الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
( 3960 ) فَصْلٌ : وَلَوْ غَصَبَ شَيْئًا فَشَقَّهُ نِصْفَيْنِ ، وَكَانَ ثَوْبًا يَنْقُصُهُ الْقَطْعُ ، رَدَّهُ وَأَرْشُ نَقْصِهِ ، فَإِنْ تَلِفَ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ ، رَدَّ الْبَاقِي وَقِيمَةَ التَّالِفِ ، وَأَرْشَ النَّقْصِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْهُ الْقَطْعُ ، رَدَّ الْبَاقِيَ وَقِيمَةَ التَّالِفِ لَا غَيْرُ .
وَإِنْ كَانَا بَاقِيَيْنِ ، رَدَّهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى ذَلِكَ .
وَإِنْ غَصَبَ شَيْئَيْنِ يَنْقُصُهُمَا التَّفْرِيقُ ، كَزَوْجَيْ خُفٍّ ، وَمِصْرَاعَيْ بَابٍ ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا ، رَدَّ الْبَاقِيَ ، وَقِيمَةَ التَّالِفِ وَأَرْشَ نَقْصِهِمَا .
فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سِتَّةَ دَرَاهِمَ ، فَتَلِفَ أَحَدُهُمَا ، فَصَارَتْ قِيمَةُ الْبَاقِي دِرْهَمَيْنِ ، رَدَّ الْبَاقِيَ وَأَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةُ التَّالِفِ مَعَ رَدِّ الْبَاقِي .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْلَفْ غَيْرُهُ ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الْبَاقِي نَقْصُ قِيمَةٍ ، فَلَا يَضْمَنُهُ ، كَالنَّقْصِ بِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ بِجِنَايَتِهِ ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ ، كَشَقِّ الثَّوْبِ الَّذِي يَنْقُصُهُ الشَّقُّ إذَا أَتْلَفَ أَحَدَ شِقَّيْهِ ، بِخِلَافِ نَقْصِ السِّعْرِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ الْمَغْصُوبِ عَيْنٌ وَلَا مَعْنَى ، وَهَا هُنَا فَوَّتَ مَعْنَى ، وَهُوَ إمْكَانُ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُوجِبُ لِنَقْصِ قِيمَتِهِ ، وَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَهُ ، كَمَا لَوْ فَوَّتَ بَصَرَهُ أَوْ سَمْعَهُ أَوْ عَقْلَهُ ، أَوْ فَكَّ تَرْكِيبَ بَابٍ وَنَحْوِهِ .
( 3961 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ فَأَبْلَاهُ ، فَنَقَصَ نِصْفُ قِيمَتِهِ ، ثُمَّ غَلَتْ الثِّيَابُ ، فَعَادَتْ لِذَلِكَ قِيمَتُهُ ، كَمَا كَانَتْ ، لَزِمَهُ رَدُّهُ وَأَرْشُ نَقْصِهِ ، فَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ ، فَنَقَصَهُ لُبْسُهُ حَتَّى صَارَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةً ، ثُمَّ زَادَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ عَشَرَةً ، رَدَّهُ وَرَدَّ خَمْسَةً ؛ لِأَنَّ مَا تَلِفَ قَبْلَ غَلَاءِ الثَّوْبِ ثَبَتَتْ قِيمَتُهُ فِي الذِّمَّةِ خَمْسَةٌ ، فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِغَلَاءِ الثَّوْبِ وَلَا رُخْصِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَخَّصَتْ الثِّيَابُ ، فَصَارَتْ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةً ، لَمْ يَلْزَمْ الْغَاصِبَ إلَّا خَمْسَةٌ ، مَعَ رَدِّ الثَّوْبِ .
وَلَوْ تَلِفَ الثَّوْبُ كُلُّهُ ، وَقِيمَتُهُ عَشَرَةٌ ، ثُمَّ غَلَتْ الثِّيَابُ ، فَصَارَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ عِشْرِينَ ، لَمْ يَضْمَنْ إلَّا عَشَرَةً ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ عَشَرَةً ، فَلَا تَزْدَادُ بِغَلَاءِ الثِّيَابِ ، وَلَا تَنْقُصُ بِرُخْصِهَا .
( 3962 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ ثَوْبًا أَوْ زوليا ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ ، كَخَمْلِ الْمِنْشَفَةِ ، وزئبرة الثَّوْبِ ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهِ .
وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَهُ مُدَّةً لِمِثْلِهَا أُجْرَةٌ ، لَزِمَهُ أَجْرُهُ ، سَوَاءٌ اسْتَعْمَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ .
وَإِنْ اجْتَمَعَا ، مِثْلُ أَنْ أَقَامَ عِنْدَهُ مُدَّةً ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُمَا مَعًا ، الْأَجْرُ وَأَرْشُ النَّقْصِ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَهَابُ الْأَجْزَاءِ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ بِغَيْرِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إنْ نَقَصَ بِغَيْرِ الِاسْتِعْمَالِ ، كَثَوْبِ يَنْقُصُهُ النَّشْرُ ، فَنَقَصَ بِنَشْرِهِ ، وَبَقِيَ عِنْدَهُ مُدَّةً ، ضَمِنَ الْأَجْرَ وَالنَّقْصَ ، وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِعْمَالِ ، كَثَوْبٍ لَبِسَهُ وَأَبْلَاهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَضْمَنُهُمَا مَعًا .
وَالثَّانِي ، يَجِبُ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْأَجْرِ وَأَرْشُ النَّقْصِ ؛ لِأَنَّ مَا نَقَصَ مِنْ الْأَجْزَاءِ فِي مُقَابَلَةِ الْأَجْرِ ، وَلِذَلِكَ لَا يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ ، وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ .
وَلَنَا ، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِالْإِيجَابِ عَنْ صَاحِبِهِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا وَجَبَا ، كَمَا لَوْ أَقَامَ فِي يَدِهِ مُدَّةً ثُمَّ تَلِفَ ، وَالْأُجْرَةُ تَجِبُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَفُوتُ مِنْ الْمَنَافِعِ ، لَا فِي مُقَابَلَةِ الْأَجْزَاءِ ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ الْأَجْرُ وَإِنْ لَمْ تَفُتْ الْأَجْزَاءُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ أَجْرٌ ، كَثَوْبٍ غَيْرِ مَخِيطٍ ، فَلَا أَجْرَ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهِ لَا غَيْرُ .
فَصْلٌ : وَإِذَا نَقَصَ الْمَغْصُوبُ عِنْدَ الْغَاصِبِ ، ثُمَّ بَاعَهُ فَتَلِفَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إلَى حِينِ التَّلَفِ ؛ لِأَنَّهُ فِي ضَمَانِهِ مِنْ حِينِ غَصْبِهِ إلَى يَوْمِ تَلِفَ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ مِنْ حِينِ قَبْضِهِ إلَى حِينِ تَلَفِهِ ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ أُجْرَةٌ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِجَمِيعِهَا ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَجْرِ مُقَامِهِ فِي يَدِهِ ، وَالْبَاقِي عَلَى الْغَاصِبِ .
وَالْكَلَامُ فِي رُجُوعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ نَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 3964 ) فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا ، أَوْ شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا ، أَوْ حَدِيدًا فَعَمِلَهُ سَكَاكِينَ أَوْ أَوَانِيَ ، أَوْ خَشَبَةً فَنَجَرَهَا بَابًا أَوْ تَابُوتًا ، أَوْ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ ، وَيَأْخُذُهُ وَأَرْشَ نَقْصِهِ إنْ نَقَصَ ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِي زِيَادَتِهِ ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا : يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِهَا عَنْهَا ، إلَّا أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا إلَّا بِالصَّدَقَةِ ، إلَّا أَنْ يَدْفَعَ قِيمَتَهَا فَيَمْلِكَهَا وَيَتَصَرَّفَ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ ، عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغَاصِبَ يَمْلِكُهَا بِالْقِيمَةِ ، إلَّا أَنَّهُ قَوْلٌ قَدِيمٌ رَجَعَ عَنْهُ ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا مَاتَ قَبْلَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِنَحْوٍ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً .
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قَوْمًا مِنْ الْأَنْصَارِ فِي دَارِهِمْ ، فَقَدَّمُوا إلَيْهِ شَاةً مَشْوِيَّةً فَتَنَاوَلَ مِنْهَا لُقْمَةً ، فَجَعَلَ يَلُوكُهَا وَلَا يُسِيغُهَا ، فَقَالَ : إنَّ هَذِهِ الشَّاةَ لَتُخْبِرُنِي أَنَّهَا أُخِذَتْ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ .
فَقَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، طَلَبْنَا فِي السُّوقِ فَلَمْ نَجِدْ ، فَأَخَذْنَا شَاةً لِبَعْضِ جِيرَانِنَا ، وَنَحْنُ نُرْضِيهِمْ مِنْ ثَمَنِهَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَطْعِمُوهَا الْأَسْرَى .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقَّ أَصْحَابِهَا انْقَطَعَ عَنْهَا ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَمَرَ بِرَدِّهَا عَلَيْهِمْ .
وَلَنَا ، أَنَّ عَيْنَ مَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ قَائِمَةٌ ، فَلَزِمَ رَدُّهَا إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ وَلَمْ يَشْوِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ بِمُلْكِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ ، فَإِذَا فَعَلَهُ بِمِلْكِ غَيْرِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ الشَّاةَ ، أَوْ ضَرَبَ النُّقْرَةَ دَرَاهِمَ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ إذَا
كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ ، فَلَمْ يُزِلْهُ إذَا فَعَلَهُ آدَمِيٌّ ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ كَمَا رَوَوْهُ ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : " وَنَحْنُ نُرْضِيهِمْ مِنْ ثَمَنِهَا " .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ بِعَمَلِهِ ، سَوَاءٌ زَادَتْ الْعَيْنُ أَوْ لَمْ تَزِدْ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الْغَاصِبَ يُشَارِكُ الْمَالِكَ بِالزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بِمَنَافِعِهِ ، وَمَنَافِعُهُ أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَعْيَانِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ .
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ .
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ عَمِلَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ لِذَلِكَ عِوَضًا ، كَمَا لَوْ أَغْلَى زَيْتًا فَزَادَتْ قِيمَتُهُ ، أَوْ بَنَى حَائِطًا لِغَيْرِهِ ، أَوْ زَرَعَ حِنْطَةَ إنْسَانٍ فِي أَرْضِهِ ، وَسَائِرِ عَمَلِ الْغَاصِبِ .
فَأَمَّا صَبْغُ الثَّوْبِ ، فَإِنَّ الصَّبْغَ عَيْنُ مَالٍ ، لَا يَزُولُ مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ بِجَعْلِهِ مَعَ مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ صَبْغِهِ بِجَعْلِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَجَعْلِهِ كَالصِّفَةِ ، فَلَأَنْ لَا يَزُولَ مِلْكُ غَيْرِهِ بِعَمَلِهِ فِيهِ أَوْلَى ، فَإِنْ احْتَجَّ بِأَنَّ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ يَرُدُّ عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ ، قُلْنَا : الزَّرْعُ مِلْكٌ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ ، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ تَزْدَادُ بِهِ قِيمَتُهُ ، فَإِذَا أَخَذَهُ مَالِكُ الْأَرْضِ ، احْتَسَبَ لَهُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا عَمَلُهُ فِي مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَكَانَ لَاغِيًا ، عَلَى أَنَّنَا نَقُولُ : إنَّمَا تَجِبُ قِيمَةُ الزَّرْعِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
فَأَمَّا إنْ نَقَصَتْ الْعَيْنُ دُونَ الْقِيمَةِ ، رَدَّ الْمَوْجُودَ وَقِيمَةَ النَّقْصِ ، وَإِنْ نَقَصَتْ الْعَيْنُ وَالْقِيمَةُ ، ضَمِنَهُمَا مَعًا ، كَالزَّيْتِ إذَا غَلَاهُ .
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلٍّ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ ، مِثْلُ نُقْرَةٍ ضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ
حُلِيًّا ، أَوْ طِينًا جَعَلَهُ لَبَنًا ، أَوْ غَزْلًا نَسَجَهُ ، أَوْ ثَوْبًا قَصَرَهُ .
وَإِنْ جَعَلَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَيْنِ مَالِهِ ، مِثْلُ أَنْ سَمَّرَ الرُّفُوفَ بِمَسَامِيرَ مِنْ عِنْدِهِ ، فَلَهُ قَلْعُهَا وَيَضْمَنُ مَا نَقَصَتْ الرُّفُوفُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَسَامِيرُ مِنْ الْخَشَبِ الْمَغْصُوبَةِ ، أَوْ مَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ ، وَلَيْسَ لَهُ قَلْعُهَا ، إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْمَالِكُ ، بِذَلِكَ ، فَيَلْزَمُهُ .
وَإِنْ كَانَتْ الْمَسَامِيرُ لِلْغَاصِبِ ، فَوَهَبَهَا لِلْمَالِكِ ، فَهَلْ يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْهِبَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْغَاصِبُ عَلَى عَمَلِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، فَالْأَجْرُ عَلَيْهِ .
وَالْحُكْمُ فِي زِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ ، كَمَا لَوْ وَلِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، إلَّا أَنْ يُضَمِّنَ النَّقْصَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، فَلَوْ اسْتَأْجَرَ قَصَّابًا فَذَبَحَ شَاةً ، فَلِلْمَالِكِ أَخْذُهَا وَأَرْشُ نَقْصِهَا ، وَيُغَرِّمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، فَإِنْ غَرَّمَ الْغَاصِبَ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْقَصَّابُ الْحَالَ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْقَصَّابَ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ ، لِأَنَّهُ غَرَّهُ ، وَإِنْ عَلِمَ الْقَصَّابُ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فَغَرَّمَهُ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَالِمًا بِالْحَالِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ ، رَجَعَ عَلَى الْقَصَّابِ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْهُ فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ اسْتَعَانَ بِمَنْ ذَبَحَ لَهُ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ .
( 3965 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ حَبًّا فَزَرَعَهُ فَصَارَ زَرْعًا ، أَوْ نَوًى فَصَارَ شَجَرًا ، أَوْ بَيْضًا فَحَضَنَهُ فَصَارَ فَرْخًا ، فَهُوَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ نَمَا ، فَأَشْبَهَ مَا تَقَدَّمَ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَمْلِكَهُ الْغَاصِبُ ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ .
وَإِنْ غَصَبَ دَجَاجَةً فَبَاضَتْ عِنْدَهُ ، ثُمَّ حَضَنَتْ بَيْضَهَا فَصَارَ فِرَاخًا ، فَهُمَا لِمَالِكِهَا ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِي عَلَفِهَا .
قَالَ أَحْمَدُ فِي طَيْرَةٍ جَاءَتْ إلَى دَارِ قَوْمٍ فَأَفْرَخَتْ عِنْدَهُمْ : يَرُدُّ فُرُوخَهَا إلَى أَصْحَابِ الطَّيْرَةِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ فِيمَا عَمِلَ .
وَإِنْ غَصَبَ شَاةً ، فَأَنْزَى عَلَيْهَا فَحْلًا ، فَالْوَلَدُ لِصَاحِبِ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَمَائِهَا .
وَإِنْ غَصَبَ فَحْلًا ، فَأَنْزَاهُ عَلَى شَاتِه ، فَالْوَلَدُ لِصَاحِبِ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ الْأُمَّ ، وَلَا أُجْرَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ .
وَإِنْ نَقَصَهُ الضِّرَابُ ضَمِنَ نَقْصَهُ .
( 3966 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ مِنْ رَجُلٍ ، وَخَلَطَهَا بِمِثْلِهَا لِآخَرَ ، فَلَمْ يَتَمَيَّزَا ، صَارَا شَرِيكَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ ، وَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلِهَا لَهُمَا ، وَإِنْ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا مِنْ مَالِهِ ، مَلَكَهَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهَا بِعَيْنِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَتْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ فِعْلٌ فِي الْمَغْصُوبِ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي ، لَمْ يَذْهَبْ بِمَالِيَّتِهِ ، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ ، كَذَبْحِ الشَّاةِ .
( 3967 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ عَبْدًا ، فَصَادَ صَيْدًا ، أَوْ كَسَبَ شَيْئًا ، فَهُوَ لِسَيِّدِهِ ، وَإِنْ غَصَبَ جَارِحًا كَالْفَهْدِ وَالْبَازِي ، فَصَادَ بِهِ ، فَالصَّيْدُ لِمَالِكِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ مَالِهِ ، فَأَشْبَهَ صَيْدَ الْعَبْدِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ الصَّائِدُ ، وَالْجَارِحَةُ آلَةٌ لَهُ ، وَلِهَذَا يَكْتَفِي بِتَسْمِيَتِهِ عِنْدَ إرْسَالِهِ الْجَارِحَ .
وَإِنْ غَصَبَ قَوْسًا أَوْ سَهْمًا أَوْ شَبَكَةً ، فَصَادَ بِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ لِصَاحِبِ الْقَوْسِ وَالسَّهْمِ وَالشَّبَكَةِ ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِهِ ، فَأَشْبَهَ نَمَاءَ مِلْكِهِ وَكَسْبَ عَبْدِهِ .
وَالثَّانِي ، لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ ، وَهَذِهِ آلَاتٌ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ذَبَحَ بِسِكِّينِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : هُوَ لِلْغَاصِبِ .
فَعَلَيْهِ أَجْرُ ذَلِكَ كُلُّهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي يَدَيْهِ إنْ كَانَ لَهُ أَجْرٌ .
وَإِنْ قُلْنَا : هُوَ لِلْمَالِكِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ فِي مُدَّةِ اصْطِيَادِهِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ فِي مُقَابَلَةِ مَنَافِعِهِ ، وَمَنَافِعُهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عَائِدَةٌ إلَى مَالِكِهِ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ عِوَضَهَا عَلَى غَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ زَرَعَ أَرْضَ إنْسَانِ ، فَأَخَذَ الْمَالِكُ الزَّرْعَ بِنَفَقَتِهِ ، وَالثَّانِي عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَصِدْ شَيْئًا .
( 3968 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ غَصَبَ جَارِيَةً ، فَوَطِئَهَا ، وَأَوْلَدَهَا ، لَزِمَهُ الْحَدُّ ، وَأَخَذَهَا سَيِّدُهَا وَأَوْلَادَهَا وَمَهْرَ مِثْلِهَا ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمَغْصُوبَةَ ، فَهُوَ زَانٍ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً لَهُ وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَى ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ ، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ ، وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ مُطَاوِعَةً .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا مَهْرَ لِلْمُطَاوِعَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا حَقٌّ لِلسَّيِّدِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا ، كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي قَطْعِ يَدِهَا ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ لِلسَّيِّدِ مَعَ إكْرَاهِهَا ، فَيَجِبُ مَعَ مُطَاوَعَتِهَا ، كَأَجْرِ مَنَافِعِهَا ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحُرَّةِ ، وَيَجِبُ أَرْشُ بَكَارَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْبِكْرِ يَدْخُلُ فِيهِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ ؛ وَلِهَذَا يَزِيدُ عَلَى مَهْرِ الثَّيِّبِ عَادَةً ، لِأَجْلِ مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ تَفْوِيتِ الْبَكَارَةِ .
وَإِنْ حَمَلَتْ ، فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَمَائِهَا وَأَجْزَائِهَا ، وَلَا يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِالْوَاطِئِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ زِنًى .
فَإِنْ وَضَعَتْهُ حَيًّا ، وَجَبَ رَدُّهُ مَعَهَا ، وَإِنْ أَسْقَطَتْهُ مَيِّتًا ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ حَيَاتَهُ قَبْلَ هَذَا .
هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ عِنْدَ أَصْحَابِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ : يَجِبُ ضَمَانُهُ بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا .
نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ لَوْ سَقَطَ بِضَرْبَتِهِ ، وَمَا ضُمِنَ بِالْإِتْلَافِ ضَمِنَهُ الْغَاصِبُ بِالتَّلَفِ فِي يَدِهِ ، كَأَجْرِ الْعَيْنِ .
وَالْأَوْلَى ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، أَنْ يَضْمَنَهُ بِعُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَضْمَنُهُ بِهِ بِالْجِنَايَةِ ، فَيَضْمَنُهُ بِهِ
فِي التَّلَفِ ، كَالْأَجْزَاءِ .
وَإِنْ وَضَعَتْهُ حَيًّا ، حَصَلَ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، كَالْأُمِّ .
فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ ، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ .
وَإِنْ نَقَصَتْ الْأُمُّ بِالْوِلَادَةِ ، ضَمِنَ نَقْصَهَا ، وَلَمْ يَنْجَبِرْ بِالْوَلَدِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَنْجَبِرُ نَقْصُهَا بِوَلَدِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ وَلَدَهَا مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، فَلَا يَنْجَبِرُ بِهِ نَقْصٌ حَصَلَ بِجِنَايَةِ الْغَاصِبِ ، كَالنَّقْصِ الْحَاصِلِ بِغَيْرِ الْوِلَادَةِ .
وَإِنْ ضَرَبَ الْغَاصِبُ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ الْجَنِينَ مَيِّتًا ، فَعَلَيْهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ .
وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَهَا أَجْنَبِيٌّ ، فَفِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ ، رَجَعَ عَلَى الضَّارِبِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الضَّارِبَ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ وُجِدَ مِنْهُ ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مَا كَانَتْ .
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَرْشُ بَكَارَتِهَا ، وَنَقْصِ وِلَادَتِهَا ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ ضَمَانُ وَلَدِهَا ، وَلَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَسَوَاءٌ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ كُلِّهَا حَالَةُ الْإِكْرَاهِ أَوْ الْمُطَاوَعَةِ ؛ لِأَنَّهَا حُقُوقٌ لِسَيِّدِهَا ، فَلَا تَسْقُطُ بِمُطَاوَعَتِهَا .
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى ، كَالْحَدِّ عَلَيْهَا ، وَالْإِثْمِ ، وَالتَّعْزِيرِ فِي مَوْضِعٍ يَجِبُ ، فَإِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً عَلَى الْوَطْءِ ، عَالِمَةً بِالتَّحْرِيمِ ، فَعَلَيْهَا الْحَدُّ إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِهِ ، وَالْإِثْمُ ، وَإِلَّا فَلَا .
( 3969 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ ، أَوْ نَاشِئًا بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا ، فَاعْتَقَدَ حِلَّ وَطْئِهَا ، أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ فَأَخَذَهَا ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُهَا ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ، وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ .
وَإِنْ حَمَلَتْ فَالْوَلَدُ حُرٌّ ، لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا
مِلْكُهُ ، وَيَلْحَقُهُ النَّسَبُ لِمَوْضِعِ الشُّبْهَةِ .
وَإِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا ، لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ حَيَاتَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ تَقْوِيمُهُ لِأَجْلِ الْحَيْلُولَةِ .
وَإِنْ وَضَعَتْهُ حَيًّا ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْفِصَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ رِقَّهُ بِاعْتِقَادِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُ حَمْلًا ، فَقُوِّمَ عَلَيْهِ أَوَّلَ حَالِ انْفِصَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ حَالِ إمْكَانِ تَقْوِيمِهِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ وَقْتُ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ .
وَإِنْ ضَرَبَ الْغَاصِبُ بَطْنَهَا ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَعَلَيْهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ ، قِيمَتُهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ، مَوْرُوثَةً عَنْهُ ، لَا يَرِثُ الضَّارِبُ مِنْهَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ جَنِينًا حُرًّا ، وَعَلَيْهِ لِلسَّيِّدِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ لَمَّا اعْتَقَبَ الضَّرْبَ ، فَالظَّاهِرُ حُصُولُهُ بِهِ ، وَضَمَانُهُ لِلسَّيِّدِ ضَمَانُ الْمَمَالِيكِ ، وَلِهَذَا لَوْ وَضَعَتْهُ حَيًّا قَوَّمْنَاهُ مَمْلُوكًا .
وَإِنْ كَانَ الضَّارِبُ أَجْنَبِيًّا ، فَعَلَيْهِ غُرَّةٌ دِيَةُ الْجَنِينِ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ ، وَتَكُونُ مَوْرُوثَةً عَنْهُ ، وَعَلَى الْغَاصِبِ لِلسَّيِّدِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُهُ ضَمَانَ الْمَمَالِيكِ ، وَقَدْ فَوَّتَ رِقَّهُ عَلَى السَّيِّدِ ، وَحَصَلَ التَّلَفُ فِي يَدَيْهِ .
وَالْحُكْمُ فِي الْمَهْرِ ، وَالْأَرْشِ ، وَالْأَجْرِ ، وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ ، وَقِيمَتِهَا إنْ تَلِفَتْ ، مَا مَضَى إذَا كَانَا عَالِمَيْنِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ ، فَلَا تَسْقُطُ بِالْجَهْلِ وَالْخَطَأِ ، كَالدِّيَةِ .
( 3970 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ بَاعَهَا ، فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ، وَأَوْلَدَهَا ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، رُدَّتْ الْجَارِيَةُ إلَى سَيِّدِهَا ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا ، وَفَدَى أَوْلَادَهُ بِمِثْلِهِمْ ، وَهُمْ أَحْرَارٌ ، وَرَجَعَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْغَاصِبِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا بَاعَ الْجَارِيَةَ ، فَبَيْعُهُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يَصِحُّ ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ .
وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ ، أَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ ، وَيَنْفُذُ ، لِأَنَّ الْغَصْبِ فِي الظَّاهِرِ تَتَطَاوَلُ مُدَّتُهُ ، فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُ الْغَاصِبِ ، أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ بِالْمَالِكِ وَالْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَمْلِكُ ثَمَنَهَا ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُهَا .
وَالتَّفْرِيعُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، وَالْحُكْمُ فِي وَطْءِ الْمُشْتَرِي كَالْحُكْمِ فِي وَطْءِ الْغَاصِبِ ، إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا ادَّعَى الْجَهَالَةَ ، قُبِلَ مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا بِشَرْطٍ ذَكَرْنَاهُ .
وَيَجِبُ رَدُّ الْجَارِيَةِ إلَى سَيِّدِهَا ، وَلِلْمَالِكِ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِرَدِّهَا ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ أَخَذَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ } .
وَالْمُشْتَرِي أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَيْضًا ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ مَالَ غَيْرِهِ فِي يَدِهِ .
وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ نِكَاحٍ ، وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ ، وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ .
وَإِنْ وَلَدَتْ مِنْهُ ، فَالْوَلَدُ حُرٌّ ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَطَأُ مَمْلُوكَتَهُ ، فَمَنَعَ ذَلِكَ انْخِلَاقَ الْوَلَدِ رَقِيقًا ، وَيَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ، وَعَلَيْهِ فِدَاؤُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ رِقَّهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ بِاعْتِقَادِهِ حِلَّ الْوَطْءِ .
وَهَذَا الصَّحِيحُ
فِي الْمَذْهَبِ ، وَعَلَيْهِ الْأَصْحَابُ .
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَلْزَمُهُ فِدَاءُ أَوْلَادِهِ ، وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ بَدَلُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي حَالِ الْعُلُوقِ أَحْرَارًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قِيمَةٌ حِينَئِذٍ .
قَالَ الْخَلَّالُ أَحْسَبُهُ قَوْلًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَوَّلَ ، وَاَلَّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْدِيهِمْ .
وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ مَنْصُورٍ أَيْضًا ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَيَفْدِيهِمْ بِبَدَلِهِمْ يَوْمَ الْوَضْعِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ يَوْمَ الْمُطَالَبَةِ ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمَغْصُوبَةِ لَا يَضْمَنُهُ عِنْدَهُ إلَّا بِالْمَنْعِ ، وَقَبْلَ الْمُطَالَبَةِ لَمْ يَحْصُلْ مَنْعٌ فَلَمْ يَجِبْ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى ، أَنَّهُ يَحْدُثُ مَضْمُونًا ، فَيُقَوَّمُ يَوْمَ وَضْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ حَالٍ أَمْكَنَ تَقْوِيمُهُ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يَفْدِيهِمْ بِهِ ، فَنَقَلَ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا أَنَّهُ يَفْدِيهِمْ بِمِثْلِهِمْ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِمِثْلِهِمْ فِي السِّنِّ ، وَالصِّفَاتِ ، وَالْجِنْسِ ، وَالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ : يَفْدِيهِمْ بِمِثْلِهِمْ فِي الْقِيمَةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ ، أَنَّهُ يَفْدِيهِمْ بِقِيمَتِهِمْ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ أَصَحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ ، فَيُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ كَسَائِرِ الْمُتَقَوِّمَاتِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَهُ ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " رَجَعَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْغَاصِبِ " .
يَعْنِي بِالْمَهْرِ ، وَمَا فَدَى بِهِ الْأَوْلَادَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ دَخَلَ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْأَوْلَادَ ، وَأَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ الْوَطْءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَدْ غَرَّهُ الْبَائِعُ ، فَرَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا الْجَارِيَةُ إذَا رَدَّهَا لَمْ يَرْجِعْ بِبَدَلِهَا ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ رَجَعَتْ إلَيْهِ ، لَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَقَامَتْ عِنْدَهُ مُدَّةً لِمِثْلِهَا أَجْرٌ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، فَعَلَيْهِ أَجْرُهَا .
وَإِنْ اغْتَصَبَهَا بِكْرًا ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ بَكَارَتِهَا .
وَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ أَوْ غَيْرُهَا ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِهَا .
وَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا .
وَكُلُّ ضَمَانٍ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ سَبَبُ يَدِ الْمُشْتَرِي .
وَمَا وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ ، مِنْ أَجْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِهِ ، أَوْ نَقْصٍ حَدَثَ عِنْدَهُ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ يَدِ الْمُشْتَرِي .
فَإِذَا طَالَبَ الْمَالِكُ الْمُشْتَرِيَ بِمَا وَجَبَ فِي يَدِهِ ، وَأَخَذَهُ مِنْهُ ، فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي حِينَ الشِّرَاءِ عَلِمَ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الضَّمَانِ وُجِدَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْرِيرٍ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ؛ ضَرْبٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ ، وَهُوَ قِيمَتُهَا إنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ ، وَأَرْشُ بَكَارَتِهَا ، وَبَدَلُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مَعَ الْبَائِعِ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لِذَلِكَ بِالثَّمَنِ ، فَإِذَا ضَمِنَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ .
وَضَرْبٌ يَرْجِعُ بِهِ ، وَهُوَ بَدَلُ الْوَلَدِ إذَا وَلَدَتْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مَعَهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْ جِهَتِهِ إتْلَافٌ ، وَإِنَّمَا الشَّرْعُ أَتْلَفَهُ بِحُكْمِ بَيْعِ الْغَاصِبِ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ نَقْصُ الْوِلَادَةِ .
وَضَرْبٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، وَهُوَ مَهْرُ مِثْلِهَا وَأَجْرُ نَفْعِهَا ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَرْجِعُ بِهِ .
وَهُوَ
قَوْلُ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنْ يُتْلِفَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَإِذَا غَرِمَ عِوَضَهُ رَجَعَ بِهِ ، كَبَدَلِ الْوَلَدِ ، وَنَقْصِ الْوِلَادَةِ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَرْجِعُ بِهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ غَرِمَ مَا اسْتَوْفَى بَدَلَهُ ، فَلَا يَرْجِعُ بِهِ ، كَقِيمَةِ الْجَارِيَةِ ، وَبَدَلِ أَجْزَائِهَا .
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَإِنْ رَجَعَ بِذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْغَاصِبِ فَكُلُّ مَا لَوْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ، إذَا رَجَعَ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ رَجَعَ بِهِ الْغَاصِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي .
وَكُلُّ مَا لَوْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغَاصِبِ إذَا غَرِمَهُ الْغَاصِبُ ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي .
وَمَتَى رَدَّهَا حَامِلًا فَمَاتَتْ مِنْ الْوَضْعِ ، فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْوَاطِئِ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ .
( 3971 ) فَصْلٌ : وَمَنْ اسْتَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَى ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا ؛ لِأَنَّهَا مَعْذُورَةٌ ، وَعَلَيْهِ مَهْرُهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً ، فَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً كَانَ الْمَهْرُ لَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً كَانَ لِسَيِّدِهَا .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْمَهْرُ ، كَمَا لَوْ طَاوَعَتْهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ ، سَقَطَ فِيهِ الْحَدَّ مِنْ الْمَوْطُوءَةِ .
فَإِذَا كَانَ الْوَاطِئُ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ فِي حَقِّهَا ، وَجَبَ عَلَيْهِ مَهْرُهَا كَمَا لَوْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ ، وَأَمَّا الْمُطَاوِعَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَجَبَ عَلَيْهِ مَهْرُهَا ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِسَيِّدِهَا ، فَلَا يَسْقُطُ بِرِضَاهَا ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً ، لَمْ يَجِبْ لَهَا الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّ رِضَاهَا اقْتَرَنَ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ ، فَلَمْ يُوجِبْ ، كَمَا لَوْ أَذِنَتْهُ فِي قَطْعِ يَدِهَا ، أَوْ إتْلَافِ جُزْءٍ مِنْهَا .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الثَّيِّبَ لَا مَهْرَ لَهَا وَإِنْ أُكْرِهَتْ .
نَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ ، فَوَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ ، كَالْبِكْرِ ، وَيَجِبُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ مَعَ الْمَهْرِ ، كَمَا قَدَّمْنَا .
( 3972 ) فَصْلٌ : إذَا أَجَرَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ ، فَالْإِجَارَةُ بَاطِلَةٌ ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَاتِ ، كَالْبَيْعِ ، وَلِمَالِكِهِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ أَجْرَ مِثْلِهَا ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ ، لَمْ يَرْجِعْ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ الْمَنْفَعَةَ ، إلَّا أَنْ يَزِيدَ أَجْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ ، فَيَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ وَيَسْقُطَ عَنْهُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ .
وَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْغَاصِبِ ، رَجَعَ بِهِ .
وَإِنْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَلِمَالِكِهَا تَغْرِيمُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا قِيمَتَهَا ، فَإِنْ غَرَّمَ الْمُسْتَأْجِرَ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْعَيْنَ ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ بَدَلٌ فِي مُقَابَلَةِ مَا غَرِمَ ، هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْغَصْبِ ، وَإِنْ عَلِمَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ ، وَحَصَلَ التَّلَفُ فِي يَدِهِ ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ غَرَّمَ الْغَاصِبَ الْأَجْرَ وَالْقِيمَةَ ، رَجَعَ بِالْأَجْرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَيَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ إنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ عَالِمًا بِالْغَصْبِ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي الْفَصْلِ كُلِّهِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَجْرَ لِلْغَاصِبِ دُونَ صَاحِبِ الدَّارِ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضُ الْمَنَافِعِ الْمَمْلُوكَةِ لِرَبِّ الدَّارِ ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا الْغَاصِبُ ، كَعِوَضِ الْأَجْزَاءِ .
