا إن تفسيره بالموت أولى من تفسيره بالراحة لأن النشور في مقابلته يأباه قال أبو مسلم وجعل النهار نشوراً هو بمعنى الانتشار والحركة كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة فقال هو بمعنى الانتشار والحركة كما سمى تعالى نوم الإنسان وفاة فقال اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا ( الزمر 42 ) والتي لم تمت في منامها كذلك وفق بين القيام من النوم والقيام من الموت في التسمية بالنشور وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمه على خلقه لأن الاحتجاب بستر الليل كم فيه لكثير من الناس من فوائد دينية ودنيوية والنوم واليقظة شبههما بالموت والحياة وعن لقمان أنه قال لابنه كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر
النوع الثالث قوله وَهُوَ الَّذِى أَرْسَلَ الرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْهِ رَحْمَتِهِ وقد تقدم تفسيره في سورة الأعراف ثم فيه مسائل
المسألة الأولى قرىء ( الريح ) و ( الرياح ) قال الزجاج وفي ( نشراً ) خمسة أوجه بفتح النون وبضمها وبضم النون والشين وبالباء الموحدة مع ألف والمؤنث وبشراً بالتنوين قال أبو مسلم في قرأ ( بشراً ) أراد جمع بشير مثل قوله تعالى وَمِنْ ءايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرّيَاحَ مُبَشّراتٍ ( الروم 46 ) وأما بالنون فهو في معنى قوله والنَّاشِراتِ نَشْراً ( المرسلات 3 )
وهي الرياح والرحمة الغيث والماء والمطر
المسألة الثانية قوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً نص في أنه تعالى ينزل الماء من السماء لا من السحاب وقول من يقول السحاب سماء ضعيف لأن ذاك بحسب الاشتقاق وأما بحسب وضع اللغة فالسماء اسم لهذا السقف المعلوم فصرفه عنه ترك للظاهر
المسألة الثالثة اختلفوا في أن الطهور ما هو قال كثير من العلماء الطهور ما يتطهر به كالفطور ما يفطر به والسحور ما يتسحر به وهو مروي أيضاً عن ثعلب وأنكر صاحب ( الكشاف ) ذلك وقال ليس فعول من التفعيل في شيء والطهور على وجهين في العربية صفة واسم غير صفة فالصفة قولك ماء طهور كقولك طاهر والاسم قولك طهور لما يتطهر به كالوضوء والوقود لما يتوضأ به ويوقد به النار حجة القول الأول قوله عليه السلام ( التراب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج ) ولو كان معنى الطهور الطاهر لكان معناه التراب طاهر للمسلم وحينئذ لا ينتظم الكلام وكذا قوله عليه السلام ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعاً ) ولو كان الطهور الطاهر لكان معناه طاهر إناء أحدكم وحينئذ لا ينتظم الكلام ولأنه تعالى قال وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) فبين أن المقصود من الماء إنما هو التطهر به فوجب أن يكون المراد من كونه طهوراً أنه هو المطهر به لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام فوجب حمله على الوصف الأكمل ولا شك أن المطهر أكمل من الطاهر
المسألة الرابعة اعلم أن الله تعالى ذكر من منافع الماء أمرين أحدهما ما يتعلق بالنبات والثاني ما يتعلق بالحيوان أما أمر النبات فقوله لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً وفيه سؤالات
السؤال الأول لم قال لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً ميتاً ولم يقل ميتة الجواب لأن البلدة في معنى البلد في قوله فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيّتٍ ( فاطر 9 )
السؤال الثاني ما المراد من حياة البلد وموتها الجواب الناس يسمون ما لا عمارة فيه من الأرض مواتاً وسقيها المقتضي لعمارتها إحياء لها
السؤال الثالث أن جماعة الطبائعيين وكذا الكعبي من المعتزلة قالوا إن بطبع الأرض والماء وتأثير الشمس فيهما يحصل النبات وتمسكوا بقوله تعالى لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً فإن الباء في ( به ) تقتضي أن للماء تأثيراً في ذلك الجواب الظاهر وإن دل عليه لكن المتكلمون تركوه لقيام الدلالة على فساد الطبع وأما أمر الحيوان فقوله سبحانه وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِى َّ كَثِيراً وفيه سؤالات
السؤال الأول لم خص الإنسان والأنعام ههنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء الجواب لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام لأنها قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها فكأن الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم بسقيهم
السؤال الثاني ما معنى تنكير الأنعام والأناسى ووصفهما بالكثرة الجواب معناه أن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار ( ومنافع ) المياه فهم في غنية ( في شرب المياه عن المطر ) وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وذلك قوله لّنُحْيِى َ بِهِ بَلْدَة ً مَّيْتاً يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظان الماء ويحتمل في ( كثير ) أن يرجع إلى قوله وَنُسْقِيَهِ لأن الحي يحتاج إلى الماء حالاً بعد حال وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان إلى الضرر أقرب والحيوان يحتاج إليه حالاً بعد حال ما دام حياً
السؤال الثالث لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي الجواب لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا لأرضهم ومواشيهم فقد ظفروا أيضاً بسقياهم وأيضاً فقوله تعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ( الفرقان 50 ) يعني صرف المطر كل سنة إلى جانب آخر وإذا كان كذلك فلا يسقي الكل منه بل يسقي كل سنة أناسي كثيراً منه
السؤال الرابع ما الأناسي الجواب قال الفراء والزجاج الإنسي والأناسي كالكرسي والكراسي ولم يقل كثيرين لأنه قد جاء فعيل مفرداً ويراد به الكثرة كقوله وَقُرُوناً بَيْنَ ذالِكَ كَثِيراً ( الفرقان 38 ) وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ( النساء 69 )
واعلم أن الفقهاء قد استنبطوا أحكام المياه من قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ونحن نشير إلى معاقد تلك المسائل فنقول ههنا نظران أحدهما أن الماء مطهر والثاني أن غير الماء هل هو مطهر أم لا النظر الأول أن نقول الماء إما أن لا يتغير أو يتغير القسم الأول وهو الذي لا يتغير فهو طاهر في ذاته مطهر لغيره إلا الماء المستعمل فإنه عند الشافعي طاهر وليس بمطهر وقال مالك والثوري يجوز الوضوء به وقال أبو حنيفة في رواية أبي يوسف إنه نجس فههنا مسائل
المسألة الأولى في بيان أنه ليس بمطهر ودليلنا قوله عليه السلام ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ) ولو بقي الماء كما كان طاهراً مطهراً لما كان للمنع منه معنى ومن وجه القياس أن الصحابة كانوا يتوضؤون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء ولو كان ذلك الماء مطهراً لحملوه ليوم الحاجة واحتج مالك بالآية والخبر والقياس أما الآية فمن وجهين الأول قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً وقوله وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السَّمَاء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ ( الأنفال 11 ) فدلت الآية على حصول وصف المطهرية للماء والأصل في الثابت بقاؤه فوجب الحكم ببقاء هذه الصفة للماء بعد صيرورته مستعملاً وأيضاً قوله طَهُوراً يقتضي جواز التطهر به مرة بعد أخرى والثاني أنه أمر بالغسل مطلقاً في قوله فاغْسِلُواْ ( المائدة 6 ) واستعمال كل المائعات غسل لأنه لا معنى للغسل إلا إمرار الماء على العضو قال الشاعر فياحسنها إذ يغسل الدمع كحلها
فمن اغتسل بالماء المستعمل فقد أتى بالغسل فوجب أن يكون مجزئاً له لأنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة وأما السنة فما روي أنه عليه السلام ( توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده ) وعنه عليه السلام ( أنه توضأ فأخذ من بلل لحيته فمسح به رأسه ) وعن ابن عباس أنه عليه السلام ( اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة ) وأما القياس فإنه ماء طاهر لقي
جسداً طاهراً فأشبه ما إذا لقي حجارة أو حديداً وكذا الماء المستعمل في الكرة الرابعة والمستعمل في التبرد والتنظيف ولأنه لا خلاف أنه إذا وضع الماء على أعلى وجهه وسقط به فرض ذلك الموضع ثم نزل ذلك الماء بعينه إلى بقية الوجه فإنه يجزيه مع أن ذلك الماء صار مستعملاً في أعلى الوجه
المسألة الثانية الدليل على أن الماء المستعمل طاهر قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ومن السنة أنه عليه السلام أخذ من بلل لحيته ومسح به رأسه وقال ( خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه ) وقال الشافعي إنه عليه السلام توضأ ولا شك أنه أصابه ما تساقط منه ولم ينقل أنه غير ثوبه ولا أنه غسله ولا أحد من المسلمين فعل ذلك فثبت أنهم أجمعوا على أنه ليس بنجس ولأنه ماء طاهر لقي جسماً طاهراً فأشبه ما إذا لاقى حجارة
المسألة الثالثة الماء المستعمل إما أن يكون مستعملاً في أعضاء الوضوء أو في غسل الثياب أما المستعمل في أعضاء الوضوء فإما أن يكون مستعملاً فيما كان فرضاً وعبادة أو فيما كان فرضاً ولا يكون عبادة أو فيما كان عبادة ولا يكون فرضاً أو فيما لا يكون فرضاً ولا عبادة
أما القسم الأول وهو المستعمل فيما كان فرضاً وعبادة فهو غير مطهر باتفاق أصحاب الشافعي
وأما القسم الثاني فهو كالماء الذي استعملته الذمية التي تحت الزوج المسلم أي في غسل حيضها ليحل للزوج غشيانها وأما القسم الثالث فهو كالماء المستعمل في الكرة الثانية والثالثة والماء المستعمل في تجديد الوضوء والماء المستعمل في الأغسال المسنونة فلأصحاب الشافعي في هذين القسمين وجهان وأما القسم الرابع فهو كالماء المستعمل في الكرة الرابعة وفي التبرد والتنظف فذاك باتفاق أصحاب الشافعي غير مستعمل وهو طاهر مطهر أما الماء المستعمل في غسل الثياب فإذا غسل ثوباً من نجاسة وطهر بغسلة واحدة يستحب أن يغسله ثلاثاً فالمنفصل في الكرة الثانية والثالثة مطهر على الأصح القسم الثاني الماء الذي يتغير فنقول الماء إذا تغير فإما أن يتغير بنفسه أو بغيره أما الأول فكالمتغير بطول المكث فيجوز الوضوء به لأنه عليه السلام كان يتوضأ من بئر ( قضاعة ) وكان ماؤها كأنه نقاعة الحناء وأما المتغير بسبب غيره فذلك الغير إما أن لا يكون متصلاً به أو يكون متصلاً به أما الذي لا يكون متصلاً به فهو كما لو وقع بقرب الماء جيفة فصار الماء منتناً بسببها فهو أيضاً مطهر وأما إذا تغير بسبب شيء متصل به فذلك المتصل إما أن يكون طاهراً أو نجساً القسم الأول إذا كان طاهراً فهو إما أن لا يخالطه أو يخالطه فإن لم يخالطه فهو كالماء المتغير بسبب وقوع الدهن والطيب والعود والعنبر والكافور الصلب فيه وهذا أيضاً مطهر كما لو كان بقرب الماء جيفة ولأن الطهورية ثبتت بقوله وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً والأصل في الثابت بقاؤه وأما المتغير بسبب شيء يخالطه فذلك المخالط إما أن لا يمكن صون الماء عنه أو يمكن أما الذي لا يمكن فكالمتغير بالتراب والحمأة والأوراق التي تقع فيه والطحلب الذي يتولد فيه وهذا أيضاً مطهر لأن الطهورية ثبتت بالآية والاحتراز عن ذلك عسير فيكون مرفوعاً لقوله مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ ( الحج 78 ) وكذا لو جرى الماء في طريقه على معدن زرنيخ أو نورة أو كحل أو وقع شيء منها فيه أو نبع من معادنها أما إذا تغير الماء بسبب مخالطة ما يستغنى الماء عن جنسه نظر إن كان التغير قليلاً بحيث لا يضاف الماء إليه بأن وقع فيه زعفران فاصفر قليلاً أو دقيق فابيض قليلاً جاز الوضوء به على الصحيح من
المذهب لأنه لم يسلبه إطلاق اسم الماء وأما إن كان التغير كثيراً فإن استحدث اسماً جديداً كالمرقة لم يجز الوضوء به بالاتفاق وإن لم يستحدث اسماً جديدا فعند الشافعي لا يجوز الوضوء به وعند أبي حنيفة يجوز
حجة الشافعي من وجوه أحدها أنه عليه السلام توضأ ثم قال ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) فذلك الوضوء إن كان واقعاً بالماء المتغير وجب أن لا يجوز إلا به وبالاتفاق ليس الأمر كذلك فثبت أنه كان بماء غير متغير وهو المطلوب وثانيها أنه إذا اختلط ماء الورد بالماء ثم توضأ الإنسان به فيحتمل أن بعض الأعضاء قد انغسل بماء الورد دون الماء وإذا كان كذلك فقد وقع الشك في حصول الوضوء وكان تيقن الحدث قائماً والشك لا يعارض اليقين فوجب أن يبقى على الحدث بخلاف ما إذا كان قليلاً لا يظهر أثره فإنه صار كالمعدوم أما إذا ظهر أثره علمنا أنه باق فيتوجه ما ذكرناه وثالثها أن الوضوء تعبد لا يعقل معناه فإنه لو توضأ بماء الورد لا يصح وضوؤه ولو توضأ بالماء الكدر المتعفن صح وضوؤه وما لا يعقل معناه وجب الاقتصار فيه على مورد النص وترك القياس
حجة أبي حنيفة وجوه أحدها قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً دلت الآية على كون الماء مطهراً والأصل في الثابت بقاؤه فوجب بقاء هذه الصفة بعد التغير بالمخالطة وثانيها قوله تعالى فاغْسِلُواْ ( المائدة 6 ) أمر بمطلق الغسل وقد أتى به فوجب أن يخرج عن العهدة وقد بينا تقرير هذا الوجه فيما تقدم وثالثها قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( النساء 43 ) علق جواز التيمم بعدم وجدان الماء وواجد هذا الماء المتغير واجد للماء لأن الماء المتغير ماء مع صفة التغير والموصوف موجود حال وجود الصفة فوجب أن لا يجوز له التيمم ورابعها قوله عليه السلام في البحر ( هو الطهور ماؤه ) ظاهره يقتضي جواز الطهارة به وإن خالطه غيره لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أطلق ذلك وخامسها أنه عليه السلام أباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن خالطه شيء من لعابهما وسادسها لا خلاف في الوضوء بماء المدر والسيول مع تغير لونه بمخالطة الطين وما يكون في الصحارى من الحشيش والنبات ومن أجل مخالطة ذلك له يرى تارة متغيراً إلى السواد وأخرى إلى الحمرة والصفرة فصار ذلك أصلاً في جميع ما خالط الماء إذا لم يغلب عليه فيسلبه اسم الماء القسم الثاني إذا كان المخالط للماء شيئاً نجساً فمن الناس من زعم أن الماء لا ينجس ما لم يتغير بالنجاسة سواء كان قليلاً أو كثيراً وهو قول الحسن البصري والنخعي ومالك وداود وإليه مال الشيخ الغزالي في كتاب ( الإحياء ) وقال أبو بكر الرازي مذهب أصحابنا أن كل ما تيقنا فيه جزأ من النجاسة أو غلب على الظن ذلك لم يجز استعماله ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في جهة تغليب الظن في بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر وليس هو كلامنا في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعمالها وبعضها لا يجوز استعماله هذا كله كلام أبي بكر وأقول من الناس من فرق بين القليل والكثير فعن عبدالله بن عمر ( إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شيء ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( الحوض لا يغتسل فيه جنب إلا أن يكون فيه أربعون غرباً ) وهو قول محمد بن كعب القرظي وقال
مسروق وابن سيرين إذا كان الماء كثيراً لا ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال وقال الشافعي إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه وإن كان أقل ينجس لظهور النجاسة فيه
واعلم أنه يمكن التمسك لنصرة قول مالك بوجوه أحدها قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه فيبقى فيما عداه على الأصل وثانيها قوله عليه السلام ( خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه ) وهو نص في الباب وثالثها قوله تعالى فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ( المائدة 6 ) المتوضىء بهذا الماء قد غسل وجهه فيكون آتياً بما أمر به فيخرج عن العهدة ورابعها أن من شأن كل مختلطين كان أحدهما غالباً على الآخر أن يتكيف المغلوب بكيفية الغالب فالقطرة من الخل لو وقعت في الماء الكثير بطلت صفة الخلية عنها واتصفت بصفة الماء وكون أحدهما غالباً على الآخر إنما يعرف بغلبة الخواص والآثار المحسوسة وهي الطعم أو اللون أو الريح فلا جرم مهما ظهر طعم النجاسة أو لونها أو ريحها كانت النجاسة غالبة على الماء وكان الماء مستهلكاً فيها فلا جرم يغلب حكم النجاسة فإذا لم يظهر شيء من ذلك كان الغالب هو الماء وكانت النجاسة مستهلكة فيه فيغلب حكم الطهارة وخامسها ما روي عن عمر ( أنه ) توضأ من جرة نصرانية مع أن نجاسة أواني النصارى معلومة بظن قريب من العلم وذلك يدل على أن عمر لم يعول إلا على عدم التغير وسادسها أن تقدير الماء بمقدار معلوم ولو كان معتبراً كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند أبي حنيفة رضي الله عنه لكان أولى المواضع بالطهارة مكة والمدينة لأنه لا تكثر المياه هناك لا الجارية وإلا الراكدة الكثيرة ومن أول عصر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى آخر عصر الصحابة لم ينقل أنهم خاضوا في تقدير المياه بالمقادير المعينة ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظ المياه عن النجاسات وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات وسابعها إصغاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الإناء للهرة وعدم منعهم الهرة من شرب الماء من أوانيهم بعد أن كانوا يرون أنه تأكل الفأرة ولم يكن في بلادهم حياض تلغ السنانير فيها وكانت لا تنزل إلى الآبار وثامنها أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسات طاهرة إذا لم تتغير ونجسة إذا تغيرت وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه وأي معنى لقول القائل إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم تمنع المخالطة وتاسعها أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة ولا خلاف أن مذهب الشافعي إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير أنه يجوز الوضوء به وإن كان قليلاً وأي فرق بين الجاري والراكد وليت شعري الحوالة على عدم التغير أولى أو على قوة الماء بسبب الجريان وعاشرها إذا وقع بول في قلتين ثم فرقتا فكل كوز يؤخذ منه فهو ظاهر على قول الشافعي ومعلوم أن البول منتشر فيه وهو قليل فأن فرق بينه إذا وقع ذلك القليل في ذلك القدر من الماء ابتداء وبينه إذا وصل إليه عند اتصال غيره به وحادي عشرها أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ فيها المتقشفون ويغمسون الأيدي والأواني في ذلك القليل من الماء من تلك الحياض مع علمهم بأن الأيدي الطاهرة والنجسة كانت تتوارد عليها ولو كان التقدير بالقلتين معتبراً لاشتهر ذلك ولبلغ ذلك إلى حد التواتر لأن الأمر الذي تشتد حاجة الجمهور إليه يجب بلوغ نقله إلى حد التواتر لما لم يكن كذلك علمنا أنه غير معتبر وثاني عشرها أنا لو حكمنا بنجاسة الماء فلا يمكننا أن نحكم بنجاسة الماء إن كان في غاية
الكثرة مثل ماء الأودية العظيمة والغدران الكبار فإن ذلك بالإجماع باطل فلا بد من التقدير بمقدار معين وقد نقلنا عن الناس تقديرات مختلفة فليس بعضها أولى من بعض فوجب التعارض والتساقط أما تقدير أبي حنيفة بعشر في عشر فمعلوم أنه مجرد تحكم وأما تقدير الشافعي بالقلتين بناء على قوله عليه السلام ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) فضعيف أيضاً لأن الشافعي لما روى هذا الخبر قال أخبرني رجل فيكون الراوي مجهولاً ويكون الحديث مرسلاً وهو عنده ليس بحجة وأيضاً زعم كثير من المحدثين أنه موقوف على ابن عمر رضي الله عنه سلمنا صحة الرواية لكنه إحالة مجهول على مجهول لأن القلة غير معلومة فإنها تصلح للكوز والجرة ولكل ما نقل باليد وهو أيضاً اسم لهامة الرجل ولقلة الجبل سلمنا كون القلة معلومة لكن في متن الخبر اضطراب فإنه روي ( إذا بلغ الماء قلتين ) وروي ( إذا بلغ قلة ) وروي ( أربعين قلة ) وروي ( إذا بلغ قلتين أو ثلاثاً ) وروي ( إذا بلغ كوزين ) سلمنا صحة المتن ولكنه متروك الظاهر لأن قوله ( لم يحمل خبثاً ) لا يمكن إجراؤه على ظاهره فإن الخبث إذا ورد عليه فقد حمله سلمنا إمكان إجرائه على ظاهره لكن الخبث على قسمين خبث شرعي وخبث حقيقي والاسم إذا دار بين المسمى اللغوي والمسمى الشرعي كان حمله على المسمى اللغوي أولى لأن الاسم حقيقة في المسمى اللغوي مجاز في المسمى الشرعي دفعاً للاشتراك والنقل وإذا كان كذلك وجب حمله عليه والمسمى اللغوي للخبث المستقذر بالطبع قال عليه السلام ( ما استخبثته العرب فهو حرام ) إذا ثبت هذا فنقول معنى قوله ( لم يحمل خبثاً ) أي لا يصير مستقذراً طبعاً ونحن نقول بموجبه لكن لم قلت إنه لا ينجس شرعاً سلمنا أن المراد من الخبث النجاسة الشرعية لكن قوله ( لم يحمل خبثاً ) أي يضعف عن حمله ومعنى الضعف تأثره به فيكون هذا دليلاً على صيرورته نجساً لا على بقائه طاهراً لا يقال الجواب عن هذه الأسئلة أن يقال إن الشافعي وإن لم يذكر اسم الراوي في بعض المواضع فقد ذكره في سائر المواضع فخرج عن كونه مرسلاً ولأن سائر المحدثين قد عينوا اسم الراوي قوله إنه موقوف على ابن عمر قلنا لا نسلم فإن يحيى بن معين قال إنه جيد الإسناد فقيل له إن ابن علية وقفه على ابن عمر فقال إن كان ابن علية وقفه فحماد بن سلمة رفعه وقوله القلة مجهولة قلنا لا نسلم لأن ابن جريج قال في روايته ( بقلال هجر ) ثم قال وقد شاهدت قلال هجر فكانت القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً قوله في متنه اضطراب قلنا لا نسلم لأنا وأنتم توافقنا على أن سائر المقادير غير معتبرة فيبقى ما ذكرناه معتبراً قوله إنه متروك الظاهر قلنا إذا حملناه على الخبث الشرعي اندفع ذلك وذلك أولى لأن حمل كلام الشرع على الفائدة الشرعية أولى من حمله على المعنى العقلي لا سيما وفي حمله على المعنى العقلي يلزم التعطيل قوله المراد أنه يضعف عن حمله قلنا صح في بعض الروايات أنه قال ( إذا كان الماء قلتين لم ينجس ) ولأنه عليه السلام جعل القلتين شرطاً لهذا الحكم والمعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط وعلى ما ذكروه لا يبقى للقلتين فائدة لأنا نقول لا شك أن هذا الخبر بتقدير الصحة يقتضي تخصيص عموم قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُوراً وعموم قوله وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ ( المائدة 6 ) وعموم قوله فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ ( المائدة 6 ) وعموم قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء ) وهذا المتخصص لا بد وأن يكون بعيداً عن الاحتمال والاشتباه وقلال هجر مجهولة وقول ابن جريج القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئاً ليس بحجة لأن القلة كما أنها مجهولة فكذا القربة مجهولة فإنها قد تكون كبيرة وقد تكون صغيرة ولأن الروايات أيضاً مختلفة فتارة قال ( إذا بلغ الماء قلتين ) وتارة ( أربعين قلة ) وتارة كرين فإذا تدافعت
