الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنْ جَعَلْت لِي شَطْرَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ ، وَإِلَّا مَلَأْتهَا عَلَيْك خَيْلًا وَرَجْلًا .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : حَتَّى أُشَاوِرَ السُّعُودَ يَعْنِي .
سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ، وَسَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ، وَسَعْدَ بْنَ زُرَارَةَ ، فَشَاوَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنْ كَانَ هَذَا أَمْرًا مِنْ السَّمَاءِ ، فَتَسْلِيمٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ بِرَأْيِك وَهَوَاك ، اتَّبَعْنَا رَأْيَك وَهَوَاك ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا مِنْ السَّمَاءِ وَلَا بِرَأْيِك وَهَوَاك ، فَوَاَللَّهِ مَا كُنَّا نُعْطِيهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بُسْرَةً وَلَا تَمْرَةً إلَّا شِرَاءً أَوْ قِرًى ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَسُولِهِ : أَتَسْمَعُ ؟ } فَعَرَضَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْلَمَ ضَعْفَهُمْ مِنْ قُوَّتِهِمْ ، فَلَوْلَا جَوَازُهُ عِنْدَ الضَّعْفِ ، لِمَا عَرَضَهُ عَلَيْهِمْ .
( 7593 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الْهُدْنَةِ وَلَا الذِّمَّةِ إلَّا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَعَ جُمْلَةِ الْكُفَّارِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ وَمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَلِأَنَّ تَجْوِيزَهُ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ يَتَضَمَّنُ تَعْطِيلَ الْجِهَادِ بِالْكُلِّيَّةِ ، أَوْ إلَى تِلْكَ النَّاحِيَةِ ، وَفِيهِ افْتِيَاتٌ عَلَى الْإِمَامِ .
فَإِنْ هَادَنَهُمْ غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبُهُ ، لَمْ يَصِحَّ .
وَإِنْ دَخَلَ بَعْضُهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِهَذَا الصُّلْحِ ، كَانَ آمِنًا ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مُعْتَقِدًا لِلْأَمَانِ ، وَيُرَدُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا يُقَرُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ لَمْ يَصِحَّ .
وَإِنْ عَقَدَ الْإِمَامُ الْهُدْنَةَ ، ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ ، وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ الْوَفَاءُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ عَقَدَهُ بِاجْتِهَادِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْحَاكِمِ نَقْضُ أَحْكَامِ مَنْ قَبْلَهُ بِاجْتِهَادِهِ .
وَإِذَا عَقَدَ الْهُدْنَةَ ، لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ } .
وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفِ بِهَا ، لَمْ يُسْكَنْ إلَى عَقْدِهِ ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى عَقْدِهَا ، فَإِنْ نَقَضُوا الْعَهْدَ ، جَازَ قِتَالُهُمْ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } { .
وَلَمَّا نَقَضَتْ قُرَيْشٌ عَهْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، خَرَجَ إلَيْهِمْ ، فَقَاتَلَهُمْ ، وَفَتَحَ مَكَّةَ .
} وَإِنْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ ، فَسَكَتَ بَاقِيهمْ عَنْ النَّاقِضِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إنْكَارٌ ، وَلَا مُرَاسَلَةُ الْإِمَامِ ، وَلَا تَبَرُّؤٌ ، فَالْكُلُّ نَاقِضُونَ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا هَادَنَ
قُرَيْشًا ، دَخَلَتْ خُزَاعَةُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَنُو بَكْرٍ مَعَ قُرَيْشٍ فَعَدَتْ بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ ، وَأَعَانَهُمْ بَعْضُ قُرَيْشٍ ، وَسَكَتَ الْبَاقُونَ ، فَكَانَ ذَلِكَ نَقْضَ عَهْدِهِمْ ، وَسَارَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَاتَلَهُمْ .
} وَلِأَنَّ سُكُوتَهُمْ يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُمْ ، كَمَا أَنَّ عَقْدَ الْهُدْنَةِ مَعَ بَعْضِهِمْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُهُمْ ؛ لِدَلَالَةِ سُكُوتِهِمْ عَلَى رِضَاهُمْ ، كَذَلِكَ فِي النَّقْضِ .
وَإِنْ أَنْكَرَ مَنْ لَمْ يَنْقُضْ عَلَى النَّاقِضِ ، بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ظَاهِرٍ ، أَوْ اعْتِزَالٍ ، أَوْ رَاسَلَ الْإِمَامَ بِأَنِّي مُنْكِرٌ لِمَا فَعَلَهُ النَّاقِضُ ، مُقِيمٌ عَلَى الْعَهْدِ ، لَمْ يَنْتَقِضْ فِي حَقِّهِ ، وَيَأْمُرُهُ الْإِمَامُ بِالتَّمَيُّزِ ، لِيَأْخُذَ النَّاقِضَ وَحْدَهُ ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ التَّمَيُّزِ ، أَوْ إسْلَامِ النَّاقِضِ ، صَارَ نَاقِضًا ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ أَخْذِ النَّاقِضِ ، فَصَارَ بِمَنْزِلَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّمَيُّزُ ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَسِيرِ .
فَإِنْ أَسَرَ الْإِمَامُ مِنْهُمْ قَوْمًا ، فَادَّعَى الْأَسِيرُ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ ، وَأَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، قُبِلَ قَوْلُ الْأَسِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا مِنْ قِبَلِهِ .
( 7594 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَافَ نَقْضَ الْعَهْدِ مِنْهُمْ ، جَازَ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } .
يَعْنِي أَعْلِمْهُمْ بِنَقْضِ عَهْدِهِمْ ، حَتَّى تَصِيرَ أَنْتَ وَهُمْ سَوَاءٌ فِي الْعِلْمِ ، وَلَا يَكْفِي وُقُوعُ ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ ، حَتَّى يَكُونَ عَنْ أَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَى مَا خَافَهُ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَهُمْ بِقِتَالٍ وَلَا غَارَةٍ قَبْلَ إعْلَامِهِمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ ؛ لِلْآيَةِ ، وَلِأَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْهُ بِحُكْمِ الْعَهْدِ ، فَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ، وَلَا أَخْذُ مَالِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قُلْتُمْ : إنَّ الذِّمِّيَّ إذَا خِيفَ مِنْهُ الْخِيَانَةُ ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُ .
قُلْنَا : عَقْدُ الذِّمَّةِ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ ، وَهُوَ نَوْعُ مُعَاوَضَةٍ ، وَعَقْدٌ مُؤَبَّدٌ ، بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ وَالْأَمَانِ ، وَلِهَذَا لَوْ نَقَضَ بَعْضُ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُ الْبَاقِينَ ، بِخِلَافِ الْهُدْنَةِ ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ ، وَتَجِبُ وِلَايَتُهُ ، وَلَا يُخْشَى الضَّرَرُ كَثِيرًا مِنْ نَقْضِهِمْ ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْهُدْنَةِ ، فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْهُمْ الْغَارَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَالضَّرَرُ الْكَثِيرُ بِأَخْذِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ .
( 7595 ) فَصْلٌ : وَإِذَا عَقَدَ الْهُدْنَةَ ، فَعَلَيْهِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُ آمَنَهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ وَتَحْتَ يَدِهِ ، كَمَا أَمَّنَ مَنْ فِي قَبْضَتِهِ مِنْهُمْ .
وَمَنْ أَتْلَفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، وَلَا تَلْزَمُهُ حِمَايَتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَلَا حِمَايَةُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ؛ لِأَنَّ الْهُدْنَةَ الْتِزَامُ الْكَفِّ عَنْهُمْ فَقَطْ .
فَإِنْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ آخَرُونَ فَسَبَوْهُمْ .
لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِنْقَاذُهُمْ ، وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ شِرَاؤُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي عَهْدِهِمْ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَذَاهُمْ وَلَا اسْتِرْقَاقُهُمْ .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا .
وَيَحْتَمِلُ جَوَازَ ذَلِكَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمْ ، فَلَا يَحْرُمُ اسْتِرْقَاقُهُمْ ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
فَعَلَى هَذَا ، إنْ اسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى الَّذِينَ أَسَرُوهُمْ ، وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ ، فَاسْتَنْقَذُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ ، لَمْ يَلْزَمْ رَدُّهُ إلَيْهِمْ ، عَلَى هَذَا الْقَوْلِ .
وَمُقْتَضَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وُجُوبُ رَدِّهِ ، كَمَا تُرَدُّ أَمْوَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَيْهِمْ .
( 7596 ) فَصْلٌ : وَإِذَا عَقَدَ الْهُدْنَةَ مُطْلَقًا ، فَجَاءَنَا مِنْهُمْ إنْسَانٌ مُسْلِمًا أَوْ بِأَمَانٍ ، لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ إلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، أَوْ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً .
وَلَا يَجِبُ رَدُّ مَهْرِ الْمَرْأَةِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ خَرَجَ الْعَبْدُ إلَيْنَا قَبْلَ إسْلَامِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِمْ ، وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ خُرُوجِهِ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا ، لَمْ يَصِرْ حُرًّا ، لِأَنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَّا ، وَالْهُدْنَةُ تَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الْقَهْرِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ : إذَا جَاءَتْ امْرَأَةٌ لَهُ مُسْلِمَةٌ ، وَجَبَ رَدُّ مَهْرِهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا } .
يَعْنِي رُدَّ مَهْرُهَا إلَى زَوْجِهَا إذَا جَاءَ يَطْلُبُهَا ، وَإِنْ جَاءَ غَيْرُهُ ، لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِ شَيْءٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، خَرَجَ إلَيْنَا ، فَلَمْ يَجِبْ رَدُّهُ ، وَلَا رَدُّ شَيْءٍ بَدَلًا عَنْهُ ، كَالْحُرِّ مِنْ الرِّجَالِ ، وَكَالْعَبْدِ إذَا خَرَجَ ثُمَّ أَسْلَمَ .
قَوْلُهُمْ : إنَّهُمْ فِي أَمَانٍ مِنَّا .
قُلْنَا : إنَّمَا أَمَّنَّاهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، الَّذِينَ هُمْ فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ ، فَأَمَّا مَنْ هُوَ فِي دَارِهِمْ ، وَمَنْ لَيْسَ فِي قَبْضَتِهِ ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ خَرَجَ الْعَبْدُ قَبْلَ إسْلَامِهِ ، وَلِهَذَا { لَمَّا قَتَلَ أَبُو بَصِيرٍ الرَّجُلَ الَّذِي جَاءَ لِرَدِّهِ ، لَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُضَمِّنْهُ ، وَلَمَّا انْفَرَدَ هُوَ وَأَبُو جَنْدَلٍ وَأَصْحَابُهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَيْهِمْ ، وَقَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْهُمْ ، وَأَخَذُوا الْمَالَ ، لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ مَا أَخَذُوهُ ، وَلَا غَرَامَةِ مَا أَتْلَفُوهُ } .
وَهَذَا الَّذِي أَسْلَمَ كَانَ فِي دَارِهِمْ وَقَبْضَتِهِمْ ، وَقَهْرِهِمْ عَلَى نَفْسِهِ ، فَصَارَ حُرًّا ،
كَمَا لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ خُرُوجِهِ .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ ، فَلَا يَجِبُ رَدُّ مَهْرِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا ، وَلَوْ أَخَذَتْهُ كَانَتْ قَدْ قَهَرَتْهُمْ عَلَيْهِ فِي دَارِ الْقَهْرِ ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهَا عِوَضُهُ ، لَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ دُونَ الْمُسَمَّى .
وَالْآيَةُ ، قَالَ قَتَادَةُ : تُبِيحُ رَدَّ الْمَهْرِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ : لَا يُعْمَلُ بِهَا الْيَوْمَ .
وَعَلَى أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَطَ لَهُمْ رَدَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا ، فَلَمَّا مَنَعَ اللَّهُ رَدَّ النِّسَاءِ ، أَمَرَ بِرَدِّ مُهُورِهِنَّ ، وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا ، فَلَيْسَ هُوَ مَعْنَى مَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ .
وَإِنْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا شَرَطَ رَدَّ النِّسَاءِ ، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَطَهُ ، كَانَ صَحِيحًا ، وَقَدْ نُسِخَ ، فَإِذَا شُرِطَ الْآنَ كَانَ بَاطِلًا ، فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُهُ عَلَى الصَّحِيحِ ، وَلَا إلْحَاقُهُ بِهِ .
( 7597 ) فَصْلٌ : وَالشُّرُوطُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ؛ صَحِيحٌ ؛ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ مَالًا ، أَوْ مَعُونَةَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِمْ ، أَوْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ أَنْ يَرُدَّ مَنْ جَاءَهُ مِنْ الرِّجَالِ مُسْلِمًا أَوْ بِأَمَانٍ .
فَهَذَا يَصِحُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَصِحُّ شَرْطُ رَدِّ الْمُسْلِمِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيه وَتَمْنَعُهُ .
وَلَنَا ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَطَ ذَلِكَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَوَفَّى لَهُمْ بِهِ ، فَرَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ وَأَبَا بَصِيرٍ } ، وَلَمْ يَخُصَّ بِالشَّرْطِ ذَا الْعَشِيرَةِ ، وَلِأَنَّ ذَا الْعَشِيرَةِ إذَا كَانَتْ عَشِيرَتُهُ هِيَ الَّتِي تَفْتِنُهُ وَتُؤْذِيه ، فَهُوَ كَمَنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ هَذَا الشَّرْطُ إلَّا عِنْدَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَتَعَيُّنِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ ، وَمَتَى شَرَطَ لَهُمْ ذَلِكَ ، لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا فِي طَلَبِهِ ، لَمْ يَمْنَعْهُمْ أَخْذَهُ ، وَلَا يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى الْمُضِيِّ مَعَهُمْ .
وَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ سِرًّا بِالْهَرَبِ مِنْهُمْ ، وَمُقَاتَلَتِهِمْ { ، فَإِنَّ أَبَا بَصِيرٍ لَمَّا جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ ، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ ، وَقَدْ عَلِمْت مَا عَاهَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَك فَرَجًا وَمَخْرَجًا .
فَلَمَّا رَجَعَ مَعَ الرَّجُلَيْنِ ، قَتَلَ أَحَدَهُمَا فِي طَرِيقِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَك ، قَدْ رَدَدْتنِي إلَيْهِمْ ، فَأَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ .
فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَلُمْهُ ، بَلْ قَالَ : وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ ، لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ ، } فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ أَبُو بَصِيرٍ ، لَحِقَ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ ، وَانْحَازَ إلَيْهِ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ
سُهَيْلٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ ، فَجَعَلُوا لَا تَمُرُّ عَلَيْهِمْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ إلَّا عَرَضُوا لَهَا ، فَأَخَذُوهَا ، وَقَتَلُوا مَنْ مَعَهَا ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ ، إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ ، أَنْ يَضُمَّهُمْ إلَيْهِ ، وَلَا يَرُدُّ إلَيْهِمْ أَحَدًا جَاءَهُ ، فَفَعَلَ .
فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ أَنْ يَتَحَيَّزُوا نَاحِيَةً ، وَيَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفَّارِ ، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَهُمْ ، وَلَا يَدْخُلُونَ فِي الصُّلْحِ .
وَإِنْ ضَمَّهُمْ الْإِمَامُ إلَيْهِ بِإِذْنِ الْكُفَّارِ ، دَخَلُوا فِي الصُّلْحِ ، وَحَرُمَ عَلَيْهِمْ قَتْلُ الْكُفَّارِ وَأَمْوَالُهُمْ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ أَبُو جَنْدَلٍ إلَى النَّبِيِّ هَارِبًا مِنْ الْكُفَّارِ ، يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ ، قَامَ إلَيْهِ أَبُوهُ فَلَطَمَهُ ، وَجَعَلَ يَرُدُّهُ ، قَالَ عُمَرُ : فَقُمْت إلَى جَانِبِ أَبِي جَنْدَلٍ ، فَقُلْت : إنَّهُمْ الْكُفَّارُ ، وَإِنَّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ .
وَجَعَلْت أُدْنِي مِنْهُ قَائِمَ السَّيْفِ لَعَلَّهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ ، قَالَ : فَضَنَّ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ .
الثَّانِي ، شَرْطٌ فَاسِدٌ ، مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ رَدَّ النِّسَاءِ ، أَوْ مُهُورِهِنَّ ، أَوْ رَدَّ سِلَاحِهِمْ ، أَوْ إعْطَاءَهُمْ شَيْئًا مِنْ سِلَاحِنَا ، أَوْ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ ، أَوْ يَشْتَرِطَ لَهُمْ مَالًا فِي مَوْضِعٍ لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ ، أَوْ يَشْتَرِطَ نَقْضَهَا مَتَى شَاءُوا ، أَوْ أَنَّ لِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نَقْضًا ، أَوْ يَشْتَرِطَ رَدَّ الصِّبْيَانِ ، أَوْ رَدَّ الرِّجَالِ ، مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
فَهَذِهِ كُلُّهَا شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ ، لَا يَجُوزُ الْوَفَاءُ بِهَا .
وَهَلْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ ، إلَّا فِيمَا إذَا شَرَطَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَقْضَهَا مَتَى شَاءَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ وَجْهًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ طَائِفَةَ الْكُفَّارِ يَبْنُونَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ،
فَلَا يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْهُمْ ، وَلَا أَمْنُهُمْ مِنَّا ، فَيَفُوتُ مَعْنَى الْهُدْنَةِ .
وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ شَرْطُ رَدِّ النِّسَاءِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } إلَى قَوْلِهِ : { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ مَنَعَ الصُّلْحَ فِي النِّسَاءِ } .
وَتُفَارِقُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ؛ أَحَدُهَا أَنَّهَا لَا تَأْمَنُ مِنْ أَنْ تُزَوَّجَ كَافِرًا يَسْتَحِلُّهَا ، أَوْ يُكْرِهُهَا مَنْ يَنَالُهَا ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } .
الثَّانِي ، أَنَّهَا رُبَّمَا فُتِنَتْ عَنْ دِينِهَا ؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ قَلْبًا ، وَأَقَلُّ مَعْرِفَةً مِنْ الرَّجُلِ .
الثَّالِثُ ، أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُمْكِنُهَا فِي الْعَادَةِ الْهَرَبُ وَالتَّخَلُّصُ ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ .
وَلَا يَجُوزُ رَدُّ الصِّبْيَانِ الْعُقَلَاءِ إذَا جَاءُوا مُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي الضَّعْفِ فِي الْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ ، وَالْعَجْزِ عَنْ التَّخَلُّصِ وَالْهَرَبِ .
فَأَمَّا الطِّفْلُ الَّذِي لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ ، فَيَجُوزُ رَدُّهُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ .
( 7598 ) فَصْلٌ : وَإِذَا طَلَبَتْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيَّةٌ مُسْلِمَةٌ ، الْخُرُوجَ مِنْ عِنْدِ الْكُفَّارِ ، جَازَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ إخْرَاجُهَا ؛ لِمَا رُوِيَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ ، وَقَفَتْ ابْنَةُ حَمْزَةَ عَلَى الطَّرِيقِ فَلَمَّا مَرَّ بِهَا عَلِيٌّ قَالَتْ : يَا ابْنَ عَمِّ ، إلَى مَنْ تَدَعُنِي ؟ فَتَنَاوَلَهَا ، فَدَفَعَهَا إلَى فَاطِمَةَ ، حَتَّى قَدِمَ بِهَا الْمَدِينَةَ } .
( 7599 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْأَمِيرُ قَوْمًا يَغْزُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَنَافِعِهِمْ ، لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ ، وَأُعْطُوا مَا اُسْتُؤْجِرُوا بِهِ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ ، فَقَالَ ، فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَحَنْبَلٍ ، فِي الْإِمَامِ يَسْتَأْجِرُ قَوْمًا يَدْخُلُ بِهِمْ بِلَادَ الْعَدُوِّ : لَا يُسْهِمُ لَهُمْ ، وَيُوفِي لَهُمْ بِمَا اُسْتُؤْجِرُوا عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِئْجَارِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ ، كَالْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ .
أَمَّا الرِّجَالُ الْمُسْلِمُونَ الْأَحْرَارُ ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِئْجَارُهُمْ عَلَى الْجِهَادِ ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ يَتَعَيَّنُ بِحُضُورِهِ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفَرْضُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ ، كَمَنْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ عَلَى ظَاهِرِهِ ، فِي صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْغَزْوِ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لِلْغَازِي أَجْرُهُ ، وَلِلْجَاعِلِ أَجْرُهُ } .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي ، وَيَأْخُذُونَ الْجُعْلَ ، وَيَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى عَدُوِّهِمْ ، مَثَلُ أُمِّ مُوسَى ، تُرْضِعُ وَلَدَهَا ، وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا } .
وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ ، فَصَحَّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ ، كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ ، أَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ الْجِهَادُ ، فَصَحَّ أَنْ يُؤْجِرَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ .
وَيُفَارِقُ الْحَجَّ ، حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ ، وَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ أَخْذِ الْجُعْلِ عَلَيْهِ تَعْطِيلٌ لَهُ ، وَمَنْعٌ لَهُ مِمَّا
فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ نَفْعٌ ، وَبِهِمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ، بِخِلَافِ الْحَجِّ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ ، فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ، وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ يَرُدُّهَا ، وَلَهُ سَهْمُهُ ؛ لِأَنَّ غَزْوَهُ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ .
وَإِنْ قُلْنَا بِصِحَّتِهِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَالْخِرَقِيِّ ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، أَنَّهُ لَا سَهْمَ لَهُ ؛ لِأَنَّ غَزْوَهُ بِعِوَضٍ ، فَكَأَنَّهُ وَاقِعٌ مِنْ غَيْرِهِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ يَعْلَى بْنِ مُنَبَّهٍ ، قَالَ { : أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغَزْوِ ، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، لَيْسَ لِي خَادِمٌ ، فَالْتَمَسْت أَجِيرًا يَكْفِينِي ، وَأُجْرِي لَهُ سَهْمَهُ ، فَوَجَدْت رَجُلًا ، فَلَمَّا دَنَا الرَّحِيلُ ، قَالَ : مَا أَدْرِي مَا السُّهْمَانُ وَمَا يَبْلُغُ سَهْمِي ، فَسَمِّ لِي شَيْئًا كَانَ السَّهْمَ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
فَسَمَّيْت لَهُ ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ ، فَلَمَّا حَضَرَتْ غَنِيمَةٌ أَرَدْت أَنْ أُجْرِيَ لَهُ سَهْمَهُ ، فَذَكَرْت الدَّنَانِيرَ ، فَجِئْت إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْت لَهُ أَمْرَهُ ، فَقَالَ : مَا أَجِدُ لَهُ فِي غَزْوَتِهِ هَذِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إلَّا دَنَانِيرَهُ الَّتِي سَمَّى } .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُسْهَمَ لَهُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ .
قَالَ : وَرَوَى جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ لِلْأَجِيرِ السَّهْمَ إذَا قَاتَلَ .
وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ ، أَنَّ كُلَّ مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ فَلَهُ السَّهْمُ .
قَالَ : وَهَذَا الَّذِي أَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، وَقَوْلِ عُمَرَ : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ .
وَلِأَنَّهُ حَاضِرٌ لِلْوَقْعَةِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، فَيُسْهَمُ لَهُ كَغَيْرِ الْأَجِيرِ .
فَأَمَّا الَّذِينَ يُعْطُونَ مِنْ حَقِّهِمْ مِنْ الْفَيْءِ ، فَلَهُمْ سِهَامُهُمْ ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُمْ لِيَغْزُوَ ، لَا أَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ جِهَادِهِ ،
بَلْ نَفْعُ جِهَادِهِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَاتِ ، وَهُمْ الَّذِينَ إذَا نَشِطُوا لِلْغَزْوِ أُعْطُوا ، فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مَعُونَةً ، لَا عِوَضًا ، وَلِذَلِكَ إذَا دَفَعَ إلَى الْغُزَاةِ مَا يَتَقَوَّوْنَ بِهِ ، وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ ، كَانَ لَهُ فِيهِ الثَّوَابُ ، وَلَمْ يَكُنْ عِوَضًا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا ، كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } .
( 7600 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَجِيرُ لِلْخِدْمَةِ فِي الْغَزْوِ ، أَوْ الَّذِي يُكْرِي دَابَّةً لَهُ ، وَيَخْرُجُ مَعَهَا ، وَيَشْهَدُ الْوَقْعَةَ ، فَعَنْ أَحْمَدْ ، فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا سَهْمَ لَهُ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، قَالَا : الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى خِدْمَةِ الْقَوْمِ لَا سَهْمَ لَهُ .
وَوَجْهُهُ حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ مُنَبِّهٍ .
وَالثَّانِيَةُ ، يُسْهَمُ لَهُمَا ، إذَا شَهِدَا الْقِتَالَ مَعَ النَّاسِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ إذَا قَاتَلَ ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالْخِدْمَةِ فَلَا سَهْمَ لَهُ .
وَاحْتَجَّ ابْنُ الْمُنْذِرِ بِحَدِيثِ { سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، أَنَّهُ كَانَ أَجِيرًا لِطَلْحَةَ حِينَ أَدْرَكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُيَيْنَةَ ، حِينَ أَغَارَ عَلَى سَرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ } .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُسْهَمُ لَهُ إذَا كَانَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ ، وَقَصْدُهُ الْجِهَادَ ، فَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : يُسْهَمُ لَهُ إذَا قَاتَلَ ، وَيُرْفَعُ عَمَّنْ اسْتَأْجَرَهُ نَفَقَةُ مَا اشْتَغَلَ عَنْهُ .
( 7601 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا التَّاجِرُ وَالصَّانِعُ ، كَالْخَيَّاطِ وَالْخَبَّازِ وَالْبَيْطَارِ وَالْحَدَّادِ وَالْإِسْكَافِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : يُسْهَمُ لَهُمْ إذَا حَضَرُوا .
قَالَ أَصْحَابُنَا : قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا .
وَبِهِ قَالَ فِي التَّاجِرِ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ وَمَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُسْهَمُ لَهُمْ ، إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا .
وَعَنْهُ لَا يُسْهَمُ لَهُ بِحَالٍ .
قَالَ الْقَاضِي ، فِي التَّاجِرِ وَالْأَجِيرِ : إذَا كَانَا مَعَ الْمُجَاهِدِينَ ، وَقَصْدُهُمَا الْجِهَادُ ، وَإِنَّمَا مَعَهُ الْمَتَاعُ إنْ طُلِبَ مِنْهُ بَاعَهُ ، وَالْأَجِيرُ قَصْدُهُ الْجِهَادُ أَيْضًا ، فَهَذَانِ يُسْهَمُ لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا غَازِيَانِ ، وَالصُّنَّاعُ بِمَنْزِلَةِ التُّجَّارِ ، مَتَى كَانُوا مُسْتَعِدِّينَ لِلْقِتَالِ ، وَمَعَهُمْ السِّلَاحُ ، فَمَتَى عَرَضَ اشْتَغَلُوا بِهِ ، أُسْهِمَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْجِهَادِ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا يَشْتَغِلُونَ بِغَيْرِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهُ .
( 7602 ) فَصْلٌ : إذَا دَخَلَ قَوْمٌ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ دَارَ الْحَرْبِ ، بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، فَغَنِمُوا ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ؛ إحْدَاهُنَّ ، أَنَّ غَنِيمَتَهُمْ كَغَنِيمَةِ غَيْرِهِمْ ، يُخَمِّسُهُ الْإِمَامُ ، وَيَقْسِمُ بَاقِيه بَيْنَهُمْ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } .
الْآيَةَ .
وَالْقِيَاسُ عَلَى مَا إذَا دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ .
وَالثَّانِيَةُ ، هُوَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخَمَّسَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ مُبَاحٌ مِنْ غَيْرِ جِهَادٍ ، فَكَانَ لَهُمْ أَشْبَهَ الِاحْتِطَابَ ، فَإِنَّ الْجِهَادَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، أَوْ مِنْ طَائِفَةٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَقُوَّةٌ ، فَأَمَّا هَذَا فَتَلَصُّصٌ وَسَرِقَةٌ وَمُجَرَّدُ اكْتِسَابٍ .
وَالثَّالِثَةُ ، أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي عَبْدٍ أَبَقَ إلَى الرُّومِ ، ثُمَّ رَجَعَ وَمَعَهُ مَتَاعٌ : فَالْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ ، وَمَا مَعَهُ مِنْ الْمَتَاعِ وَالْمَالِ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ عُصَاةٌ بِفِعْلِهِمْ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ .
وَالْأُولَى أَوْلَى قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَمَّا أَقْفَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَيْشَ الَّذِي كَانَ مَعَ مَسْلَمَةَ ، كُسِرَ مَرْكَبُ بَعْضِهِمْ ، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ نَاسًا مِنْ الْقِبْطِ ، فَكَانُوا خَدَمًا لَهُمْ ، فَخَرَجُوا يَوْمًا إلَى عِيدٍ لَهُمْ ، وَخَلَّفُوا الْقِبْطَ فِي مَرْكَبِهِمْ ، وَشَرِبَ الْآخَرُونَ ، وَرَفَعَ الْقِبْطُ الْقَلْعَ وَفِي الْمَرْكَبِ مَتَاعُ الْآخَرِينَ وَسِلَاحُهُمْ ، فَلَمْ يَضَعُوا قَلْعَهُمْ حَتَّى أَتَوْا بَيْرُوتَ ، فَكُتِبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيز ، فَكَتَبَ عُمَرُ : نَفِّلُوهُمْ الْقَلْعَ وَكُلَّ شَيْءٍ جَاءُوا بِهِ إلَّا الْخُمْسَ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، وَالْأَثْرَمُ .
وَإِنْ كَانَتْ الطَّائِفَةُ ذَاتَ مَنَعَةٍ ، غَزَوْا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا شَيْءَ لَهُمْ ، وَهُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَالثَّانِيَةُ ، يُخَمَّسُ ، وَالْبَاقِي لَهُمْ .
وَهَذَا أَصَحُّ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ مَا تَقَدَّمَ .
وَيُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ كَالرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمِيعَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ خُمْسٍ ؛ لِكَوْنِهِ اكْتِسَابُ مُبَاحٍ مِنْ غَيْرِ جِهَادٍ .
( 7603 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَمَنْ غَلَّ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، حُرِّقَ رَحْلُهُ كُلُّهُ ، إلَّا الْمُصْحَفَ ، وَمَا فِيهِ رُوحٌ الْغَالُّ : هُوَ الَّذِي يَكْتُمُ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، فَلَا يُطْلِعُ الْإِمَامَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَضَعُهُ مَعَ الْغَنِيمَةِ ، فَحُكْمُهُ أَنْ يُحَرَّقَ رَحْلُهُ كُلُّهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَفُقَهَاءُ الشَّامِ ، مِنْهُمْ مَكْحُولٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ ، وَيَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ .
وَأُتِيَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِغَالٍّ ، فَجَمَعَ مَالَهُ وَأَحْرَقَهُ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز حَاضِرٌ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَعِبْهُ .
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ : السُّنَّةُ فِي الَّذِي يَغُلُّ ، أَنْ يُحَرَّقَ رَحْلُهُ .
رَوَاهُمَا سَعِيدٌ ، فِي سُنَنِهِ .
وَقَالَ وَمَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يُحَرَّقُ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُحَرِّقْ } ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَوَى ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَصَابَ غَنِيمَةً ، أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى فِي النَّاسِ ، فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ ، فَيُخَمِّسُهُ ، وَيَقْسِمُهُ ، فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَا مِنْ الْغَنِيمَةِ .
فَقَالَ : سَمِعْت بِلَالًا نَادَى ثَلَاثًا ؟ .
قَالَ : نَعَمْ قَالَ فَمَا مَنَعَك أَنْ تَجِيءَ بِهِ ؟ .
فَاعْتَذَرَ ، فَقَالَ : كُنْ أَنْتَ تَجِيءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَلَنْ أَقْبَلَهُ مِنْك } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ إحْرَاقَ الْمَتَاعِ إضَاعَةٌ لَهُ ، وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ .
} وَلَنَا ؛ مَا رَوَى صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زُرَارَةَ ، قَالَ : دَخَلْت مَعَ مَسْلَمَةَ أَرْضَ الرُّومِ ، فَأُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ غَلَّ ، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ ، فَقَالَ : سَمِعْت أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا وَجَدْتُمْ الرَّجُلَ
قَدْ غَلَّ ، فَاحْرِقُوا مَتَاعَهُ ، وَاضْرِبُوهُ } .