( 3973 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَوْدَعَ الْمَغْصُوبَ ، أَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي بَيْعِهِ ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ ، فَتَلِفَ فِي يَدِهِ ، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ ؛ أَمَّا الْغَاصِبُ فَلِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَبَيْنَ مِلْكِهِ ، وَأَثْبَتَ الْيَدَ الْعَادِيَةَ عَلَيْهِ ، وَالْمُسْتَوْدَعُ وَالْوَكِيلُ لِإِثْبَاتِهِمَا أَيْدِيهِمَا عَلَى مِلْكٍ مَعْصُومٍ بِغَيْرِ حَقٍّ .
فَإِنْ غَرَّمَ الْغَاصِبَ ، وَكَانَا غَيْرَ عَالِمَيْنِ بِالْغَصْبِ ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ غَرَّمَهُمَا رَجَعَا عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا غَرِمَا مِنْ الْقِيمَةِ وَالْأَجْرِ ؛ لِأَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى أَنْ لَا يَضْمَنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمَا بَدَلٌ عَمَّا ضَمِنَا .
وَإِنْ عَلِمَا أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ تَحْتَ أَيْدِيهِمَا مِنْ غَيْرِ تَغْرِيرٍ بِهِمَا ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ، فَإِنْ غَرِمَا شَيْئًا ، لَمْ يَرْجِعَا بِهِ .
وَإِنْ غَرَّمَ الْغَاصِبَ ، رَجَعَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمَا .
وَإِنْ جَرَحَهَا الْغَاصِبُ ، ثُمَّ أَوْدَعَهَا ، أَوْ رَدَّهَا إلَى مَالِكِهَا ، فَتَلِفَتْ بِالْجَرْحِ ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتْلِفُ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ بَاشَرَهَا بِالْإِتْلَافِ فِي يَدِهِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ أَعَارَ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ ، فَتَلِفَتْ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ ، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ أَجْرَهَا وَقِيمَتَهَا ، فَإِنْ غَرَّمَ الْمُسْتَعِيرَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْغَصْبِ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ غَرَّمَ الْغَاصِبَ رَجَعَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِالْغَصْبِ ، فَغَرَّمَهُ ، لَمْ يَرْجِعْ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ .
وَهَلْ يَرْجِعُ بِمَا غَرِمَ مِنْ الْأَجْرِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ لَهُ غَيْرَ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهَا ، فَقَدْ اسْتَوْفَى بَدَلَ مَا غَرِمَ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا تَلِفَ مِنْ الْأَجْزَاءِ بِالِاسْتِعْمَالِ .
وَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ وَقْتَ الْقَبْضِ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ يَوْمِ التَّلَفِ ، فَضَمِنَ الْأَكْثَرَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ بِمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ ، وَلَمْ يَسْتَوْفِ بَدَلَهُ .
فَإِنْ رَدَّهَا الْمُسْتَعِيرُ عَلَى الْغَاصِبِ ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْمِلْكَ عَلَى مَالِكِهِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ .
وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ إنْ حَصَلَ التَّلَفُ فِي يَدَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُودَعِ وَغَيْرِهِ .
( 3975 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَهَبَ الْمَغْصُوبَ لِعَالَمٍ بِالْغَصْبِ ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَّهِبِ ، فَمَهْمَا غَرِمَ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْنِ أَوْ أَجْزَائِهَا ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدَيْهِ ، وَلَمْ يَغُرَّهُ أَحَدٌ ، وَكَذَلِكَ أَجْرُ مُدَّةِ مُقَامِهِ فِي يَدَيْهِ ، وَأَرْشُ نَقْصِهِ إنْ حَصَلَ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَلِصَاحِبِهَا تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُتَّهِبَ ، رَجَعَ عَلَى الْوَاهِبِ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ وَالْأَجْزَاءِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيُّهُمَا ضُمِّنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُتَّهِبَ دَخَلَ عَلَى أَنْ تُسَلَّمَ لَهُ الْعَيْنُ ، فَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا غَرِمَ مِنْ قِيمَتِهَا ، كَقِيمَةِ الْأَوْلَادِ فَإِنَّهُ وَافَقَنَا عَلَى الرُّجُوعِ بِضَمَانِهِ .
فَأَمَّا الْأُجْرَةُ وَالْمَهْرُ وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ الْمُتَّهِبُ عَلَى الْوَاهِبِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .
وَإِنْ ضَمَّنَهُ الْوَاهِبَ ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُتَّهِبِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .
( 3976 ) فَصْلٌ : وَتَصَرُّفَاتُ الْغَاصِبِ كَتَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، بُطْلَانُهَا .
وَالثَّانِيَةُ ، صِحَّتُهَا وَوُقُوفُهَا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ فِي تَصَرُّفَاتِ الْغَاصِبِ الْحُكْمِيَّةِ رِوَايَةً ، أَنَّهَا تَقَعُ صَحِيحَةً ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْعِبَادَاتُ ، كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ ، أَوْ الْعُقُودُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ .
وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ فِي الْعُقُودِ بِمَا لَمْ يُبْطِلْهُ الْمَالِكُ ، فَأَمَّا مَا اخْتَارَ الْمَالِكُ إبْطَالَهُ وَأَخْذَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ نَعْلَمْ فِيهِ خِلَافًا ، وَأَمَّا مَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْمَالِكُ ، فَوَجْهُ التَّصْحِيحِ فِيهِ أَنَّ الْغَاصِبَ تَطُولُ مُدَّتُهُ ، وَتَكْثُرُ تَصَرُّفَاتُهُ ، فَفِي الْقَضَاءِ بِبُطْلَانِهَا ضَرَرٌ كَثِيرٌ ، وَرُبَّمَا عَادَ الضَّرَرُ عَلَى الْمَالِكِ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهَا يَقْتَضِي كَوْنَ الرِّبْحِ لِلْمَالِكِ ، وَالْعِوَضِ بِنَمَائِهِ وَزِيَادَتِهِ لَهُ ، وَالْحُكْمُ بِبُطْلَانِهِ يَمْنَعُ ذَلِكَ .
( 3977 ) فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ أَثْمَانًا فَاتَّجَرَ بِهَا ، أَوْ عُرُوضًا فَبَاعَهَا وَاتَّجَرَ بِثَمَنِهَا ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : الرِّبْحُ لِلْمَالِكِ ، وَالسِّلَعُ الْمُشْتَرَاةُ لَهُ .
وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ إنْ كَانَ الشِّرَاءُ بِعَيْنِ الْمَالِ فَالرِّبْحُ لِلْمَالِكِ .
قَالَ الشَّرِيفُ : وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ .
وَإِنْ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ ، ثُمَّ نَقَدَ الْأَثْمَانَ ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِلْغَاصِبِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ ، فَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ ، وَالرِّبْحُ لَهُ ، وَعَلَيْهِ بَدَلُ الْمَغْصُوبِ .
وَهَذَا قِيَاسُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ ، فَكَانَ لَهُ .
كَمَا لَوْ اشْتَرَى لَهُ بِعَيْنِ الْمَالِ .
وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَإِنْ حَصَلَ خُسْرَانٌ ، فَهُوَ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَصَلَ فِي الْمَغْصُوبِ .
وَإِنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَى مَنْ يُضَارِبُ بِهِ ، فَالْحُكْمُ فِي الرِّبْحِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَيْسَ عَلَى الْمَالِكِ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْعَمَلِ فِي مَالِهِ ، وَأَمَّا الْغَاصِبُ ، فَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ عَالِمًا بِالْغَصْبِ ، فَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْعَمَلِ ، وَلَمْ يَغُرَّهُ أَحَدٌ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْغَصْبِ ، فَعَلَى الْغَاصِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ عَمَلًا بِعِوَضٍ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ، فَلَزِمَهُ أَجْرُهُ ، كَالْعَقْدِ الْفَاسِدِ .
( 3978 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ ، لَزِمَتْ الْغَاصِبَ الْقِيمَةُ ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، رَدَّهُ وَأَخَذَ الْقِيمَةَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا فَعَجَزَ عَنْ رَدِّهِ ، كَعَبْدٍ أَبَقَ ، أَوْ دَابَّةٍ شَرَدَتْ ، فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ ، فَإِذَا أَخَذَهُ مَلَكَهُ ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْغَاصِبُ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ ، بَلْ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهَا لَزِمَهُ رَدُّهَا ، وَيَسْتَرِدُّ قِيمَتَهَا الَّتِي أَدَّاهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ الصَّبْرِ إلَى إمْكَانِ رَدِّهَا فَيَسْتَرِدُّهَا ، وَبَيْنَ تَضْمِينِهِ إيَّاهَا فَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهَا ، وَتَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ ، لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ دَفَعَ دُونَ قِيمَتِهَا بِقَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مَلَكَ الْبَدَلَ ، فَلَا يَبْقَى مِلْكُهُ عَلَى الْمُبْدَلِ ، كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ تَضْمِينٌ فِيمَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ فِيهِ ، فَنَقَلَهُ ، كَمَا لَوْ خَلَطَ زَيْتَهُ .
بِزَيْتِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ بِالْبَيْعِ ، فَلَا يَصِحُّ بِالتَّضْمِينِ كَالتَّالِفِ ، وَلِأَنَّهُ غَرِمَ مَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ بِخُرُوجِهِ عَنْ يَدِهِ ، فَلَا يَمْلِكُهُ بِذَلِكَ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مُدَبَّرًا ، وَلَيْسَ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْقِيمَةَ لِأَجْلِ الْحَيْلُولَةِ ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ ، وَلِهَذَا إذَا رَدَّ الْمَغْصُوبَ إلَيْهِ ، رَدَّ الْقِيمَةَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُشْبِهُ الزَّيْتَ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَلِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِهِ انْقَطَعَ عَنْهُ ، لِتَعَذُّرِ رَدِّهِ أَبَدًا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ مَتَى قَدَرَ عَلَى الْمَغْصُوبِ رَدَّهُ ، وَنَمَاءَهُ الْمُنْفَصِلَ وَالْمُتَّصِلَ ، وَأَجْرَ مِثْلِهِ إلَى حِينِ دَفْعِ بَدَلِهِ .
وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَجْرُهُ مِنْ حِينِ دَفْعِ بَدَلِهِ إلَى رَدِّهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَصَحُّهُمَا لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الِانْتِفَاعَ بِبَدَلِهِ الَّذِي أُقِيمَ
مَقَامَهُ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ الِانْتِفَاعَ بِهِ ، وَبِمَا قَامَ مَقَامَهُ ، كَسَائِرِ مَا عَدَاهُ .
وَالثَّانِي ، لَهُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ ، وَالْمَنْفَعَةُ لَهُ ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ بَدَلًا عَنْهُ إلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِالْحَيْلُولَةِ ، وَقَدْ زَالَتْ ، فَيَجِبُ رَدُّ مَا أَخَذَ مِنْ أَجْلِهَا إنْ كَانَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ ، وَرَدُّ زِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ ، كَالسِّمَنِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّهَا تَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ ، وَهَذَا فَسْخٌ ، وَلَا يَلْزَمُ رَدُّ زِيَادَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ ؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ فِي مِلْكِهِ ، وَلَا تَتْبَعُ فِي الْفُسُوخِ ، فَأَشْبَهَتْ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ الْمَرْدُودِ بِعَيْبٍ ، وَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ تَالِفًا ، رَدَّ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ .
( 3979 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ عَصِيرًا فَصَارَ خَمْرًا ، فَعَلَيْهِ مِثْلُ الْعَصِيرِ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ فِي يَدَيْهِ ، فَإِنْ صَارَ خَلًّا ، وَجَبَ رَدُّهُ ، وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَصِيرِ ، وَيَسْتَرْجِعُ مَا أَدَّاهُ مِنْ بَدَلِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يَرُدُّ الْخَلَّ ، وَلَا يَسْتَرْجِعُ الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ تَلِفَ بِتَخَمُّرِهِ ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ وَإِنْ عَادَ خَلًّا ، كَمَا لَوْ هَزَلَتْ الْجَارِيَةُ السَّمِينَةُ ثُمَّ عَادَ سِمَنُهَا ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَأَرْشَ نَقْصِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ الْخَلَّ عَيْنُ الْعَصِيرِ ، تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ ، وَقَدْ رَدَّهُ ، فَكَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا أَدَّاهُ بَدَلًا عَنْهُ ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ فَغَصَبَهُ مِنْهُ غَاصِبٌ ثُمَّ رَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَكَمَا لَوْ غَصَبَ حَمَلًا فَصَارَ كَبْشًا .
أَمَّا السِّمَنُ الْأَوَّلُ فَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
( 3980 ) فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ شَيْئًا بِبَلَدٍ ، فَلَقِيَهُ بِبَلَدٍ آخَرَ ، فَطَالَبَهُ بِهِ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ أَثْمَانًا ، لَزِمَهُ دَفْعُهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَثْمَانَ قِيَمُ الْأَشْيَاءِ ، فَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ قِيمَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهَا وَكَانَ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ وَقِيمَتُهُ فِي الْبَلَدَيْنِ وَاحِدَةٌ ، أَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ فِي بَلَدِ الْغَصْبِ أَكْثَرَ ، لَزِمَهُ أَدَاءُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مُخْتَلِفَةً إلَّا أَنَّهُ لَا مُؤْنَةَ لِحَمْلِهِ ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ رَدُّ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ .
وَإِنْ كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ ، وَقِيمَتُهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غَصَبَهُ فِيهِ أَقَلَّ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّهُ وَلَا رَدُّ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّنَا لَا نُكَلِّفُهُ مُؤْنَةَ النَّقْلِ إلَى بَلَدٍ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ فِيهِ ، وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْخِيرَةُ بَيْنَ الصَّبْرِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ فِي بَلَدِهِ ، وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ بِقِيمَتِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غَصَبَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَرَدُّ مِثْلِهِ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمُتَقَوِّمَاتِ ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِيمَتِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي غَصَبَهُ فِيهِ ، وَمَتَى قَدَرَ عَلَى رَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ ، رَدَّهَا ، وَاسْتَرْجَعَ بَدَلَهَا ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذَا .
( 3981 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَوْ غَصَبَهَا حَامِلًا ، فَوَلَدَتْ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ ، أَخَذَهَا سَيِّدُهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا ، أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَتُهُ ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَمْرَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ إذَا غَصَبَ حَامِلًا مِنْ الْحَيَوَانِ ، أَمَةً أَوْ غَيْرَهَا ، فَالْوَلَدُ مَضْمُونٌ ، كَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ حَائِلًا ، فَحَمَلَتْ عِنْدَهُ ، وَوَلَدَتْ ، ضَمِنَ وَلَدَهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ لَا يَجِبُ ضَمَانُ الْوَلَدِ فِي الصُّورَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَغْصُوبٍ ، إذْ الْغَصْبُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، فَإِنَّ الْمَوْجُودَ ثُبُوتُ الْيَدِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ انْبَنَى عَلَى وُجُودِ الْوَلَدِ ، وَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَنْ ضَمِنَ خَارِجَ الْوِعَاءِ ضَمِنَ مَا فِيهِ ، كَالدُّرَّةِ فِي الصَّدَفَةِ ، وَالْجَوْزِ ، وَاللَّوْزِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَيَضْمَنُ ، كَالْأُمِّ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْدُوعًا فِي الْأُمِّ ، كَالدُّرَّةِ فِي الْحُقَّةِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَأَجْزَائِهَا ، وَفِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ ، الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الظَّرْفِ ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْجُمْلَةِ اسْتِيلَاءٌ عَلَى الْجُزْءِ الْمَطْرُوقِ ، فَإِنْ أَسْقَطَتْهُ مَيِّتًا ، لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَيَاتُهُ ، وَلَكِنْ يَجِبُ مَا نَقَصَتْ الْأُمُّ عَنْ كَوْنِهَا حَامِلًا ، وَأَمَّا إذَا حَدَثَ الْحَمْلُ ، فَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ .
الْأَمْرُ الثَّانِي ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمَغْصُوبِ وَقِيمَةُ التَّالِفِ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ التَّالِفِ لَا تَخْتَلِفُ مِنْ حِينِ الْغَصْبِ إلَى حِينِ الرَّدِّ ، رَدَّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَخْتَلِفُ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا لِمَعْنًى فِيهِ ، مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ ، وَسِمَنٍ وَهُزَالٍ وَتَعَلُّمٍ وَنِسْيَانٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تَزِيدُ بِهَا الْقِيمَةُ وَتَنْقُصُ ، فَالْوَاجِبُ الْقِيمَةُ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ ، لِأَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ فِي الْحَالِ الَّتِي زَادَتْ فِيهَا ،
وَالزِّيَادَةُ لِمَالِكِهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْغَاصِبِ ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا مَضَى ، فَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً حِينَ تَلَفِهَا ، لَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا زَائِدَةً ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهَا كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً قَبْلَ تَلَفِهَا ، ثُمَّ نَقَصَتْ عِنْدَ تَلَفِهَا ، لَزِمَهُ قِيمَتُهَا حِينَ كَانَتْ زَائِدَةً ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّهَا نَاقِصَةً لَلَزِمَهُ أَرْشُ نَقْصِهَا ، وَهُوَ بَدَلَ الزِّيَادَةِ ، فَإِذَا ضَمِنَ الزِّيَادَةَ مَعَ رَدِّهَا ، ضَمِنَهَا عِنْدَ تَلَفِهَا ، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهَا لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ ، لَمْ يَضْمَنْ الزِّيَادَةَ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ لِذَلِكَ لَا يُضْمَنُ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ ، فَلَا يُضْمَنُ عِنْدَ تَلَفِهَا .
وَحَمَلَ الْقَاضِي قَوْلَ الْخِرَقِيِّ عَلَى مَا إذَا اخْتَلَفَتْ الْقِيمَةُ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْقِيمَتَيْنِ فِيهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّهَا ضَمِنَهَا ، كَقِيمَتِهِ يَوْمَ التَّلَفِ ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْقِيمَةُ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ .
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَتُفَارِقُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ زِيَادَةَ الْمَعَانِي ؛ لِأَنَّ تِلْكَ تُضْمَنُ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ ، فَكَذَلِكَ مَعَ تَلَفِهَا ، وَهَذِهِ لَا تُضْمَنُ مَعَ رَدِّ الْعَيْنِ ، فَكَذَلِكَ مَعَ تَلَفِهَا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا سَقَطَتْ بِرَدِّ الْعَيْنِ .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَمَا سَقَطَتْ بِالرَّدِّ ، كَزِيَادَةِ السِّمَنِ وَالتَّعَلُّمِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً بِأَنَّهَا تُضْمَنُ بِأَكْثَرِ الْقِيمَتَيْنِ ؛ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ .
فَعَلَى هَذَا تُضْمَنُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ التَّلَفِ .
رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ عَنْ أَحْمَدَ وَعَنْهُ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ الْغَصْبِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ، لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي أَزَالَ يَدَهُ عَنْهُ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ حِينَ التَّلَفِ ؛ لِأَنَّ قَبْلَ
ذَلِكَ كَانَ الْوَاجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ دُونَ قِيمَتِهَا ، فَاعْتُبِرَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ ، كَمَا لَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ قِيمَتُهُ .
وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَ الْمَغْصُوبِ غَصْبٌ ، فَإِنَّهُ فِعْلٌ يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بِيَوْمِ الْغَصْبِ ، فَقَالَ الْخَلَّالُ : جَبُنَ أَحْمَدُ عَنْهُ .
كَأَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ .
( 3982 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ فَتَلِفَ ، وَجَبَ رَدُّ مِثْلِهِ فَإِنْ فُقِدَ الْمِثْلُ ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْقِطَاعِ الْمِثْلِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِ الْبَدَلِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثْلُ إلَى حِينِ قَبْضِ الْبَدَلِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْمِثْلُ بَعْدَ فَقْدِهِ ، لَكَانَ الْوَاجِبُ هُوَ دُونَ الْقِيمَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيَّ : تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْمُحَاكَمَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى ذِمَّتِهِ إلَّا حِينَ حَكَمَ بِهَا الْحَاكِمُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ حِينَ انْقِطَاعِ الْمِثْلِ ، فَاعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ ، كَتَلَفِ الْمُتَقَوِّمِ ، وَدَلِيلُ وُجُوبِهَا حِينَئِذٍ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ طَلَبَهَا وَاسْتِيفَاءَهَا ، وَيَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ أَدَاؤُهَا ، وَلَا يَنْفِي وُجُوبَ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْجُوزٌ عَنْهُ ، وَالتَّكْلِيفُ يَسْتَدْعِي الْوُسْعَ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ طَلَبَ الْمِثْلِ وَلَا اسْتِيفَاءَهُ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ أَدَاؤُهُ ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَحَالَةِ الْمُحَاكَمَةِ .
وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى الْمِثْلِ بَعْدَ فَقْدِهِ ، فَإِنَّهُ يَعُودُ وُجُوبُهُ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ قَدَرَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَدَاءِ الْبَدَلِ ، فَأَشْبَهَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ التَّيَمُّمِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمُحَاكَمَةِ وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ ، لَاسْتَحَقَّ الْمَالِكُ طَلَبَهُ وَأَخْذَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ أَخَذَ مِنْ رَجُلٍ أَرْطَالًا مِنْ كَذَا وَكَذَا : أَعْطَاهُ عَلَى السِّعْرِ يَوْمَ أَخَذَهُ ، لَا يَوْمَ يُحَاسِبُهُ .
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْهُ فِي حَوَائِجِ الْبَقَّالِ : عَلَيْهِ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْأَخْذِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيمَةَ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْغَصْبِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ هَذَا .
وَيُمْكِنُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْغَصْبِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَنْ أَخَذَهُ هَاهُنَا بِإِذْنِ مَالِكِهِ ، مَلَكَهُ وَحَلَّ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ ، فَتَثْبُتُ
قِيمَتُهُ يَوْمَ مَلَكَهُ ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مَا ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ بِتَغَيُّرِ قِيمَةِ مَا أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَالْمَغْصُوبُ مِلْكٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَالْوَاجِبُ رَدُّهُ لَا قِيمَتُهُ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ قِيمَتُهُ فِي الذِّمَّةِ يَوْمَ تَلَفِهِ ، أَوْ انْقِطَاعِ مِثْلِهِ ، فَاعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ حِينَئِذٍ ، وَتَغَيَّرَتْ بِتَغَيُّرِهِ قَبْلَ ذَلِكَ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ بَاقِيًا ، وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ ، فَأَوْجَبْنَا رَدَّ قِيمَتِهِ ، فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ قَبْضِهَا ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَمْ تَثْبُتْ فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِهَا ، وَبَيْنَ الصَّبْرِ إلَى وَقْتِ إمْكَانِ الرَّدِّ وَمُطَالَبَةِ الْغَاصِبِ بِالسَّعْيِ فِي رَدِّهِ ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْقِيمَةَ لِأَجْلِ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، فَيُعْتَبَرُ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
( 3983 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا كَانَتْ لِلْمَغْصُوبِ أُجْرَةٌ ، فَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّهُ ، وَأَجْرُ مِثْلِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي يَدَيْهِ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، وُجُوبُ رَدِّ الْمَغْصُوبِ .
وَالثَّانِي ، رَدُّ أُجْرَتِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ مَتَى كَانَ بَاقِيًا ، وَجَبَ رَدُّهُ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ صَاحِبِهِ لَاعِبًا جَادًّا ، وَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
يَعْنِي أَنَّهُ يَقْصِدُ الْمَزْحَ مَعَ صَاحِبِهِ بِأَخْذِ مَتَاعِهِ ، وَهُوَ جَادٌّ فِي إدْخَالِ الْغَمِّ وَالْغَيْظِ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ أَزَالَ يَدَ الْمَالِكِ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلَزِمَهُ إعَادَتُهَا .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ إذَا كَانَ بَاقِيًا بِحَالِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ .
فَإِنْ غَصَبَ شَيْئًا ، فَبَعَّدَهُ ، لَزِمَهُ رَدُّهُ ، وَإِنْ غَرِمَ عَلَيْهِ أَضْعَافَ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَنَى بِتَبْعِيدِهِ ، فَكَانَ ضَرَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قَالَ الْغَاصِبُ : خُذْ مِنِّي أَجْرَ رَدِّهِ ، وَتَسَلَّمْهُ مِنِّي هَاهُنَا .
أَوْ بَذَلَ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَلَا يَسْتَرِدُّهُ ، لَمْ يَلْزَمْ الْمَالِكَ قَبُولُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا ، كَالْبَيْعِ .
وَإِنْ قَالَ الْمَالِكُ : دَعْهُ لِي فِي مَكَانِهِ الَّذِي نَقَلْتَهُ إلَيْهِ .
لَمْ يَمْلِكْ الْغَاصِبُ رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُ حَقًّا فَسَقَطَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ دَيْنِهِ .
وَإِنْ قَالَ : رُدَّهُ لِي إلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ .
لَزِمَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمَسَافَةِ ، فَلَزِمَهُ بَعْضُهَا الْمَطْلُوبُ ، وَسَقَطَ
عَنْهُ مَا أَسْقَطَهُ .
وَإِنْ طَلَبَ مِنْهُ حَمْلَهُ إلَى مَكَان آخَرَ فِي غَيْرِ طَرِيقِ الرَّدِّ ، لَمْ يَلْزَمْ الْغَاصِبَ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي يَلْزَمُهُ رَدُّهُ إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ .
وَإِنْ قَالَ : دَعْهُ فِي مَكَانِهِ ، وَأَعْطِنِي أَجْرَ رَدِّهِ .
لَمْ يُجْبَرْ عَلَى إجَابَتِهِ ؛ لِذَلِكَ .
وَمَهْمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا .
( 3984 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ شَيْئًا ، فَشَغَلَهُ بِمِلْكِهِ ، كَخَيْطٍ خَاطَ بِهِ ثَوْبًا ، أَوْ نَحْوَهُ ، أَوْ حَجَرًا بَنَى عَلَيْهِ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ بَلِيَ الْخَيْطُ ، أَوْ انْكَسَرَ الْحَجَرُ ، أَوْ كَانَ مَكَانَهُ خَشَبَةٌ فَتَلِفَتْ ، لَمْ يَأْخُذْ بِرَدِّهِ ، وَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ هَالِكًا ، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ .
وَإِنْ كَانَ بَاقِيًا بِحَالِهِ ، لَزِمَهُ رَدُّهُ ، وَإِنْ انْتَقَضَ الْبِنَاءُ ، وَتَفَصَّلَ الثَّوْبُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ رَدُّ الْخَشَبَةِ وَالْحَجَرِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ تَابِعًا لِمِلْكِهِ يَسْتَضِرُّ بِقَلْعِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ رَدُّهُ ، كَمَا لَوْ غَصَبَ خَيْطًا فَخَاطَ بِهِ جُرْحَ عَبْدِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَغْصُوبٌ أَمْكَنَ رَدُّهُ ، وَيَحُوزُ لَهُ فَوَجَبَ ، كَمَا لَوْ بَعَّدَ الْعَيْنَ ، وَلَا يُشْبِهُ الْخَيْطَ الَّذِي يُخَافُ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ قَلْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ رَدُّهُ ، لِمَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ تَلَفِ الْآدَمِيِّ .
وَلِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ تُبِيحُ أَخْذَهُ ابْتِدَاءً ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ ، وَإِنْ خَاطَ بِالْخَيْطِ جُرْحَ حَيَوَانٍ ، فَذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يَخِيطَ بِهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، كَالْمُرْتَدِّ وَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ ، فَيَجِبُ نَزْعُهُ وَرَدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ تَفْوِيتَ ذِي حُرْمَةٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَاطَ بِهِ ثَوْبًا .
وَالثَّانِي ، أَنْ يَخِيطَ بِهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ ، لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ ، كَالْآدَمِيِّ ، فَإِنْ خِيفَ مِنْ نَزْعِهِ الْهَلَاكُ أَوْ إبْطَاءُ بُرْئِهِ ، فَلَا يَجِبُ نَزْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ آكَدُ حُرْمَةً مِنْ عَيْنِ الْمَالِ ، وَلِهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ مَالِ غَيْرِهِ لِيَحْفَظَ حَيَاتَهُ ، وَإِتْلَافُ الْمَالِ لِتَبْقِيَتِهِ وَهُوَ مَا يَأْكُلُهُ .
وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا ، كَالْبَغْلِ وَالْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ .
الثَّالِثُ ، أَنْ يَخِيطَ بِهِ جُرْحَ حَيَوَانٍ مَأْكُولٍ ، فَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِغَيْرِ الْغَاصِبِ ، وَخِيفَ تَلَفُهُ بِقَلْعِهِ ، لَمْ يُقْلَعْ ؛
لِأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِصَاحِبِهِ ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ ، وَلَا يَجِبُ إتْلَافُ مَالٍ مَنْ لَمْ يَجْنِ صِيَانَةً لَمَالٍ آخَرَ ، وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ لِلْغَاصِبِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَجِبُ رَدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ذَبْحُ الْحَيَوَانِ وَالِانْتِفَاعُ بِلَحْمِهِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ نَقْصٌ عَلَى الْغَاصِبِ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعِ مِنْ وُجُوبِ رَدِّ الْمَغْصُوبِ ، كَنَقْصِ الْبِنَاءِ لِرَدِّ الْحَجَرِ الْمَغْصُوبِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، هَذَا .
وَالثَّانِي ، لَا يَجِبُ قَلْعُهُ ؛ لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَةً فِي نَفْسِهِ ، وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلِهِ .
} وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا يُعَدُّ لِلْأَكْلِ مِنْ الْحَيَوَانِ ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالدَّجَاجِ وَأَكْثَرِ الطَّيْرِ ، وَبَيْنَ مَا لَا يُعَدُّ لَهُ ، كَالْخَيْلِ وَالطَّيْرِ الْمَقْصُودِ صَوْتُهُ ؛ فَالْأَوَّلُ يَجِبُ ذَبْحُهُ إذَا تَوَقَّفَ رَدُّ الْمَغْصُوبِ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ ذَبْحَهُ إتْلَافٌ لَهُ ، فَجَرَى مَجْرَى مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
وَمَتَى أَمْكَنَ رَدُّ الْخَيْطِ مِنْ غَيْرِ تَلَفِ الْحَيَوَانِ ، أَوْ تَلَفِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ ، أَوْ ضَرَرٍ كَثِيرٍ ، وَجَبَ رَدُّهُ .
( 3985 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ فَصِيلًا ، فَأَدْخَلَهُ دَارِهِ ، فَكَبِرَ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْبَابِ ، أَوْ خَشَبَةً وَأَدْخَلَهَا دَارِهِ ، ثُمَّ بَنَى الْبَابَ ضَيِّقًا ، لَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا بِنَقْضِهِ ، وَجَبَ نَقْضُهُ ، وَرَدُّ الْفَصِيلِ وَالْخَشَبَةِ ، كَمَا يُنْقَضُ الْبِنَاءُ لِرَدِّ السَّاجَةِ ، فَإِنْ كَانَ حُصُولُهُ فِي الدَّارِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ ، نَقَضَ الْبَابَ ، وَضَمَانُهُ عَلَى صَاحِبِ الْفَصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ .
وَأَمَّا الْخَشَبَةُ فَإِنْ كَانَ كَسْرُهَا أَكْثَرَ ضَرَرًا مِنْ نَقْضِ الْبَابِ ، فَهِيَ كَالْفَصِيلِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ ، كُسِرَتْ .
وَيَحْتَمِلُ فِي الْفَصِيلِ مِثْلَ هَذَا ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ ذَبْحُهُ أَقَلَّ ضَرَرًا ، ذُبِحَ وَأُخْرِجَ لَحْمُهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخَشَبَةِ ، وَإِنْ كَانَ حُصُولُهُ فِي الدَّارِ بِعِدْوَانٍ مِنْ صَاحِبِهِ ، كَرَجُلٍ غَصَبَ دَارًا فَأَدْخَلَهَا فَصِيلًا ، أَوْ خَشَبَةً ، أَوْ تَعَدَّى عَلَى إنْسَانٍ ، فَأَدْخَلَ دَارِهِ فَرَسًا وَنَحْوَهَا ، كَسَرَتْ الْخَشَبَةُ ، وَذُبِحَ الْحَيَوَانُ ، وَإِنْ زَادَ ضَرَرُهُ عَلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ هَذَا الضَّرَرِ عُدْوَانُهُ ، فَيُجْعَلُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَلَوْ بَاعَ دَارًا فِيهَا خَوَابِي لَا تَخْرُجُ إلَّا بِنَقْضِ الْبَابِ ، أَوْ خَزَائِنُ أَوْ حَيَوَانٌ ، وَكَانَ نَقْضُ الْبَابِ أَقَلَّ ضَرَرًا مِنْ بَقَاءِ ذَلِكَ فِي الدَّارِ ، أَوْ تَفْصِيلِهِ ، أَوْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ نُقِضَ ، وَكَانَ إصْلَاحُهُ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ ضَرَرًا ، لَمْ يُنْقَضْ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَيَصْطَلِحَانِ عَلَى ذَلِكَ ، إمَّا بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ مُشْتَرِي الدَّارِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
( 3986 ) فَصْلٌ : ( وَإِنْ غَصَبَ جَوْهَرَةً ، فَابْتَلَعَتْهَا بَهِيمَةٌ ، ) فَقَالَ أَصْحَابُنَا : حُكْمُهَا حُكْمُ الْخَيْطِ الَّذِي خَاطَ بِهِ جُرْحَهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْجَوْهَرَةَ مَتَى كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْحَيَوَانِ ، ذُبِحَ الْحَيَوَانُ ، وَرُدَّتْ إلَى مَالِكِهَا ، وَضَمَانُ الْحَيَوَانِ عَلَى الْغَاصِبِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ آدَمِيًّا .