وتعارضت لم يجز تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر هذا تمام الكلام في نصرة قول مالك واحتج من حكم بنجاسة الماء الذي تقع النجاسة فيه بوجوه أولها قوله تعالى وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَئِثَ ( الأعراف 157 ) والنجاسات من الخبائث وقال تعالى إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة َ وَالدَّمَ ( النحل 115 ) وقال في الخمر رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ( المائدة 90 ) ومر عليه السلام بقبرين فقال ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير إن أحدهما كان لا يستبرىء من البول والآخر كان يمشي بالنميمة ) فحرم الله هذه الأشياء تحريماً مطلقاً ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء فوجب تحريم استعمال كل ما يبقى فيه جزء من النجاسة أكثر ما في الباب أن الدلائل الدالة على كون الماء مطهراً تقتضي جواز الطهارة به ولكن تلك الدلائل مبيحة والدلائل التي ذكرناها حاظرة والمبيح والحاظر إذا اجتمعا فالغلبة للحاظر ألا ترى أن الجارية بين رجلين لو كان لأحدهما منها مائة جزء وللآخر جزء واحد أن جهة الحظر فيها أولى من جهة الإباحة وأنه غير جائز لواحد منهما وطؤها فكذا ههنا وثانيها قوله عليه السلام ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من الجنابة ) ذكره على الإطلاق من غير فرق بين القليل والكثير وثالثها قوله عليه السلام ( إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثاً قبل أن يدخلها الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده ) فأمر بغسل اليد احتياطاً من نجاسة قد أصابته من موضع الاستنجاء ومعلوم أن مثلها إذا أدخلت الماء لم تغيره ولولا أنها تفسده ما كان للأمر بالاحتياط منها معنى ورابعها قوله عليه السلام ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ) يدل بمفهومه على أنه إذا لم يبلغ قلتين وجب أن يحمل الخبث أجاب مالك عن الوجه الأول فقال لا نزاع في أنه يحرم استعمال النجاسة ولكن الجزء القليل من النجاسة المائعة إذا وقع في الماء لم يظهر فيه لونه ولا طعمه ولا رائحته فلم قلتم إن تلك النجاسة بقيت ولم لا يجوز أن يقال إنها انقلبت عن صفتها وتقريره ما قدمناه وأما قوله عليه السلام ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ) فلم قلتم إن هذا النهي ليس إلا لما ذكرتموه بل لعل النهي إنما كان لأنه ربما شربه إنسان وذلك مما ينفر طبعه عنه وليس الكلام في نفرة الطبع وأما قوله ( إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يده ثلاثاً ) فقد أجمعنا على أن هذا الأمر استحباب فالمرتب عليه كيف يكون أمر إيجاب ثم بتقدير أن يكون أمر إيجاب فلم قلتم إنه لم يوجه ذلك الإيجاب إلا لما ذكرتموه وأما قوله عليه السلام ( إذا بلغ الماء قلتين ) فقد سبق الكلام عليه ثم بعد النزول عن كل ما قلناه فهو تمسك بالمفهوم والنصوص التي ذكرناها منطوقة والمنطوق راجح على المفهوم والله أعلم
النظر الثاني في أن غير الماء هل هو طهور أم لا فقال الأصم والأوزاعي يجوز الوضوء بجميع المائعات وقال أبو حنيفة يجوز الوضوء بنبيذ التمر في السفر وقال أيضاً تجوز إزالة النجاسة بجميع المائعات التي تزيل أعيان النجاسات وقال الشافعي رضي الله عنه الطهورية مختصة بالماء على الإطلاق ودليله في صورة الحدث قوله تعالى فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ ( النساء 43 ) أوجب التيمم عند عدم الماء ولو جاز الوضوء بالخل أو نبيذ التمر لما وجب التيمم عند عدم الماء وأما في صورة الخبث فلأن الخل لو أفاد طهارة الخبث لكان طهوراً لأنه لا معنى للطهور إلا المطهر ولو كان طهوراً لوجب أن يجوز به طهارة الحدث لقوله عليه السلام ( لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه ) وكلمة ( حتى ) لانتهاء الغاية فوجب انتهاء عدم القبول عند استعمال الطهور وانتهاء عدم القبول يكون بحصول القبول فلو كان الخل طهوراً لحصل باستعماله قبول الصلاة وحيث لم يحصل علمنا أن الطهورية في الخبث أيضاً مختصة بالماء
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَة ٍ نَّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً
المسألة الأولى اعلم أنهم اختلفوا في أن الهاء في قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ إلى أي شيء يرجع وذكروا فيه ثلاثة أوجه أحدها وهو الذي عليه الجمهور أنه يرجع إلى المطر ثم من هؤلاء من قال معنى ( صرفناه ) أنا أجريناه في الأنهار حتى انتفعوا بالشرب وبالزراعات وأنواع المعاش به وقال آخرون معناه أنه سبحانه ينزله في مكان دون مكان وفي عام دون عام ثم في العام الثاني يقع بخلاف ما وقع في العام الأول قال ابن عباس ما عام بأكثر مطراً من عام ولكن الله يصرفه في الأرض ثم قرأ هذه الآية وروى ابن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ما من عام بأمطر من عام ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حول الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي ) وثانيها وهو قول أبي مسلم أن قوله صَرَّفْنَاهُ راجع إلى المطر والرياح والسحاب والأظلال وسائر ما ذكر الله تعالى من الأدلة وثالثها وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ أي هذا القول بين الناس في القرآن وسائر الكتب والصحف التي أنزلت على رسل وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر ليتفكروا ويستدلوا به على الصانع والوجه الأول أقرب لأنه أقرب المذكورات إلى الضمير
المسألة الثانية قال الجبائي قوله تعالى لّيَذْكُرُواْ يدل على أنه تعالى مريد من الكل أن يتذكروا ويشكروا ولو أراد منهم أن يكفروا ويعرضوا لما صح ذلك وذلك يبطل قول من قال إن الله تعالى مريد للكفر ممن يكفر قال ودل قوله فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا على قدرتهم على فعل هذا التذكر إذ لو لم يقدروا لما جاز أن يقال أبوا أن يفعلوه كما لا يقال في الزَّمن أبى أن يسعى وقال الكعبي قوله وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ حجة على من زعم أن القرآن وبال على الكافرين وأنه لم يرد بإنزاله أن يؤمنوا لأن قوله لّيَذْكُرُواْ عام في الكل وقوله فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ يقتضي أن يكون هذا الأكثر داخلاً في ذلك العام لأنه لا يجوز أن يقال أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفوراً واعلم أن الكلام عليه قد تقدم مراراً
المسألة الثالثة قوله فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا المراد كفران النعمة وجحودها من حيث لا يتفكرون فيها ولا يستدلون بها على وجود الصانع وقدرته وإحسانه وقيل المراد من الكفور هو الكفر وذلك الكفر إنما حصل لأنهم يقولون مطرنا بنوء كذا لأن من جحد كون النعم صادرة من المنعم وأضاف شيئاً من هذه النعمة إلى الأفلاك والكواكب فقد كفر واعلم أن التحقيق أن من جعل الأفلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره وأما من قال الصانع تعالى جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث فلعله لا يبلغ خطؤه إلى حد الكفر
المسألة الرابعة قالوا الآية دلت على أن خلاف معلوم الله مقدور له لأن كلمة لو دلت على أنه تعالى ما شاء أن يبعث في كل قرية نذيراً ثم إنه تعالى أخبر عن كونه قادراً على ذلك فدل ذلك على أن خلاف معلوم الله مقدور له
أما قوله تعالى وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَة ٍ نَّذِيراً فالأقوى أن المراد من ذلك تعظيم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك لوجوه أحدها كأنه تعالى بين له أنه مع القدرة على بعثة رسول ونذير في كل قرية خصه بالرسالة وفضله بها على الكل ولذلك أتبعه بقوله فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ أي لا توافقهم وثانيها المراد ولو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة إلى كل العالمين ولبعثنا في كل قرية نذيراً ولكنا قصرنا الأمر عليك وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل فقابل هذا الإجلال بالتشدد في الدين وثالثها أن الآية تقتضي مزج اللطف بالعنف لأنها تدل على القدرة على أن يبعث في كل قرية نذيراً مثل محمد وأنه لا حاجة بالحضرة الإلهية إلى محمد ألبتة وقوله وَلَوْ يدل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك فبالنظر إلى الأول يحصل التأديب وبالنظر إلى الثاني يحصل الإعزاز
أما قوله فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ فالمراد نهيه عن طاعتهم ودلت هذه الآية على أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي عنه مشتغلاً به
وأما قوله وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً فقال بعضهم المراد بذل الجهد في الأداء والدعاء وقال بعضهم المراد القتال وقال آخرون كلاهما والأقرب الأول لأن السورة مكية والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان وإنما قال جِهَاداً كَبيراً لأنه لو بعث في كل قرية نذيراً لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله تلك المجاهدات وكثر جهاده من أجل ذلك وعظم فقال له وَجَاهِدْهُمْ بسبب كونك نذير كافة القرى جِهَاداً كَبيراً جامعاً لكل مجاهدة
وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من دلائل التوحيد وقوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلاهما وأرسلهما يقال مرجت الدابة إذا خليتها ترعى وأصل المرج الإرسال والخلط ومنه قوله تعالى فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ ( ق 5 ) سمى الماءين الكبيرين الواسعين بحرين قال ابن عباس مرج البحرين أي أرسلهما في مجاريهما كما ترسل الخيل في المرج وهما يلتقيان وقوله هَاذَا عَذَابٌ فُرَاتٌ والمقصود من الفرات البليغ في العذوبة حتى ( يصير ) إلى الحلاوة والأجاج نقيضه وأنه سبحانه بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج وجعل من عظيم اقتداره برزخاً حائلاً من قدرته وههنا سؤالات
السؤال الأول ما معنى قوله وَحِجْراً مَّحْجُوراً الجواب هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها وهي ههنا واقعة على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له حجراً محجوراً كما قال لاَّ يَبْغِيَانِ ( الرحمن 20 ) أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة فانتفاء البغي ( ثمة ) كالتعوذ وههنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهي من أحسن الاستعارات
السؤال الثاني لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى ههنا لا يقال هذا مدفوع من وجهين الأول أن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون الثاني لعله جعل في البحار موضعاً يكون أحد جانبيه عذباً والآخر ملحاً لأنا نقول أما الأول فضعيف لأن هذه الأودية ليس فيها ملح والبحار ليس فيها ماء عذب فلم يحصل ألبتة موضع التعجب وأما الثاني فضعيف لأن موضع الاستدلال لا بد وأن يكون معلوماً فأما بمحض التجويز فلا يحسن الاستدلال لأنا نقول المراد من البحر العذب هذه الأودية ومن الأجاج البحار الكبار وجعل بينهما برزخاً أي حائلاً من الأرض ووجه الاستدلال ههنا بين لأن العذوبة والملوحة إن كانت بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء وإن لم يكن كذلك فلا بد من قادر حكيم يخص كل واحد من الأجسام بصفة خاصة معينة
وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً
واعلم أن هذا هو النوع الخامس من دلائل التوحيد وفيه بحثان
الأول ذكروا في هذا الماء قولين أحدهما أنه الماء الذي خلق منه أصول الحيوان وهو الذي عناه بقوله وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّة ٍ مّن مَّاء ( النور 45 ) والثاني أن المراد النطفة لقوله خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ ( الطارق 6 ) مّن مَّاء مَّهِينٍ ( المرسلات 20 )
البحث الثاني المعنى أنه تعالى قسم البشر قسمين ذوي نسب أي ذكوراً ينسب إليهم فيقال فلان بن فلان وفلانة بنت فلان وذوات صهر أي إناثاً ( يصاهرن ) ونحوه قوله تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاْنثَى ( القيامة 39 ) وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً حيث خلق من النطفة الواحدة نوعين من البشر الذكر والأنثى
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً
واعلم أنه تعالى لما شرح دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم في عبادة الأوثان وفي الآية مسائل
المسألة الأولى قيل المراد بالكافر أبو جهل لأن الآية نزلت فيه والأولى حمله على العموم لأن
خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ ولأنه أوفق بظاهر قوله وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
المسألة الثانية ذكروا في الظهير وجوهاً أحدها أن الظهير بمعنى المظاهر كالعوين بمعنى المعاون وفعيل بمعنى مفاعل غير ( غريب ) والمعنى أن الكافر يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة فإن قيل كيف يصح في الكافر أن يكون معاوناً للشيطان على ربه بالعداوة قلنا إنه تعالى ذكر نفسه وأراد رسوله كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ( الأحزاب 57 ) وثانيها يجوز أن يريد بالظهير الجماعة كقوله وَالْمَلَئِكَة ُ بَعْدَ ذالِكَ ظَهِيرٌ ( التحريم 4 ) كما جاء الصديق والخليط وعلى هذا التفسير يكون المراد بالكافر الجنس وأن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور ( دين ) الله تعالى قال تعالى وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِى الْغَى ِّ ( الأعراف 202 ) وثالثها قال أبو مسلم الأصفهاني الظهير من قولهم ظهر فلان بحاجتي إذا نبذها وراء ظهره وهو من قوله تعالى وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً ( هود 92 ) ويقال فيمن يستهين بالشيء نبذه وراء ظهره وقياس العربية أن يقال مظهور أي مستخف به متروك وراء الظهر فقيل فيه ظهير في معنى مظهور ومعناه هين على الله أن يكفر الكافر وهو تعالى مستهين بكفره
أما قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا فتعلق ذلك بما تقدم هو أن الكفار يطلبون العون على الله تعالى وعلى رسوله والله تعالى بعث رسوله لنفعهم لأنه بعثه ليبشرهم على الطاعة وينذرهم على المعصية فيستحقوا الثواب ويحترزوا عن العقاب فلا جهل أعظم من جهل من استفرغ جهده في إيذاء شخص استفرغ جهده في إصلاح مهماته ديناً ودنيا ولا يسألهم على ذلك ألبتة أجراً
أما قوله إِلاَّ مَن شَاء فذكروا فيه وجوهاً متقاربة أحدها لا يسألهم على الأداء والدعاء أجراً إلا أن يشاءوا أن يتقربوا بالإنفاق في الجهاد وغيره فيتخذوا به سبيلاً إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه وثانيها قال القاضي معناه لا أسألكم عليه أجراً لنفسي وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) مثال قوله إِلاَّ مَن شَاء والمراد إلا فعل من شاء واستثناؤه عن الأجر قول ذي شفقة عليك قد سعى لك في تحصيل مال ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه فليس حفظك المال لنفسك من جنس الثواب ولكن صوره هو بصورة الثواب وسماه باسمه فأفاد فائدتين إحداهما قلع شبهة الطمع في الثواب من أصله كأنه يقول لك إن كان حفظك لمالك ثواباً فإني أطلب الثواب والثانية إظهار الشفقة البالغة وأن حفظك لمالك يجري مجرى الثواب العظيم الذي توصله إلي ومعنى اتخاذهم إلى الله سبيلاً تقربهم إليه وطلبهم عنده الزلفى بالإيمان والطاعة وقيل المراد التقرب بالصدقة والنفقة في سبيل الله
أما قوله وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ فالمعنى أنه سبحانه لما بين أن الكفار متظاهرون على إيذائه فأمره بأن لا يطلب منهم أجراً ألبتة أمره بأن يتوكل عليه في دفع جميع المضار وفي جلب جميع المنافع وإنما قال عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ لأن من توكل على الحي الذي يموت فإذا مات المتوكل عليه صار المتوكل ضائعاً أما هو سبحانه وتعالى فإنه حي لا يموت فلا يضيع المتوكل عليه ألبتة
أما قوله وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ فمنهم من حمله على نفس التسبيح بالقول ومنهم من حمله على الصلاة ومنهم من حمله على التنزيه لله تعالى عما لا يليق به في توحيده وعدله وهذا هو الظاهر ثم قال وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً
وهذه كلمة يراد بها المبالغة يقال كفى بالعلم جمالاً وكفى بالأدب مالاً وهو بمعنى حسبك أي لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم وذلك وعيد شديد كأنه قال إن أقدمتم على مخالفة أمره كفاكم علمه في مجازاتكم بما تستحقون من العقوبة
الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّة ِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً
اعلم أنه سبحانه لما أمر الرسول بأن يتوكل عليه وصف نفسه بأمور أولها بأنه حي لا يموت وهو قوله وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ ( الفرقان 58 ) وثانيها أنه عالم بجميع المعلومات وهو قوله وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ( الفرقان 58 ) وثالثها أنه قادر على كل الممكنات وهو المراد من قوله الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ فقوله الَّذِى خَلَقَ متصل بقوله الْحَى ّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ لأنه سبحانه لما كان هو الخالق للسموات والأرضين ولكل ما بينهما ثبت أنه هو القادر على جميع وجوه المنافع ودفع المضار وأن النعم كلها من جهته فحينئذ لا يجوز التوكل إلا عليه وفي الآية سؤالات
السؤال الأول الأيام عبارة عن حركات الشمس في السموات فقبل السموات لا أيام فكيف قال الله خلقها في ستة أيام الجواب يعني في مدة مقدارها هذه المدة لا يقال الشيء الذي يتقدر بمقدار محدود ويقبل الزيادة والنقصان والتجزئة لا يكون عدماً محضاً بل لا بد وأن يكون موجوداً فيلزم من وجوده وجود مدة قبل وجود العالم وذلك يقتضي قدم الزمان لأنا نقول هذا معارض بنفس الزمان لأن المدة المتوهمة المحتملة لعشرة أيام لا تحتمل خمسة أيام والمدة المتوهمة التي تحتمل خمسة أيام لا تحتمل عشرة أيام فيلزم أن يكون للمدة مدة أخرى فلما لم يلزم هذا لم يلزم ما قلتموه وعلى هذا نقول لعل الله سبحانه خلق المدة أولاً ثم السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام ومن الناس من قال في ستة أيام من أيام الآخرة وكل يوم ألف سنة وهو بعيد لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول
السؤال الثاني لم قدر الخلق والإيجاد بهذا التقدير الجواب أما على قولنا فالمشيئة والقدرة كافية في التخصيص قالت المعتزلة بل لا بد من داعي حكمة وهو أن تخصيص خلق العالم بهذا المقدار أصلح للمكلفين وهذا بعيد لوجهين أحدهما أن حصول تلك الحكمة إما أن يكون واجباً لذاته أو جائزاً فإن كان واجباً وجب أن لا يتغير فيكون حاصلاً في كل الأزمنة فلا يصلح أن يكون سبباً لتخصيص زمان معين وإن كان جائزاً افتقر حصول تلك الحكمة في ذلك الوقت إلى مخصص آخر ويلزم التسلسل والثاني أن التفاوت بين كل واحد مما لا يصل إليه خاطر المكلف وعقله فحصول ذلك التفاوت لما لم يكن مشعوراً به كيف يقدح في حصول المصالح
واعلم أنه يجب على المكلف سواء كان على قولنا أو على قول المعتزلة أن يقطع الطمع عن أمثال هذه الأسئلة فإنه بحر لا ساحل له من ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار بتسعة عشر وحملة العرش بالثمانية وشهور السنة باثني عشر والسموات السبع وكذا الأرض وكذا القول في عدد الصلوات ومقادير النصب في الزكوات وكذا مقادير الحدود والكفارات فالإقرار بأن كل ما قاله الله تعالى حق هو الدين وترك البحث عن هذه الأشياء هو الواجب وقد نص عليه تعالى في قوله وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَئِكَة ً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَة ً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ثم قال وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ ( المدثر 31 ) وهذا هو الجواب أيضاً في أنه لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك وعن سعيد بن جبير أنه إنما خلقها في ستة أيام وهو يقدر على أن يخلقها في لحظة تعليماً لخلقه الرفق والتثبت قيل تم خلقها يوم الجمعة فجعلها الله تعالى عيداً للمسلمين