قَالَ فَوَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ مُصْحَفًا ، فَسَأَلَ سَالِمًا عَنْهُ ، فَقَالَ : بِعْهُ ، وَتَصَدَّقْ بِثَمَنِهِ .
أَخْرَجَهُ سَعِيدٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ .
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَحْرَقُوا مَتَاعَ الْغَالَّ } .
فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَعْتَرِفْ أَنَّهُ أَخَذَ مَا أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْغُلُولِ ، وَلَا أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا تَوَانَى فِي الْمَجِيءِ بِهِ ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ تَائِبًا مُعْتَذِرًا ، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا ، وَتَمْحُو الْحَوْبَةَ .
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ إذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَا يُعَدُّ تَضْيِيعًا ، كَإِلْقَاءِ الْمَتَاعِ فِي الْبَحْرِ إذَا خِيفَ الْغَرَقُ ، وَقَطْعِ يَدِ الْعَبْدِ السَّارِقِ ، مَعَ أَنَّ الْمَالَ لَا تَكَادُ الْمَصْلَحَةُ تَحْصُلُ بِهِ إلَّا بِذَهَابِهِ ، فَأَكْلُهُ إتْلَافُهُ ، وَإِنْفَاقُهُ إذْهَابُهُ ، وَلَا يُعَدُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَضْيِيعًا وَلَا إفْسَادًا ، وَلَا يُنْهَى عَنْهُ .
وَأَمَّا الْمُصْحَفُ ، فَلَا يُحَرَّقُ ؛ لِحُرْمَتِهِ ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ سَالِمٍ فِيهِ ، وَالْحَيَوَانُ لَا يُحَرَّقُ ؛ { لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا } ، وَلِحُرْمَةِ الْحَيَوَانِ فِي نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَتَاعِ الْمَأْمُورِ بِإِحْرَاقِهِ .
وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ .
وَلَا تُحَرَّقُ آلَةُ الدَّابَّةِ أَيْضًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَيْهَا لِلِانْتِفَاعِ بِهَا ، وَلِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا يُحَرَّقُ ، فَأَشْبَهَ جِلْدَ الْمُصْحَفِ وَكِيسَهُ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : يُحَرَّقُ سَرْجُهُ وَإِكَافُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَلْبُوسُ حَيَوَانٍ ، فَلَا يُحَرَّقُ ، كَثِيَابِ
الْغَالِّ .
وَلَا تُحَرَّقُ ثِيَابُ الْغَالِّ الَّتِي عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ عُرْيَانًا ، وَلَا مَا غَلَّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَنِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ .
قِيلَ لِأَحْمَدَ : فَاَلَّذِي أَصَابَ فِي الْغُلُولِ ، أَيَّ شَيْءٍ يُصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : يُرْفَعُ إلَى الْمَغْنَمِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ .
وَلَا سِلَاحُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ ، وَلَا نَفَقَتُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحَرَّقُ عَادَةً ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ ، أَوْ مَا أَبْقَتْ النَّارُ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَهُوَ لِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُزِيلُهُ ، وَإِنَّمَا عُوقِبَ بِإِحْرَاقِ مَتَاعِهِ ، فَمَا لَمْ يَحْتَرِقْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُبَاعَ الْمُصْحَفُ ، وَيُتَصَدَّقَ بِهِ ؛ لِقَوْلِ سَالِمٍ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ أَوْ الْعِلْمِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُحَرَّقَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ يَعُودُ إلَى الدِّينِ ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْإِضْرَارَ بِهِ فِي دِينِهِ ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ الْإِضْرَارُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُنْيَاهُ .
( 7604 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يُحَرَّقْ رَحْلُهُ حَتَّى اسْتَحْدَثَ مَتَاعًا آخَرَ ، أَوْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ ، أُحْرِقَ مَا كَانَ مَعَهُ حَالِ الْغُلُولِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الَّذِي يَرْجِعُ إلَى بَلَدِهِ .
قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُحَرَّقَ مَا كَانَ مَعَهُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ .
وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ إحْرَاقِ رَحْلِهِ ، لَمْ يُحَرَّقْ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، كَالْحُدُودِ ، لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ ، فَإِحْرَاقُهُ عُقُوبَةٌ لِغَيْرِ الْجَانِي .
وَإِنْ بَاعَ مَتَاعَهُ ، أَوْ وَهَبَهُ ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يُحَرَّقَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ لِغَيْرِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ انْتَقَلَ عَنْهُ بِالْمَوْتِ .
وَاحْتَمَلَ أَنْ يُنْقَضَ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَيُحَرَّقَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ سَابِقٌ عَلَى الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ ، كَالْقِصَاصِ فِي حَقِّ الْجَانِي .
( 7605 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْغَالُّ صَبِيًّا ، لَمْ يُحَرَّقْ مَتَاعُهُ .
وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَاقَ عُقُوبَةٌ .
وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا ، فَأَشْبَهَ الْحَدَّ .
وَإِنْ كَانَ عَبْدًا ، لَمْ يُحَرَّقْ مَتَاعُهُ ؛ لِأَنَّهُ لِسَيِّدِهِ ، فَلَا يُعَاقَبُ سَيِّدُهُ بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ .
وَإِنْ اسْتَهْلَكَ مَا غَلَّهُ ، فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنَايَتِهِ .
وَإِنْ غَلَّتْ امْرَأَةٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أُحْرِقَ مَتَاعُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ ، وَلِذَلِكَ يُقْطَعَانِ فِي السَّرِقَةِ ، وَيُحَدَّانِ فِي الزِّنَى وَغَيْرِهِ .
وَإِنْ أَنْكَرَ الْغُلُولَ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ ابْتَاعَ مَا بِيَدِهِ ، لَمْ يُحَرَّقْ مَتَاعُهُ ، حَتَّى يَثْبُتَ غُلُولُهُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ بِهِ ، فَلَا يَجِبُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِذَلِكَ ، كَالْحَدِّ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي بَيِّنَتِهِ إلَّا عَدْلَانِ ؛ لِذَلِكَ .
( 7606 ) فَصْلٌ : وَلَا يُحْرَمُ الْغَالُّ سَهْمَهُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يُحْرَمُ سَهْمَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : يُحْرَمُ سَهْمَهُ .
فَإِنْ صَحَّ ، فَالْحُكْمُ لَهُ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، فِي الصَّبِيِّ يَغُلُّ : يُحْرَمُ سَهْمَهُ ، وَلَا يُحَرَّقُ مَتَاعُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ مَوْجُودٌ ، فَيَسْتَحِقَّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَلَمْ يَثْبُتْ حِرْمَانُ سَهْمِهِ فِي خَبَرٍ ، وَلَا قِيَاسٍ ، فَيَبْقَى بِحَالِهِ ، وَلَا يُحَرَّقُ سَهْمُهُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ رَحْلِهِ .
( 7607 ) فَصْلٌ : إذَا تَابَ الْغَالُّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، رَدَّ مَا أَخَذَهُ فِي الْمُقْسَمِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ تَعَيَّنَ رَدُّهُ إلَى أَهْلِهِ .
فَإِنْ تَابَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، فَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ خُمُسَهُ إلَى الْإِمَامِ ، وَيَتَصَدَّقَ بِالْبَاقِي .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَاللَّيْثِ .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو .
عَنْ حَوْشَبِ بْنِ سَيْفٍ ، قَالَ : غَزَا النَّاسُ الرُّومَ ، وَعَلَيْهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَغَلَّ رَجُلٌ مِائَةَ دِينَارٍ ، فَلَمَّا قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ ، وَتَفَرَّقَ النَّاسُ ، نَدِمَ ، فَأَتَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ ، فَقَالَ : قَدْ غَلَلْت مِائَةَ دِينَارٍ ، فَاقْبِضْهَا .
قَالَ : قَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ ، فَلَنْ أَقْبِضَهَا مِنْك حَتَّى تُوَافِيَ اللَّهَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
فَأَتَى مُعَاوِيَةَ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ .
فَخَرَجَ وَهُوَ يَبْكِي ، فَمَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّاعِرِ السَّكْسَكِيِّ ، فَقَالَ : مَا يُبْكِيك ؟ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أَمُطِيعِي أَنْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَانْطَلِقْ إلَى مُعَاوِيَةَ فَقُلْ لَهُ : خُذْ مِنِّي خُمْسَك ، فَأَعْطِهِ عِشْرِينَ دِينَارًا ، وَانْظُرْ إلَى الثَّمَانِينَ الْبَاقِيَةِ ، فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنْ ذَلِكَ الْجَيْشِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَسْمَاءَهُمْ وَمَكَانَهُمْ ، وَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ .
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : أَحْسَنَ وَاَللَّهِ ، لَأَنْ أَكُنْ أَنَا أَفْتَيْته بِهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي مِثْلُ كُلِّ شَيْءٍ امْتَلَكْت .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ رَأَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْمَالِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ صَاحِبُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا أَعْرِفُ لِلصَّدَقَةِ وَجْهًا ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْغَالِّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا أَقْبَلُهُ مِنْك ، حَتَّى تَجِيءَ بِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَلَنَا قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ تَرْكَهُ تَضْيِيعٌ لَهُ ، وَتَعْطِيلٌ لِمَنْفَعَتِهِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا ، وَلَا يَتَخَفَّفُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ إثْمِ الْغَالِّ ، وَفِي الصَّدَقَةِ نَفْعٌ لِمَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمَسَاكِينِ ، وَمَا يَحْصُلُ مِنْ أَجْرِ الصَّدَقَةِ يَصِلُ إلَى صَاحِبِهِ ، فَيَذْهَبُ بِهِ الْإِثْمُ عَنْ الْغَالِّ ، فَيَكُونُ أَوْلَى .
( 7608 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى مُسْلِمٍ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أَتَى حَدًّا مِنْ الْغُزَاةِ ، أَوْ مَا يُوجِبُ قِصَاصًا ، فِي أَرْضِ الْحَرْبِ ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْفِلَ ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يُقَامُ الْحَدُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِإِقَامَتِهِ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَكَان وَزَمَانٍ ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ أَمِيرُ الْجَيْشِ الْإِمَامَ ، أَوْ أَمِيرَ إقْلِيمٍ ، فَلَيْسَ لَهُ إقَامَةُ الْحَدِّ ، وَيُؤَخَّرُ حَتَّى يَأْتِيَ الْإِمَامَ ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَى الْمَحْدُودِ ، أَوْ قُوَّةٌ بِهِ ، أَوْ شُغْلٌ عَنْهُ ، أُخِّرَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ وَلَا قِصَاصَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَا إذَا رَجَعَ .
وَلَنَا ، عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ ، أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ بِهِ ، وَعَلَى تَأْخِيرِهِ ، مَا رَوَى بِشْرُ بْنُ أَبِي أَرْطَاةَ ، أَنَّهُ أُتِيَ بَرْجَلٍ فِي الْغَزَاةِ قَدْ سَرَقَ بُخْتِيَّةً ، فَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي الْغَزَاةِ } لَقَطَعْتُك .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَرَوَى سَعِيدٌ ، فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى النَّاسِ ، أَنْ لَا يَجْلِدَنَّ أَمِيرُ جَيْشٍ وَلَا سَرِيَّةٍ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَدًّا ، وَهُوَ غَازٍ ، حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ قَافِلًا ؛ لِئَلَّا تَلْحَقَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ ، فَيَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَعَنْ عَلْقَمَةَ ، قَالَ : كُنَّا فِي جَيْشٍ فِي أَرْضِ الرُّومِ ، وَمَعَنَا حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ ، وَعَلَيْنَا الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ ، فَأَرَدْنَا أَنْ نَحُدَّهُ ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ :
أَتَحُدُّونَ أَمِيرَكُمْ وَقَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ، فَيَطْمَعُوا فِيكُمْ .
وَأُتِيَ سَعْدٌ بِأَبِي مِحْجَنٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ ، وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ ، فَأَمَرَ بِهِ إلَى الْقَيْدِ ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ : كَفَى حَزَنًا أَنْ تُطْرَدَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا وَأُتْرَكَ مَشْدُودًا عَلَيَّ وَثَاقِيَا وَقَالَ لِابْنَةِ حَفْصَةَ امْرَأَةِ سَعْدٍ : أَطْلِقِينِي ، وَلَك اللَّهُ عَلَيَّ إنْ سَلَّمَنِي اللَّهُ أَنْ أَرْجِعَ حَتَّى أَضَعَ رِجْلِي فِي الْقَيْدِ ، فَإِنْ قُتِلْت ، اسْتَرَحْتُمْ مِنِّي .
قَالَ : فَحَلَّتْهُ حِينَ الْتَقَى النَّاسُ ، وَكَانَتْ بِسَعْدٍ جِرَاحَةٌ ، فَلَمْ يَخْرُجْ يَوْمَئِذٍ إلَى النَّاسِ .
قَالَ : وَصَعِدُوا بِهِ فَوْقَ الْعُذَيْبِ يَنْظُرُ إلَى النَّاسِ ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ ، فَوَثَبَ أَبُو مِحْجَنٍ عَلَى فَرَسٍ لِسَعْدٍ يُقَال لَهَا الْبَلْقَاءُ ، ثُمَّ أَخَذَ رُمْحًا ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَجَعَلَ لَا يَحْمِلُ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْعَدُوِّ إلَّا هَزَمَهُمْ ، وَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ : هَذَا مَلَكٌ ؛ لِمَا يَرَوْنَهُ يَصْنَعُ ، وَجَعَلَ سَعْدٌ يَقُولُ : الضَّبْرُ ضَبْرُ الْبَلْقَاءِ ، وَالطَّعْنُ طَعْنُ أَبِي مِحْجَنٍ ، وَأَبُو مِحْجَنٍ فِي الْقَيْدِ .
فَلَمَّا هُزِمَ الْعَدُوُّ ، رَجَعَ أَبُو مِحْجَنٍ حَتَّى وَضَعَ رِجْلَيْهِ فِي الْقَيْدِ .
فَأَخْبَرَتْ ابْنَةُ حَفْصَةَ سَعْدًا بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ ، فَقَالَ سَعْدٌ : لَا وَاَللَّهِ ، لَا أَضْرِبُ الْيَوْمَ رَجُلًا أَبْلَى اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِهِ مَا أَبْلَاهُمْ .
فَخَلَّى سَبِيلَهُ .
فَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ : قَدْ كُنْت أَشْرَبُهَا إذْ يُقَامُ عَلَيَّ الْحَدُّ وَأَطْهُرُ مِنْهَا ، فَأَمَّا إذَا بَهْرَجَتْنِي ، فَوَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُهَا أَبَدًا .
وَهَذَا اتِّفَاقٌ لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ .
فَأَمَّا إذَا رَجَعَ ، فَإِنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ ؛ لِعُمُومِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ ، وَإِنَّمَا أُخِّرَ لِعَارِضٍ ، كَمَا يُؤَخَّرُ لِمَرَضٍ أَوْ شُغْلٍ ، فَإِذَا زَالَ الْعَارِضُ ، أُقِيمَ الْحَدُّ ، لِوُجُودِ مُقْتَضِيه ، وَانْتِفَاءِ مُعَارِضِهِ ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ : حَتَّى يَقْطَعَ الدَّرْبَ
قَافِلًا .
( 7609 ) فَصْلٌ : وَتُقَامُ الْحُدُودُ فِي الثُّغُورِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَى زَجْرِ أَهْلِهَا ، كَالْحَاجَةِ إلَى زَجْرِ غَيْرِهِمْ ، وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ ، أَنْ يَجْلِدَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ ثَمَانِينَ ، وَهُوَ بِالشَّامِ ، وَهُوَ مِنْ الثُّغُورِ .
( 7610 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَإِذَا فُتِحَ حِصْنٌ ، لَمْ يُقْتَلْ مَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ ، أَوْ يُنْبِتْ ، أَوْ يَبْلُغْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا ظَفِرَ بِالْكُفَّارِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْتُلَ صَبِيًّا لَمْ يَبْلُغْ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ ، فَفِي قَتْلِهِ إتْلَافُ الْمَالِ ، وَإِذَا سُبِيَ مُنْفَرِدًا صَارَ مُسْلِمًا ، فَإِتْلَافُهُ إتْلَافُ مَنْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُسْلِمًا ، وَالْبُلُوغُ يَحْصُلُ بِأَحَدِ أَسْبَابٍ ثَلَاثَةٍ ؛ أَحَدُهَا ، الِاحْتِلَامُ ، وَهُوَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِ الرَّجُلِ أَوْ قُبُلِ الْأُنْثَى فِي يَقَظَةٍ أَوْ مَنَامٍ .
وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } ثُمَّ قَالَ : { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ } .
وَقَالَ لِمُعَاذٍ : { خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
الثَّانِي ، إنْبَاتُ الشَّعْرِ الْخَشِنِ حَوْلَ الْقُبُلِ ، وَهُوَ عَلَامَةٌ عَلَى الْبُلُوغِ ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى { عَطِيَّةُ الْقُرَظِيّ ، قَالَ : كُنْت مِنْ سَبْيِ قُرَيْظَةَ ، فَكَانُوا يَنْظُرُونَ ، فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِلَ ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ ، فَكُنْت فِي مَنْ لَمْ يُنْبِتْ } .
أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ كَثِيرِ بْنِ السَّائِبِ ، قَالَ : { حَدَّثَنِي أَبْنَاءُ قُرَيْظَةَ ، أَنَّهُمْ عُرِضُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُحْتَلِمًا أَوْ نَبَتَتْ عَانَتُهُ قُتِلَ ، وَمَنْ لَا ، تُرِكَ .
} أَخْرَجَهُ
الْأَثْرَمُ .
وَعَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ ، أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَكْتُبُ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ ، أَنْ لَا يَقْتُلُوا إلَّا مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي ، وَلَا يَأْخُذُوا الْجِزْيَةَ إلَّا مِمَّنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّ هَذَا بُلُوغٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِمْ فِي الِاحْتِلَامِ ، وَعَدَدِ السِّنِينَ ، وَلَيْسَ بِعَلَامَةٍ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِإِمْكَانِ ذَلِكَ فِيهِمْ .
وَلَنَا ، قَوْلُ أَبِي نَضْرَةَ ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، حِينَ اُخْتُلِفَ فِي بُلُوغِ تَمِيمِ بْنِ فَرْعٍ الْمَهْرِيِّ : اُنْظُرُوا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْعَرَ ، فَاقْسِمُوا لَهُ .
فَنَظَرَ إلَيْهِ بَعْضُ الْقَوْمِ ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَنْبَتَ ، فَقَسَمُوا لَهُ .
وَلَمْ يَظْهَرْ خِلَافُ هَذَا ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ، فَكَانَ عَلَمًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ كَالْعَلَمَيْنِ الْآخَرَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ يُلَازِمُ الْبُلُوغَ غَالِبًا ، فَكَانَ عَلَمًا عَلَيْهِ ، كَالِاحْتِلَامِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ يَتَعَذَّرُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ مَعْرِفَةُ الِاحْتِلَامِ وَالسِّنِّ .
قُلْنَا : لَا تَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ السِّنِّ فِي الذِّمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ تَعَذُّرُ الْمَعْرِفَةِ لَا يُوجِبُ جَعْلَ مَا لَيْسَ بِعَلَامَةٍ ، كَغَيْرِ الْإِنْبَاتِ .
الثَّالِثُ ، بُلُوغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : { عُرِضْت عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَلَمْ يُجِزْنِي فِي الْقِتَالِ ، وَعُرِضْت عَلَيْهِ ، وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ ، فَأَجَازَنِي فِي الْمُقَاتِلَةِ .
} قَالَ نَافِعٌ : فَحَدَّثْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ : هَذَا فَصْلُ مَا بَيْنَ الرِّجَالِ وَبَيْنَ الْغِلْمَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ الثَّلَاثُ فِي حَقِّ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَتَزِيدُ الْأُنْثَى بِعَلَامَتَيْنِ ؛ الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ ، فَمَنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ عَلَامَةٌ مِنْهُنَّ ، فَهُوَ
صَبِيٌّ يَحْرُمُ قَتْلُهُ .
( 7611 ) فَصْلٌ : وَلَا تُقْتَلُ امْرَأَةٌ ، وَلَا شَيْخٌ فَانٍ .
وَبِذَلِكَ قَالَ وَمَالِكٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَمُجَاهِدٍ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَعْتَدُوا } .
يَقُولُ : لَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالشَّيْخَ الْكَبِيرَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يَجُوزُ قَتْلُ الشُّيُوخِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ ، وَاسْتَحْيُوا شَرْخَهُمْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } .
وَهَذَا عَامٌّ يَتَنَاوَلُ بِعُمُومِهِ الشُّيُوخَ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا أَعْرِفُ حُجَّةً فِي تَرْكِ قَتْلِ الشُّيُوخِ يُسْتَثْنَى بِهَا مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } .
وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ لَا نَفْعَ فِي حَيَاتِهِ ، فَيُقْتَلُ كَالشَّابِّ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا ، وَلَا طِفْلًا ، وَلَا امْرَأَةً } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، فِي سُنَنِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَصَّى يَزِيدَ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الشَّامِ ، فَقَالَ : لَا تَقْتُلْ صَبِيًّا ، وَلَا امْرَأَةً ، وَلَا هَرِمًا .
وَعَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ وَصَّى سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ ، فَقَالَ : لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً ، وَلَا صَبِيًّا ، وَلَا شَيْخًا هَرِمًا .
رَوَاهُمَا سَعِيدٌ .
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، فَلَا يُقْتَلْ ، كَالْمَرْأَةِ .
وَقَدْ أَوْمَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ فِي الْمَرْأَةِ ، فَقَالَ : { مَا بَالُ هَذِهِ قُتِلَتْ ، وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ } .
وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ عُمُومِهَا الْمَرْأَةُ ، وَالشَّيْخُ الْهَرِمُ فِي مَعْنَاهَا ، فَنَقِيسُهُ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ ، فَأَرَادَ بِهِ الشُّيُوخَ الَّذِينَ فِيهِمْ قُوَّةٌ عَلَى الْقِتَالِ ، أَوْ
مَعُونَةٌ عَلَيْهِ ، بِرَأْيِ أَوْ تَدْبِيرٍ ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ ، وَلِأَنَّ أَحَادِيثَنَا خَاصَّةٌ فِي الْهَرِمِ ، وَحَدِيثَهُمْ عَامٌّ فِي الشُّيُوخِ كُلِّهِمْ ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْعَجُوزِ الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا .
( 7612 ) فَصْلٌ : وَلَا يُقْتَلُ زَمِنٌ وَلَا أَعْمَى وَلَا رَاهِبٌ ، وَالْخِلَافُ فِيهِمْ كَالْخِلَافِ فِي الشَّيْخِ ، وَحُجَّتُهُمْ هَا هُنَا حُجَّتُهُمْ فِيهِ .
وَلَنَا ، فِي الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى ، أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، فَأَشْبَهَا الْمَرْأَةَ ، وَفِي الرَّاهِبِ ، مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { وَسَتَمُرُّونَ عَلَى أَقْوَامٍ فِي الصَّوَامِعِ ، قَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا ، فَدَعُوهُمْ حَتَّى يُمِيتَهُمْ اللَّهُ عَلَى ضَلَالِهِمْ } .
وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ تَدَيُّنًا ، فَأَشْبَهُوا مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ .
( 7613 ) فَصْلٌ : وَلَا يُقْتَلُ الْعَبِيدُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَدْرِكُوا خَالِدًا ، فَمُرُوهُ أَنْ لَا يَقْتُلَ ذُرِّيَّةً ، وَلَا عَسِيفًا } .
وَهُمْ الْعَبِيدُ ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ رَقِيقًا لِلْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِ السَّبْيِ ، فَأَشْبَهُوا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ .
( 7614 ) فَصْلٌ : وَمَنْ قَاتَلَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا جَمِيعِهِمْ ، جَازَ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَتَلَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ امْرَأَةً أَلْقَتْ رَحًى عَلَى مَحْمُودِ بْنِ سَلَمَةَ } .
وَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الرِّجَالِ الْمَذْكُورِينَ ذَا رَأْيٍ يُعِينُ بِهِ فِي الْحَرْبِ ، جَازَ قَتْلُهُ { ؛ لِأَنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، وَهُوَ شَيْخٌ لَا قِتَالَ فِيهِ ، وَكَانُوا خَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ ، يَتَيَمَّنُونَ بِهِ ، وَيَسْتَعِينُونَ بِرَأْيِهِ ، فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَهُ .
} وَلِأَنَّ الرَّأْيَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَعُونَةِ فِي الْحَرْبِ ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ مُعَاوِيَةَ ، أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ وَالْأَسْوَدِ : أَمْدَدْتُمَا عَلِيًّا بِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ ، وَبِرَأْيِهِ وَمُكَايَدَتِهِ ، فَوَاَللَّهِ لَوْ أَنَّكُمَا أَمْدَدْتُمَاهُ بِثَمَانِيَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ ، مَا كَانَ بِأَغْيَظَ لِي مِنْ ذَلِكَ .
مَسْأَلَةٌ ، قَالَ : ( وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ أَوْ النِّسَاءِ أَوْ الْمَشَايِخِ أَوْ الرُّهْبَانِ فِي الْمَعْرَكَةِ قُتِلَ ) لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَالَ : مَنْ قَتَلَ هَذِهِ ؟ قَالَ رَجُلٌ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : نَازَعَتْنِي قَائِمَ سَيْفِي قَالَ : فَسَكَتَ } { وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ ، فَقَالَ : مَا بَالُهَا قُتِلَتْ ، وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ إذَا لَمْ تُقَاتِلْ ، وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا لَمْ يُقْتَلُوا لِأَنَّهُمْ فِي الْعَادَةِ لَا يُقَاتِلُونَ .
( 7616 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَرِيضُ ، فَيُقْتَلُ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا قَاتَلَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجْهَازِ عَلَى الْجَرِيحِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الزَّمِنِ ، لَا يُقْتَلُ ، لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ إلَى حَالٍ يُقَاتِلُ فِيهَا .
( 7617 ) فَصْلٌ فَأَمَّا الْفَلَّاحُ الَّذِي لَا يُقَاتِلُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْتَلَ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلَّاحِينَ ، الَّذِينَ لَا يَنْصِبُونَ لَكُمْ الْحَرْبَ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا يُقْتَلُ الْحَرَّاثُ ، إذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُقْتَلُ ، إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ ، لِدُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْمُشْرِكِينَ ، وَلَنَا قَوْلُ عُمَرَ وَأَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلُوهُمْ حِينَ فَتَحُوا الْبِلَادَ ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ ، فَأَشْبَهُوا الشُّيُوخَ وَالرُّهْبَانَ .
( 7618 ) فَصْلٌ : إذَا حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا ، لَزِمَتْهُ مُصَابَرَتُهُ ، وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا بِخُصْلَةٍ مِنْ خِصَالٍ خَمْسٍ أَحَدِهَا ، أَنْ يُسْلِمُوا ، فَيُحْرِزُوا بِالْإِسْلَامِ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْفَتْحِ ، عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ دُونَ أَمْوَالِهِمْ ، وَيَرِقُّونَ .
الثَّانِيَةُ ، أَنْ يَبْذُلُوا مَالًا عَلَى الْمُوَادَعَةِ ، فَيَجُوزُ قَبُولُهُ مِنْهُمْ ، سَوَاءٌ أَعْطَوْهُ جُمْلَةً أَوْ جَعَلُوهُ خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ كُلَّ عَامٍ ، فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ ، فَبَذَلُوهَا ، لَزِمَهُ قَبُولُهَا مِنْهُمْ ، وَحَرُمَ قِتَالُهُمْ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَإِنْ بَذَلُوا مَالًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْجِزْيَةِ ، فَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي قَبُولِهِ ، قَبِلَهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ إذَا لَمْ يَرَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ .
الثَّالِثَةُ ، أَنْ يَفْتَحَهُ .
الرَّابِعَةُ ، أَنْ يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِي الِانْصِرَافِ عَنْهُ ، إمَّا لِضَرَرٍ فِي الْإِقَامَةِ ، وَإِمَّا لِلْيَأْسِ مِنْهُ ، وَإِمَّا لِمَصْلَحَةٍ يَنْتَهِزُهَا تَفُوتُ بِإِقَامَتِهِ ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا ، فَقَالَ : إنَّا قَافِلُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : أَنَرْجِعُ عَنْهُ وَلَمْ نَفْتَحْهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ فَغَدَوْا عَلَيْهِ ، فَأَصَابَهُمْ الْجِرَاحُ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّا قَافِلُونَ غَدًا .
فَأَعْجَبَهُمْ ، فَقَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ الْخَامِسَةُ ، أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ ، فَيَجُوزُ ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا حَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، رَضُوا بِأَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ } وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي فَصْلَيْنِ ، أَحَدُهُمَا ، صِفَةُ الْحَاكِمِ .
وَالثَّانِي ، صِفَةُ الْحُكْمِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ سَبْعَةُ شُرُوطٍ ، أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ حُرًّا ، مُسْلِمًا ، عَاقِلًا ، بَالِغًا ، ذَكَرًا ، عَدْلًا ، فَقِيهًا ، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي حَاكِمِ الْمُسْلِمِينَ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْمَى ، لِأَنَّ عَدَمَ الْبَصَرِ لَا يَضُرُّ فِي مَسْأَلَتِنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَأْيُهُ ، وَمَعْرِفَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحَدِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ ، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ الْبَصَرِ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْقَضَاءِ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْبَصَرِ ، لِيَعْرِفَ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالشَّاهِدَ مِنْ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَالْمُقِرَّ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ وَيُعْتَبَرُ مِنْ الْفِقْهِ هَاهُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحُكْمِ ، مِمَّا يَجُوزُ فِيهِ ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَلَا يُعْتَبَرُ فِقْهُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَذَا لِهَذَا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَإِذَا حَكَّمُوا رَجُلَيْنِ جَازَ ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَإِنْ جَعَلُوا الْحُكْمَ إلَى رَجُلٍ يُعَيِّنُهُ الْإِمَامُ ، جَازَ ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَارُ إلَّا مَنْ يَصْلُحُ وَإِنْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، أَوْ جَعَلُوا التَّعْيِينَ إلَيْهِمْ ، لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا اخْتَارُوا مَنْ لَا يَصْلُحُ ، وَإِنْ عَيَّنُوا رَجُلًا يَصْلُحُ ، فَرَضِيَهُ الْإِمَامُ ، جَازَ ، لِأَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ رَضُوا بِحُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَعَيَّنُوهُ ، فَرَضِيَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَازَ حُكْمَهُ .
وَقَالَ { لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ } وَإِنْ مَاتَ مَنْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَاتَّفَقُوا عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَصْلُحُ ، قَامَ مُقَامَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى مَنْ يَقُومُ مُقَامَهُ ، أَوْ طَلَبُوا
حَكَمًا لَا يَصْلُحُ ، رُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ ، وَكَانُوا عَلَى الْحِصَارِ حَتَّى يَتَّفِقُوا ، وَكَذَلِكَ إنْ رَضُوا بِاثْنَيْنِ ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا ، فَاتَّفَقُوا عَلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ، جَازَ ، وَإِلَّا رُدُّوا إلَى مَأْمَنِهِمْ وَكَذَلِكَ إنْ رَضُوا بِتَحْكِيمِ مَنْ لَمْ تَجْتَمِعْ الشَّرَائِطُ فِيهِ ، وَوَافَقَهُمْ الْإِمَامُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ ، لَمْ يُحَكَّمْ ، وَيُرَدُّونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ كَمَا كَانُوا .
وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ ، فَإِنْ حَكَمَ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ ، نُفِّذَ حُكْمُهُ لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ } وَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى الْمُقَاتِلَةِ ، وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ فَقَالَ الْقَاضِي : يَلْزَمُ حُكْمُهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ إلَيْهِ فِيمَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ ، فَكَانَ لَهُ الْمَنُّ ، كَالْإِمَامِ فِي الْأَسِيرِ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَلْزَمُ ، لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ ، وَلَا حَظَّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْمَنِّ وَإِنْ حَكَمَ بِالْمَنِّ عَلَى الذُّرِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَمْلِكُ الْمَنَّ عَلَى الذُّرِّيَّةِ إذَا سُبُوا فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ ، وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَتَعَيَّنْ السَّبْيُ فِيهِمْ ، بِخِلَافِ مَنْ سُبِيَ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْفِدَاءِ جَازَ لِأَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرُ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ ، وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ .
فَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ وَإِنْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ لَمْ يَلْزَمْ حُكْمُهُ ، لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّرَاضِي ، وَلِذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ إجْبَارَ الْأَسِيرِ عَلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ .
وَإِنْ حَكَمَ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ جَازَ لِلْإِمَامِ الْمَنُّ عَلَى
بَعْضِهِمْ ، { لِأَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ فِي الزُّبَيْرِ بْنِ بَاطَا ، مِنْ قُرَيْظَةَ ، وَمَالِهِ ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجَابَهُ } .
وَيُخَالِفُ مَالَ الْغَنِيمَةِ إذَا حَازَهُ الْمُسْلِمُونَ ، لِأَنَّ مِلْكَهُمْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ وَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ ، عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا وَهُمْ أَحْرَارٌ ، وَأَمْوَالُهُمْ لَهُمْ ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ ، بِخِلَافِ الْأَسِيرِ ، فَإِنَّ الْأَسِيرَ قَدْ ثَبَتَتْ الْيَدُ عَلَيْهِ ، كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الذُّرِّيَّةِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ .
وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ ، نَظَرْت ، فَإِنْ كَانَ قَدْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ ، سَقَطَ ، لِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ عَصَمَ دَمَهُ ، وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ ، لِأَنَّهُمْ أَسْلَمُوا قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِمْ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَيَحْتَمِلُ جَوَازُ اسْتِرْقَاقِهِمْ ، كَمَا لَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْأَسْرِ ، وَيَكُونُ الْمَالُ عَلَى مَا حَكَمَ فِيهِ ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَنَّ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ ، كَانَ غَنِيمَةً ، لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ بِالْقَهْرِ وَالْحَصْرِ .
( 7619 ) مَسْأَلَةٌ ، قَالَ : ( وَإِذَا خُلِّيَ الْأَسِيرُ مِنَّا ، وَحَلَفَ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِشَيْءٍ يُعَيِّنُهُ أَوْ يَعُودَ إلَيْهِمْ ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ ، لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِمْ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْأَسِيرَ إذَا خَلَّيْهِ الْكُفَّارُ ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِفِدَائِهِ أَوْ يَعُودَ إلَيْهِمْ ، نَظَرْت ، فَإِنْ أَكْرَهُوهُ بِالْعَذَابِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ لَهُمْ بِرُجُوعٍ وَلَا فِدَاءٍ ، لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ فَلَمْ يَلْزَمْهُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } وَإِنْ لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ ، وَقَدَرَ عَلَى الْفِدَاءِ الَّذِي الْتَزَمَهُ ، لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، أَيْضًا : لَا يَلْزَمُهُ ، لِأَنَّهُ حُرٌّ لَا يَسْتَحِقُّونَ بَدَلَهُ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } { وَلَمَّا صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا وَفَّى لَهُمْ بِذَلِكَ .
وَقَالَ : إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ } وَلِأَنَّ فِي الْوَفَاءِ مَصْلَحَةً لِلْأُسَارَى ، وَفِي الْغَدْرِ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِمْ ، لِأَنَّهُمْ لَا يُؤَمَّنُونَ بَعْدَهُ ، وَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ ، كَمَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْهُدْنَةِ ، وَلِأَنَّهُ عَاهَدَهُمْ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ ، فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ ، وَالْمَشْرُوطُ فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ شَرْطُهُ ، وَمَا ذَكَرُوهُ بَاطِلٌ بِمَا إذَا شَرَطَ رَدَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا ، أَوْ شَرَطَ لَهُمْ مَالًا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ .
فَأَمَّا إنْ عَجَزَ عَنْ الْفِدَاءِ ، نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ الْمُفَادَى امْرَأَةً ، لَمْ تُرْجَعْ إلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهَا ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } وَلِأَنَّ فِي
رُجُوعِهَا تَسْلِيطًا لَهُمْ عَلَى وَطْئِهَا حَرَامًا ، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ رَدَّ النِّسَاءِ إلَى الْكُفَّارِ بَعْدَ صُلْحِهِ عَلَى رَدِّهِنَّ فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَفِيهَا : فَجَاءَ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَنَهَاهُمْ اللَّهُ أَنْ يَرُدُّوهُنَّ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ رَجُلًا ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، إحْدَاهُمَا ، لَا يُرْجَعُ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ مَعْصِيَةٌ فَلَمْ يَلْزَمُ بِالشَّرْطِ ، كَمَا لَوْ كَانَ امْرَأَةً ، وَكَمَا لَوْ شَرَطَ قَتْلَ مُسْلِمٍ ، أَوْ شُرْبَ الْخَمْرِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَلْزَمُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِي بَعْثِ الْفِدَاءِ { وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَاهَدَ قُرَيْشًا عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا ، وَرَدَّ أَبَا بَصِيرٍ وَقَالَ : إنَّا لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ } وَفَارَقَ رَدَّ الْمَرْأَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ ، حِينَ صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا عَلَى رَدِّ مَنْ جَاءَهُ مِنْهُمْ مُسْلِمًا ، فَأَمْضَى اللَّهُ ذَلِكَ فِي الرِّجَالِ ، وَنَسَخَهُ فِي النِّسَاءِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ تَقَدَّمَتْ .
( 7620 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَطْلَقُوهُ وَآمَنُوهُ ، صَارُوا فِي أَمَانٍ مِنْهُ لِأَنَّ أَمَانَهُمْ لَهُ يَقْتَضِي سَلَامَتَهُمْ مِنْهُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْمُضِيُّ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، لَزِمَهُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَقَامَ ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَخَذَ فِي الْخُرُوجِ ، فَأَدْرَكُوهُ وَتَبِعُوهُ ، قَاتَلَهُمْ ، وَبَطَلَ الْأَمَانُ لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ الْمُقَامَ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ ، فَأَمَّا إنْ أَطْلَقُوهُ وَلَمْ يُؤَمِّنُوهُ ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا قَدَرَ ، عَلَيْهِ وَيَسْرِقَ وَيَهْرَبَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَمِّنْهُمْ وَلَمْ يُؤَمِّنُوهُ ، وَإِنْ أَطْلَقُوهُ ، وَشَرَطُوا عَلَيْهِ الْمُقَامَ عِنْدَهُمْ ، لَزِمَهُ مَا شَرَطُوا عَلَيْهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَلْزَمُهُ فَأَمَّا إنْ أَطْلَقُوهُ عَلَى أَنَّهُ رَقِيقٌ لَهُمْ ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَهُ أَنْ يَسْرِقَ وَيَهْرَبَ وَيَقْتُلَ ، لِأَنَّ كَوْنَهُ رَقِيقًا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ، لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَقْتَضِ أَمَانًا لَهُ مِنْهُمْ ، وَلَا لَهُمْ مِنْهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَإِنْ أَحَلَفُوا عَلَى هَذَا ، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْيَمِينِ ، لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَارًا فَحَنِثَ ، كَفَّرَ يَمِينَهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَلْزَمَهُ الْإِقَامَةُ ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُلْزِمُهُ الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ .
( 7621 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى الْأَسِيرُ شَيْئًا مُخْتَارًا ، أَوْ اقْتَرَضَهُ ، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ ، وَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ لَهُمْ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُ الْأَسِيرِ ، وَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا ، لَمْ يَصِحَّ ، فَإِنْ أَكْرَهُوهُ عَلَى قَبْضِهِ ، لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَيْهِمْ إنْ كَانَ بَاقِيًا ، لِأَنَّهُمْ دَفَعُوهُ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ قَبَضَهُ بِاخْتِيَارِهِ ، ضَمِنَهُ ، لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَإِنْ بَاعَهُ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ لَزِمَهُ رَدُّهَا ، لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ عَدِمَتْ الْعَيْنُ ، رَدَّ قِيمَتَهَا .
( 7622 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ ( وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْرَبَ مِنْ كَافِرَيْنِ ، وَمُبَاحٌ لَهُ أَنْ يَهْرَبَ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، فَإِنْ خَشِيَ الْأَسْرَ ، قَاتَلَ حَتَّى يُقْتَلَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ ، وَجَبَ الثَّبَاتُ ، وَحَرُمَ الْفِرَارُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } { وَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ ، فَعَدَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ } .
وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ هَذَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ خَاصَّةً وَلَا يَجِبُ فِي غَيْرِهَا ، وَالْأَمْرُ مُطْلَقٌ وَخَبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامٌّ ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْيِيدُ وَالتَّخْصِيصُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الثَّبَاتُ بِشَرْطَيْنِ ، أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ زَادُوا عَلَيْهِ جَازَ الْفِرَارُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } .
وَهَذَا إنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْخَبَرِ ، فَهُوَ أَمْرٌ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ } وَلَوْ كَانَ خَبَرًا عَلَى حَقِيقَتِهِ ، لَمْ يَكُنْ رَدُّنَا مِنْ غَلَبَةِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ إلَى غَلَبَةِ الِاثْنَيْنِ تَخْفِيفًا ، وَلِأَنَّ خَبَرَ اللَّهِ تَعَالَى صِدْقٌ لَا يَقَعُ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الظَّفَرَ وَالْغَلَبَةَ لَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ يَكُونُ الْعَدُوُّ فِيهِ ضِعْفَ الْمُسْلِمِينَ فَمَا دُونَ ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ وَفَرْضٌ ، وَلَمْ يَأْتِ شَيْءٌ يَنْسَخُ هَذِهِ الْآيَةَ ، لَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَزَلَتْ : { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا
مِائَتَيْنِ } فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَلَّا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ تَخْفِيفٌ فَقَالَ : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ إلَى قَوْلِهِ : يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْعَدَدِ ، نَقَصَ مِنْ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ مِنْ الْعَدَدِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَنْ فَرَّ مِنْ اثْنَيْنِ ، فَقَدْ فَرَّ ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَرَّ الثَّانِي ، أَنْ لَا يَقْصِدَ بِفِرَارِهِ التَّحَيُّزَ إلَى فِئَةٍ ، وَلَا التَّحَرُّفَ لِقِتَالٍ ، فَإِنْ قَصَدَ أَحَدَ هَذَيْنِ ، فَهُوَ مُبَاحٌ لَهُ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ } .
وَمَعْنَى التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ ، أَنْ يَنْحَازَ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ الْقِتَالُ فِيهِ أَمْكَنَ ، مِثْلُ أَنْ يَنْحَازَ مِنْ مُوَاجَهَةِ الشَّمْسِ ، أَوْ الرِّيحِ إلَى اسْتِدْبَارِهِمَا أَوْ مِنْ نَزْلَةٍ إلَى عُلُوٍّ ، أَوْ مِنْ مَعْطَشَةٍ إلَى مَوْضِعِ مَاءٍ ، أَوْ يَفِرَّ بَيْنَ أَيْدِيهمْ لِتَنْتَقِضَ صُفُوفُهُمْ ، أَوْ تَنْفَرِدَ خَيْلُهُمْ مِنْ رَجَّالَتِهِمْ ، أَوْ لِيَجِدَ فِيهِمْ فُرْصَةً ، أَوْ لِيَسْتَنِدَ إلَى جَبَلٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَوْمًا فِي خُطْبَتِهِ إذْ قَالَ : يَا سَارِيَةُ بْنُ زُنَيْمٍ ، الْجَبَلَ ، ظَلَمَ الذِّئْبَ مَنْ اسْتَرْعَاهُ الْغَنَمَ .
فَأَنْكَرَهَا النَّاسُ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : دَعُوهُ .
فَلَمَّا نَزَلَ سَأَلُوهُ عَمَّا قَالَ ، فَلَمْ يَعْتَرِفْ بِهِ ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَ سَارِيَةَ إلَى نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ لِغَزْوِهِمْ فَلَمَّا قَدِمَ ذَلِكَ الْجَيْشُ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ لَقُوا عَدُوَّهُمْ يَوْمَ جُمُعَةَ ، فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ ، فَسَمِعُوا صَوْتَ عُمَرَ فَتَحَيَّزُوا إلَى الْجَبَلِ ، فَنَجَوْا مِنْ عَدُوِّهِمْ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَمَّا التَّحَيُّزُ إلَى فِئَةٍ ، فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ إلَى فِئَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، لِيَكُونَ مَعَهُمْ ، فَيَقْوَى بِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَسَوَاءٌ بَعُدَتْ
الْمَسَافَةُ أَوْ قَرُبَتْ .
قَالَ الْقَاضِي : لَوْ كَانَتْ الْفِئَةُ بِخُرَاسَانَ .
وَالْفِئَةُ بِالْحِجَازِ ، جَازَ التَّحَيُّزُ إلَيْهَا وَنَحْوَهُ ذَكَرَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنِّي فِئَةٌ لَكُمْ وَكَانُوا بِمَكَانٍ بَعِيدٍ مِنْهُ } وَقَالَ عُمَرُ أَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ .
وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ وَجُيُوشُهُ بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانِ رَوَاهُمَا سَعِيدٌ .
وَقَالَ عُمَرُ رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عُبَيْدَةَ لَوْ كَانَ تَحَيَّزَ إلَيَّ لَكُنْت لَهُ فِئَةً وَإِذَا خَشِيَ الْأَسْرَ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ حَتَّى يُقْتَلَ ، وَلَا يُسْلِمَ نَفْسَهُ لِلْأَسْرِ ، لِأَنَّهُ يَفُوزُ بِثَوَابِ الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ ، وَيَسْلَمُ مِنْ تَحَكُّمِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالْفِتْنَةِ .
وَإِنْ اسْتَأْسَرَ جَازَ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَشَرَةً عَيْنًا ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ ، فَنَفَرَتْ إلَيْهِمْ هُذَيْلٌ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ ، لَجَئُوا إلَى فَدَدٍ فَقَالُوا لَهُمْ : انْزِلُوا فَأَعْطُونَا مَا بِأَيْدِيكُمْ ، وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَنْ لَا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا فَقَالَ عَاصِمٌ : .
أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ مَعَهُ ، وَنَزَلَ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ ، أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ ، فَرَبَطُوهُمْ بِهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَعَاصِمٌ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ ، وَخُبَيْبٌ وَزَيْدٌ أَخَذَا بِالرُّخْصَةِ ، وَكُلُّهُمْ مَحْمُودٌ غَيْرُ مَذْمُومٍ وَلَا مَلُومٍ .
( 7623 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْعَدُوُّ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ ، فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُسْلِمِينَ الظَّفَرُ ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ الثَّبَاتُ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، وَإِنْ انْصَرَفُوا جَازَ ، لِأَنَّهُمْ لَا يَأْمَنُونَ الْعَطَبَ وَالْحُكْمُ عُلِّقَ عَلَى مَظِنَّتِهِ ، وَهُوَ كَوْنُهُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ عَدَدِهِمْ ، وَلِذَلِكَ لَزِمَهُمْ الثَّبَاتُ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الْهَلَاكُ فِيهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُمْ الثَّبَاتُ إنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الظَّفَرُ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الْهَلَاكُ فِي الْإِقَامَةِ ، وَالنَّجَاةُ فِي الِانْصِرَافِ فَالْأَوْلَى لَهُمْ الِانْصِرَافُ ، وَإِنْ ثَبَتُوا جَازَ ، لِأَنَّ لَهُمْ غَرَضًا فِي الشَّهَادَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَغْلِبُوا أَيْضًا وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ الْهَلَاكُ فِي الْإِقَامَةِ وَالِانْصِرَافِ ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ الثَّبَاتُ ، لِيَنَالُوا دَرَجَةَ الشُّهَدَاءِ الْمُقْبِلِينَ عَلَى الْقِتَالِ مُحْتَسَبِينَ ، فَيَكُونُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْمُوَلِّينَ ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَغْلِبُوا أَيْضًا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَلِذَلِكَ صَبَرَ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ ، فَقَاتَلُوا حَتَّى أَكْرَمَهُمْ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ .
( 7624 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَاءَ الْعَدُوُّ بَلَدًا ، فَلِأَهْلِهِ التَّحَصُّنُ مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِمْ لِيَلْحَقَهُمْ مَدَدٌ أَوْ قُوَّةٌ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَوَلِّيًا وَلَا فِرَارًا ، إنَّمَا التَّوَلِّي بَعْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ وَإِنْ لَقُوهُمْ خَارِجَ الْحِصْنِ فَلَهُمْ التَّحَيُّزُ إلَى الْحِصْنِ ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّحَرُّفِ لِلْقِتَالِ ، أَوْ التَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ .
وَإِنْ غَزَوْا فَذَهَبَتْ دَوَابُّهُمْ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْفِرَارِ ، لِأَنَّ الْقِتَالَ مُمْكِنٌ لِلرَّجَّالَةِ وَإِنْ تَحَيَّزُوا إلَى جَبَلٍ لِيُقَاتِلُوا فِي رَجَّالَةٍ ، فَلَا بَأْسَ ، لِأَنَّهُ تَحَرُّفٌ لِلْقِتَالِ وَإِنْ ذَهَبَ سِلَاحُهُمْ ، فَتَحَيَّزُوا إلَى مَكَان يُمْكِنُهُمْ الْقِتَالُ فِيهِ بِالْحِجَارَةِ ، وَالتَّسَتُّرُ بِالشَّجَرِ وَنَحْوِهِ أَوْ لَهُمْ فِي التَّحَيُّزِ إلَيْهِ فَائِدَةٌ جَازَ .
( 7625 ) فَصْلٌ : فَإِنْ وَلَّى قَوْمٌ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ ، وَأَحْرَزَهَا الْبَاقُونَ ، فَلَا شَيْءَ لِلْفَارِّينَ ، لِأَنَّ إحْرَازَهَا حَصَلَ بِغَيْرِهِمْ ، فَكَانَ مِلْكُهَا لِمَنْ أَحْرَزَهَا وَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ فَرُّوا مُتَحَيِّزِينَ إلَى فِئَةٍ ، أَوْ مُتَحَرِّفِينَ لِلْقِتَالِ ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ أَيْضًا ، لِذَلِكَ وَإِنْ فَرُّوا بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ ، لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُمْ مِنْهَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا الْغَنِيمَةَ بِحِيَازَتِهَا ، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُمْ عَنْهَا بِفِرَارِهِمْ
( 7626 ) فَصْلٌ : فَإِذَا أَلْقَى الْكُفَّارُ نَارًا فِي سَفِينَةٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ فَاشْتَعَلَتْ فِيهَا ، فَمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ السَّلَامَةُ فِيهِ ، مِنْ بَقَائِهِمْ فِي مَرْكَبِهِمْ ، أَوْ إلْقَاءِ نُفُوسِهِمْ فِي الْمَاءِ ، فَالْأَوْلَى لَهُمْ فِعْلُهُ ، وَإِنْ اسْتَوَى عِنْدَهُمْ الْأَمْرَانِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ كَيْفَ شَاءَ يَصْنَعُ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ هُمَا مَوْتَتَانِ ، فَاخْتَرْ أَيْسَرَهُمَا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ الْمُقَامُ ، لِأَنَّهُمْ إذَا رَمَوْا نُفُوسَهُمْ فِي الْمَاءِ ، كَانَ مَوْتُهُمْ بِفِعْلِهِمْ ، وَإِنْ أَقَامُوا فَمَوْتُهُمْ بِفِعْلِ غَيْرِهِمْ .
( 7627 ) مَسْأَلَةٌ ، قَالَ : ( وَمَنْ أَجَرَ نَفْسَهُ ، بَعْدَ أَنْ غَنِمُوا ، عَلَى حِفْظِ الْغَنِيمَةِ ، فَمُبَاحٌ لَهُ مَا أَخَذَ ، إنْ كَانَ رَاجِلًا ، أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يَمْلِكُهَا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْغَنِيمَةَ إذَا احْتَاجَتْ إلَى مَنْ يَحْفَظُهَا ، أَوْ سَوْقِ الدَّوَابِّ الَّتِي هِيَ مِنْهَا ، أَوْ يَرْعَاهَا ، أَوْ يَحْمِلُهَا ، فَإِنْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَيُؤَدِّيَ أُجْرَتَهَا مِنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤْنَتِهَا ، فَهُوَ كَعَلَفِ الدَّوَابِّ ، وَطَعَامِ السَّبْيِ ، وَمَنْ أَجَرَ نَفْسَهُ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَهُ أُجْرَتُهُ مُبَاحَةً ، لِأَنَّهُ أَجَرَ نَفْسَهُ لِفِعْلٍ بِالْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ حَاجَةٌ ، فَحَلَّتْ لَهُ أُجْرَتُهُ كَمَا لَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ عَلَى الدَّلَالَةِ إلَى الطَّرِيقِ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : إنْ كَانَ رَاجِلًا أَوْ عَلَى دَابَّةٍ يَمْلِكُهَا .
فَإِنَّهُ يَعْنِي بِهِ لَا يَرْكَبُ مِنْ دَوَابِّ الْمَغْنَمِ ، وَلَا فَرَسًا حَبِيسًا .
قَالَ أَحْمَدُ لَا بَأْسَ أَنْ يُؤَجِّرَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ عَلَى دَابَّتِهِ وَكَرِهَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْقَوْمَ عَلَى سِبَاقِ الرَّمَكِ عَلَى فَرَسٍ حَبِيسٍ ، لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُ الْفَرَسَ الْمَوْقُوفَةَ لِلْجِهَادِ فِيمَا يَخْتَصُّ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ فَإِنْ أَجَرَ نَفْسَهُ ، فَرَكِبَ الدَّابَّةَ الْحَبِيسَ ، أَوْ دَابَّةً مِنْ الْمَغْنَمِ ، لَمْ تَطِبْ لَهُ أُجْرَةٌ ، لِأَنَّ الْمُعِينَ لَهُ عَلَى الْعَمَلِ يَخْتَصُّ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيهِ دَوَابَّ الْمَغْنَمِ ، وَلَا دَوَابَّ الْحَبِيسِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ بِقَدْرِ أَجْرِ الدَّابَّةِ ، يُرَدُّ فِي الْغَنِيمَةِ إنْ كَانَتْ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، أَوْ يُصْرَفَ فِي نَفَقَةِ دَوَابِّ الْحَبِيسِ إنْ كَانَ الْفَرَسُ حَبِيسًا .
( 7628 ) فَصْلٌ : فَإِنْ شَرَطَ فِي الْإِجَارَةِ رُكُوبَ دَابَّةٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أُجْرَةٍ تُدْفَعُ مِنْ الْمَغْنَمِ .
وَلَوْ أَجَرَ نَفْسَهُ بِدَابَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الْمَغْنَمِ ، صَحَّ فَإِذَا جَعَلَ أَجْرَهُ رُكُوبَهَا ، كَانَ أَوْلَى ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ
مَجْهُولًا ، فَلَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ إجَارَتِهَا كَوْنَ عِوَضِهَا مَعْلُومًا .
وَإِنْ شَرَطَ فِي الْإِجَارَةِ رُكُوبَ دَابَّةٍ مِنْ الْحَبِيسِ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهَا إنَّمَا حُبِسَتْ عَلَى الْجِهَادِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِجِهَادٍ ، إنَّمَا هُوَ نَفْعٌ لِأَهْلِ الْغَنِيمَةِ
( 7629 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ مِنْ الْغَنِيمَةِ بِرُكُوبِ دَابَّةٍ مِنْهَا وَلَا لُبْسِ ثَوْبٍ مِنْ ثِيَابِهَا ، لِمَا رَوَى رُوَيْفِعُ بْنُ ثَابِتٍ ، قَالَ : لَا أَقُولُ لَكُمْ إلَّا مَا سَمِعْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ { : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ ، حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا ، رَدَّهَا فِيهِ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ ، حَتَّى إذَا أَخْلَقَهُ ، رَدَّهُ فِيهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ بُلَيْدَةٌ قَالَ : { أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى ، فَقُلْت : مَا تَقُولُ فِي الْغَنِيمَةِ ؟ فَقَالَ : لِلَّهِ خُمُسُهَا ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْجَيْشِ فَقُلْت : فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ أَحَدٌ ؟ قَالَ : لَا ، وَلَا السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِنْ جَنْبِك أَنْتَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ أَخِيك الْمُسْلِمِ } رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَأَهْلِ الْخُمْسِ ، فَلَمْ يَجُزْ لِوَاحِدٍ الِاخْتِصَاصُ بِمَنْفَعَتِهِ ، كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرَكَةِ ، فَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْقِتَالِ بِسِلَاحِهِمْ ، فَلَا بَأْسَ قَالَ أَحْمَدُ إذَا كَانَ أَنْكَى فِيهِمْ ، أَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ ، فَنَعَمْ وَذَكَرَ حَدِيثَ سَيْف أَبِي جَهْلٍ .
وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ : انْتَهَيْت إلَى أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَقَدْ ضُرِبَتْ رِجْلُهُ ، فَقُلْت : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْزَاك يَا أَبَا جَهْلٍ فَأَضْرِبُهُ بِسَيْفٍ مَعِي غَيْرِ طَائِلٍ ، فَوَقَعَ سَيْفُهُ مِنْ يَدِهِ ، فَأَخَذْت سَيْفَهُ ، فَضَرَبْته بِهِ حَتَّى بَرَدَ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَفِي رُكُوبِ الْفَرَسِ لِلْجِهَادِ رِوَايَتَانِ ، إحْدَاهُمَا ، يَجُوزُ ، كَمَا يَجُوزُ فِي السِّلَاحِ ، وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّهَا تَتَعَرَّضُ لِلْعَطَبِ غَالِبًا ، وَقِيمَتُهَا كَثِيرَةٌ ، بِخِلَافِ السِّلَاحِ .
( 7630 ) مَسْأَلَةٌ ، قَالَ : ( وَمَنْ لَقِيَ عِلْجًا ، فَقَالَ لَهُ : قِفْ ، أَوْ : أَلْقِ سِلَاحَك فَقَدْ أَمَّنَهُ ) .
قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ ، وَنَذْكُرُ هَاهُنَا صِفَةَ الْأَمَانِ ، فَاَلَّذِي وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ لَفْظَتَانِ ؛ أَجَرْتُك وَأَمَّنْتُك لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت ، وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْت } .
وَقَالَ : { مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ } .
وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ إذَا قَالَ : لَا تَخَفْ ، لَا تَذْهَلْ ، لَا تَخْشَ ، لَا خَوْفَ عَلَيْك ، لَا بَأْسَ عَلَيْك وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا قُلْتُمْ : لَا بَأْسَ ، أَوْ لَا تَذْهَلْ ، أَوْ مَتْرَسٌ فَقَدْ أَمَّنْتُمُوهُمْ .
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ : لَا تَخَفْ فَقَدْ أَمَّنَهُ ، وَإِذَا قَالَ : لَا تَذْهَلْ .
فَقَدْ أَمَّنَهُ .
فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِلْهُرْمُزَانِ : تَكَلَّمْ ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْك .
فَلَمَّا تَكَلَّمَ ، أَمَرَ عُمَرُ بِقَتْلِهِ ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لَيْسَ لَك إلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ ، قَدْ أَمَّنْته فَقَالَ عُمَرُ كَلًّا ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ قَدْ قُلْت لَهُ : تَكَلَّمْ ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْك فَدَرَأَ عَنْهُ عُمَرُ الْقَتْلَ رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ .
وَهَذَا كُلُّهُ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا فَأَمَّا إنْ قَالَ لَهُ : قُمْ ، أَوْ قِفْ ، أَوْ أَلْقِ سِلَاحَك .
فَقَالَ أَصْحَابُنَا : هُوَ أَمَانٌ أَيْضًا ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَعْتَقِدُ هَذَا أَمَانًا ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ : أَمَّنْتُك وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إنْ ادَّعَى الْكَافِرُ أَنَّهُ آمِنٌ ، أَوْ قَالَ : إنَّمَا وَقَفْت لِنِدَائِك فَهُوَ آمِنٌ ، إنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ .
.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَمَانٍ ، لِأَنَّ لَفْظَهُ لَا يُشْعِرُ بِهِ ، وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِرْهَابِ وَالتَّخْوِيفِ ، فَلَمْ يَكُنْ أَمَانًا ، لِقَوْلِهِ
: لَأَقْتُلَنَّك لَكِنْ يُرْجَعُ إلَى الْقَائِلِ ، فَإِنْ قَالَ : نَوَيْت بِهِ الْأَمَانَ .
فَهُوَ أَمَانٌ ، وَإِنْ قَالَ : لَمْ أَرُدُّ أَمَانَهُ .
نَظَرْنَا فِي الْكَافِرِ ، فَإِنْ قَالَ : اعْتَقَدْته أَمَانًا رُدَّ إلَى مَأْمَنِهِ ، وَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ أَمَانًا فَلَيْسَ بِأَمَانٍ ، كَمَا لَوْ أَشَارَ إلَيْهِمْ بِمَا اعْتَقَدُوهُ أَمَانًا .
( 7631 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَشَارَ الْمُسْلِمُ إلَيْهِمْ بِمَا يَرَوْنَهُ أَمَانًا وَقَالَ : أَرَدْت بِهِ الْأَمَانَ فَهُوَ أَمَانٌ وَإِنْ قَالَ : لَمْ أُرِدْ بِهِ الْأَمَانَ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ فَإِنْ خَرَجَ الْكُفَّارُ مِنْ حِصْنِهِمْ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْإِشَارَةِ ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ ، وَلَكِنْ يَرُدُّونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ .
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَاَللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ إلَى السَّمَاءِ إلَى مُشْرِكٍ ، فَنَزَلَ بِأَمَانِهِ ، فَقَتَلَهُ ، لَقَتَلْته بِهِ رَوَاهُ سَعِيدٌ وَإِنْ مَاتَ الْمُسْلِمُ أَوْ غَابَ ، فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَ إلَى مَأْمَنِهِمْ ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ صَحَّحْتُمْ الْأَمَانَ بِالْإِشَارَةِ ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ؟ قُلْنَا : تَغْلِيبًا لِحَقْنِ الدَّمِ ، كَمَا حُقِنَ دَمُ مَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ دَمِهِ ، وَلِأَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْغَالِبِ لَا يَفْهَمُونَ كَلَامَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَفْهَمُونَ كَلَامَهُمْ ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّكْلِيمِ بِالْإِشَارَةِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ
( 7632 ) فَصْلٌ : إذَا سُبِيَتْ كَافِرَةٌ ، فَجَاءَ ابْنُهَا يَطْلُبُهَا ، وَقَالَ : إنَّ عِنْدِي أَسِيرًا مُسْلِمًا فَأَطْلِقُوهَا حَتَّى أُحْضِرَهُ .
فَقَالَ الْإِمَامُ : أَحْضِرْهُ فَأَحْضَرَهُ ، لَزِمَ إطْلَاقُهَا لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا إجَابَتُهُ إلَى مَا سَأَلَ وَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ : لَمْ أُرِدْ إجَابَتَهُ ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى تَرْكِ أَسِيرِهِ ، وَرُدَّ إلَى مَأْمَنِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : يُطْلَقُ الْأَسِيرُ ، وَلَا تُطْلَقُ الْمُشْرِكَةُ ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ حُرٌّ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِمَمْلُوكَةٍ وَيُقَالُ لَهُ : إنْ اخْتَرْت شِرَاءَهَا ، فَأْتِ بِثَمَنِهَا وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ الشَّرْطُ ، فَيَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ فَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ ، وَبَنَى عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَهِمَ الْأَمَانَ مِنْ الْإِشَارَةِ ، وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْحُرَّ لَا يَكُونُ ثَمَنَ مَمْلُوكَةٍ .
قُلْنَا : لَكِنْ يَصِحُّ أَنْ يُفَادَى بِهَا ، فَقَدْ فَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَسِيرَةِ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَفَادَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَسِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ ، وَوَفَّى لَهُمْ بِرَدِّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا ، وَقَالَ { : إنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ } وَإِنْ كَانَ رَدُّ الْمُسْلِمِ إلَيْهِمْ لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُمْ ، وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ إطْلَاقَهَا ، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } وَقَوْلِهِ : { إنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ .
}
( 7633 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ ، أَوْ لِوَلَدِهِ ، أَوْ لِسَيِّدِهِ ، لَمْ يُقْطَعْ ) يَعْنِي إذَا كَانَ السَّارِقُ بَعْضَ الْغَانِمِينَ ، أَوْ أَبَاهُ ، أَوْ سَيِّدَهُ ، فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ لَهُ شُبْهَةً وَهُوَ حَقُّهُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ قَطْعِهِ ، لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَقَ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَهَكَذَا إنْ كَانَ لِابْنِهِ وَإِنْ عَلَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ .
وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فِيهَا حَقٌّ لَمْ يُقْطَعْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِمْ ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِيهَا حَقٌّ فَسَرَقَ مِنْهَا الْآخِرُ ، لَمْ يُقْطَعْ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى أَنَّ أَحَدَهُمَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الْآخَرِ .
وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذَا
( 7634 ) فَصْلٌ : وَالسَّارِقُ مِنْ الْغَنِيمَةِ غَيْرُ الْغَالِّ ، فَلَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي إحْرَاقِ رَحْلِهِ ، وَلَا يَجْرِي الْغَالُّ مَجْرَى السَّارِقِ فِي قَطْعِ يَدِهِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ السَّارِقَ يُحْرَقُ رَحْلُهُ ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْغَالِّ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ ، وَجَبَ أَنْ يُشْرَعَ فِي حَقِّهِ عُقُوبَةٌ أُخْرَى ، كَسَارِقِ الثَّمَرِ يَغْرَمُ مِثْلَيْ مَا سَرَقَ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغَالِّ حَقِيقَةً ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ الْغُلُولَ يَكْثُرُ ، لِكَوْنِهِ أَخْذَ مَالٍ لَا حَافِظَ لَهُ ، وَلَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ غَالِبًا فَيَحْتَاجُ إلَى زَاجِرٍ عَنْهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ السَّرِقَةُ ، فَإِنَّهَا أَخْذُ مَالٍ مَحْفُوظٍ ، فَالْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ أَقَلُّ .
( 7635 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةً قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ ، أُدِّبَ ، وَلَمْ يُبْلَغْ بِهِ حَدُّ الزَّانِي ، وَأُخِذَ مِنْهُ مَهْرُ مِثْلِهَا ، فَطُرِحَ فِي الْمَقْسَمِ ، إلَّا أَنْ تَلِدَ مِنْهُ ، فَتَكُونَ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا ) .
يَعْنِي إذَا كَانَ الْوَاطِئُ مِنْ الْغَانِمِينَ ، أَوْ مِمَّنْ لِوَلَدِهِ فِيهَا حَقٌّ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُت لِلْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ ، فَيَكُونُ لِلْوَاطِئِ حَقٌّ فِي هَذِهِ الْجَارِيَةِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا ، فَيُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ : عَلَيْهِ الْحَدُّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَهَذَا زَانٍ ، وَلِأَنَّهُ وَطِئَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ ، عَامِدًا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَلَزِمَهُ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ كُلُّ مَنْ سَلَفَ مِنْ عُلَمَائِنَا يَقُولُ : عَلَيْهِ أَدْنَى الْحَدَّيْنِ ، مِائَةُ جَلْدَةٍ ، وَمَنَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَقَالَ : إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْأَخْبَارِ بِدَلِيلِ أَنَّ أَحَدَهُمْ لَوْ قَالَ : أَسْقَطْت حَقِّي .
سَقَطَ ، وَلَوْ ثَبَتَ مِلْكُهُ ، لَمْ يَزُلْ بِذَلِكَ ، كَالْوَارِثِ .
وَلَنَا ، أَنَّ لَهُ فِيهَا شُبْهَةَ الْمِلْكِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَجَارِيَةِ ابْنِهِ ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ هَذَا ، وَمَنْعُ الْمِلْكِ لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ ، قَدْ زَالَ ، وَلَا يَزُولُ ، إلَّا إلَى مَالِكٍ ، وَلِأَنَّهُ تَصِحُّ قِسْمَتُهُ ، وَيَمْلِكُ الْغَانِمُونَ طَلَبَ قِسْمَتِهَا ، فَأَشْبَهَتْ مَالَ الْوَارِثِ ، إنَّمَا كَثُرَ الْغَانِمُونَ فَقَلَّ نَصِيبُ الْوَاطِئِ ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، وَكَانَ لِلْإِمَامِ تَعْيِينُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِالْإِسْقَاطِ ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ .
وَضَعْفُ الْمِلْكِ لَا يُخْرِجُهُ
عَنْ كَوْنِهِ شُبْهَةً فِي الْحَدِّ الَّذِي يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِأَدْنَى شَيْءٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فَهُوَ شُبْهَةٌ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ ، وَلَا يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدُّ ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَهْرُ مِثْلِهَا ، فَيُطْرَحُ فِي الْمَقْسَمِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ الْمَهْرِ قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنْهَا ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَقِيَّتُهُ ، كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّنَا إذَا أَسْقَطْنَا عَنْهُ حِصَّتَهُ ، وَأَخَذْنَا الْبَاقِيَ فَطَرَحْنَاهُ فِي الْمَغْنَمِ ، ثُمَّ قَسَمْنَاهُ عَلَى الْجَمِيعِ وَهُوَ فِيهِمْ ، عَادَ إلَيْهِ سَهْمٌ مِنْ حِصَّةِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ قَدْرَ حِصَّتِهِ قَدْ لَا تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ ، لِقِلَّةِ الْمَهْرِ وَكَثْرَةِ الْغَانِمِينَ ، ثُمَّ إذَا أَخَذْنَاهُ ، فَإِنْ قَسَمْنَاهُ مُفْرَدًا عَلَى مَنْ سِوَاهُ ، لَمْ يُمْكِنْ ، وَإِنْ خَلَطْنَاهُ بِبَقِيَّةِ الْغَنِيمَةِ ، ثُمَّ قَسَمْنَاهُ عَلَى الْجَمِيعِ ، أَخَذَ سَهْمًا مِمَّا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ ، يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ رَقِيقٌ ، لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ، لِأَنَّ الْغَانِمِينَ إنَّمَا يَمْلِكُونَ بِالْقِسْمَةِ ، فَقَدْ صَادَفَ وَطْؤُهُ غَيْرَ مِلْكِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ ، فَيَلْحَقُ فِيهِ النَّسَبُ ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ ، وَيُفَارِقُ الزِّنَى ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْأَمَةَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فِي الْحَالِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِلْكًا لَهُ .
فَإِذَا مَلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَهَلْ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ ؟ فِيهَا قَوْلَانِ ، وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ ،
فَتَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، كَوَطْءِ جَارِيَةِ ابْنِهِ ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِجَارِيَةِ الِابْنِ ، وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرُوهُ ، فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِي الْغَنِيمَةِ بِمُجَرَّدِ الِاغْتِنَامِ ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا تُطْرَحَ فِي الْمَغْنَمِ ، لِأَنَّهُ فَوَّتَهَا عَلَيْهِمْ ، وَأَخْرَجَهَا مِنْ الْغَنِيمَةِ بِفِعْلِهِ ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا ، كَمَا لَوْ قَتَلَهَا ، فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ قِيمَتُهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ مُعْسِرًا حُسِبَ قَدْرُ حِصَّتِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَبَاقِيهَا رَقِيقٌ لِلْغَانِمِينَ ، لِأَنَّ كَوْنَهَا أُمَّ وَلَدٍ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالسِّرَايَةِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَسْرِ فِي حَقِّ الْمُعْسِرِ ، كَالْإِعْتَاقِ ، وَلَنَا ، أَنَّهُ اسْتِيلَادٌ جَعَلَ بَعْضَهَا أُمَّ وَلَدٍ ، فَيَجْعَلُ جَمِيعَهَا أُمَّ وَلَدٍ ، كَاسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الِابْنِ ، وَفَارَقَ الْعِتْقَ ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ أَقْوَى ، لِكَوْنِهِ فِعْلًا ، وَيَنْفُذُ مِنْ الْمَجْنُونِ .
فَأَمَّا قِيمَةُ الْوَلَدِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ ، إحْدَاهُمَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ حِينَ وَضْعِهِ ، تُطْرَحُ فِي الْمَغْنَمِ ، لِأَنَّهُ فَوَّتَ رِقَّهُ ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمَغْرُورِ ، وَالثَّانِيَةُ ، لَا تَلْزَمُهُ ، ، لِأَنَّهُ مَلَكَهَا حِينَ عَلِقَتْ ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْغَانِمِينَ فِي الْوَلَدِ بِحَالٍ ، فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْأَبِ مِنْ جَارِيَةِ ابْنِهِ إذَا وَطِئَهَا ، وَلِأَنَّهُ يَعْتِقُ حِينَ عُلُوقِهِ ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ حِينَئِذٍ ، وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا صَارَ نِصْفُهَا أُمَّ وَلَدٍ ، يَكُونُ الْوَلَدُ كُلُّهُ حُرًّا ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ نِصْفِهِ .
( 7636 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى بَعْضِ الْغَانِمِينَ ، نَظَرْت ، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمَّ عَلِيٍّ ، وَعَقِيلًا أَخَا عَلِيٍّ كَانَا فِي أَسْرَى بَدْرٍ ، فَلَمْ يَعْتِقَا عَلَيْهِمَا وَلِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَصِيرُ رَقِيقًا بِنَفْسِ السَّبْيِ وَإِنْ اُسْتُرِقَّ ، أَوْ كَانَ الْأَسِيرُ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا عَتَقَ عَلَيْهِ قَدْرُ نَصِيبِهِ وَسَرَى إلَى بَاقِيه إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ إلَّا مِلْكُهُ مِنْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِمُجَرَّدِ الِاغْتِنَامِ ، وَلَوْ مَلَكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُهُ فِيهِ ، وَإِنْ قَسَمَهُ ، وَجَعَلَهُ فِي نَصِيبِهِ وَاخْتَارَ تَمَلُّكَهُ ، عَتَقَ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ جُعِلَ لَهُ بَعْضُهُ ، فَاخْتَارَ تَمَلُّكَهُ ، عَتَقَ عَلَيْهِ وَقُوِّمَ عَلَيْهِ الْبَاقِي .
وَلَنَا ، مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْغَانِمِينَ لِكَوْنِ الِاسْتِيلَاءِ التَّامِّ وُجِدَ مِنْهُمْ ، وَهُوَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْكُفَّارِ قَدْ زَالَ ، وَلَا يَزُولُ إلَّا إلَى الْمُسْلِمِينَ .
( 7637 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَعْتَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ عَبْدًا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الرِّقُّ ، كَالرَّجُلِ قَبْلَ اسْتِرْقَاقِهِ لَمْ يَعْتِقْ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ ، وَإِنْ كَانَ رَقِيقًا كَالْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ ، عَتَقَ عَلَيْهِ قَدْرُ حِصَّتِهِ ، وَسَرَى إلَى بَاقِيه إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ بَاقِيه تُطْرَحُ فِي الْمَقْسَمِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا عَتَقَ عَلَيْهِ قَدْرُ مِلْكِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، لِأَنَّهُ مُوسِرٌ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ حَقِّهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، عَتَقَ وَلَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا ، وَإِنْ كَانَ دُونَ حَقِّهِ ، أَخَذَ بَاقِيَ حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ ، لَمْ يَعْتِقْ إلَّا قَدْرُ حَقِّهِ ، فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا ثَانِيًا ، وَفَضَلَ مِنْ حَقِّهِ عَنْ الْأَوَّلِ شَيْءٌ ، عَتَقَ بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّانِي ، وَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ ، لَمْ يَعْتِقْ مِنْ الثَّانِي شَيْءٌ .
( 7638 ) فَصْلٌ : يُكْرَهُ نَقْل رُءُوسِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ، وَالْمُثْلَةُ بِقَتْلَاهُمْ وَتَعْذِيبُهُمْ لِمَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ ، قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ ، وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ } وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ } رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ { : إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ } رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، بِرَأْسِ الْبِطْرِيقِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِنَا .
قَالَ : فَاسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ ، لَا يُحْمَلُ إلَيَّ رَأْسٌ ، فَإِنَّمَا يَكْفِي الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : لَمْ يُحْمَلْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسٌ قَطُّ ، وَحُمِلَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَأْسٌ فَأَنْكَرَ ، وَأَوَّلُ مَنْ حُمِلَتْ إلَيْهِ الرُّءُوسُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَيُكْرَهُ رَمْيُهَا فِي الْمَنْجَنِيقِ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ جَازَ ، لِمَا رَوَيْنَا ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حِينَ حَاصَرَ الْإِسْكَنْدَرِيَّة ، ظُفِرَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَخَذُوا رَأْسَهُ ، فَجَاءَ قَوْمُهُ عَمْرًا مُغْضَبِينَ ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو خُذُوا رَجُلًا مِنْهُمْ فَاقْطَعُوا رَأْسَهُ ، فَارْمُوا بِهِ إلَيْهِمْ فِي الْمَنْجَنِيقِ ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ ، فَرَمَى أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّة رَأْسَ الْمُسْلِمِ إلَى قَوْمِهِ .
فَصْلٌ : يَجُوزُ قَبُولُ هَدِيَّةِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ هَدِيَّةَ الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ مِصْرَ ، } فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْغَزْوِ ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : مَا أَهْدَاهُ الْمُشْرِكُونَ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ ، أَوْ لِبَعْضِ قُوَّادِهِ ، فَهُوَ غَنِيمَةٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا لِخَوْفِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
فَظَاهِرُ هَذَا ، أَنَّ مَا أُهْدِيَ لِآحَادِ الرَّعِيَّةِ فَهُوَ لَهُ ، وَقَالَ الْقَاضِي : هُوَ غَنِيمَةٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ لِمَنْ أُهْدِيَ لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامَ أَوْ غَيْرَهُ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ الْهَدِيَّةَ ، } فَكَانَتْ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ لِلْمُهْدَى لَهُ بِكُلِّ حَالٍ ، لِأَنَّهُ خُصَّ بِهَا ، أَشْبَهَ إذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَحُكِيَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ وَلَنَا ، أَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ بِظَهْرِ الْجَيْشِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهُ قَهْرًا ، وَلِأَنَّهُ إذَا أُهْدِيَ لِلْإِمَامِ أَوْ الْأَمِيرِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُدَارِي عَنْ نَفْسِهِ بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا أُخِذَ مِنْهُ قَهْرًا .
وَأَمَّا إنْ أُهْدِيَ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ ، لِعَدَمِ الْخَوْفِ مِنْهُ ، فَيَكُونُ لَهُ ، كَمَا لَوْ أَهْدَى إلَيْهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْظَرَ ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مُهَادَاةٌ قَبْلَ ، ذَلِكَ ، فَلَهُ مَا أَهْدَى إلَيْهِ ، وَإِنْ تَجَدَّدَ ذَلِكَ بِالدُّخُولِ إلَى دَارِهِمْ ، فَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ ، كَقَوْلِنَا فِي الْهَدِيَّةِ إلَى الْقَاضِي .
كِتَابُ الْجِزْيَةِ وَهِيَ الْوَظِيفَةُ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ الْكَافِرِ ، لِإِقَامَتِهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ عَامٍ ، وَهِيَ فِعْلَةٌ مِنْ جَزَى يَجْزِي : إذَا قَضَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } تَقُولُ الْعَرَبُ : جَزَيْت دَيْنِي .
إذَا قَضَيْته ، .
وَالْأَصْلُ فِيهَا الْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَمَا رَوَى { الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، أَنَّهُ قَالَ لِجُنْدِ كِسْرَى يَوْمَ نَهَاوَنْدَ : أَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
} وَعَنْ بُرَيْدَةَ ، أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ ، أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ ، وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ، وَقَالَ لَهُ : إذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إلَى إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ ، اُدْعُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَجَابُوك ، فَاقْبَلْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ ، فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ أَجَابُوك ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ } فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ فِي الْجُمْلَةِ .
( 7640 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ ( وَلَا تُقْبَلُ الْجِزْيَةُ إلَّا مِنْ يَهُودِيٍّ ، أَوْ نَصْرَانِيٍّ ، أَوْ مَجُوسِيٍّ ، إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى مَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الَّذِينَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ صِنْفَانِ ، أَهْلُ كِتَابٍ ، وَمَنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ ، فَأَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ ، كَالسَّامِرَةِ يَدِينُونَ بِالتَّوْرَاةِ ، وَيَعْمَلُونَ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِنَّمَا خَالَفُوهُمْ فِي فُرُوعِ دِينِهِمْ .
وَفِرَقِ النَّصَارَى مِنْ الْيَعْقُوبِيَّةِ ، والنسطورية ، وَالْمَلْكِيَّةِ ، وَالْفِرِنْجِ وَالرُّومِ ، وَالْأَرْمَنِ ، وَغَيْرِهِمْ ، مِمَّنْ دَانَ بِالْإِنْجِيلِ ، وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ مِنْ الْكُفَّارِ ، فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الصَّابِئِينَ ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُمْ جِنْسٌ مِنْ النَّصَارَى .
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يُسْبِتُونَ ، فَهَؤُلَاءِ إذَا أَسْبَتُوا فَهُمْ مِنْ الْيَهُودِ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : هُمْ يُسْبِتُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .
وَقَالَ السُّدِّيَّ وَالرَّبِيعُ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .
وَتَوَقَّفَ الشَّافِعِيُّ فِي أَمْرِهِمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُنْظَرُ فِيهِمْ ، فَإِنْ كَانُوا يُوَافِقُونَ أَحَدَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي نَبِيِّهِمْ وَكِتَابِهِمْ فَهُمْ مِنْهُمْ ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ ، فَلَيْسَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَيُرْوَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْفَلَكَ حَيٌّ نَاطِقٌ ، وَإِنَّ الْكَوَاكِبَ السَّبْعَةَ آلِهَةٌ .
فَإِنْ كَانُوا كَذَلِكَ ، فَهُمْ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ .
وَأَمَّا أَهْلُ صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ وَزَبُورِ دَاوُد ، فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ لِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ الطَّائِفَتَيْنِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الصُّحُفَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا شَرَائِعُ ، إنَّمَا هِيَ مَوَاعِظُ وَأَمْثَالٌ ، كَذَلِكَ وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
صُحُفَ إبْرَاهِيمَ وَزَبُورَ دَاوُد فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ .
وَأَمَّا الَّذِينَ لَهُمْ شُبْهَةُ كِتَابٍ فَهُمْ الْمَجُوسُ فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ فَرُفِعَ ، فَصَارَ لَهُمْ بِذَلِكَ شُبْهَةٌ أَوْجَبَتْ حَقْنَ دِمَائِهِمْ ، وَأَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ .
وَلَمْ يَنْتَهِضْ فِي إبَاحَةِ نِكَاحِ نِسَائِهِمْ وَلَا ذَبَائِحِهِمْ دَلِيلٌ .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَنُقِلَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَتَحِلُّ نِسَاؤُهُمْ وَذَبَائِحُهُمْ .
لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْمَجُوسِ ، كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ يَعْلَمُونَهُ ، وَكِتَابٌ يَدْرُسُونَهُ ، وَإِنَّ مَلِكَهُمْ سَكِرَ ، فَوَقَعَ عَلَى بِنْتِهِ أَوْ أُخْتِهِ ، فَاطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ ، فَلَمَّا صَحَا جَاءُوا يُقِيمُونَ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، فَامْتَنَعَ مِنْهُمْ ، وَدَعَا أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ ، وَقَالَ : أَتَعْلَمُونَ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِ آدَمَ ، وَقَدْ أَنْكَحَ بَنِيهِ بَنَاتِهِ ، فَأَنَا عَلَى دِينِ آدَمَ قَالَ : فَتَابَعَهُ قَوْمٌ ، وَقَاتَلُوا الَّذِينَ يُخَالِفُونَهُمْ ، حَتَّى قَتَلُوهُمْ ، فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أُسْرِيَ بِكِتَابِهِمْ ، وَرُفِعَ الْعِلْمُ الَّذِي فِي صُدُورِهِمْ ، فَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ { وَقَدْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَأُرَاهُ قَالَ : وَعُمَرُ - مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ } .
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَسَعِيدٌ وَغَيْرُهُمَا وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } .
وَالْمَجُوسُ مِنْ غَيْرِ الطَّائِفَتَيْنِ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُهُمْ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَجَالَةَ ، أَنَّهُ قَالَ : وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ الْمَجُوسِ ، حَتَّى حَدَّثَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ ، } وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ ، لَمَا وَقَفَ عُمَرُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ مَعَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ هُوَ الَّذِي صَارَ لَهُمْ بِهِ شُبْهَةُ الْكِتَابِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : لَا أَحْسِبُ مَا رَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ فِي هَذَا مَحْفُوظًا ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ ، لَمَا حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُمْ ، وَهُوَ كَانَ أَوْلَى بِعِلْمِ ذَلِكَ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ هَذَا مَعَ تَحْرِيمِ نِسَائِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ ، لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُبِيحَ لِذَلِكَ هُوَ الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ عَلَى إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ ، وَلِأَنَّ كِتَابَهُمْ رُفِعَ ، فَلَمْ يَنْتَهِضْ لِلْإِبَاحَةِ ، وَيَثْبُتُ بِهِ حَقْنُ دِمَائِهِمْ .
فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ فِي حِلِّ ذَبَائِحِهِمْ وَنِسَائِهِمْ ، فَيُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : ( سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابُ ) فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى زَمَنِنَا هَذَا ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا مُخَالِفٍ ، وَبِهِ يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهِمْ مَعَ دَلَالَةِ الْكِتَابِ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَدَلَالَةِ السُّنَّةِ عَلَى أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمَجُوسِ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِ الْمُغِيرَةِ لِأَهْلِ فَارِسَ : { أَمَرَنَا نَبِيُّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ ، أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ } وَحَدِيثِ بُرَيْدَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } وَلَا فَرْقَ بَيْنَ
كَوْنِهِمْ عَجَمًا أَوْ عَرَبًا .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ شَرُفُوا بِكَوْنِهِمْ مِنْ رَهْطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ ، { وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ فَأَخَذَ أُكَيْدِرَ دُومَةَ فَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ وَهُوَ مِنْ الْعَرَبِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد { وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ ، وَهُمْ عَرَبٌ وَبَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ : إنَّك تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
{ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا ، } وَكَانُوا عَرَبًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْعَجَمِ كَانُوا سُكَّانًا بِالْيُمْنِ حَيْثُ وَجَّهَ مُعَاذًا وَلَوْ كَانَ ، لَكَانَ فِي أَمْرِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جَمِيعِهِمْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ .
وَحَدِيثُ بُرَيْدَةَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ مَنْ بَعَثَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ ، أَنْ يَدْعُوَ عَدُوَّهُ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ ، وَلَمْ يَخُصَّ بِهَا عَجَمِيًّا دُونَ غَيْرِهِ ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو الْعَرَبَ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعٌ ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ الْجِزْيَةَ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ فَأَبَوْا ذَلِكَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مِثْلَمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، حَتَّى لَحِقُوا بِالرُّومِ ، ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى مَا يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ عِوَضًا عَنْ الْجِزْيَةِ ، فَالْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ ، غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صِفَةِ جِزْيَةِ غَيْرِهِمْ ، وَمَا أَنْكَرَ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا .
وَقَدْ ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَالْيَقِينِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَيَهُودِهِمْ ، كَانُوا فِي عَصْرِ
الصَّحَابَةِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ فِيهَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ ، فَثَبَتَ يَقِينًا أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ ، قَبْلَ تَبْدِيلِ كِتَابِهِمْ أَوْ بَعْدَهُ ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ابْنَ كِتَابِيَّيْنِ ، أَوْ ابْنَ وَثَنِيَّيْنِ ، أَوْ ابْنَ كِتَابِيٍّ وَوَثَنِيٍّ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : مَنْ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ تَبْدِيلِ كِتَابِهِمْ ، لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ، وَمَنْ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ أَحَدُهُمَا تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ، وَالْآخَرُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ ، فَهَلْ تُقْبَلُ مِنْهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَنَا عُمُومُ النَّصِّ فِيهِمْ ، وَلِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ دِينٍ تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِهِ الْجِزْيَةُ ، فَيُقَرُّونَ بِهَا كَغَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى مَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ ، مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ وَالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْمِلَّةِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ، أَيْ يَلْتَزِمُوا أَدَاءَهَا ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ، يَبْقُوا عَلَى إبَاحَةِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ .
فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ ، أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَلْتَزِمُوا إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ فِي كُلِّ حَوْلٍ وَالثَّانِي الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ قَبُولُ مَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ ، أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ : { فَادْعُهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ } وَلَا تُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْإِعْطَاءِ ، وَلَا جَرَيَانُ الْأَحْكَامِ ، لِأَنَّ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ ، وَالْكَفَّ عَنْهُمْ فِي ابْتِدَائِهِ عِنْدَ الْبَذْلِ .
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { حَتَّى يُعْطُوا } أَيْ يَلْتَزِمُوا الْإِعْطَاءَ ، وَيُجِيبُوا إلَى بَذْلِهِ ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْتِزَامُ ذَلِكَ دُونَ حَقِيقَتِهِ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحَوْلِ ، لَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ }
( 7642 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَمَنْ سِوَاهُمْ ، فَالْإِسْلَامُ أَوْ الْقَتْلُ ) يَعْنِي مَنْ سِوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ ، وَلَا يُقَرُّونَ بِهَا ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قُتِلُوا ، هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ ، أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ ، إلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ ، لِأَنَّ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ ، إلَّا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ ، لِتَغَلُّظِ كُفْرِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا ، دِينُهُمْ ، وَالثَّانِي ، كَوْنُهُمْ مِنْ رَهْطِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تُقْبَلُ إلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوس ، لَكِنَّ فِي أَهْلِ الْكُتُبِ غَيْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، مِثْلُ أَهْلِ صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَشِيثٍ وَزَبُورِ دَاوُد وَمَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَجْهَانِ ، أَحَدُهُمَا ، يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَأَشْبَهُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إلَّا الْعَرَبَ ، لِأَنَّهُمْ رَهْطُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُقَرُّونَ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ ، وَغَيْرُهُمْ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ ، لِأَنَّهُ يُقَرُّ بِالِاسْتِرْقَاقِ ، فَأُقِرُّوا بِالْجِزْيَةِ ، كَالْمَجُوسِ ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِهِمْ إلَّا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ لِأَنَّهُمْ ارْتَدُّوا وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِهِمْ .
وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ ، لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ ، وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ ، فَيُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ ، كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } .
وَهَذَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْآيَةِ ، وَالْمَجُوسُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } .
فَمَنْ عَدَاهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ يَبْقَى عَلَى قَضِيَّةِ الْعُمُومِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلَ الصُّحُفِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا عَقَدَ الذِّمَّةَ لِكَفَّارٍ ، زَعَمُوا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ .
وَإِنْ شَكَكْنَا فِيهِمْ ، لَمْ يُنْتَقَضْ عَهْدُهُمْ بِالشَّكِّ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ صِحَّتُهُ ، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ قُبِلَ مِنْ الْمُقِرِّ فِي نَفْسِهِ ، فَانْتَقَضَ عَهْدُهُ ، وَبَقِيَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِحَالِهِ .
( 7644 ) مَسْأَلَةٌ ، قَالَ : ( وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ ، فَيُؤْخَذُ مِنْ أَدْوَنِهِمْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَمِنْ أَوْسَطِهِمْ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَمِنْ أَيْسَرِهِمْ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ : ( 7645 ) .
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَقْدِيرِ الْجِزْيَةِ وَالثَّانِي ، فِي كَمِّيَّةِ مِقْدَارِهَا فَأَمَّا الْأَوَّلُ ، فَفِيهِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ؛ إحْدَاهَا أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَهَا مُقَدَّرَةً ، بِقَوْلِهِ لِمُعَاذٍ { خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا ، أَوْ عَدْلَهُ مَغَافِرَ } وَفَرَضَهَا عُمَرُ مُقَدَّرَةً بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يُنْكَرْ فَكَانَ إجْمَاعًا وَالثَّانِيَةُ ، أَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ ، بَلْ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ فَيُزَادُ الْيَوْمَ فِيهِ وَيُنْقَصُ ؟ يَعْنِي مِنْ الْجِزْيَةِ .
قَالَ : نَعَمْ ، يُزَادُ فِيهِ وَيُنْقَصُ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ ، عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْإِمَامُ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ زِيدَ عَلَيْهِمْ فِيمَا مَضَى دِرْهَمَانِ ، فَجَعَلَهُ خَمْسِينَ قَالَ الْخَلَّالُ الْعَمَلُ فِي قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ : لَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي ذَلِكَ وَيُنْقِصَ ، عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ ، فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ ، فَاسْتَقَرَّ قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } { وَصَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّةٍ ، النِّصْفُ فِي صَفَرٍ ، وَالنِّصْفُ فِي رَجَبٍ ، } رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَعُمَرُ جَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ ، عَلَى الْغَنِيِّ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ
دِرْهَمًا ، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا .
وَصَالَحَ بَنِي تَغْلِبَ عَلَى مِثْلَيْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الزَّكَاةِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَتْ عَلَى قَدْرٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْتَلِفَ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ .
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ : عَنْ أَبِي نَجِيحٍ قُلْت لِمُجَاهِدٍ : مَا شَأْنُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ عَلَيْهِمْ دِينَارٌ ؟ قَالَ : جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْيَسَارِ ، وَلِأَنَّهَا عِوَضٌ فَلَمْ تُقَدَّرْ كَالْأُجْرَةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ ، أَنَّ أَقَلَّهَا مُقَدَّرٌ بِدِينَارٍ ، وَأَكْثَرَهَا غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ، فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ ، وَلَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ لِأَنَّ عُمَرَ زَادَ عَلَى مَا فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقِصْ مِنْهُ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ زَادَ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ ، فَجَعَلَهَا خَمْسِينَ .
( 7646 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّنَا إذَا قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى ، وَأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ ، فَقَدْرُهَا فِي حَقِّ الْمُوسِرِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَفِي حَقِّ الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَفِي حَقِّ الْفَقِيرِ اثْنَا عَشَرَ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ مَالِكٍ : هِيَ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا أَوْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ ، وَفِي حَقِّ الْفَقِيرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْوَاجِبُ دِينَارٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ لِحَدِيثِ { مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ جَعْلُهَا عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، لِنَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ ، قَالُوا : وَقَضَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ مِنْ غَيْرِهِ وَلَنَا حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ حَدِيثٌ لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ وَشُهْرَتِهِ
بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ ، وَعَمِلَ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَصَارَ إجْمَاعًا لَا يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ وَافَقَ الشَّافِعِيُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْفَقْرِ عَلَيْهِمْ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ : إنَّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْيَسَارِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ غَيْرَ وَاجِبٍ ، بَلْ هُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَجَبَتْ صِغَارًا أَوْ عُقُوبَةً ، فَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ ، كَالْعُقُوبَةِ فِي الْبَدَنِ ، مِنْهُمْ مَنْ يُقْتَلُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْتَرَقُّ ، وَلَا يَصِحُّ كَوْنُهَا عِوَضًا عَنْ سُكْنَى الدَّارِ ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَوَجَبَتْ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالزَّمْنَى وَالْمَكَافِيفِ .
( 7647 ) فَصْلٌ وَحَدُّ الْيَسَارِ فِي حَقِّهِمْ ، مَا عَدَّهُ النَّاسُ غِنًى فِي الْعَادَةِ ، وَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَاتِ بَابُهَا التَّوْقِيفُ ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي هَذَا ، فَيُرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعَادَةِ وَالْعُرْفِ .
( 7648 ) فَصْلٌ : إذَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ ، لَزِمَ قَبُولُهَا ، وَحَرُمَ قِتَالُهُمْ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فَجَعَلَ إعْطَاءَ الْجِزْيَةِ غَايَةً لِقِتَالِهِمْ .
فَمَتَى بَذَلُوهَا ، لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُمْ ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَادْعُهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ أَجَابُوك ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ } وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْجِزْيَةَ غَيْرُ مُقَدَّرَةِ الْأَكْثَرِ ، لَمْ يُحْرِمْ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُجِيبُوا إلَى بَذْلِ مَا لَا يَجُوزُ طَلَبُ أَكْثَرَ مِنْهُ ، مِمَّا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُمْ .
( 7649 ) فَصْلٌ وَتَجِبُ الْجِزْيَةُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ بِأَوَّلِهِ ، وَيُطَالَبُ بِهَا عَقِيبَ الْعَقْدِ ، وَتَجِبُ الثَّانِيَةُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ الثَّانِي ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } وَلَنَا ، أَنَّهُ مَالٌ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ أَوْ يُؤْخَذُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ ، فَلَمْ يَجِبْ بِأَوَّلِهِ كَالزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا الْتِزَامُ إعْطَائِهَا ، دُونَ نَفْسِ الْإِعْطَاءِ ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ قِتَالُهُمْ بِمُجَرَّدِ بَذْلِهَا قَبْلَ أَخْذِهَا .