وَفَارَقَ الْخَيْطَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ أَقَلُّ قِيمَةً مِنْ الْحَيَوَانِ ، وَالْجَوْهَرَةُ أَكْثَرُ قِيمَةً ، فَفِي ذَبْحِ الْحَيَوَانِ رِعَايَةُ حَقِّ الْمَالِكِ بِرَدِّ عَيْنِ مَالِهِ إلَيْهِ ، وَرِعَايَةُ حَقِّ الْغَاصِبِ بِتَقْلِيلِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ ابْتَلَعَتْ شَاةُ رَجُلٍ جَوْهَرَةَ آخَرَ غَيْرَ مَغْصُوبَةٍ ، وَلَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُهَا إلَّا بِذَبْحِ الشَّاةِ ، ذُبِحَتْ إذَا كَانَ ضَرَرُ ذَبْحِهَا أَقَلَّ ، وَكَانَ ضَمَانُ نَقْصِهَا عَلَى صَاحِبِ الْجَوْهَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ مَالِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيطُ مِنْ صَاحِبِ الشَّاةِ ، بِكَوْنِ يَدِهِ عَلَيْهَا ، فَلَا شَيْءَ عَلَى صَاحِبِ الْجَوْهَرَةِ ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْ صَاحِبِ الشَّاةِ ، فَالضَّرَرُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ أَدْخَلَتْ رَأْسَهَا فِي قُمْقُمٍ ، فَلَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُهُ إلَّا بِذَبْحِهَا ، وَكَانَ الضَّرَرُ فِي ذَبْحِهَا أَقَلَّ ، ذُبِحَتْ .
وَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ فِي كَسْرِ الْقُمْقُمِ أَقَلَّ ، كُسِرَ الْقُمْقُمُ ، وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ صَاحِبِ الشَّاةِ ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ التَّفْرِيطُ مِنْ صَاحِبِ الْقُمْقُمِ ، بِأَنْ وَضَعَهُ فِي الطَّرِيقِ ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا تَفْرِيطٌ ، فَالضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِ الشَّاةِ إنْ كُسِرَ الْقُمْقُمُ ؛ لِأَنَّهُ كُسِرَ لِتَخْلِيصِ شَاتِهِ ، وَإِنْ ذَبَحَتْ الشَّاةُ ، فَالضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِ الْقُمْقُمِ ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ قُمْقُمِهِ ، فَإِنْ قَالَ مَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ مِنْهُمَا : أَنَا أُتْلِفُ مَالِي ، وَلَا أَغْرَمُ شَيْئًا لِلْآخَرِ .
فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ مَالِ الْآخَرِ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّهِ ، وَسَلَامَةِ مَالِهِ وَتَخْلِيصِهِ ، فَإِذَا رَضِيَ بِتَلَفِهِ ، لَمْ
يَجُزْ إتْلَافُ غَيْرِهِ .
وَإِنْ قَالَ : لَا أُتْلِفُ مَالِي ، وَلَا أَغْرَمُ شَيْئًا ، لَمْ نُمَكِّنْهُ مِنْ إتْلَافِ مَالِ صَاحِبِهِ ، لَكِنَّ صَاحِبَ الْقُمْقُمِ لَا يُجْبَرُ عَلَى شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْقُمْقُمَ لَا حُرْمَةَ لَهُ ، فَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُهُ عَلَى تَخْلِيصِهِ ، وَأَمَّا صَاحِبُ الشَّاةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ تَرْكُهَا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ ، فَيُقَالُ لَهُ : إمَّا أَنْ تَذْبَحَ الشَّاةَ لِتُرِيحَهَا مِنْ الْعَذَابِ ، وَإِمَّا أَنْ تَغْرَمَ الْقُمْقُمَ لِصَاحِبِهِ ، إذَا كَانَ كَسْرُهُ أَقَلَّ ضَرَرًا ، وَيُخَلِّصُهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ إبْقَائِهَا أَوْ تَخْلِيصِهَا مِنْ الْعَذَابِ ، فَلَزِمَهُ كَعَلَفِهَا .
وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ غَيْرَ مَأْكُولٍ ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَأْكُولِ فِيمَا ذَكَرْنَا .
وَاحْتَمَلَ أَنْ يُكْسَرَ الْقُمْقُمُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِي ذَبْحِهِ ، وَلَا هُوَ مَشْرُوعٌ ، وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلِهِ .
} وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْمَأْكُولِ فِي أَنَّهُ مَتَى كَانَ قَتْلُهُ أَقَلَّ ضَرَرًا ، وَكَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْ صَاحِبِهِ ، قُتِلَ ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ مُعَارِضَةٌ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ الَّذِي يُتْلِفُ مَالَهُ ، وَالنَّهْيُ عَنْ ذَبْحِهِ مُعَارَضٌ بِالنَّهْيِ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَفِي كَسْرِ الْقُمْقُمِ مَعَ كَثْرَةِ قِيمَتِهِ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 3987 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ دِينَارًا ، فَوَقَعَ فِي مِحْبَرَتِهِ ، أَوْ أَخَذَ دِينَارَ غَيْرِهِ ، فَسَهَا فَوَقَعَ فِي مِحْبَرَتِهِ ، كُسِرَتْ ، وَرُدَّ الدِّينَارُ ، كَمَا يُنْقَضُ الْبِنَاءُ لِرَدِّ السَّاجَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ دِرْهَمًا أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ ، وَإِنْ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ، كُسِرَتْ لِرَدِّ الدِّينَارِ إنْ أَحَبَّ صَاحِبُهُ ، وَالضَّمَانُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لِتَخْلِيصِ مَالِهِ .
وَإِنْ غَصَبَ دِينَارًا ، فَوَقَعَ فِي مِحْبَرَةِ آخَرَ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، كُسِرَتْ لِرَدِّهِ ، وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ الْمِحْبَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ فِي كَسْرِهَا .
وَإِنْ كَانَ كَسْرُهَا أَكْثَرَ ضَرَرًا مِنْ تَبْقِيَةِ الْوَاقِعِ فِيهَا ، ضَمِنَهُ الْغَاصِبُ ، وَلَمْ تُكْسَرْ .
وَإِنْ رَمَى إنْسَانٌ دِينَارَهُ فِي مِحْبَرَةِ غَيْرِهِ عُدْوَانًا ، فَأَبَى صَاحِبُ الْمِحْبَرَةِ كَسْرَهَا ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ تَعَدَّى بِرَمْيِهِ فِيهَا ، فَلَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُهَا عَلَى إتْلَافِ مَالِهِ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ عُدْوَانِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَعَلَى الْغَاصِبِ نَقْصِ الْمِحْبَرَةِ بِوُقُوعِ الدِّينَارِ فِيهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى كَسْرِهَا لِرَدِّ عَيْنِ مَالِ الْغَاصِبِ ، وَيَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا ، كَمَا لَوْ غَرَسَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ، مَلَكَ حَفْرَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لِأَخْذِ غَرْسِهِ ، وَيَضْمَنُ نَقْصَهَا بِالْحَفْرِ .
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ ، لَوْ كَسَرَهَا الْغَاصِبُ قَهْرًا ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا .
( 3988 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ لَوْحًا ، فَرَقَعَ بِهِ سَفِينَةً ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى السَّاحِلِ ، لَزِمَ قَلْعُهُ وَرَدُّهُ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ ، وَاللَّوْحُ فِي أَعْلَاهَا ، بِحَيْثُ لَا تَغْرَقُ بِقَلْعِهِ ، لَزِمَ قَلْعُهُ ، وَإِنْ خِيفَ غَرَقُهَا بِقَلْعِهِ ، لَمْ يُقْلَعْ حَتَّى تَخْرُجَ إلَى السَّاحِلِ ، وَلِصَاحِبِ اللَّوْحِ طَلَبُ قِيمَتِهِ ، فَإِذَا أَمْكَنَ رَدُّ اللَّوْحِ ، اسْتَرْجَعَهُ وَرَدَّ الْقِيمَةَ ، كَمَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إنْ كَانَ فِيهَا حَيَوَانٌ لَهُ حُرْمَةٌ ، أَوْ مَالٌ لِغَيْرِ الْغَاصِبِ ، لَمْ يُقْلَعْ ، كَالْخَيْطِ .
وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَالٌ لِلْغَاصِبِ ، أَوْ لَا مَالَ فِيهَا ، فَفِيهَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يُقْلَعُ .
وَالثَّانِي : يُقْلَعُ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ رَدُّ الْمَغْصُوبِ ، فَلَزِمَ وَإِنْ أَدَّى إلَى تَلَفِ الْمَالِ ، كَرَدِّ السَّاجَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَمْكَنَ رَدُّ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ ، فَلَمْ يَجُزْ الْإِتْلَافُ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِيهَا مَالُ غَيْرِهِ .
وَفَارَقَ السَّاجَةَ فِي الْبِنَاءِ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهَا مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ .
( 3989 ) فَصْلٌ : وَإِذَا غَصَبَ شَيْئًا ، فَخَلَطَهُ بِمَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ مِنْهُ ، كَحِنْطَةِ بِشَعِيرٍ أَوْ سِمْسِمٍ ، أَوْ صِغَارِ الْحَبِّ بِكِبَارِهِ ، أَوْ زَبِيبٍ أَسْوَدَ بِأَحْمَرَ ، لَزِمَهُ تَمْيِيزُهُ ، وَرَدُّهُ ، وَأَجْرُ الْمُمَيِّزِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَمْيِيزُ جَمِيعِهِ ، وَجَبَ تَمْيِيزُهُ مَا أَمْكَنَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَمْيِيزُهُ ، فَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَضْرُبٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يَخْلِطَهُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ ، كَزَيْتٍ بِزَيْتٍ ، أَوْ حِنْطَةٍ بِمِثْلِهَا ، أَوْ دَقِيقٍ بِمِثْلِهِ ، أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ بِمِثْلِهَا ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يَلْزَمُهُ مِثْلُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ شَرِيكًا بِهِ إذَا خَلَطَهُ بِغَيْرِ الْجِنْسِ ، فَيَكُونُ تَنْبِيهًا عَلَى مَا إذَا خَلَطَهُ بِجِنْسِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، إلَّا فِي الدَّقِيقِ ، فَإِنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِمِثْلِي .
وَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ ، إنْ شَاءَ مِنْهُ ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِ مَالِهِ بِالْخَلْطِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَلِفَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ بَعْضِ مَالِهِ إلَيْهِ ، مَعَ رَدِّ الْمِثْلِ فِي الْبَاقِي ، فَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْمِثْلِ فِي الْجَمِيعِ ، كَمَا لَوْ غَصَبَ صَانِعًا ، فَتَلِفَ نِصْفُهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ مِنْهُ ، فَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ بَعْضَ مَالِهِ وَبَدَلَ الْبَاقِي ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ دَفْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ ، أَنْ يَخْلِطَهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ ، أَوْ دُونَهُ ، أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ ، يُبَاعُ الْجَمِيعُ ، وَيُدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرُ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ ، فِي رَجُلٍ لَهُ رِطْلُ زَيْتٍ ، وَآخَرَ لَهُ رِطْلُ شَيْرَجٍ اخْتَلَطَا : يُبَاعُ الدُّهْنُ كُلُّهُ ، وَيُعْطَى
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حِصَّتِهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّنَا إذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ ، أَوْصَلْنَا إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنَ مَالِهِ ، وَإِذَا أَمْكَنَ الرُّجُوعُ إلَى عَيْنِ الْمَالِ ، لَمْ يُرْجَعْ إلَى الْبَدَلِ .
وَإِنْ نَقَصَ الْمَغْصُوبُ عَنْ قِيمَتِهِ مُنْفَرِدًا ، فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النَّقْصِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِفِعْلِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْغَاصِبَ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِالْخَلْطِ مُسْتَهْلَكًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِزَيْتِهِ ، ثُمَّ أَفْلَسَ ، صَارَ الْبَائِعُ كَبَعْضِ الْغُرَمَاءِ ، وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مَالِهِ ، فَكَانَ لَهُ بَدَلُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ تَالِفًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ عَلَى مَا إذَا اخْتَلَطَا مِنْ غَيْرِ غَصْبٍ ، فَأَمَّا الْمَغْصُوبُ ، فَقَدْ وُجِدَ مِنْ الْغَاصِبِ مَا مَنَعَ الْمَالِكَ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ مُمَيَّزًا ، فَلَزِمَهُ مِثْلُهُ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ ، إلَّا بِأَنْ خَلَطَهُ بِخَيْرٍ مِنْهُ ، وَبَذَلَ لِصَاحِبِهِ مِثْلَ حَقِّهِ مِنْهُ ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ إلَيْهِ بَعْضَ حَقِّهِ بِعَيْنِهِ وَتَبَرَّعَ بِالزِّيَادَةِ فِي مِثْلِ الْبَاقِي .
وَإِنْ خَلَطَهُ بِأَدْوَنَ مِنْهُ ، فَرَضِيَ الْمَالِكُ بِأَخْذِ قَدْرِ حَقِّهِ مِنْهُ ، لَزِمَ الْغَاصِبَ بَذْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ رَدُّ بَعْضِ الْمَغْصُوبِ وَرَدُّ مِثْلِ الْبَاقِي مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ .
وَقِيلَ : لَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ انْتَقَلَ إلَى الذِّمَّةِ ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ ، وَإِنْ بَذَلَهُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَأَبَاهُ ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهِ ؛ لِأَنَّهُ دُونَ حَقِّهِ .
وَإِنْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ ، جَازَ ، وَكَانَ الْمَالِكُ مُتَبَرِّعًا بِتَرْكِ بَعْضِ حَقِّهِ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ مِنْ الرَّدِيءِ ، أَوْ دُونَ حَقِّهِ مِنْ الْجَيِّدِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ رِبًا ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الزَّائِدَ فِي الْقَدْرِ عِوَضًا عَنْ الْجَوْدَةِ .
وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ ، فَرَضِيَ بِأَخْذِ دُونَ حَقِّهِ
مِنْ الرَّدِيءِ ، أَوْ سَمَحَ الْغَاصِبُ فَدَفَعَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ مِنْ الْجَيِّدِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُقَابِلَ لِلزِّيَادَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ تَبَرُّعٌ مُجَرَّدٌ .
وَإِنْ خَلَطَهُ بِغَيْرِ جِنْسِهِ ، فَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ حَقِّهِ أَوْ أَقَلَّ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، فَلَا تَحْرُمُ الزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا .
الضَّرْبُ الْخَامِسُ ، أَنْ يَخْلِطَهُ بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ ، كَزَيْتٍ خَلَطَهُ بِمَاءٍ ، أَوْ لَبَنٍ شَابَهُ بِمَاءٍ ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَخْلِيصُهُ خَلَّصَهُ وَرَدَّ نَقْصَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَخْلِيصُهُ ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ يُفْسِدُهُ .
رَجَعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْهَالِكِ ، وَإِنْ لَمْ يُفْسِدْهُ .
رَدَّهُ وَرَدَّ نَقْصَهُ .
وَإِنْ اُحْتِيجَ فِي تَخْلِيصِهِ إلَى غَرَامَةٍ ، لَزِمَ الْغَاصِبَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا .
( 3990 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يَصْبُغَهُ بِصَبْغٍ لَهُ .
وَالثَّانِي ، أَنْ يَصْبُغَهُ بِصَبْغٍ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
الثَّالِثُ ، أَنْ يَصْبُغَهُ بِصَبْغٍ لِغَيْرِهِمَا .
وَالْأَوَّلُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ وَالصِّبْغُ بِحَالِهِمَا ، لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهُمَا وَلَمْ تَنْقُصْ ، مِثْلُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةً ، فَصَارَتْ قِيمَتُهُمَا بَعْدَ الصِّبْغِ عَشَرَةً ، فَهُمَا شَرِيكَانِ ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنُ مَالٍ لَهُ قِيمَةٌ ، فَإِنْ تَرَاضَيَا بِتَرْكِهِ لَهُمَا ، جَازَ ، وَإِنْ بَاعَاهُ ، فَثَمَنُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
الْحَالُ الثَّانِي ، إذَا زَادَتْ قِيمَتُهُمَا ، فَصَارَا يُسَاوِيَانِ عِشْرِينَ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِزِيَادَةِ الثِّيَابِ فِي السُّوقِ ، كَانَتْ الزِّيَادَةُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ ، وَإِنْ كَانَتْ لِزِيَادَةِ الصِّبْغِ فِي السُّوقِ ، فَالزِّيَادَةُ لِصَاحِبِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ لِزِيَادَتِهِمَا مَعًا ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ زِيَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الزِّيَادَةِ فِي السُّوقِ ، تَسَاوَى صَاحِبَاهُمَا فِيهِمَا ، وَإِنْ زَادَ أَحَدُهُمَا ثَمَانِيَةً وَالْآخَرُ اثْنَيْنِ ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ ، وَإِنْ زَادَ بِالْعَمَلِ ، فَالزِّيَادَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْغَاصِبِ زَادَ بِهِ فِي الثَّوْبِ وَالصِّبْغِ ، وَمَا عَمِلَهُ فِي الْمَغْصُوبِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا كَانَ أَثَرًا ، وَزِيَادَةُ مَالِ الْغَاصِبِ لَهُ .
وَإِنْ نَقَصَتْ الْقِيمَةُ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ ، لَمْ يَضْمَنْهُ الْغَاصِبُ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ نَقَصَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ ، فَهُوَ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ بِتَعَدِّيهِ ، فَإِذَا صَارَ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا خَمْسَةً ، فَهُوَ كُلُّهُ لِمَالِكِهِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ حَصَلَ بِعُدْوَانِهِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَارَتْ قِيمَتُهُ سَبْعَةً ، صَارَ الثَّوْبُ بَيْنَهُمَا ، لِصَاحِبِهِ خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِ ، وَلِصَاحِبِ الصِّبْغِ سُبْعَاهُ .
وَإِنْ زَادَتْ قِيمَةُ
الثَّوْبِ فِي السُّوقِ ، فَصَارَ يُسَاوِي سَبْعَةً ، وَنَقَصَ الصِّبْغُ ، فَصَارَ يُسَاوِي ثَلَاثَةً ، وَكَانَتْ قِيمَةُ الثَّوْبِ مَصْبُوغًا عَشَرَةً ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا ، لِصَاحِبِ الثَّوْبِ سَبْعَةً ، وَلِصَاحِبِ الصِّبْغِ ثَلَاثَةٌ .
وَإِنْ سَاوَى اثْنَيْ عَشَرَ ، قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا ، لِصَاحِبِ الثَّوْبِ نِصْفُهَا وَخُمْسُهَا ، وَلِلْغَاصِبِ خُمْسُهَا وَعُشْرُهَا ، وَإِنْ انْعَكَسَ الْحَالُ ، فَصَارَ الثَّوْبُ يُسَاوِي فِي السُّوقِ ثَلَاثَةً ، وَالصِّبْغُ سَبْعَةً انْعَكَسَتْ الْقِسْمَةُ ، فَصَارَ لِصَاحِبِ الصِّبْغَ هَاهُنَا مَا كَانَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا وَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ مِثْلُ مَا كَانَ لِصَاحِبِ الصِّبْغِ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ السِّعْرِ لَا تُضْمَنُ ، فَإِنْ أَرَادَ الْغَاصِبُ قَلْعَ الصِّبْغِ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَهُ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ أَضَرَّ بِالثَّوْبِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ بِهِ ، وَيَضْمَنُ نَقْصَ الثَّوْبِ إنْ نَقَصَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ ، فَمَلَكَ أَخْذَهُ ، كَمَا لَوْ غَرَسَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ .
وَلَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ مَا يَهْلَكُ صِبْغُهُ بِالْقَلْعِ ، وَبَيْنَ مَا لَا يَهْلَكُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ : مَا يَهْلَكُ بِالْقَلْعِ لَا يَمْلِكُ قَلْعَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَفَهٌ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ قَلْعِهِ إذَا تَضَرَّرَ الثَّوْبُ بِقَلْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْمُشْتَرِي إذَا بَنَى أَوْ غَرَسَ فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ : فَلَهُ أَخْذُهُ ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ ضَرَرٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ ، فَلَمْ يُمَكَّنْ مِنْهُ ، كَقَطْعِ خِرْقَةٍ مِنْهُ ، وَفَارَقَ قَلْعَ الْغَرْسِ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ قَلِيلٌ يَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ قَلْعِ الْعُرُوقِ مِنْ الْأَرْضِ .
وَإِنْ اخْتَارَ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ قَلْعَ الصِّبْغِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَمْلِكُ إجْبَارَ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ ، كَمَا يَمْلِكُ إجْبَارَهُ عَلَى قَلْعِ شَجَرِهِ مِنْ أَرْضِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَغَلَ مِلْكَهُ بِمِلْكِهِ عَلَى وَجْهٍ أَمْكَنَ تَخْلِيصُهُ ، فَلَزِمَهُ تَخْلِيصُهُ ،
وَإِنْ اسْتَضَرَّ الْغَاصِبُ ، كَقَلْعِ الشَّجَرِ ، وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ نَقْصِ الثَّوْبِ ، وَأَجْرُ الْقَلْعِ ، كَمَا يَضْمَنُ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَمْلِكُ إجْبَارَهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ قَلْعِهِ ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ يَهْلَكُ بِالِاسْتِخْرَاجِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ وُصُولُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِدُونِهِ بِالْبَيْعِ ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَلْعِهِ ، كَقَلْعِ الزَّرْعِ مِنْ الْأَرْضِ ، وَفَارَقَ الشَّجَرَ ، فَإِنَّهُ لَا يَتْلَفُ بِالْقَلْعِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، وَلَعَلَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ أَحْمَدَ فِي الزَّرْعِ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلزَّرْعِ ؛ لِأَنَّ لَهُ غَايَةً يَنْتَهِي إلَيْهَا ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَخْذُهُ بِنَفَقَتِهِ ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ اسْتِرْجَاعُ أَرْضِهِ فِي الْحَالِ ، بِخِلَافِ الصِّبْغِ ، فَإِنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ إلَّا تَلَفُ الثَّوْبِ ، فَهُوَ أَشْبَهُ بِالشَّجَرِ فِي الْأَرْضِ .
وَلَا يَخْتَصُّ وُجُوبُ الْقَلْعِ فِي الشَّجَرِ بِمَا لَا يَتْلَفُ ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى قَلْعِ مَا يَتْلَفُ وَمَا لَا يَتْلَفُ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
وَإِنْ بَذَلَ رَبُّ الثَّوْبِ قِيمَةَ الصِّبْغِ لِلْغَاصِبِ لِيَمْلِكَهُ ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهِ ؛ لِأَنَّهُ إجْبَارٌ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ بَذَلَ لَهُ قِيمَةَ الْغِرَاسِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْلَعْهُ ، قِيَاسًا عَلَى الشَّجَرِ ، وَالْبِنَاءِ فِي الْأَرْضِ الْمَشْفُوعَةِ ، وَالْعَارِيَّةِ ، وَفِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا لَمْ يَقْلَعْهُ الْغَاصِبُ ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ يَرْتَفِعُ بِهِ النِّزَاعُ ، وَيَتَخَلَّصُ بِهِ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، فَأُجْبِرَ عَلَيْهِ ، كَمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ بَذَلَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الثَّوْبِ لِصَاحِبِهِ لِيَمْلِكَهُ ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ بَذَلَ صَاحِبُ الْغِرَاسِ قِيمَةَ الْأَرْضِ لِمَالِكِهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ .
وَإِنْ وَهَبَ الْغَاصِبُ الصِّبْغَ لِمَالِكِ الثَّوْبِ ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ،
يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ صَارَ مِنْ صِفَاتِ الْعَيْنِ ، فَهُوَ كَزِيَادَةِ الصِّفَةِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ .
الثَّانِي ، لَا يُجْبَرُ ؛ لِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنٌ يُمْكِنُ إفْرَادُهَا ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى قَبُولِهَا .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُجْبَرُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الصَّدَاقِ : إذَا كَانَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ، فَبَذَلْت لَهُ نِصْفَهُ مَصْبُوغًا ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ .
وَإِنْ أَرَادَ الْمَالِكُ بَيْعَ الثَّوْبِ ، وَأَبَى الْغَاصِبُ ، فَلَهُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، فَلَا يَمْلِكُ الْغَاصِبُ مَنْعَهُ مِنْ بَيْعِ مِلْكِهِ بِعُدْوَانِهِ .
وَإِنْ أَرَادَ الْغَاصِبُ بَيْعَهُ ، لَمْ يُجْبَرْ الْمَالِكُ عَلَى بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ ، فَلَمْ يَسْتَحِقُّ إزَالَةَ مِلْكِ صَاحِبِ الثَّوْبِ عَنْهُ بِعُدْوَانِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْبَرَ لِيَصِلَ الْغَاصِبُ إلَى ثَمَنِ صِبْغِهِ .
الْقَسَمُ الثَّانِي ، أَنْ يَغْصِبَ ثَوْبًا وَصِبْغًا مِنْ وَاحِدٍ ، فَيَصْبُغَهُ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَزِدْ قِيمَتُهُمَا وَلَمْ تَنْقُصْ ، رَدَّهُمَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ زَادَتْ الْقِيمَةُ فَهِيَ لِلْمَالِكِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا لَهُ فِي الصِّبْغِ أَثَرٌ لَا عَيْنٌ .
وَإِنْ نَقَصَتْ بِالصَّبْغِ ، فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النَّقْصِ ؛ لِأَنَّهُ بِتَعَدِّيهِ .
وَإِنْ نَقَصَ لِتَغَيُّرِ الْأَسْعَارِ لَمْ يَضْمَنْهُ .
الْقَسَمُ الثَّالِثُ ، أَنْ يَغْصِبَ ثَوْبَ رَجُلٍ وَصِبْغَ آخَرَ ، فَيَصْبُغَهُ بِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَتَانِ بِحَالِهِمَا ، فَهُمَا شَرِيكَانِ بِقَدْرِ مَالِهِمَا ، وَإِنْ زَادَتْ ، فَالزِّيَادَةُ لَهُمَا ، وَإِنْ نَقَصَتْ بِالصَّبْغِ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَيَكُونُ النَّقْصُ مِنْ صَاحِبِ الصَّبْغِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَدَّدَ فِي الثَّوْبِ ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَإِنْ نَقَصَ لِنَقْصِ سِعْرِ الثِّيَابِ ، أَوْ سِعْرِ الصِّبْغِ ، أَوْ لِنَقْصِ سِعْرِهِمَا ، لَمْ يَضْمَنْهُ الْغَاصِبُ ، وَكَانَ نَقْصُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ .
وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الصِّبْغِ قَلْعَهُ ، أَوْ أَرَادَ ذَلِكَ صَاحِبُ الثَّوْبِ ، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ مَا لَوْ صَبَغَهُ الْغَاصِبُ
بِصَبْغٍ مِنْ عِنْدِهِ ، عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ .
وَإِنْ غَصَبَ عَسَلًا وَنَشَاءً ، وَعَقَدَهُ حَلْوَاءَ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِيهِ .
الْحُكْمُ الثَّانِي ، أَنَّهُ مَتَى كَانَ لِلْمَغْصُوبِ أَجْرٌ ، فَعَلَى الْغَاصِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي يَدَيْهِ ، سَوَاءٌ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ أَوْ تَرَكَهَا تَذْهَبُ .
هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَضْمَنُ الْمَنَافِعَ .
وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ .
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ ، عَنْ أَحْمَدَ ، فِي مَنْ غَصَبَ دَارًا فَسَكَنَهَا عِشْرِينَ سَنَةً : لَا أَجْتَرِئُ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ سُكْنَى مَا سَكَنَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَوَقُّفِهِ عَنْ إيجَابِ الْأَجْرِ ، إلَّا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ : هَذَا قَوْلٌ قَدِيمٌ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَكَمِ مَاتَ قَبْلَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بِعِشْرِينَ سَنَةً .
وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يُوجِبْ الْأَجْرَ ، بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } .
وَضَمَانُهَا عَلَى الْغَاصِبِ ، وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةً بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا ، كَمَا لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ مُطَاوِعَةٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ كُلَّ مَا ضَمِنَهُ بِالْإِتْلَافِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ ، جَازَ أَنْ يَضْمَنَهُ بِمُجَرَّدِ الْإِتْلَافِ ، كَالْأَعْيَانِ ، وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ مُتَقَوِّمًا ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ ، كَالْأَعْيَانِ .
أَوْ نَقُولُ : مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مَغْصُوبٌ ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ ، كَالْعَيْنِ .
فَأَمَّا الْخَبَرُ ، فَوَارِدٌ فِي الْبَيْعِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْغَاصِبُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَغْصُوبِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا يُشْبِهُ الزِّنَى ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِإِتْلَافِ مَنَافِعِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلَا عَقْدٍ يَقْتَضِي الْعِوَضَ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَعَارَهُ دَارِهِ .
وَلَوْ أَكْرَهَهَا عَلَيْهِ ، لَزِمَهُ مَهْرُهَا .
وَالْخِلَافُ فِي مَا لَهُ مَنَافِعُ تُسْتَبَاحُ بِعَقْدِ
الْإِجَارَةِ ، كَالْعَقَارِ وَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَنَحْوِهَا ، فَأَمَّا الْغَنَمُ وَالشَّجَرُ وَالطَّيْرُ وَنَحْوُهَا ، فَلَا شَيْءَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنَافِعَ لَهَا يُسْتَحَقُّ بِهَا عِوَضٌ .
وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً وَلَمْ يَطَأْهَا ، وَمَضَتْ عَلَيْهَا مُدَّةٌ تُمْكِنُ الْوَطْءَ فِيهَا ، لَمْ يَضْمَنْ مَهْرَهَا ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَا تَتْلَفُ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا ، وَلِأَنَّهَا لَا تُقَدَّرُ بِزَمَنٍ ، فَيَكُونُ مُضِيُّ الزَّمَانِ بِتَلَفِهَا ، بِخِلَافِ الْمَنْفَعَةِ .
( 3991 ) فَصْلٌ : إذَا غَصَبَ طَعَامًا ، فَأَطْعَمَهُ غَيْرَهُ ، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ ، وَالْآكِلُ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَقَبَضَهُ عَنْ يَدِ ضَامِنِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْآكِلُ عَالِمًا بِالْغَصْبِ ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ؛ لِكَوْنِهِ أَتْلَفَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ عَالِمًا مِنْ غَيْرِ تَغْرِيرٍ ، فَإِذَا ضَمَّنَ الْغَاصِبَ ، رَجَعَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْآكِلَ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْآكِلُ بِالْغَصْبِ نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَالَ لَهُ : كُلْهُ ، فَإِنَّهُ طَعَامِي .
اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّ الضَّمَانَ بَاقٍ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْآكِلَ شَيْءٌ .
وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْآكِلِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ مَا أَتْلَفَ ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى أَحَدٍ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّ الْآكِلَ ، وَأَطْعَمَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهُ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ فِي الْمُشْتَرِي لِلْأَمَةِ : يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ وَكُلُّ مَا غَرِمَ عَلَى الْغَاصِبِ .
وَأَيُّهُمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَغَرِمَهُ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ، فَإِنْ غَرِمَهُ صَاحِبُهُ ، رَجَعَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ أَطْعَمَ الْمَغْصُوبَ لِمَالِكِهِ ، فَأَكَلَهُ عَالِمًا أَنَّهُ طَعَامُهُ ، بَرِئَ الْغَاصِبُ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَقَالَ لَهُ الْغَاصِبُ : كُلْهُ ، فَإِنَّهُ طَعَامِي .
اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ طَعَامُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ، بَلْ قَدَّمَهُ إلَيْهِ ، وَقَالَ : كُلْهُ ، أَوْ قَالَ : قَدْ وَهَبْتُك إيَّاهُ .
أَوْ سَكَتَ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ ، فِي رَجُلٍ ، لَهُ قِبَلَ رَجُلٍ تَبِعَةٌ ،
فَأَوْصَلَهَا إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ صَدَقَةٍ أَوْ هَدِيَّةٍ ، فَلَمْ يَعْلَمْ ، فَقَالَ : كَيْفَ هَذَا ؟ هَذَا يَرَى أَنَّهُ هَدِيَّةٌ .
يَقُولُ لَهُ : هَذَا لَك عِنْدِي .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ هَاهُنَا بِأَكْلِ الْمَالِكِ طَعَامَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ ثَمَّ رَدَّ إلَيْهِ يَدَهُ وَسُلْطَانَهُ ، وَهَا هُنَا بِالتَّقْدِيمِ إلَيْهِ لَمْ تَعُدْ إلَيْهِ الْيَدُ وَالسُّلْطَانُ ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِكُلِّ مَا يُرِيدُ ، مِنْ أَخْذِهِ وَبَيْعِهِ وَالصَّدَقَةِ بِهِ ، فَلَمْ يَبْرَأْ الْغَاصِبُ ، كَمَا لَوْ عَلَفَهُ لِدَوَابِّهِ ، وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَبْرَأَ بِنَاءً عَلَى مَا مَضَى إذَا أَطْعَمَهُ لِغَيْرِ مَالِكِهِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْآكِلِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فَيَبْرَأُ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
.
وَإِنْ وَهَبَ الْمَغْصُوبَ لِمَالِكِهِ ، أَوْ أَهْدَاهُ إلَيْهِ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ تَسْلِيمًا صَحِيحًا تَامًّا ، وَزَالَتْ يَدُ الْغَاصِبِ ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ ، وَارِدٌ فِيمَا إذَا أَعْطَاهُ عِوَضَ حَقِّهِ عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ ، فَأَخَذَهُ الْمَالِكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْعِوَضِ ، فَلَمْ تَثْبُتْ الْمُعَاوَضَةُ ، وَمَسْأَلَتُنَا فِيمَا إذَا رَدَّ إلَيْهِ عَيْنَ مَالِهِ ، وَأَعَادَ يَدَهُ الَّتِي أَزَالَهَا .
وَإِنْ بَاعَهُ إيَّاهُ ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ، بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِالِابْتِيَاعِ ، وَالِابْتِيَاعُ يُوجِبُ الضَّمَانَ وَإِنْ أَقْرَضَهُ إيَّاهُ ، بَرِئَ أَيْضًا ؛ لِذَلِكَ .
وَإِنْ أَعَارَهُ إيَّاهُ ، بَرِئَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تُوجِبُ الضَّمَانَ .
وَإِنْ أَوْدَعَهُ إيَّاهُ ، أَوْ آجَرَهُ إيَّاهُ ، أَوْ رَهَنَهُ ، أَوْ أَسْلَمَهُ عِنْدَهُ لِيَقْصِرهُ أَوْ يُعْلِمَهُ ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ سُلْطَانُهُ ، إنَّمَا قَبَضَهُ عَلَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى يَدِهِ
وَسُلْطَانِهِ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَبَاحَهُ إيَّاهُ فَأَكَلَهُ ، لَمْ يَبْرَأْ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
( 3992 ) فَصْلٌ : إذَا اخْتَلَفَ الْمَالِكُ وَالْغَاصِبُ فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ ، وَلَا بَيِّنَةَ لَأَحَدِهِمَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، فَلَا يُلْزِمُهُ ، مَا لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ بِهِ حُجَّةً ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ دَيْنًا ، فَأَقَرَّ بِبَعْضِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ الْمَالِكُ : كَانَ كَاتِبًا أَوْ لَهُ صِنَاعَةٌ .