السؤال الثالث ما معنى قوله ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ولا يجوز حمله على الاستيلاء والقدرة لأن الاستيلاء والقدرة في أوصاف الله لم تزل ولا يصح دخول ( ثم ) فيه والجواب الاستقرار غير جائز لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث ويقتضي التركيب والبعضية وكل ذلك على الله محال بل المراد ثم خلق العرش ورفعه وهو مستول كقوله تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ ( محمد 31 ) فإن المراد حتى يجاهد المجاهدون ونحن بهم عالمون فإن قيل فعلى هذا التفسير يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات وليس كذلك لقوله تعالى وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ( هود 7 ) قلنا كلمة ( ثم ) ما دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات
السؤال الرابع كيف إعراب قوله الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً الجواب الَّذِى خَلَقَ مبتدأ و الرَّحْمَنُ خبره أو هو صفة للحي والرحمن خبر مبتدأ محذوف ولهذا أجاز الزجاج وغيره أن يكون الوقف على قوله عَلَى الْعَرْشِ ثم يبتدىء بالرحمن أي هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له ويجوز أن يكون الرحمن مبتدأ وخبره قوله فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً
السؤال الخامس ما معنى قوله فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً الجواب ذكروا فيه وجوهاً أحدها قال الكلبي معناه فاسأل خبيراً به وقوله بِهِ يعود إلى ما ذكرنا من خلق السماء والأرض والاستواء على العرش والباء من صلة الخبير وذلك الخبير هو الله عز وجل لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق الله السموات والأرض فلا يعلمها أحد إلا الله تعالى وعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبريل عليه السلام وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم وثانيها قال الزجاج قوله بِهِ معناه عنه والمعنى فاسأل عنه خبيراً وهو قول الأخفش ونظيره قوله سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( المعارج 1 ) وقال علقمة بن عبدة فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
وثالثها قال ابن جرير الباء في قوله بِهِ صلة والمعنى فسله خبيراً وخبيراً نصب على الحال ورابعها أن قوله بِهِ يجري مجرى القسم كقوله وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ ( النساء 1 )
أما قوله وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ فهو خبر عن قوم قالوا هذا القول
ويحتمل أنهم جهلوا الله تعالى ويحتمل أنهم إن عرفوه لكنهم جحدوه ويحتمل أنهم وإن اعترفوا به لكنهم جهلوا أن هذا الاسم من أسماء الله تعالى وكثير من المفسرين على هذا القول الأخير قالوا الرحمن اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة والعرب ما عرفوه قال مقاتل إن أبا جهل قال إن الذي يقوله محمد شعر فقال عليه السلام الشعر غير هذا إن هذا إلا كلام الرحمن فقال أبو جهل بخ بخ لعمري والله إنه لكلام الرحمن الذي باليمامة هو يعلمك فقال عليه السلام ( الرحمن الذي هو إله السماء ومن عنده يأتيني الوحي ) فقال يا آل غالب من يعذرني من محمد يزعم أن الله واحد وهو يقول الله يعلمني والرحمن ألستم تعلمون أنهما إلهان ثم قال ربكم الله الذي خلق هذه الأشياء أما الرحمن فهو مسيلمة قال القاضي والأقرب أن المراد إنكارهم لله لا للاسم لأن هذه اللفظة عربية وهم كانوا يعلمون أنها تفيد المبالغة في الإنعام ثم إن قلنا بأنهم كانوا منكرين لله كان قولهم وَمَا الرَّحْمَنُ سؤال طالب عن الحقيقة وهو يجري مجرى قول فرعون وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 23 ) وإن قلنا بأنهم كانوا مقرين بالله لكنهم جهلوا كونه تعالى مسمى بهذا الاسم كان قولهم وَمَا الرَّحْمَنُ سؤالاً عن الاسم
أما قوله أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا فالمعنى للذي تأمرنا بسجوده على قوله أمرتك بالخير أو لأمرك لنا وقرىء يأمرنا بالياء كأن بعضهم قال لبعض أنسجد لما يأمرنا محمد أو يأمرنا المسمى بالرحمن ولا نعرف ما هو وزادهم أمره نفوراً ومن حقه أن يكون باعثاً على الفعل والقبول قال الضحاك فسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي عثمان بن مظعون وعمرو بن عنبسة ولما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين فهذا هو المراد من قوله تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً أي فزادهم سجودهم نفوراً
تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً
اعلم أنه سبحانه لما حكى عن الكفار مزيد النفرة عن السجود ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود والعباد للرحمن فقال تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَاء بُرُوجاً أما تبارك فقد تقدم القول فيه وأما البروج فهي منازل السيارات وهي مشهورة سميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البروج من التبرج لظهوره وفيه قول آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن البروج هي الكواكب العظام والأول أولى لقوله تعالى وَجَعَلَ فِيهَا أي في البروج فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله فِيهَا راجعاً إلى السماء دون البروج قلنا لأن البروج أقرب فعود الضمير إليها أولى والسراج الشمس لقوله تعالى وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ( نوح 16 ) وقرىء سرجاً وهي الشمس والكواكب الكبار فيها وقرأ الحسن والأعمش سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وهي جمع ليلة قمراء كأنه قيل وذا قمراً منيراً لأن الليالي تكون قمراء بالقمر فأضافه إليها ولا يبعد أن يكون القمر بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب وأما
الخلفة ففيها قولان الأول أنها عبارة عن كون الشيئين بحيث أحدهما يخلف الآخر ويأتي خلفه يقال بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيراً إلى متبرزه والمعنى جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل فيه فمن فرط في عمل في أحدهما قضاه في الآخر قال أنس بن مالك قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعمر بن الخطاب وقد فاتته قراءة القرآن بالليل ( يا ابن الخطاب لقد أنزل الله فيك آية وتلا وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَة ً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ما فاتك من النوافل بالليل فاقضه في نهارك وما فاتك من النهار فاقضه في ليلك ) القول الثاني وهو قول مجاهد وقتادة والكسائي يقال لكل شيئين اختلفا هما خلفان فقوله خِلْفَة ً أي مختلفين وهذا أسود وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير والقول الأول أقرب
أما قوله تعالى أَن يَذَّكَّرَ فقراءة العامة بالتشديد وقراءة حمزة بالتخفيف وعن أبي بن كعب ( يتذكر ) والمعنى لينظر الناظر في اختلافهما فيعلم أنه لا بد في انتقالهما من حال إلى حال ( وتغيرهما ) من ناقل ومغير وقوله أَن يَذَّكَّرَ راجع إلى كل ما تقدم من النعم بين تعالى أن الذين قالوا وما الرحمن لو تفكروا في هذه النعم وتذكروها لاستدلوا بذلك على عظيم قدرته ولشكر الشاكرين على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ( القصص 73 ) أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين من فاته في أحدهما ورد من العبادة قام به في الآخر والشكور مصدر شكر يشكر شكوراً
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً
اعلم أن قوله وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ مبتدأ خبره في آخر السورة كأنه قيل وعباد الرحمن الذين هذه صفاتهم أولئك يجزون الغرفة ويجوز أن يكون خبره الَّذِينَ يَمْشُونَ واعلم أنه سبحانه خص اسم العبودية بالمشتغلين بالعبودية فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوفات وقرىء وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ واعلم أنه سبحانه وصفهم بتسعة أنواع من الصفات
الصفة الأولى قوله الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً وهذا وصف سيرتهم بالنهار وقرىء يَمْشُونَ هَوْناً حال أو صفة للمشي بمعنى هينين أو بمعنى مشياً هيناً إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة
والهون الرفق واللين ومنه الحديث ( أحبب حبيبك هوناً ما ) وقوله ( المؤمنون هينون لينون ) والمعنى أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع ولا يضربون بأقدامهم ( ولا يخفقون بنعالهم ) أشراً وبطراً ولا يتبخترون لأجل الخيلاء كما قال وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا ( الإسراء 37 ) وعن زيد بن أسلم التمست تفسير هَوْناً فلم أجد فرأيت في النوم فقيل لي هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض وعن ابن زيد لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علواً في الأرض
الصفة الثانية قوله تعالى وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً معناه لا نجاهلكم ولا خير بيننا ولا شر أي نسلم منكم تسليماً فأقيم السلام مقام التسليم ثم يحتمل أن يكون مرادهم طلب السلامة والسكوت ويحتمل أن يكون المراد التنبيه على سوء طريقتهم لكي يمتنعوا ويحتمل أن يكون مرادهم العدول عن طريق المعاملة ويحتمل أن يكون المراد إظهار الحلم في مقابلة الجهل قال الأصم قَالُواْ سَلاَماً أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم لأبيه سَلَامٌ عَلَيْكَ ( مريم 47 ) ثم قال الكلبي وأبو العالية نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في العقل والشرع وسبب لسلامة العرض والورع
الصفة الثالثة قوله وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً واعلم أنه تعالى لما ذكر سيرتهم في النهار من وجهين أحدهما ترك الإيذاء وهو المراد من قوله يَمْشُونَ عَلَى الاْرْضِ هَوْناً والآخر تحمل التأذي وهو المراد من قوله وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً فكأنه شرح سيرتهم مع الخلق في النهار فبين في هذه الآيات سيرتهم في الليالي عند الاشتغال بخدمة الخالق وهو كقوله تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ( السجدة 16 ) ثم قال الزجاج كل من أدركه الليل قيل بات وإن لم ينم كما يقال بات فلان قلقاً ومعنى يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ أن يكونوا في لياليهم مصلين ثم اختلفوا فقال بعضهم من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجداً وقائماً وقيل ركعتين بعد المغرب وأربعاً بعد العشاء الأخيرة والأولى أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره يقال فلان يظل صائماً ويبيت قائماً قال الحسن يبيتون لله على أقدمهم ويفرشون له وجوههم تجري دموعهم على خدودهم خوفاً من ربهم
الصفة الرابعة قوله وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً قال ابن عباس رضي الله عنهما يقولون في سجودهم وقيامهم هذا القول وقال الحسن خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرقاً من عذاب جهنم وقوله غَرَاماً أي هلاكاً وخسراناً ملحاً لازماً ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه ويقال فلان مغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الغرام فقال هو الموجع وعن محمد بن كعب في غَرَاماً أنه سأل الكفار ثمن نعمه فما أدوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار واعلم أنه تعالى وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين ثم عقبه بذكر دعوتهم هذه إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون مبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم كقوله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَة ٌ ( المؤمنون 60 )
أما قوله تعالى إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً فقوله سَاءتْ في حكم بئست وفيها ضمير مبهم تفسيره ( مستقراً ) والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقراً ومقاماً هي ( وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم إن وجعلها خبراً لها ويجوز أن يكون ساءت بمعنى أحزنت وفيها ضمير اسم إن ) ومستقراً حال أو تمييز فإن قيل دلت الآية على أنهم سألوا الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم لعلتين إحداهما أن عذابها كان غراماً
وثانيهما أنها ساءت مستقراً ومقاماً فما الفرق بين الوجهين وأيضاً فما الفرق بين المستقر والمقام قلنا المتكلمون ذكروا أن عقاب الكافر يجب أن يكون مضرة خالصة عن شوائب النفع دائمة فقوله إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إشارة إلى كونه مضرة خالصة عن شوائب النفع وقوله إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً إشارة إلى كونها دائمة ولا شك في المغايرة أما الفرق بين المستقر والمقام فيحتمل أن يكون المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون في النار ولا يقيمون فيها وأم الإقامة فللكفار واعلم أن قوله إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً يمكن أن يكون من كلام الله تعالى ويمكن أن يكون حكاية لقولهم
الصفة الخامسة قوله وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً قرىء يَقْتُرُواْ بكسر التاء وضمها ويقتروا بضم الياء وتخفيف القاف وكسر التاء وأيضاً بضم الباء وفتح القاف وكسر التاء وتشديدها وكلها لغات والقتر والإقتار والتقتير التضييق الذي هو نقيض الإسراف والإسراف مجاوزة الحد في النفقة وذكر المفسرون في الإسراف والتقتير وجوهاً أحدها وهو الأقوى أنه تعالى وصفهم بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير وبمثله أمر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَة ً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء 29 ) وعن وهيب بن الورد قال لعالم ما البناء الذي لا سرف فيه قال ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر فقال له فما الطعام الذي لا سرف فيه قال ما سد الجوعة فقال له في اللباس قال ما ستر عورتك ووقاك من البرد وروي أن رجلاً صنع طعاماً في إملاك فأرسل إلى الرسول عليه السلام فقال ( حق فأجيبوا ) ثم صنع الثانية فأرسل إليه فقال ( حق فمن شاء فليجب وإلا فليقعد ) ثم صنع الثالثة فأرسل إليه فقال ( رياء ولا خير فيه ) وثانيها وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك أن الإسراف الإنفاق في معصية الله تعالى والإقتار منع حق الله تعالى قال مجاهد لو أنفق رجل مثل أبي قبيس ذهباً في طاعة الله تعالى لم يكن سرفاً ولو أنفق صاعاً في معصية الله تعالى كان سرفاً وقال الحسن لم ينفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عما ينبغي وذلك قد يكون في الإمساك عن حق الله وهو أقبح التقتير وقد يكون عما لا يجب ولكن يكون مندوباً مثل الرجل الغني الكثير المال إذا منع الفقراء من أقاربه وثالثها المراد بالسرف مجاوزة الحد في التنعم والتوسع في الدنيا وإن كان من حلال فإن ذلك مكروه لأنه يؤدي إلى الخيلاء والإقتار هو التضييق فالأكل فوق الشبع بحيث يمنع النفس عن العبادة سرف وإن أكل بقدر الحاجة فذاك إقتار وهذه الصفة صفة أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة ولكن كانوا يأكلون ما يسد جوعهم ويعينهم على عبادة ربهم ويلبسون ما يستر عوراتهم ويصونهم من الحر والبرد وههنا مسألتان
المسألة الأولى القوام قال ثعلب القوام بالفتح العدل والاستقامة وبالكسر ما يدوم عليه الأمر ويستقر قال صاحب ( الكشاف ) القوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء وقرىء قَوَاماً بالكسر وهو ما يقام به الشيء يقال أنت قوامنا يعني ما يقام به الحاجة لا يفضل عنه ولا ينقص
المسألة الثانية المنصوبان أعني بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً جائز أن يكونا خبرين معاً وأن يجعل بين ذلك لغواً وقواماً مستقراً وأن يكون الظرف خبراً وقواماً حالاً مؤكدة قال الفراء وإن شئت جعلت بَيْنَ ذالِكَ اسم
كان كما تقول كان دون هذا كافياً تريد أقل من ذلك فيكون معنى بَيْنَ ذالِكَ أي كان الوسط من ذلك قواماً أي عدلاً وهذا التأويل ضعيف لأن القوام هو الوسط فيصير التأويل وكان الوسط وسطاً وهذا لغو
الصفة السادسة
وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً
اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن من صفة عباد الرحمن الاحتراز عن الشرك والقتل الزنا ثم ذكر بعد ذلك حكم من يفعل هذه الأشياء من العقاب ثم استثنى من جملتهم التائب وههنا سؤالات
السؤال الأول أنه تعالى قبل ذكر هذه الصفة نزه عباد الرحمن عن الأمور الخفيفة فكيف يليق بعد ذلك أن يطهرهم عن الأمور العظيمة مثل الشرك والقتل والزنا أليس أنه لو كان الترتيب بالعكس منه كان أولى الجواب أن الموصوف بتلك الصفات السالفة قد يكون متمسكاً بالشرك تديناً ومقدماً على قتل الموءودة تديناً وعلى الزنا تديناً فبين تعالى أن المرء لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يضاف إلى ذلك كونه مجانباً لهذه الكبائر وأجاب الحسن رحمه الله من وجه آخر فقال المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال وعباد الرحمن هم الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر وأنت تدعون وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وأنتم تقتلون الموءودة وَلاَ يَزْنُونَ وأنتم تزنون
السؤال الثاني ما معنى قوله وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ ومعلوم أنه من يحل قتله لا يدخل في النفس المحرمة فكيف يصح هذا الاستثناء الجواب المقتضى لحرمة القتل قائم أبداً وجواز القتل إنما ثبت بالمعارض فقوله حَرَّمَ اللَّهُ إشارة إلى المقتضى وقوله إِلاَّ بِالْحَقّ إشارة إلى المعارض
السؤال الثالث بأي سبب يحل القتل الجواب بالردة وبالزنا بعد الإحصان وبالقتل قوداً على ما في الحديث وقيل وبالمحاربة وبالبينة وإن لم يكن لما شهدت به حقيقة
السؤال الرابع منهم من فسر قوله وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ بالردة فهل يصح ذلك الجواب لفظ القتل عام فيتناول الكل وعن ابن مسعود ( قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك قلت ثم أي قال أن تزني بحليلة جارك ) فأنزل الله تصديقه
السؤال الخامس ما الأثام الجواب فيه وجوه أحدها أن الأثام جزاء الإثم بوزن الوبال والنكال وثانيها وهو قول أبي مسلم أن الأثام والإثم واحد والمراد ههنا جزاء الأثام فأطلق اسم الشيء على جزائه وثالثها قال الحسن الأثام اسم من أسماء جهنم وقال مجاهد أَثَاماً واد في جهنم ( وقرأ ابن مسعود أَثَاماً أي شديداً يقال يوم ذو أثام لليوم العصيب )
أما قوله يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَة ِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ففيه مسائل
المسألة الأولى يُضَاعِفُ بدل من يَلْقَ لأنهما في معنى واحد وقرىء ( يضعف ) و ( نضعف له العذاب ) بالنون ونصب العذاب وقرىء بالرفع على الاستئناف أو على الحال وكذلك ( يخلد ) ( وقرىء ) ( ويخلد ) على البناء للمفعول مخففاً ومثقلاً من الإخلاد والتخليد وقرىء ( وتخلد ) بالتاء على الالتفات
المسألة الثانية سبب تضعيف العذاب أن المشرك إذا ارتكب المعاصي مع الشرك عذب على الشرك وعلى المعاصي جميعاً فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع
المسألة الثالثة قال القاضي بين الله تعالى أن المضاعفة والزيادة يكون حالهما في الدوام كحال الأصل فقوله وَيَخْلُدْ فِيهِ أي ويخلد في ذلك التضعيف ثم إن ذلك التضعيف إنما حصل بسبب العقاب على المعاصي فوجب أن يكون عقاب هذه المعاصي في حق الكافر دائماً وإذا كان كذلك وجب أن يكون في حق المؤمن كذلك لأن حاله فيما يستحق به لا يتغير سواء فعل مع غيره أو منفرداً والجواب لم لا يجوز أن يكون للإتيان بالشيء مع غيره أثر في مزيد القبح ألا ترى أن الشيئين قد يكون كل واحد منهما في نفسه حسناً وإن كان الجمع بينهما قبيحاً وقد يكون كل واحد منهما قبيحاً ويكون الجمع بينهما أقبح فكذا ههنا
المسألة الرابعة قوله وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إشارة إلى ما ثبت أن العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإذلال والإهانة كما أن الثواب هو المنفعة الخالصة المقرونة بالتعظيم
أما قوله تعالى إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ففيه مسائل
المسألة الأولى دلت الآية على أن التوبة مقبولة والاستثناء لا يدل على ذلك لأنه أثبت أنه يضاعف له العذاب ضعفين فيكفي لصحة هذا الاستثناء أن لا يضاعف للتائب العذاب ضعفين وإنما الدال عليه قوله فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ
المسألة الثانية نقل عن ابن عباس أنه قال توبة القاتل غير مقبولة وزعم أن هذه الآية منسوخة بقوله
تعالى وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً ( النساء 93 ) وقالوا نزلت الغليظة بعد اللينة بمدة يسيرة وعن الضحاك ومقاتل بثمان سنين وقد تقدم الكلام في ذلك في سورة النساء