( 7650 ) فَصْلٌ : وَتُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِمَّا يُسِّرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلَا يَتَعَيَّنُ أَخْذُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَغَافِرَ .
} { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ أَلْفَيْ حُلَّةٍ } وَكَانَ عُمَرُ يُؤْتَى بِنَعَمٍ كَثِيرَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْ الْجِزْيَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْجِزْيَةَ مِنْ كُلِّ ذِي صَنْعَةٍ مِنْ مَتَاعِهِ ، مِنْ صَاحِبِ الْإِبَرِ إبَرًا ، وَمِنْ صَاحِبِ الْمُسَالِ مُسَالًا ، وَمِنْ صَاحِبِ الْحِبَالِ حِبَالًا ، ثُمَّ يَدْعُو النَّاسَ فَيُعْطِيهِمْ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ فَيَقْتَسِمُونَهُ ثُمَّ يَقُولُ : خُذُوا فَاقْتَسِمُوا ، فَيَقُولُونَ : لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ ، فَيَقُولُ : أَخَذْتُمْ خِيَارَهُ ، وَتَرَكْتُمْ شِرَارَهُ ، لَتَحْمِلُنَّهُ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْقِيمَةِ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَوْ عَدْلَهُ مَغَافِرَ .
}
( 7651 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الذِّمَّةِ وَالْهُدْنَةِ ، إلَّا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِنَظَرِ الْإِمَامِ وَمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَقْدٌ مُؤَبَّدٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُفْتَاتَ بِهِ عَلَى الْإِمَامِ ، فَإِنْ فَعَلَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ، لَمْ يَصِحَّ ، لَكِنْ إنْ عَقَدَهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ ، لَزِمَ الْإِمَامَ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ ، وَعَقْدُهَا عَلَيْهِ .
( 7652 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ ، ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّ عُمَرَ شَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَأَنْ يُصْلِحُوا الْقَنَاطِرَ ، وَإِنْ قُتِلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْضِهِمْ فَعَلَيْهِمْ دِيَتُهُ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَعَلْفَ دَوَابِّهِمْ ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ عَلَى نَصَارَى أَيْلَةَ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ نَفْسٍ ، فِي كُلِّ سَنَةٍ ، وَأَنْ يُضِيفُوا مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، } وَلِأَنَّ فِي هَذَا ضَرْبًا مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا امْتَنَعُوا مِنْ مُبَايَعَةِ الْمُسْلِمِينَ إضْرَارًا بِهِمْ ، فَإِذَا شُرِطَتْ عَلَيْهِمْ الضِّيَافَةُ أُمِنَ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ الضِّيَافَةُ عَلَيْهِمْ ، لَمْ تَجِبْ ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مِنْ قَالَ : تَجِبُ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، كَوُجُوبِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، لِأَنَّهُ أَدَاءُ مَالٍ ، فَلَمْ يَجِبْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ ، كَالْجِزْيَةِ ، فَإِنْ شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ ، فَامْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِهَا ، لَمْ تُعْقَدْ لَهُمْ الذِّمَّةُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ عَلَيْهَا .
وَلَنَا أَنَّهُ شَرْطٌ سَائِغٌ ، امْتَنَعُوا مِنْ قَبُولِهِ ، فَقُوتِلُوا عَلَيْهِ كَالْجِزْيَةِ .
( 7653 ) فَصْلٌ : ذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّهُ إذَا شَرَطَ الضِّيَافَةَ ، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَيَّامَ الضِّيَافَةِ ، وَعَدَدَ مَنْ يُضَافُ مِنْ الرَّجَّالَةِ وَالْفَرَسَانِ ، فَيَقُولُ : تُضِيفُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةَ يَوْمٍ عَشَرَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، مِنْ خُبْزِ كَذَا وَأُدْمِ كَذَا ، وَلِلْفَرَسِ مِنْ التِّبْنِ كَذَا ، وَمِنْ الشَّعِيرِ كَذَا فَإِنْ شَرَطَ الضِّيَافَةَ مُطْلَقًا ، صَحَّ فِي الظَّاهِرِ ،
لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةَ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إذَا أَطْلَقَ مُدَّةَ الضِّيَافَةِ فَالْوَاجِبُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يُكَلَّفُونَ الذَّبِيحَةَ ، وَلَا ضِيَافَتَهُمْ بِأَرْفَعَ مِنْ طَعَامِهِمْ ، لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ شَكَا إلَيْهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يُكَلِّفُونَهُمْ الذَّبِيحَةَ ، فَقَالَ : أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَلَا يُكَلَّفُونَ الذَّبِيحَةَ وَلَا الشَّعِيرَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ مُطْلَقًا لَمْ يَلْزَمْهُمْ الشَّعِيرُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُمْ ذَلِكَ لِلْخَيْلِ ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهِ ، فَهُوَ كَالْخُبْزِ لِلرَّجُلِ .
وَلِلْمُسْلِمِينَ النُّزُولُ فِي الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَالَحَ أَهْلَ الشَّامِ عَلَى أَنْ يُوَسِّعُوا أَبْوَابَ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ لِمَنْ يَجْتَازُ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، لِيَدْخُلُوهَا رُكْبَانًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا مَكَانًا ، فَلَهُمْ النُّزُولُ فِي الْأَفْنِيَةِ وَفُضُولِ الْمَنَازِلِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ تَحْوِيلُ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ مِنْهُ .
وَالسَّابِقُ إلَى مَنْزِلٍ أَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُ فَإِنْ امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْقِيَامِ بِمَا شُرِطَ ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ الْجَمِيعُ ، أُجْبِرُوا ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْمُقَاتَلَةِ ، قُوتِلُوا ، فَإِنْ قَاتَلُوا فَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ .
( 7654 ) فَصْلٌ : وَتُقْسَمُ الضِّيَافَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ جِزْيَتِهِمْ فَإِنْ جَعَلَ الضِّيَافَةَ مَكَانَ الْجِزْيَةِ ، جَازَ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِرَاهِبٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ : إنَّنِي إنْ وَلِيت هَذِهِ الْأَرْضَ ، أَسْقَطْت عَنْك خَرَاجَك .
فَلَمَّا قَدِمَ الْجَابِيَةَ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ جَاءَهُ بِكِتَابِهِ ، فَعَرَفَهُ ، وَقَالَ : إنَّنِي جَعَلْت لَك مَا لَيْسَ لِي ، وَلَكِنْ اخْتَرْ ، إنْ شِئْت أَدَاءَ
الْخَرَاجِ ، وَإِنْ شِئْت أَنْ تُضِيفَ الْمُسْلِمِينَ ، فَاخْتَارَ الضِّيَافَةَ وَيُشْتَرَطُ عَلَيْهِ ضِيَافَةٌ يَبْلُغُ قَدْرُهَا أَقَلَّ الْجِزْيَةِ ، إذَا قُلْنَا : الْجِزْيَةُ مُقَدَّرَةُ الْأَقَلِّ .
لِئَلَّا يَنْقُصَ خَرَاجُهُ عَنْ أَقَلِّ الْجِزْيَةِ .
وَذُكِرَ أَنَّ مِنْ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ اشْتِرَاطَ الِاكْتِفَاءِ بِضِيَافَتِهِمْ عَنْ جِزْيَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ مَمْدُودًا إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا ، كَانَ قِتَالُهُمْ مُبَاحًا ، وَوَجْهُ الْأَوَّلِ اشْتِرَاطُ مَالٍ ، يَبْلُغُ قَدْرَ الْجِزْيَةِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِمْ عَدْلَ الْجِزْيَةِ مَغَافِرَ .
( 7655 ) فَصْلٌ : وَإِذَا شَرَطَ فِي عَقْدِ الذِّمَّةِ شَرْطًا فَاسِدًا مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ ، أَوْ إظْهَارَ الْمُنْكَرِ ، أَوْ إسْكَانَهُمْ الْحِجَازَ ، أَوْ إدْخَالَهُمْ الْحَرَمَ ، وَنَحْوَ هَذَا ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِعْلَ مُحَرَّمٍ ، فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَفْسُدَ الشَّرْطُ وَحْدَهُ ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ ، بِنَاءً عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فِي الْبَيْعِ وَالْمُضَارَبَةِ .
( 7656 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِيٍّ ، وَلَا زَائِلِ الْعَقْلِ ، وَلَا امْرَأَةٍ ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي هَذَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَا أَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ وَقَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ ، أَنْ اضْرِبُوا الْجِزْيَةَ ، وَلَا تَضْرِبُوهَا عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، وَلَا تَضْرِبُوهَا إلَّا عَلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي رَوَاهُ سَعِيدٌ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالْأَثْرَمُ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ : { خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى غَيْرِ بَالِغٍ ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ لِحَقْنِ الدَّمِ ، وَهَؤُلَاءِ دِمَاؤُهُمْ مَحْقُونَةٌ بِدُونِهَا .
فَصْلٌ : وَإِنْ بَذَلَتْ الْمَرْأَةُ الْجِزْيَةَ ، أُخْبِرَتْ أَنَّهَا لَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا ، فَإِنْ قَالَتْ : فَأَنَا أَتَبَرَّعُ بِهَا .
أَوْ : أَنَا أُؤَدِّيهَا .
قُبِلَتْ مِنْهَا ، وَلَمْ تَكُنْ جِزْيَةً ، بَلْ هِبَةً تَلْزَمُ بِالْقَبْضِ .
فَإِنْ شَرَطَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا ، ثُمَّ رَجَعَتْ ، كَانَ لَهَا ذَلِكَ وَإِنْ بَذَلَتْ الْجِزْيَةَ ؛ لِتَصِيرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، مُكِّنَتْ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهَا الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ ، وَتُعْقَدُ لَهَا الذِّمَّةُ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ ، إلَّا أَنْ تَتَبَرَّعَ بِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا .
وَإِنْ أُخِذَ مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، رُدَّ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا بَذَلَتْهُ مُعْتَقِدَةً أَنَّهُ عَلَيْهَا ، وَأَنَّ دَمَهَا لَا يُحْقَنُ إلَّا بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ أَدَّى مَالًا إلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَهُ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ .
وَلَوْ حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ حِصْنًا لَيْسَ فِيهِ إلَّا نِسَاءٌ ، فَبَذَلْنَ الْجِزْيَةَ ؛ لِتُعْقَدَ لَهُنًّ الذِّمَّةُ ، عُقِدَتْ لَهُنَّ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَحَرُمَ اسْتِرْقَاقُهُنَّ ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا سَوَاءً .
فَإِنْ كَانَ فِي الْحِصْنِ مَعَهُنَّ رِجَالٌ ، فَسَأَلُوا الصُّلْحَ ، لِتَكُونَ الْجِزْيَةُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ دُونَ الرِّجَالِ ، لَمْ تَصِحَّ ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا عَلَى غَيْرِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ ، وَبَرَّءُوا مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ بَذَلُوا جِزْيَةً عَنْ الرِّجَالِ ، وَيُؤَدُّوا عَنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، جَازَ ، وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي جِزْيَتِهِمْ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْوَالِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْجِزْيَةَ عَلَى مَنْ لَا تَلْزَمُهُ .
فَإِنْ كَانَ الْقَدْرُ الَّذِي بَذَلُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مِمَّا يُجْزِئُ فِي الْجِزْيَةِ ، أُخِذَ مِنْهُمْ ، وَسَقَطَ الْبَاقِي .
( 7658 ) فَصْلٌ : وَمَنْ بَلَغَ مِنْ أَوْلَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَجَانِينِهِمْ ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ لَهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، فِي مَوْضِعٍ : هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْتِزَامِ الْعَقْدِ وَبَيْنَ أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الذِّمَّةَ ، عُقِدَتْ لَهُ ، وَإِلَّا أُلْحِقَ بِمَأْمَنِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ ، تَجْدِيدُ الْعَقْدِ لِهَؤُلَاءِ ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَكُونُ مَعَ سَادَتِهِمْ ، فَيَدْخُلُ فِيهِ سَائِرهمْ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ عَهْدٍ مَعَ الْكُفَّارِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى اسْتِئْنَافِهِ لِذَلِكَ ، كَالْهُدْنَةِ ، وَلِأَنَّ الصِّغَارَ وَالْمَجَانِينَ دَخَلُوا فِي الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِهِ لَهُمْ عِنْدَ تَغَيُّرِ أَحْوَالِهِمْ ، كَغَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ دَخَلُوا فِيهِ ، فَيَلْزَمُهُمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ ، كَالْإِسْلَامِ .
إذَا ثَبَتَ ، هَذَا فَإِنْ كَانَ الْبُلُوغُ وَالْإِفَاقَةُ فِي أَوَّلِ حَوْلِ قَوْمِهِ ، أُخِذَ مِنْهُ فِي آخِرِهِ مَعَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ، أُخِذَ مِنْهُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِقِسْطِهِ ، وَلَمْ يُتْرَكْ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُهُ ، لِئَلَّا يُحْتَاجَ إلَى إفْرَادِهِ بِحَوْلٍ ، وَضَبْطُ حَوْلِ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ ، وَرُبَّمَا أَفْضَى إلَى أَنْ يَصِيرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَوْلٌ مُنْفَرِدًا .
( 7659 ) فَصْلٌ : وَمَنْ كَانَ يُجَنُّ وَيُفِيقُ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يَكُونَ جُنُونُهُ غَيْرَ مَضْبُوطٍ ، مِثْلَ مَنْ يُفِيقُ سَاعَةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ ، أَوْ يُصْرَعُ سَاعَةً مِنْ يَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ ، فَهَذَا يُعْتَبَرُ حَالُهُ بِالْأَغْلَبِ ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِفَاقَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ مُرَاعَاتُهَا ، لِتَعَذُّرِ ضَبْطِهَا .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ مَضْبُوطًا ، مِثْلَ مَنْ يُجَنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمَيْنِ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ أَكْثَرَ ، إلَّا أَنَّهُ مَضْبُوطُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُعْتَبَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُجَنُّ وَيُفِيقُ ، فَيُعْتَبَرُ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِهِ كَالْأَوَّلِ .
وَالثَّانِي ، تُلَفَّقُ أَيَّامُ إفَاقَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُفِيقًا فِي الْكُلِّ وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْإِفَاقَةُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ وَجَبَ فِيمَا يَجِبْ بِهِ لَوْ انْفَرَدَ .
فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ أَيَّامَهُ تُلَفَّقُ ، فَإِذَا كَمُلَتْ حَوْلًا ، أُخِذَتْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا قَبْلَ ذَلِكَ ، أَخْذٌ لِجِزْيَتِهِ قَبْلَ كَمَالِ الْحَوْلِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَالصَّحِيحِ .
وَالثَّانِي ، يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ بِقَدْرِ مَا أَفَاقَ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ إفَاقَةً مُسْتَمِرَّةً .
وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ ثُلُثَ الْحَوْلِ ، وَيُفِيقُ ثُلُثَيْهِ ، أَوْ بِالْعَكْسِ ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ .
كَمَا ذَكَرْنَا .
فَإِنْ اسْتَوَتْ إفَاقَتُهُ وَجُنُونُهُ ، مِثْلُ مَنْ يُجَنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا ، أَوْ يُجَنُّ نِصْفَ الْحَوْلِ وَيُفِيقُ نِصْفَهُ عَادَةً ، لُفِّقَتْ إفَاقَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْأَغْلَبِ لِعَدَمِهِ ، فَتَعَيَّنَ الِاحْتِمَالُ الْآخَرُ .
الْحَالُ الثَّالِثُ ، أَنْ يُجَنَّ نِصْفَ حَوْلٍ ، ثُمَّ يُفِيقَ إفَاقَةً مُسْتَمِرَّةً ، أَوْ يُفِيقَ نِصْفَهُ ، ثُمَّ يُجَنَّ جُنُونًا مُسْتَمِرًّا ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي ، وَعَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ مِنْ الْجِزْيَةِ بِقَدْرِ مَا أَفَاقَ
مِنْ الْحَوْلِ ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7660 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا عَلَى فَقِيرٍ .
يَعْنِي الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ عَنْ أَدَائِهَا .
وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : يَجِبُ عَلَيْهِ { ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } .
وَلِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَحْقُونٍ ، فَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجِزْيَةُ ، كَالْقَادِرِ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ ، جَعَلَ أَدْنَاهَا عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَمِلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } .
وَلِأَنَّ هَذَا مَالٌ يَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ ، فَلَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ ، كَالزَّكَاةِ وَالْعَقْلِ ، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَنْقَسِمُ إلَى خَرَاجِ أَرْضٍ ، وَخَرَاجِ رُءُوسٍ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهَا ، وَمَا لَا طَاقَةَ لَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، كَذَلِكَ خَرَاجُ الرُّءُوسِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ ، فَيَتَنَاوَلُ الْأَخْذَ مِمَّنْ يُمْكِنُ الْأَخْذُ مِنْهُ ، وَمَنْ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ مِنْهُ ، فَالْأَخْذُ مِنْهُ مُسْتَحِيلٌ ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ .
( 7661 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا شَيْخٍ فَانٍ ، وَلَا زَمِنٍ ، وَلَا أَعْمَى هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِمَّنْ بِهِ دَاءٌ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْقِتَالَ ، وَلَا يُرْجَى بُرْؤُهُ ، لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ بِنَاءً عَلَى قَتْلِهِمْ .
وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُنَا فِي أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ .
( 7662 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا عَلَى سَيِّدِ عَبْدٍ عَنْ عَبْدِهِ ، إذَا كَانَ السَّيِّدُ مُسْلِمًا لَا خِلَافَ فِي هَذَا نَعْلَمُهُ ، لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا جِزْيَةَ عَلَى الْعَبْدِ } .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ .
وَلِأَنَّ مَا لَزِمَ الْعَبْدَ إنَّمَا يُؤَدِّيه سَيِّدُهُ ، فَيُؤَدِّي إيجَابُهُ عَلَى عَبْدِ الْمُسْلِمِ إلَى إيجَابِ الْجِزْيَةِ عَلَى مُسْلِمٍ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْعَبْدُ لِكَافِرٍ ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا .
وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى الْعَبْدِ .
وَذَلِكَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّهُ مَحْقُونُ الدَّمِ ، فَأَشْبَهَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ ، أَوْ لَا مَالَ لَهُ ، فَأَشْبَهَ الْفَقِيرَ الْعَاجِزَ .
وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ إيجَابَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ يُؤَدِّيهَا سَيِّدُهُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَشْتَرُوا رَقِيقَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَلَا مِمَّا فِي أَيْدِيهمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ خَرَاجٍ ، يَبِيعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَلَا يُقِرَّنَّ أَحَدُكُمْ بِالصَّغَارِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَرَادَ أَنْ يُوَفِّرَ الْجِزْيَةَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا اشْتَرَاهُ سَقَطَ عَنْهُ أَدَاءُ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ، وَالذِّمِّيُّ يُؤَدِّي عَنْهُ وَعَنْ مَمْلُوكِهِ خَرَاجَ جَمَاجِمِهِمْ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلُ حَدِيثِ عُمَرَ .
وَلِأَنَّهُ ذَكَرٌ مُكَلَّفٌ قَوِيٌّ مُكْتَسِبٌ ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ ، كَالْحُرِّ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .
( 7663 ) فَصْلٌ : وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ عَلَيْهِ مِنْ الْجِزْيَةِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَتَجَزَّأُ ، يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَيُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهِ كَالْإِرْثِ .
( 7664 ) فَصْلٌ : وَلَا جِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الصَّوَامِعِ مِنْ الرُّهْبَانِ .
وَيَحْتَمِلُ وُجُوبُهَا عَلَيْهِمْ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رُهْبَانِ الدِّيَارَاتِ الْجِزْيَةَ عَلَى كُلِّ رَاهِبٍ دِينَارَيْنِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ عُمُومُ النُّصُوصِ ، وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ صَحِيحٌ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ ، فَأَشْبَهَ الشَّمَّاسَ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُمْ مَحْقُونُونَ بِدُونِ الْجِزْيَةِ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ ، كَالنِّسَاءِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ ، وَالنُّصُوصُ مَخْصُوصَةٌ بِالنِّسَاءِ ، وَهَؤُلَاءِ فِي مَعْنَاهُنَّ ، وَلِأَنَّهُ لَا كَسْبَ لَهُ ، فَأَشْبَهَ الْفَقِيرَ غَيْرَ الْمُعْتَمِلِ .
( 7665 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُ ، سَقَطَتْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحَوْلِ سَقَطَتْ عَنْهُ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : إنْ أَسْلَمْ بَعْدَ الْحَوْلِ ، لَمْ تَسْقُطْ ؛ لِأَنَّهَا دَيْنٌ يَسْتَحِقُّهُ صَاحِبُهُ ، وَاسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فِي حَالِ الْكُفْرِ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ ، كَالْخَرَاجِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِيمَا إذَا أَسْلَمَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، عَلَيْهِ مِنْ الْجِزْيَةِ بِالْقِسْطِ ، كَمَا لَوْ أَفَاقَ بَعْدَ الْحَوْلِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ جِزْيَةٌ } .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ .
وَذُكِرَ أَنَّ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْهُ ، فَقَالَ : لَيْسَ يَرْوِيه غَيْرُ جَرِيرٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : إنْ أَخَذَهَا فِي كَفِّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ ، رَدَّهَا عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ } .
يَعْنِي الْجِزْيَةَ .
وَرُوِيَ أَنَّ ذِمِّيًّا أَسْلَمَ ، فَطُولِبَ بِالْجِزْيَةِ ، وَقِيلَ : إنَّمَا أَسْلَمْت تَعَوُّذًا .
قَالَ : إنَّ فِي الْإِسْلَامِ مَعَاذًا .
فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ ، فَقَالَ عُمَرُ : إنَّ فِي الْإِسْلَامِ مَعَاذًا .
وَكَتَبَ أَلَّا تُؤْخَذَ مِنْهُ الْجِزْيَةُ .
رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى .
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ صَغَارٌ ، فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ تَجِبُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ ، فَيُسْقِطُهَا الْإِسْلَامُ ، كَالْقَتْلِ .
وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ
الدُّيُونِ .
( 7666 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَاتَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ الْحَوْلِ ، لَمْ تَسْقُطْ الْجِزْيَةُ عَنْهُ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ .
ذَكَرَهُ أَحْمَدُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ ، عَنْ الْقَاضِي ، أَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، كَالْحُدُودِ ، وَلِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ ، فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، كَمَا قَبْلَ الْحَوْلِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ ، كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ ، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِفَوَاتِ مَحِلِّهِ ، وَتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ ، بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ .
وَفَارَقَ الْإِسْلَامَ ؛ فَإِنَّهُ الْأَصْلُ ، وَالْجِزْيَةُ بَدَلٌ عَنْهُ ، فَإِذَا أَتَى بِالْأَصْلِ اسْتَغْنَى عَنْ الْبَدَلِ ، كَمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ لَا يَحْتَاجُ مَعَهُ إلَى التَّيَمُّمِ ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ ، يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَعَاذًا مِنْ الْجِزْيَةِ ، كَمَا ذَكَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْمَوْتُ بِخِلَافِهِ .
( 7667 ) فَصْلٌ : وَلَا تَتَدَاخَلُ الْجِزْيَةُ ، بَلْ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةُ سِنِينَ ، اُسْتُوْفِيَتْ مِنْهُ كُلُّهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَتَدَاخَلُ ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ ، فَتَتَدَاخَلُ ، كَالْحُدُودِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا حَقُّ مَالٍ ، يَجِبُ فِي آخِرِ كُلِّ حَوْلٍ ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ ، كَالدِّيَةِ .
( 7668 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَإِذَا أُعْتِقَ ، لَزِمَتْهُ الْجِزْيَةُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُعْتِقُ لَهُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا هَذَا الصَّحِيحُ عَنْ أَحْمَدَ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ ، وَاللَّيْثُ ، وَابْنُ لَهِيعَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، يُقَرُّ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ .
وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ الشَّعْبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ شُعْبَةٌ مِنْ الرِّقِّ ، وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَيْهِ .
وَوَهَّنَ الْخِلَالُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ، وَقَالَ : هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ ، رَجَعَ عَنْهُ أَحْمَدُ ، وَالْعَمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
وَعَنْ مَالِكٍ كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ .
وَعَنْهُ ، إنْ كَانَ الْمُعْتَقُ لَهُ مُسْلِمًا ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ عَلَيْهِ الْوَلَاءَ لِمُسْلِمٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ الرِّقُّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ مُوسِرٌ مِنْ أَهْلِ الْقَتْلِ ، فَلَمْ يُقَرَّ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ جِزْيَةٍ ، كَالْحُرِّ الْأَصْلِيِّ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ حُكْمَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ جِزْيَتِهِ حُكْمُ مَنْ بَلَغَ مِنْ صِبْيَانِهِمْ ، أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَجَانِينُهُمْ ، عَلَى مَا مَضَى .
( 7669 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَمَوَاشِيهمْ وَثَمَرِهِمْ ، مِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَنُو تَغْلِبَ بْنِ وَائِلٍ ، مِنْ الْعَرَبِ ، مِنْ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ ، انْتَقَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إلَى النَّصْرَانِيَّةِ ، فَدَعَاهُمْ عُمَرُ إلَى بَذْلِ الْجِزْيَةِ ، فَأَبَوْا ، وَأَنِفُوا ، وَقَالُوا : نَحْنُ عَرَبٌ ، خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ .
فَقَالَ عُمَرُ : لَا آخُذُ مِنْ مُشْرِكٍ صَدَقَةً .
فَلَحِقَ بَعْضُهُمْ بِالرُّومِ ، فَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ الْقَوْمَ لَهُمْ بَأْسٌ وَشِدَّةٌ ، وَهُمْ عَرَبٌ يَأْنَفُونَ مِنْ الْجِزْيَةِ ، فَلَا تُعِنْ عَلَيْك عَدُوَّك بِهِمْ ، وَخُذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ .
فَبَعَثَ عُمَرُ فِي طَلَبِهِمْ ، فَرَدَّهُمْ ، وَضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ كُلِّ خَمْسٍ شَاتَيْنِ ، وَمِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعَيْنِ ، وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا ، وَمِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَفِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْخُمُسَ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ غَرْبٍ أَوْ دُولَابٍ الْعُشْرَ .
فَاسْتَقَرَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَصَارَ إجْمَاعًا .
وَقَالَ بِهِ الْفُقَهَاءُ بَعْدَ الصَّحَابَةِ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّهُ أَبَى عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ إلَّا الْجِزْيَةَ ، وَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ إلَّا الْجِزْيَةَ ، وَإِلَّا فَقَدْ آذَنْتُكُمْ بِالْحَرْبِ .
وَالْحُجَّةُ لِهَذَا عُمُومُ الْآيَةِ فِيهِمْ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَئِنْ تَفَرَّغْت لِبَنِي تَغْلِبَ لَيَكُونَن لِي فِيهِمْ رَأْيٌ ، لِأَقْتُلَن مُقَاتِلَتَهُمْ ، وَلِأَسْبِيَن ذَرَارِيَّهُمْ ، فَقَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ ، وَبَرِئَتْ مِنْهُمْ الذِّمَّةُ حِينَ نَصَّرُوا أَوْلَادَهُمْ .
وَذَلِكَ أَنَّ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ لَا يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ .
وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْآيَةُ ، فَإِنَّ هَذَا الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ، فَإِنَّ الْجِزْيَةَ يَجُوزُ أَخْذُهَا مِنْ الْعُرُوضِ .
( 7670 ) فَصْلٌ : قَالَ أَصْحَابُنَا : تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مُضَاعَفَةً مِنْ مَال مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الزَّكَاةُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
وَذُكِرَ أَنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ .
فَعَلَى هَذَا ، تُؤْخَذُ مِنْ مَالِ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ وَمَجَانِينِهِمْ وَزَمْنَاهُمْ وَمَكَافِيفِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي مَالِ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ ، فَكَذَا الْوَاجِبُ عَلَى بَنِي تَغْلِبَ ، لَا يَجِبُ فِي مَالِ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ ، إلَّا فِي الْأَرْضِ خَاصَّةً .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ هَذَا جِزْيَةٌ تُؤْخَذُ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ، فَلَا تُؤْخَذُ مِمَّنْ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ .
قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : هَؤُلَاءِ حَمْقَى ، رَضُوا بِالْمَعْنَى ، وَأَبَوْا الِاسْمَ .
وَقَالَ النُّعْمَانُ بْنُ زُرْعَةَ خُذْ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ .
وَلِأَنَّهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ جِزْيَةً لَا صَدَقَةً ، كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ ، فَكَانَ جِزْيَةً ، كَمَا لَوْ أُخِذَ بِاسْمِ الْجِزْيَةِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الزَّكَاةَ طُهْرَةٌ ، وَهَؤُلَاءِ لَا طُهْرَةَ لَهُمْ .
فَعَلَى هَذَا ، يَكُونُ مَصْرِفُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ مَصْرِفَ الْفَيْءِ ، لَا مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ ، وَهَذَا أَقْيَسُ .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُمْ سَأَلُوا عُمَرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ .
فَأَجَابَهُمْ عُمَرُ إلَيْهِ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ ، وَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ هُوَ الزَّكَاةُ ، مِنْ كُلِّ مَالٍ زَكَوِيٍّ لِأَيِّ مُسْلِمٍ كَانَ ، مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ، وَصَحِيحٍ وَمَرِيضٍ ، كَذَلِكَ الْمَأْخُوذُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ ، وَلِأَنَّ نِسَاءَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ صِينُوا عَنْ السَّبْيِ بِهَذَا الصُّلْحِ ، وَدَخَلُوا فِي حُكْمِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الْوَاجِبِ بِهِ ، كَالرِّجَالِ الْعُقَلَاءِ .
وَعَلَى هَذَا ، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ
فَقِيرًا أَوْ لَهُ مَالٌ غَيْرُ زَكَوِيٍّ كَالدُّورِ ، وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ ، وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الزَّكَاةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تُؤْخَذُ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا .
فَأَمَّا مَصْرِفُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ ، فَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّ مَصْرِفَهُ مَصْرِفُ الْفَيْءِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ مُشْرِكٍ ، وَلِأَنَّهُ جِزْيَةٌ مُسَمَّاةٌ بِالصَّدَقَةِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : مَصْرِفُهُ إلَى أَهْلِ الصَّدَقَاتِ ؛ لِأَنَّهُ مُسَمًّى بِاسْمِ الصَّدَقَةِ مَسْلُوكٌ بِهِ فِي مَنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ - مَسْلَكُ الصَّدَقَةِ ، فَيَكُونُ مَصْرِفُهُ مَصْرِفَهَا .
وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّيْءِ أَخَصُّ بِهِ مِنْ اسْمِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ سُمِّيَ رَجُلٌ أَسَدًا ، أَوْ نَمِرًا ، أَوْ أَسْوَدَ ، أَوْ أَحْمَرَ ، لَمْ يَصِرْ لَهُ حُكْمُ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ صَدَقَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ ، لَجَازَ دَفْعُهَا إلَى فُقَرَاءِ مَنْ أُخِذَتْ مِنْهُمْ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ } .
( 7671 ) فَصْلٌ : فَإِنْ بَذَلَ التَّغْلِبِيُّ أَدَاءَ الْجِزْيَةِ ، وَتُحَطُّ عَنْهُ الصَّدَقَةُ ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى هَذَا ، فَلَا يُغَيَّرُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } .
وَهَذَا قَدْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ ، وَإِنْ كَانَ بَاذِلُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ حَرْبِيًّا ، قُبِلَتْ مِنْهُ ؛ لِلْآيَةِ ، وَخَبَرِ بُرَيْدَةَ : { اُدْعُهُمْ إلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ ، فَإِنْ أَجَابُوك ، فَاقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ } .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي صُلْحِ الْأَوَّلِينَ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُهُ ، وَهُوَ كِتَابِيٌّ بَاذِلٌ لِلْجِزْيَةِ ، فَيُحْقَنُ بِهَا دَمُهُ .
وَإِنْ أَرَادَ إمَامٌ نَقْضَ صُلْحِهِمْ ، وَتَجْدِيدَ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ كَفِعْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَقَدْ عَقَدَهُ مَعَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ نَقْضُهُ مَا دَامُوا عَلَى الْعَهْدِ .
( 7672 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا سَائِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ ، فَالْجِزْيَةُ مِنْهُمْ مَقْبُولَةٌ ، وَلَا يُؤْخَذُونَ بِمَا يُؤْخَذُ بِهِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ .
نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا وَرَوَاهُ عَنْ الزُّهْرِيِّ .