فَأَنْكَرَ الْغَاصِبُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَذَلِكَ ، فَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ بِالصِّفَةِ ثَبَتَتْ .
وَإِنْ قَالَ الْغَاصِبُ : كَانَتْ فِيهِ سِلْعَةٌ ، أَوْ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ ، أَوْ عَيْبٌ .
فَأَنْكَرَ الْمَالِكُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ فِي قِيمَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا بَعْدَ زِيَادَةِ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ فِي وَقْتِ زِيَادَتِهِ ، فَقَالَ الْمَالِكُ : زَادَتْ قَبْلَ تَلَفِهِ .
وَقَالَ الْغَاصِبُ : إنَّمَا زَادَتْ قِيمَةُ الْمَتَاعِ بَعْدَ تَلَفِهِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ .
وَإِنْ شَاهَدْنَا الْعَبْدَ مَعِيبًا ، فَقَالَ الْغَاصِبُ : كَانَ مَعِيبًا قَبْلَ غَصْبِهِ .
وَقَالَ الْمَالِكُ : تَعَيَّبَ عِنْدَك .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صِفَةَ الْعَبْدِ لَمْ تَتَغَيَّرْ .
وَإِنْ غَصَبَهُ خَمْرًا ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُهُ : تَخَلَّلَ عِنْدَكَ .
وَأَنْكَرَ الْغَاصِبُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ ، وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي رَدِّ الْمَغْصُوبِ ، أَوْ رَدِّ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتَهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ ، وَاشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِهِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي تَلَفِهِ ، فَادَّعَاهُ الْغَاصِبُ ، وَأَنْكَرَهُ الْمَالِكُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ ، وَتَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا حَلَفَ فَلِلْمَالِكِ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ ، فَلَزِمَ بَدَلُهَا ، كَمَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَأَبَقَ .
وَقِيلَ : لَيْسَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ
بِالْبَدَلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه .
وَإِنْ قَالَ : غَصَبْت مِنِّي حَدِيثًا .
فَقَالَ : بَلْ عَتِيقًا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الْحَدِيثِ ، وَلِلْمَالِكِ الْمُطَالَبَةُ بِالْعَتِيقِ ؛ لِأَنَّهُ دُونَ حَقِّهِ .
( 3993 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ عَبْدًا ، فَادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّهُ غَصَبَهُ الْعَبْدَ ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً ، انْتَقَضَ الْبَيْعُ ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِثَمَنِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ ، فَأَقَرَّ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي بِذَلِكَ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ .
وَإِنْ أَقَرَّ الْبَائِعُ وَحْدَهُ ، لَمْ يُقْبَلْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَلَزِمَتْ الْبَائِعَ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِلْكِهِ ، وَيُقَرُّ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ فِي الظَّاهِرِ ، وَلِلْبَائِعِ إحْلَافُهُ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَائِعُ لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ ، فَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُشْتَرِي بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ مُطَالَبَتَهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ قِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْقِيمَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَالْمُشْتَرِي يُقِرُّ لَهُ بِالثَّمَنِ ، فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ أَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ ، فَوَجَبَ وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُهُمَا فِي السَّبَب بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى حُكْمِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : عَلَيْك أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ الْبَيْعِ .
فَقَالَ : بَلْ أَلْفٌ مِنْ قَرْضٍ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ ، فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي اسْتِرْجَاعُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه .
وَمَتَى عَادَ الْعَبْدُ إلَى الْبَائِعِ بِفَسْخٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى مُدَّعِيه ، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا أَخَذَ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ إقْرَارُ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَهُ ، انْفَسَخَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ فَسْخَهُ ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ بِمَا يَفْسَخُهُ .
وَإِنْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ ، لَزِمَهُ رَدُّ الْعَبْدِ وَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ ، إنْ كَانَ قَبَضَهُ ، وَيَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ إنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْهُ .
وَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً بِمَا أَقَرَّ بِهِ ، قُبِلَتْ ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ .
وَإِنْ أَقَامَ الْبَائِعُ بَيِّنَةً
، إذَا كَانَ هُوَ الْمُقِرَّ نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ فِي حَالِ الْبَيْعِ قَالَ : بِعْتُك عَبْدِي هَذَا أَوْ مِلْكِي هَذَا .
لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُهَا وَتُكَذِّبُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ ذَلِكَ ، قُبِلَتْ ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَهُ وَغَيْرَ مِلْكِهِ .
وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ ، سُمِعَتْ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَائِعِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُجَرِّبُهَا إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا .
وَإِنْ أَنْكَرَاهُ جَمِيعًا ، فَلَهُ إحْلَافُهُمَا إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رَجُلٍ يَجِدُ سَرِقَتَهُ بِعَيْنِهَا عِنْدَ إنْسَانٍ ، قَالَ : هُوَ مِلْكُهُ ، يَأْخُذُهُ ، أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ سَمُرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، وَيَتْبَعُ الْمُبْتَاعُ مَنْ بَاعَهُ } .
رَوَاهُ هُشَيْمٌ ، عَنْ مُوسَى بْنِ السَّائِبِ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ الْحَسَنِ ، عَنْ سَمُرَةَ ، وَمُوسَى بْنِ السَّائِبِ ثِقَةٌ .
( 3994 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْعَبْدَ ، فَأَقَرَّا جَمِيعًا ، لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ ، وَكَانَ الْعَبْدُ حُرًّا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِمَا ، فَإِنْ وَافَقَهُمَا .
الْعَبْدُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُقْبَلُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْعِتْقِ ، مَعَ اتِّفَاقِ السَّيِّدَ وَالْعَبْدِ عَلَى الرِّقِّ ، سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمَا ، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ : أَنَا حُرٌّ .
ثُمَّ أَقَرَّ بِالرِّقِّ ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَبْطُلَ الْعِتْقُ إذَا اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ ، وَيَعُودُ الْعَبْدُ إلَى الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ النَّسَبِ ، أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِمَنْ يَدَّعِيه ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي .
وَمَتَى حَكَمْنَا بِالْحُرِّيَّةِ ، فَلِلْمَالِكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ قِيمَتَهُ يَوْمَ عِتْقِهِ ، ثُمَّ إنْ ضَمَّنَ الْبَائِعَ ، رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْبَائِعِ إلَّا بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ مِنْهُ ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ وَخَلَّفَ مَالًا ، فَهُوَ لِلْمُدَّعِي ؛ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَهُ .
وَإِنَّمَا مَنَعْنَا رَدَّ الْعَبْدِ إلَيْهِ ، لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ بِهِ ، إلَّا أَنْ يَخْلُفَ وَارِثًا فَيَأْخُذَهُ ، وَلَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ عَلَيْهِ لَأَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه أَحَدٌ .
وَإِنْ صَدَّقَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ وَحْدَهُ ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ .
وَبَقِيَّةُ الْأَقْسَامِ عَلَى مَا مَضَى .
( 3995 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ عَبْدًا أَوْ وَهَبَهُ ، ثُمَّ ادَّعَى أَنِّي فَعَلْت ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ أَمْلِكَهُ ، وَقَدْ مَلَكْته الْآنَ بِمِيرَاثٍ أَوْ هِبَةٍ مِنْ مَالِكِهِ ، فَيَلْزَمُك رَدُّهُ عَلَيَّ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ وَالْهِبَةَ بَاطِلَانِ .
وَإِنْ أَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ قَالَ حِينَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ : هَذَا مِلْكِي .
أَوْ بِعْتُك مِلْكِي هَذَا .
أَوْ كَانَ فِي ضِمْنِهِ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : قَبَضْت ثَمَنَ مِلْكِي أَوْ قَبَضْته .
وَنَحْوَ ذَلِكَ ، لَمْ تُقْبَلْ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهَا ، وَهِيَ تُكَذِّبُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَبِيعُ وَيَهَبُ مِلْكَهُ وَغَيْرَ مِلْكِهِ .
( 3996 ) فَصْلٌ : إذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ جِنَايَةً أَوْجَبَتْ الْقِصَاصَ ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ ، فَضَمَانُهُ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَلِفَ فِي يَدَيْهِ ، فَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ عَلَى مَالٍ ، تَعَلَّقَ ذَلِكَ بِرَقَبَتِهِ ، وَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ حَدَثَ فِي يَدِهِ ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعَبْدِ وَنَقْصَهُ عَلَى سَيِّدِهِ ، وَيَضْمَنُهُ بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ، كَمَا يَفْدِيهِ سَيِّدُهُ .
وَإِنْ جَنَى عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ، مِثْلُ أَنْ قَطَعَ يَدًا فَقُطِعَتْ يَدُهُ قِصَاصًا ، فَعَلَى الْغَاصِبِ مَا نَقَصَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ دُونَ أَرْشِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ ذَهَبَتْ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَقَطَتْ .
وَإِنْ عُفِيَ عَنْهُ عَلَى مَالٍ ، تَعَلَّقَ أَرْشُ الْيَدِ بِرَقَبَتِهِ ، وَعَلَى الْغَاصِبِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ الْيَدِ ، فَإِنْ زَادَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى قِيمَتِهِ ، ثُمَّ إنَّهُ مَاتَ ، فَعَلَى الْغَاصِبِ قِيمَتُهُ ، يَدْفَعُهَا إلَى سَيِّدِهِ ، فَإِذَا أَخَذَهَا تَعَلَّقَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالْعَبْدِ ، فَتَعَلَّقَتْ بِبَدَلِهِ ، كَمَا أَنَّ الرَّهْنَ إذَا أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ ، وَجَبَتْ قِيمَتُهُ ، وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِهَا ، فَإِذَا أَخَذَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْقِيمَةَ مِنْ الْمَالِكِ ، رَجَعَ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَةِ أُخْرَى ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ الَّتِي أَخَذَهَا اُسْتُحِقَّتْ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، فَكَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ وَدِيعَةً ، فَجَنَى جِنَايَةً اسْتَغْرَقَتْ قِيمَتَهُ ، ثُمَّ إنَّ الْمُودِعَ قَتَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَتَعَلَّقَ بِهَا أَرْشُ الْجِنَايَةِ ، فَإِذَا أَخَذَهَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُودِعِ ؛ لِأَنَّهُ جَنَى ، وَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ .
وَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ جَنَى فِي يَدِ سَيِّدِهِ جِنَايَةً تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ ، ثُمَّ غَصَبَهُ غَاصِبٌ ، فَجَنَى فِي يَدِهِ جِنَايَةً تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ ، بِيعَ فِي
الْجِنَايَتَيْنِ ، وَقُسِمَ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمَا ، وَرَجَعَ صَاحِبُ الْعَبْدِ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا أَخَذَهُ الثَّانِي مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ فِي يَدِهِ ، وَكَانَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَأْخُذَهُ دُونَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ مِنْ الْغَاصِبِ هُوَ عِوَضُ مَا أَخَذَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ثَانِيًا ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ قِيمَةِ الْجَانِي لَا يُزَاحِمُ فِيهِ ، فَإِنْ مَاتَ هَذَا الْعَبْدُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا ، وَيَرْجِعُ الْمَالِكُ عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ، وَيَكُونُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَأْخُذَهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
( 3997 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( مَنْ أَتْلَفَ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا ، فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ ، وَيُنْهَى عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا لَا يُظْهِرُونَهُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ضَمَانُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، سَوَاءٌ كَانَ مُتْلِفُهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ ، فِي الرَّجُلِ يُهْرِيقُ مُسْكِرًا لِمُسْلِمٍ ، أَوْ لِذِمِّيٍّ خَمْرًا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : يَجِبُ ضَمَانُهُمَا إذَا أَتْلَفَهُمَا عَلَى ذِمِّيٍّ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ مُسْلِمًا بِالْقِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا بِالْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ إذَا عَصَمَ عَيْنًا قَوَّمَهَا ، كَنَفْسِ الْآدَمِيِّ ، وَقَدْ عَصَمَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ يُمْنَعُ مِنْ إتْلَافِهَا ، فَيَجِبُ أَنْ يُقَوِّمَهَا ، وَلِأَنَّهَا مَالٌ لَهُمْ يَتَمَوَّلُونَهَا ، بِدَلِيلِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَامِلَهُ كَتَبَ إلَيْهِ : إنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَمُرُّونَ بِالْعَاشِرِ ، وَمَعَهُمْ الْخُمُورُ .
فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا ، وَخُذُوا مِنْهُمْ عُشْرَ ثَمَنِهَا .
وَإِذَا كَانَتْ مَالًا لَهُمْ وَجَبَ ضَمَانُهَا ، كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ .
وَلَنَا ، أَنَّ جَابِرًا ، النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : رَوَى { أَلَا إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ .
وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ لَا لِحُرْمَتِهِ ، لَمْ تَجِبْ قِيمَتُهُ ، كَالْمَيْتَةِ ، وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ ، كَالْمُرْتَدِّ ، وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ ، فَلَا تُضْمَنُ ، كَالْمَيْتَةِ ، وَدَلِيلُ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ ، فَإِنَّ تَحْرِيمَهَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِمَا ، وَخِطَابُ النَّوَاهِي يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمَا ، فَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا ، ثَبَتَ
فِي حَقِّ الْآخَرِ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مَعْصُومَةٌ ، بَلْ مَتَى أُظْهِرَتْ حَلَّتْ إرَاقَتُهَا ، ثُمَّ لَوْ عَصَمَهَا مَا لَزِمَ تَقْوِيمُهَا ؛ فَإِنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَصِبْيَانَهُمْ مَعْصُومُونَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَيْنِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا مَالٌ عِنْدَهُمْ .
يَنْتَقِضُ بِالْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ ، فَإِنَّهُ مَالٌ عِنْدَهُمْ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِأَخْذِ عُشْرِ أَثْمَانِهَا ، لِأَنَّهُمْ إذَا تَبَايَعُوا وَتَقَابَضُوا حَكَمْنَا لَهُمْ بِالْمِلْكِ وَلَمْ نَنْقُضْهُ ، وَتَسْمِيَتُهَا أَثْمَانًا مَجَازٌ ، كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى ثَمَنَ يُوسُفَ ثَمَنًا ، فَقَالَ : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } .
وَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ : وَيُنْهَى عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا لَا يُظْهِرُونَهُ ، فَلِأَنَّ كُلَّ مَا اعْتَقَدُوا حِلَّهُ فِي دِينِهِمْ ، مِمَّا لَا أَذَى لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ ، مِنْ الْكُفْرِ ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَاِتِّخَاذِهِ ، وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ، لَا يَجُوزُ لَنَا التَّعَرُّضُ لَهُمْ فِيهِ ، إذَا لَمْ يُظْهِرُوهُ ، لِأَنَّنَا الْتَزَمْنَا إقْرَارَهُمْ عَلَيْهِ فِي دَارِنَا ، فَلَا نَعْرِضُ لَهُمْ فِيمَا الْتَزَمْنَا تَرْكَهُ ، وَمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ ، تَعَيَّنَ إنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ كَانَ خَمْرًا جَازَتْ إرَاقَتُهُ ، وَإِنْ أَظْهَرُوا صَلِيبًا أَوْ طُنْبُورًا جَازَ كَسْرُهُ ، وَإِنْ أَظْهَرُوا كُفْرَهُمْ أُدِّبُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ مَا يُحَرَّمُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ مِنْ ذِمِّيٍّ خَمْرًا ، لَزِمَهُ رَدُّهَا ؛ لِأَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى شُرْبِهَا .
وَإِنْ غَصَبَهَا مِنْ مُسْلِمٍ ، لَمْ يَلْزَمْ رَدُّهَا ، وَوَجَبَتْ إرَاقَتُهَا ؛ { لِأَنَّ أَبَا طَلْحَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا ، فَأَمَرَهُ بِإِرَاقَتِهَا .
} وَإِنْ أَتْلَفَهَا أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ } .
وَلِأَنَّ مَا حُرِّمَ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ ، كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ، فَإِنْ أَمْسَكَهَا فِي يَدِهِ حَتَّى صَارَتْ خَلًّا ، لَزِمَ رَدُّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ خَلًّا ، عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ ، فَلَزِمَ رَدُّهَا إلَيْهِ ، فَإِنْ تَلِفَتْ ، ضَمِنَهَا لَهُ ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ تَلِفَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَإِنْ أَرَاقَهَا فَجَمَعَهَا إنْسَانٌ ، فَتَخَلَّلَتْ عِنْدَهُ ، لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ الْخَلِّ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بَعْدَ إتْلَافِهَا ، وَزَوَالِ الْيَدِ عَنْهَا .
( 3999 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَصَبَ كَلْبًا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ ، وَجَبَ رَدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَاقْتِنَاؤُهُ ، فَأَشْبَهَ الْمَالَ .
وَإِنْ أَتْلَفَهُ ، لَمْ يَغْرَمْهُ .
وَإِنْ حَبَسَهُ مُدَّةً ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَجْرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ .
وَإِنْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي طَهَارَتِهِ بِالدَّبْغِ ، فَمِنْ قَالَ بِطَهَارَتِهِ ، أَوْجَبَ رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إصْلَاحُهُ ، فَهُوَ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ .
وَمِنْ قَالَ : لَا يَطْهُرُ .
لَمْ يُوجِبْ رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إصْلَاحِهِ .
فَإِنْ أَتْلَفَهُ ، أَوْ أَتْلَفَ مَيْتَةً بِجِلْدِهَا ، لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ .
وَإِنْ دَبَغَهُ الْغَاصِبُ ، لَزِمَ رَدُّهُ إنْ قُلْنَا بِطَهَارَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْخَمْرِ إذَا تَخَلَّلَتْ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ رَدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا بِفِعْلِهِ ، بِخِلَافِ الْخَمْرِ ، وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَطْهُرُ .
لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ رَدُّهُ ، إذَا قُلْنَا : يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْيَابِسَاتِ .
لِأَنَّهُ نَجِسٌ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، أَشْبَهَ الْكَلْبَ ، وَكَذَلِكَ قَبْلَ الدَّبْغِ .
( 4000 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَسَرَ صَلِيبًا ، أَوْ مِزْمَارًا ، أَوْ طُنْبُورًا ، أَوْ صَنَمًا ، لَمْ يَضْمَنْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَ ذَلِكَ إذَا فُصِلَ يَصْلُحُ لِنَفْعٍ مُبَاحٍ وَإِذَا كُسِرَ لَمْ يَصْلُحْ لِنَفْعٍ مُبَاحٍ ، لَزِمَهُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُفَصَّلًا وَمَكْسُورًا ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ بِالْكَسْرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ لِمَنْفَعَةٍ مُبَاحَةٍ ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَضْمَنُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ ، كَالْمَيْتَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بُعِثْت بِمَحْقِ الْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفِ .
}
( 4001 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَسَرَ آنِيَةَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ، لَمْ يَضْمَنْهَا ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَهَا مُحَرَّمٌ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَضْمَنُ ، فَإِنَّ مُهَنَّا نَقَلَ عَنْهُ فِي مَنْ هَشَّمَ عَلَى غَيْرِهِ إبْرِيقًا فِضَّةً : عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، يَصُوغُهُ كَمَا كَانَ .
قِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ قَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّخَاذِهَا ؟ } فَسَكَتَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ فِيمَنْ كَسَرَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا لَيْسَ بِمُبَاحٍ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ ، كَالْمَيْتَةِ .
وَرِوَايَةُ مُهَنَّا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ ؛ لِكَوْنِهِ سَكَتَ حِينَ ذَكَرَ السَّائِلُ تَحْرِيمَهُ ، وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ قَالَ : يَصُوغُهُ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ صِيَاغَتُهُ .
فَكَيْفَ يَجِبُ ذَلِكَ ، .
( 4002 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَسَرَ آنِيَةَ الْخَمْرِ ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَضْمَنُهَا ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَيَحِلُّ بَيْعُهُ ، فَيَضْمَنُهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا خَمْرٌ ، وَلِأَنَّ جَعْلَ الْخَمْرِ فِيهَا لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ ضَمَانِهَا ، كَالْبَيْتِ الَّذِي جُعِلَ مَخْزَنًا لِلْخَمْرِ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا تُضْمَنُ ؛ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " مُسْنَدِهِ " : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : { أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ آتِيَهُ بِمُدْيَةٍ ، وَهِيَ الشَّفْرَةُ ، فَأَتَيْته بِهَا ، فَأَرْسَلَ بِهَا فَأُرْهِفَتْ ، ثُمَّ أَعْطَانِيهَا ، وَقَالَ : اُغْدُ عَلَيَّ بِهَا فَفَعَلْت ، فَخَرَجَ بِأَصْحَابِهِ إلَى أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ ، وَفِيهَا زِقَاقُ الْخَمْرِ قَدْ جُلِبَتْ مِنْ الشَّامِ ، فَأَخَذَ الْمُدْيَةَ مِنِّي ، فَشَقَّ مَا كَانَ مِنْ تِلْكَ الزِّقَاقِ بِحَضْرَتِهِ كُلِّهَا ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَنْ يَمْضُوا مَعِي ، وَيُعَاوِنُونِي ، وَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ الْأَسْوَاقَ كُلَّهَا ، فَلَا أَجِدُ فِيهَا زِقَّ خَمْرٍ إلَّا شَقَقْته ، فَفَعَلْت ، فَلَمْ أَتْرُكْ فِي أَسْوَاقِهَا زِقًّا إلَّا شَقَقْته } .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : كُنْت أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ ، وَأُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ ، وَأَبَا عُبَيْدَةَ ، شَرَابًا مِنْ فَضِيخٍ ، فَأَتَانَا آتٍ ، فَقَالَ : إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ .
فَقَالَ : أَبُو طَلْحَةَ : قُمْ يَا أَنَسُ إلَى هَذِهِ الدِّنَانِ فَاكْسِرْهَا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ حُرْمَتِهَا ، وَإِبَاحَةِ إتْلَافِهَا ، فَلَا يَضْمَنُهَا ، كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ .
( 4003 ) فَصْلٌ : وَلَا يَثْبُتُ الْغَصْبُ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ ، كَالْحُرِّ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ ، إنَّمَا يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ .
وَإِنْ أَخَذَ حُرًّا ، فَحَبَسَهُ فَمَاتَ عِنْدَهُ ، لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ .
وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ مُكْرَهًا ، لَزِمَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ ، وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا كَمَنَافِعِ الْعَبْدِ .
وَإِنْ حَبَسَهُ مُدَّةً لِمِثْلِهَا أَجْرٌ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَلْزَمُهُ أَجْرُ تِلْكَ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَتَهُ ، وَهِيَ مَالٌ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا ، فَضَمِنَتْ بِالْغَصْبِ ، كَمَنَافِعِ الْعَبْدِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لَا يَصِحُّ غَصْبُهُ ، فَأَشْبَهَتْ ثِيَابَهُ إذَا بَلِيَتْ عَلَيْهِ وَأَطْرَافَهُ ، وَلِأَنَّهَا تَلِفَتْ تَحْتَ يَدَيْهِ ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُهَا كَمَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ مَنَعَهُ الْعَمَلَ مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ ، لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهُ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْعَبْدِ لَمْ يَضْمَنْ مَنَافِعَهُ ، فَالْحُرُّ أَوْلَى .
وَلَوْ حَبَسَ الْحُرَّ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهَا ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَا لَمْ تَثْبُتْ الْيَدُ عَلَيْهِ فِي الْغَصْبِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ .
( 4004 ) فَصْلٌ : وَأُمُّ الْوَلَدِ مَضْمُونَةٌ بِالْغَصْبِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُضْمَنُ ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ ، فَأَشْبَهَتْ الْحُرَّ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ ، يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ ، كَالْقِنِّ ، وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ ، فَأَشْبَهَتْ الْمُدَبَّرَةَ ، وَفَارَقَتْ الْحُرَّةَ ؛ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً ، وَلَا تُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ .
( 4005 ) فَصْلٌ : وَإِذَا فَتَحَ قَفَصًا عَنْ طَائِرٍ فَطَارَ ، أَوْ حَلَّ دَابَّةً فَذَهَبَتْ ، ضَمِنَهَا .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَهَاجَهُمَا حَتَّى ذَهَبَا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ وَقَفَا بَعْدَ الْفَتْحِ وَالْحَلِّ ، ثُمَّ ذَهَبَا ، لَمْ يَضْمَنْهُمَا ، وَإِنْ ذَهَبَا عَقِيبَ ذَلِكَ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ .
وَاحْتَجَّا بِأَنَّ لَهُمَا اخْتِيَارًا ، وَقَدْ وُجِدَتْ مِنْهُمَا الْمُبَاشَرَةُ ، وَمِنْ الْفَاتِحِ سَبَبٌ غَيْرُ مُلْجِئٍ .
فَإِذَا اجْتَمَعَا ، لَمْ يَتَعَلَّقْ الضَّمَانُ بِالسَّبَبِ ، كَمَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَجَاءَ عَبْدٌ لَإِنْسَانٍ ، فَرَمَى نَفْسَهُ فِيهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ذَهَبَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ ، كَمَا لَوْ نَفَّرَهُ ، أَوْ ذَهَبَ عَقِيبَ فَتْحِهِ وَحَلِّهِ ، وَالْمُبَاشَرَةُ إنَّمَا حَصَلَتْ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ إحَالَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ ، فَيَسْقُطُ ، كَمَا لَوْ نَفَّرَ الطَّائِرَ ، وَأَهَاجَ الدَّابَّةَ ، أَوْ أَشْلَى كَلْبًا عَلَى صَبِيٍّ فَقَتَلَهُ ، أَوْ أَطْلَقَ نَارًا فِي مَتَاعِ إنْسَانٍ ، فَإِنَّ لِلنَّارِ فِعْلًا ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ إحَالَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا ، كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَلِأَنَّ الطَّائِرَ وَسَائِرَ الصَّيْدِ مِنْ طَبْعِهِ النُّفُورُ ، وَإِنَّمَا يَبْقَى بِالْمَانِعِ ، فَإِذَا أُزِيلَ الْمَانِعُ ذَهَبَ بِطَبْعِهِ ، فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلَى مَنْ أَزَالَ الْمَانِعَ ، كَمَنْ قَطَعَ عَلَاقَةَ قِنْدِيلٍ ، فَوَقَعَ فَانْكَسَرَ .
وَهَكَذَا لَوْ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ فَذَهَبَ ، أَوْ أَسِرْ فَأَفْلَتَ .
وَإِنْ فَتَحَ الْقَفَصَ ، وَحَلَّ الْفَرَسَ ، فَبَقِيَا وَاقِفَيْنِ ، فَجَاءَ إنْسَانٌ فَنَفَّرَهُمَا فَذَهَبَا ، فَالضَّمَانُ عَلَى مُنَفِّرِهِمَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ أَخَصُّ ، فَاخْتَصَّ الضَّمَانُ بِهِ ، كَالدَّافِعِ مَعَ الْحَافِرِ .
وَإِنْ وَقَعَ طَائِرٌ إنْسَانٍ عَلَى جِدَارٍ ، فَنَفَّرَهُ إنْسَانٌ ، فَطَارَ ، لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّ تَنْفِيرَهُ لَمْ يَكُنْ سَبَبَ فَوَاتِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ مُمْتَنِعًا قَبْلَ ذَلِكَ .
وَإِنْ رَمَاهُ فَقَتَلَهُ ، ضَمِنَهُ .
وَإِنْ كَانَ فِي
دَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ تَنْفِيرُهُ بِغَيْرِ قَتْلِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ الطَّائِرُ فِي هَوَاءِ دَارِهِ ، فَرَمَاهُ فَقَتَلَهُ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنْعَ الطَّائِرِ مِنْ هَوَاءِ دَارِهِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ رَمَاهُ فِي هَوَاءِ دَارِ غَيْرِهِ .
( 4006 ) فَصْلٌ : وَلَوْ حَلَّ زِقًّا فِيهِ مَائِعٌ ، فَانْدَفَقَ ، ضَمِنَهُ ، سَوَاءٌ خَرَجَ فِي الْحَالِ ، أَوْ خَرَجَ قَلِيلًا قَلِيلًا ، أَوْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ بَلَّ أَسْفَلَهُ فَسَقَطَ ، أَوْ ثَقُلَ أَحَدُ جَانِبَيْهِ فَلَمْ يَزُلْ يَمِيلُ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى سَقَطَ ، أَوْ سَقَطَ بِرِيحٍ ، أَوْ بِزَلْزَلَةِ الْأَرْضِ ، أَوْ كَانَ جَامِدًا فَذَابَ بِشَمْسٍ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَضْمَنُ إذَا سَقَطَ بِرِيحٍ أَوْ زَلْزَلَةٍ ، وَيَضْمَنُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَلَهُمْ فِيمَا إذَا ذَابَ بِالشَّمْسِ وَجْهَانِ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مُلْجِئٍ ، وَالْمَعْنَى الْحَادِثُ مُبَاشَرَةٌ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ الضَّمَانُ بِفِعْلِهِ .
كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إنْسَانٌ .
وَلَنَا ، أَنَّ فِعْلَهُ سَبَبُ تَلَفِهِ ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا مَا يُمْكِنُ إحَالَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ عَقِيبَ فِعْلِهِ ، أَوْ مَالَ قَلِيلًا قَلِيلًا ، وَكَمَا لَوْ جَرَحَ إنْسَانًا ، فَأَصَابَهُ الْحَرُّ أَوْ الْبَرْدُ ، فَسَرَتْ الْجِنَايَةُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ .
وَأَمَّا إنْ دَفَعَهُ إنْسَانٌ ، فَإِنَّ الْمُتَخَلِّلَ بَيْنَهُمَا مُبَاشَرَةً يُمْكِنُ الْإِحَالَةُ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَلَوْ كَانَ جَامِدًا ، فَأَدْنَى مِنْهُ آخَرُ نَارًا ، فَأَذَابَهُ فَسَالَ ، فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ أَذَابَهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ أَخَصُّ ، لِكَوْنِ التَّلَفِ يَعْقُبُهُ ، فَأَشْبَهَ الْمُنَفِّرَ مَعَ فَاتِحِ الْقَفَصِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، كَسَارِقَيْنِ نَقَّبَ أَحَدُهُمَا ، وَأَخْرَجَ الْآخَرُ الْمَتَاعَ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مُدْنِيَ النَّارِ أَلْجَأَهُ إلَى الْخُرُوجِ فَضَمِنَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ وَاقِفًا فَدَفَعَهُ .
وَالْمَسْأَلَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى مُخْرِجِ الْمَتَاعِ مِنْ الْحِرْزِ ، وَالْقَطْعُ حَدٌّ لَا يَجِبُ إلَّا بِهَتْكِ الْحِرْزِ وَأَخْذِ الْمَالِ جَمِيعًا ، ثُمَّ إنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، بِخِلَافِ الضَّمَانِ .
وَلَوْ أَذَابَهُ أَحَدُهُمَا
أَوَّلًا ، ثُمَّ فَتَحَ الثَّانِي رَأْسَهُ ، فَانْدَفَقَ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ تَعَقَّبَهُ .
وَإِنْ فَتَحَ زِقًّا مُسْتَعْلِيَ الرَّأْسِ ، فَخَرَجَ بَعْضُ مَا فِيهِ ، وَاسْتَمَرَّ خُرُوجُهُ قَلِيلًا قَلِيلًا ، فَجَاءَ آخَرُ فَنَكَّسَهُ ، فَانْدَفَقَ ، فَضَمَانُ مَا خَرَجَ بَعْدَ التَّنْكِيسِ عَلَى الْمُنَكِّسِ ، وَمَا قَبْلَهُ عَلَى الْفَاتِحِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي أَخَصُّ ، كَالْجَارِحِ وَالذَّابِحِ .
( 4007 ) فَصْلٌ : وَإِنْ حَلَّ رِبَاطَ سَفِينَةٍ فَذَهَبَتْ أَوْ غَرِقَتْ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، سَوَاءٌ تَعَقَّبَ فِعْلَهُ أَوْ تَرَاخَى .
وَالْخِلَافُ فِيهَا كَالْخِلَافِ فِي الطَّائِرِ فِي الْقَفَصِ .
( 4008 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْقَدَ فِي مِلْكِهِ نَارًا ، أَوْ فِي مَوَاتٍ ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ إلَى دَارِ جَارِهِ فَأَحْرَقَتْهَا ، أَوْ سَقَى أَرْضَهُ فَنَزَلَ الْمَاءُ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَغَرَّقَهَا ، لَمْ يَضْمَنْ إذَا كَانَ فَعَلَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ ، وَلِأَنَّهَا سِرَايَةُ فِعْلٍ مُبَاحٍ ، فَلَمْ يَضْمَنْ ، كَسِرَايَةِ الْقَوَدِ ، وَفَارَقَ مَنْ حَلَّ زِقًّا فَانْدَفَقَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِحَلِّهِ ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ خُرُوجُ الْمَائِعِ مِنْ الزِّقِّ الْمَفْتُوحِ ، وَلَيْسَ الْغَالِبُ سِرَايَةَ هَذَا الْفِعْلِ الْمُعْتَادِ إلَى تَلَفِ مَالِ غَيْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَفْرِيطٍ مِنْهُ ، بِأَنْ أَجَّجَ نَارًا تَسْرِي فِي الْعَادَةِ لِكَثْرَتِهَا ، أَوْ فِي رِيحٍ شَدِيدَةٍ تَحْمِلُهَا ، أَوْ فَتَحَ مَاءً كَثِيرًا يَتَعَدَّى ، أَوْ فَتَحَ الْمَاءَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ، أَوْ أَوْقَدَ فِي دَارِ غَيْرِهِ ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ .
وَإِنْ سَرَى إلَى غَيْرِ الدَّارِ الَّتِي أَوْقَدَ فِيهَا ، وَالْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَ الْمَاءَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا سِرَايَةُ عُدْوَانٍ ، أَشْبَهَتْ سِرَايَةُ الْجُرْحِ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ .
وَإِنْ أَوْقَدَ نَارًا فَأَيْبَسَتْ أَغْصَانَ شَجَرَةِ غَيْرِهِ ، ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ نَارٍ كَثِيرَةٍ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَغْصَانُ فِي هَوَائِهِ ، فَلَا يَضْمَنُهَا ؛ لِأَنَّ دُخُولَهَا عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي دَارِهِ ؛ لِحُرْمَتِهَا .