المسألة الثالثة فإن قيل العمل الصالح يدخل فيه التوبة والإيمان فكان ذكرهما قبل ذكر العمل الصالح حشواً قلنا أفردهما بالذكر لعلو شأنهما ولما كان لا بد معهما من سائر الأعمال لا جرم ذكر عقيبهما العمل الصالح
المسألة الرابعة اختلفوا في المراد بقوله فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ على وجوه أحدها قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة إن التبديل إنما يكون في الدنيا فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام فيبدلهم بالشرك إيماناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين وبالزنا عفة وإحصاناً فكأنه تعالى يبشرهم بأنه يوفقهم لهذه الأعمال الصالحة فيستوجبوا بها الثواب وثانيها قال الزجاج السيئة بعينها لا تصير حسنة ولكن التأويل أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات وثالثها قال قوم إن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة بحكم هذه الآية وهذا قول سعيد بن المسيب ومكحول ويحتجون بما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال ( ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات قيل من هم يا رسول الله قال الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات ) وعلى هذا التبديل في الآخرة ورابعها قال القفال والقاضي أنه تعالى يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد ما يستحق بهما وإذا حمل على ذلك كانت الإضافة إلى الله حقيقة لأن الإثابة لا تكون إلا من الله تعالى
أما قوله تعالى وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً ففيه سؤالان
السؤال الأول ما فائدة هذا التكرير الجواب من وجهين الأول أن هذا ليس بتكرير لأن الأول لما كان في تلك الخصال بين تعالى أن جميع الذنوب بمنزلتها في صحة التوبة منها الثاني أن التوبة الأولى رجوع عن الشرك والمعاصي والتوبة الثانية رجوع إلى الله تعالى للجزاء والمكافأة كقوله تعالى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ( الرعد 30 ) أي مرجعي
السؤال الثاني هل تكون التوبة إلا إلى الله تعالى فما فائدة قوله فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً الجواب من وجوه الأول ما تقدم من أن التوبة الأولى الرجوع عن المعصية والثانية الرجوع إلى حكم الله تعالى وثوابه الثاني معناه أن من تاب إلى الله فقد أتى بتوبة مرضية لله مكفرة للذنوب محصلة للثواب العظيم الثالث قوله وَمَن تَابَ يرجع إلى الماضي فإنه سبحانه ذكر أن من أتى بهذه التوبة في الماضي على سبيل الإخلاص فقد وعده بأنه سيوفقه للتوبة في المستقبل وهذا من أعظم البشارات
الصفة السابعة
وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً
فيه مسائل
المسألة الأولى الزور يحتمل إقامة الشهادة الباطلة ويكون المعنى أنهم لا يشهدون شهادة الزور
فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ويحتمل حضور مواضع الكذب كقوله تعالى فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ ( الأنعام 68 ) ويحتمل حضور كل موضع يجري فيه ما لا ينبغي ويدخل فيه أعياد المشركين ومجامع الفساق لأن من خالط أهل الشر ونظر إلى أفعالهم وحضر مجامعهم فقد شاركهم في تلك المعصية لأن الحضور والنظر دليل الرضا به بل هو سبب لوجوده والزيادة فيه لأن الذي حملهم على فعله استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه وقال ابن عباس رضي الله عنهما المراد مجالس الزور التي يقولون فيها الزور على الله تعالى وعلى رسوله وقال محمد بن الحنفية الزور الغناء واعلم أن كل هذه الوجوه محتملة ولكن استعماله في الكذب أكثر
المسألة الثانية الأصح أن اللغو كل ما يجب أن يلغى ويترك ومنهم من فسر اللغو بكل ما ليس بطاعة وهو ضعيف لأن المباحات لا تعد لغواً فقوله وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ أي بأهل اللغو
المسألة الثالثة لا شبهة فى أن قوله مَرُّواْ كِراماً معناه أنهم يكرمون أنفسهم عن مثل حال اللغو وإكرامهم لها لا يكون إلا بالإعراض وبالإنكار وبترك المعاونة والمساعدة ويدخل فيه الشرك واللغو في القرآن وشتم الرسول والخوض فيما لا ينبغي وأصل الكلمة من قولهم ناقة كريمة إذا كانت تعرض عند الحلب تكرماً كأنها لا تبالي بما يحلب منها للغزارة فاستعير ذلك للصفح عن الذنب وقال الليث يقال تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عنه ونظير هذه الآية قوله وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ( القصص 55 ) وعن الحسن لم تسفههم المعاصي وقيل إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا وقيل إذا ذكر النكاح كنوا عنه
الصفة الثامنة
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِأايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً
قال صاحب ( الكشاف ) قوله لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ليس بنفي للخرور وإنما هو إثبات له ونفي للصمم والعمى كما يقال لا يلقاني زيد مسلماً هو نفي للسلام لا للقاء والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصاً على استماعها وأقبلوا على المذكر بها وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية مبصرون بعيون راعية لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها مظهرين الحرص الشديد على استماعها وهم كالصم والعميان حيث لا ( يفهمونها ولا يبصرون ) ما فيها كالمنافقين
الصفة التاسعة
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّة َ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم ذرياتنا بألف الجمع وحذفها الباقون على التوحيد والذرية تكون واحداً وجمعاً
المسألة الثانية أنه لا شبهة أن المراد أن يكون قرة أعين لهم في الدين لا في الأمور الدنيوية من المال والجمال ثم ذكروا فيه وجهان أحدهما أنهم سألوا أزواجاً وذرية في الدنيا يشاركونهم فأحبوا أن يكونوا معهم في التمسك بطاعة الله فيقوى طمعهم في أن يحصلوا معهم في الجنة فيتكامل سرورهم في الدنيا بهذا الطمع وفي الآخرة عند حصول الثواب والثاني أنهم سألوا أن يلحق الله أزواجهم وذريتهم بهم في الجنة ليتم سرورهم بهم
المسألة الثالثة فإن قيل ( من ) في قوله لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا ما هي قلنا يحتمل أن تكون بيانية كأنه قيل هب لنا قرة أعين ثم بينت القرة وفسرت بقوله مِنْ أَزْواجِنَا وهو من قولهم رأيت منك أسداً أي أنت أسد وأن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا من طاعة وصلاح فإن قيل لم قال قُرَّة ِ أَعْيُنٍ فنكر وقلل قلنا أما التنكير فلأجل تنكير القرة لأن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه كأنه قال هب لنا منهم سروراً وفرحاً وإنما قال ( أعين ) دون عيون لأنه أراد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قال تعالى وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِى َ الشَّكُورُ ( سبأ 13 )
المسألة الرابعة قال الزجاج أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يحبه وقال المفضل في قرة العين ثلاثة أقوال أحدها يرد دمعتها وهي التي تكون مع الضحك والسرور ودمعة الحزن حارة والثاني نومها لأنه يكون مع ذهاب الحزن والوجع والثالث حضور الرضا
المسألة الخامسة قوله وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً الأقرب أنهم سألوا الله تعالى أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم قال بعضهم في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يجب أن تطلب ويرغب فيها قال الخليل عليه الصلاة والسلام وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ ( الشعراء 84 ) وقيل نزلت هذه الآيات في العشرة المبشرين بالجنة
المسألة السادسة احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى قالوا لأن الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل فدل على أن العلم والعمل إنما يكون بجعل الله تعالى وخلقه وقال القاضي المراد من السؤال الألطاف التي إذا كثرت صاروا مختارين لهذه الأشياء فيصيرون أئمة والجواب أن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثاً
المسألة السابعة قال الفراء قال ( إماماً ) ولم يقل أئمة كما قال للاثنين إِنّى رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الزخرف 46 ) ويجوز أن يكون المعنى اجعل كل واحد منا إماماً كما قال يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ( غافر 67 ) وقال الأخفش الإمام جمع واحده آم كصائم وصيام وقال القفال وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل اجعلنا حجة للمتقين ومثله البينة يقال هؤلاء بينة فلان واعلم أنه سبحانه وتعالى لما عدد صفات
المتقين المخلصين بين بعد ذلك أنواع إحسانه إليهم وهي مجموعة في أمرين المنافع والتعظيم
أُوْلَائِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَة َ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّة ً وَسَلَاماً
أما المنافع فهي قوله
والمراد أولئك يجزون الغرفات والدليل عليه قوله وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءامِنُونَ ( سبأ 37 ) وقال لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ ( الزمر 20 ) والغرفة في اللغة العلية وكل بناء عال فهو غرفة والمراد به الدرجات العالية وقال المفسرون الغرفة اسم الجنة فالمعنى يجزون الجنة وهي جنات كثيرة وقرأ بعضهم ( أولئك يجزون في الغرفة ) وقوله بِمَا صَبَرُواْ فيه بحثان
البحث الأول احتج بالآية من ذهب إلى أن الجنة بالاستحقاق فقال الباء في قوله بِمَا صَبَرُواْ تدل على ذلك ولو كان حصولها بالوعد لما صدق ذلك
البحث الثاني ذكر الصبر ولم يذكر المصبور عنه ليعم كل نوع فيدخل فيه صبرهم على مشاق التفكر والاستدلال في معرفة الله تعالى وعلى مشاق الطاعات وعلى مشاق ترك الشهوات وعلى مشاق أذى المشركين وعلى مشاق الجهاد والفقر ورياضة النفس فلا وجه لقول من يقول المراد الصبر على الفقر خاصة لأن هذه الصفات إذا حصلت مع الغنى استحق من يختص بها الجنة كما يستحقه بالفقر
وثانيهما التعظيم وهو قوله تعالى
( ويلقون فيها تحية وسلاماً )
قرىء يُلْقُون كقوله وَلَقَّاهُمْ نَضْرَة ً وَسُرُوراً ( الأنسان 11 ) و يُلْقُون كقوله يَلْقَ أَثَاماً ( الفرقان 68 ) والتحية الدعاء بالتعمير والسلام الدعاء بالسلامة فيرجع حاصل التحية إلى كون نعيم الجنة باقياً غير منقطع ويرجع السلام إلى كون ذلك النعيم خالصاً عن شوائب الضرر ثم هذه التحية والسلام يمكن أن يكون من الله تعالى لقوله سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ ( يس 58 ) ويمكن أن يكون من الملائكة لقوله وَالمَلَائِكَة ُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ( الرعد 23 24 ) ويمكن أن يكون من بعضهم على بعض أماقوله
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً
فالمراد أنه سبحانه لما وعد بالمنافع أولاً وبالتعظيم ثانياً بين أن من صفتهما الدوام وهو المراد من قوله خَالِدِينَ فِيهَا ومن صفتهما الخلوص أيضاً وهو المراد من قوله حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وهذا في مقابلة قوله سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً أي ما أسوأ ذلك وما أحسن هذا أما قوله
قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً
فاعلم أنه سبحانه لما شرح صفات المتقين وشرح حال ثوابهم أمر رسوله أن يقول قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فدل بذلك على أنه تعالى غني عن عبادتهم وأنه تعالى إنما كلفهم لينتفعوا بطاعتهم وفيه مسائل
المسألة الأولى قال الخليل ما أعبأ بفلان أي ما أصنع به كأنه ( يستقله ) ويستحقره وقال أبو عبيدة ما
أعبأ به أي وجوده وعدمه عندي سواء وقال الزجاج معناه أي لا وزن لكم عند ربكم والعبء في اللغة الثقل وقال أبو عمرو بن العلاء ما يبالي بكم ربي
المسألة الثانية في مَا قولان أحدهما أنها متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر كأنه قيل وأي عبء يعبأ بكم لولا دعاؤكم والثاني أن تكون ما نافية
المسألة الثالثة ذكروا في قوله لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ وجهين أحدهما لولا دعاؤه إياكم إلى الدين والطاعة والدعاء على هذا مصدر مضاف إلى المفعول وثانيهما أن الدعاء مضاف إلى الفاعل وعلى هذا التقدير ذكروا فيه وجوهاً أحدها لولا دعاؤكم لولا إيمانكم وثانيها لولا عبادتكم وثالثها لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كقوله فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ ( العنكبوت 65 ) ورابعها دعاؤكم يعني لولا شكركم له على إحسانه لقوله مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ ( النساء 147 ) وخامسها ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم وتستغفروني فأغفر لكم
أما قوله فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فالمعنى أني إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم وهو عقاب الآخرة ونظيره أن يقول الملك لمن استعصى عليه إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني وقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك فإن قيل إلى من يتوجه هذا الخطاب قلنا إلى الناس على الإطلاق ومنهم ( مؤمنون ) عابدون ومكذبون عاصون فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب وقرىء ( فقد كذب الكافرون ) ( فسوف ) يكون العذاب لزاماً وقرىء لِزَاماً بالفتح بمعنى اللزوم كالثبات والثبوت والوجه أن ترك اسم كان غير منطوق به بعد ما علم أنه مما توعد به لأجل الإبهام ويتناول ما لا يحيط به الوصف ثم قيل هذا العذاب في الآخرة وقيل كان يوم بدر وهو قول مجاهد رحمه الله والله أعلم
تم تفسير هذه السورة والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام
على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين
سورة الشعراء
مكية إلا أربع آيات فإنها مدنية وهي وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ إلى آخرهاوهي مايتان أو ست أو سبع وعشرون آية
طس م تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَة ً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
الطاء إشارة إلى طرب قلوب العارفين والسين سرور المحبين والميم مناجاة المريدين وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ قتادة بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على الإضافة وقرىء فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا
المسألة الثانية البخع أن يبلغ بالذبح البخاع وهو الخرم النافذ في ثقب الفقرات وذلك أقصى حد الذابح ولعل للإشفاق
المسألة الثالثة قوله طسم تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ معناه آيات هذه السورة تلك آيات الكتاب المبين وتمام تقريره ما مر في قوله تعالى ذالِكَ الْكِتَابُ ( البقرة 2 ) ولا شبهة في أن المراد بالكتاب هو القرآن والمبين وإن كان في الحقيقة هو المتكلم فقد يضاف إلى الكلام من حيث يتبين به عند النظر فيه فإن قيل القوم لما كانوا كفاراً فكيف تكون آيات القرآن مبينة لهم ما يلزمهم وإنما يتبين بذلك الأحكام قلنا ألفاظ القرآن من حيث تعذر عليهم أن يأتوا بمثله يمكن أن يستدل به على فاعل مخالف لهم كما يستدل بسائر ما لا يقدر العباد على مثله فهو دليل التوحيد من هذا الوجه ودليل النبوة من حيث الإعجاز ويعلم به بعد ذلك أنه إذا كان من عند الله تعالى فهو دلالة الأحكام أجمع وإذا ثبت هذا صارت آيات القرآن كافية في كل الأصول والفروع أجمع ولما ذكر الله تعالى أنه بين الأمور قل بعده لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ منبهاً بذلك على أن الكتاب وإن بلغ في البيان كل غاية فغير مدخل لهم في الإيمان لما أنه سبق حكم الله
بخلافه فلا تبالغ في الحزن والأسف على ذلك لأنك إن بالغت فيه كنت بمنزلة من يقتل نفسه ثم لا ينتفع بذلك أصلاً فصبره وعزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا نفع فيه كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه لا نفع لهم فيه ثم بين تعالى أنه قادر على أن ينزل آية يذلون عندها ويخضعون فإن قيل كيف صح مجيء خَاضِعِينَ خبراً عن الأعناق قلنا أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فذكرت الأعناق لبيان موضع الخضوع ثم ترك الكلام على أصله ولما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خَاضِعِينَ كقوله لِى سَاجِدِينَ ( يوسف 4 ) وقيل أعناق الناس رؤساؤهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما يقال هم الرؤوس والصدور وقيل هم جماعات الناس يقال جاءنا عنق من الناس لفوج منهم
المسألة الرابعة نظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الكهف فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ وقوله فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ( فاطر 8 )
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأرض كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
المسألة الأولى قوله وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ من تمام قوله إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ ( الشعراء 4 ) فنبه تعالى على أنه مع قدرته على أن يجعلهم مؤمنين بالإلجاء رحيم بهم من حيث يأتيهم حالاً بعد حال بالقرآن وهو الذكر ويكرره عليهم وهم مع ذلك على حد واحد في الإعراض والتكذيب والاستهزاء ثم عند ذلك زجر وتوعد لأن المرء إذا استمر على كفره فليس ينفع فيه إلا الزجر الشديد فلذلك قال فَقَدْ كَذَّبُواْ أي بلغوا النهاية في رد آيات الله تعالى فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ وذلك إما عند نزول العذاب عليهم في الدنيا أو عند المعاينة أو في الآخرة فهو كقوله تعالى وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ وقد جرت العادة فيمن يسيء أن يقال له سترى حالك من بعد على وجه الوعيد ثم إنه تعالى بين أنه مع إنزاله القرآن حالاً بعد حال قد أظهر أدلة تحدث حالاً بعد حال فقال أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ والزوج هو الصنف ( من النبات ) والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه يقال وجه كريم إذا كان مرضياً في حسنه وجماله وكتاب كريم إذا كان مرضياً في فوائده ومعانيه والنبات الكريم هو المرضي فيما يتعلق به من المنافع وفي وصف الزوج بالكريم وجهان أحدهما أن النبات على نوعين نافع وضار فذكر سبحانه كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع وترك ذكر الضار والثاني أنه عم جميع النبات نافعه وضاره ووصفهما جميعاً بالكرم ونبه على أنه ما أنبت شيئاً إلا وفيه فائدة وإن غفل عنها الغافلون
أما قوله إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ فهو كقوله هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ( البقرة 2 ) والمعنى أن في ذلك دلالة لمن يتفكر ويتدبر وما كان أكثرهم مؤمنين أي مع كل ذلك يستمر أكثرهم على كفرهم فأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فإنما قدم ذكر العزيز على ذكر الرحيم لأنه لو لم يقدمه لكان ربما قيل إنه رحمهم لعجزه عن عقوبتهم فأزال هذا الوهم بذكر العزيز وهو الغالب القاهر ومع ذلك فإنه رحيم بعباده فإن الرحمة إذا كانت عن القدرة الكاملة كانت أعظم وقعاً والمراد أنهم مع كفرهم وقدرة الله على أن يعجل عقابهم لا يترك رحمتهم بما تقدم ذكره من خلق كل زوج كريم من النبات ثم من إعطاء الصحة والعقل والهداية
المسألة الثانية أنه تعالى وصف الكفار بالإعراض أولاً وبالتكذيب ثانياً وبالاستهزاء ثالثاً وهذه درجات من أخذ يترقى في الشقاوة فإنه يعرض أولاً ثم يصرح بالتكذيب والإنكار إلى حيث يستهزىء به ثالثاً
المسألة الثالثة فإن قلت ما معنى الجمع بين كم وكل ولم لم يقل كم أنبتنا فيها من زوج كريم قلت قد دل كل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل وكم على أن هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة فهذا معنى الجمع ( رتبه ) على كمال قدرته فإن قلت فحين ذكر الأزواج ودل عليها بكلمتي الكثرة والإحاطة وكانت بحيث لا يحصيها إلا عالم الغيب فكيف قال إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً وهلا قال لآيات قلت فيه وجهان أحدهما أن يكون ذلك مشاراً به إلى مصدر أنبتنا فكأنه قال إن في ذلك الإنبات لآية أي آية والثاني أن يراد أن في كل واحد من تلك الأزواج لآية
المسألة الرابعة احتجت المعتزلة على خلق القرآن بقوله تعالى وَمَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ فقالوا الذكر هو القرآن لقوله تعالى وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ ( الأنبياء 50 ) وبين في هذه الآية أن الذكر محدث فيلزم من هاتين الآيتين أن القرآن محدث وهذا الاستدلال بقوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً ( الزمر 23 ) وبقوله فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( المرسلات 50 ) وإذا ثبت أنه محدث فله خالق فيكون مخلوقاً لا محالة والجواب أن كل ذلك يرجع إلى هذه الألفاظ ونحن نسلم حدوثها إنما ندعي قدم أمر آخر وراء هذه الحروف وليس في الآية دلالة على ذلك
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ
اختلف أهل السنة في النداء الذي سمعه موسى عليه السلام من الله تعالى هل هو كلامه القديم أو هو ضرب من الأصوات فقال أبو الحسن الأشعري المسموع هو الكلام القديم وكما أن ذاته تعالى لا تشبه سائر الأشياء مع أن الدليل دل على أنها معلومة ومرتبة فكذا كلامه منزه عن مشابهة الحروف والأصوات مع أنه مسموع وقال أبو منصور الماتريدي الذي سمعه موسى عليه السلام كان نداء من جنس الحروف والأصوات وذلك لأن الدليل لما دل على أنا رأينا الجوهر والعرض ولا بد من علة مشتركة بينهما لصحة الرؤية ولا علة إلا الوجود حكمنا بأن كل موجود يصح أن يرى ولم يثبت عندنا أنا نسمع الأصوات والأجسام حتى يحكم بأنه لا بد من مشترك بين الجسم والصوت فلم يلزم صحة كون كل موجود مسموعاً
فظهر الفرق أما المعتزلة فقد اتفقوا على أن ذلك المسموع ما كان إلا حروفاً وأصواتاً فعند هذا قالوا إن ذلك النداء وقع على وجه علم به موسى عليه السلام أنه من قبل الله تعالى فصار معجزاً علم به أن الله مخاطب له فلم يحتج مع ذلك إلى واسطة وكفى في الوقت أن يحمله الرسالة التي هي أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لأن في بدء البعثة يجب أن يأمره بالدعاء إلى التوحيد ثم بعده يأمره بالأحكام ولا يجوز أن يأمره تعالى بذلك إلا وقد عرفه أنه ستظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك
أما قوله تعالى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فالمعنى أنه تعالى سجل عليهم بالظلم وقد استحقوا هذا الاسم من وجهين من وجه ظلمهم أنفسهم بكفرهم ومن وجه ظلمهم لبني إسرائيل
أما قوله قَوْمِ فِرْعَونَ فقد عطف ( قوم فرعون ) على ( القوم الظالمين ) عطف بيان كأن القوم الظالمين وقوم فرعون لفظان يدلان على معنى واحد
وأما قوله أَلا يَتَّقُونَ فقرىء ( ألا يتقون ) بكسر النون بمعنى ألا يتقونني فحذفت النون لاجتماع النونين والياء للاكتفاء بالكسرة وقوله أَلا يَتَّقُونَ كلام مستأنف أتبعه تعالى إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيباً لموسى عليه السلام من حالهم ( التي شفت ) في الظلم والعسف ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم ( وحذرهم من أيام الله ) ( 1 ) ويحتمل أن يكون أَلا يَتَّقُونَ حالاً من الضمير في ( الظالمين ) أي يظلمون غير متقين الله وعقابه فأدخلت همزة الإنكار على الحال ووجه ثالث وهو أن يكون المعنى ألا يا ناس اتقون كقوله ( ألا يسجدوا ) وأما من قرأ ( ألا تتقون ) على الخطاب فعلى طريقة الالتفات إليهم وصرف وجوههم بالإنكار والغضب عليهم كما يرى من يشكو ممن ركب جناية والجاني حاضر فإذا اندفع في الشكاية وحمى غضبه قطع مباثة صاحبه وأقبل على الجاني يوبخه ويعنفه به ويقول له ألا تتقي الله ألا تستحي من الناس فإن قلت فما الفائدة في هذا الالتفات والخطاب مع موسى عليه السلام في وقت المناجاة والملتفت إليهم غائبون لا يشعرون قلت إجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه إلى مسامعهم لأنه ( مبلغهم ) ( 2 ) ومنهيه إليهم وله فيه لطف وحث على زيادة التقوى وكم من آية نزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبراً لها واعتباراً بمواردها
قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَى َّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
وفي الآية مسائل
المسألة الأولى اعلم أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى قوم فرعون طلب موسى عليه السلام أن يبعث معه هرون إليهم ثم ذكر الأمور الداعلية له إلى ذلك السؤال وحاصلها أنه لو لم يكن هرون لاختلت المصلحة المطلوبة من بعثة موسى عليه السلام وذلك من وجهين الأول أن فرعون ربما كذبه والتكذيب سبب لضيق القلب وضيق القلب سبب لتعسر الكلام على من يكون في لسانه حبسة لأن
عند ضيق القلب تنقبض الروح والحرارة الغريزية إلى باطن القلب وإذا انقبضا إلى الداخل وخلا منهما الخارج ازدادت الحبسة في اللسان فالتأذي من التكذيب سبب لضيق القلب وضيق القلب سبب للحبسة فلهذا السبب بدأ بخوف التكذيب ثم ثنى بضيق الصدر ثم ثلث بعدم انطلاق اللسان وأما هرون فهو أفصح لساناً مني وليس في حقه هذا المعنى فكان إرساله لائقاً الثاني أن لهم عندي ذنباً فأخاف أن يبادروا إلى قتلي وحينئذ لا يحصل المقصود من البعثة وأما هرون فليس كذلك فيحصل المقصود من البعثة
المسألة الثانية قرىء ( يضيق ) و ( ينطلق ) بالرفع لأنهما معطوفان على خبر ( إن ) وبالنصب لعطفهما على صلة أن والمعنى أخاف أن يكذبون وأخاف أن يضيق صدري وأخاف أن لا ينطلق لساني والفرق أن الرفع يفيد ثلاث علل في طلب إرسال هرون والنصب يفيد علة واحدة وهي الخوف من هذه الأمور الثلاثة فإن قلت الخوف غم يحصل لتوقع مكروه سيقع وعدم انطلاق اللسان كان حاصلاً فكيف جاز تعلق الخوف به قلت قد بينا أن التكذيب الذي سيقع يوجب ضيق القلب وضيق القلب يوجب زيادة الاحتباس فتلك الزيادة ما كانت حاصلة في الحال بل كانت متوقعة فجاز تعليق الخوف عليها
أما قوله تعالى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ فليس في الظاهر ذكر من الذي يرسل إليه وفي الخبر أن الله تعالى أرسل موسى عليه السلام إليه قال السدي إن موسى عليه السلام سار بأهله إلى مصر والتقى بهرون وهو لا يعرفه فقال أنا موسى فتعارفا وأمره أن ينطلق معه إلى فرعون لأداء الرسالة فصاحت أمهما لخوفهما عليهما فذهبا إليه ويحتمل أن يكون المراد أرسل إليه جبريل لأن رسول الله إلى الأنبياء جبريل عليه السلام فلما كان هو متعيناً لهذا الأمر حذف ذكره لكونه معلوماً وأيضاً ليس في الظاهر أنه يرسل لماذا لكن فحوى الكلام يدل على أنه طلبه للمعونة فيما سأل كما يقال إذا نابتك نائبة فأرسل إلى فلان أي ليعينك فيها وليس في الظاهر أنه التمس كون هرون نبياً معه لكن قوله فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ يدل عليه
أما قوله وَلَهُمْ عَلَى َّ ذَنبٌ فأراد بالذنب قتله القبطي وقد ذكر الله تعالى هذه القصة مشروحة في سورة القصص
واعلم أنه ليس في التماس موسى عليه السلام أن يضم إليه هرون ما يدل على أنه استعفى من الذهاب إلى فرعون بل مقصوده فيما سأل أن يقع ذلك الذهاب على أقوى الوجوه في الوصول إلى المراد واختلفوا فقال بعضهم إنه وإن كان نبياً فهو غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة لأنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين وهذا قول الكعبي وغيره من البغداديين لأنهم يجوزون دخول الشرط في تكليف الله تعالى العبد والذي ذهب إليه الأكثرون أن ذلك لا يجوز لأنه تعالى إذا أمر فهو عالم بما يتمكن منه المأمور وبأوقات تمكنه فإذا علم أنه غير متمكن منه فإنه لا يأمره به وإذا صح ذلك فالأقرب في الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أنه تعالى يمكنهم من أدائها وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت ومثل ذلك لا يكون إغراء في الأنبياء وإن جاز أن يكون إغراء في غيرهم
المسألة الثالثة لقائل أن يقول قول موسى عليه السلام وَلَهُمْ عَلَى َّ ذَنبٌ هل يدل على صدور الذنب منه جوابه لا والمراد لهم عليَّ ذنب في زعمهم
قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِأايَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ
اعلم أن موسى عليه السلام طلب أمرين الأول أن يدفع عنه شرهم والثاني أن يرسل معه هرون فأجابه الله تعالى إلى الأول بقوله كَلاَّ ومعناه ارتدع يا موسى عما تظن وأجابه إلى الثاني بقوله فَاذْهَبَا أي اذهب أنت والذي طلبته وهو هرون فإن قيل علام عطف قوله فَاذْهَبَا قلنا على الفعل الذي يدل عليه ( كلا ) كأنه قال ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهرون
وأما قوله إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فمن مجاز الكلام يريد أنا لكما ولعدوكما كالناصر الظهير لكما عليه إذاً أحضر وأستمع ما يجري بينكما فأظهركما عليه وأعليكما وأكسر شوكته عنكما وإنما جعلنا الاستماع مجازاً لأن الاستماع عبارة عن الإصغاء وذلك على الله تعالى محال
وأما قوله إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ففيه سؤال وهو أنه هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ جوابه من وجوه أحدها أن الرسول اسم للماهية من غير بيان أن تلك الماهية واحدة أو كثيرة والألف واللام لا يفيدان إلا الوحدة لا الاستغراق بدليل أنك تقول الإنسان هو الضحاك ولا تقول كل إنسان هو الضحاك ولا أيضاً هذا الإنسان هو الضحاك وإذا ثبت أن لفظ الرسول لا يفيد إلا الماهية وثبت أن الماهية محمولة على الواحد وعلى الاثنين ثبت صحة قوله إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ وثانيها أن الرسول قد يكون بمعنى الرسالة قال الشاعر لقد كذب الواشون ما فهت عندهم
بسر ولا أرسلتهم برسول
فيكون المعنى إنا ذو رسالة رب العالمين وثالثها أنهما لاتفاقهما على شريعة واحدة واتحادهما بسبب الأخوة كأنهما رسول واحد ورابعها المراد كل واحد منا رسول وخامسها ما قاله بعضهم أنه إنما قال ذلك لا بلفظ التثنية لكونه هو الرسول خاصة وقوله أَنَاْ فكما في قوله تعالى إِنَّا أَنزَلْنَاهُ ( يوسف 2 ) وهو ضعيف
وأما قوله أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْراءيلَ فالمراد من هذا الإرسال التخلية والإطلاق كقولك أرسل البازي يريد خلهم يذهبوا معنا
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
اعمل أن في الكلام حذفاً وهو أنهما أتياه وقالا ما أمر الله به فعند ذلك قال فرعون ما قال يروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب إن ههنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين
فقال ائذن له لعلنا نضحك منه فأديا إليه الرسالة فعرف موسى عليه السلام فعدد عليه نعمه أولاً ثم إساءة موسى إليه ثانياً أما النعم فهي قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً والوليد الصبي لقرب عهده من الولادة وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ وعن أبي عمرو بسكون الميم سِنِينَ قيل لبث عندهم ثلاثين سنة وقيل وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة وفر منهم ( على أثرها ) والله أعلم بصحيح ذلك وعن الشعبي فَعْلَتَكَ بالكسر وهي قتله القبطي لأنه قتله بالوكز وهو ضرب من القتل وأما الفعلة فلأنها ( كانت ) ( 1 ) وكزة واحدة عدد عليه نعمه من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال ووبخه بما جرى على يده من قتل خبازه وعظم ذلك ( وفظعه ) ( 1 ) بقوله وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ
وأما قوله وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ففيه وجوه أحدها يجوز أن يكون حالاً أي قتلته وأنت بذاك من الكافرين بنعمتي وثانيها وأنت إذ ذاك ممن تكفرهم الساعة وقد افترى عليه أو جهل أمره لأنه كان ( يعاشرهم ) بالتقية فإن الكفر غير جائز على الأنبياء قبل النبوة وثالثها وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ معناه وأنت ممن عادته كفران النعم ومن كان هذا حاله لم يستبعد منه قتل خواص ولي نعمته ورابعها وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ بفرعون وإلهيته أو من الذين ( كانوا ) يكفرون في دينهم فقد كانت لهم آلهة يعبدونها يشهد بذلك قوله تعالى وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ ( الأعراف 127 )
قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَة ٌ تَمُنُّهَا عَلَى َّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرَاءِيلَ
اعلم أن فرعون لما دكر التربية وذكر القتل وقد كانت تربيته له معلومة ظاهرة لا جرم أن موسى عليه السلام ما أنكرها ولم يشتغل بالجواب عنها لأنه تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجز وحجة لم يتغير حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم يفعل ذلك فصار قول فرعون لما قاله غير مؤثر ألبتة ومثل هذا الكلام الإعراض عنه أولى ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب وهو قوله فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالّينَ والمراد بذلك الذاهلين عن معرفة ما يؤول إليه من القتل لأنه فعل الوكزة على وجه التأديب ومثل ذلك ربما حسن وإن أدى إلى القتل فبين له أنه فعله على وجه لا يجوز معه أن يؤاخذ به أو يعد منه كافراً أو كافراً لنعمه فأما قوله فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فالمراد أني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً وكان مني في حكم السهو فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار ومع ذلك فررت منكم عند قولكم إِنَّ الْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ( القصص 20 ) فبين بذلك أنه لا نعمة له عليه في باب تلك الفعلة بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب من حيث خوف تخويفاً أوجب الفرار ثم بين نعمة الله تعالى عليه بعد الفرار فكأنه قال أسأتم وأحسن الله إلي بأن وهب لي حكماً وجعلني من المرسلين واختلفوا في الحكم والأقرب أنه غير النبوة لأن المعطوف غير المعطوف عليه والنبوة مفهومة من قوله وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ فالمراد بالحكم العلم ويدخل في العلم العقل والرأي والعلم بالدين الذي هو التوحيد وهذا أقرب لأنه لا يجوز أن يبعثه تعالى إلا مع كماله في العقل والرأي والعلم بالتوحيد وقوله فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً
كالتنصيص على أن ذلك الحكم من خلق الله تعالى وقالت المعتزلة المراد منه الألطاف وهو ضعيف جداً لأن الألطاف مفعولة في حق الكل من غير بخس ولا تقصير فالتخصيص لا بد فيه من فائدة فأما قوله وَتِلْكَ نِعْمَة ٌ تَمُنُّهَا عَلَى َّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْراءيلَ فهو جواب قوله أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً يقال عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبداً فإن قيل كيف يكون ذلك جوابه ولا تعلق بين الأمرين قلنا بيان التعلق من وجوه أحدها أنه إنما وقع في يده وفي تربيته لأنه قصد تعبيد بني إسرائيل وذبح أبنائهم فكأنه عليه السلام قال له كنت مستغنياً عن تربيتك لو لم يكن منك ذلك الظلم المتقدم علينا وعلى أسلافنا وثانيها أن هذا الإنعام المتأخر صار معاضاً بذلك الظلم العظيم على أسلافنا وإذا تعارضا تساقطا وثالثها ما قاله الحسن إنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت علي فلا نعمة لك بالتربية ورابعها المراد أن الذي تولى تربيتي هم الذين قد استعبدتهم فلا نعمة لك علي لأن التربية كانت من قبل أمي وسائر من هو من قومي ليس لك إلا أنك ما قتلتني ومثل هذا لا يعد إنعاماً وخامسها أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في أن يطعمه ويعطيه ما يحتاج إليه
واعلم أن في الآية دلالة على أن كفر الكافر لا يبطل نعمته على من يحسن إليه ولا يبطل منته لأن موسى عليه السلام إنما أبطل ذلك بوجه آخر على ما بينا واختلف العلماء فقال بعضهم إذا كان كافراً لا يستحق الشكر على نعمه على الناس إنما يستحق الإهانة بكفره فلو استحق الشكر بإنعامه والشكر لا يوجد إلا مع التعظيم فيلزم كونه مستحقاً للإهانة وللتعظيم معاً واستحقاق الجمع بين الضدين محال وقال آخرون لا يبطل الشكر بالكفر وإنما يبطل بالكفر الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان والآية تدل على هذا القول الثاني
المسألة الثانية قال صاحب ( الكشاف ) إنما جمع الضمير في مّنكُمْ و خِفْتُكُمْ مع إفراده في ثمنها و أَنْ عَبَّدتَّ لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملائه المؤتمرين بقتله بدليل قوله إِنَّ الْمَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ( القصص 20 ) وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد فإن قلت تِلْكَ إشارة إلى ماذا و أَنْ عَبَّدتَّ ما محلها من الإعراب قلت ( تلك ) إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها وهي أَنْ عَبَّدتَّ فإن أَنْ عَبَّدتَّ عطف بيان ونظيره قوله تعالى وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ( الحجر 66 ) والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي وقال الزجاج ويحوز أن يكون ( أن ) في موضع نصب والمعنى إنما صارت نعمة علي لأن عبدت بني إسرائيل أي لو لم تفعل ذلك لكفاني أهلي
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاٌّ وَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَى ءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
اعلم أن فرعون لم يقل لموسى وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين يبين ذلك ما تقدم من قوله فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 16 ) فلا بد عند دخولهما عليه أنهما قالا ذلك فعند ذلك قال فرعون وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ثم ههنا بحثان
الأول أن فرعون يحتمل أن يقال إنه كان عارفاً بالله ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة وقد ذكر الله تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله وهو قوله قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ ( الإسراء 102 ) فإذا قرىء بفتح التاء من عَلِمَتِ فالمراد أن فرعون علم ذلك وذلك يدل على أنه كان عارفاً بالله لكنه كان يستأكل قومه بما يظهره من إلهيته والقراءة الأخرى برفع التاء من عَلِمَتِ فهي تقتضي أن موسى عليه السلام هو الذي عرف ذلك وأيضاً فإن فرعون إن لم يكن عاقلاً لم يجز من الله تعالى بعثة الرسول إليه وإن كان عاقلاً فهو يعلم بالضرورة أنه ما كان موجوداً ولا حياً ولا عاقلاً ثم صار كذلك وبالضرورة يعلم أن كل ما كان كذلك فلا بد له من مؤثر فلا بد وأن يتولد له من هذين العلمين علم ثالث بافتقاره في تركيبه وفي حياته وعقله إلى مؤثر موجد ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود في ذواتها ومتحركة لذواتها وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث في هذا العالم أو يقال إنه كان من الفلاسفة القائلين بالعلة الموجبة لا بالفاعل المختار ثم اعتقد أنه بمنزلة الإله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك ذماتهم وزمام أمرهم ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الحلولية القائلين بأن ذات الإله يتدرع بجسد إنسان معين حتى يكون الإله سبحانه لذلك الجسد بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهاً
البحث الثاني وهو أنه قال لموسى عليه السلام وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ واعلم أن السؤال بما طلب لتعريف حقيقة الشيء وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة أو بشيء من أجزائها أو بأمر خارج عنها أو بما يتركب من الداخل والخارج أما تعريفها بنفسها فمحال لأن المعرف معلوم قبل المعرف فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوماً قبل أن يكون معلوماً وهو محال وأما تعريفها بالأمور الداخلة فيها فههنا في حق واجب الوجود محال لأن التعريف بالأمور الدخلة لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركباً وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركباً لأن كل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه فهو غيره فكل مركب محتاج إلى غيره وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته وكل مركب فهو ممكن فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركباً فواجب الوجود ليس بمركب وإذا لم يكن مركباً استحال تعريفه بأجزائه ولما بطل هذان القسمان ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود إلا بلوازمه وآثاره ثم إن اللوازم قد تكون خفية وقد تكون جلية ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية وأظهر آثار ذات واجب الوجود هو هذا العالم المحسوس وهو السموات
والأرض وما بينهما فقد ثبت أنه لا جواب ألبتة لقول فرعون وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ إلا ما قاله موسى عليه السلام وهو أنه رب السموات والأرض وما بينهما فأما قوله إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ فمعناه إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته ثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال إلا هذا الجواب ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق قال فرعون لمن حوله ألا تستمعون وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى يعني أنا أطلب منه الماهية وخصوصية الحقيقة وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء إنه الذي يلزمه اللازم الفلاني فهذا المذكور إما أن يكون معروفاً لمجرد كونه أمراً ما يلزمه ذلك اللازم أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزومية والأول محال لأن كونه أمراً يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفاً فلو كان المكشوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معروفاً لنفسه وهو محال والثاني محال لأن العلم بأنه أمر ما يلزمه اللازم الفلاني لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزومة لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية فثبت أن التعريف بالوصف الخارجي لا يفيد معرفة نفس الحقيقة فلم يكن كونه رباً للسموات والأرض وما بينهما جواباً عن قوله وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ فأجاب موسى عليه السلام بأن قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات والأرضين واجبة لذواتها فهي غنية عن الخالق والمؤثر ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده كونهم واجبين لذواتهم لم أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم ثم عدموا بعد الوجود وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته وما لم يكن واجباً لذاته استحال وجوده إلا لمؤثر فكان التعريف بهذا الأثر أظهر فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه فقال فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ يعني المقصود من سؤال ما طلب الماهية وخصوصية الحقيقة والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد ألبتة تلك الخصوصية فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه فقال موسى عليه السلام رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة وهو الذي ذكره موسى عليه السلام ههنا بقوله رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الاْوَّلِينَ فأجابه نمروذ بقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى ( البقرة 258 ) فقال فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ ( البقرة 258 ) وهو الذي ذكره موسى عليه السلام ههنا بقوله رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وأما قوله إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فكأنه عليه السلام قال إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت لأنك طلبت مني تعريف حقيقته
بنفس حقيقته وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته فقد ثبت أن كل من كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته
واعلم أنا قد بينا في سورة الأنعام ( 18 ) في تفسير قوله تعالى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي هي غير معقولة للبشر وإذا كان كذلك استحال من موسى عليه السلام أن يذكر ما تعرف به تلك الحقيقة إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة فكان حاصل كلام موسى عليه السلام أن ادعاء رسالة رب العالمين تتوقف صحته على إثبات أن للعالمين رباً وإلهاً ولا تتوقف على العلم بخصوصية الرب تعالى وماهيته المعينة فكأن موسى عليه السلام يقيم الدلالة على إثبات القدر المحتاج إليه في صحة دعوى الرسالة وفرعون يطالبه ببيان الماهية وموسى عليه السلام كان يعرض عن سؤاله لعلمه بأنه لا تعلق لذلك السؤال نفياً ولا إثباتاً في هذا المطلوب فهذا تمام القول في هذا البحث والله أعلم ثم إن موسى عليه السلام لما خشن في آخر الكلام بقوله إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فعند ذلك قال فرعون لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ فإنه لما عجز عن الحجاج عدل إلى التخويف فعند ذلك ذكر موسى عليه السلام كلاماً مجملاً ليعلق قلبه به فيعدل عن وعيده فقال أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ أي هل تستجيز أن تسجنني مع اقتداري على أن آتيك بأمر بين في باب الدلالة على وجود الله تعالى وعلى أني رسوله فعند ذلك قال فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وههنا فروع الفرع الأول الآية تدل على أنه تعالى ليس بجسم لأنه لو كان جسماً وله صورة لكان جواب موسى عليه السلام بذكر حقيقته ولكان كلام فرعون لازماً له لعدوله عن الجواب الحق الثاني الواجب على من يدعو غيره إلى الله تعالى أن لا يجيب عن السفاهة لأن موسى عليه السلام لما قال له فرعون إنه مجنون لم يعدل عن ذكر الدلالة وكذلك لما توعده أن يسجنه الثالث أنه يجوز للمسؤول أن يعدل في حجته من مثال إلى مثال لإيضاح الكلام ولا يدل ذلك على الانقطاع الرابع إن قيل كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول وهو قوله أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ والمعجز لا يدل على الله تعالى كدلالة سائر ما تقدم قلنا بل يدل ما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حية على الله تعالى وعلى توحيده وعلى أنه صادق في الرسالة فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم وأجمع الخامس فإن قيل كيف قال رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا على التثنية والمرجوع إليه مجموع جوابه أريد ما بين الجهتين فإن قيل ذكر السموات والأرض وما بينهما قد استوعب الخلائق كلهم فما معنى ذكرهم وذكر آبائهم بعد ذلك وذكر المشرق والمغرب جوابه قد عمم أولاً ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم لأن أقرب الأشياء من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد من انتقاله من وقت ميلاده إلى وقت وفاته من حالة إلى حالة أخرى ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها على تقدير مستقيم في فصول السنة من أظهر الدلائل السادس فإن قيل لم قال لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ولم يقل لأسجننك مع أنه أخصر جوابه لأنه لو قال لأسجننك لا يفيد إلا صيرورته مسجوناً أما قوله لاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ فمعناه أني أجعلك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني وكان من عادته أن يأخذ من يريد أن يسجنه فيطرحه في بئر عميقة فرداً لا يبصر فيها ولا يسمع فكان ذلك أشد من القتل السابع الواو في قوله أَوْ لَوْ جِئْتُكَ واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام معناه أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي جائياً بالمعجزة
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِى َ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ
وفيه مسائل
المسألة الأولى قرأ الأعمش بِكُلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
المسألة الثانية اعلم أن قوله أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ ( الشعراء 30 ) يدل على أن الله تعالى قبل أن ألقى العصا عرفه بأنه يصيرها ثعباناً ولولا ذلك لما قال ما قال فلما ألقى عصاه ظهر ما وعده الله به فصار ثعباناً مبيناً والمراد أنه تبين للناظرين أنه ثعبان بحركاته وبسائر العلامات روي أنه لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون يا موسى أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها فعادت عصا فإن قيل كيف قال ههنا ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وفي آية أخرى فَإِذَا هِى َ حَيَّة ٌ تَسْعَى ( طه 20 ) وفي آية ثالثة كَأَنَّهَا جَانٌّ ( القصص 31 ) والجان مائل إلى الصغر والثعبان مائل إلى الكبر جوابه أما الحية فهي اسم الجنس ثم إنها لكبرها صارت ثعباناً وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها فصح الكلامان ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله تعالى وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( الحجر 27 ) ويحتمل أنها كانت أولاً صغيرة كالجان ثم عظمت فصارت ثعباناً ثم إن موسى عليه السلام لما أتى بهذه الآية قال له فرعون هل غيرها قال نعم فأراه يده ثم أدخلها جيبه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء يضيء الوادي من شدة بياضها من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر فيها أموراً ثلاثة أحدها قوله إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ وذلك لأن الزمان كان زمان السحرة وكان عند كثير منهم أن الساحر قد يجوز أن ينتهي بسحره إلى هذا الحد فلهذا روج عليهم هذا القول وثانيها قوله يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ وهذا يجري مجرى التنفير عنه لئلا يقبلوا قوله والمعنى يريد أن يخرجكم من أرضكم بما يلقيه بينكم من العداوات فيفرق جمعكم ومعلوم أن مفارقة الوطن أصعب الأمور فنفرهم عنه بذلك وهذا نهاية ما يفعله المبطل في التنفير عن المحق وثالثها قوله لهم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ أي فما رأيكم فيه وما الذي أعمله يظهر من نفسه أني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم ومثل هذا الكلام يوجب جذب القلوب وانصرافها عن العدو فعند هذه الكلمات اتفقوا على جواب واحد وهو قوله أَرْجِهْ قرىء ( أرجئه ) و ( أرجه ) بالهمز والتخفيف وهما لغتان يقال أرجأته وأرجيته إذا أخرته والمعنى أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة وقيل احبسه وذلك محتمل لأنك إذا حبست الرجل عن حاجته فقد أخرته روي أن فرعون أراد قتله ولم يكن يصل إليه فقالوا له لا تفعل فإنك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهة ولكن أرجئه وأخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه فلا يثبت له عليك حجة ثم أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون
السحرة ظناً منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله وعارضوا قوله إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ بقولهم بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فجاءوا بكلمة الإحاطة وبصيغة المبالغة ليطيبوا قلبه وليسكنوا بعض قلقه قال صاحب ( الكشاف ) فإن قلت قوله تعالى قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ ما العامل في ( حوله ) قلت هو منصوب نصبين نصب في اللفظ ونصب في المحل والعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال
فَجُمِعَ السَّحَرَة ُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَة َ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَة ُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لاّجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
وفيه مسألتان
المسألة الأولى اليوم المعلوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى لأنه الوقت الذي وقته لهم موسى عليه السلام من يوم الزينة في قوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَة ِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ( طه 59 ) والميقات ما وقت به أي حدد من مكان وزمان ومنه مواقيت الإحرام
المسألة الثانية اعلم أن القوم لما أشاروا بتأخير أمره وبأن يجمع له السحرة ليظهر عند حضورهم فساد قول موسى عليه السلام رضي فرعون بما قالوه وعمي عما شاهده وحب الشيء يعمي ويصم فجمع السحرة ثم أراد أن تقع تلك المناظرة يوم عيد لهم ليكون ذلك بمحضر الخلق العظيم وكان موسى عليه السلام يطلب ذلك لتظهر حجته عليهم عند الخلق العظيم وكان هذا أيضاً من لطف الله تعالى في ظهور أمر موسى عليه السلام
أما قوله وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ فالمراد أنهم بعثوا على الحضور ليشاهدوا ما يكون من الجانبين
وأما قوله لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَة َ فالمراد إنا نرجو أن يكون الغلبة لهم فنتبعهم فلما جاء السحرة ابتدأوا بطلب الجزاء وهو إما المال وإما الجاه فبذل لهم ذلك وأكده بقوله وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ لأن نهاية مطلوبهم منه البذل ورفع المنزلة فبذل كلا الأمرين
قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّة ِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ
اعلم أنهم لما اجتمعوا كان لا بد من أن يبدأ موسى أو يبدأوا ثم إنهم تواضعوا له فقدموه على أنفسهم وقالوا إِمَّا أَن تُلْقِى َ وَإِمَّا أَن تَكُونُ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ( طه 65 ) فلما تواضعوا له تواضع هو أيضاً لهم فقدمهم على نفسه وقال أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ فإن قيل كيف جاز لموسى عليه السلام أن يأمر السحرة بإلقاء الحبال والعصي وذلك سحر وتلبيس وكفر والأمر بمثله لا يجوز الجواب لا شبهة في أن ذلك ليس بأمر لأن مراد موسى عليه السلام منهم كان أن يؤمنوا به ولا يقدموا على ما يجري مجرى المغالبة وإذا ثبت هذا وجب تأويل صيغة الأمر وفيه وجوه أحدها ذلك الأمر كان مشروطاً والتقدير ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين كما في قوله فَأْتُواْ بِسُورَة ٍ مّن مِّثْلِهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( البقرة 23 ) وثانيها لما تعين ذلك طريقاً إلى كشف الشبهة صار جائزاً وثالثها أن هذا ليس بأمر بل هو تهديد أي إن فعلتم ذلك أتينا بما تبطله كقول القائل لئن رميتني لأفعلن ولأصنعن ثم يفوق له السهم فيقول له ارم فيكون ذلك منه تهديداً ورابعها ما ذكرنا أنهم لما تواضعوا له وقدموه على أنفسهم فهو قدمهم على نفسه على رجاء أن يصير ذلك التواضع سبباً لقبول الحق ولقد حصل ببركة ذلك التواضع ذلك المطلوب وهذا تنبيه على أن اللائق بالمسلم في كل الأحوال التواضع لأن مثل موسى عليه السلام لما لم يترك التواضع مع أولئك السحرة فبأن يفعل الواحد منا أولى
أما قوله تعالى فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فروي عن ابن عباس أنهم لما ألقوا حبالهم وعصيهم وقد كانت الحبال مطلية بالزئبق والعصي مجوفة مملوءة من الزئبق فلما حميت اشتدت حركتها فصارت كأنها حيات تدب من كل جانب من الأرض فهاب موسى عليه السلام ذلك فقيل له ألق ما في يمينك فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ثم فتحت فاها فابتلعت كل ما رموه من حبالهم وعصيهم حتى أكلت الكل ثم أخد موسى عصاه فإذا هي كما كانت فلما رأت السحرة ذلك قالت لفرعون كنا نساحر الناس فإذا غلبناهم بقيت الحبال والعصي وكذلك إن غلبونا ولكن هذا حق فسجدوا وآمنوا برب العالمين
واعلم أن في الآثار اختلافاً فمنهم من كثر الحبال والعصي ومنهم من توسط والله أعلم بعدد ذلك والذي يدل القرآن عليه أنها كثيرة من حيث حشروا من كل بلد ولأن الأمر بلغ عند فرعون وقومه في العظم مبلغاً يبعد أن يدخر عنه ما يمكن من جمع السحرة
وأما قوله وَقَالُواْ بِعِزَّة ِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فالمراد أنهم أظهروا ما يجري مجرى القطع على أنهم يغلبون وكل ذلك لما ظهر كان أقوى لأمر موسى عليه السلام
أما قوله فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِى َ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فالمراد من قوله مَا يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم ( ويزورونه ) فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى ( بالتمويه على الناظرين أو إفكهم ) وسمى تلك الأشياء إفكاً مبالغة
أما قوله فَأُلْقِى َ السَّحَرَة ُ سَاجِدِينَ فالمراد خروا سجداً لأنهم كانوا في الطبقة العالية من علم السحر
فلا جرم كانوا عالمين بمنتهى السحر فلما رأوا ذلك وشاهدوه خارجاً عن حد السحر علموا أنه ليس بسحر وما كان ذلك إلا ببركة تحقيقهم في علم السحر ثم إنهم عند ذلك لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحاً فإن قيل فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به جوابه هو الله تعالى بما ( حصل في قلوبهم من الدواعي الجازمة الخالية عن المعارضات ولكن الأولى ) أن لا نقدر فاعلاً لأن ألقى بمعنى خر وسقط
أما قوله رَبّ مُوسَى وَهَارُونَ فهو عطف بيان لرب العالمين لأن فرعون كان يدعي الربوبية فأرادوا عزله ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام أنه الذي دعا موسى وهرون عليهما السلام إليه
قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ
اعلم أنهم لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول الناس إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وتظاهرهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى عليه السلام فيسلكون مثل طريقهم فلبس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى عليه السلام من وجوه أولها قوله قَالَ ءامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ وهذا فيه إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على أنكم كنتم مائلين إليه وذلك يطرق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله وثانيها قوله إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ وهذا تصريح بما رمز به أولاً وغرضه منه أنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى عليه السلام وقصروا في السحر ليظهر أمر موسى عليه السلام وإلا ففي قوة السحرة أن يفعلوا مثل ما فعل موسى عليه السلام وهذه شبهة قوية في تنفير من يقبل قوله وثالثها قوله فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وهو وعيد مطلق وتهديد شديد ورابعها قوله لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وهذا هو الوعيد المفصل وقطع اليد والرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والصلب معلوم وليس في الإهلاك أقوى من ذلك وليس في الآية أنه فعل ذلك أو لم يفعل ثم إنه أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين الأول قولهم لاَ ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ الضر والضير واحد وليس المراد أن ذلك إن وقع لم يضر وإنما عنوا بالإضافة إلى ما عرفوه من دار الجزاء
واعلم أن قولهم إِنَّا إِلَى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ فيه نكتة شريفة وهي أنهم قد بلغوا في حب الله تعالى أنهم ما أرادوا شيئاً سوى الوصول إلى حضرته وأنهم ما آمنوا رغبة في ثواب أو رهبة من عقاب وإنما مقصودهم محض الوصول إلى مرضاته والاستغراق في أنوار معرفته وهذا أعلى درجات الصديقين الجواب الثاني قولهم إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا فهو إشارة منهم إلى الكفر والسحر وغيرهما والطمع في هذا
الموضع يحتمل اليقين كقول إبراهيم وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 ) ويحتمل الظن لأن المرء لا يعلم ما سيجيء من بعد
أما قوله أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فالمراد لأن كنا أول المؤمنين من الجماعة الذين حضروا ذلك الموقف أو يكون المراد من السحرة خاصة أو من رعية فرعون أو من أهل زمانهم وقرىء ( إن كنا ) بالكسر وهو من الشرط الذي يجيء به المدل ( بأمره لصحته وهم كانوا متحققين أنهم أول المؤمنين ) ونظيره قول ( القائل ) لمن يؤخر جعله إن كنت عملت لك فوفني حقي
وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَاؤُلا ءِ لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَآءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِى َ رَبِّى سَيَهْدِينِ
قرىء أَسَرَّ بقطع الهمزة ووصلها وسر لما ظهر أمر موسى عليه السلام بما شاهدوه من الآية أمره الله تعالى بأن يخرج ببني إسرائيل لما كان في المعلوم من تدبير الله تعالى في موسى وتخليصه من القوم وتمليكه بلادهم وأموالهم ولم يأمن وقد جرت تلك الغلبة الظاهرة أن يقع من فرعون ببني إسرائيل ما يؤدي إلى الاستئصال فلذلك أمره الله تعالى أن يسري ببني إسرائيل وهم الذين آمنوا وكانوا من قوم موسى ولا شبهة أن في الكلام حذفاً وهو أنه أسرى بهم كما أمره الله تعالى ثم إن قوم موسى عليه السلام قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيداً ثم استعاروا منهم حليهم وحللهم بهذا السبب ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر فلما سمع ذلك فرعون أرسل في المدائن حاشرين ثم إنه قوى نفسه ونفس أصحابه بأن وصف قوم موسى بوصفين من أوصاف الذم ووصف قوم نفسه بصفة المدح أما وصف قوم موسى عليه السلام بالذم
فالصفة الأولى قوله إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَة ٌ قَلِيلُونَ والشرذمة الطائفة القليلة ومنه قولهم ثوب شراذم للذي بلي وتقطع قطعاً ذكرهم بالاسم الدال على القلة ثم جعلهم قليلاً بالوصف ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً واختار جمع السلامة الذي هو للقلة ( وقد يجمع القليل على أقلة وقلل ) ويجوز أن يريد بالقلة الذلة ( والقماءة ) لا قلة العدد والمعنى أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم ثم اختلف المفسرون في عدد تلك الشرذمة فقال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا ستمائة ألف مقاتل لا شاب فيهم دون عشرين سنة ولا شيخ يوفي على الستين
سوى الحشم وفرعون يقللهم لكثرة من معه وهذا الوصف قد يستعمل في الكثير عند الإضافة إلى ما هو أكثر منه فروي أن فرعون خرج على فرس أدهم حصان وفي عسكره على لون فرسه ثلثمائة ألف
الصفة الثانية قوله وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ يعني يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا واختلفوا في تلك الأفعال على وجوه أحدها ما تقدم من أمر الحلي وغيره وثانيها خروج بني إسرائيل عن عبودية فرعون واستقلالهم بأنفسهم وثالثها مخالفتهم لهم في الدين وخروجهم عليهم ورابعها ليس إلا أنهم لم يتخذوا فرعون إلهاً أما الذي وصف فرعون به قومه فهو قوله وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ وفيه ثلاث قراءات ( حذرون ) و ( حاذرون ) و ( حادرون ) بالدال غير المعجمة
واعلم أن الصفة إذا كانت جارية على الفعل وهي اسم الفاعل واسم المفعول كالضارب والمضروب أفادت الحدوث وإذا لم تكن كذلك وهي الشبهة أفادت الثبوت فمن قرأ حَاذِرُونَ ذهب إلى إنا قوم من عادتنا الحذر واستعمال الحزم ومن قرأ حَاذِرُونَ فكأنه ذهب إلى معنى إنا قوم ما عهدنا أن نحذر إلا عصرنا هذا وأما من قرأ حادرون بالدال غير المعجمة فكأنه ذهب إلى نفي الحذر أصلاً لأن الحادر هو المشمر فأراد إنا قوم أقوياء أشداء أو أراد إنا مدججون في السلاح والغرض من هذه المعاذير أن لا يتوهم أهل المدائن أنه منكسر من قوم موسى أو خائف منهم