قَالَ : وَنَذْهَبُ إلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَوَاشِي بَنِي تَغْلِبَ خَاصَّةً الصَّدَقَةَ ، وَنُضَعِّفُ عَلَيْهِمْ ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ ، أَنَّ حُكْمَ مَنْ تَنَصَّرَ مِنْ تَنُوخِ وَبَهْرَاءَ ، أَوْ تَهَوَّدَ مِنْ كِنَانَةَ وَحِمْيَرَ ، أَوْ تَمَجَّسَ مِنْ تَمِيمٍ ، حُكْمُ بَنِي تَغْلِبَ ، سَوَاءً .
وَذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
نَصَّ عَلَيْهِ ، فِي تَنُوخِ وَبَهْرَاءَ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْعَرَبِ ، فَأَشْبَهُوا بَنِي تَغْلِبَ .
وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ : { خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا } .
وَهُمْ عَرَبٌ .
وَقَبِلَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ ، وَهُمْ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : أَوَّلُ مَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ أَهْلُ نَجْرَانَ ، وَكَانُوا نَصَارَى .
وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ أُكَيْدِرَ دُومَةَ ، وَهُوَ عَرَبِيٌّ .
وَحُكْمُ الْجِزْيَةِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فِي كُلِّ كِتَابِيٍّ ، عَرَبِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَرَبِيٍّ ، إلَّا مَا خُصَّ بِهِ بَنُو تَغْلِبَ ، لِمُصَالَحَةِ عُمَرَ إيَّاهُمْ ، فَفِي مَا عَدَاهُمْ يَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى عُمُومِ الْكِتَابِ وَشَوَاهِدِ السُّنَّةِ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ غَيْرِ بَنِي تَغْلِبَ وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ صُلْحٌ كَصُلْحِ بَنِي تَغْلِبَ ، فِيمَا بَلَغَنَا ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِ بَنِي تَغْلِبَ عَلَيْهِمْ ؛ لِوُجُوهٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّ قِيَاسَ سَائِرِ الْعَرَبِ عَلَيْهِمْ يُخَالِفُ النُّصُوصَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ عَلَى مَا تَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ النَّصِّ .
الثَّانِي ، أَنَّ الْعِلَّةَ فِي بَنِي تَغْلِبَ الصُّلْحُ ، وَلَمْ
يُوجَدْ الصُّلْحُ مَعَ غَيْرِهِمْ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ مَعَ تَخَلُّفِ الْعِلَّةِ .
الثَّالِثُ ، أَنَّ بَنِي تَغْلِبَ كَانُوا ذَوِي قُوَّةٍ وَشَوْكَةٍ ، لَحِقُوا بِالرُّومِ ، وَخِيفَ مِنْهُمْ الضَّرَرُ إنْ لَمْ يُصَالَحُوا ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا فِي غَيْرِهِمْ .
فَإِنْ وُجِدَ هَذَا فِي غَيْرِهِمْ ، فَامْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ ، وَخِيفَ الضَّرَرُ بِتَرْكِ مُصَالَحَتِهِمْ ، فَرَأَى الْإِمَامُ مُصَالَحَتَهُمْ عَلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ ، جَازَ ذَلِكَ ، إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجِزْيَةِ أَوْ زِيَادَةً قَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ : سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ : أَهْلُ الْكِتَابِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاشِيهمْ صَدَقَةٌ ، وَلَا فِي أَمْوَالِهِمْ ، إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا صُولِحُوا عَلَى أَنْ تُؤْخَذَ مِنْهُمْ ، كَمَا صَنَعَ عُمَرُ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ، حِينَ أَضْعَفَ عَلَيْهِمْ الصَّدَقَةَ فِي صُلْحِهِ إيَّاهُمْ ، وَذَكَرَ هَذَا أَبُو إِسْحَاقَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ ، فِي كِتَابِهِ .
وَالْحُجَّةُ فِي هَذَا قِصَّةُ بَنِي تَغْلِبَ ، وَقِيَاسُهُمْ عَلَيْهِمْ .
إذَا كَانُوا فِي مَعْنَاهُمْ .
أَمَّا قِيَاسُ مَنْ لَمْ يُصَالِحُ عَلَيْهِمْ ، فِي جَعْلِ جِزْيَتِهِمْ صَدَقَةً ، فَلَا يَصِحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7673 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اتَّجَرَ نَصْرَانِيٌّ تَغْلِبِيٌّ ، فَمَرَّ بِالْعَاشِرِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ ، أَنَّ عُمَرَ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ الْعُشْرَ ، وَمِنْ نَصَارَى أَهْلِ الْكِتَابِ نِصْفَ الْعُشْرِ .
وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ .
وَقَالَ : حَدِيثُ دَاوُد بْنِ كُرْدُوسٍ ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ زُرْعَةَ ، هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ ، أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ الضِّعْفُ مِمَّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، أَلَا تَسْمَعُهُ يَقُولُ : مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا ؟ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا مَرُّوا بِأَمْوَالِهِمْ رُبْعُ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ ، فَذَاكَ ضِعْفُ هَذَا .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ : مِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَهُوَ أَقْيَسُ ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي سَائِرِ أَمْوَالِهِمْ ضِعْفُ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، لَا ضِعْفُ مَا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ .
( 7674 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ، وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ .
فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ، تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، فِي أَكْلِ ذَبَائِحِهِمْ ، وَنِكَاحِ نِسَائِهِمْ ، فَعَنْهُ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَلَمْ يُبِحْ الشَّافِعِيُّ ذَبَائِحَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كُلِّهِمْ .
وَكَرِهَ ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ عَطَاءٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَالنَّخَعِيُّ .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ دِينِهِمْ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ .
وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي دِينِ الْكُفْرِ بَعْدَ التَّبْدِيلِ ، فَلَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ .
وَهَذَا الصَّحِيحُ عَنْ أَحْمَدَ رَوَاهُ عَنْهُ الْجَمَاعَةُ ، وَكَانَ آخِرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ : فَكَانَ آخِرُ قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى بِذَبَائِحِهِمْ بَأْسًا .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : وَمَا عَلِمْت أَحَدًا كَرِهَهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَلِيًّا .
وَذَلِكَ لِدُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } .
وَلِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يُقَرُّونَ عَلَى دِينِهِمْ بِبَذْلِ الْمَالِ ، فَتَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ ، كَبَنِي إسْرَائِيلَ .
( 7675 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَمَنْ يُجَزْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ ، أُخِذَ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ فِي السَّنَةِ اشْتَهَرَ هَذَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَحَّتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا الْجِزْيَةُ ، إلَّا أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَ الْحِجَازِ ، فَيُنْظَرَ فِي حَالِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ لِرِسَالَةٍ ، أَوْ نَقْلِ مِيرَةٍ ، أَذِنَ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ لِتِجَارَةٍ لَا حَاجَةَ بِأَهْلِ الْحِجَازِ إلَيْهَا ، لَمْ يَأْذَنْ لَهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ عِوَضًا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ وَالْأَوْلَى أَنْ يَشْتَرِطَ نِصْفَ الْعُشْرِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ شَرَطَ نِصْفَ الْعُشْرِ عَلَى مَنْ دَخَلَ الْحِجَازَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ ، إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : بَعَثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إلَى الْعُشُورِ ، فَقُلْت : تَبْعَثُنِي إلَى الْعُشُورِ مِنْ بَيْنِ عُمَّالِك ، قَالَ : أَمَا تَرْضَى أَنْ أَجْعَلَك عَلَى مَا جَعَلَنِي عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؟ أَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رُبْعَ الْعُشْرِ ، وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ .
وَهَذَا كَانَ بِالْعِرَاقِ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ ، أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ إلَى الْكُوفَةِ ، فَجَعَلَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي أَمْوَالِهِمْ الَّتِي يَخْتَلِفُونَ فِيهَا ، فِي كُلِّ عُشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ ، أَنَّ عُمَرَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ الْعُشْرَ ، وَمِنْ نَصَارَى أَهْلِ الْكِتَابِ نِصْفَ الْعُشْرِ .
وَهَذَا كَانَ بِالْعِرَاقِ ، وَاشْتَهَرَتْ هَذِهِ الْقِصَصُ وَلَمْ تُنْكَرْ ، فَكَانَتْ إجْمَاعًا ، وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ ، وَلَمْ يَأْتِ تَخْصِيصُ الْحِجَازِ بِنِصْفِ
الْعُشْرِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَلِمْنَاهُ ، لَا عَنْ عُمَرَ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بَلْ ظَاهِرُ أَحَادِيثِهِمْ ، أَنَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ ، وَمَا وَجَبَ مِنْ الْمَالِ فِي الْحِجَازِ وَجَبَ فِي غَيْرِهِ كَالدُّيُونِ وَالصَّدَقَاتِ .
( 7676 ) فَصْلٌ : وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ .
وَقَالَ : كَذَا رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ ، عَنْ عُمَرَ حِينَ كَتَبَ ، أَلَّا يَأْخُذَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً ، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، فِي الدَّاخِلِينَ أَرْضَ الْحِجَازِ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، بِإِسْنَادِهِ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ نَصْرَانِيٌّ إلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : إنَّ عَامِلَك عَشَرَنِي فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ .
قَالَ : وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ .
قَالَ عُمَرُ : وَأَنَا الشَّيْخُ الْحَنِيفُ .
ثُمَّ كَتَبَ إلَى عَامِلِهِ ، أَنْ لَا تَعْشِرُوا فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً .
وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَالزَّكَاةَ إنَّمَا تُؤْخَذُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَكَذَلِكَ هَذَا .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ مَتَى أَخَذَ مِنْهُمْ ذَلِكَ مَرَّةً ، كَتَبَ لَهُمْ حُجَّةً بِأَدَائِهِمْ ؛ لِتَكُونَ وَثِيقَةً لَهُمْ ، وَحُجَّةً عَلَى مَنْ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَعْشِرُهُمْ ثَانِيَةً ، فَإِنْ مَرَّ ثَانِيَةً بِأَكْثَرَ مِنْ الْمَالِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ ، أَخَذَ مِنْ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُعْشَرْ .
فَصْلٌ : وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ مَالِ التِّجَارَةِ ، فَلَوْ مَرَّ بِالْعَاشِرِ مِنْهُمْ مُنْتَقِلٌ وَمَعَهُ أَمْوَالُهُ أَوْ سَائِمَةٌ ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَإِنْ كَانَتْ مَاشِيَتُهُ لِلتِّجَارَةِ أُخِذَ مِنْهُ نِصْفُ عُشْرِهَا .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ نِصْفُ الْعُشْرِ ، فَرَوَى عَنْهُ صَالِحٌ ، مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارٌ .
يَعْنِي فَإِذَا نَقَصَتْ مِنْ الْعِشْرِينَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، لِأَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةٌ عَلَى مُسْلِمٍ ، وَلَا عَلَى تَغْلِبِيٍّ ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ عَلَى ذِمِّيٍّ شَيْءٌ ، كَاَلَّذِي دُونَ الْعَشَرَةِ .
وَرَوَى صَالِحٌ أَيْضًا ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا مَرُّوا بِالْعَاشِرِ ، فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ الْحَرْبِ ، أَخَذَ مِنْهُمْ الْعُشْرَ ، مِنْ الْعَشَرَةِ وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَخَذَ مِنْهُمْ نِصْفَ الْعُشْرِ ، مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا دِينَارًا ، فَإِذَا نَقَصَتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَإِنْ نَقَصَ مَالُ الْحَرْبِيِّ عَنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ ، لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ فِي الْعَشَرَةِ نِصْفَ مِثْقَالٍ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ شَيْءٌ .
نَصَّ عَلَى هَذَا ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ ، قَالَ : قُلْت إذَا كَانَ مَعَ الذِّمِّيِّ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ؟ قَالَ : تَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ دِينَارٍ .
قُلْت : فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ ؟ قَالَ : إذَا نَقَصَتْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ مَالٌ يَبْلُغُ وَاجِبُهُ نِصْفَ دِينَارٍ ، فَوَجَبَ فِيهِ ، كَالْعِشْرِينَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ .
أَوْ نَقُولُ : مَالٌ مَعْشُورٌ فَوَجَبَ فِي الْعَشَرَةِ مِنْهُ كَمَالِ الْحَرْبِيِّ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يُؤْخَذُ عُشْرُ الْحَرْبِيِّ وَنِصْفُ عُشْرِ الذِّمِّيِّ ، مِنْ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ : خُذْ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا .
وَلِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ فِي
قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، كَنَصِيبِ الْمَالِكِ فِي أَرْضِهِ الَّتِي عَامَلَهُ عَلَيْهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عُشْرٌ أَوْ نِصْفُ عُشْرٍ وَجَبَ بِالشَّرْعِ ، فَاعْتُبِرَ لَهُ نِصَابٌ ، كَزَكَاةِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَقَدَّرُ بِالْحَوْلِ ، فَاعْتُبِرَ لَهُ النِّصَابُ ، كَالزَّكَاةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ ، فَالْمُرَادُ بِهِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - بَيَانُ قَدْرِ الْمَأْخُوذِ ، وَأَنَّهُ نِصْفُ الْعُشْرِ ، وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ فَخُذْ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ أَنَّ عُمَرَ بَعَثَ مُصَدِّقًا ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا ، وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمًا ، وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ كُلِّ عَشَرَةٍ وَاحِدًا .
وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ مَعَهُ نِصَابٌ ، فَكَذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ .
( 7678 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي الْعَاشِرِ يَمُرُّ عَلَيْهِ الذِّمِّيُّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، فَقَالَ فِي مَوْضِعٍ : قَالَ عُمَرُ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا .
لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْآخِذِ مِنْهَا .
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ ، فِي قَوْلِ عُمَرَ : وَلُّوهُمْ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بِعُشْرِهَا .
قَالَ أَحْمَدُ : إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ مَسْرُوقٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَوَافَقَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْخَمْرِ خَاصَّةً .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ شَيْءٌ .
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : الْخَمْرُ لَا يَعْشِرُهَا مُسْلِمٌ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ فَرْقَدٍ بَعَثَ إلَيْهِ بِأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ صَدَقَةَ الْخَمْرِ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : بَعَثْت إلَيَّ بِصَدَقَةِ الْخَمْرِ ، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ .
فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّاسَ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَسْتَعْمِلَنك عَلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا .
قَالَ : فَنَزَعَهُ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَمَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا ، وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنْ الثَّمَنِ .
أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ مِنْ جِزْيَتِهِمْ ، وَخَرَاجِ أَرْضِهِمْ بِقِيمَتِهَا ، ثُمَّ يَتَوَلَّى الْمُسْلِمُونَ بَيْعَهَا فَأَنْكَرَهُ عُمَرُ ، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ أَثْمَانِهَا ، إذَا كَانَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْمُتَوَلِّينَ بَيْعَهَا .
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ ، أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِعُمَرَ : إنَّ عُمَّالَك يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ فِي الْخَرَاجِ .
فَقَالَ : لَا تَأْخُذُوهَا مِنْهُمْ ، وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا ، وَخُذُوا أَنْتُمْ مِنْ الثَّمَنِ .
( 7679 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَخْذُ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مِنْهُمْ عَلَى جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ ، وَخَرَاجِ أَرْضِهِمْ ، احْتِجَاجًا بِقَوْلِ عُمَرَ هَذَا ؛ وَلِأَنَّهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ الَّتِي نُقِرُّهُمْ عَلَى اقْتِنَائِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا ، فَجَازَ أَخْذُ أَثْمَانِهَا مِنْهُمْ ، كَثِيَابِهِمْ .
( 7680 ) فَصْلٌ : وَإِذَا مَرَّ الذِّمِّيُّ بِالْعَاشِرِ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بِقَدْرِ مَا مَعَهُ ، أَوْ يَنْقُصُ عَنْ النِّصَابِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ أَخْذَ نِصْفِ الْعُشْرِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ يُعْتَبَرُ لَهُ النِّصَابُ وَالْحَوْلُ ، فَيَمْنَعُهُ الدَّيْنُ ، كَالزَّكَاةِ .
فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ عَلَيْهِ دَيْنًا ، لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْهُ .
وَإِنْ مَرَّ بِجَارِيَةٍ ، فَادَّعَى أَنَّهَا بِنْتُهُ أَوْ أُخْتُهُ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يُقْبَلُ قَوْلُهُ .
قَالَ الْخَلَّالُ : وَهُوَ أَشْبَهُ الْقَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مِلْكِهِ فِيهَا .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يُقْبَلُ ؛ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ ، فَأَشْبَهَتْ بَهِيمَتَهُ .
( 7681 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَإِذَا دَخَلَ إلَيْنَا مِنْهُمْ تَاجِرٌ حَرْبِيٌّ بِأَمَانٍ ، أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا شَيْئًا ، فَنَأْخُذُ مِنْهُمْ مِثْلَهُ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ ، قَالَ : قَالُوا لِعُمَرَ : كَيْفَ نَأْخُذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا قَدِمُوا عَلَيْنَا ؟ قَالَ : كَيْفَ يَأْخُذُونَ مِنْكُمْ إذَا دَخَلْتُمْ إلَيْهِمْ ؟ قَالُوا : الْعُشْرَ .
قَالَ : فَكَذَلِكَ خُذُوا مِنْهُمْ .
.
وَعَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ ، قَالَ : كُنَّا لَا نَعْشِرُ مُسْلِمًا وَلَا مُعَاهَدًا .
قَالَ : مَنْ كُنْتُمْ تَعْشِرُونَ ؟ قَالَ : كُفَّارَ أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَنَأْخُذُ مِنْهُمْ كَمَا يَأْخُذُونَ مِنَّا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ دَخَلَ إلَيْنَا بِتِجَارَةٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ ، لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ إلَّا بِعِوَضٍ يَشْرِطُهُ عَلَيْهِ ، وَمَهْمَا شَرَطَ جَازَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْتَرِطَ الْعُشْرَ ، لِيُوَافِقَ فِعْلُهُ فِعْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ أَذِنَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ أَمَانٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَلَمْ يُسْتَحَقَّ بِهِ شَيْءٌ ، كَالْهُدْنَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ أَخَذَهُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَيْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ، وَلِأَنَّ عُمَرَ أَخَذَ مِنْهُمْ الْعُشْرَ ، وَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، وَعَمِلَ بِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ ، وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، فَأَيُّ إجْمَاعٍ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ هَذَا ؟ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالتَّخْمِينِ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ ، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْهُودِ فِي الشَّرْعِ ، وَقَدْ اسْتَمَرَّ أَخْذُ الْعُشْرِ مِنْهُمْ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ، فَيَجِبُ أَخْذُهُ .
فَأَمَّا سُؤَالُ عُمَرَ عَمَّا يَأْخُذُونَ مِنَّا ، فَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ
كَيْفِيَّةِ الْأَخْذِ وَمِقْدَارِهِ ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ الْأَخْذُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ ، وَلَوْ تَقَيَّدَ أَخْذُنَا مِنْهُمْ بِأَخْذِهِمْ مِنَّا ، لَوَجَبَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ .
فَصْلٌ : وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ مَالٍ لِلتِّجَارَةِ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا دَخَلُوا فِي نَقْلِ مِيرَةٍ بِالنَّاسِ إلَيْهَا حَاجَةٌ ، أُذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ بِغَيْرِ عُشْرٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُمْ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَلَنَا ، عُمُومُ مَا رَوَيْنَاهُ .
وَرَوَى صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ النَّبَطِ مِنْ الْقُطْنِيَّةِ الْعُشْرَ ، وَمِنْ الْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ نِصْفَ الْعُشْرِ ، لِيَكْثُرَ الْحَمْلُ إلَى الْمَدِينَةِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمْ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ ، وَلَهُ التَّرْكُ أَيْضًا إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ .
( 7683 ) فَصْلٌ : وَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ حَرْبِيٍّ تَاجِرٍ ، وَنِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ كُلِّ ذِمِّيٍّ تَاجِرٍ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، أَوْ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، وَقَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ عُشْرٌ وَلَا نِصْفُ عُشْرٍ ، سَوَاءٌ كَانَتْ حَرْبِيَّةً أَوْ ذِمِّيَّةً ، لَكِنْ إنْ دَخَلَتْ الْحِجَازَ عُشِرَتْ ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْإِقَامَةِ بِهِ .
وَلَا يُعْرَفُ هَذَا التَّفْصِيلُ عَنْ أَحْمَدَ ، وَلَا يَقْتَضِيه مَذْهَبُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ فِي أَمْوَالِ نِسَاءِ بَنِي تَغْلِبَ وَصِبْيَانِهِمْ ، فَكَذَلِكَ يُوجِبُ الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَهُ فِي مَالِ النِّسَاءِ ، وَعُمُومُ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ لَيْسَ فِيهَا تَخْصِيصٌ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِجِزْيَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ يَخْتَصُّ بِمَالِ التِّجَارَةِ ، لِتَوَسُّعِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَانْتِفَاعِهِ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ، كَالزَّكَاةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ .
( 7684 ) فَصْلٌ : وَلَا يُعْشَرُونَ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ .
نَصَّ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ ، أَنَّ الْحَرْبِيَّ يُعْشَرُ كَلَّمَا دَخَلَ إلَيْنَا .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَخَذْنَا مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً ، لَا نَأْمَنُ أَنْ يَدْخُلُوا ، فَإِذَا جَاءَ وَقْتُ السَّنَةِ الْأُخْرَى لَمْ يَدْخُلُوا ، فَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ مِنْهُمْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَقٌّ يُؤْخَذُ مِنْ التِّجَارَةِ ، فَلَا يُؤْخَذُ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِي السَّنَةِ ، كَالزَّكَاةِ ، وَنِصْفِ الْعُشْرِ مِنْ الذِّمِّيِّ .
وَقَوْلُهُمْ : يَفُوتُ .
غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَوَّلَ مَا يَدْخُلُ مَرَّةً ، وَيَكْتُبُ الْآخِذُ لَهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ ، فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ تِلْكَ السَّنَةُ ، فَإِذَا جَاءَ فِي الْعَامِ الثَّانِي ، أُخِذَ مِنْهُ ، فِي أَوَّلِ مَا يَدْخُلُ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ ، فَمَا فَاتَ مِنْ حَقِّ السَّنَةِ الْأُولَى شَيْءٌ .
( 7685 ) فَصْلٌ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْحَرْبِ دُخُولُ دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ جَاسُوسًا ، أَوْ مُتَلَصِّصًا ، فَيَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ أَمَانٍ ، سُئِلَ ، فَإِنْ قَالَ : جِئْت رَسُولًا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَمْ تَزَلْ الرُّسُلُ تَأْتِي مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ أَمَانٍ .
وَإِنْ قَالَ : جِئْت تَاجِرًا .
نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَتَاعٌ يَبِيعُهُ ، قُبِلَ قَوْلُهُ أَيْضًا ، وَحُقِنَ دَمُهُ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِدُخُولِ تُجَّارِهِمْ إلَيْنَا وَتُجَّارِنَا إلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَا يَتَّجِرُ بِهِ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَا تُحَصَّلُ بِغَيْرِ مَالٍ .
وَكَذَلِكَ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رِسَالَةٌ يُؤَدِّيهَا ، أَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَكُونُ مِثْلُهُ رَسُولًا .
وَإِنْ قَالَ : أَمَّنَنِي مُسْلِمٌ .
فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُقْبَلُ ، تَغْلِيبًا لِحَقْنِ دَمِهِ ، كَمَا يُقْبَلُ مِنْ الرَّسُولِ وَالتَّاجِرِ .
وَالثَّانِي ، لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ مُمْكِنَةٌ .
فَإِنْ قَالَ : مُسْلِمٌ : أَنَا أَمَّنْته .
قُبِلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَمِّنَهُ ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ ، كَالْحَاكِمِ إذَا قَالَ : حَكَمْت لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ بِحَقٍّ .
وَإِنْ كَانَ جَاسُوسًا ، خُيِّرَ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ؛ كَالْأَسِيرِ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ ضَلَّ الطَّرِيقَ ، أَوْ حَمَلَتْهُ الرِّيحُ إلَيْنَا فِي مَرْكَبٍ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ .
( 7686 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ نَقَضَ الْعَهْدَ ، بِمُخَالَفَةِ شَيْءٍ مِمَّا صُولِحُوا عَلَيْهِ ، حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ عِنْدَ عَقْدِ الْهُدْنَةِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ شُرُوطًا ، نَحْوَ مَا شَرَطَهُ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، قَالُوا : كَتَبَ أَهْلُ الْجَزِيرَةِ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ : إنَّا حِينَ قَدِمْنَا مِنْ بِلَادِنَا ، طَلَبْنَا إلَيْك الْأَمَانَ لِأَنْفُسِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا ، عَلَى أَنَّا شَرَطْنَا لَك عَلَى أَنْفُسِنَا أَنْ لَا نُحْدِثَ فِي مَدِينَتِنَا كَنِيسَةً ، وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دَيْرًا ، وَلَا قلاية ، وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا ، وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا فِي خُطَطِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا نَمْنَعَ كَنَائِسَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْزِلُوهَا فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَأَنْ نُوَسِّعَ أَبْوَابَهَا لِلْمَارَّةِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، وَلَا نُؤْوِيَ فِيهَا وَلَا فِي مَنَازِلِنَا جَاسُوسًا ، وَأَنْ لَا نَكْتُمَ أَمْرَ مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ لَا نَضْرِبَ نَوَاقِيسَنَا إلَّا ضَرْبًا خَفِيًّا فِي جَوْفِ كَنَائِسِنَا ، وَلَا نُظْهِرَ عَلَيْهَا صَلِيبًا ، وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا فِي الصَّلَاةِ ، وَلَا الْقِرَاءَةِ فِي كَنَائِسِنَا فِيمَا يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَلَا نُخْرِجَ صَلِيبَنَا وَلَا كِتَابَنَا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَلَّا نَخْرُجَ بَاعُوثًا وَلَا شَعَانِينَ ، وَلَا نَرْفَعَ أَصْوَاتَنَا مَعَ أَمْوَاتِنَا ، وَلَا نُظْهِرَ النِّيرَانَ مَعَهُمْ فِي أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ لَا نُجَاوِرَهُمْ بِالْخَنَازِيرِ ، وَلَا نَبِيعَ الْخُمُورَ ، وَلَا نُظْهِرَ شِرْكًا ، وَلَا نَرْغَبَ فِي دِينِنَا ، وَلَا نَدْعُوَ إلَيْهِ أَحَدًا ، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ الرَّقِيقِ الَّذِينَ جَرَتْ عَلَيْهِمْ سِهَامُ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنْ لَا نَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ أَقْرِبَائِنَا إذَا
أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ نَلْزَمَ زِيَّنَا حَيْثُمَا كُنَّا ، وَأَنْ لَا نَتَشَبَّهَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا نَعْلَيْنِ ، وَلَا فَرْقِ شَعْرٍ ، وَلَا فِي مَوَاكِبِهِمْ ، وَلَا نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِمْ ، وَإِنْ لَا نَتَكَنَّى بِكُنَاهُمْ ، وَأَنْ نَجُزَّ مَقَادِمَ رُءُوسِنَا ، وَلَا نَفْرِقَ نَوَاصِيَنَا ، وَنَشُدُّ الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِنَا ، وَلَا نَنْقُشَ خَوَاتِيمَنَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَلَا نَرْكَبَ السُّرُوجَ ، وَلَا نَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْ السِّلَاحِ وَلَا نَحْمِلَهُ ، وَلَا نَتَقَلَّدَ السُّيُوفَ ، وَأَنْ نُوَقِّرَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ ، وَنُرْشِدَ الطَّرِيقَ ، وَنَقُومَ لَهُمْ عَنْ الْمَجَالِسَ إذَا أَرَادُوا الْمَجَالِسَ ، وَلَا نَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ ، وَلَا نُعَلِّمَ أَوْلَادَنَا الْقُرْآنَ ، وَلَا يُشَارِكْ أَحَدٌ مِنَّا مُسْلِمًا فِي تِجَارَةٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إلَى الْمُسْلِمِ أَمْرُ التِّجَارَةِ ، وَأَنْ نُضِيفَ كُلَّ مُسْلِمٍ عَابِرِ سَبِيلٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَنُطْعِمَهُ مِنْ أَوْسَطِ مَا نَجِدُ ، ضَمِنَّا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِنَا ، وَذَرَارِيِّنَا ، وَأَزْوَاجِنَا وَمَسَاكِنِنَا ، وَإِنْ نَحْنُ غَيَّرْنَا ، أَوْ خَالَفْنَا عَمَّا شَرَطْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا ، وَقَبِلْنَا الْأَمَانَ عَلَيْهِ فَلَا ذِمَّةَ لَنَا ، وَقَدْ حَلَّ لَك مِنَّا مَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ .
فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَتَبَ لَهُمْ عُمَرُ : أَنْ أَمْضِ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ ، وَأَلْحِقْ فِيهِ حَرْفَيْنِ ، اشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ مَعَ مَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنْ لَا يَشْتَرُوا مِنْ سَبَايَانَا شَيْئًا ، وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا ، فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ .
فَأَنْفَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ ذَلِكَ وَأَقَرَّ مَنْ أَقَامَ مِنْ الرُّومِ فِي مَدَائِنِ الشَّامِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ .
فَهَذِهِ جُمْلَةُ شُرُوطِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِذَا صُولِحُوا عَلَيْهَا ، ثُمَّ نَقَضَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا مِنْهَا ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ عَهْدَهُ يَنْتَقِضُ بِهِ
.
وَهُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَيْنَاهُ ؛ لِقَوْلِهِمْ فِي الْكِتَابِ : إنْ نَحْنُ خَالَفْنَا ، فَقَدْ حَلَّ لَك مَنَّا مَا يَحِلُّ لَك مِنْ أَهْلِ الْمُعَانَدَةِ وَالشِّقَاقِ .
وَقَالَ عُمَرُ : وَمَنْ ضَرَبَ مُسْلِمًا عَمْدًا فَقَدْ خَلَعَ عَهْدَهُ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ بِشَرْطٍ فَمَتَى لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ ، زَالَ حُكْمُ الْعَقْدِ ، كَمَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، وَالشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ ، أَنَّ الشُّرُوطَ قِسْمَانِ ؛ أَحَدُهُمَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِمُخَالَفَتِهِ ، وَهُوَ أَحَدَ عَشَرَ شَيْئًا ؛ الِامْتِنَاعُ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ ، وَجَرْيِ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ إذَا حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالزِّنَى بِمُسْلِمَةٍ وَإِصَابَتُهَا بِاسْمِ نِكَاحٍ ، وَفَتْنُ مُسْلِمٍ عَنْ دِينِهِ ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ ، وَقَتْلُهُ ، وَإِيوَاءُ جَاسُوسِ الْمُشْرِكِينَ ، وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِدَلَالَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ أَوْ مُكَاتَبَتِهِمْ ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كِتَابِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ رَسُولِهِ بِسُوءِ ، فَالْخَصْلَتَانِ الْأُولَيَانِ يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِهِمَا بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَفِي مَعْنَاهُمَا قِتَالُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ مُنْفَرِدِينَ أَوْ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْأَمَانِ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، فَإِذَا فَعَلُوهُ نَقَضُوا الْأَمَانَ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا قَاتَلُونَا ، لَزِمَنَا قِتَالُهُمْ ، وَذَلِكَ ضِدُّ الْأَمَانِ ، وَسَائِرُ الْخِصَالِ فِيهَا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، أَنَّ الْعَهْدَ يُنْتَقَضُ بِهَا ، سَوَاءٌ شُرِطَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا .
إلَّا أَنَّ مَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ ، لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِتَرْكِهِ ، مَا خَلَا الْخِصَالَ الثَّلَاثَ الْأُولَى ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ شَرْطُهَا ، وَيَنْتَقِضُ الْعَهْدُ بِتَرْكِهَا بِكُلِّ حَالٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْتَقِضُ الْعَهْدُ إلَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِمَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ
مِنْهُمْ .
وَلَنَا ، مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ رَجُلٌ قَدْ أَرَادَ اسْتِكْرَاهَ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَا ، فَقَالَ : مَا عَلَى هَذَا صَالَحْنَاكُمْ .
وَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ .
وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَأَشْبَهَ الِامْتِنَاعَ مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُ .
فَإِنَّهُ إنْ فَعَلَ مَا فِيهِ حَدٌّ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ أَوْ قِصَاصُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ حَدًّا ، عُزِّرَ وَيُفْعَلُ بِهِ مَا يَنْكَفُ بِهِ أَمْثَالُهُ عَنْ فِعْلِهِ .
فَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِعْلَ ذَلِكَ كُفَّ عَنْهُ ، فَإِنْ مَانَعَ بِالْقِتَالِ نُقِضَ عَهْدُهُ .
وَمَنْ حَكَمْنَا بِنَقْضِ عَهْدِهِ مِنْهُمْ ، خُيِّرَ الْإِمَامُ فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ؛ الْقَتْلُ ، وَالِاسْتِرْقَاقُ ، وَالْفِدَاءُ ، وَالْمَنُّ ، كَالْأَسِيرِ الْحَرْبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ قَدَرْنَا عَلَيْهِ فِي دَارِنَا بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلَا عَقْدٍ ، وَلَا شُبْهَةِ ذَلِكَ ، فَأَشْبَهَ اللِّصَّ الْحَرْبِيَّ .
وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِهِ دُونَ ذُرِّيَّتِهِ ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ دُونَهُمْ ، فَاخْتَصَّ بِهِ ، كَمَا لَوْ أَتَى مَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ تَعْزِيرًا .
( 7687 ) فَصْلٌ : أَمْصَارُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ؛ أَحَدُهَا ، مَا مَصَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ ، كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ وَوَاسِطَ ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ إحْدَاثُ كَنِيسَةٍ وَلَا بِيعَةٍ وَلَا مُجْتَمَعٍ لِصَلَاتِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ صُلْحُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَرَبُ ، فَلَيْسَ لِلْعَجَمِ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ بِيعَةً ، وَلَا يَضْرِبُوا فِيهِ نَاقُوسًا ، وَلَا يُشْرِبُوا فِيهِ خَمْرًا ، وَلَا يَتَّخِذُوا فِيهِ خِنْزِيرًا .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَاحْتَجَّ بِهِ .
وَلِأَنَّ هَذَا الْبَلَدَ مِلْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنُوا فِيهِ مَجَامِعَ لِلْكُفْرِ .
وَمَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ ، مِثْلُ كَنِيسَةِ الرُّومِ فِي بَغْدَادَ ، فَهَذِهِ كَانَتْ فِي قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَأُقِرَّتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً ، فَلَا يَجُوزُ إحْدَاثُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَجِبُ هَدْمُهُ ، وَتَحْرُمُ تَبْقِيَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا بِلَادٌ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ فِيهَا بِيعَةٌ ، كَالْبِلَادِ الَّتِي اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ .
وَالثَّانِي يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنَ عَبَّاسٍ : أَيُّمَا مِصْرٍ مَصَّرَتْهُ الْعَجَمُ ، فَفَتَحَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَرَبِ ، فَنَزَلُوهُ ، فَإِنَّ لِلْعَجَمِ مَا فِي عَهْدِهِمْ .
وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَتَحُوا كَثِيرًا مِنْ الْبِلَادِ عَنْوَةً ، فَلَمْ يَهْدِمُوا شَيْئًا مِنْ الْكَنَائِسِ .
وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ هَذَا ، وُجُودُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ فِي الْبِلَادِ الَّتِي فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا مَا أَحْدَثَتْ ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فَأُبْقِيَتْ .
وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى عُمَّالِهِ ، أَنْ لَا يَهْدِمُوا بِيعَةً وَلَا كَنِيسَةً وَلَا بَيْت نَارٍ .
وَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ حَصَلَ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ مَا فُتِحَ صُلْحًا ، وَهُوَ نَوْعَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ لَهُمْ ، وَلَنَا الْخَرَاجُ عَنْهَا ، فَلَهُمْ إحْدَاثُ مَا يَحْتَاجُونَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَهُمْ وَالثَّانِي ، أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَيُؤَدُّونَ الْجِزْيَةَ إلَيْنَا ، فَالْحُكْمُ فِي الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ عَلَى مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَعَهُمْ ، مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ ، وَعِمَارَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ مَعَهُمْ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ لَهُمْ ، جَازَ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْبَلَدِ لَهُمْ ، وَيَكُونَ مَوْضِعُ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ مُعَيَّنًا وَالْأَوْلَى أَنْ يُصَالِحَهُمْ عَلَى مَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِمْ الشُّرُوطَ الْمَذْكُورَةَ فِي كِتَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ ، أَنْ لَا يُحْدِثُوا بِيعَةً ، وَلَا كَنِيسَةً ، وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ ، وَلَا قلاية .
وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، حُمِلَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ صُلْحُ عُمَرَ ، وَأُخِذُوا بِشُرُوطِهِ .
فَأَمَّا الَّذِينَ صَالَحَهُمْ عُمَرُ ، وَعَقَدَ مَعَهُمْ الذِّمَّةَ ، فَهُمْ عَلَى مَا فِي كِتَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ ، مَأْخُوذُونَ بِشُرُوطِهِ كُلِّهَا وَمَا وُجِدَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ ، فَهِيَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ فَاتِحِيهَا وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : يَجُوزُ إقْرَارُهَا .
لَمْ يَجُزْ هَدْمُهَا ، وَلَهُمْ رَمُّ مَا تَشَعَّثَ مِنْهَا ، وَإِصْلَاحُهَا ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى خَرَابِهَا وَذَهَابِهَا ، فَجَرَى مَجْرَى هَدْمِهَا .
وَإِنْ وَقَعَتْ كُلُّهَا ، لَمْ يَجُزْ بِنَاؤُهَا .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ لِمَا اسْتَهْدَمَ فَأَشْبَهَ بِنَاءَ بَعْضِهَا إذَا انْهَدَمَ
وَرَمِّ شَعْثِهَا ، وَلِأَنَّ اسْتِدَامَتَهَا جَائِزَةٌ وَبِنَاؤُهَا كَاسْتِدَامَتِهَا .
وَحَمَلَ الْخَلَّالُ قَوْلَ أَحْمَدَ : لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا مَا انْهَدَمَ مِنْهَا .
أَيْ إذَا انْهَدَمَ بَعْضُهَا ، وَمَنْعَهُ مِنْ بِنَاءِ مَا انْهَدَمَ ، عَلَى مَا إذَا انْهَدَمَتْ كُلُّهَا ، فَجَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ فِي كِتَابِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ لِعِيَاضِ بْنِ غَنْمٍ : وَلَا نُجَدِّدَ مَا خَرِبَ مِنْ كَنَائِسِنَا .
وَرَوَى كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ ، قَالَ : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُبْنَى الْكَنِيسَةُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يُجَدَّدُ مَا خَرِبَ مِنْهَا } .
وَلِأَنَّ هَذَا بِنَاءُ كَنِيسَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ اُبْتُدِئَ بِنَاؤُهَا .
وَفَارَقَ رَمَّ شَعْثِهَا ؛ فَإِنَّهُ إبْقَاءٌ وَاسْتِدَامَةٌ ، وَهَذَا إحْدَاثٌ .
( 7688 ) فَصْلٌ : وَمَنْ اسْتَحْدَثَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِنَاءً ، لَمْ يَجُزْ لَهُ مَنْعُهُ حَتَّى يَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُجَاوِرِينَ لَهُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى } .
وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ رُتْبَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مَمْنُوعُونَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا يُمْنَعُونَ مِنْ صُدُورِ الْمَجَالِسِ ، وَيَلْجَئُونَ إلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ .
وَلَا يُمْنَعُ مِنْ تَعْلِيَةِ بِنَائِهِ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُجَاوِرٍ لَهُ ؛ لِأَنَّ عُلُوَّهَا إنَّمَا يَكُونُ ضَرَرًا عَلَى الْمُجَاوِرِ لَهَا ، دُونَ غَيْرِهِ .
وَفِي جَوَازِ مُسَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَطِيلٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
وَالثَّانِي ، الْمَنْعُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى } .
وَلِأَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنْ مُسَاوَاةِ الْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَرُكُوبِهِمْ ، كَذَلِكَ فِي بِنَائِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ لِلذِّمِّيِّ دَارٌ عَالِيَةٌ ، فَمَلَكَ الْمُسْلِمُ دَارًا إلَى جَانِبِهَا ، أَوْ بَنَى الْمُسْلِمُ إلَى جَانِبِ دَارِ ذِمِّيٍّ دَارًا دُونَهَا ، أَوْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ دَارًا عَالِيَةً لِمُسْلِمٍ ، فَلَهُ سُكْنَى دَارِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ هَدْمُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا .
فَإِنْ انْهَدَمَتْ دَارُهُ الْعَالِيَةُ ، ثُمَّ جَدَّدَ بِنَاءَهَا ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَعْلِيَتُهُ عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ .
وَإِنْ انْهَدَمَ مَا عَلَا مِنْهَا ، لَمْ تَكُنْ لَهُ إعَادَتُهُ .
وَإِنْ تَشَعَّثَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَنْهَدِمْ ، فَلَهُ رَمُّهُ وَإِصْلَاحُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ اسْتِدَامَتَهُ ، فَمَلَكَ رَمَّ شَعْثِهِ ، كَالْكَنِيسَةِ .
( 7689 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ سُكْنَى الْحِجَازِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : أَرَى أَنْ يُجْلَوْا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ { سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، فَلَا أَتْرُكُ فِيهَا إلَّا مُسْلِمًا } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { أَوْصَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، قَالَ : أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْت أُجِيزُهُمْ } .
وَسَكَتَ عَنْ الثَّالِثِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَجَزِيرَةُ الْعَرَبِ مَا بَيْنَ الْوَادِي إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ .
قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ : هِيَ مِنْ رِيفِ الْعِرَاقِ إلَى عَدَنَ طُولًا ، وَمِنْ تِهَامَةَ وَمَا وَرَاءَهَا إلَى أَطْرَافِ الشَّامِ عَرْضًا .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هِيَ مِنْ حَفْرِ أَبِي مُوسَى إلَى الْيَمَنِ طُولًا ، وَمِنْ رَمْلِ تِبْرِينَ إلَى مُنْقَطِعِ السَّمَاوَةِ عَرْضًا .
قَالَ الْخَلِيلُ : إنَّمَا قِيلَ لَهَا جَزِيرَةٌ ؛ لِأَنَّ بَحْرَ الْحَبَشِ وَبَحْرَ فَارِسَ وَالْفُرَاتَ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا ، وَنُسِبَتْ إلَى الْعَرَبِ ، لِأَنَّهَا أَرْضُهَا وَمَسْكَنُهَا وَمَعْدِنُهَا .
وَقَالَ أَحْمَدُ : جَزِيرَةُ الْعَرَبِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالَاهَا .
يَعْنِي أَنَّ الْمَمْنُوعَ مِنْ سُكْنَى الْكُفَّارِ الْمَدِينَةُ وَمَا وَالَاهَا ، وَهُوَ مَكَّةُ وَالْيَمَامَةُ ، وَخَيْبَرُ وَالْيَنْبُعُ وَفَدَكُ وَمَخَالِيفُهَا ، وَمَا وَالَاهَا .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُجْلَوْا مِنْ تَيْمَاءَ ، وَلَا مِنْ الْيَمَنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ ، أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
أَنَّهُ قَالَ : أَخْرِجُوا الْيَهُودَ مِنْ الْحِجَازِ } .
فَأَمَّا إخْرَاجُ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْهُ ، فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَهُمْ عَلَى تَرْكِ الرِّبَا ، فَنَقَضُوا عَهْدَهُ .
فَكَأَنَّ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ أُرِيدَ بِهَا الْحِجَازُ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ حِجَازًا ، لِأَنَّهُ حَجَزَ بَيْنَ تِهَامَةَ وَنَجْدٍ .
وَلَا يُمْنَعُونَ أَيْضًا مِنْ أَطْرَافِ الْحِجَازِ ، كَتَيْمَاءَ وَفَيْدَ وَنَحْوِهِمَا ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ .
( 7690 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ الْحِجَازِ لِلتِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى كَانُوا يَتَّجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَتَاهُ شَيْخٌ بِالْمَدِينَةِ ، فَقَالَ : أَنَا الشَّيْخُ النَّصْرَانِيُّ ، وَإِنَّ عَامِلَك عَشَرَنِي مَرَّتَيْنِ .
فَقَالَ عُمَرُ : وَأَنَا الشَّيْخُ الْحَنِيفُ .
وَكَتَبَ لَهُ عُمَرُ ، أَنْ لَا يُعْشَرُوا فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً .
وَلَا يَأْذَنُ لَهُمْ فِي الْإِقَامَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ - عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُقِيمُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ حَدَّ مَا يُتِمُّ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ .
وَالْحُكْمُ فِي دُخُولِهِمْ إلَى الْحِجَازِ فِي اعْتِبَارِ الْإِذْنِ ، كَالْحُكْمِ فِي دُخُولِ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ .
وَإِذَا مَرِضَ بِالْحِجَازِ ، جَازَتْ لَهُ الْإِقَامَةُ ، لِأَنَّهُ يَشُقُّ الِانْتِقَالُ عَلَى الْمَرِيضِ ، وَتَجُوزُ الْإِقَامَةُ لِمَنْ يُمَرِّضُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى أَحَدٍ وَكَانَ حَالًّا ، أُجْبِرَ غَرِيمُهُ عَلَى وَفَائِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ وَفَاؤُهُ لِمَطْلٍ ، أَوْ تَغَيَّبَ عَنْهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُمَكِّنَ مِنْ الْإِقَامَةِ ، لِيَسْتَوْفِيَ دِينَهُ ؛ لِأَنَّ التَّعَدِّيَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَفِي إخْرَاجِهِ ذَهَابُ مَالِهِ .
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا ، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ الْإِقَامَةِ ، وَيُوَكِّلُ مَنْ يَسْتَوْفِيه لَهُ ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهُ ، وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْإِقَامَةِ لِيَبِيعَ بِضَاعَتَهُ ، احْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ فِي تَكْلِيفِهِ تَرْكَهَا أَوْ حَمْلَهَا مَعَهُ ضَيَاعَ مَالِهِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ الدُّخُولِ بِالْبَضَائِعِ إلَى الْحِجَازِ ، فَتَفُوتُ مَصْلَحَتُهُمْ ، وَتَلْحَقُهُمْ الْمَضَرَّةُ ، بِانْقِطَاعِ الْجَلَبِ عَنْهُمْ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُمْنَعُ مِنْ الْإِقَامَةِ ؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ الْإِقَامَةِ بُدًّا .
فَإِنْ أَرَادَ الِانْتِقَالَ إلَى مَكَان آخَرَ مِنْ الْحِجَازِ ، جَازَ ، وَيُقِيمُ فِيهِ أَيْضًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَرْبَعَةً ، عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ ،
وَكَذَلِكَ إذَا انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى مَكَان آخَرَ ، جَازَ ، وَلَوْ حَصَلَتْ الْإِقَامَةُ فِي الْجَمِيعِ شَهْرًا .
وَإِذَا مَاتَ بِالْحِجَازِ دُفِنَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَشُقُّ نَقْلُهُ ، وَإِذَا جَازَتْ الْإِقَامَةُ لِلْمَرِيضِ ، فَدَفْنُ الْمَيِّتِ أَوْلَى .
( 7691 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْحَرَمُ ، فَلَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ بِحَالٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُمْ دُخُولُهُ كَالْحِجَازِ كُلِّهِ ، وَلَا يَسْتَوْطِنُونَ بِهِ ، وَلَهُمْ دُخُولُ الْكَعْبَةِ وَالْمَنْعُ مِنْ الِاسْتِيطَانِ لَا يَمْنَعُ الدُّخُولَ وَالتَّصَرُّفَ ، كَالْحِجَازِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } .
وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } يُرِيدُ : ضَرَرًا بِتَأْخِيرِ الْجَلْبِ عَنْ الْحَرَمِ دُونَ الْمَسْجِدِ .
وَيَجُوزُ تَسْمِيَةُ الْحَرَمِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } .
وَإِنَّمَا أُسْرِيَ بِهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ .
وَيُخَالِفُ الْحِجَازَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَ مِنْهُ مَعَ إذْنِهِ فِي الْحِجَازِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ وَالْيَهُودُ بِخَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْحِجَازِ ، وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ الْإِقَامَةِ بِهِ ، وَأَوَّلُ مَنْ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلِأَنَّ الْحَرَمَ أَشْرَفُ ، لِتَعَلُّقِ النُّسُكِ بِهِ ، وَيَحْرُمُ صَيْدُهُ وَشَجَرُهُ وَالْمُلْتَجِئُ إلَيْهِ ، فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ أَرَادَ كَافِرٌ الدُّخُولَ إلَيْهِ ، مُنِعَ مِنْهُ .
فَإِنْ كَانَتْ مَعَهُ مِيرَةٌ أَوْ تِجَارَةٌ ، خَرَجَ إلَيْهِ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ ، وَلَمْ يُتْرَكْ هُوَ يَدْخُلُ .
وَإِنْ كَانَ رَسُولًا إلَى إمَامٍ بِالْحَرَمِ ، خَرَجَ إلَيْهِ مَنْ يَسْمَعُ رِسَالَتَهُ ، وَيُبَلِّغُهَا إيَّاهُ .
فَإِنْ قَالَ : لَا بُدَّ لِي مِنْ لِقَاءِ الْإِمَامِ ، وَكَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ ، خَرَجَ إلَيْهِ الْإِمَامُ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الدُّخُولِ ، فَإِنْ دَخَلَ الْحَرَمَ عَالِمًا بِالْمَنْعِ عُزِّرَ ، وَإِنْ دَخَلَ جَاهِلًا ، نُهِيَ وَهُدِّدَ .
فَإِنْ مَرِضَ بِالْحَرَمِ أَوْ مَاتَ ، أُخْرِجَ وَلَمْ يُدْفَنْ بِهِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ أَعْظَمُ .
وَيُفَارِقُ الْحِجَازَ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ دُخُولَهُ إلَى الْحَرَمِ حَرَامٌ ، وَإِقَامَتَهُ بِهِ حَرَامٌ ، بِخِلَافِ الْحِجَازِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ الْحَرَمِ سَهْلٌ مُمْكِنٌ ، لِقُرْبِ الْحِلِّ مِنْهُ ، وَخُرُوجَهُ مِنْ الْحِجَازِ فِي مَرَضِهِ صَعْبٌ مُمْتَنِعٌ .
وَإِنْ دُفِنَ ، نُبِشَ وَأُخْرِجَ ، إلَّا أَنْ يَصْعُبَ إخْرَاجُهُ ؛ لِنَتِنِهِ وَتَقَطُّعِهِ .
وَإِنْ صَالَحَهُمْ الْإِمَامُ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ بِعِوَضٍ ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ .
فَإِنْ دَخَلُوا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ ، لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ الْعِوَضُ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ اسْتَوْفُوا مَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ .
وَإِنْ وَصَلُوا إلَى بَعْضِهِ ، أُخِذَ مِنْ الْعِوَضِ بِقَدْرِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَوْفَوْا لَا قِيمَةَ لَهُ ، وَالْعَقْدُ لَمْ يُوجِبْ الْعِوَضَ ، لِكَوْنِهِ بَاطِلًا .
( 7692 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَسَاجِدُ الْحِلِّ ، فَلَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمُسْلِمِينَ ، لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَصُرَ بِمَجُوسِيٍّ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، وَقَدْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَنَزَلَ ، وَضَرَبَهُ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ أَبْوَابِ كِنْدَةَ .
فَإِنْ أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِهَا ، جَازَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ أَهْلِ الطَّائِفِ ، فَأَنْزَلَهُمْ مِنْ الْمَسْجِدِ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : قَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَدْخُلُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ .
وَقَدِمَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ، لِيَفْتِكَ بِهِ ، فَرَزَقَهُ اللَّهُ الْإِسْلَامَ .
وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَيْسَ لَهُمْ دُخُولُهُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ أَبَا مُوسَى دَخَلَ عَلَى عُمَرَ وَمَعَهُ كِتَابٌ قَدْ كُتِبَ فِيهِ حِسَابُ عَمَلِهِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : اُدْعُ الَّذِي كَتَبَهُ لِيَقْرَأَهُ .
قَالَ : إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ .
قَالَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : إنَّهُ نَصْرَانِيٌّ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى شُهْرَةِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ، وَتَقَرُّرِهِ عَنَدَهُمْ .
وَلِأَنَّ حَدَثَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ يَمْنَعُ الْمُقَامَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَحَدَثُ الشِّرْكِ أَوْلَى .
( 7693 ) فَصْلٌ : وَالْمَأْخُوذُ فِي أَحْكَامِ الذِّمَّةِ يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ ؛ أَحَدُهَا ، مَا لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ إلَّا بِذِكْرِهِ وَهُوَ شَيْئَانِ ؛ الْتِزَامُ الْجِزْيَةِ ، وَجَرَيَانُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ .
فَإِنْ أَخَلَّ بِذِكْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ .
وَفِي مَعْنَاهُمَا تَرْكُ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَهُ ، فَذِكْرُ الْمُعَاهَدَةِ يَقْتَضِيه .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَهُوَ ثَمَانِي خِصَالٍ ، ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، مَا فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ ذِكْرُ رَبِّهِمْ أَوْ كِتَابِهِمْ أَوْ دِينِهِمْ أَوْ رَسُولِهِمْ بِسُوءٍ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ ، مَا فِيهِ إظْهَارُ مُنْكَرٍ ، وَهُوَ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ ؛ إحْدَاثُ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ وَنَحْوِهَا ، وَرَفْعُ أَصْوَاتِهِمْ بِكُتُبِهِمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِظْهَارُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالضَّرْبُ بِالنَّوَاقِيسِ ، وَتَعْلِيَةُ الْبُنْيَانِ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِقَامَةُ بِالْحِجَازِ ، وَدُخُولُ الْحَرَمِ ، فَيَلْزَمُهُمْ الْكَفُّ عَنْهُ ، سَوَاءٌ شَرَطَ عَلَيْهِمْ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ ، فِي جَمِيعِ مَا فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ .
الْقِسْمُ الْخَامِسُ ، التَّمَيُّزُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ؛ لِبَاسِهِمْ ، وَشُعُورِهِمْ وَرُكُوبِهِمْ ، وَكُنَاهُمْ .
أَمَّا لِبَاسُهُمْ ، فَهُوَ أَنْ يَلْبَسُوا ثَوْبًا يُخَالِفُ لَوْنُهُ لَوْنَ سَائِرِ الثِّيَابِ ، فَعَادَةُ الْيَهُودِ الْعَسَلِيُّ ، وَعَادَةُ النَّصَارَى الْأَدْكَنُ ، وَهُوَ الْفَاخِتِيُّ ، وَيَكُونُ هَذَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، لَا فِي جَمِيعِهَا ، لِيَقَعَ الْفَرْقُ ، وَيُضِيفُ إلَى هَذَا شَدَّ الزُّنَّارِ فَوْقَ ثَوْبِهِ ، إنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا ، أَوْ عَلَامَةً أُخْرَى إنْ لَمْ يَكُنْ نَصْرَانِيًّا ، كَخِرْقَةٍ يَجْعَلُهَا فِي عِمَامَتِهِ أَوْ قَلَنْسُوَتِهِ ، يُخَالِفُ لَوْنُهَا لَوْنَهَا ، وَيُخْتَمُ فِي رَقَبَتِهِ خَاتَمَ رَصَاصٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ جُلْجُلٍ ؛ لِيُفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَمَّامِ ،
وَيَلْبَسُ نِسَاؤُهُمْ ثَوْبًا مُلَوَّنًا ، وَيُشَدُّ الزُّنَّارُ تَحْتَ ثِيَابِهِمْ ، وَتُخْتَمُ فِي رَقَبَتِهَا .
وَلَا يُمْنَعُونَ لُبْسَ فَاخِرِ الثِّيَابِ ، وَلَا الْعَمَائِمِ ، وَلَا الطَّيْلَسَانِ ؛ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ حَصَلَ بِالْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ .
وَأَمَّا الشُّعُورُ ، فَإِنَّهُمْ يَحْذِفُونَ مَقَادِيمَ رُءُوسِهِمْ ، وَيَجُزُّونَ شُعُورَهُمْ ، وَلَا يَفْرَقُونَ شُعُورَهُمْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَقَ شَعَرَهُ .
وَأَمَّا الرُّكُوبُ ، فَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ ؛ لِأَنَّ رُكُوبَهَا عِزٌّ ، وَلَهُمْ رُكُوبُ مَا سِوَاهَا ، وَلَا يَرْكَبُونَ السُّرُوجَ وَيَرْكَبُونَ عَرْضًا ؛ رِجْلَاهُ إلَى جَانِبٍ وَظَهْرُهُ إلَى آخَرَ ؛ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ ، أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِجَزِّ نَوَاصِي أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَأَنْ يَشُدُّوا الْمَنَاطِقَ ، وَأَنْ يَرْكَبُوا الْأُكُفَ بِالْعَرْضِ .
وَيُمْنَعُونَ تَقَلُّدَ السُّيُوفِ ، وَحَمْلَ السِّلَاحِ وَاِتِّخَاذَهُ .
وَأَمَّا الْكُنَى ، فَلَا يَكْتَنُوا بِكُنَى الْمُسْلِمِينَ ، كَأَبِي الْقَاسِمِ ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَأَبِي الْحَسَنِ ، وَشِبْهِهَا ، وَلَا يُمْنَعُونَ الْكُنَى بِالْكُلِّيَّةِ ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ لِطَبِيبٍ نَصْرَانِيٍّ : يَا أَبَا إِسْحَاقَ .
وَقَالَ : أَلَيْسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ : " أَمَا تَرَى مَا يَقُولُ أَبُو الْخَبَّابِ ؟ { .
وَقَالَ لِأُسْقُفِ نَجْرَانَ : أَسْلِمْ أَبَا الْحَارِثِ } .
وَقَالَ عُمَرُ لِنَصْرَانِيٍّ : يَا أَبَا حَسَّانَ ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ .
( 7694 ) فَصْلٌ : وَإِذَا عَقَدَ مَعَهُمْ الذِّمَّةَ ، كَتَبَ أَسْمَاءَهُمْ ، وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ ، وَعَدَدَهُمْ ، وَحِلَّيْهِمْ وَدَيْنَهُمْ ، فَيَقُولُ : فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ ، طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ أَوْ رَبْعَةٌ ، أَسْمَرُ أَوْ أَبِيضُ ، أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ ، أَقْنَى الْأَنْفِ ، مَقْرُونُ الْحَاجِبَيْنِ .
وَنَحْوَ هَذَا مِنْ صِفَاتِهِمْ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِ ، وَيَجْعَلُ لِكُلِّ عَشَرَةٍ عَرِيفًا يُرَاعِي مَنْ يَبْلُغُ مِنْهُمْ أَوْ يُفِيقُ مِنْ جُنُونٍ ، أَوْ يَقْدَمُ مِنْ غَيْبَةٍ ، أَوْ يُسْلِمُ ، أَوْ يَمُوتُ ، أَوْ يَغِيبُ ، وَيَجْبِي جِزْيَتَهُمْ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَحْوَطَ لِحِفْظِ جِزْيَتِهِمْ .
( 7695 ) فَصْلٌ : وَإِذَا مَاتَ الْإِمَامُ ، أَوْ عُزِلَ ، وَوَلِيَ غَيْرُهُ ، فَإِنْ عَرَفَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ عَقْدَ الذِّمَّةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ ، وَكَانَ عَقْدًا صَحِيحًا ، أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ أَقَرُّوا عَقْدَ عُمَرَ ، وَلَمْ يُجَدِّدُوا عَقْدًا سِوَاهُ ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ .
وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا رَدَّهُ إلَى الصِّحَّةِ .
وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ، فَشَهِدَ بِهِ مُسْلِمَانِ ، أَوْ كَانَ أَمْرُهُ ظَاهِرًا ، عَمِلَ بِهِ .
وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ ، سَأَلَهُمْ ، فَإِنْ ادَّعَوْا الْعَهْدَ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جِزْيَةً ، قَبِلَ قَوْلَهُمْ ، وَعَمِلَ بِهِ ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَحْلَفَهُمْ اسْتِظْهَارًا ، فَإِنْ بَانَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ نَقَضُوا مِنْ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِمْ شَيْئًا ، رَجَعَ بِمَا نَقَضُوا ، وَإِنْ قَالُوا كُنَّا نُؤَدِّي كَذَا وَكَذَا جِزْيَةً وَكَذَا وَكَذَا هَدِيَّةً .
اسْتَحْلَفَهُمْ يَمِينًا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا يَدْفَعُونَهُ أَنَّهُ جِزْيَةٌ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ مَا عُوهِدُوا عَلَيْهِ ، اسْتَأْنَفَ الْعَقْدَ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْأَوَّلِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ ، فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ .
مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ هَرَبَ مِنْ ذِمَّتِنَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، نَاقِضًا لِلْعَهْدِ عَادَ حَرْبِيًّا ) يَعْنِي يَصِيرُ حُكْمُهُ حُكْمَ أَهْلِ الْحَرْبِ ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً ، وَمَتَى قُدِرَ عَلَيْهِ ، أُبِيحَ مِنْهُ مَا يُبَاحُ مِنْ الْحَرْبِيِّ ؛ مِنْ الْقَتْلِ ، وَالِاسْتِرْقَاقِ ، وَأَخْذِ الْمَالِ .
وَإِنْ هَرَبَ الذِّمِّيُّ بِأَهْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، أُبِيحَ مِنْ الْبَالِغِينَ مِنْهُمْ مَا يُبَاحُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَلَمْ يُبَحْ سَبْيُ الذُّرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ إنَّمَا وُجِدَ مِنْ الْبَالِغِينَ دُونَ الذُّرِّيَّةِ .
( 7697 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَقَضَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، جَازَ غَزْوُهُمْ وَقَتْلُهُمْ .
وَإِنْ نَقَضَ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ اخْتَصَّ حُكْمُ النَّقْضِ بِالنَّاقِضِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَنْقُضُوا ، لَكِنْ خَافَ النَّقْضَ مِنْهُمْ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَحِقَهُمْ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِمَامَ تَلْزَمُهُ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ عَقْدِ الْأَمَانِ وَالْهُدْنَةِ ؛ فَإِنَّهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَلِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُ مُؤَبَّدٌ ، وَهُوَ مُعَاوَضَةٌ ، وَلِذَلِكَ إذَا نَقَضَ بَعْضُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعَهْدَ ، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ ، لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُمْ نَقْضًا ، وَفِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ يَكُونُ نَقْضًا .
( 7698 ) فَصْلٌ : وَإِذَا عَقَدَ الذِّمَّةَ ، فَعَلَيْهِ حِمَايَتُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْعَهْدِ حِفْظَهُمْ ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا ، وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَصِيَّتِهِ لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ : وَأُوصِيه بِأَهْلِ ذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ، أَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ ، وَيُحَاطُ مِنْ وَرَائِهِمْ .
( 7699 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَحَاكَمَ إلَيْنَا مُسْلِمٌ مَعَ ذِمِّيٍّ وَجَبَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا حَفِظَ الذِّمِّيَّ مِنْ ظُلْمِ الْمُسْلِمِ ، وَحَفِظَ الْمُسْلِمَ مِنْهُ .
وَإِنْ تَحَاكَمَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ ، أَوْ اسْتَعْدَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، خُيِّرَ الْحَاكِمُ بَيْنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
فَإِنْ حَكَمَ بَيْنَهُمْ ، لَمْ يَحْكُمْ إلَّا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } .
وَإِذَا اسْتَعْدَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا فِي طَلَاقٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ إيلَاءٍ ، فَإِنْ شَاءَ أَعْدَاهَا ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
فَإِنْ أُحْضِرَ زَوْجُهَا ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِمَا يُحْكَمُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَ قَدْ ظَاهَرَ مِنْهَا ، مَنَعَهُ وَطْأَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ ، وَتَكْفِيرُهُ بِالْإِطْعَامِ وَحْدَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ ، وَلَا يَمْلِكُ شِرَاءَهَا ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الصِّيَامُ .
( 7700 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُ مِنْ شِرَاءِ مُصْحَفٍ ، وَلَا حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِقْهٍ ، فَإِنْ فَعَلَ ، فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ ابْتِذَالَهُ .
وَكَرِهَ أَحْمَدُ بَيْعَهُمْ الثِّيَابَ الْمَكْتُوبَ عَلَيْهَا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَحْمَدَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : هَلْ تَكْرَهُ لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَلِّمَ غُلَامًا مَجُوسِيًّا شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : إنْ أَسْلَمَ فَنَعَمْ ، وَإِلَّا فَأَكْرَهُ أَنْ يَضَعَ الْقُرْآنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ .
قُلْت : فَيُعَلِّمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَرْهَنُ الْمُصْحَفَ عِنْدَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؟ قَالَ : لَا ، { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ، مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ } .
( 7701 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ تَصْدِيرُهُمْ فِي الْمَجَالِسِ ، وَلَا بَدَاءَتَهُمْ بِالسَّلَامِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ ، وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ ، فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهَا } .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا غَادُونَ غَدًا ، فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ ، وَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ ، فَقُولُوا : وَعَلَيْكُمْ } .
أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : { نُهِينَا ، أَوْ أُمِرْنَا ، أَنْ لَا نَزِيدَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى وَعَلَيْكُمْ } .
قَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : تَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلذِّمِّيِّ : كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ أَوْ كَيْفَ حَالُك ؟ أَوْ كَيْفَ أَنْتَ ؟ أَوْ نَحْوَ هَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، هَذَا عِنْدِي أَكْثَرُ مِنْ السَّلَامِ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : إذَا لَقِيته فِي الطَّرِيقِ ، فَلَا تُوسِعْ لَهُ .
وَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقِيلَ إنَّهُ كَافِرٌ .
فَقَالَ : رُدَّ عَلَى مَا سَلَّمْت عَلَيْك .
فَرَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ : أَكْثَرَ اللَّهُ مَالَك وَوَلَدَك .
ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : أَكْثَرَ لِلْجِزْيَةِ .
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، فَقُلْت نُعَامِلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، فَنَأْتِيهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ ، وَعِنْدَهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ ، أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، تَنْوِي السَّلَامَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ عَنْ مُصَافَحَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَكَرِهَهُ .
( 7702 ) فَصْلٌ : وَمَا يَذْكُرُ بَعْضُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَنَّ الْجِزْيَةَ لَا تَلْزَمُهُمْ ، وَأَنَّ مَعَهُمْ كِتَابًا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْقَاطِهَا عَنْهُمْ ، لَا يَصِحُّ .
وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، فَقَالَ : مَا نَقَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَذَكَرَ أَنَّهُمْ طُولِبُوا بِذَلِكَ ، فَأَخْرَجُوا كِتَابًا ذَكَرُوا أَنَّهُ بِخَطِّ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِ شَهَادَةُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَمُعَاوِيَةَ ، وَتَارِيخُهُ بَعْدَ مَوْتِ سَعْدٍ وَقَبْلَ إسْلَامِ مُعَاوِيَةَ ، فَاسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِهِ .
وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَلَمْ يَرْوِ ذَلِكَ مَنْ يُعْتَمَدُ عَلَى رِوَايَتِهِ .
( 7703 ) فَصْلٌ : قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَمْتَهِنُونَ عِنْدَ أَخْذِ الْجِزْيَةِ ، وَيُطَالُ قِيَامُهُمْ ، وَتُجَرُّ أَيْدِيهمْ عِنْدَ أَخْذِهَا .
ذَهَبَ إلَى قَوْله تَعَالَى : { : حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
وَقِيلَ : الصِّغَارُ الْتِزَامُهُمْ الْجِزْيَةَ ، وَجَرَيَانُ أَحْكَامِنَا عَلَيْهِمْ .
وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إرْسَالُهَا ، بَلْ يَحْضُرُ الذِّمِّيُّ بِنَفْسِهِ بِهَا ، وَيُؤَدِّيهَا وَهُوَ قَائِمٌ وَالْآخِذُ جَالِسٌ ، وَلَا يَشْتَطُّ عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِهَا ، وَلَا يُعَذَّبُونَ إذَا أَعْسَرُوا عَنْ أَدَائِهَا ؛ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِمَالٍ كَثِيرٍ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَأَحْسَبُهُ مِنْ الْجِزْيَةِ ، فَقَالَ : إنِّي لَأَظُنُّكُمْ قَدْ أَهْلَكْتُمْ النَّاسَ .
قَالُوا : لَا وَاَللَّهِ ، مَا أَخَذْنَا إلَّا عَفْوًا صَفْوًا .
قَالَ : بِلَا سَوْطٍ وَلَا بَوْطٍ ؟ قَالُوا : نَعَمْ .
قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ عَلَى يَدِي ، وَلَا فِي سُلْطَانِي .
وَقَدِمَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ ، فَعَلَاهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ ، فَقَالَ سَعِيدٌ : سَبَقَ سَيْلُك مَطَرَك ، إنْ تُعَاقِبْ نَصْبِرْ ، وَإِنْ تَعْفُ نَشْكُرْ ، وَإِنْ تَسْتَعْتِبْ نَعْتِبْ .
فَقَالَ : مَا عَلَى الْمُسْلِمِ إلَّا هَذَا مَا لَك تُبْطِئُ بِالْخَرَاجِ ؟ فَقَالَ : أَمَرْتنَا أَنْ لَا نَزِيدَ الْفَلَّاحِينَ عَلَى أَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ ، فَلَسْنَا نَزِيدُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَكِنْ نُؤَخِّرُهُمْ إلَى غَلَّاتِهِمْ .
قَالَ عُمَرُ : لَا أَعْزِلَنَّك مَا حَيِيت .
رَوَاهُمَا أَبُو عُبَيْدٍ .
.
وَقَالَ : إنَّمَا وَجْهُ التَّأْخِيرِ إلَى الْغَلَّةِ الرِّفْقُ بِهِمْ قَالَ : وَلَمْ نَسْمَعْ فِي اسْتِيدَاءِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ وَقْتًا غَيْرَ هَذَا .
وَاسْتَعْمَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَجُلًا عَلَى عُكْبَرَى ، فَقَالَ لَهُ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ : لَا تَدَعْنَ لَهُمْ دِرْهَمًا مِنْ الْخَرَاجِ .
وَشَدَّدَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ ، ثُمَّ قَالَ : الْقَنِي عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ .
فَأَتَاهُ فَقَالَ : إنِّي كُنْت أَمَرْتُك بِأَمْرٍ ، وَإِنِّي أَتَقَدَّمُ إلَيْك الْآنَ ، فَإِنْ عَصَيْتنِي نَزَعْتُك ، لَا
تَبِيعَن لَهُمْ فِي خَرَاجِهِمْ حِمَارًا ، وَلَا بَقَرَةً ، وَلَا كِسْوَةَ شِتَاءٍ وَلَا صَيْفٍ ، وَارْفُقْ بِهِمْ ، وَافْعَلْ بِهِمْ .
( 7704 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي الرَّجُلِ لَهُ الْمَرْأَةُ النَّصْرَانِيَّةُ : لَا يَأْذَنُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى عِيدٍ ، أَوْ تَذْهَبَ إلَى بِيعَةٍ ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ فِي الْأَمَةِ .
قِيلَ لَهُ : وَأَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا شُرْبَ الْخَمْرِ ؟ قَالَ : يَأْمُرُهَا ، فَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا .
قِيلَ لَهُ : فَإِنْ طَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا زُنَّارًا ؟ قَالَ : لَا يَشْتَرِي زُنَّارًا ، وَتَخْرُجُ هِيَ تَشْتَرِي لِنَفْسِهَا .
وَسُئِلَ عَنْ الذِّمِّيِّ يُعَامِلُ بِالرِّبَا ، وَيَبِيعُ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ ، ثُمَّ يُسْلِمُ ، وَذَلِكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ ، فَقَالَ : لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضِيُّ حَالِ كُفْرِهِ ، فَأَشْبَهَ نِكَاحَهُمْ فِي الْكُفْرِ إذَا أَسْلَمَ .
وَسُئِلَ عَنْ الْمَجُوسِيَّيْنِ يَجْعَلَانِ وَلَدَهُمَا مُسْلِمًا ، فَيَمُوتُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ ؟ فَقَالَ : يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ } .
يَعْنِي أَنَّ هَذَيْنِ لَمْ يُمَجِّسَاهُ ، فَيَبْقَى عَلَى الْفِطْرَةِ .
وَسُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ : أَذْهَبُ إلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ } .
قَالَ : وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : " فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ " حَتَّى سَمِعَ : " اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ " .
فَتَرَكَ قَوْلَهُ .
وَسَأَلَهُ ابْنُ الشَّافِعِيِّ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ذَرَارِيُّ الْمُشْرِكِينَ أَوْ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ : هَذِهِ مَسَائِلُ أَهْلِ الزَّيْغِ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : سَأَلَ بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ ، عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ ، فَصَاحَ بِهِ ، وَقَالَ : يَا صَبِيُّ ، أَنْتَ تَسْأَلُ عَنْ هَذَا ؟ قَالَ أَحْمَدُ : وَنَحْنُ نُمِرُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ عَلَى مَا جَاءَتْ ، وَلَا نَقُولُ شَيْئًا .
وَسُئِلَ عَنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ :
لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ .
وَذَكَرُوا لَهُ حَدِيثَ عَائِشَةَ ، الَّذِي قَالَتْ فِيهِ : عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ .
فَقَالَ : وَهَذَا حَدِيثٌ ، وَذَكَرَ فِيهِ رَجُلًا ضَعَّفَهُ طَلْحَةُ .
وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُسْلِمُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا صَلَاتَيْنِ ؟ فَقَالَ : يَصِحُّ إسْلَامُهُ ، وَيُؤْخَذُ بِالْخَمْسِ .
وَقَالَ : مَعْنَى حَدِيثِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ : { بَايَعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا أَخِرَّ إلَّا قَائِمًا } .
أَنَّهُ لَا يَرْكَعُ فِي الصَّلَاةِ ، بَلْ يَقْرَأُ ثُمَّ يَسْجُدُ مِنْ غَيْرِ رُكُوعٍ .
قَالَ : وَحَدِيثُ قَتَادَةَ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ ، { أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ بَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ طَرَفَيْ النَّهَارِ } .
كِتَابُ الصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ الْأَصْلُ فِي إبَاحَةِ الصَّيْدِ ، الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَرَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ ، قَالَ { : أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ صَيْدٍ ، أَصِيدُ بِقَوْسِي ، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الْمُعَلَّمِ ، وَأَصِيدُ بِكَلْبِي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ ، فَأَخْبِرْنِي مَاذَا يَصْلُحُ لِي ؟ قَالَ : أَمَّا مَا ذَكَرْت أَنَّكُمْ بِأَرْضِ صَيْدٍ ، فَمَا صِدْت بِقَوْسِك ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ ، وَمَا صِدْت بِكَلْبِك الْمُعَلَّمِ ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَكُلْ ، وَمَا صِدْت بِكَلْبِك الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ ، فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ ، فَكُلْ } .
وَعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، قَالَ : { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّا نُرْسِلُ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ ، فَيُمْسِكُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : كُلْ .
قُلْت : وَإِنْ قَتَلَ ؟ قَالَ : كُلْ مَا لَمْ يَشْرَكْهُ كَلْبٌ غَيْرُهُ } .
قَالَ : { وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ ، فَقَالَ : مَا خَرَقَ فَكُلْ ، وَمَا قَتَلَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إبَاحَةِ الِاصْطِيَادِ وَالْأَكْلِ مِنْ الصَّيْدِ .
( 7705 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ( وَإِذَا سَمَّى وَأَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ فَهْدَهُ الْمُعَلَّمَ ، وَاصْطَادَ ، وَقَتَلَ ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ ، جَازَ أَكْلُهُ ) أَمَّا مَا أَدْرَكَ ذَكَاتَهُ مِنْ الصَّيْدِ ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي إبَاحَتِهِ سِوَى صِحَّةِ التَّذْكِيَةِ ؛ وَلِذَلِكَ { قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : وَمَا صِدْت بِكَلْبِك الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ ، فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ ، فَكُلْ } .
وَأَمَّا مَا قَتَلَ الْجَارِحُ ، فَيُشْتَرَطُ فِي إبَاحَتِهِ شُرُوطٌ سَبْعَةٌ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يَكُونَ الصَّائِدُ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ ، فَإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا ، أَوْ مُرْتَدًّا ، أَوْ مَجُوسِيًّا ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ، أَوْ مَجْنُونًا ، لَمْ يُبَحْ صَيْدُهُ ؛ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ أُقِيمَ مُقَامَ الذَّكَاةِ ، وَالْجَارِحُ آلَةٌ كَالسِّكِّينِ ، وَعَقْرُهُ لِلْحَيَوَانِ بِمَنْزِلَةِ إفْرَاءِ الْأَوْدَاجِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاتُهُ } .
وَالصَّائِدُ بِمَنْزِلَةِ الْمُذَكِّي ، فَتُشْتَرَطُ الْأَهْلِيَّةُ فِيهِ .
الشَّرْطُ الثَّانِي ، أَنْ يُسَمِّيَ عِنْدَ إرْسَالِ الْجَارِحِ ، فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا ، لَمْ يُبَحْ ، هَذَا تَحْقِيقُ الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُد .
وَنَقَلَ حَنْبَلٌ ، عَنْ أَحْمَدَ ، إنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ وَالْكَلْبِ ، أُبِيحَ .
قَالَ الْخَلَّالُ : سَهَا حَنْبَلٌ فِي نَقْلِهِ ؛ فَإِنَّ فِي أَوَّلِ مَسْأَلَتِهِ ، إذَا نَسِيَ وَقَتَلَ ، لَمْ يَأْكُلْ .
وَمِمَّنْ أَبَاحَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ فِي النِّسْيَانِ دُونَ الْعَمْدِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ } .
وَلِأَنَّ إرْسَالَ الْجَارِحَةِ جَرَى مَجْرَى التَّذْكِيَةِ ، فَعُفِيَ عَنْ النِّسْيَانِ فِيهِ ، كَالذَّكَاةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ التَّسْمِيَةَ تُشْتَرَطُ عَلَى إرْسَالِ الْكَلْبِ فِي الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي إرْسَالِ السَّهْمِ ؛ إلَيْهِ حَقِيقَةً ، وَلَيْسَ لَهُ اخْتِيَارٌ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّكِّينِ ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ بِاخْتِيَارِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُبَاحُ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَ رَوَى ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ } .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ : أَرَأَيْت الرَّجُلَ مِنَّا يَذْبَحُ وَيَنْسَى أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ ؟ فَقَالَ : اسْمُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ } .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى مِثْلُ هَذَا .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
وَقَالَ { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك ، وَسَمَّيْت ، فَكُلْ .
قُلْت أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ ؟ قَالَ : لَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ }
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : " وَإِذَا خَالَطَ كِلَابًا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهَا ، فَأَمْسَكْنَ وَقَتَلْنَ ، فَلَا تَأْكُلْ " .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ : { وَمَا صِدْت بِقَوْسِك ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَكُلْ } .
وَهَذِهِ نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ لَا يُعْرَجُ عَلَى مَا خَالَفَهَا .
وَقَوْلُهُ : { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ } .
يَقْتَضِي نَفْيَ الْإِثْمِ ، لَا جَعْلَ الشَّرْطِ الْمَعْدُومِ كَالْمَوْجُودِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ نَسِيَ شَرْطَ الصَّلَاةِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّيْدِ وَالذَّبِيحَةِ ، أَنَّ الذَّبْحَ وَقَعَ فِي مَحِلِّهِ ، فَجَازَ أَنْ يُتَسَامَحَ فِيهِ ، بِخِلَافِ الصَّيْدِ .
وَأَمَّا أَحَادِيثُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، فَلَمْ يَذْكُرْهَا أَصْحَابُ السُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ ، وَإِنْ صَحَّتْ فَهِيَ فِي الذَّبِيحَةِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الصَّيْدِ عَلَيْهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، مَعَ مَا فِي الصَّيْدِ مِنْ النُّصُوصِ الْخَاصَّةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالتَّسْمِيَةُ الْمُعْتَبَرَةُ قَوْلُهُ : " بِسْمِ اللَّهِ " .
لِأَنَّ إطْلَاقَ التَّسْمِيَةِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا ذَبَحَ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُهُ .
وَلَا خِلَافُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ : " بِسْمِ اللَّهِ " يُجْزِئُهُ .
وَإِنْ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي .
لَمْ يَكْفِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَبُ حَاجَةٍ .
وَإِنْ هَلَّلَ ، أَوْ سَبَّحَ ، أَوْ كَبَّرَ ، أَوْ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى ، احْتَمَلَ الْإِجْزَاءَ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ ، وَاحْتَمَلَ الْمَنْعَ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ التَّسْمِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُهُ .
وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ، أَجْزَأَهُ وَإِنْ أَحْسَنَ الْعَرَبِيَّةَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ لَفْظُهُ .
وَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ ؛ لِأَنَّهُ الْفِعْلُ الْمَوْجُودُ مِنْ الْمُرْسِلِ ، فَتُعْتَبَرُ
التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ ، كَمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الذَّبْحِ مِنْ الذَّابِحِ ، وَعِنْدَ إرْسَالِ السَّهْمِ مِنْ الرَّامِي .
نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا .
وَلَا تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ التَّسْمِيَةِ فِي ذَبْحٍ وَلَا صَيْدٍ .
وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ .
وَاخْتَارَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا اسْتِحْبَابَ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا } .
وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } .
لَا أُذْكَرُ إلَّا ذُكِرْت مَعِي .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " مَوْطِنَانِ لَا أُذْكَرُ فِيهِمَا ؛ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ ، وَالْعُطَاسِ " .
رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَشْبَهَ الْمُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ ، أَنْ يُرْسِلَ الْجَارِحَةَ عَلَى الصَّيْدِ ، فَإِنْ اسْتَرْسَلَتْ بِنَفْسِهَا فَقَتَلَتْ ، لَمْ يُبَحْ .
وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : يُؤْكَلُ صَيْدُهُ إذَا أَخْرَجَهُ لِلصَّيْدِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : إذَا سَمَّى عِنْدَ انْفِلَاتِهِ ، أُبِيحَ صَيْدُهُ .
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكِلَابِ تَنْفَلِتُ مِنْ مَرَابِضِهَا فَتَصِيدُ الصَّيْدَ ؟ قَالَ : اُذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ، وَكُلْ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : فَهَذَا الَّذِي أَخْتَارُ إذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ هُوَ إرْسَالَهُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عَلَيْهِ .
قَالَ الْخَلَّالُ : هَذَا عَلَى مَعْنَى قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك ، وَسَمَّيْت ، فَكُلْ } .
وَلِأَنَّ إرْسَالَ الْجَارِحَةِ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرْت التَّسْمِيَةُ مَعَهُ ، وَإِنْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ فَسَمَّى صَاحِبُهُ وَزَجَرَهُ ، فَزَادَ فِي عَدْوِهِ ، أُبِيحَ صَيْدُهُ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُبَاحُ .
وَعَنْ عَطَاءٍ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ زَجْرَهُ أَثَّرَ فِي عَدْوِهِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَرْسَلَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ مَتَى انْضَافَ إلَى فِعْلِ غَيْرِهِ ، فَالِاعْتِبَارُ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ صَالَ الْكَلْبُ عَلَى إنْسَانٍ ، فَأَغْرَاهُ إنْسَانٌ ، فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ أَغْرَاهُ .
وَإِنْ أَرْسَلَهُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ ، ثُمَّ سَمَّى وَزَجَرَهُ ، فَزَادَ فِي عَدْوِهِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُبَاحُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا أَرْسَلَ ، ثُمَّ سَمَّى فَانْزَجَرَ ، أَوْ أَرْسَلَ وَسَمَّى ، فَالْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنْ السَّوَاءِ .
وَظَاهِرُ هَذَا الْإِبَاحَةُ ؛ لِأَنَّهُ انْزَجَرَ بِتَسْمِيَتِهِ وَزَجْرِهِ ، فَأَشْبَهَ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُبَاحُ صَيْدُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ يَتَعَلَّقُ بِالْإِرْسَالِ الْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ ،
فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَظْرٌ وَلَا إبَاحَةٌ .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ ، أَنْ يَكُونَ الْجَارِحُ مُعَلَّمًا .
وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } .
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ .
وَيُعْتَبَرُ فِي تَعْلِيمِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ ؛ إذَا أَرْسَلَهُ اسْتَرْسَلَ ، وَإِذَا زَجَرَهُ انْزَجَرَ ، وَإِذَا أَمْسَكَ لَمْ يَأْكُلْ .
وَيَتَكَرَّرُ هَذَا مِنْهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا فِي حُكْمِ الْعُرْفِ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلَاثٌ .
قَالَهُ الْقَاضِي .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٍ .
وَلَمْ يُقَدِّرْ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَدَدَ الْمَرَّاتِ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالتَّوْقِيفِ ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي هَذَا ، بَلْ قَدْرُهُ بِمَا يَصِيرُ بِهِ فِي الْعُرْفِ مُعَلَّمًا .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ إذَا تَكَرَّرَ مَرَّتَيْنِ ، صَارَ مُعَلَّمًا ؛ لِأَنَّ التَّكْرَارَ يَحْصُلُ بِمَرَّتَيْنِ .
وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمَرَّةٍ ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّكْرَارُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلُّمُ صَنْعَةٍ ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّكْرَارُ ، كَسَائِرِ الصَّنَائِعِ .
وَلَنَا أَنَّ تَرْكَهُ لِلْأَكْلِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِشِبَعٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِتَعَلُّمٍ ، فَلَا يَتَمَيَّزُ ذَلِكَ إلَّا بِالتَّكْرَارِ ، وَمَا اُعْتُبِرَ فِيهِ التَّكْرَارُ اُعْتُبِرَ ثَلَاثًا ، كَالْمَسْحِ فِي الِاسْتِجْمَارِ ، وَعَدَدِ الْإِقْرَارِ وَالشُّهُودِ فِي الْعِدَّةِ ، وَالْغَسَلَاتِ فِي الْوُضُوءِ .
وَيُفَارِقُ الصَّنَائِعَ ، فَإِنَّهَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِهَا إلَّا مَنْ تَعَلَّمَهَا ، فَإِذَا فَعَلَهَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ تَعَلَّمَهَا وَعَرَفَهَا ، وَتَرْكُ الْأَكْلِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ مِنْ الْمُتَعَلِّمِ وَغَيْرِهِ ، وَيُوجَدُ مِنْ الصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا ، فَلَا يَتَمَيَّزُ بِهِ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ حَتَّى يَتَكَرَّرَ .
وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ ، أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ تَرْكُ الْأَكْلِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ ، قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَكُلْ ، وَإِنْ أَكَلَ } .
ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَنَا ، أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْمُعَلَّمِ تَرْكُ الْأَكْلِ ، فَاعْتُبِرَ شَرْطًا ، كَالِانْزِجَارِ إذَا زُجِرَ ، وَحَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ } .
وَهَذَا أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ لِأَنَّهُ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ ، وَهُوَ ذِكْرُ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا .
ثُمَّ إنَّ حَدِيثَ أَبِي ثَعْلَبَةَ مَحْمُولٌ عَلَى جَارِحَةٍ ثَبَتَ تَعْلِيمُهَا ؛ لِقَوْلِهِ : " إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ " .
وَلَا يَثْبُتُ التَّعْلِيمُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الِانْزِجَارَ بِالزَّجْرِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِإِرْسَالِهِ عَلَى الصَّيْدِ ، أَوْ رُؤْيَتِهِ ، أَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ بِحَالٍ .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ ، أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ الصَّيْدِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ، لَمْ يُبَحْ ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ ، وَأَبُو بُرْدَةَ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَقَتَادَةُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يُبَاحُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَسَلْمَانَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ عُمَرَ .
حَكَاهُ عَنْهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَاحَهُ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } .
وَحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ جَارِحٌ مُعَلَّمٌ ، فَأُبِيحَ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْكُلْ .
فَإِنَّ الْأَكْلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِفَرْطِ جُوعٍ أَوْ غَيْظٍ عَلَى الصَّيْدِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك .
قُلْت : وَإِنْ قَتَلَ ؟ قَالَ : وَإِنْ قَتَلَ ، إلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَإِنْ أَكَلَ ، فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونُ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي الصَّيْدِ الْأَوَّلِ ، كَانَ شَرْطًا فِي سَائِرِ صُيُودِهِ ، كَالْإِرْسَالِ وَالتَّعْلِيمِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا تَتَنَاوَلُ هَذَا الصَّيْدَ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } .
وَهَذَا إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : يَخْتَلِفُونَ عَنْ هُشَيْمٍ فِيهِ .
وَعَلَى أَنَّ حَدِيثَنَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ أَضْبَطُ ، وَلَفْظُهُ أَبْيَنُ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحُكْمَ وَالْعِلَّةَ .
قَالَ أَحْمَدُ : حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيٍّ ،
مِنْ أَصَحِّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالشَّعْبِيُّ يَقُولُ : كَانَ جَارِي وَرَبِيطِي ، فَحَدَّثَنِي .
وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ قَتَلَهُ وَانْصَرَفَ عَنْهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِذًا لَا يَحْرُمُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَيُودِهِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعَلَّمًا مَا أَكَلَ وَلَنَا ، عُمُومُ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ ، وَإِنَّمَا خُصَّ مِنْهُ مَا أَكَلَ مِنْهُ ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِالْعُمُومِ ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ شُرُوطِ التَّعْلِيمِ حَاصِلَةٌ ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ ، وَلِهَذَا حَكَمْنَا بِحِلِّ صَيْدِهِ ، فَإِذَا وُجِدَ الْأَكْلُ ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِنِسْيَانٍ ، أَوْ لِفَرْطِ جُوعِهِ ، أَوْ نَسِيَ التَّعْلِيمَ ، فَلَا يُتْرَكُ مَا ثَبَتَ يَقِينًا بِالِاحْتِمَالِ .
( 7706 ) فَصْلٌ : فَإِنْ شَرِبَ دَمَهُ ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ ، لَمْ يَحْرُمْ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَكَرِهَهُ الشَّعْبِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَكْلِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مِنْهُ مَا أَكَلَ مِنْهُ بِحَدِيثِ عَدِيٍّ : " فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ، فَلَا تَأْكُلْ " .
وَهَذَا لَمْ يَأْكُلْ ، وَلِأَنَّ الدَّمَ لَا يَقْصِدُهُ الصَّائِدُ مِنْهُ ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، فَلَا يَخْرُجُ بِشُرْبِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُمْسِكًا عَلَى صَائِدِهِ .
( 7707 ) فَصْلٌ : وَلَا يَحْرُمُ مَا صَادَهُ الْكَلْبُ بَعْدَ الصَّيْدِ الَّذِي أَكَلَ مِنْهُ .
وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا ، فَتُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ التَّعْلِيمِ ابْتِدَاءً .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي صَيْدِهِ الَّذِي قَبْلَ الْأَكْلِ .
الشَّرْطُ السَّادِسُ ، أَنْ يُجْرَحَ الصَّيْدَ ، فَإِنْ خَنَقَهُ ، أَوْ قَتَلَهُ بِصَدْمَتِهِ ، لَمْ يُبَحْ .
قَالَ الشَّرِيفُ : وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي قَوْلٍ لَهُ : يُبَاحُ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ جَرْحٍ ، أَشْبَهَ مَا قَتَلَهُ بِالْحَجَرِ وَالْبُنْدُقِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْمَوْقُوذَةَ ، وَهَذَا كَذَلِكَ ، وَهَذَا يَخُصُّ مَا ذَكَرُوهُ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ ، فَكُلْ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَا لَمْ يَنْهَرْ الدَّمَ .
الشَّرْطُ السَّابِعُ ، أَنْ يُرْسِلَهُ عَلَى صَيْدٍ ، فَإِنْ أَرْسَلَهُ وَهُوَ لَا يَرَى شَيْئًا ، وَلَا يُحِسُّ بِهِ ، فَأَصَابَ صَيْدًا ، لَمْ يُبَحْ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْهُ عَلَى الصَّيْدِ ، وَإِنَّمَا اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ .
وَهَكَذَا إنْ رَمَى سَهْمًا إلَى غَرَضٍ ، فَأَصَابَ صَيْدًا ، أَوْ رَمَى بِهِ إلَى فَوْقِ رَأْسِهِ فَوَقَعَ عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ ، لَمْ يُبَحْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِرَمْيِهِ عَيْنًا ، فَأَشْبَهَ مَنْ نَصَبَ سِكِّينًا ، فَانْذَبَحَتْ بِهَا شَاةٌ .
( 7708 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ ، وَيُمْكِنُ الِاصْطِيَادُ بِهِ مِنْ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ ، كَالْفَهْدِ ، أَوْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكَلْبِ فِي إبَاحَةِ صَيْدِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } : هِيَ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ ، وَكُلُّ طَيْرٍ تَعَلَّمَ الصَّيْدَ ، وَالْفُهُودُ وَالصُّقُورُ وَأَشْبَاهُهَا .
وَبِمَعْنَى هَذَا قَالَ طَاوُسٌ ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَمُجَاهِدٍ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّيْدُ إلَّا بِالْكَلْبِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } .
يَعْنِي كَلَّبْتُمْ مِنْ الْكِلَابِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عَدِيٍّ ، قَالَ : { سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَيْدِ الْبَازِي ، فَقَالَ : إذَا أَمْسَكَ عَلَيْك ، فَكُلْ } .
وَلِأَنَّهُ جَارِحٌ يُصَادُ بِهِ عَادَةً ، وَيَقْبَلُ التَّعْلِيمَ ، فَأَشْبَهَ الْكَلْبَ .
فَأَمَّا الْآيَةُ ، فَإِنَّ الْجَوَارِحَ الْكَوَاسِبُ .
{ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } .
أَيْ كَسَبْتُمْ .
وَفُلَانٌ جَارِحَةُ أَهْلِهِ ، أَيْ كَاسِبُهُمْ .
( مُكَلِّبِينَ ) مِنْ التَّكْلِيبِ وَهُوَ الْإِغْرَاءُ .
فَصْلٌ : وَهَلْ يَجِبُ غُسْلُ أَثَرِ فَمِ الْكَلْبِ مِنْ الصَّيْدِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ أَمَرَا بِأَكْلِهِ ، وَلَمْ يَأْمُرَا بِغَسْلِهِ وَالثَّانِي ، يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ نَجَاسَتُهُ ، فَيَجِبُ غَسْلُ مَا أَصَابَهُ ، كَبَوْلِهِ .
"
( 7710 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا أَرْسَلَ الْبَازِي ، وَمَا أَشْبَهَهُ فَصَادَ وَقَتَلَ ، أَكَلَ ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّ تَعْلِيمَهُ بِأَنْ يَأْكُلَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصَّيْدِ بِالْبَازِي مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّيْدِ بِالْكَلْبِ ، إلَّا تَرْكُ الْأَكْلِ ، فَلَا يُشْتَرَطُ ، وَيُبَاحُ صَيْدُهُ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ النَّخَعِيُّ ، وَحَمَّادٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ .
وَنَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ كَالْكَلْبِ فِي تَحْرِيمِ مَا أَكَلَ مِنْهُ مِنْ صَيْدِهِ ؛ لِأَنَّ مُجَالِدًا رَوَى عَنْ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ وَالْبَازِي ، فَلَا تَأْكُلْ } .
وَلِأَنَّهُ جَارِحٌ أَكَلَ مِمَّا صَادَهُ عَقِيبَ قَتْلِهِ ، فَأَشْبَهَ سِبَاعَ الْبَهَائِمِ .
وَلَنَا ، إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ ، فَلَا تَأْكُلْ مِنْ الصَّيْدِ ، وَإِذَا أَكَلَ الصَّقْرُ ، فَكُلْ ؛ لِأَنَّك تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضْرِبَ الْكَلْبَ ، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَضْرِبَ الصَّقْرَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إبَاحَةَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ ، وَخَالَفَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ وَوَافَقَهُمْ فِي الصَّقْرِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ فِي عَصْرِهِمْ خِلَافُهُمْ ، وَلِأَنَّ جَوَارِحَ الطَّيْرِ تُعَلَّمُ بِالْأَكْلِ ، وَيَتَعَذَّرُ تَعْلِيمُهَا بِتَرْكِ الْأَكْلِ ، فَلَمْ يَقْدَحْ فِي تَعْلِيمِهَا ، بِخِلَافِ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ .
وَأَمَّا الْخَبَرُ ، فَلَا يَصِحُّ ، يَرْوِيهِ مُجَالِدٌ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : مُجَالِدٌ يُصَيِّرُ الْقِصَّةَ وَاحِدَةً ، كَمْ مِنْ أُعْجُوبَةٍ لِمُجَالِدٍ .
وَالرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ تُخَالِفُهُ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الطَّيْرِ عَلَى السِّبَاعِ ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَكُلُّ جَارِحٍ مِنْ الطَّيْرِ أَمْكَنَ تَعْلِيمُهُ ، وَالِاصْطِيَادُ بِهِ ، مِنْ الْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالشَّاهِينِ وَالْعُقَابِ ، حَلَّ