وَهَذَا الْفَصْلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ .
( 4009 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَلْقَتْ الرِّيحُ إلَى دَارِهِ ثَوْبَ غَيْرِهِ ، لَزِمَهُ حِفْظُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ حَصَلَتْ تَحْتَ يَدِهِ ، فَلَزِمَهُ حِفْظُهُ ، كَاللُّقَطَةِ .
وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ ، فَهُوَ لُقَطَةٌ تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا وَإِنْ عَرَفَ صَاحِبَهُ ، لَزِمَهُ إعْلَامُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ ، فَصَارَ كَالْغَاصِبِ .
وَإِنْ سَقَطَ طَائِرٌ فِي دَارِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ حِفْظُهُ ، وَلَا إعْلَامُ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ .
وَإِنْ دَخَلَ بُرْجَهُ ، فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ نَاوِيًا إمْسَاكَهُ لِنَفْسِهِ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ ، فَهُوَ كَالْغَاصِبِ ، وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي بُرْجِهِ كَيْفَ شَاءَ ، فَلَا يَضْمَنُ مَالَ غَيْرِهِ بِتَلَفِهِ ضِمْنًا ، لِتَصَرُّفِهِ الَّذِي لَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ .
( 4010 ) فَصْلٌ : إذَا أَكَلَتْ بَهِيمَةٌ حَشِيشَ قَوْمٍ ، وَيَدُ صَاحِبِهَا عَلَيْهَا ، لِكَوْنِهِ مَعَهَا ، ضَمِنَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ، لَمْ يَضْمَنْ مَا أَكَلَتْهُ .
وَإِذَا اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ بَهِيمَتَهُ ، فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا وَهِيَ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ ، فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ، سَوَاءٌ أَتْلَفَتْ شَيْئًا لِمَالِكِهَا أَوْ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ يَجِبُ بِالْيَدِ ، وَالْيَدُ لِلْمُسْتَعِيرِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْبَهِيمَةُ فِي يَدِ الرَّاعِي ، فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا ، فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّاعِي دُونَ صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ إتْلَافَهَا لِلزَّرْعِ فِي النَّهَارِ لَا يَضْمَنُ إلَّا بِثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهَا ، وَالْيَدُ لِلرَّاعِي دُونَ الْمَالِكِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، كَالْمُسْتَعِيرِ .
وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ لِلْمَالِكِ ، فَإِنْ كَانَ لَيْلًا ضَمِنَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْيَدِ أَقْوَى ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِهِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ جَمِيعًا .
( 4011 ) فَصْلٌ : إذَا شَهِدَ بِالْغَصْبِ شَاهِدَانِ ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، لَمْ تَتِمَّ الْبَيِّنَةُ ، وَلَهُ أَنْ يَحْلِفَ مَعَ أَحَدِهِمَا .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، ثَبَتَتْ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَإِنْ اخْتَلَفَ رَجَعَ إلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ .
وَإِنْ شَهِدَ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ غَصَبَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، لَمْ تَثْبُتْ الْبَيِّنَةُ أَيْضًا .
وَإِنْ شَهِدَ لَهُ وَاحِدٌ ، وَحَلَفَ مَعَهُ ، ثَبَتَ الْغَصْبُ ، فَلَوْ كَانَ الْغَاصِبُ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْهُ لَمْ نُوقِعْ طَلَاقَهُ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ بَيِّنَةٌ فِي الْمَالِ ، لَا فِي الطَّلَاقِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الشُّفْعَةِ وَهِيَ اسْتِحْقَاقُ الشَّرِيكِ انْتِزَاعَ حِصَّةِ شَرِيكِهِ الْمُنْتَقِلَةِ عَنْهُ مِنْ يَدِ مَنْ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ .
وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ أَمَّا السُّنَّةُ ، فَمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ ، وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ ، فَلَا شُفْعَةَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِمُسْلِمِ قَالَ : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شِرْكٍ لَمْ يُقْسَمْ ؛ رَبْعَةٍ ، أَوْ حَائِطٍ ، لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ شَرِيكَهُ .
فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ، فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
وَلِلْبُخَارِيِّ : { إنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ ، وَصَرَفَتْ الطُّرُقُ ، فَلَا شُفْعَةَ .
} وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ ، فِيمَا بِيعَ مِنْ أَرْضِ أَوْ دَارٍ أَوْ حَائِطٍ .
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ ، وَتَمَكَّنَ مِنْ بَيْعِهِ لِشَرِيكِهِ ، وَتَخْلِيصِهِ مِمَّا كَانَ بِصَدَدِهِ مِنْ تَوَقُّعِ الْخَلَاصِ وَالِاسْتِخْلَاصِ ، فَاَلَّذِي يَقْتَضِيه حُسْنُ الْعِشْرَةِ ، أَنْ يَبِيعَهُ مِنْهُ ، لِيَصِلَ إلَى غَرَضِهِ مِنْ بَيْعِ نَصِيبِهِ ، وَتَخْلِيصِ شَرِيكِهِ مِنْ الضَّرَرِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ، وَبَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ ، سَلَّطَ الشَّرْعُ الشَّرِيكَ عَلَى صَرْفِ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ .
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ هَذَا إلَّا الْأَصَمَّ ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إضْرَارًا بِأَرْبَابِ الْأَمْلَاكِ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا ابْتَاعَهُ ، لَمْ يَبْتَعْهُ ، وَيَتَقَاعَدُ الشَّرِيكُ عَنْ الشِّرَاءِ ، فَيَسْتَضِرُّ الْمَالِكُ .
وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِمُخَالَفَتِهِ
الْآثَارَ الثَّابِتَةَ وَالْإِجْمَاعَ الْمُنْعَقِدَ قَبْلَهُ .
وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّا نُشَاهِدُ الشُّرَكَاءَ يَبِيعُونَ ، وَلَا يُعْدَمُ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُمْ غَيْرَ شُرَكَائِهِمْ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ مِنْ الشِّرَاءِ .
الثَّانِي ، أَنَّهُ يُمْكِنُهُ إذَا لَحِقَتْهُ بِذَلِكَ مَشَقَّةٌ أَنْ يُقَاسِمَ ، فَيَسْقُطَ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ ، وَاشْتِقَاقُ الشُّفْعَةِ مِنْ الشَّفْعِ ، وَهُوَ الزَّوْجُ ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ كَانَ نَصِيبُهُ مُنْفَرِدًا فِي مِلْكِهِ ، فَبِالشُّفْعَةِ يَضُمُّ الْمَبِيعَ إلَى مِلْكِهِ فَيَشْفَعُهُ بِهِ .
وَقِيلَ : اشْتِقَاقُهَا مِنْ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَزِيدُ الْمَبِيعَ فِي مِلْكِهِ .
( 4012 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ( وَلَا يَجِبُ الشُّفْعَةُ إلَّا لِلشَّرِيكِ الْمُقَاسِمِ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ ، وَصَرَفَتْ الطُّرُقُ ، فَلَا شُفْعَةَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، إذْ هِيَ انْتِزَاعُ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ رِضَاءٍ مِنْهُ ، وَإِجْبَارٌ لَهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ ، مَعَ مَا ذَكَرَهُ الْأَصَمُّ ، لَكِنْ أَثْبَتَهَا الشَّرْعُ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ ، فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ مُشَاعًا غَيْرَ مَقْسُومٍ .
فَأَمَّا الْجَارُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ ، وَأَبُو الزِّنَادِ ، وَرَبِيعَةُ ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : الشُّفْعَةُ بِالشَّرِكَةِ ، ثُمَّ بِالشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ ، ثُمَّ بِالْجِوَارِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقَدَّمُ الشَّرِيكُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ، وَكَانَ الطَّرِيقُ مُشْتَرَكًا ، كَدَرْبٍ لَا يَنْفُذُ ، تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الدَّرْبِ ، الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوا ، ثَبَتَتْ لِلْمُلَاصِقِ مِنْ دَرْبٍ آخَرَ خَاصَّةً .
وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ ، وَسَوَّارٌ : تَثْبُتُ بِالشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ ، وَبِالشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ .
وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
وَرَوَى الْحَسَنُ ، عَنْ سَمُرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِالدَّارِ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ : { الْجَارُ أَحَقُّ بِدَارِهِ بِشُفْعَتِهِ يُنْتَظَرُ بِهِ إذَا كَانَ
غَائِبًا ، إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا } .
وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَلِأَنَّهُ اتِّصَالُ مِلْكٍ يَدُومُ وَيَتَأَبَّدُ ، فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ بِهِ ، كَالشَّرِكَةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ ، وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ ، فَلَا شُفْعَةَ } .
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَوْ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، أَوْ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا قُسِّمَتْ الْأَرْضُ ، وَحُدَّتْ ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ فِي مَوْضِعِ الْوِفَاقِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، لِمَعْنًى مَعْدُومٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، فَلَا تَثْبُتُ فِيهِ ، وَبَيَانُ انْتِفَاءِ الْمَعْنَى ، هُوَ أَنَّ الشَّرِيكَ رُبَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِ شَرِيكٌ ، فَيَتَأَذَّى بِهِ ، فَتَدْعُوهُ الْحَاجَةُ إلَى مُقَاسَمَتِهِ أَوْ يَطْلُبُ الدَّاخِلُ الْمُقَاسَمَةَ ، فَيَدْخُلُ الضَّرَرُ عَلَى الشَّرِيكِ بِنَقْصِ قِيمَةِ مِلْكِهِ ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَى إحْدَاثِهِ مِنْ الْمَرَافِقِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْمَقْسُومِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ ، فَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الشُّفْعَةِ ، فَإِنَّ الصَّقَبَ الْقُرْبُ .
يُقَالُ بِالسِّينِ وَالصَّادِ .
قَالَ الشَّاعِرُ : كُوفِيَّةٌ نَازِحٌ مَحَلَّتَهَا لَا أُمَمٌ دَارُهَا وَلَا صَقَبُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِإِحْسَانِ جَارِهِ وَصِلَتِهِ وَعِيَادَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَخَبَرُنَا صَرِيحٌ صَحِيحٌ ، فَيُقَدَّمُ ، وَبَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ .
فَحَدِيثُ سَمُرَةَ يَرْوِيه عَنْهُ الْحَسَنُ ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ .
قَالَهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ جَابِرٍ ، الَّذِي رَوَيْنَاهُ ، وَمَا عَدَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِيهَا مَقَالٌ .
عَلَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْجَارِ الشَّرِيكَ ؛ فَإِنَّهُ جَارٌ أَيْضًا ، وَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ جَارًا ، قَالَ
الشَّاعِرُ : أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّك طَالِقَهْ كَذَاك أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ قَالَهُ الْأَعْشَى .
وَتُسَمَّى الضَّرَّتَانِ جَارَتَيْنِ ؛ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الزَّوْجِ .
قَالَ حَمَلُ بْنُ مَالِكٍ : كُنْت بَيْنَ جَارَتَيْنِ لِي ، فَضَرَبَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ ، فَقَتَلَتْهَا وَجَنِينَهَا .
وَهَذَا يُمْكِنُ فِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ أَيْضًا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّرِيقِ مُفْرَدَةً أَوْ مُشْتَرَكَةً .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ ، فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْضٌ تَشْرَبُ هِيَ وَأَرْضُ غَيْرِهِ مِنْ نَهْرٍ وَاحِدٍ : وَلَا شُفْعَةَ لَهُ مِنْ أَجْلِ الشُّرْبِ ، إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ .
وَقَالَ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ ، وَمُثَنَّى ، فِي مَنْ لَا يَرَى الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ ، وَقُدِّمَ إلَى الْحَاكِمِ فَأَنْكَرَ : لَمْ يَحْلِفْ إنَّمَا هُوَ اخْتِيَارٌ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، قَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا هَذَا لِأَنَّ يَمِينَ الْمُنْكِرِ هَاهُنَا عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتِّ ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ مَظْنُونَةٌ ، فَلَا يُقْطَعُ بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ أَحْمَدَ هَاهُنَا عَلَى الْوَرَعِ ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِبُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ .
وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي الِامْتِنَاعُ بِهِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ، فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
( 4013 ) فَصْلٌ : الشَّرْطُ الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ أَرْضًا ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ ، وَيُدَوِّهِ ضَرَرُهَا ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ؛ أَحَدَهُمَا ، تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ ، وَهُوَ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ يُبَاعُ مَعَ الْأَرْضِ ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ ، وَلَا نَعْرِفُ فِيهِ بَيْنَ مَنْ أَثْبَتَ الشُّفْعَةَ خِلَافًا .
وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَضَاؤُهُ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شِرْكٍ لَمْ يُقْسَمْ ، رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ } .
وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبِنَاءُ وَالْأَشْجَارُ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، مَا لَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا وَلَا مُفْرَدًا ، وَهُوَ الزَّرْعُ وَالثَّمَرَةُ الظَّاهِرَةُ تُبَاعُ مَعَ الْأَرْضِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَعَ الْأَصْلِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : يُؤْخَذُ ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ مَعَ أُصُولِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَا فِيهِ الشُّفْعَةُ ، فَيَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ تَبَعًا ، كَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا .
فَلَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ ، كَقُمَاشِ الدَّارِ ، وَعَكْسُهُ الْبِنَاءُ وَالْغِرَاسُ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الشُّفْعَةَ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، لَكِنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ لَهُ سُلْطَانَ الْأَخْذِ بِغَيْرِ رِضَى الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ بِيعَ الشَّجَرُ وَفِيهِ ثَمَرَةٌ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ ، كَالطَّلْعِ غَيْرِ الْمُؤَبَّرِ ، دَخَلَ فِي الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَتْبَعُ فِي الْبَيْعِ ، فَأَشْبَهَتْ الْغِرَاسَ فِي الْأَرْضِ .
وَأَمَّا مَا بِيعَ مُفْرَدًا مِنْ الْأَرْضِ ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ ، كَالْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ وَالسُّفُنِ وَالْحِجَارَةِ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ ، أَوْ لَا يُنْقَلُ ، كَالْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ إذَا بِيعَ مُفْرَدًا ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالْعَنْبَرِيِّ ، وَقَتَادَةَ ،
وَرَبِيعَةَ ، وَإِسْحَاقَ : لَا شُفْعَةَ فِي الْمَنْقُولَاتِ .
وَاخْتَلَفَ عَنْ مَالِكٍ وَعَطَاءٍ ، فَقَالَا مَرَّةً كَذَلِكَ ، وَمَرَّةً قَالَا : الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى فِي الثَّوْبِ .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ كَالْحِجَارَةِ وَالسَّيْفِ وَالْحَيَوَانِ ، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ فِي الْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ ، وَإِنْ بِيعَ مُفْرَدًا .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } .
وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ وُضِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَحُصُولُ الضَّرَرِ بِالشَّرِكَةِ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ أَبْلَغُ مِنْهُ فِيمَا يَنْقَسِمُ ، وَلِأَنَّ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ } .
وَلَنَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ ، وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ ، فَلَا شُفْعَةَ } .
لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَا لَا يَنْقَسِمُ مِنْ الْأَرْضِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : " فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ ، وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ " .
وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَبَاقَى عَلَى الدَّوَامِ ، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ ، كَصُبْرَةِ الطَّعَامِ وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ مُرْسَلٌ ، لَمْ يَرِدْ فِي الْكُتُبِ الْمَوْثُوقِ بِهَا ، وَالْحُكْمُ فِي الْغِرَافِ وَالدُّولَابِ وَالنَّاعُورَةِ ، كَالْحُكْمِ فِي الْبِنَاءِ .
فَأَمَّا إنْ بِيعَتْ الشَّجَرَةُ مَعَ قَرَارِهَا مِنْ الْأَرْضِ ، مُفْرَدَةً عَمَّا يَتَخَلَّلُهَا مِنْ الْأَرْضِ ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا لَا يَنْقَسِمُ مِنْ الْعَقَارِ ، وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الشُّفْعَةُ فِيهَا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْقَرَارَ تَابِعٌ لَهَا ، فَإِذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ فِيهَا مُفْرَدَةً ، لَمْ تَجِبَ فِي تَبَعِهَا .
وَإِنْ
بِيعَتْ حِصَّةٌ مِنْ عُلْوِ دَارٍ مُشْتَرَكٍ نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ السَّقْفُ الَّذِي تَحْتَهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ ، فَلَا شُفْعَةَ فِي الْعُلْوِ ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ مُفْرَدٌ ، وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ ، فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ مُنْفَرِدٌ لِكَوْنِهِ لَا أَرْضَ لَهُ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ السَّقْفُ لَهُ .
وَيَحْتَمِلُ ثُبُوتُ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ لَهُ قَرَارًا ، فَهُوَ كَالسُّفْلِ .
فَصْلٌ : الشَّرْطُ الثَّالِثُ ، أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ ، فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ مِنْ الْعَقَارِ ، كَالْحَمَّامِ الصَّغِيرِ ، وَالرَّحَى الصَّغِيرَةِ ، وَالْعِضَادَةِ ، وَالطَّرِيقِ الضَّيِّقَةِ ، وَالْعِرَاصِ الضَّيِّقَةِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهَا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا شُفْعَةَ فِيهِ .
وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، وَرَبِيعَةُ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَالثَّانِيَةُ ، فِيهَا الشُّفْعَةُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَابْنِ سُرَيْجٍ .
وَعَنْ مَالِكٍ كَالرِّوَايَتَيْنِ .
وَوَجْهُ هَذَا عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } .
وَسَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ الْمُشَارَكَةِ وَالضَّرَرُ فِي هَذَا النَّوْعِ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ ضَرَرُهُ .
وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا شُفْعَةَ فِي فِنَاءٍ ، وَلَا طَرِيقٍ ، وَلَا مُنَقِّبَةٍ } .
وَالْمُنَقِّبَةُ : الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ .
رَوَاهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ " .
وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ وَلَا فَحْلٍ .
وَلِأَنَّ إثْبَاتَ الشُّفْعَةِ فِي هَذَا يَضُرُّ بِالْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ فِي نَصِيبِهِ بِالْقِسْمَةِ ، وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْمُشْتَرِي لِأَجْلِ الشَّفِيعِ ، فَيَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ ، وَقَدْ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ ، فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ فَيُؤَدِّي إثْبَاتُهَا إلَى نَفْيِهَا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِالْمُقَاسَمَةِ ، لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ إحْدَاثِ الْمَرَافِقِ الْخَاصَّةِ ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الضَّرَرَ هَاهُنَا أَكْثَرُ لِتَأَبُّدِهِ .
قُلْنَا : إلَّا أَنَّ الضَّرَرَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ هَذَا الضَّرَرِ ، وَهُوَ ضَرَرُ الْحَاجَةِ إلَى إحْدَاثِ الْمَرَافِقِ الْخَاصَّةِ ، فَلَا يُمْكِنُ
التَّعْدِيَةُ ، وَفِي الشُّفْعَةِ هَاهُنَا ضَرَرٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَتَعَذَّرَ الْإِلْحَاقُ ، فَأَمَّا مَا أَمْكَنَ قِسْمَتُهُ مِمَّا ذَكَرْنَا ، كَالْحَمَّامِ الْكَبِيرِ الْوَاسِعِ الْبُيُوتِ ، بِحَيْثُ إذَا قُسِّمَ لَمْ يُسْتَضْرَ بِالْقِسْمَةِ ، وَأَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ حَمَّامًا ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْبِئْرُ وَالدُّورُ وَالْعَضَائِدُ ، مَتَى أَمْكَنَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئَانِ ، كَالْبِئْرِ يَنْقَسِمُ بِئْرَيْنِ يَرْتَقِي الْمَاءُ مِنْهُمَا ، وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الْبِئْرِ بَيَاضُ أَرْضٍ ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْبِئْرُ فِي أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ ، وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ تُمْكِنُ الْقِسْمَةُ .
وَهَكَذَا الرَّحَى إنْ كَانَ لَهَا حِصْنٌ يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ الْحَجَرَانِ فِي أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ ، أَوْ كَانَ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَحْجَارٍ دَائِرَةٌ ، يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحَجَرَيْنِ ، وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إبْقَائِهَا رَحَى ، لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ .
فَأَمَّا الطَّرِيقُ ، فَإِنَّ الدَّارَ إذَا بِيعَتْ وَلَهَا طَرِيقٌ فِي شَارِعٍ أَوْ دَرْبٍ نَافِذٍ ، فَلَا شُفْعَةَ فِي تِلْكَ الدَّارِ وَلَا فِي الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لَأَحَدٍ فِي ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ ، وَلَا طَرِيقَ لِلدَّارِ سِوَى تِلْكَ الطَّرِيقِ ، فَلَا شُفْعَةَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي ، لِأَنَّ الدَّارَ تَبْقَى لَا طَرِيقَ لَهَا .
وَإِنْ كَانَ لِلدَّارِ بَابٌ آخَرُ ، يُسْتَطْرَقُ مِنْهُ ، أَوْ كَانَ لَهَا مَوْضِعٌ يُفْتَحُ مِنْهُ بَابٌ لَهَا إلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ ، نَظَرْنَا فِي طَرِيقِ الْمَبِيعِ مِنْ الدَّارِ ، فَإِنْ كَانَ مَمَرًّا لَا تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ ، وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَرْضٌ مُشْتَرَكَةٌ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَوَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ ، كَغَيْرِ الطَّرِيقِ ، وَيَحْتَمِلُ
أَنْ لَا تَجِبَ الشُّفْعَةُ فِيهَا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ الْمُشْتَرِيَ بِتَحْوِيلِ الطَّرِيقِ إلَى مَكَان آخَرَ ، مَعَ مَا فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ تَفْرِيقِ صَفْقَةِ الْمُشْتَرِي ، وَأَخْذِ بَعْضِ الْمَبِيعِ مِنْ الْعَقَارِ دُونَ بَعْضٍ ، فَلَمْ يَجُزْ .
كَمَا لَوْ كَانَ الشَّرِيكُ فِي الطَّرِيقِ شَرِيكًا فِي الدَّارِ ، فَأَرَادَ أَخْذَ الطَّرِيقِ وَحْدَهَا .
وَالْقَوْلُ فِي دِهْلِيزِ الْجَارِ وَصَحْنِهِ ، كَالْقَوْلِ فِي الطَّرِيقِ الْمَمْلُوكِ .
وَإِنْ كَانَ نَصِيبُ الْمُشْتَرِي مِنْ الطَّرِيقِ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ فِي الزَّائِدِ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي ، وَعَدَمِ الْمَانِعِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ فِي ثُبُوتِهَا تَبْعِيضَ صَفْقَةِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا يَخْلُو مِنْ الضَّرَرِ .
( 4015 ) فَصْلٌ : الشَّرْطُ الرَّابِعُ ، أَنْ يَكُونَ الشِّقْصُ مُنْتَقِلًا بِعِوَضٍ ، وَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، كَالْهِبَةِ بِغَيْرِ ثَوَابٍ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْوَصِيَّةِ ، وَالْإِرْثِ ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الْمُنْتَقِلِ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ ، أَنَّ فِيهِ الشُّفْعَةَ ، وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ لِإِزَالَةِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الشَّرِكَةِ كَيْفَمَا كَانَ ، وَالضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِالْمُتَّهَبِ دُونَ ضَرَرِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ إقْدَامَ الْمُشْتَرِي عَلَى شِرَاءِ الشِّقْصِ ، وَبَذْلَهُ مَالَهُ فِيهِ ، دَلِيلُ حَاجَتِهِ إلَيْهِ ، فَانْتِزَاعُهُ مِنْهُ أَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ أَخْذِهِ مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ دَلِيلُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ انْتَقَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، أَشْبَهَ الْمِيرَاثَ ، وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْوِفَاقِ هُوَ الْبَيْعُ ، وَالْخَبَرُ وَرَدَ فِيهِ ، وَلَيْسَ غَيْرُهُ فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي انْتَقَلَ بِهِ إلَيْهِ ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا فِي غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِثَمَنِهِ ، لَا بِقِيمَتِهِ ، وَفِي غَيْرِهِ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ ، فَافْتَرَقَا .
فَأَمَّا الْمُنْتَقِلُ بِعِوَضٍ فَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، مَا عِوَضُهُ الْمَالُ ، كَالْبَيْعِ ، فَهَذَا فِيهِ الشُّفْعَةُ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ ، فَإِنْ بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ عَقْدٍ جَرَى مَجْرَى الْبَيْعِ ، كَالصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ ، وَالصُّلْحِ عَنْ الْجِنَايَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ ، وَالْهِبَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا ثَوَابٌ مَعْلُومٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ ثَبَتَتْ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ ، وَهَذَا مِنْهَا .
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ قَالُوا : لَا تَثْبُتُ
الشُّفْعَةُ فِي الْهِبَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهَا ثَوَابٌ حَتَّى يَتَقَابَضَا ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْقَبْضِ ، فَأَشْبَهَتْ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى الْقَبْضِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ ، كَالْبَيْعِ ، وَلَا يَصِحُّ مَا قَالُوهُ مِنْ اعْتِبَارِ لَفْظِ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ صَرَفَ اللَّفْظَ عَنْ مُقْتَضَاهُ ، وَجَعَلَهُ عِبَارَةً عَنْ الْبَيْعِ ، خَاصَّةً عِنْدَهُمْ ، فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ الَّذِي لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، مَا انْتَقَلَ بِعِوَضٍ غَيْرِ الْمَالِ ، نَحْوُ أَنْ يَجْعَلَ الشِّقْصَ مَهْرًا ، أَوْ عِوَضًا فِي الْخُلْعِ ، أَوْ فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ لِغَيْرِ الْبَيْعِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، حَكَاهُ عَنْهُمْ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَاخْتَارَهُ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالشَّافِعِيُّ .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا بِمَ يَأْخُذُهُ ؟ فَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِقِيمَتِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَوْجَبْنَا مَهْرَ الْمِثْلِ ، لَقَوَّمْنَا الْبُضْعَ عَلَى الْأَجَانِبِ ، وَأَضْرَرْنَا بِالشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَتَفَاوَتُ مَعَ الْمُسَمَّى ، لِتَسَامُحِ النَّاسِ فِيهِ فِي الْعَادَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ ، قَالَ ابْنُ حَامِدٍ : إنْ كَانَ الشِّقْصُ صَدَاقًا ، أَوْ عِوَضًا فِي خَلَعَ ، أَوْ مُتْعَةً فِي طَلَاقٍ ، أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِمَهْرِ الْمَرْأَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْعُكْلِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الشِّقْصَ بِبَدَلٍ لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى قِيمَةِ الْبَدَلِ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، كَمَا لَوْ
بَاعَهُ بِعِوَضٍ ، وَاحْتَجُّوا عَلَى أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ بِأَنَّهُ عَقَارٌ مَمْلُوكٌ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِغَيْرِ مَالٍ ، أَشْبَهَ الْمَوْهُوبَ وَالْمَوْرُوثَ ، وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَخْذُهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ ، وَبِالْقِيمَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِوَضَ الشِّقْصِ ، فَلَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهَا ، كَالْمَوْرُوثِ ، فَيَتَعَذَّرُ أَخْذُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِوَضٌ يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِهِ ، فَأَشْبَهَ الْمَوْهُوبَ وَالْمَوْرُوثَ ، وَفَارَقَ الْبَيْعَ ، فَإِنَّهُ أَمْكَنَ الْأَخْذُ بِعِوَضِهِ .
فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ .
فَطَلَّقَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، بَعْدَ عَفْوِ الشَّفِيعِ ، رَجَعَ بِنِصْفِ مَا أَصْدَقَهَا ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي يَدِهَا بِصِفَتِهِ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ ، رَجَعَ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا زَالَ عَنْهُ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَتْهُ ، وَإِنْ طَلَّقَ قَبْلَ عِلْمِ الشَّفِيعِ ، ثُمَّ عَلِمَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ ، لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ ، وَحَقُّ الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ .
وَالثَّانِي ، حَقُّ الزَّوْجِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، وَالشُّفْعَةُ هَاهُنَا لَا نَصَّ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ .
فَأَمَّا إنْ عَفَا الشَّفِيعُ ، ثُمَّ طَلَّقَ الزَّوْجُ ، فَرَجَعَ فِي نِصْفِ الشِّقْصِ ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ مِنْهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ جَاءَ الْفَسْخُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ ، فَرَجَعَ الشِّقْصُ كُلُّهُ إلَى الزَّوْجِ ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْمَالِكِ لِزَوَالِ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الشَّفِيعُ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ فَسْخٍ يَرْجِعُ بِهِ الشِّقْصُ إلَى الْعَاقِدِ ، كَرَدِّهِ بِعَيْبٍ ، أَوْ مُقَايَلَةٍ ، أَوْ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، أَوْ رَدِّهِ لِغَبْنٍ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْإِقَالَةِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهَا بَيْعٌ ، فَتَثْبُتُ فِيهَا الشُّفْعَةُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
فَعَلَى هَذَا لَوْ لَمْ
يَعْلَمْ الشَّفِيعُ حَتَّى تَقَايَلَا ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ .
وَإِنْ عَفَا عَنْ الشُّفْعَةِ فِي الْبَيْعِ ، ثُمَّ تَقَايَلَا ، فَلَهُ الْأَخْذُ بِهَا .
( 4016 ) فَصْلٌ : وَإِذَا جَنَى جِنَايَتَيْنِ ، عَمْدًا وَخَطَأً ، فَصَالَحَهُ مِنْهُمَا عَلَى شِقْصٍ ، فَالشُّفْعَةُ فِي نِصْفِ الشِّقْصِ دُونَ بَاقِيهِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَهَذَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي نَقُولُ فِيهَا : إنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَيْنًا .
وَإِنْ قُلْنَا : مُوجِبُهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ .
وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِي الْجَمِيعِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا شُفْعَةَ فِي الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ فِي الْأَخْذِ بِهَا تَبْعِيضَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا قَابَلَ الْخَطَأَ عِوَضٌ عَنْ مَالٍ ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ ، وَلِأَنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَجِبُ فِيهِ ، فَوَجَبَتْ فِيمَا تَجِبُ فِيهِ دُونَ الْآخَرِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شِقْصًا وَسَيْفًا .
وَبِهَذَا الْأَصْلِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ .
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقَيْسُ ؛ لِأَنَّ فِي الشُّفْعَةِ تَبْعِيضَ الشِّقْصِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَرُبَّمَا لَا يَبْقَى مِنْهُ إلَّا مَا لَا نَفْعَ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرَادَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ أَخْذَ بَعْضِهِ مَعَ عَفْوِ صَاحِبِهِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الشِّقْصِ وَالسَّيْفِ .
وَأَمَّا إذَا قُلْنَا : إنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ شَيْئَيْنِ .
فَبِاخْتِيَارِهِ الصُّلْحَ سَقَطَ الْقِصَاصُ ، وَتَعَيَّنَتْ الدِّيَةُ ، فَكَانَ الْجَمِيعُ عِوَضًا عَنْ الْمَالِ .
( 4017 ) فَصْلٌ : وَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَحْدَهُ ، أَيُّهُمَا كَانَ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَتَخَرَّجُ أَنْ تَثْبُتَ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ ، فَتَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، كَمَا بَعْدَ انْقِضَائِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ، أَوْ لَهُمَا ، لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ حَتَّى يَنْقَضِيَ ؛ لِأَنَّ فِي الْأَخْذِ بِهَا إسْقَاطَ حَقِّ الْبَائِعِ مِنْ الْفَسْخِ ، وَإِلْزَامَ الْبَيْعِ فِي حَقِّهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ الْمِلْكُ إلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ، فَقَدْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ ، وَلَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ ، وَالشَّفِيعُ يَمْلِكُ أَخْذَهُ بَعْدَ لُزُومِ الْبَيْعِ وَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ قَبْلَ لُزُومِهِ أَوْلَى ، وَعَامَّةُ مَا يُقَدَّرُ ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ ، كَمَا لَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَبِيعٌ فِيهِ الْخِيَارُ ، فَلَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ ، كَمَا لَوْ كَانَ لِلْبَائِعِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ يُلْزِمُ الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَيُوجِبُ الْعُهْدَةَ عَلَيْهِ ، وَيُفَوِّتُ حَقَّهُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي عَيْنِ الثَّمَنِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ، فَإِنَّنَا إنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ الشُّفْعَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ خِيَارِ الْبَائِعِ ، وَتَفْوِيتِ حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ مَالِهِمَا ، وَهُمَا فِي نَظَرِ الشَّرْعِ عَلَى السَّوَاءِ .
وَفَارَقَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ لِاسْتِدْرَاكِ الظَّلَّامَةِ ، وَذَلِكَ يَزُولُ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ ، فَإِنْ بَاعَ الشَّفِيعُ حِصَّتَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، عَالِمًا بِبَيْعِ الْأَوَّلِ ، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ ، وَثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ فِيمَا بَاعَهُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ
الْمَذْهَبِ .
وَفِي وَجْهٍ آخَرَ ، أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ ، بِنَاءً عَلَى الْمِلْكِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لِمَنْ هُوَ مِنْهُمَا .
وَإِنْ بَاعَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ ، فَكَذَلِكَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ قَبْلَ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ .
وَيَتَوَجَّهُ عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي الْخَطَّابِ أَنْ لَا تَسْقُطَ شُفْعَتُهُ ، فَيَكُونُ لَهُ عَلَى هَذَا أَخْذُ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ الَّذِي بَاعَهُ الشَّفِيعُ مِنْ مُشْتَرِيهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ شَرِيكًا لِلشَّفِيعِ حِينَ بَيْعِهِ .
( 4018 ) فَصْلٌ : وَبَيْعُ الْمَرِيضِ كَبَيْعِ الصَّحِيحِ ، فِي الصِّحَّةِ ، وَثُبُوتِ الشُّفْعَةِ ، وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ ، إذَا بَاعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ ، سَوَاءٌ كَانَ لِوَارِثٍ أَوْ غَيْرِ وَارِثٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لِوَارِثِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ ، كَالصَّبِيِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إنَّمَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِي التَّبَرُّعِ فِي حَقِّهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ الصِّحَّةَ فِيمَا سِوَاهُ ، كَالْأَجْنَبِيِّ إذَا لَمْ يَزِدْ عَلَى التَّبَرُّعِ بِالثُّلُثِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَجْرَ فِي شَيْءٍ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ غَيْرِهِ ، كَمَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي غَيْرِهِ ، وَالْحَجْرَ عَلَى الْمُفْلِسِ فِي مَالِهِ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي ذِمَّتِهِ .