أما قوله تعالى حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ فالمراد إنا جعلنا في قلوبهم داعية الخروج فاستوجبت الداعية الفعل فكان الفعل مضافاً إلى الله تعالى لا محالة
وأما قوله مّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ فقال مجاهد سماها كنوزاً لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى والمقام الكريم يريد المنازل الحسنة والمجالس البهية والمعنى إنا أخرجناهم من بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوز الذهب والفضة والمواضع التي كانوا يتنعمون فيها لنسلمها إلى بني إسرائيل أما قوله كذلك فيحتمل ثلاثة أوجه النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه والجر على أنه وصف لمقام كريم أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك
أما قوله فَأَتْبَعُوهُم أي فلحقوهم وقرىء ( فاتبعوهم ) مُشْرِقِينَ داخلين في وقت الشروق من أشرقت الشمس شروقاً إذا طلعت
أما قوله فَلَمَّا تَرَاءا الْجَمْعَانِ أي رأى بعضهم بعضاً قال أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي لملحقون وَقَالُواْ يأَيُّهَا مُوسَى أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا كانوا يذبحون أبناءنا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا يدركوننا أي في الساعة فيقتلوننا وقرىء فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ بتشديد الدال وكسر الراء من أدرك الشيء إذا تتابع ففنى ومنه قوله تعالى بَلِ ادرَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاْخِرَة ِ ( النمل 66 ) قال الحسن جهلوا علم الآخرة والمعنى إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد فعند ذلك قال لهم كلا وذلك كالمنع مما توهموه ثم قوى نفوسهم بأمرين أحدهما إِنَّ مَعِى َ رَبّى وهذا دلالة النصرة والتكفل بالمعونة والثاني قوله سَيَهْدِينِ والهدى هو طريق النجاة والخلاص وإذا دله على طريق نجاته وهلاك أعدائه فقد بلغ النهاية في النصرة
فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاٌّ خَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاٌّ خَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام قوله إِنَّ مَعِى َ رَبّى سَيَهْدِينِ ( الشعراء 62 ) بين تعالى بعده كيف هداه ونجاه وأهلك أعداءه بذلك التدبير الجامع لنعم الدين والدنيا فقال فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ ولا شبهة في أن المراد فضرب فانفلق لأنه كالمعلوم من الكلام إذ لا يجوز أن ينفلق من غير ضرب ومع ذلك يأمره بالضرب لأنه كالعبث ولأنه تعالى جعله من معجزاته التي ظهرت بالعصا ولأن انفلاقه بضربه أعظم في النعمة عليه وأقوى لعلمهم أن ذلك إنما حصل لمكان موسى عليه السلام واختلفوا في البحر روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر مع بني إسرائيل أمرهم أن يخوضوا البحر فامتنعوا إلا يوشع بن نون فإنه ضرب دابته وخاض في البحر حتى عبر ثم رجع إليهم فأبوا أن يخوضوا فقال موسى للبحر انفرق لي فقال ما أمرت بذلك ولا يعبر عن العصاة فقال موسى يا رب قد أبى البحر أن ينفرق فقيل له اضرب بعصاك البحر فضربه فانفرق فكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل العظيم وصار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط منهم طريق فقال كل سبط قتل أصحابنا فعند ذلك دعا موسى عليه السلام ربه فجعلها مناظر كهيئة الطبقات حتى نظر بعضهم إلى بعض على أرض يابسة وعن عطاء بن السائب أن جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وبين آل فرعون وكان يقول لبني إسرائيل ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل القبط فيقول رويدكم ليلحق آخركم وروي أن موسى عليه السلام قال عند ذلك ( يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء )
فأما قوله فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ فالفرق الجزء المنفرق منه وقرىء ( كل فلق ) والمعنى واحد والطود الجبل المتطاول أي المرتفع في السماء وهو معجز من وجوه أحدها أن تفرق ذلك الماء معجز وثانيها أن اجتماع ذلك الماء فوق كل طرف منه حتى صار كالجبل من المعجزات أيضاً لأنه كان لا يمتنع في الماء الذي أزيل بذلك التفريق أن يبدده الله تعالى حتى يصير كأنه لم يكن فلما جمع على الطرفين صار مؤكداً لهذا الإعجاز وثالثها أنه إن ثبت ما روي في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم فاحتبسوا القدر الذي يتكامل معه عبور بني إسرائيل فهو معجز ثالث ورابعها أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر منها بعضهم إلى بعض فهو معجز رابع وخامسها أن أبقى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب منها آل فرعون وطمعوا أن يتخلصوا من البحر كما تخلص قوم موسى عليه السلام فهو معجز خامس
أما قوله تعالى وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاْخَرِينَ ففيه بحثان
البحث الأول قال ابن عباس وابن جريج وقتادة والسدي وَأَزْلَفْنَا أي وقربنا ثم أي حيث انفلق البحر للآخرين قوم فرعون ثم فيه ثلاثة أوجه أحدها قربناهم من بني إسرائيل وثانيها قربنا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد وثالثها قدمناهم إلى البحر ومن الناس من قال وَأَزْلَفْنَا أي حبسنا فرعون وقومه عنذ طلبهم موسى عليه السلام بأن أظلمنا عليهم الدنيا بسحابة وقفت عليهم فوقفوا حيارى وقرىء وأزلقنا بالقاف أي أزللنا أقدامهم والمعنى أذهبنا عزهم ويحتمل أن يجعل الله طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبساً وأزلقهم
البحث الثاني أنه تعالى أضاف ذلك الإزلاف إلى نفسه مع أن اجتماعهم هنالك في طلب موسى كفر أجاب الجبائي عنه من وجهين الأول أن قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل وبنو إسرائيل إنما فعلوا ذلك بأمر الله تعالى فلما كان مسيرهم بتدبيره وهؤلاء تبعوا ذلك أضافه إلى نفسه توسعاً وهذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيجوز أن يقول أتعبني الغلام لما حدث ذلك فعله الثاني قيل الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاْخَرِينَ أي أزلفناهم إلى الموت لأجل أنهم في ذلك الوقت قربوا من أجلهم وأنشد وكل يوم مضى أو ليلة سلفت
فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
وأجاب الكعبي عنه من وجهين الأول أنه تعالى لما حلم عنهم وترك البحر لهم يبساً وطمعوا في عبوره جازت الإضافة كالرجل يسفه عليه صاحبه مراراً فيحلم عنه فإذا تمادى في غيه وأراه قدرته عليه قال له أنا أحوجتك إلى هذا وصيرتك إليه بحلمي لا يريد بذلك أنه أراد ما فعل الثاني يحتمل أنه أزلفهم أي جمعهم ليغرقهم عند ذلك ولكي لا يصلوا إلى موسى وقومه والجواب عن الأول أن الذي فعله بنو إسرائيل هل له أثر في استجلاب داعية قوم فرعون إلى الذهاب خلفهم أوليس له أثر فيه فإن كان الأول فقد حصل المقصود لأن لفعل الله تعالى أثراً في حصول الداعية المستلزمة لذلك الإزلاف وإن لم يكن له فيه أثر ألبتة فقد زال التعلق فوجب أن لا تحسن الإضافة وأما إذا تعب أحدنا في طلب غلام له فإنما يجوز أن يقول أتعبني ذلك الغلام لما أن فعل ذلك الغلام صار كالمؤثر في حصول ذلك التعب لأنه متى فعل ذلك الفعل فالظاهر أنه يصير معلوماً للسيد ومتى علمه صار علمه داعياً له إلى ذلك التعب ومؤثراً فيه فصحت الإضافة وبالجملة فعندنا القادر لا يمكنه الفعل إلا بالداعي فالداعي مؤثر في صيرورة القادر مؤثراً في ذلك الفعل فلا جرم حسنت الإضافة والجواب عن الثاني وهو أنه أزلفهم ليغرقهم فهو أنه تعالى ما أزلفهم بل هم بأنفسهم ازدلفوا ثم حصل الغرق بعده فكيف يجوز إضافة هذا الإزلاف إلى الله تعالى أما على قولنا فإنه جائز لأنه تعالى هو الذي خلق الداعية المستعقبة لذلك الازدلاف والجواب عن الثالث وهو أن حلمه تعالى عنهم وحملهم على ذلك فنقول ذلك الحلم هل له أثر في استجلاب هذه الداعية أم لا وباقي التقرير كما تقدم والجواب عن الرابع هو بعينه الجواب عن الثاني والله أعلم
أما قوله تعالى وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاْخَرِينَ فالمعنى أنه تعالى جعل البحر يبساً في حق موسى وقومه حتى خرجوا منه وأغرق فرعون وقومه لأنه لما تكامل دخولهم البحر انطبق الماء عليهم فغرقوا في ذلك الماء
أما قوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَة ً فالمعنى أن الذي حدث في البحر آية عجيبة من الآيات العظام الدالة على قدرته لأن أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته من حيث وقع ما كان مصلحة في الدين والدنيا وعلى صدق موسى عليه السلام من حيث كان معجزة له وعلى اعتبار المعتبرين به أبداً فيصير تحذيراً من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وأمر رسوله ويكون فيه اعتبار لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فإنه قال عقيب ذلك وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وفي ذلك تسلية له فقد كان يغتم بتكذيب قومه مع ظهور المعجزات عليه فنبهه الله تعالى بهذا الذكر على أن له أسوة بموسى وغيره فإن الذي ظهر على موسى من هذه المعجزات العظام التي تبهر العقول لم يمنع من أن أكثرهم كذبوه وكفروا به مع مشاهدتهم لما شاهدوه في البحر وغيره فكذلك أنت يا محمد لا تعجب من تكذيب أكثرهم لك واصبر على إيذائهم فلعلهم أن يصلحوا ويكون في هذا الصبر تأكيد الحجة عليهم
وأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فتعلقه بما قبله أن القوم مع مشاهدة هذه الآية الباهرة كفروا ثم إنه تعالى كان عزيزاً قادراً على أن يهلكهم ثم إنه تعالى ما أهلكهم بل أفاض عليهم أنواع رحمته فدل ذلك على كمال رحمته وسعة جوده وفضله
القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ الاٌّ قْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ
اعلم أنه تعالى ذكر في أول السورة شدة حزن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بسبب كفر قومه ثم إنه ذكر قصة موسى عليه السلام ليعرف محمد أن مثل تلك المحنة كانت حاصلة لموسى ثم ذكر عقبها قصة إبراهيم عليه السلام ليعرف محمد أيضاً أن حزن إبراهيم عليه السلام بهذا السبب كان أشد من حزنه لأن من عظيم المحنة على إبراهيم عليه السلام أن يرى أباه وقومه في النار وهو لا يتمكن من إنقاذهم إلا بقدر الدعاء والتنبيه فقال لهم مَا تَعْبُدُونَ وكان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام ولكنه سألهم ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء كما تقول لتاجر الرقيق ما مالك وأنت تعلم أن ماله الرقيق ثم تقول الرقيق جمال وليس بمال فأجابوا إبراهيم عليه السلام بقولهم نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ والعكوف الإقامة
على الشيء وإنما قالوا نظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل واعلم أنه كان يكفيهم في الجواب أن يقولوا نعبد أصناماً ولكنهم ضموا إليه زيادة على الجواب وهي قولهم أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ وإنما ذكروا هذه الزيادة إظهاراً لما في نفوسهم من الابتهاج والافتخار بعبادة الأصنام فقال إبراهيم عليه السلام منبهاً على فساد مذهبهم هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قال صاحب ( الكشاف ) لا بد في يسمعونكم من تقدير حذف المضاف معناه هل يسمعون دعاءكم وقرأ قتادة هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ أي هل يسمعونكم الجواب عن دعائكم وهل يقدرون على ذلك وتقرير هذه الحجة التي ذكرها إبراهيم عليه السلام أن الغالب من حال من يعبد غيره أن يلتجىء إليه في المسألة ليعرف مراده إذا سمع دعاءه ثم يستجيب له في بذل منفعة أو دفع مضرة فقال لهم فإذا كان من تعبدونه لا يسمع دعاءكم حتى يعرف مقصودكم ولو عرف ذلك لما صح أن يبذل النفع أو يدفع الضرر فكيف تستجيزون أن تعبدوا ما هذا وصفه فعند هذه الحجة القاهرة لم يجد أبوه وقومه ما يدفعون به هذه الحجة فعدلوا إلى أن قالوا وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وهذا من أقوى الدلائل على فساد التقليد ووجوب التمسك بالاستدلال إذ لو قلبنا الأمر فمدحنا التقليد وذممنا الاستدلال لكان ذلك مدحاً لطريقة الكفار التي ذمها الله تعالى وذماً لطريقة إبراهيم عليه السلام التي مدحها الله تعالى فأجابهم إبراهيم عليه السلام بقوله قَالَ أَفَرَءيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ أراد به أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً ولا بأن يكون في فاعلية كثرة أو قلة
أما قوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ففيه أسئلة
السؤال الأول كيف يكون الصنم عدواً مع أنه جماد جوابه من وجهين أحدهما أنه تعالى قال في سورة مريم ( 82 ) في صفة الأوثان كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً فقيل في تفسيره إن الله يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يقع منهم التوبيخ لهم والبراءة منهم فعلى هذا الوجه أن الأوثان ستصير أعداء لهؤلاء الكفار في الآخرة فأطلق إبراهيم عليه السلام لفظ العداوة عليهم على هذا التأويل وثانيها أن الكفار لما عبدوها وعظموها ورجوها في طلب المنافع ودفع المضار نزلت منزلة الأحياء العقلاء في اعتقاد الكفار ثم إنها صارت أسباباً لانقطاع الإنسان عن السعادة ووصوله إلى الشقاوة فلما نزلت هذه الأصنام منزلة الأحياء وجرت مجرى الدافع للمنفعة والجالب للمضرة لا جرم جرت مجرى الأعداء فلا جرم أطلق إبراهيم عليه السلام عليها لفظ العدو وثالثها المراد في قوله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى عداوة من يعبدها فإن قيل فلم لم يقل إن من يعبد الأصنام عدو لي ليكون الكلام حقيقة جوابه لأن الذي تقدم ذكره ما عبدوه دون العابدين
السؤال لثاني لم قال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى ولم يقل فإنها عدو لكم جوابه أنه عليه السلام صور المسألة في نفسه على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها ( وآثرت عبادة من الخير كله منه ) وأراهم ( بذلك ) أنها نصيحة نصح بها نفسه فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه فيكون ذلك أدعى للقبول
السؤال الثالث لم لم يقل فإنهم أعدائي جوابه العدو والصديق يجيئان في معنى الواحد والجماعة قال ف وقوم عليَّ ذوي ( مرة ) < / 1 }
أراهم عدواً وكانوا صديقاً
ومنه قوله تعالى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ( الكهف 50 ) وتحقيق القول فيه ما تقدم في قوله إِنَّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 16 )
السؤال الرابع ما هذا الاستثناء جوابه أنه استثناء منقطع كأنه قال لكن رب العالمين
الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ
اعلم أنه تعالى لما حكى عنه أنه استثنى رب العالمين حكى عنه أيضاً ما وصفه به مما يستحق العبادة لأجله ثم حكى عنه ما سأله عنه أما الأوصاف فأربعة أولها قوله الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ
واعلم أنه سبحانه أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ( الأعلى 2 3 ) واعلم أن الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع عليه فلنتكلم في الإنسان فنقول إنه مخلوق فمنهم من قال هو من عالم الخلق والجسمانيات ومن قال هو من عالم الأمر الروحانيات وتركيب البدن الذي هو من عالم الخلق مقدم على إعطاء القلب الذي هو من عالم الأمر على ما أخبر عنه سبحانه في قوله فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى ( ص 72 ) فالتسوية إشارة إلى تعديل المزاج وتركيب الأمشاج ونفخ الروح إشارة إلى اللطيفة الربانية النورانية التي هي من عالم الأمر وأيضاً قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَة ٍ مّن طِينٍ ( المؤمنون 12 ) ولما تمم مراتب تغيرات الأجسام قال ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَة َ عَلَقَة ً ( المؤمنون 14 ) وذلك إشارة إلى الروح الذي هو من عالم الملائكة ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية
أما تحقيقه بحسب المباحث الحقيقية فهو أن بدن الإنسان إنما يتولد عند امتزاج المني بدم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية المتولدة من تركب العناصر الأربعة وتفاعلها فإذا امتزج المني بالدم فلا يزال ما فيها من الحار والبارد والرطب واليابس متفاعلاً وما في كل واحد منها من القوى كاسراً سورة كيفية الآخر فحينئذ يحصل من تفاعلهما كيفية متوسطة تستحر بالقياس إلى البارد وتستبرد بالقياس إلى الحار وكذا القول في الرطب واليابس وحينئذ يحصل الاستعداد لقبول قوى مدبرة لذلك المركب فبعضها قوى نباتية وهي التي
تجذب الغذاء ثم تمسكه ثم تهضمه ثم تدفع الفضلة المؤذية ثم تقيم تلك الأجزاء بدل ما تحلل منها ثم تزيد في جوهر الأعضاء طولاً وعرضاً ثم يفضل عن تلك المواد فضلة يمكن أن يتولد عنها مثل ذلك ومنها قوى حيوانية بعضها مدركة كالحواس الخمس والخيال والحفظ والذكر وبعضها فاعلة إما آمرة كالشهوة والغضب أو مأمورة كالقوى المركوزة في العضلات ومنها قوى إنسانية وهي إما مدركة أو عاملة والقوى المدركة هي القوى القوية على إدراك حقائق الأشياء الروحانية والجسمانية والعلوية والسفلية ثم إنك إذا فتشت عن كل واحدة من مركبات هذا العالم الجسماني ومفرداتها وجدت لها أشياء تلائمها وتكمل حالها وأشياء تنافرها وتفسد حالها ووجدت فيها قوى جذابة للملائم دفاعة للمنافي فقد ظهر أن صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتم إلا بالخلق والهداية أما الخلق فبتصييره موجوداً بعد أن كان معدوماً وأما الهداية فبتلك القوى الجذابة للمنافع والدفاعة للمضار فثبت أن قوله خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدنيا والدين ثم ههنا دقيقة وهو أنه قال خَلَقَنِى فذكره بلفظ الماضي وقال يَهْدِينِ ذكره بلفظ المستقبل والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم أما هدايته تعالى فهي مما يتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدنيوية وذلك بأن تحكم الحواس بتمييز المنافع عن المضار أو في المنافع الدينية وذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر فبين بذلك أنه سبحانه هو الذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة وأنه يهديه إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة وثانيها قوله وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وقد دخل فيه كل ما يتصل بنافع الرزق وذلك لأنه سبحانه إذا خلق له الطعام وملكه فلو لم يكن معه ما يتمكن به من أكله والاغتذاء به نحو الشهوة والقوة والتمييز لم تكمل هذه النعمة وذكر الطعام والشراب ونبه بذكرهما على ما عداهما وثالثها قوله وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وفيه سؤال وهو أنه لم قال مَرْضَاتِ دون أمرضني وجوابه من وجوه الأول أن كثيراً من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك ومن ثم قالت الحكماء لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا التخم الثاني أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي أما الصحة فهي إنما تحصل عند بقاء الأخلاط على اعتدالها وبقاؤها على اعتدالها إنما يكون بسبب قاهر يقهرها على الاجتماع وعودها إلى الصحة إنما يكون أيضاً بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع والاعتدال بعد أن كانت بطباعها مشتاقة إلى التفرق والنزاع فلهذا السبب أضاف الشفاء إليه سبحانه وتعالى وما أضاف المرض إليه وثالثها وهو أن الشفاء محبوب وهو من أصول النعم والمرض مكروه وليس من النعم وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إليه تعالى فإن نقضته بالإماتة فجوابه أن الموت ليس بضرر لأن شرط كونه ضرراً وقوع الإحساس به وحال حصول الموت لا يقع الإحساس به إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض وأيضاً فلأنك قد عرفت أن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصتها عنها عين السعادة بخلاف المرض ورابعها قوله وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ والمراد منه الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها وعقوباتها والمراد من الإحياء المجازاة وخامسها قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ فهو إشارة إلى
ما هو مطلوب كل عاقل من الخلاص عن العذاب والفوز بالثواب
واعلم أن إبراهيم عليه السلام جمع في هذه الألفاظ جميع نعم الله تعالى من أول الخلق إلى آخر الأبد في الدار الآخرة ثم ههنا أسئلة
السؤال الأول لم قال وَالَّذِى أَطْمَعُ والطمع عبارة عن الظن والرجاء وإنه عليه السلام كان قاطعاً بذلك جوابه أن هذا الكلام لا يستقيم إلا على مذهبنا حيث قلنا إنه لا يجب على الله لأحد شيء وأنه يحسن منه كل شيء ولا اعتراض لأحد عليه في فعله وأجاب الجبائي عنه من وجهين الأول أن قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى أراد به سائر المؤمنين لأنهم الذين يطمعون ولا يقطعون به الثاني المراد من الطمع اليقين وهو مروي عن الحسن وأجاب صاحب ( الكشاف ) بأنه إنما ذكره على هذا الوجه تعليماً منه لأمته كيفية الدعاء
واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة أما الأول فلأن الله تعالى حكى عنه الثناء أولاً والدعاء ثانياً ومن أول المدح إلى آخر الدعاء كلام إبراهيم عليه السلام فجعل الشيء الواحد وهو قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ كلام غيره مما يبطل نظم الكلام ويفسده وأما الثاني وهو أن الطمع هو اليقين فهذا على خلاف اللغة وأما الثالث وهو أن الغرض منه تعليم الأمة فباطل أيضاً لأن حاصله يرجع إلى أنه كذب على نفسه لغرض تعليم الأمة وهو باطل قطعاً
السؤال الثاني لم أسند إلى نفسه الخطيئة مع أن الأنبياء منزعون عن الخطايا قطعاً وفي جوابه ثلاثة وجوه أحدها أنه محمول على كذب إبراهيم عليه السلام في قوله فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ( الأنبياء 63 ) وقوله إِنّى سَقِيمٌ ( الصافات 89 ) وقوله لسارة ( إنها أختي ) وهو ضعيف لأن نسبة الكذب إليه غير جائزة وثانيها أنه ذكره على سبيل التواضع وهضم النفس وهذا ضعيف لأنه إن كان صادقاً في هذا التواضع فقد لزم الإشكال وإن كان كاذباً فحينئذ يرجع حاصل الجواب إلى إلحاق المعصية به لأجل تنزيهه عن المعصية وثالثها وهو الجواب الصحيح أن يحمل ذلك على ترك الأولى وقد يسمى ذلك خطأ فإن من ملك جوهرة وأمكنه أن يبيعها بألف ألف دينار فإن باعها بدينار قيل إنه أخطأ وترك الأولى على الأنبياء جائز
السؤال الثالث لم علق مغفرة الخطيئة بيوم الدين وإنما تغفر في الدنيا جوابه لأن أثرها يظهر يوم الدين وهو الآن خفي لا يعلم
السؤال الرابع ما فائدة ( لي ) في قوله يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى وجوابه من وجوه أحدها أن الأب إذا عفا عن ولده والسيد عن عبده والزوج عن زوجته فذلك في أكثر الأمر إنما يكون طلباً للثواب وهرباً عن العقاب أو طلباً لحسن الثناء والمحمدة أو دفعاً للألم الحاصل من الرقة الجنسية وإذا كان كذلك لم يكن المقصود من ذلك العفو رعاية جانب المعفو عنه بل رعاية جانب نفسه إما لتحصيل ما ينبغي أو لدفع ما لا ينبغي أما الإله سبحانه فإنه كامل لذاته فيستحيل أن تحدث له صفات كمال لم تكن أو يزول عنه نقصان كان وإذا كان كذلك لم يكن عفوه إلا رعاية لجانب المعفو عنه فقوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى يعني هو الذي إذا غفر كان غفرانه لي ولأجلي لا لأجل أمر عائد إليه ألبتة وثانيها كأنه قال خلقتني لا لي فإنك حين خلقتني ما كنت موجوداً وإذا لم أكن موجوداً استحال تحصيل شيء لأجلي ثم مع هذا فأنت خلقتني أما لو عفوت كان
ذلك العفو لأجلي فلما خلقتني أولاً مع أني كنت محتاجاً إلى ذلك الخلق فلأن تغفر لي وتعفو عني حال ما أكون في أشد الحاجة إلى العفو والمغفرة كان أولى وثالثها أن إبراهيم عليه السلام كان لشدة استغراقه في بحر المعرفة شديد الفرار عن الالتفات إلى الوسائط ولذلك لما قال له جبريل عليه السلام ( ألك حاجة قال أما إليك فلا ) فههنا قال أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ أي لمجرد عبوديتي لك واحتياجي إليك تغفر لي خطيئتي لا أن تغفرها لي بواسطة شفاعة شافع
رَبِّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاٌّ خِرِينَ وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَة ِ جَنَّة ِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لاًّبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
اعلم أن الله تعالى لما حكى عن إبراهيم عليه السلام ثناءه على الله تعالى ذكر بعد ذلك دعاءه ومسألته وذلك تنبيه على أن تقديم الثناء على الدعاء من المهمات وتحقيق الكلام فيه أن هذه الأرواح البشرية من جنس الملائكة فكلما كان اشتغالها بمعرفة الله تعالى ومحبته والانجذاب إلى عالم الروحانيات أشد كانت مشاكلتها للملائكة أتم فكانت أقوى على التصرف في أجسام هذا العالم وكلما كان اشتغالها بلذات هذا العالم واستغراقها في ظلمات هذه الجسمانيات أشد كانت مشاكلتها للبهائم أشد فكانت أكثر عجزاً وضعفاً وأقل تأثيراً في هذا العالم فمن أراد أن يشتغل بالدعاء يجب أن يقدم عليه ثناء الله تعالى وذكر عظمته وكبريائه حتى أنه بسبب ذلك الذكر يصير مستغرقاً في معرفة الله ومحبته ويصير قريب المشاكلة من الملائكة فتحصل له بسبب تلك المشاكلة قوة إلهية سماوية فيصير مبدأ لحدوث ذلك الشيء الذي هو المطلوب بالدعاء فهذا هو الكشف عن ماهية الدعاء وظهر أن تقديم الثناء على الدعاء من الواجبات وطهر به تحقيق قوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ) فإن قال قائل لم لم يقتصر إبراهيم عليه السلام على الثناء لا سيما ويروى عنه أيضاً أنه قال حسبي من سؤالي علمه بحالي فالجواب أنه عليه السلام إنما ذكر ذلك حين كان مشتغلاً بدعوة الخلق إلى الحق ألا ترى أنه قال فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( الشعراء 77 ) ثم ذكر الثناء ثم ذكر الدعاء لأن الشارع لا بد له من تعليم الشرع فأما حين ما خلا بنفسه ولم يكن غرضه تعليم الشرع كان يقتصر على قوله حسبي من سؤالي علمه بحالي
البحث الثاني في الأمور التي طلبها في الدعاء وهي مطاليب
المطلوب الأول قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ولقد أجابه الله تعالى حيث قال وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَة ِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( البقرة 130 ) وفيه مطالب أحدها أنه لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة لأن
النبوة كانت حاصلة فلو طلب النبوة لكانت النبوة المطلوبة أما عين النبوة الحاصلة أو غيرها والأول محال لأن تحصيل الحاصل محال والثاني محال لأنه يمتنع أن يكون الشخص الواحد نبياً مرتين بل المراد من الحكم ما هو كمال القوة النظرية وذلك بإدراك الحق ومن قوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ كمال القوة العملية وذلك بأن يكون عاملاً بالخير فإن كمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به وإنما قدم قوله رَبّ هَبْ لِى حُكْماً على قوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ لما أن القوة النظرية مقدمة على القوة العملية بالشرف وبالذات وأيضاً فإنه يمكنه أن يعلم الحق وإن لم يعلم بالخير وعكسه غير ممكن ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن ولما كان الروح أشرف من البدن كان العلم أفضل من العمل وإنما فسرنا معرفة الأشياء بالحكم وذلك لأن الإنسان لا يعرف حقائق الأشياء إلا إذا استحضر في ذهنه صور الماهيات ثم نسب بعضها إلى بعض بالنفي أو بالإثبات وتلك النسبة وهي الحكم ثم إن كانت النسب الذهنية مطابقة للنسب الخارجية كانت النسب الذهنية ممتنعة التغير فكانت مستحكمة قوية فمثل هذا الإدراك يسمى حكمة حكماً وهو المراد من قوله عليه السلام ( أرنا الأشياء كما هي ) وأما الصلاح فهو كون القوة العاقلة متوسطة بين رذيلتي الإفراط والتفريظ وذلك لأن الإفراط في أحد الجانبين تفريط في الجانب الآخر وبالعكس فالصلاح لا يحصل إلا بالاعتدال ولما كان الاعتدال الحقيقي شيئاً واحداً لا يقبل القسمة ألبتة والأفكار البشرية في هذا العالم قاصرة على إدراك أمثال هذه الأشياء لا جرم لا ينفك البشر عن الخروج عن ذلك الحد وإن قل إلا أن خروج المقربين عنه يكون في القلة بحيث لا يحس به وخروج العصاة عنه يكون متفاحشاً جداً فقد ظهر من هذا تحقيق ما قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين وظهر احتياج إبراهيم عليه السلام إلى أن يقول وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ
المطلب الثاني لما ثبت أن المراد من الحكم العلم ثبت أنه عليه السلام طلب من الله أن يعطيه العلم بالله تعالى وبصفاته وهذا يدل على أن معرفة الله تعالى لا تحصل في قلب العبد إلا بخلق الله تعالى وقوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ يدل على أن كون العبد صالحاً ليس إلا بخلق الله تعالى وحمل هذه الأشياء على الألطاف بعيد لأن عند الخصم كل ما في قدرة الله تعالى من الألطاف فقد فعله فلو صرفنا الدعاء إليه لكان ذلك طلباً لتحصيل الحاصل وهو فاسد
المطلب الثالث أن الحكم المطلوب في الدعاء إما أن يكون هو العلم بالله أو بغيره والثاني باطل لأن الإنسان حال كونه مستحضراً للعلم بشيء لا يمكنه أن يكون مستحضراً للعلم بشيء آخر فلو كان المطلوب بهذا الدعاء العلم بغير الله تعالى والعلم بغير الله تعالى شاغل عن الاستغراق في العلم بالله كان هذا السؤال طلباً لما يشغله عن الاستغراق في العلم بالله تعالى وذلك غير جائز لأنه لا كمال فوق ذلك الاستغراق فإذن المطلوب بهذا الدعاء هو العلم بالله ثم إن ذلك العلم إما أن يكون هو العلم بالله تعالى الذي هو شرط صحة الإيمان أو غيره والأول باطل لأنه لما وجب أن يكون حاصلاً لكل المؤمنين فكيف لا يكون حاصلاً عند إبراهيم عليه السلام وإذا كان حاصلاً عنده امتنع طلب تحصيله فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء درجات في معرفة الله تعالى أزيد من العلم بوجوده وبأنه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز وبأنه عالم قادر حي وما ذاك إلا الوقوف على صفات الجلال أو الوقوف على حقيقة الذات أو ظهور نور تلك المعرفة
في القلب ثم هناك أحوال لا يعبر عنها المقال ولا يشرحها الخيال ومن أراد أن يصل إليها فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر
المطلوب الثاني قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ وفيه ثلاث تأويلات
التأويل الأول أنه عليه السلام ابتدأ بطلب ما هو الكمال الذاتي للإنسان في الدنيا والآخرة وهو طلب الحكم الذي هو العلم ثم طلب بعده كمالات الدنيا وبعد ذلك طلب كمالات الآخرة فأما كمالات الدنيا فبعضها داخلية وبعضها خارجية أما الداخلية فهي الخلق الظاهر والحلق الباطن والحلق الظاهر أشد جسمانية والخلق الباطن أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو الخلق الظاهر وطلب الأمر الروحاني وهو الخلق الباطن وهو المراد بقوله وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وأما الخارجية فهي المال والجاه والمال أشد جسمانية والجاه أشد روحانية فترك إبراهيم عليه السلام الأمر الجسماني وهو المال وطلب الأمر الروحاني وهو الجاه والذكر الجميل الباقي على وجه الدهر وهو المراد بقوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ قال ابن عباس رضي الله عنهما وقد أعطاه ذلك بقوله وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاْخِرِينَ فإن قيل وأي غرض له في أن يثني عليه ويمدح جوابه من وجهين الأول وهو على لسان الحكمة أن الأرواح البشرية قد بينا أنها مؤثرة في الجملة إلا أن بعضها قد يكون ضعيفاً فيعجز عن التأثير فإذا اجتمعت طائفة منها فربما قوي مجموعها على ما عجزت الآحاد عنه وهذا المعنى مشاهد في المؤثرات الجسمانية إذا ثبت هذا فالإنسان الواحد إذا كان بحيث يثنى عليه الجمع العظيم ويمدحونه ويعظمونه فربما صار انصراف هممهم عند الاجتماع إليه سبباً لحصول زيادة كمال له الثاني وهو على لسان الكمال أن من صار ممدوحاً فيما بين الناس بسبب ما عنده من الفضائل فإنه يصير ذلك المدح وتلك الشهرة داعياً لغيره إلى اكتساب مثل تلك الفضائل
التأويل الثاني أنه سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى الله تعالى وذلك هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالمراد من قوله وَاجْعَل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ بعثة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
التأويل الثالث قال بعضهم المراد اتفاق أهل الأديان على حبه ثم إن الله تعالى أعطاه ذلك لأنك لا ترى أهل دين إلا ويتوالون إبراهيم عليه السلام وقدح بعضهم فيه بأنه لا تقوى الرغبة في مدح الكافر وجوابه أنه ليس المقصود مدح الكافر من حيث هو كافر بل المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحبوب كل قلب
المطلوب الثالث قوله وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَة ِ جَنَّة ِ النَّعِيمِ اعلم أنه لما طلب سعادة الدنيا طلب بعدها سعادة الآخرة وهي جنة النعيم وشبهها بما يورث لأنه الذي يغتنم في الدنيا فشبه غنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا
المطلوب الرابع قوله وَاغْفِرْ لاِبِى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ واعلم أنه لما فرغ من طلب السعادات الدنيوية والأخروية لنفسه طلبها لأشد الناس التصاقاً به وهو أبوه فقال وَاغْفِرْ لاِبِى ثم فيه وجوه الأول أن المغفرة مشروطة بالإسلام وطلب المشروط متضمن لطلب الشرط فقوله وَاغْفِرْ لاِبِى يرجع حاصله إلى أنه دعاء لأبيه بالإسلام الثاني أن أباه وعده الإسلام كما قال تعالى وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْراهِيمَ لاِبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَة ٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ
( التوبة 114 ) فدعا له لهذا الشرط ولا يمتنع الدعاء للكافر على هذا الشرط فَلَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ( التوبة 114 ) وهذا ضعيف لأن الدعاء بهذا الشرط جائز للكافر فلو كان دعاؤه مشروطاً لما منعه الله عنه الثالث أن أباه قال له إنه على دينه باطناً وعلى دين نمروذ ظاهراً تقية وخوفاً فدعا له لاعتقاده أن الأمر كذلك فلما تبين له خلاف ذلك تبرأ منه لذلك قال في دعائه إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالّينَ فلولا اعتقاده فيه أنه في الحال ليس بضال لما قال ذلك
المطلوب الخامس قوله وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ قال صاحب ( الكشاف ) الإخزاء من الخزي وهو الهوان أو من الخزاية وهي الحياء وههنا أبحاث
أحدها أن قوله وَلاَ تُخْزِنِى يدل على أنه لا يجب على الله تعالى شيء على ما بيناه في قوله وَالَّذِى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِينِ ( الشعراء 82 )
وثانيها أن لقائل أن يقول لما قال أولاً وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَة ِ جَنَّة ِ النَّعِيمِ ومتى حصلت الجنة امتنع حصول الخزي فكيف قال بعده وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ وأيضاً فقد قال تعالى إِنَّ الْخِزْى َ الْيَوْمَ وَالْسُّوء عَلَى الْكَافِرِينَ ( النحل 27 ) فما كان نصيب الكفار فقط فكيف يخافه المعصوم جوابه كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذا درجات الأبرار دركات المقربين وخزي كل واحد بما يليق به
وثالثها قال صاحب ( الكشاف ) في ( يبعثون ) ضمير العباد لأنه معلوم أو ضمير الضالين
أما قوله إِلاَّ مَنْ اتِى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ فاعلم أنه تعالى أكرمه بهذا الوصف حيث قال وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْراهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ( الصافات 83 84 )
ثم في هذا الاستثناء وجوه أحدها أنه إذا قيل لك هل لزيد مال وبنون فتقول ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك فكذا في هذه الآية وثانيها أن نحمل الكلام على المعنى ونجعل المال والبنين في معنى الغنى كأنه قيل يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه وثالثها أن نجعل ( من ) مفعولاً لينفع أي لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة الله تعالى ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين ويجوز على هذا إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من فتنة المال والبنين أما السليم ففي ثلاثة أوجه الأول وهو الأصح أن المراد منه سلامة القلب عن الجهل والأخلاق الرذيلة وذلك لأنه كما أن صحة البدن وسلامته عبارة عن حصول ما ينبغي من المزاج والتركيب والاتصال ومرضه عبارة عن زوال أحد تلك الأمور فكذلك سلامة القلب عبارة عن حصول ما ينبغي له وهو العلم والخلق الفاضل ومرضه عبارة عن زوال أحدهما فقوله إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أن يكون خالياً عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها فإن قيل فظاهر هذه الآية يقتضي أن من سلم قلبه كان ناجياً وأنه لا حاجة فيه إلى سلامة اللسان واليد جوابه أن القلب مؤثر واللسان والجوارح تبع فلو كان القلب سليماً لكانا سليمين لا محالة وحيث لم يسلما ثبت عدم سلامة القلب التأويل الثاني أن السليم هو اللديغ من خشية الله تعالى التأويل الثالث أن السليم هو الذي سلم وأسلم وسالم واستسلم والله أعلم
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة ً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
اعلم أن إبراهيم عليه السلام ذكر في وصف هذا اليوم أموراً أحدها قوله وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ والمعنى أن الجنة قد تكون قريبة من موقف السعداء ينظرون إليها ويفرحون بأنهم المحشورون إليها والنار تكون بارزة مكشوفة للأشقياء بمرأى منهم يتحسرون على أنهم المسوقون إليها قال الله تعالى في صفة أهل الثواب وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّة ُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ( ق 31 ) وقال في صفة أهل العقاب فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَة ً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ( الملك 27 ) وإنما يفعل الله تعالى ذلك ليكون سروراً معجلاً للمؤمنين وغماً عظيماً للكافرين ثانيها قوله وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ إلى قوله وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ والمعنى أين آلهتكم هل ينفعونكم بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وهو قوله فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ أي الآلهة وعبدتهم الذين برزت لهم الجحيم والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقي في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها وَجُنُودُ إِبْلِيسَ متبعوه من عصاة الإنس والجن وثالثها قوله قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ
واعلم أن ظاهر ذلك أن من عبد خاصم المعبود وخاطبه بهذا الكلام فليس يخلو حال الأصنام من وجهين إما أن يخلقها الله تعالى في الآخرة جماداً يعذب بها أهل النار فحينئذ لا يصح أن تخاطب ويجب حمل قولهم إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ على أنه ليس بخطاب لهم أو يقال إنه تعالى يحييها في النار وذلك أيضاً غير جائز لأنه لا ذنب لها بأن عبدها غيرها فالأقرب أنهم ذكروا ذلك لما رأوا صورها على وجه الاعتراف بالخطأ العظيم وعلى وجه الندامة لا على سبيل المخاطبة والذي يحمل على أنه خطاب في
الحقيقة قولهم وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ وأرادوا بذلك من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس وهو كقولهم رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ( الأحزاب 67 ) فأما قولهم فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين وَلاَ صَدِيقٍ كما نرى لهم أصدقاء لأنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون وأما أهل النار فبينهم التعادي والتباغض قال تعالى الاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ( الزخرف 67 ) أو فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ ( الشعراء 100 101 ) من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى وكان لهم أصدقاء من شياطين الإنس أو أرادوا أنهم إن وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم فقصدوا بنفيهم نفي ما تعلق بهم من النفع لأن مالا ينفع فحكمه حكم المعدوم والحميم من الاحتمام وهو الاهتمام وهو الذي يهمه ما يهمك أو من الحامة بمعنى الخاصة وهو الصديق الخالص وإنما جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق فإن الرجل الممتحن بإرهاق الظالم قد ينهض جماعة وافرة من أهل بلده لشفاعته رحمة له وأما الصديق وهو الصادق في ودادك فأعز من بيض الأنوق ويجوز أن يريد بالصديق الجمع ثم حكى تعالى عنهم قولهم فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّة ً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وأنهم تمنوا الرجعة إلى الدنيا ولو في مثل هذا الوضع في معنى التمني كأنه قيل فليت لنا كرة وذلك لما بين معنى لو وليت من التلاقي في التقدير ويجوز أن تكون على أصلها ويحذف الجواب وهو لفعلنا كيت وكيت قال الجبائي إن قولهم فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ليس بخبر عن إيمانهم لكنه خبر عن عزمهم لأنه لو كان خبراً عن إيمانهم لوجب أن يكون صدقاً لأن الكذب لا يقع من أهل الآخرة وقد أخبر الله تعالى بخلاف ذلك في قوله وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ( الأنعام 28 ) وقد تقدم في سورة الأنعام بيان فساد هذا الكلام ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك ثم قال وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ والأكثرون من المفسرين حملوه على قوم إبراهيم ثم بين تعالى أن مع كل هذه الدلائل فأكثر قومه لم يؤمنوا به فيكون هذا تسلية للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يجده من تكذيب قومه
فأما قوله وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فمعناه أنه قادر على تعجيل الانتقام لكنه رحيم بالإمهال لكي يؤمنوا
القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِى َ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاٌّ رْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُجْرِمِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاّيَة ً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