فَأَمَّا بَيْعُهُ بِالْمُحَابَاةِ ، فَلَا يَخْلُو ؛ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِوَارِثٍ أَوْ لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ لِوَارِثٍ ، بَطَلَتْ الْمُحَابَاةُ ؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ ، وَالْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ لَا تَجُوزُ ، وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ مِنْ الْمَبِيعِ .
وَهَلْ يَصِحُّ فِيمَا عَدَاهُ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ؛ أَحَدُهَا ، لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَذَلَ الثَّمَنَ فِي كُلِّ الْمَبِيعِ ، فَلَمْ يَصِحَّ فِي بَعْضِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْتُك هَذَا الثَّوْبَ بِعَشْرَةٍ .
فَقَالَ : قَبِلْت الْبَيْعَ فِي نِصْفِهِ .
أَوْ قَالَ : قَبِلْته بِخَمْسَةٍ .
أَوْ قَالَ : قَبِلْت نِصْفَهُ بِخَمْسَةٍ .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَوَاجَبَا عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
الثَّانِي ، أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ وَيَصِحُّ فِيمَا يُقَابِلُ الثَّمَنَ الْمُسَمَّى ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْأَخْذِ وَالْفَسْخِ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ ، وَلِلشَّفِيعِ أَخْذُ مَا صَحَّ الْبَيْعُ فِيهِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّ الْبُطْلَانَ إنَّمَا
جَاءَ مِنْ الْمُحَابَاةِ ، فَاخْتَصَّ بِمَا قَابِلَهَا .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ ، أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْجَمِيعِ ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ صَحِيحَةٌ ، فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَتَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، فَكَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ لَهُ ، فَإِنْ أَجَازُوا الْمُحَابَاةَ ، صَحَّ الْبَيْعُ فِي الْجَمِيعِ ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي ، وَيَمْلِكُ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ رَدُّوا ، بَطَلَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ ، وَصَحَّ فِيمَا بَقِيَ .
وَلَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ قَبْلَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ أَوْ رَدِّهِمْ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَبِيعِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ إبْطَالَهُ ، وَلَهُ أَخْذُ مَا صَحَّ الْبَيْعُ فِيهِ .
وَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا ، وَاخْتَارَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ ، قُدِّمَ الشَّفِيعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَيَجْرِي مَجْرَى الْمَعِيبِ إذَا رَضِيَهُ الشَّفِيعُ بِعَيْبِهِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا ، وَالشَّفِيعُ أَجْنَبِيٌّ ، فَإِنْ لَمْ تَزِدْ الْمُحَابَاةُ عَلَى الثُّلُثِ ، صَحَّ الْبَيْعُ ، وَلِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِهَا بِذَلِكَ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ حَصَلَ بِهِ ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْهَا كَوْنُ الْمَبِيعِ مُسْتَرْخِصًا ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ حُكْمُ أَصْلِ الْمُحَابَاةِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ .
وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ وَارِثًا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ وَقَعَتْ لِغَيْرِهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا تَمَكُّنُ الْوَارِثِ مِنْ أَخْذِهَا ، كَمَا لَوْ وَهَبَ غَرِيمَ وَارِثِهِ مَالًا ، فَأَخَذَهُ الْوَارِثُ .
وَالثَّانِي ، يَصِحُّ الْبَيْعُ ، وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَثْبَتْنَاهَا جَعَلْنَا لِلْمَوْرُوثِ سَبِيلًا إلَى إثْبَاتِ حَقٍّ لِوَارِثِهِ فِي الْمُحَابَاةِ ، وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ لِغَرِيمِ الْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَارِثِ الْأَخْذَ
بِدَيْنِهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْهِبَةِ ، وَهَذَا اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ الْحَاصِلِ مِنْ مَوْرُوثِهِ ، فَافْتَرَقَا .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا خَمْسَةُ أَوْجُهٍ ، وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
وَالثَّالِثُ ، أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى إيصَالِ الْمُحَابَاةِ إلَى الْوَارِثِ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فَرْعٌ لِلْبَيْعِ .
وَلَا يَبْطُلُ الْأَصْلُ بِبُطْلَانِ فَرْعٍ لَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، مَا حَصَلَتْ لِلْوَارِثِ بِالْمُحَابَاةِ ، إنَّمَا حَصَلَتْ لِغَيْرِهِ ، وَوَصَلَتْ إلَيْهِ بِجِهَةِ الْأَخْذِ مِنْ الْمُشْتَرِي ، فَأَشْبَهَ هِبَةَ غَرِيمِ الْوَارِثِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ ، أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرٍ مَا عَدَا الْمُحَابَاةَ بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ الْمُقَابِلِ لِلْمُحَابَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ بِالنِّصْفِ مَثَلًا هِبَةٌ لِلنِّصْفِ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ النِّصْفِ ، مَا كَانَ لِلشَّفِيعِ الْأَجْنَبِيِّ أَخْذُ الْكُلِّ ، لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَا شُفْعَةَ فِيهِ .
الْخَامِسُ ، أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ فِي قَدْرِ الْمُحَابَاةِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهَا مُحَابَاةٌ لِأَجْنَبِيٍّ بِمَا دُونَ الثُّلُثِ ، فَلَا تَبْطُلُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ الشِّقْصُ مَشْفُوعًا .
( 4019 ) فَصْلٌ : وَيَمْلِكُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِأَخْذِهِ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى أَخْذِهِ ، بِأَنْ يَقُولَ : قَدْ أَخَذْته بِالثَّمَنِ .
أَوْ تَمَلَّكْتُهُ بِالثَّمَنِ .
أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، إذَا كَانَ الثَّمَنُ وَالشِّقْصُ مَعْلُومَيْنِ ، وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : يَمْلِكُهُ بِالْمُطَالَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ السَّابِقَ سَبَبٌ ، فَإِذَا انْضَمَّتْ إلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ ، كَانَ كَالْإِيجَابِ فِي الْبَيْعِ انْضَمَّ إلَيْهِ الْقَبُولُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَحْصُلُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ عَنْ مَالِكِهِ إلَى غَيْرِهِ قَهْرًا فَافْتَقَرَ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ ، كَأَخْذِ دَيْنِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى حَاكِمٍ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِهَذَا الْأَصْلِ ، وَبِأَخْذِ الزَّوْجِ نِصْفَ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَتَمَلَّكُهُ قَهْرًا ، فَمَلَكَهُ بِالْأَخْذِ ، كَالْغَنَائِمِ وَالْمُبَاحَاتِ ، وَمَلَكَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى الْأَخْذِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، لَكِنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَقِلُّ بِهِ ، فَانْتَقَلَ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُمْ : يَمْلِكُ بِالْمُطَالَبَةِ بِمُجَرَّدِهَا .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ بِهَا لَمَا سَقَطَتْ الشُّفْعَةُ بِالْعَفْوِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ ، وَلَوَجَبَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ شَفِيعَانِ .
فَطَلَبَا الشُّفْعَةَ ، ثُمَّ تَرَكَ أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَكُونَ لِلْآخَرِ أَخْذُ قَدْرِ نَصِيبِهِ ، وَلَا يَمْلِكُ أَخْذَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : قَدْ أَخَذْت الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الَّذِي تَمَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ .
وَهُوَ عَالِمٌ بِقَدْرِهِ ، وَبِالْمَبِيعِ ، صَحَّ الْأَخْذُ ، وَمَلْكُ الشِّقْصَ ، وَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الشِّقْصَ يُؤْخَذُ قَهْرًا ، وَالْمَقْهُورُ لَا خِيَارَ لَهُ ، وَالْآخِذُ قَهْرًا ، لَا خِيَارَ لَهُ أَيْضًا كَمُسْتَرْجِعِ الْمَبِيعِ لِعَيْبِ فِي ثَمَنِهِ ، أَوْ الثَّمَنِ
لِعَيْبٍ فِي الْمَبِيعَ .
وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا أَوْ الشِّقْصُ ، لَمْ يَمْلِكْهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَيُعْتَبَرُ الْعِلْمُ بِالْعِوَضَيْنِ ، كَسَائِرِ الْبُيُوعِ .
وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ ، ثُمَّ يَتَعَرَّفُ مِقْدَارَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، وَالْمَبِيعَ ، فَيَأْخُذُهُ بِثَمَنِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ الْأَخْذَ مَعَ جَهَالَةِ الشِّقْصِ ، بِنَاءً عَلَى بَيْعِ الْغَائِبِ .
( 4020 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَ الشِّقْصِ ، وَكَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، أَخَذَهُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، أَخَذَهُ مِنْهُ وَكَانَ كَأَخْذِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي .
هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَلْزَمُ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَيَدْخُلُ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَضَمَانِهِ ، وَيَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ الْبَائِعِ ، وَيُجْبِرُ الْحَاكِمُ الْمُشْتَرِيَ عَلَى قَبْضِهِ ، ثُمَّ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ مِنْهُ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَشْتَرِي الشِّقْصَ مِنْ الْمُشْتَرِي ، فَلَا يَأْخُذُهُ مِنْ غَيْرِهِ .
وَبَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ ، فَإِذَا فَاتَ الْقَبْضُ بَطَلَ الْعَقْدُ ، وَسَقَطَتْ الشُّفْعَةُ .
( 4021 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ ، وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْمُزَنِيِّ .
وَالثَّانِي ، لَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِهَا .
وَنَصَرَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ فِي " مَسَائِلِهِ " .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَابْنِ شُرَيْحٍ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فَرْعٌ لِلْبَيْعِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ فَلَا يَثْبُتُ فَرْعُهُ ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ الشِّقْصَ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَإِذَا أَنْكَرَ الْبَيْعَ لَمْ يُمْكِنْ الْأَخْذُ مِنْهُ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّ الْبَائِعَ أَقَرَّ بِحَقَّيْنِ ؛ حَقٍّ لِلشَّفِيعِ ، وَحَقٍّ لِلْمُشْتَرِي ، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمُشْتَرِي بِإِنْكَارِهِ ، ثَبَتَ حَقُّ الشَّفِيعِ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَارٍ لِرَجُلَيْنِ ، فَأَنْكَرَ أَحَدُهُمَا ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ لِلشَّفِيعِ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِأَخْذِ هَذِهِ الدَّارِ ، وَالشَّفِيعَ يَدَّعِي ذَلِكَ ، فَوَجَبَ قَبُولَهُ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهَا مِلْكُهُ .
فَعَلَى هَذَا يَقْبِضُ الشَّفِيعُ مِنْ الْبَائِعِ ، وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ الثَّمَنَ ، وَيَكُونُ دَرْكُ الشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ ، لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ الشِّرَاءُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي .
وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ وَلَا لِلْبَائِعِ مُحَاكَمَةُ الْمُشْتَرِي ؛ لِيَثْبُتَ الْبَيْعُ فِي حَقِّهِ ، وَتَكُونَ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ الثَّمَنُ ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ الشَّفِيعِ ، وَمَقْصُودَ الشَّفِيعِ أَخْذُ الشِّقْصِ وَضَمَانُ الْعُهْدَةِ ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ الْبَائِعِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمُحَاكَمَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا ، فَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَدْفَعُ إلَيْك الدَّيْنَ الَّذِي تَدَّعِيهِ ، وَلَا تُخَاصِمْهُ .
لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ ، فَهَلْ لَا قُلْتُمْ هَاهُنَا كَذَلِكَ ؟ قُلْنَا : فِي الدَّيْنِ عَلَيْهِ مِنَّةٌ فِي قَبُولِهِ مِنْ غَيْرِ غَرِيمِهِ ، وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي يَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ حَقٌّ لِلْمُشْتَرِي عِوَضًا عَنْ هَذَا الْمَبِيعِ ، فَصَارَ كَالنَّائِبِ
عَنْ الْمُشْتَرِي فِي دَفْعِ الثَّمَنِ ، وَالْبَائِعُ كَالنَّائِبِ عَنْهُ فِي دَفْعِ الشِّقْصِ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ مُقِرًّا بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي ، بَقِيَ الثَّمَنُ الَّذِي عَلَى الشَّفِيعِ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَقُولُ : هُوَ لِلْمُشْتَرِي .
وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ : لَا أَسْتَحِقُّهُ .
فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يُقَالَ لِلْمُشْتَرِي : إمَّا أَنْ تَقْبِضَهُ ، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَ مِنْهُ .
وَالثَّانِي ، يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ عِنْدَهُ .
وَالثَّالِثُ ، يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ .
وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَتَى ادَّعَاهُ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي ، دُفِعَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَأَحَدِهِمَا .
وَإِنْ تَدَاعَيَاهُ جَمِيعًا ، فَأَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ قَبْضَ الثَّمَنِ ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَنْكَرَ الْقَبْضَ ، لَمْ يَكُنْ مُدَّعِيًا لِهَذَا الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الشَّفِيعِ ثَمَنًا ، إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ مِنْهُ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَدَّعِيهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِهِ ، فَوَجَبَ دَفْعُهُ إلَيْهِ .
( 4022 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ لَمْ يُطَالِبْ بِالشُّفْعَةِ فِي وَقْتِ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ) الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عَلَى الْفَوْرِ ، إنْ طَالَبَ بِهَا سَاعَةَ يَعْلَمُ بِالْبَيْعِ ، وَإِلَّا بَطَلَتْ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ : الشُّفْعَةُ بِالْمُوَاثَبَةِ سَاعَةَ يَعْلَمُ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ ، وَالْبَتِّيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْعَنْبَرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قُولِيهِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ ، أَنَّ الشُّفْعَةَ عَلَى التَّرَاخِي لَا تَسْقُطُ ، مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَى ، مِنْ عَفْوٍ ، أَوْ مُطَالَبَةٍ بِقِسْمَةٍ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : تَنْقَطِعُ بِمُضِيِّ سَنَةٍ .
وَعَنْهُ : بِمُضِيِّ مُدَّةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ تَارِكٌ لَهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخِيَارَ لَا ضَرَرَ فِي تَرَاخِيهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِالتَّأْخِيرِ ، كَحَقِّ الْقِصَاصِ .
وَبَيَانُ عَدَمِ الضَّرَرِ أَنَّ النَّفْعَ لِلْمُشْتَرِي بِاسْتِغْلَالِ الْمَبِيعِ وَإِنْ أَحْدَثَ فِيهِ عِمَارَةً ، مِنْ غِرَاسٍ أَوْ بِنَاءٍ ، فَلَهُ قِيمَتُهُ .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالثَّوْرِيِّ ، أَنَّ الْخِيَارَ مُقَدَّرٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ حُدَّ بِهَا خِيَارُ الشَّرْطِ ، فَصَلَحَتْ حَدًّا لِهَذَا الْخِيَارِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ } .
وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ : { الشُّفْعَةُ كَنَشِطَةِ الْعِقَالِ ، إنْ قُيِّدَتْ ثَبَتَتْ ، وَإِنْ تُرِكَتْ فَاللَّوْمُ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، أَنَّهُ قَالَ : الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا } .
رَوَاهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِ ، فَكَانَ عَلَى الْفَوْرِ ، كَخِيَارِ الرَّدِّ
بِالْعَيْبِ ، وَلِأَنَّ إثْبَاتَهُ عَلَى التَّرَاخِي يَضُرُّ الْمُشْتَرِيَ لِكَوْنِهِ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَى الْمَبِيعِ ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِعِمَارَةٍ خَشْيَةَ أَخْذِهِ مِنْهُ ، وَلَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّرَرُ بِدَفْعِ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ خَسَارَتَهَا فِي الْغَالِبِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهَا ، مَعَ تَعَبِ قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ فِيهَا .
وَالتَّحْدِيدُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَالْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ ، ثُمَّ هُوَ بَاطِلٌ بِخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ .
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يَتَقَدَّرُ الْخِيَارُ بِالْمَجْلِسِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
فَمَتَى طَالَبَ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ ، ثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ وَإِنْ طَالَ ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ كُلَّهُ فِي حُكْمِ حَالَةِ الْعَقْدِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لِمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ ، كَالْقَبْضِ حَالَةَ الْعَقْدِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ بِالْمَجْلِسِ ، بَلْ مَتَى بَادَرَ فَطَالَبَ عَقِيبَ عِلْمِهِ ، وَإِلَّا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ .
فَعَلَى هَذَا مَتَى أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ عَنْ وَقْتِ الْعِلْمِ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ، وَإِنْ أَخَّرَهَا لِعُذْرٍ ، مِثْلِ أَنْ يَعْلَمَ لَيْلًا فَيُؤَخِّرَهُ إلَى الصُّبْحِ ، أَوْ لِشِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ حَتَّى يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ ، أَوْ لِطَهَارَةٍ أَوْ إغْلَاقِ بَابٍ ، أَوْ لِيَخْرُجَ مِنْ الْحَمَّامِ ، أَوْ لِيُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ وَيَأْتِيَ بِالصَّلَاةِ وَسُنَنِهَا ، أَوْ لِيَشْهَدَهَا فِي جَمَاعَةٍ يَخَافُ فَوْتَهَا ، لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْحَوَائِجِ عَلَى غَيْرِهَا ، فَلَا يَكُونُ الِاشْتِغَالُ بِهَا رِضًى بِتَرْكِ الشُّفْعَةِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي حَاضِرًا عِنْدَهُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، فَيُمْكِنُهُ أَنْ يُطَالِبَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالِهِ عَنْ أَشْغَالِهِ ، فَإِنَّ شُفْعَتَهُ تَبْطُلُ بِتَرْكِهِ
الْمُطَالَبَةَ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَشْغَلُهُ عَنْهَا ، وَلَا تَشْغَلُهُ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ .
فَأَمَّا مَعَ غَيْبَتِهِ فَلَا ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَقْدِيمُ هَذِهِ الْحَوَائِجِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَأْخِيرُهَا ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُسْرِعَ فِي مَشْيِهِ ، أَوْ يُحَرِّكَ دَابَّتَهُ ، فَلَمْ يَفْعَلْ ، وَمَضَى عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ ، لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ .
وَإِذَا فَرَغَ مِنْ حَوَائِجِهِ ، مَضَى عَلَى حَسَبِ عَادَتِهِ إلَى الْمُشْتَرِي ، فَإِذَا لَقِيَهُ بَدَأَهُ بِالسَّلَامِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ السُّنَّةُ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ بَدَأَ بِالْكَلَامِ قَبْلَ السَّلَامِ ، فَلَا تُجِيبُوهُ } .
ثُمَّ يُطَالِبُ .
وَإِنْ قَالَ بَعْدَ السَّلَامِ : بَارَكَ اللَّهُ لَك فِي صَفْقَةِ يَمِينِك .
أَوْ دَعَا لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَّصِلُ بِالسَّلَامِ ، فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَتِهِ ، وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ فِي الصَّفْقَةِ دُعَاءٌ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الشِّقْصَ يَرْجِعُ إلَيْهِ ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رِضًى .
وَإِنْ اشْتَغَلَ بِكَلَامٍ آخَرَ ، أَوْ سَكَتَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ؛ لِمَا قَدَّمْنَا .
فَصْلٌ : فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِالْبَيْعِ مُخْبِرٌ ، فَصَدَّقَهُ ، وَلَمْ يُطَالِبْ بِالشُّفْعَةِ ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخْبِرُ مِمَّنْ يُقْبَلُ خَبَرُهُ أَوْ لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَحْصُلُ بِخَبَرِ مَنْ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ ، لِقَرَائِنَ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ .
وَإِنْ قَالَ : لَمْ أُصَدِّقْهُ .
وَكَانَ الْمُخْبِرُ مِمَّنْ يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِ ، كَرَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا حُجَّةٌ تَثْبُتُ بِهَا الْحُقُوقُ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُعْمَلُ بِقَوْلِهِ ، كَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ ، لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ يُعْمَلُ بِهِ فِي الشَّرْعِ ، فِي الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَشِبْهِهِ ، فَسَقَطَتْ بِهِ الشُّفْعَةُ ، كَخَبَرِ الْعَدْلِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ خَبَرٌ لَا يُقْبَلُ فِي الشَّرْعِ ، فَأَشْبَهَ قَوْلَ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ .
وَإِنْ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ عَدْلٌ ، أَوْ مَسْتُورُ الْحَالِ ، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَسْقُطَ .
وَيُرْوَى هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَزُفَرَ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ خَبَرٌ لَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهَادَةُ ، فَقُبِلَ مِنْ الْعَدْلِ ، كَالرِّوَايَةِ وَالْفُتْيَا وَسَائِرِ الْأَخْبَارِ الدِّينِيَّةِ .
وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ فَإِنَّهُ يُحْتَاطُ لَهَا بِاللَّفْظِ ، وَالْمَجْلِسِ ، وَحُضُورِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِنْكَارِهِ ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ يُعَارِضُهَا إنْكَارُ الْمُنْكِرِ ، وَتُوجِبُ الْحَقَّ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ هَذَا الْخَبَرِ .
وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ كَالرَّجُلِ ، وَالْعَبْدُ كَالْحُرِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : هُمَا كَالْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ ، كَالرِّوَايَةِ وَالْأَخْبَارِ الدِّينِيَّةِ .
وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ ، وَهَذَا مِمَّا عَدَاهَا ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ .
( 4024 ) فَصْلٌ : إذَا أَظْهَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ أَكْثَرُ مِمَّا وَقَعَ الْعَقْدُ بِهِ ، فَتَرَكَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ، لَمْ تَسْقُطْ الشُّفْعَةَ بِذَلِكَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَمَالِكٌ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ : مَا سَلَّمْت الشُّفْعَةَ إلَّا لِمَكَانِ الثَّمَنِ الْكَثِيرِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا شُفْعَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ وَرَضِيَ .
وَلَنَا أَنَّهُ تَرَكَهَا لِلْعُذْرِ ، فَإِنَّهُ لَا يَرْضَاهُ بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ ، وَيَرْضَاهُ بِالْقَلِيلِ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَعَهُ الْكَثِيرُ ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِذَلِكَ ، كَمَا لَوْ تَرَكَهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرَ أَنَّ الْمَبِيعَ سِهَامٌ قَلِيلَةٌ ، فَبَانَتْ كَثِيرَةً ، أَوْ أَظْهَرَ أَنَّهُمَا تَبَايَعَا بِدَنَانِيرَ ، فَبَانَ أَنَّهَا دَرَاهِمُ ، أَوْ بِدَرَاهِمَ فَبَانَتْ دَنَانِيرُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَزُفَرُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ : إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً ، سَقَطَتْ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا كَالْجِنْسِ الْوَاحِدِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا جِنْسَانِ ، فَأَشْبَهَا الثِّيَابَ وَالْحَيَوَانَ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَمْلِكُ بِالنَّقْدِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ دُونَ مَا أَظْهَرَهُ ، فَيَتْرُكُهُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ لَهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَقْدٍ ، فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِعَرْضٍ ، أَوْ بِعَرْضٍ فَبَانَ أَنَّهُ بِنَقْدٍ ، أَوْ بِنَوْعٍ مِنْ الْعَرْضِ فَبَانَ أَنَّهُ بِغَيْرِهِ ، أَوْ اشْتَرَاهُ مُشْتَرٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ ، أَوْ أَظْهَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لَهُ ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لَإِنْسَانٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْضَى شَرِكَةَ إنْسَانٍ دُونَ غَيْرِهِ ، وَقَدْ يُحَابِي إنْسَانًا أَوْ يَخَافُهُ ، فَيَتْرُكُ لِذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى الْكُلَّ بِثَمَنٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِنِصْفِهِ ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِثَمَنٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَهُ بِضِعْفِهِ ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى الشِّقْصَ
وَحْدَهُ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ هُوَ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَحْدَهُ ، لَمْ تَسْقُطْ الشُّفْعَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ .
لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِيمَا أَبْطَنَهُ دُونَ مَا أَظْهَرَهُ ، فَيَتْرُكُ لِذَلِكَ ، فَلَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ كَمَا لَوْ أَظْهَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ فَبَانَ أَقَلُّ مِنْهُ .
فَأَمَّا إنْ أَظْهَرَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِثَمَنٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَى الْكُلَّ بِثَمَنٍ فَبَانَ أَنَّهُ اشْتَرَى بِهِ بَعْضَهُ ، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِيمَا أَبْطَنَهُ أَكْثَرُ ، فَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ بِالثَّمَنِ الْقَلِيلِ مَعَ قِلَّةِ ضَرَرِهِ ، فَبِالْكَثِيرِ أَوْلَى .
( 4025 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَقِيَهُ الشَّفِيعُ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ فَلَمْ يُطَالِبْهُ ، وَقَالَ : إنَّمَا تَرَكْت الْمُطَالَبَةَ لِأُطَالِبَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْبَيْعُ ، أَوْ الْمَبِيعُ ، أَوْ لِآخُذَ الشِّقْصَ فِي مَوْضِعِ الشُّفْعَةِ .
سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعُذْرٍ فِي تَرْكِ الْمُطَالَبَةِ فَإِنَّهَا لَا تَقِفُ عَلَى تَسْلِيمِ الشِّقْصِ ، وَلَا عَلَى حُضُورِ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ .
وَإِنْ قَالَ : نَسِيت ، فَلَمْ أَذْكُرْ الْمُطَالَبَةَ .
أَوْ نَسِيت الْبَيْعَ .
سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا خِيَارٌ عَلَى الْفَوْرِ ، فَإِذَا أَخَّرَهُ نِسْيَانًا بَطَلَ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَكَمَا لَوْ أَمْكَنَتْ الْمُعْتَقَةُ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا نِسْيَانًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَسْقُطَ الْمُطَالَبَةُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهَا لِعُذْرِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَهَا لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهَا .
وَإِنْ تَرَكَهَا جَهْلًا بِاسْتِحْقَاقِهِ لَهَا ، بَطَلَتْ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ .
( 4026 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَالَ الشَّفِيعُ لِلْمُشْتَرِي : بِعْنِي مَا اشْتَرَيْت .
أَوْ قَاسِمْنِي .
بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِشِرَائِهِ وَتَرْكِهِ لِلشُّفْعَةِ .
وَإِنْ قَالَ : صَالِحْنِي عَلَى مَالٍ .
سَقَطَتْ .
أَيْضًا .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا تَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِإِسْقَاطِهَا ، وَإِنَّمَا رَضِيَ بِالْمُعَاوَضَةِ عَنْهَا ، وَلَمْ تَثْبُتْ الْمُعَاوَضَةُ ، فَبَقِيَتْ الشُّفْعَةُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ رَضِيَ بِتَرْكِهَا ، وَطَلَبَ عِوَضَهَا ، فَثَبَتَ التَّرْكُ الْمَرْضِيُّ بِهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْعِوَضُ .
كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْنِي .
فَلَمْ يَبِعْهُ .
وَلِأَنَّ تَرْكَ الْمُطَالَبَةِ بِهَا كَافٍ فِي سُقُوطِهَا ، فَمَعَ طَلَبِ عِوَضِهَا أَوْلَى .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
فَإِنْ صَالَحَهُ عَنْهَا بِعِوَضٍ ، لَمْ يَصِحَّ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ إزَالَةِ مِلْكٍ ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ كَتَمْلِيكِ امْرَأَةٍ أَمْرَهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ خِيَارٌ لَا يَسْقُطُ إلَى مَالٍ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ ، كَخِيَارِ الشَّرْطِ .
وَيَبْطُلُ مَا قَالَهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ .
وَأَمَّا الْخُلْعُ فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ عَمَّا مَلَكَهُ بِعِوَضٍ ، وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ .
( 4027 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : آخُذُ نِصْفَ الشِّقْصِ .
سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا تَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ طَلَبَهُ بِبَعْضِهَا طَلَبٌ بِجَمِيعِهَا ، لِكَوْنِهَا لَا تَتَبَعَّضُ ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ بَعْضِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَارِكٌ لِطَلَبِ بَعْضِهَا ، فَيَسْقُطُ ، وَيَسْقُطُ بَاقِيهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ .
وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ ؛ فَإِنَّ طَلَبَ بَعْضِهَا لَيْسَ بِطَلَبٍ لِجَمِيعِهَا ، وَمَا لَا يَتَبَعَّضُ لَا يَثْبُتُ حَتَّى يَثْبُتَ السَّبَبُ فِي جَمِيعِهِ ، كَالنِّكَاحِ .
وَيُخَالِفُ السُّقُوطَ ؛ فَإِنَّ الْجَمِيعَ يَسْقُطُ بِوُجُودِ السَّبَبِ فِي بَعْضِهِ ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .
( 4028 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَخَذَ الشِّقْصَ بِثَمَنٍ مَغْصُوبٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ اسْتَحَقَّ الشِّقْصَ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِذَا عَيَّنَهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ، سَقَطَ التَّعْيِينُ ، وَبَقِيَ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الذِّمَّةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَّرَ الثَّمَنَ ، أَوْ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا آخَرَ ، وَنَقَدَ فِيهِ ثَمَنًا مَغْصُوبًا .
وَالثَّانِي ، تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ لِلشِّقْصِ بِمَا لَا يَصِحُّ أَخْذُهُ بِهِ تَرْكٌ لَهُ ، وَإِعْرَاضٌ عَنْهُ ، فَتَسْقُطُ الشُّفْعَةُ ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الطَّلَبَ بِهَا .
( 4029 ) فَصْلٌ : وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ ، فَبَاعَ نَصِيبَهُ عَالِمًا بِذَلِكَ ، سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ مِلْكٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ ثَبَتَتْ لَهُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِالشَّرِكَةِ عَنْهُ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِبَيْعِهِ .
وَإِنْ بَاعَ بَعْضَهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، تَسْقُطُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا اُسْتُحِقَّتْ بِجَمِيعِهِ ، فَإِذَا بَاعَ بَعْضَهُ سَقَطَ مَا تَعَلَّقَ بِذَلِكَ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ ، فَيَسْقُطُ بَاقِيهَا ، لِأَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ ، فَيَسْقُطُ جَمِيعُهَا بِسُقُوطِ بَعْضِهَا ، كَالنِّكَاحِ وَالرِّقِّ ، وَكَمَا لَوْ عَفَا عَنْ بَعْضِهَا .
وَالثَّانِي ، لَا تَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ نَصِيبِهِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ فِي جَمِيعِ الْمَبِيعِ لَوْ انْفَرَدَ ، فَكَذَلِكَ إذَا بَقِيَ .
وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ الشُّفْعَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَفِي الثَّانِيَةِ إذَا قُلْنَا بِسُقُوطِ شُفْعَةِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمَبِيعِ ، وَإِنْ قُلْنَا : لَا تَسْقُطُ شُفْعَةُ الْبَائِعِ .
فَلَهُ أَخْذُ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ .
وَهَلْ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ شُفْعَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَهُ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَيَسْتَحِقُّ نَمَاءَهُ وَفَوَائِدَهُ ، وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِهِ مِنْ فَوَائِدِهِ .
وَالثَّانِي ، لَا شُفْعَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يُوجَدُ بِهَا ، فَلَا تُؤْخَذُ الشُّفْعَةُ بِهِ ، وَلِأَنَّ مِلْكَهُ مُتَزَلْزِلٌ ضَعِيفٌ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِهِ لِضَعْفِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَقَيْسُ ؛ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ أَخْذِهِ مِنْهُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهِ الشُّفْعَةَ ، كَالصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَالشِّقْصِ الْمَوْهُوبِ لِلْوَلَدِ .
فَعَلَى هَذَا لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الشُّفْعَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي ، سَوَاءٌ أَخَذَ مِنْهُ الْمَبِيعَ بِالشُّفْعَةِ أَوْ لَمْ يَأْخُذْ ، وَلِلْبَائِعِ الثَّانِي
إذَا بَاعَ بَعْضَ الشِّقْصِ الْأَخْذُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
فَأَمَّا إنْ بَاعَ الشَّفِيعُ مِلْكَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ أَيْضًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلِأَنَّهُ زَالَ السَّبَبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ ، وَهُوَ الْمِلْكُ الَّذِي يَخَافُ الضَّرَرَ بِسَبَبِهِ ، فَصَارَ كَمَنْ اشْتَرَى مَعِيبًا ، فَلَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهُ حَتَّى زَالَ أَوْ حَتَّى بَاعَهُ .
فَعَلَى هَذَا ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ بَاعَ مَعَ عِلْمِهِ ، سَوَاءٌ فِيمَا إذَا بَاعَ جَمِيعَهُ أَوْ بَعْضَهُ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ لَهُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ رِضًى بِتَرْكِهَا ، وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى إسْقَاطِهَا ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا فَتَبْقَى .
وَفَارَقَ مَا إذَا عَلِمَ ، فَإِنَّ بَيْعَهُ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِتَرْكِهَا ، فَعَلَى هَذَا ، لِلْبَائِعِ الثَّانِي أَخْذُ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ ، فَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَخْذُ الشِّقْصِ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ ، فَهَلْ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الْأَخْذُ مِنْ الثَّانِي ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
( 4030 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ كَانَ غَائِبًا ، وَعَلِمَ بِالْبَيْعِ فِي وَقْتِ قُدُومِهِ ، فَلَهُ الشُّفْعَةُ ، وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْغَائِبَ لَهُ شُفْعَةٌ .
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ : لَيْسَ لِلْغَائِبِ شُفْعَةٌ وَبِهِ قَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَالْبَتِّيُّ ، إلَّا لِلْغَائِبِ الْقَرِيبِ ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الشُّفْعَةِ لَهُ يَضُرُّ بِالْمُشْتَرِي ، وَيَمْنَعُ مِنْ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ وَتَصَرُّفِهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِيَارِهِ ، خَوْفًا مِنْ أَخْذِهِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ كَثُبُوتِهِ لِلْحَاضِرِ عَلَى التَّرَاخِي .
وَلَنَا ، عُمُومُ { قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } .
وَسَائِرُ الْأَحَادِيثِ ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ حَقٌّ مَالِيٌّ وُجِدَ سَبَبُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَائِبِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ ، كَالْإِرْثِ ، وَلِأَنَّهُ شَرِيكٌ لَمْ يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ ، فَتَثْبُتُ لَهُ الشُّفْعَةُ عِنْدَ عِلْمِهِ ، كَالْحَاضِرِ إذَا كُتِمَ عَنْهُ الْبَيْعُ ، وَالْغَائِبِ غَيْبَةً قَرِيبَةً ، وَضَرَرُ الْمُشْتَرِي يَنْدَفِعُ بِإِيجَابِ الْقِيمَةِ لَهُ ، كَمَا فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْبَيْعِ إلَّا وَقْتَ قُدُومِهِ ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِ ، فَتَرَاخِي الزَّمَانِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ لَا يُسْقِطُهُ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَمَتَى عَلِمَ فَحُكْمُهُ فِي الْمُطَالَبَةِ حُكْمُ الْحَاضِرِ ، فِي أَنَّهُ إنْ طَالَبَ عَلَى الْفَوْرِ اسْتَحَقَّ ، وَإِلَّا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ، وَحُكْمُ الْمَرِيضِ وَالْمَحْبُوسِ وَسَائِرِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْبَيْعَ لِعُذْرٍ حُكْمُ الْغَائِبِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
( 4031 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ عَلِمَ وَهُوَ فِي السَّفَرِ ، فَلَمْ يُشْهِدْ عَلَى مُطَالَبَتِهِ ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مَتَى عَلِمَ الْغَائِبُ بِالْبَيْعِ ، وَقَدَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ وَعَلَى الْمُطَالَبَةِ فَلَمْ يَفْعَلْ ، أَنَّ شُفْعَتَهُ تَسْقُطُ ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى التَّوْكِيلِ أَوْ عَجَزَ عَنْهُ ، أَوْ سَارَ عَقِيبَ الْعِلْمِ أَوْ أَقَامَ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ ، فِي الْغَائِبِ : لَهُ الشُّفْعَةُ إذَا بَلَغَهُ أَشْهَدَ ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ .
وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيِّ ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْهَادِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عُذْرُهُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَرَكَ الشُّفْعَةَ لِذَلِكَ .
فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الطَّلَبَ لِلْعُذْرِ ، وَقَدْ يَتْرُكُهُ لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ يَسِيرُ لِطَلَبِ الشُّفْعَةِ ، وَقَدْ يَسِيرُ لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ قَدَرَ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ سَقَطَتْ شُفْعَتُهُ ، كَتَارِكِ الطَّلَبِ مَعَ حُضُورِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ سَارَ عَقِيبَ عِلْمِهِ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ ، احْتَمَلَ أَنْ لَا تَبْطُلَ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ سَيْرِهِ أَنَّهُ لِلطَّلَبِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَالْعَنْبَرِيِّ ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِي .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَهُ مِنْ الْأَجَلِ بَعْدَ الْعِلْمِ قَدْرُ السَّيْرِ ، فَإِنْ مَضَى الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ أَوْ يَطْلُبَ ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ .
وَقَالَ الْعَنْبَرِيُّ : لَهُ مَسَافَةُ الطَّرِيقِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا ؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ فِي تَرْكِ الطَّلَبِ ظَاهِرٌ ، فَلَمْ يَحْتَجْ مَعَهُ إلَى الشَّهَادَةِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْإِشْهَادِ فِي سَفَرِهِ ، أَنَّ شُفْعَتَهُ لَا تَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي تَرْكِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ الطَّلَبَ لِعُذْرٍ أَوْ لِعَدَمِ الْعِلْمِ ، وَمَتَى قَدَرَ عَلَى الْإِشْهَادِ فَأَخَّرَهُ ، كَانَ كَتَأْخِيرِ الطَّلَبِ لِلشُّفْعَةِ ، إنْ كَانَ لِعُذْرٍ لَمْ
تَسْقُطْ الشُّفْعَةُ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ سَقَطَتْ ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّلَبِ ، وَنَائِبٌ عَنْهُ ، فَيُعْتَبَرُ لَهُ مَا يُعْتَبَرُ لِلطَّلَبِ .
وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى إشْهَادِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَاسِقِ ، فَتَرَكَ الْإِشْهَادَ ، لَمْ تَسْقُطْ شُفْعَتُهُ بِتَرْكِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، فَلَمْ يَلْزَمْ إشْهَادُهُمْ كَالْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ .
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ يُشْهِدُهُ إلَّا مَنْ لَا يَقْدَمُ مَعَهُ إلَى مَوْضِعِ الْمُطَالَبَةِ ، فَلَمْ يُشْهِدْ ، فَالْأَوْلَى أَنَّ شُفْعَتَهُ لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ إشْهَادَهُ لَا يُفِيدُ ، فَأَشْبَهَ إشْهَادَ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ .
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا مَسْتُورَيْ الْحَالِ ، فَلَمْ يُشْهِدْهُمَا ، احْتَمَلَ أَنْ تَبْطُلَ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالتَّزْكِيَةِ ، فَأَشْبَهَا الْعَدْلَيْنِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَبْطُلَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ شَهَادَتِهِمَا إلَى كُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ ، وَقَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَا تَقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ، وَإِنْ أَشْهَدَهُمَا لَمْ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ ، سَوَاءٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا أَوْ لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَشْبَهَ الْعَاجِزَ عَنْ الْإِشْهَادِ .
وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى إشْهَادِ وَاحِدٍ ، فَأَشْهَدَهُ ، أَوْ تَرَكَ إشْهَادَهُ .
فَصْلٌ : إذَا أَشْهَدَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ ، ثُمَّ أَخَّرَ الْقُدُومَ مَعَ إمْكَانِهِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الشُّفْعَةَ بِحَالِهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَسِيرِ ، وَقَدَرَ عَلَى التَّوْكِيلِ فِي طَلَبِهَا ، فَلَمْ يَفْعَلْ ، بَطَلَتْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلطَّلَبِ بِهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ، فَسَقَطَتْ ، كَالْحَاضِرِ ، أَوْ كَمَا لَوْ لَمْ يُشْهِدْ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، إلَّا أَنَّ لَهُمْ فِيمَا إذَا قَدَرَ عَلَى التَّوْكِيلِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا بِأَنْ يُطَالِبَ لِنَفْسِهِ ، لِكَوْنِهِ أَقُومَ بِذَلِكَ أَوْ يَخَافُ الضَّرَرَ مِنْ جِهَةِ وَكِيلِهِ ، بِأَنْ يُقِرَّ عَلَيْهِ بِرِشْوَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَيَلْزَمُهُ إقْرَارُهُ ، فَكَانَ مَعْذُورًا .
وَلَنَا ، أَنَّ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ ضَرَرًا ، لِالْتِزَامِهِ كُلْفَتَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَوَائِجُ وَتِجَارَةٌ يَنْقَطِعُ عَنْهَا ، وَتَضِيعُ بِغَيْبَتِهِ ، وَالتَّوْكِيلُ إنْ كَانَ بِجَعْلٍ لَزِمَهُ غُرْمٌ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ جَعْلٍ لَزِمَتْهُ مِنَّةٌ .
وَيَخَافُ الضَّرَرَ مِنْ جِهَتِهِ ، فَاكْتَفَى بِالْإِشْهَادِ .
فَأَمَّا إنْ تَرَكَ السَّفَرَ ، لِعَجْزِهِ عَنْهُ ، أَوْ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِيهِ ، لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ ، فَأَشْبَهَ مِنْ لَمْ يَعْلَمْ .
وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِشْهَادِ ، وَأَمْكَنَهُ السَّفَرُ أَوْ التَّوْكِيلُ ، فَلَمْ يَفْعَلْ ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِلطَّلَبِ بِهَا مَعَ إمْكَانِهِ ، مِنْ غَيْرِ وُجُودِ مَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّلَبِ ، فَسَقَطَتْ ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا .
( 4033 ) فَصْلٌ : وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا مَرَضًا لَا يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ ، كَالصُّدَاعِ الْيَسِيرِ ، وَالْأَلَمِ الْقَلِيلِ ، فَهُوَ كَالصَّحِيحِ .
وَإِنْ كَانَ مَرَضًا يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ ، كَالْحُمَّى وَأَشْبَاهِهَا ، فَهُوَ كَالْغَائِبِ فِي الْإِشْهَادِ وَالتَّوْكِيلِ .
وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ ، فَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا ظُلْمًا أَوْ بِدَيْنٍ لَا يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهُ ، فَهُوَ كَالْمَرِيضِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ، فَهُوَ كَالْمُطْلَقِ ، إنْ لَمْ يُبَادِرْ إلَى الْمُطَالَبَةِ ، وَلَمْ يُوَكِّلْ فِيهَا ، بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا .
( 4034 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى تَبَايَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ ، كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالشُّفْعَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ ، فَإِنْ طَالَبَ الْأَوَّلَ ، رَجَعَ الثَّانِي بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ ، وَالثَّالِثُ عَلَى الثَّانِي ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ ، أَوْ قَبْلَ عِلْمِهِ ، فَتَصَرُّفُهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَصَحَّ قَبْضُهُ لَهُ ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّ الشَّفِيعَ مَلَكَ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْبَيْعِ مَعِيبًا ، لَمْ يَمْنَعْ التَّصَرُّفَ فِي الْآخَرِ ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْهِبَةِ .
وَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ مِمَّنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ ، فَمَتَى تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا صَحِيحًا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ ، مِثْلُ أَنْ بَاعَهُ ، فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ وَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ بِثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ لَهُ قَبْلَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى تَصَرُّفَهُ وَأَخَذَ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ شَفِيعٌ فِي الْعَقْدَيْنِ ، فَكَانَ لَهُ الْأَخْذُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا .
وَإِنْ تَبَايَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ ، وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدَانِ الْأَخِيرَانِ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّانِي ، وَيَنْفَسِخُ الثَّالِثُ وَحْدَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّالِثِ ، وَلَا يَنْفَسِخُ شَيْءٌ مِنْ الْعُقُودِ ، فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْ الثَّالِثِ ، دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ الثَّانِي الثَّمَنَ دَفَعَ إلَيْهِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ ، وَرَجَعَ الثَّالِثُ عَلَيْهِ بِمَا أَعْطَاهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ انْفَسَخَ عَقْدُهُ ، وَأُخِذَ الشِّقْصُ مِنْهُ ، فَيَرْجِعُ بِثَمَنِهِ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ ، وَإِنْ أَخَذَ بِالْبَيْعِ
الْأَوَّلِ ، دَفَعَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ الثَّمَنَ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ ، وَانْفَسَخَ عَقْدُ الْآخَرَيْنِ ، وَرَجَعَ الثَّالِثُ عَلَى الثَّانِي بِمَا أَعْطَاهُ ، وَرَجَعَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ بِمَا أَعْطَاهُ ، فَإِذَا كَانَ الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ بِعَشْرَةٍ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الثَّانِي بِعِشْرِينَ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ الثَّالِثُ بِثَلَاثِينَ ، فَأَخَذَهُ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ ، دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ عَشَرَةً ، وَأَخَذَ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ عِشْرِينَ ، وَأَخَذَ الثَّالِثُ مِنْ الثَّانِي ثَلَاثِينَ ؛ لِأَنَّ الشِّقْصَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ الثَّالِثِ ، لِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ وَقَدْ انْفَسَخَ عَقْدُهُ ، فَيَرْجِعُ بِثَمَنِهِ الَّذِي وَرِثَهُ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِمَّا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةَ ، فَهُوَ كَالْبَيْعِ ، فِيمَا ذَكَرْنَا ، وَمَا كَانَ مِمَّا لَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ ، فَهُوَ كَالْهِبَةِ وَالْوَقْفِ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 4035 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الشِّقْصِ بِمَا لَا تَجِبُ بِهِ الشُّفْعَةُ ، كَالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ ، وَجَعْلِهِ مَسْجِدًا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لِلشَّفِيعِ فَسْخُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ ، وَيَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ الْبَيْعُ بِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ مَلَكَ فَسْخَ الْبَيْعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ، مَعَ إمْكَانِ الْأَخْذِ بِهِمَا ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ فَسْخَ عَقْدٍ لَا يُمْكِنُهُ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ أَسْبَقُ ، وَجَنْبَتُهُ أَقْوَى ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يُبْطِلُ حَقَّهُ .
وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَبْطُلَ الْوَقْفُ لِأَجْلِ حَقِّ الْغَيْرِ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ الْمَرِيضُ أَمْلَاكَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ ، رُدَّ الْوَقْفُ إلَى الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى ثُلُثِهِ ، بَلْ لَهُمْ إبْطَالُ الْعِتْقِ ، فَالْوَقْفُ أَوْلَى .
وَقَالَ الْقَاضِي : الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ ، وَبَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، إسْقَاطُ الشُّفْعَةِ فِيمَا إذَا تَصَرَّفَ بِالْوَقْفِ وَالْهِبَةِ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْمَاسَرْجِسِيِّ فِي الْوَقْفِ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْمَمْلُوكِ ، وَقَدْ خَرَجَ هَذَا عَنْ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : مَنْ اشْتَرَى دَارًا ، فَجَعَلَهَا مَسْجِدًا ، فَقَدْ اسْتَهْلَكَهَا ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهَا .
وَلِأَنَّ فِي الشُّفْعَةِ هَاهُنَا إضْرَارًا بِالْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ عَنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُ إذَا فَسَخَ الْبَيْعَ الثَّانِيَ ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ ، فَلَا يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ هَاهُنَا يُوجِبُ رَدَّ الْعِوَضِ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ ، وَسَلْبَهُ عَنْ الْمَالِكِ ، فَإِذَا قُلْنَا بِسُقُوطِ الشُّفْعَةِ ، فَلَا كَلَامَ ، وَإِنْ قُلْنَا بِثُبُوتِهَا ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ مِمَّنْ هُوَ
فِي يَدِهِ ، وَيَفْسَخُ عَقْدَهُ ، وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِلْكَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الشَّفِيعَ يُبْطِلُ الْهِبَةَ ، وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَهَبَ ، كَانَ الثَّمَنُ لَهُ ، كَذَلِكَ بَعْدَ الْهِبَةِ الْمَفْسُوخَةِ .
( 4036 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَعَلَهُ صَدَاقًا ، أَوْ عِوَضًا فِي خُلْعٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْ دَمٍ عَمْدٍ ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ : فَإِنْ قَايَلَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ ، أَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ ، فَلِلشَّفِيعِ فَسْخُ الْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ سَابِقٌ عَلَيْهِمَا ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْأَخْذُ مَعَهُمَا .
وَإِنْ تَحَالَفَا عَلَى الثَّمَنِ ، وَفَسَخَا الْبَيْعَ ، فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُقِرٌّ بِالْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَمُقِرٌّ لِلشَّفِيعِ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِذَلِكَ ، فَإِذَا بَطَلَ حَقُّ الْمُشْتَرِي بِإِنْكَارِهِ ، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الشَّفِيعِ بِذَلِكَ ، وَلَهُ أَنْ يُبْطِلَ فَسْخَهُمَا وَيَأْخُذَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى شِقْصًا بِعَبْدٍ ، ثُمَّ وَجَدَ بَائِعُ الشِّقْصِ بِالْعَبْدِ عَيْبًا ، فَلَهُ رَدُّ الْعَبْدِ وَاسْتِرْجَاعُ الشِّقْصِ ، وَيُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ حَقِّ الشَّفِيعِ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ ، بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الْفَسْخِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ ، وَالشُّفْعَةُ تَثْبُتُ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ ، فَلَا تَثْبُتُ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهَا الضَّرَرُ ، فَإِنَّ الضَّرَرَ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : يُقَدَّمُ حَقُّ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ أَسْبَقُ ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ ، كَمَا لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالشِّقْصِ عَيْبًا فَرَدَّهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ فِي الشُّفْعَةِ إبْطَالَ حَقِّ الْبَائِعِ ، وَحَقُّهُ أَسْبَقُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ إلَى وُجُودِ الْعَيْبِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ حَالَ الْبَيْعِ ، وَالشُّفْعَةُ ثَبَتَتْ بِالْبَيْعِ ، فَكَانَ حَقُّ الْبَائِعِ سَابِقًا ، وَفِي الشُّفْعَةِ إبْطَالُهُ ، فَلَمْ تَثْبُتْ ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ الشِّقْصُ مَعِيبًا ، فَإِنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي إنَّمَا هُوَ فِي اسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ ، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الشَّفِيعِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا حَقُّ الْبَائِعُ فِي اسْتِرْجَاعِ الشِّقْصِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَعَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، فَافْتَرَقَا .
فَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الْعَبْدَ الْمَعِيبَ حَتَّى أَخَذَ الشَّفِيعُ ، كَانَ لَهُ رَدُّ الْعَبْدِ ، وَلَمْ يَمْلِكْ اسْتِرْجَاعَ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ مَلَكَهُ بِالْأَخْذِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْبَائِعُ إبْطَالَ مِلْكِهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي لِأَجْنَبِيٍّ ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّالِفِ ، وَالْمُشْتَرِي قَدْ أَخَذَ مِنْ الشَّفِيعِ قِيمَةَ الْعَبْدِ ، فَهَلْ يَتَرَجَّعَانِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَتَرَاجَعَانِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ أَخَذَ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ ، وَهُوَ قِيمَةُ الْعَبْدِ صَحِيحًا لَا عَيْبَ فِيهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ مَلَكَ رَدَّهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ مَعِيبًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَى عَبْدًا مَعِيبًا ، فَلَا يَأْخُذُ قِيمَةَ غَيْرِ مَا أَعْطَى .
وَالثَّانِي ، يَتَرَاجَعَانِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ قِيمَةُ الشِّقْصِ ، فَإِذَا قُلْنَا : يَتَرَاجَعَانِ .
فَأَيُّهُمَا كَانَ مَا دَفَعَهُ أَكْثَرَ ، رَجَعَ بِالْفَضْلِ عَلَى صَاحِبَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْبَائِعُ الْعَبْدَ ، وَلَكِنْ أَخَذَ أَرْشَهُ ، لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَفَعَ إلَيْهِ قِيمَةَ الْعَبْدِ غَيْرَ مَعِيبٍ .
وَإِنْ أَدَّى قِيمَتَهُ مَعِيبًا رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ ، بِمَا أَدَّى مِنْ أَرْشِهِ .
وَإِنْ عَفَا عَنْهُ ، وَلَمْ يَأْخُذْ أَرْشًا ، لَمْ يَرْجِعْ الشَّفِيعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي ، لَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَطَّ عَنْهُ بَعْضَ الثَّمَنِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ .
وَإِنْ عَادَ الشِّقْصُ إلَى الْمُشْتَرِي ، بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ إرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَخْذُهُ بِالْبَيْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي زَالَ عَنْهُ ، وَانْقَطَعَ حَقُّهُ مِنْهُ ، وَانْتَقَلَ حَقُّهُ إلَى الْقِيمَةِ ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَبْقَ لَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ غَصَبَ شَيْئًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ ، فَأَدَّى قِيمَتَهُ ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ .
( 4038 ) فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ ثَمَنُ الشِّقْصِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، فَتَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ ، بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَبَطَلَتْ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ ، فَتَعَذَّرَ إمْضَاءُ الْعَقْدِ ، فَلَمْ تَثْبُت الشُّفْعَةُ ، كَمَا لَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ .
وَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ أَخَذَ الشِّقْصَ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ؛ لِأَنَّ لِمُشْتَرِي الشِّقْصِ التَّصَرُّفَ فِيهِ قَبْلَ تَقْبِيضِ ثَمَنِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ أَجْنَبِيٌّ .
( 4039 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى شِقْصًا بِعَبْدٍ أَوْ ثَمَنٍ مُعَيَّنٍ ، فَخَرَجَ مُسْتَحَقًّا ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ فِي عَقْدٍ يَنْقُلُ الْمِلْكَ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَهُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ ، فَأَمَّا الْبَاطِلُ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .
فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ قَدْ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ ، لَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَ عَلَى الْبَائِعِ ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ مِنْ الشَّفِيعِ وَالْمُتَبَايِعِينَ فَإِنْ أَقَرَّ الْمُتَبَايِعَانِ ، وَأَنْكَرَ الشَّفِيعُ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا عَلَيْهِ ، وَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ ، وَيُرَدُّ الْعَبْدُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الشِّقْصِ .
وَإِنْ أَقَرَّ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ ، لَمْ تَثْبُتَ الشُّفْعَةُ ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ قِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَيَبْقَى الشِّقْصُ مَعَهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ لِلْبَائِعِ ، وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ ، وَيَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ رَدِّ الْعَبْدِ ، وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ ، فَيَشْتَرِي الشِّقْصَ مِنْهُ ، وَيَتَبَارَآنِ .
وَإِنْ أَقَرَّ الشَّفِيعُ وَالْبَائِعُ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي ، وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الْعَبْدِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَلَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْبَائِعُ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ ، وَقَدْ أَدَّى ثَمَنَهُ الَّذِي هُوَ مِلْكُهُ فِي الظَّاهِرِ .
وَإِنْ أَقَرَّ الشَّفِيعُ وَحْدَهُ ، لَمْ تَثْبُتْ الشُّفْعَةُ ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْبُطْلَانِ فِي حَقِّ الْمُتَبَايِعَيْنِ .
فَأَمَّا إنَّ اشْتَرَى الشِّقْصَ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ ، ثُمَّ نَفِدَ الثَّمَنُ فَبَانَ مُسْتَحَقًّا ، كَانَتْ الشُّفْعَةُ وَاجِبَةً ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ قَبْضُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي لِإِعْسَارِهِ أَوْ غَيْرِهِ ، فَلِلْبَائِعِ فَسْخُ الْبَيْعِ ، وَيُقَدَّمُ حَقُّ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِهَا يَحْصُلُ لِلْمُشْتَرِي مَا يُوفِيه ثَمَنًا ، فَتَزُولُ عُسْرَتُهُ ، وَيَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ ، فَكَانَ
أَوْلَى .
( 4040 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِهَا ، وَالشِّقْصُ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي ، فَقَالَ الْبَائِعُ لِلشَّفِيعِ : أَقِلْنِي .
فَأَقَالَهُ ، لَمْ تَصِحَّ الْإِقَالَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَصِحُّ بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ ، وَلَيْسَ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْبَائِعِ بَيْعٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُشْتَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي .
فَإِنْ بَاعَهُ إيَّاهُ ، صَحَّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ .
( 4041 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلِلصَّغِيرِ إذَا كَبِرَ الْمُطَالَبَةُ بِالشُّفْعَةِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّهُ إذَا بِيعَ فِي شَرِكَةِ الصَّغِيرِ شِقْصٌ ، ثَبَتَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَسَوَّارٌ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا شُفْعَةَ لَهُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ النَّخَعِيِّ ، وَالْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُمْكِنُهُ الْأَخْذُ ، وَلَا يُمْكِنُ انْتِظَارُهُ حَتَّى يَبْلُغَ .
لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُشْتَرِي ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ الْأَخْذُ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ .
وَلَنَا ، عُمُومُ الْأَحَادِيثِ ، وَلِأَنَّهُ خِيَارٌ جُعِلَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِ ، فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ .
وَقَوْلُهُمْ : لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ .
غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ بِهَا ، كَمَا يَرُدُّ الْمَعِيبَ .
قَوْلُهُمْ : لَا يُمْكِنُهُ الْعَفْوُ .
يَبْطُلُ بِالْوَكِيلِ فِيهِ ، وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، فَإِنَّ وَلِيَّ الصَّبِيِّ لَا يُمْكِنُهُ الْعَفْوُ ، وَيُمْكِنُهُ الرَّدُّ .
وَلِأَنَّ فِي الْأَخْذِ تَحْصِيلًا لِلْمِلْكِ لِلصَّبِيِّ ، وَنَظَرًا لَهُ ، وَفِي الْعَفْوِ تَضْيِيعٌ وَتَفْرِيطٌ فِي حَقِّهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مِلْكِ مَا فِيهِ الْحَظُّ مِلْكُ مَا فِيهِ تَضْيِيعٌ ، وَلِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ ، وَالْأَخْذَ اسْتِيفَاءٌ لَهُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مِلْكِ الْوَلِيِّ اسْتِيفَاءَ حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، مِلْكُ إسْقَاطِهِ ، بِدَلِيلِ سَائِرِ حُقُوقِهِ وَدُيُونِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ الْوَلِيُّ ، اُنْتُظِرَ بُلُوغُ الصَّبِيِّ ، كَمَا يُنْتَظَرُ قُدُومُ الْغَائِبِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الضَّرَرِ فِي الِانْتِظَارِ ، يَبْطُلُ بِالْغَائِبِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ لِلصَّغِيرِ إذَا كَبِرَ الْأَخْذَ بِهَا ، سَوَاءٌ عَفَا عَنْهَا الْوَلِيُّ أَوْ لَمْ يَعْفُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَظُّ فِي الْأَخْذِ بِهَا ، أَوْ فِي تَرْكِهَا .
وَهُوَ
ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ : لَهُ الشُّفْعَةُ إذَا بَلَغَ فَاخْتَارَ .
وَلَمْ يُفَرِّقْ .
وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَزُفَرَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَحَكَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلشُّفْعَةِ يَمْلِكُ الْأَخْذَ بِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ الْحَظُّ فِيهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَرْكِ غَيْرِهِ ، كَالْغَائِبِ إذَا تَرَكَ وَكِيلُهُ الْأَخْذَ بِهَا .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : إنْ تَرَكَهَا الْوَلِيُّ لِحَظِّ الصَّبِيِّ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلصَّبِيِّ مَا يَأْخُذُهَا بِهِ ، سَقَطَتْ وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ فَعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ لِلصَّبِيِّ نَقْضُهُ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِلصَّبِيِّ ، فَصَحَّ ، كَالْأَخْذِ مَعَ الْحَظِّ .
وَإِنْ تَرَكَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ ، لَمْ تَسْقُطْ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَسْقُطُ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ عَنْهَا فِي الْحَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ مَنْ مَلَكَ الْأَخْذَ بِهَا مَلَكَ الْعَفْوَ عَنْهَا ، كَالْمَالِكِ .
وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقًّا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، لَا حَظَّ لَهُ فِي إسْقَاطِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْإِبْرَاءِ ، وَإِسْقَاطِ خِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ .
وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْوَلِيِّ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ لِلْمَالِكِ التَّبَرُّعَ وَالْإِبْرَاءَ وَمَا لَا حَظَّ لَهُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْوَلِيِّ .
( 4042 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَلِيُّ ، فَإِنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ حَظٌّ فِي الْأَخْذِ بِهَا ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ رَخِيصًا ، أَوْ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَلِلصَّبِيِّ مَالٌ لِشِرَاءِ الْعَقَارِ ، لَزِمَ وَلِيَّهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطَ لَهُ ، وَالْأَخْذَ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ ، فَإِذَا أَخَذَ بِهَا ، ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلصَّبِيِّ ، وَلَمْ يَمْلِكْ نَقْضَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَيْسَ لِلْوَلِيِّ الْأَخْذُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ عَنْهَا ، فَلَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ بِهَا ، كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِهَا الصَّبِيُّ إذَا كَبِرَ .
وَلَا يَصِحُّ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ جُعِلَ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِ ، فَمَلَكَهُ الْوَلِيُّ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ ، كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فَسَادَ قِيَاسِهِ فِيمَا مَضَى .
فَإِنْ تَرَكَهَا الْوَلِيُّ مَعَ الْحَظِّ فَلِلصَّبِيِّ الْأَخْذُ بِهَا إذَا كَبِرَ ، وَلَا يَلْزَمُ الْوَلِيَّ لِذَلِكَ غُرْمٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَ تَحْصِيلَ مَالَهُ الْحَظُّ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ شِرَاءَ الْعَقَارِ لَهُ مَعَ الْحَظِّ فِي شِرَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهَا ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ غِبْنَ ، أَوْ كَانَ فِي الْأَخْذِ بِهَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَقْرِضَ وَيَرْهَنَ مَالَ الصَّبِيِّ ، فَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ فِعْلَ مَا لَا حَظَّ لِلصَّبِيِّ فِيهِ .
فَإِنْ أَخَذَ ، فَهَلْ يَصِحُّ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَصِحُّ ، وَيَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ مَا لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِزِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ ، أَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ ، وَلَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ الْمَبِيعَ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تُؤْخَذُ بِحَقِّ الشَّرِكَةِ ، وَلَا شَرِكَةَ لِلْوَلِيِّ ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْأَخْذَ لِنَفْسِهِ ، لَمْ
يَصِحَّ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَزَوَّجَ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بَاطِلًا ، وَلَا يَصِحُّ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا كَذَا هَاهُنَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يَصِحُّ الْأَخْذُ لِلصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ مَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ الضَّرَرُ بِهِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى مَعِيبًا لَا يَعْلَمُ عَيْبَهُ ، وَالْحَظُّ يَخْتَلِفُ وَيَخْفَى ، فَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَظٌّ فِي الْأَخْذِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ ، لِزِيَادَةِ قِيمَةِ مِلْكِهِ وَالشِّقْصِ الَّذِي يَشْتَرِيه بِزَوَالِ الشَّرِكَةِ ، أَوْ لِأَنَّ الضَّرَرَ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِأَخْذِهِ كَثِيرٌ ، فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْحَظِّ بِنَفْسِهِ لِخَفَائِهِ ، وَلَا بِكَثْرَةِ الثَّمَنِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ ، وَصَحَّ الْبَيْعُ .
( 4043 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ وَصِيُّ الْأَيْتَامِ ، فَبَاعَ لِأَحَدِهِمْ نَصِيبًا فِي شَرِكَةِ آخَرَ ، كَانَ لَهُ الْأَخْذُ لِلْآخَرِ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَالشِّرَاءِ لَهُ .
وَإِنْ كَانَ الْوَصِيُّ شَرِيكًا لِمَنْ بَاعَ عَلَيْهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَخْذُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي بَيْعِهِ ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَشْتَرِي لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ يَتِيمِهِ .
وَلَوْ بَاعَ الْوَصِيُّ نَصِيبَهُ ، كَانَ لَهُ الْأَخْذُ لِلْيَتِيمِ بِالشُّفْعَةِ ، إذَا كَانَ لَهُ الْحَظُّ فِيهَا ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي ثَمَنِهِ ، لِكَوْنِ الْمُشْتَرِي لَا يُوَافِقُهُ ، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ حَاصِلٌ لَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ، كَحُصُولِهِ مِنْ الْيَتِيمِ ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ مَالَ الْيَتِيمِ ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ تَقْلِيلُ الثَّمَنِ لِيَأْخُذَ الشِّقْصَ بِهِ ، فَإِذَا رُفِعَ الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ ، فَبَاعَ عَلَيْهِ ، فَلِلْوَصِيِّ الْأَخْذُ حِينَئِذٍ ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْوَصِيِّ أَبٌ ، فَبَاعَ شِقْصَ الصَّبِيِّ ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ مَالَ وَلَدِهِ ، لِعَدَمِ التُّهْمَةِ .
وَإِنْ بِيعَ شِقْصٌ فِي شَرِكَةِ حَمْلٍ ، لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمْلِيكُهُ بِغَيْرِ الْوَصِيَّةِ .
وَإِذَا وُلِدَ الْحَمْلُ ثُمَّ كَبِرَ ، فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ ، كَالصَّبِيِّ إذَا كَبِرَ .
( 4044 ) فَصْلٌ : وَإِذَا عَفَا وَلِي الصَّبِيِّ عَنْ شُفْعَتِهِ الَّتِي لَهُ فِيهَا حَظٌّ ، ثُمَّ أَرَادَ الْأَخْذَ بِهَا ، فَلَهُ ذَلِكَ ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْقُطْ بِإِسْقَاطِهِ ، وَلِذَلِكَ مَلَكَ الصَّبِيُّ الْأَخْذَ بِهَا إذَا كَبِرَ ، وَلَوْ سَقَطَتْ لَمْ يَمْلِكْ الْأَخْذَ بِهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْأَخْذَ بِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى التَّرَاخِي ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى .
وَيُخَالِفُ أَخْذَ الصَّبِيِّ بِهَا إذَا كَبِرَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَتَجَدَّدُ لَهُ عِنْدَ كِبَرِهِ ، فَلَا يَمْلِكُ تَأْخِيرَهُ حِينَئِذٍ ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ الْغَائِبِ بِهَا إذَا قَدِمَ .
فَأَمَّا إنْ تَرَكَهَا لِعَدَمِ الْحَظِّ فِيهَا ، ثُمَّ أَرَادَ الْأَخْذَ بِهَا ، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ كَمَا لَمْ يَمْلِكْهُ ابْتِدَاءً .
وَإِنْ صَارَ فِيهَا حَظٌّ ، أَوْ كَانَ مُعْسِرًا عِنْدَ الْبَيْعِ فَأَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِهَا بِذَلِكَ ؛ فَإِنْ قُلْنَا : لَا تَسْقُطُ ، وَلِلصَّبِيِّ الْأَخْذُ بِهَا إذَا كَبِرَ .
فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا فِيهِ الْحَظُّ ، وَإِنْ قُلْنَا : تَسْقُطُ .
فَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِهَا بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ سَقَطَتْ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَفَا الْكَبِيرُ عَنْ شُفْعَتِهِ .
( 4045 ) فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ فِي الْمَجْنُونِ الْمُطْبَقِ كَالْحُكْمِ فِي الصَّبِيِّ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحَظِّهِ ، وَكَذَلِكَ السَّفِيهُ لِذَلِكَ ، وَأَمَّا الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْغَائِبِ وَالْمَجْنُونِ يُنْتَظَرُ إفَاقَتُهُ .
وَأَمَّا الْمُفْلِسُ ، فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ ، وَالْعَفْوُ عَنْهَا ، وَلَيْسَ لِغُرَمَائِهِ الْأَخْذُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ فِي أَمْلَاكِهِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا ، وَلَا إجْبَارُهُ عَلَى الْأَخْذِ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا ، كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ .
وَلَيْسَ لَهُمْ إجْبَارُهُ عَلَى الْعَفْوِ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ .
وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ
حَظٌّ فِي الْأَخْذِ بِهَا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَيْسَ بِمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، لَكِنْ لَهُمْ مَنْعُهُ مِنْ دَفْعِ مَالِهِ فِي ثَمَنِهَا ؛ لِتَعَلُّقِ حُقُوقِهِمْ بِمَالِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ شِقْصًا غَيْرَ هَذَا .
وَمَتَى مَلَكَ الشِّقْصَ الْمَأْخُوذَ بِالشُّفْعَةِ ، تَعَلَّقَتْ حُقُوقُ الْغُرَمَاءِ بِهِ ، سَوَاءٌ أَخَذَهُ بِرِضَاهُمْ أَوْ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اكْتَسَبَهُ .
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ ، فَلَهُ الْأَخْذُ وَالتَّرْكُ ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ يَقَعُ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ .
فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ الْعَبِيدِ ، فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي الشِّرَاءِ ، وَإِنْ عَفَا عَنْهَا لَمْ يَنْفُذْ عَفْوُهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِسَيِّدِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي إبْطَالِ حُقُوقِهِ .
وَإِنْ أَسْقَطَهَا السَّيِّدُ ، سَقَطَتْ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ ؛ لِأَنَّ لِلسَّيِّدِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ أَسْقَطَهُ مُسْتَحِقُّهُ ، فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ .
( 4046 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بِيعَ شِقْصٌ فِي شَرِكَةِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَلِلْعَامِلِ الْأَخْذُ بِهَا إذَا كَانَ الْحَظُّ فِيهَا ، فَإِنْ تَرَكَهَا فَلِرَبِّ الْمَالِ الْأَخْذُ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مِلْكُهُ .
وَلَا يَنْفُذُ عَفْوُ الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَنْفُذْ عَفْوُهُ ، كَالْمَأْذُونِ لَهُ .
وَإِنْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ شِقْصًا فِي شَرِكَةِ رَبِّ الْمَالِ ، فَهَلْ لِرَبِّ الْمَالِ فِيهِ شُفْعَةٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، مَبْنِيَّيْنِ عَلَى شِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا .
وَإِنْ كَانَ الْمُضَارِبُ شَفِيعَهُ ، وَلَا رِبْحَ فِي الْمَالِ ، فَلَهُ الْأَخْذُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِغَيْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ ، وَقُلْنَا : لَا يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ .
فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ قُلْنَا : يَمْلِكُ بِالظُّهُورِ .
فَفِيهِ وَجْهَانِ كَرَبِّ الْمَالِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
فَإِنْ بَاعَ الْمُضَارِبُ شِقْصًا فِي شَرِكَتِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُهُ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فَأَشْبَهَ شِرَاءَهُ مِنْ نَفْسِهِ .
( 4047 ) فَصْلٌ : وَلَا شُفْعَةَ بِشَرِكَةِ الْوَقْفِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِيَانِ ؛ ابْنُ أَبِي مُوسَى ، وَأَبُو يَعْلَى ، وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ ، فَلَا تَجِبُ فِيهِ ، كَالْمُجَاوِرِ وَغَيْرِ الْمُنْقَسِمِ ، وَلِأَنَّنَا إنْ قُلْنَا : هُوَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ .
فَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ غَيْرُ مَالِكٍ ، وَإِنْ قُلْنَا : هُوَ مَمْلُوكٌ .
فَمِلْكُهُ غَيْرُ تَامٍّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إبَاحَةَ التَّصَرُّفِ فِي الرَّقَبَةِ ، فَلَا يَمْلِكُ بِهِ مِلْكًا تَامًّا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إنَّ قُلْنَا : هُوَ مَمْلُوكٌ .
وَجَبَتْ بِهِ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِيعَ فِي شَرِكَتِهِ شِقْصٌ ، فَوَجَبَتْ بِهِ الشُّفْعَةُ كَالطَّلْقِ ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِالشُّفْعَةِ كَالطَّلْقِ ، فَوَجَبَتْ فِيهِ ، كَوُجُوبِهَا فِي الطَّلْقِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بَيْعٌ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
( 4048 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ قِيمَةَ بِنَائِهِ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ بِنَاءَهُ ، فَلَهُ ذَلِكَ ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي أَخْذِهِ ضَرَرٌ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ بِنَاءُ الْمُشْتَرِي وَغَرْسُهُ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ فِي مَسَائِلَ : مِنْهَا ، أَنْ يُظْهِرَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ وُهِبَ لَهُ ، أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الشَّفِيعَ مِنْ الْأَخْذِ بِهَا ، فَيَتْرُكُهَا وَيُقَاسِمُهُ ، ثُمَّ يَبْنِي الْمُشْتَرِي وَيَغْرِسُ فِيهِ .
وَمِنْهَا ، أَنْ يَكُونَ غَائِبًا فَيُقَاسِمَهُ وَكِيلُهُ ، أَوْ صَغِيرًا فَيُقَاسِمَهُ وَلِيُّهُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَقْدَمُ الْغَائِبُ ، أَوْ يَبْلُغُ الصَّغِيرُ ، فَيَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ صَغِيرًا ، فَطَالَبَ الْمُشْتَرِي الْحَاكِمَ بِالْقِسْمَةِ ، فَقَاسَمَ ، ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ ، وَبَلَغَ الصَّغِيرُ ، فَأَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ غَرْسِ الْمُشْتَرِي وَبِنَائِهِ ، فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي قَلْعَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ ، إنْ اخْتَارَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، فَإِذَا قَلَعَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَسْوِيَةُ الْحَفْرِ ، وَلَا نَقْصِ الْأَرْضِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ غَرَسَ وَبَنَى فِي مِلْكِهِ ، وَمَا حَدَثَ مِنْ النَّقْصِ إنَّمَا حَدَثَ فِي مِلْكِهِ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ عَلَيْهِ ضَمَانَ النَّقْصِ الْحَاصِلِ بِالْقَلْعِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ عَدَمَ الضَّرَرِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ نَقْصٌ دَخَلَ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ تَخْلِيصِ مِلْكِهِ ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ ، كَمَا لَوْ كَسَرَ مِحْبَرَةَ غَيْرِهِ لِإِخْرَاجِ دِينَارِهِ مِنْهَا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ النَّقْصَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ .
لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ النَّقْصَ الْحَاصِلَ بِالْقَلْعِ إنَّمَا هُوَ فِي مِلْكِ الشَّفِيعِ .
فَأَمَّا نَقْصُ الْأَرْضِ الْحَاصِلُ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ فَلَا يَضْمَنُهُ ؛ لِمَا ذَكَرُوهُ .
فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ
الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ ، فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ؛ تَرْكِ الشُّفْعَةِ ، وَبَيْنَ دَفْعِ قِيمَةِ الْغِرَاسِ وَالْبِنَاءِ فَيَمْلِكُهُ مَعَ الْأَرْضِ ، وَبَيْنَ قَلْعِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ ، وَيَضْمَنُ لَهُ مَا نَقَصَ بِالْقَلْعِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَمَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْبَتِّيُّ ، وَسَوَّارٌ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُكَلِّفُ الْمُشْتَرِي الْقَلْعَ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ بَنَى فِيمَا اسْتَحَقَّ غَيْرُهُ أَخْذَهُ ، فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ ، وَلِأَنَّهُ بَنَى فِي حَقِّ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَانَتْ مُسْتَحَقَّةً .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } .
وَلَا يَزُولُ الضَّرَرُ عَنْهُمَا إلَّا بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِهِ الَّذِي تَمَلَّكَ بَيْعَهُ ، فَلَمْ يُكَلَّفْ قَلْعَهُ مَعَ الْإِضْرَارِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَشْفُوعًا .
وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ عِرْقٌ ظَالِمٌ ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ، فَإِنَّهُ غَيْرُ ظَالِمٍ ، فَيَكُونُ لَهُ حَقٌّ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ قِيمَتِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْبَقَاءِ فِي الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ ، وَلَا قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ قِيمَتُهُ مَقْلُوعًا لَمَلَكَ قَلْعَهُ ، وَلَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ إذَا قَلَعَهُ .
وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا كَيْفِيَّةَ وُجُوبِ الْقِيمَةِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَرْضَ تُقَوَّمُ وَفِيهَا الْغِرَاسُ وَالْبِنَاءُ ، ثُمَّ تُقَوَّمُ خَالِيَةً مِنْهُمَا ، فَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا قِيمَةَ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ ، فَيَدْفَعُهُ الشَّفِيعُ إلَى الْمُشْتَرِي إنْ أَحَبَّ ، أَوْ مَا نَقَصَ مِنْهُ إنْ اخْتَارَ الْقَلْعَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي زَادَ بِالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَوَّمَ الْغَرْسُ
وَالْبِنَاءُ مُسْتَحِقًّا لِلتَّرْكِ بِالْأُجْرَةِ أَوْ لِأَخْذِهِ بِالْقِيمَةِ إذَا امْتَنَعَا مِنْ قَلْعِهِ ، فَإِنْ كَانَ لِلْغَرْسِ وَقْتٌ يُقْلَعُ فِيهِ فَيَكُونُ لَهُ قِيمَةٌ ، وَإِنْ قُلِعَ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ ، أَوْ تَكُونُ قِيمَتُهُ قَلِيلَةً ، فَاخْتَارَ الشَّفِيعُ قَلْعَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ النَّقْصَ فَيَجْبُرُ بِهِ ضَرَرَ الْمُشْتَرِي ، سَوَاءٌ كَثُرَ النَّقْصُ أَوْ قَلَّ ، وَيَعُودُ ضَرَرُ كَثْرَةِ النَّقْصِ عَلَى الشَّفِيعِ ، وَقَدْ رَضِيَ بِاحْتِمَالِهِ .
وَإِنْ غَرَسَ أَوْ بَنَى مَعَ الشَّفِيعِ أَوْ وَكِيلِهِ فِي الْمُشَاعِ ، ثُمَّ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ ، فَالْحُكْمُ فِي أَخْذِ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ كَالْحُكْمِ فِي أَخْذِ جَمِيعِهِ بَعْدَ الْمُقَاسَمَةِ .
( 4049 ) فَصْلٌ : وَإِنْ زَرَعَ فِي الْأَرْضِ ، فَلِلشَّفِيعِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ ، وَيَبْقَى زَرْعُ الْمُشْتَرِي إلَى أَوَانِ الْحَصَادِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ لَا يَتَبَاقَى ، وَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ زَرَعَهُ فِي مِلْكِهِ ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ اشْتَرَى الْأَرْضَ وَفِيهَا زَرْعٌ لِلْبَائِعِ ، فَكَانَ لَهُ مُبْقًى إلَى الْحَصَادِ بِلَا أُجْرَةٍ ، كَغَيْرِ الْمَشْفُوعِ .
وَإِنْ كَانَ فِي الشَّجَرِ ثَمَرٌ ظَاهِرٌ ، أَثْمَرَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، فَهُوَ لَهُ مُبْقًى إلَى الْجُذَاذِ ، كَالزَّرْعِ .
( 4050 ) فَصْلٌ : وَإِذَا نَمَا الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَكُونَ نَمَاءً مُتَّصِلًا ، كَالشَّجَرِ إذَا كَثُرَ ، أَوْ ثَمَرَةٍ غَيْرِ ظَاهِرَةٍ ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهُ بِزِيَادَتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ .
فَتَبِعَتْ الْأَصْلَ ، كَمَا لَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ أَوْ إقَالَةٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ فِي نِصْفِهِ زَائِدًا إذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ الزَّوْجَ يَقْدِرُ عَلَى الرُّجُوعِ بِالْقِيمَةِ ، إذَا فَاتَهُ الرُّجُوعُ بِالْعَيْنِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا إذَا لَمْ يَرْجِعْ فِي الشِّقْصِ ، سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الشُّفْعَةِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْ الْأَصْلِ لِأَجْلِ مَا حَدَثَ مِنْ الْبَائِعِ ، وَإِذَا أَخَذَ الْأَصْلَ تَبِعَهُ نَمَاؤُهُ الْمُتَّصِلُ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفُسُوخِ كُلِّهَا .
الْحَالُ الثَّانِي ، أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً ، كَالْغَلَّةِ ، وَالْأُجْرَةِ ، وَالطَّلْعِ الْمُؤَبَّرِ ، وَالثَّمَرَةِ الظَّاهِرَةِ ، فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي ، لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي مِلْكِهِ ، وَتَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مُبَقَّاةً فِي رُءُوسِ النَّخْلِ إلَى الْجُذَاذِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الشَّفِيعِ مِنْ الْمُشْتَرِي شِرَاءٌ ثَانٍ ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا لَوْ اشْتَرَى بِرِضَاهُ ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ وَفِيهِ طَلْعٌ غَيْرُ مُؤَبَّرٍ ، فَأَبَرَّهُ ، ثُمَّ أَخَذَهُ الشَّفِيعُ ، أَخَذَ الْأَصْلَ دُونَ الثَّمَرَةِ ، وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالنَّخِيلَ بِحِصَّتِهِمَا مِنْ الثَّمَنِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ شِقْصًا وَسَيْفًا .
( 4051 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَلِفَ الشِّقْصُ أَوْ بَعْضُهُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ تَلِفَ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ إنْ أَرَادَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بَعْدَ تَلَفِ بَعْضِهِ ، أَخَذَ الْمَوْجُودَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، سَوَاءٌ كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ ، وَسَوَاءٌ تَلِفَ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي ، كَنَقْضِهِ لِلْبِنَاءِ ، أَوْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، مِثْلُ أَنْ انْهَدَمَ .
ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْأَنْقَاضُ مَوْجُودَةً أَخَذَهَا مَعَ الْعَرْصَةِ بِالْحِصَّةِ .
وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً أَخَذَ الْعَرْصَةَ وَمَا بَقِيَ مِنْ الْبِنَاءِ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَالْعَنْبَرِيِّ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : إنْ كَانَ التَّلَفُ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ ، كَمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَانْهِدَامِ الْبِنَاءِ بِنَفْسِهِ ، أَوْ حَرِيقٍ ، أَوْ غَرَقٍ ، فَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَخْذُ الْبَاقِي إلَّا بِكُلِّ الثَّمَنِ ، أَوْ يَتْرُكُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ النَّقْصُ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ ، رَجَعَ بَدَلُهُ إلَى الْمُشْتَرِي ، فَلَا يَتَضَرَّرُ ، وَمَتَى كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ شَيْءٌ فَيَكُونُ الْأَخْذُ مِنْهُ إضْرَارًا بِهِ ، وَالضَّرَرُ لَا يُزَالُ بِالضَّرَرِ .
وَلَنَا ؛ أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الشَّفِيعِ أَخْذُ الْجَمِيعِ ، وَقَدَرَ عَلَى أَخْذِ الْبَعْضِ ، فَكَانَ لَهُ بِالْحِصَّةِ مِنْ الثَّمَنِ ، كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ سِوَاهُ ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ شَفِيعٌ آخَرُ ، أَوْ نَقُولُ : أَخَذَ بَعْضَ مَا دَخَلَ مَعَهُ فِي الْعَقْدِ ، فَأَخَذَهُ بِالْحِصَّةِ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ سَيْفٌ .
وَأَمَّا الضَّرَرُ فَإِنَّمَا حَصَلَ بِالتَّلَفِ ، وَلَا صُنْعَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ ، وَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ يُؤَدِّي ثَمَنَهُ ، فَلَا يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي بِأَخْذِهِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : يَأْخُذُ الْأَنْقَاضَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً ؛ لِأَنَّ
اسْتِحْقَاقَهُ لِلشُّفْعَةِ كَانَ حَالَ عَقْدِ الْبَيْعِ ، وَفِي تِلْكَ الْحَالِ كَانَ مُتَّصِلًا اتِّصَالًا لَيْسَ مَآلُهُ إلَى الِانْفِصَالِ ، وَانْفِصَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الشُّفْعَةِ .
وَيُفَارِقُ الثَّمَرَةَ غَيْرَ الْمُؤَبَّرَةِ إذَا تَأَبَّرَتْ ، فَإِنَّ مَآ لَهَا إلَى الِانْفِصَالِ وَالظُّهُورِ ، فَإِذَا ظَهَرَتْ فَقَدْ انْفَصَلَتْ ، فَلَمْ تَدْخُلْ فِي الشُّفْعَةِ .
وَإِنْ نَقَصَتْ الْقِيمَةُ مَعَ بَقَاءِ صُورَةِ الْمَبِيعِ ، مِثْلُ أَنْ انْشَقَّ الْحَائِطُ ، وَاسْتَهْدَمَ الْبِنَاءَ ، وَشَعِثَ الشَّجَرُ ، وَبَارَتْ الْأَرْضُ ، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْأَخْذُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ التَّرْكُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ ، بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : لَوْ بَنَى الْمُشْتَرِي أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ قِيمَةَ بِنَائِهِ ، وَلَوْ زَادَ الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ، دَخَلَتْ فِي الشُّفْعَةِ .
( 4052 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ وَقَعَ بِعَيْنٍ ، أَوْ وَرِقٍ ، أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ عَرْضًا ، أَعْطَاهُ قِيمَتَهُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ ؛ لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : هُوَ أَحَقُّ بِالثَّمَنِ } .
رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ فِي " كِتَابِهِ " .
وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الشِّقْصَ بِالْبَيْعِ ، فَكَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِالثَّمَنِ ، كَالْمُشْتَرِي .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الشَّفِيعَ اسْتَحَقَّ أَخْذَهُ بِغَيْرِ رِضَى مَالِكِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهُ بِقِيمَتِهِ ، كَالْمُضْطَرِّ يَأْخُذُ طَعَامَ غَيْرِهِ .
قُلْنَا : الْمُضْطَرُّ اسْتَحَقَّ أَخْذَهُ بِسَبَبِ حَاجَةٍ خَاصَّةٍ ، فَكَانَ الْمَرْجِعُ فِي بَدَلِهِ إلَى قِيمَتِهِ ، وَالشَّفِيعُ اسْتَحَقَّهُ لِأَجْلِ الْبَيْعِ ، وَلِهَذَا لَوْ انْتَقَلَ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ ، وَإِذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِالْعِوَضِ الثَّابِتِ بِالْبَيْعِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّا نَنْظُرُ فِي الثَّمَنِ ، فَإِنْ كَانَ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ ، أَعْطَاهُ الشَّفِيعُ مِثْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الشِّقْصَ بِقِيمَةِ الثَّمَنِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَبِهِ يَقُولُ أَصْحَابُ الرَّأْي ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَسَوَّارٍ ، أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ ، وَهَذَا لَا مِثْلَ لَهُ فَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ ، فَلَمْ يَجِبْ ، كَمَا لَوْ جَهِلَ الثَّمَنَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الثَّمَنِ ، فَجَازَ أَنْ تَثْبُتَ بِهِ الشُّفْعَةُ فِي الْمَبِيعِ ، كَالْمِثْلِيِّ ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ يَكُونُ مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ ، وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيمَةِ .
كَبَدَلِ الْمُتْلِفِ ، فَإِمَّا إنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ غَيْرِ الْأَثْمَانِ ،
كَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، فَهُوَ كَالْأَثْمَانِ .
وَبِهِ يَقُولُ أَصْحَابُ الرَّأْي ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِثْلٌ مِنْ طَرِيقِ الصُّورَةِ وَالْقِيمَةِ ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ الْمُمَاثِلِ فِي إحْدَاهُمَا ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلُ الثَّمَنِ ، فَكَانَ مِثْلَهُ ، كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَالْمُتْلَفِ .
( 4053 ) فَصْلٌ : وَيَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَقْدُ ، فَلَوْ تَبَايَعَا بِقَدْرٍ ، ثُمَّ غَيَّرَاهُ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ ، ثَبَتَ ذَلِكَ التَّغْيِيرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا تَمَّ الْعَقْدُ ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالثَّمَنِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ حَالَ اسْتِحْقَاقِهِ ، وَلِأَنَّ زَمَنَ الْخِيَارِ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْعَقْدِ ، وَالتَّغْيِيرُ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمَا عَلَى اخْتِيَارِهِمَا فِيهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي حَالِ الْعَقْدِ .
فَأَمَّا إذَا انْقَضَى الْخِيَارُ ، وَانْبَرَمَ الْعَقْدُ ، فَزَادَا أَوْ نَقَصَا ، لَمْ يَلْحَقْ بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَهُ هِبَةٌ يُعْتَبَرُ لَهَا شُرُوطُ الْهِبَةِ ، وَالنَّقْصُ إبْرَاءٌ مُبْتَدَأٌ ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَثْبُتُ النَّقْصُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ دُونَ الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَا عِنْدَهُ مُلْحَقَانِ بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَضُرُّ الشَّفِيعَ ، فَلَمْ يَمْلِكْهَا ، بِخِلَافِ النَّقْصِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ بَقِيَ مَا يَكُونُ ثَمَنًا أَخَذَ بِهِ ، وَإِنْ حَطَّ الْأَكْثَرَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ .
وَلَنَا ، أَنَّ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ، كَالزِّيَادَةِ ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ اسْتَحَقَّ الْأَخْذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّغْيِيرِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ التَّغْيِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ ، كَالزِّيَادَةِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْعُذْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَحِقَ الْعَقْدَ لَزِمَ الشَّفِيعَ ، وَإِنْ أَضَرَّ بِهِ ، كَالزِّيَادَةِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَلِأَنَّهُ حَطٌّ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ ، فَأَشْبَهَ حَطَّ الْجَمِيعِ أَوْ الْأَكْثَرِ عِنْدَ مَالِكٍ .
( 4054 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا تَجِبُ قِيمَتُهُ ، فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ وَقْتَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ .
وَإِنْ كَانَ فِيهِ خِيَارٌ ، اُعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ حِينَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ وَاسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْمُحَاكَمَةِ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحِ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ وَقْتُ الْعَقْدِ ، وَمَا زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ حَصَلَ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ ، فَلَا يَقُومُ لِلْمُشْتَرِي ، وَمَا نَقَصَ فَمِنْ مَالِ الْبَائِعِ ، فَلَا يَنْقُصُ بِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي .
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا ، أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِذَلِكَ الْأَجَلِ ، إنْ كَانَ مَلِيئًا ، وَإِلَّا أَقَامَ ضَمِينًا مَلِيئًا وَأَخَذَ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : لَا يَأْخُذُهَا إلَّا بِالنَّقْدِ حَالًّا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَأْخُذُهَا إلَّا بِثَمَنِ حَالٍ ، أَوْ يَنْتَظِرُ مُضِيَّ الْأَجَلِ ثُمَّ يَأْخُذُ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَمَذْهَبِنَا وَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْأَخْذُ بِالْمُؤَجَّلِ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِي قَبُولَ ذِمَّةِ الشَّفِيعِ ، وَالذِّمَمُ لَا تَتَمَاثَلُ ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ بِمِثْلِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ بِمِثْلِهِ حَالًّا ، لِئَلَّا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي ، وَلَا بِسِلَعِهِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ إلَى الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ الْقِيمَةِ ، وَالسِّلْعَةُ لَيْسَتْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا التَّخْيِيرُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الشَّفِيعَ تَابِعٌ لِلْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ وَصِفَتِهِ ، وَالتَّأْجِيلُ مِنْ صِفَاتِهِ ، وَلِأَنَّ فِي الْحُلُولِ زِيَادَةً عَلَى التَّأْجِيلِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ الشَّفِيعَ ، كَزِيَادَةِ الْقَدْرِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ اخْتِلَافِ الذِّمَمِ ، فَإِنَّنَا لَا نُوجِبُهَا حَتَّى تُوجَدَ الْمُلَاءَةُ فِي الشَّفِيعِ ، أَوْ فِي ضَمِينِهِ ، بِحَيْثُ يَنْحَفِظُ الْمَالُ ، فَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُهُمَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى الشِّقْصَ بِسِلْعَةٍ وَجَبَتْ قِيمَتُهَا ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُهُمَا .
وَمَتَى أَخَذَهُ الشَّفِيعُ بِالْأَجَلِ ، فَمَاتَ الشَّفِيعُ أَوْ الْمُشْتَرِي ، وَقُلْنَا : يَحِلُّ الدَّيْنُ بِالْمَوْتِ .
حَلَّ الدَّيْنُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ حُلُولِهِ الْمَوْتُ ، فَاخْتَصَّ بِمَنْ وُجِدَ فِي حَقِّهِ .
( 4056 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ شِقْصًا مَشْفُوعًا ، وَمَعَهُ مَا لَا شُفْعَةَ فِيهِ ، كَالسَّيْفِ وَالثَّوْبِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، ثَبَتَتْ الشُّفْعَةُ فِي الشِّقْصِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ دُونَ مَا مَعَهُ ، فَيُقَوَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا ، فَمَا يَخُصُّ الشِّقْصَ يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الشُّفْعَةُ ، لِئَلَّا تَتَبَعَّضَ صَفْقَةُ الْمُشْتَرِي ، وَفِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرَادَ الشَّفِيعُ أَخْذَ بَعْضِ الشِّقْصِ .
وَقَالَ مَالِكٌ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ فِيهِمَا ؛ لِذَلِكَ .
وَلَنَا ، أَنَّ السَّيْفَ لَا شُفْعَةَ فِيهِ ، وَلَا هُوَ تَابِعٌ لِمَا فِيهِ الشُّفْعَةُ ، فَلَمْ يُؤْخَذْ بِالشُّفْعَةِ ، كَمَا لَوْ أَفْرَدَهُ ، وَمَا يَلْحَقُ الْمُشْتَرِي مِنْ الضَّرَرِ فَهُوَ أَلْحَقَهُ بِنَفْسِهِ ، بِجَمْعِهِ فِي الْعَقْدِ بَيْنَ مَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَثْبُتُ ، وَلِأَنَّ فِي أَخْذِ الْكُلِّ ضَرَرًا بِالْمُشْتَرِي أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ غَرَضُهُ فِي إبْقَاءِ السَّيْفِ لَهُ ، فَفِي أَخْذِهِ مِنْهُ إضْرَارٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ .
( 4057 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ شِقْصَيْنِ مِنْ أَرْضَيْنِ ، صَفْقَةً وَاحِدَةً ، لِرَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَالشَّرِيكُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرُ الشَّرِيكِ فِي الْآخَرِ فَلَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا وَيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ عَلَى قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ .
وَإِنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، جَازَ ، وَيَأْخُذُ الشِّقْصَ الَّذِي فِي شَرِكَتِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لَهُ ، كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُمَا مَعًا ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا شَرِكَةَ لَهُ فِيهِ ، وَلَا هُوَ تَابِعٌ لِمَا فِيهِ الشُّفْعَةُ ، فَجَرَى مَجْرَى الشِّقْصِ وَالسَّيْفِ .
وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ فِيهِمَا وَاحِدًا ، فَلَهُ أَخْذُهُمَا وَتَرْكُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِيهِمَا .
وَإِنْ أَحَبَّ أَخْذَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَلَهُ ذَلِكَ .
وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكْ ذَلِكَ ، وَمَتَى اخْتَارَهُ سَقَطَتْ الشُّفْعَة فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ أَخْذُ الْمَبِيعِ كُلِّهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْ أَخْذَ بَعْضِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ شِقْصًا وَاحِدًا .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِسَبَبِ غَيْرِ الْآخَرِ ، فَجَرَى مَجْرَى الشَّرِيكَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَرَى مَجْرَى الشِّقْصِ الْوَاحِدِ لَوَجَبَ إذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فَتَرَك أَحَدُهُمَا شُفْعَتَهُ أَنْ يَكُونَ لِلْآخَرِ أَخْذُ الْكُلِّ ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ .
( 4058 ) فَصْلٌ : وَلَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ فِي أَخْذِهِ بِدُونِ دَفْعِ الثَّمَنِ إضْرَارًا بِالْمُشْتَرِي ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ .
فَإِنْ أَحْضَرَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الثَّمَنِ ضَرَرًا ، فَلَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ أَرَادَ تَأْخِيرَ ثَمَنٍ حَالٍ .
فَإِنْ بَذَلَ عِوَضًا عَنْ الثَّمَنِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ ؛ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهَا .
وَإِذَا أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ تَسْلِيمُ الشِّقْصِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ ، فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا سَلَّمَهُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ فِي الْحَالِ ، قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ : يُنْظَرُ الشَّفِيعُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ، بِقَدْرِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ فَلَا .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : يُنْظَرُ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّهَا آخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ ، فَإِنْ أَحْضَرَ الثَّمَنَ ، وَإِلَّا فَسَخَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ : لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ ، وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي بِهَا حَتَّى يُحْضِرَ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الشِّقْصَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي ، فَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إلَّا بِإِحْضَارِ عِوَضِهِ ، كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَمَلُّكٌ لِلْمَبِيعِ بِعِوَضٍ ، فَلَا يَقِفُ عَلَى إحْضَارِ الْعِوَضِ ، كَالْبَيْعِ ، وَأَمَّا التَّسْلِيمُ فِي الْبَيْعِ ، فَالتَّسْلِيمُ فِي الشُّفْعَةِ مِثْلُهُ ، وَكَوْنُ الْأَخْذِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي يَدُلُّ عَلَى قُوَّتِهِ ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي الصِّحَّةِ ، فَإِذَا أَجَّلْنَاهُ مُدَّةً ، فَأَحْضَرَ الثَّمَنَ فِيهَا ، وَإِلَّا فَسَخَ الْحَاكِمُ الْأَخْذَ وَرَدَّهُ إلَى الْمُشْتَرِي .
وَهَكَذَا لَوْ هَرَبَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْأَخْذِ .
وَالْأَوْلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْفَسْخَ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ الْأَخْذِ ، وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الْبَائِعِ الْوُصُولُ إلَى الثَّمَنِ ، فَمَلَكَ الْفَسْخَ ،
كَغَيْرِ مَنْ أُخِذَتْ الشُّفْعَةُ مِنْهُ ، وَكَمَا لَوْ أَفْلَسَ الشَّفِيعُ ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لَا يَقِفُ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ ، فَلَا يَقِفُ فَسْخُ الْأَخْذِ بِهَا عَلَى الْحَاكِمِ ، كَفَسْخِ غَيْرِهَا مِنْ الْبُيُوعِ ، وَكَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَلِأَنَّ وَقْفَ ذَلِكَ عَلَى الْحَاكِمِ يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ بِالْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِيهِ ، وَقَدْ يَصْعُبُ عَلَيْهِ حُضُورُ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِبُعْدِهِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَا يُشْرَعُ فِيهَا مَا يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى الْحَاكِمِ ، لَمْ يَمْلِكْ الْأَخْذَ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِ الثَّمَنِ ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى هَذَا الضَّرَرِ .
وَإِنْ أَفْلَسَ الشَّفِيعُ ، خُيِّرَ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَبَيْنَ أَنْ يَضْرِبَ مَعَ الْغُرَمَاءِ بِالثَّمَنِ ، كَالْبَائِعِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي .
( 4059 ) فَصْلٌ : لَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ ، وَإِنْ فَعَلَ لَمْ تَسْقُطْ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ الْحِيلَةِ فِي إبْطَالِ الشُّفْعَةِ ، فَقَالَ : لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ الْحِيَلِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا فِي إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : مَنْ يَخْدَعْ اللَّهَ يَخْدَعْهُ .
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ : أَنَّهُمْ لَيُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ صَبِيًّا ، لَوْ كَانُوا يَأْتُونَ الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ ، كَانَ أَسْهَلَ عَلَيَّ .
وَمَعْنَى الْحِيلَةِ أَنْ يُظْهِرُوا فِي الْبَيْعِ شَيْئًا لَا يُؤْخَذُ بِالشُّفْعَةِ مَعَهُ ، وَيَتَوَاطَئُونَ فِي الْبَاطِنِ عَلَى خِلَافِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ شِقْصًا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ يَقْضِيَهُ عَنْهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَيَقْضِيَهُ عَنْهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ، أَوْ يَشْتَرِيَ الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي عَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ بِأَلْفٍ فِي ذِمَّتِهِ ، ثُمَّ يَبِيعَهُ الشِّقْصَ بِالْأَلْفِ ، أَوْ يَشْتَرِيَ شِقْصًا بِأَلْفٍ ، ثُمَّ يُبْرِئَهُ الْبَائِعُ مِنْ تِسْعِمِائَةٍ ، أَوْ يَشْتَرِيَ جُزْءًا مِنْ الشِّقْصِ بِمِائَةٍ ، ثُمَّ يَهَبَ لَهُ الْبَائِعُ بَاقِيَهُ ، أَوْ يَهَبَ الشِّقْصَ لِلْمُشْتَرِي ، وَيَهَبَ الْمُشْتَرِي لَهُ الثَّمَنَ ، أَوْ يُعْقَدَ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَجْهُولِ الْمِقْدَارِ ، كَحَفْنَةِ قُرَاضَةٍ ، أَوْ جَوْهَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، أَوْ سِلْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ غَيْرِ مَوْصُوفَةٍ ، أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلُؤْلُؤَةٍ ، وَأَشْبَاهِ هَذَا .
فَهَذَا كُلُّهُ إذَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ تَحَيُّلٍ سَقَطَتْ الشُّفْعَةُ .
وَإِنْ تَحَيَّلَا بِهِ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ ، لَمْ تَسْقُطْ ، وَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ أَوْ قِيمَتِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ .
وَفِي الثَّانِيَةِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ قِيمَتِهَا ذَهَبًا .
وَفِي الثَّالِثَةِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ
.
وَفِي الرَّابِعَةِ بِالْبَاقِي بَعْدَ الْإِبْرَاءِ ، وَهُوَ الْمِائَةُ الْمَقْبُوضَةُ .
وَفِي الْخَامِسَةِ يَأْخُذُ الْجُزْءَ الْمَبِيعَ مِنْ الشِّقْصِ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ كُلَّهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَهَبَهُ بَقِيَّةَ الشِّقْصِ عِوَضًا عَنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ جُزْءًا مِنْ الشِّقْصِ .
وَفِي السَّادِسَةِ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ الْمَوْهُوبِ .
وَفِي سَائِرِ الصُّوَرِ الْمَجْهُولِ ثَمَنُهَا يَأْخُذُهُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا ، إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَوْجُودًا ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عَيْنُهُ ، دَفَعَ إلَيْهِ قِيمَةَ الشِّقْصِ ؛ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَى الْأَشْيَاءِ بِقِيمَتِهَا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ ، وَتَسْقُطُ بِهِ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِمَا وَقَعَ الْبَيْعَ بِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ حِيلَةٌ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ ، وَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَسْبِقَ ، فَلَيْسَ بِقِمَارٍ ، وَإِنْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ ، فَهُوَ قِمَارٌ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ، فَجَعَلَ إدْخَالَ الْفَرَسِ الْمُحَلَّلِ قِمَارًا ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ إبَاحَةَ إخْرَاجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَسَابِقَيْنِ جَعْلًا ، مَعَ عَدَمِ مَعْنَى الْمُحَلَّلِ فِيهِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ بِحَالٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْخُذَ سَبَقَيْهِمَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبْطَالِ كُلِّ حِيلَةٍ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا إلَّا إبَاحَةَ الْمُحَرَّمِ .
مَعَ عَدَمِ الْمَعْنَى فِيهَا .
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَرْكَبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ .
} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ ، إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَّلُوهُ ، ثُمَّ بَاعُوهُ ، وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ } .