الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
سَارَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَدْرِ مَا سَارَّهُ بِهِ ، حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟ .
قَالَ : بَلَى ، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ .
قَالَ : أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟ .
قَالَ : بَلَى ، وَلَا صَلَاةَ لَهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ } .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } .
وَرُوِيَ أَنَّ مَخْشِيَّ بْنَ حِمْيَرٍ كَانَ فِي النَّفَرِ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } .
فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَقَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ ، وَهُوَ الطَّائِفَةُ الَّتِي عَنَى اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً } فَهُوَ الَّذِي عَفَا اللَّهُ عَنْهُ ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى ، أَنْ يُقْتَلَ فِي سَبِيلِهِ ، وَلَا يُعْلَمَ بِمَكَانِهِ ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، وَلَمْ يُعْلَمْ مَوْضِعُهُ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّ عَنْ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَظْهَرُوا مِنْ الشَّهَادَةِ ، مَعَ إخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِبَاطِنِهِمْ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } وَغَيْرِهَا مِنْ الْآيَاتِ .
وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حُجَّةٌ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ ، مَعَ اسْتِسْرَارِهِمْ بِكُفْرِهِمْ .
وَأَمَّا قَتْلُهُ ابْنَ النَّوَّاحَةِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِظُهُورِ كَذِبِهِ فِي تَوْبَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَهَا ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا زَالَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَهُ حِينَ جَاءَ رَسُولًا لِمُسَيْلِمَةِ : { لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ ، لَقَتَلْتُكَ } فَقَتَلَهُ تَحْقِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِذَلِكَ .
وَفِي الْجُمْلَةِ ، فَالْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِمْ فِي الظَّاهِرِ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا .
مِنْ تَرْكِ قَتْلِهِمْ ، وَثُبُوتِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِمْ ؛ وَأَمَّا قَبُولُ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا فِي الْبَاطِنِ ، وَغُفْرَانُهُ لِمَنْ تَابَ وَأَقْلَعَ ظَاهِرًا أَمْ بَاطِنًا ، فَلَا خِلَافَ فِيهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاَللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا }
( 7089 ) فَصْلٌ : وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ إلَى الْإِمَامِ ، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا .
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا الشَّافِعِيَّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَبْدِ ، فَإِنَّ لِسَيِّدِهِ قَتْلَهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .
وَلِأَنَّ حَفْصَةَ قَتَلَتْ جَارِيَةً سَحَرَتْهَا .
وَلِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَمَلَكَ السَّيِّدُ إقَامَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ ، كَجَلْدِ الزَّانِي .
وَلَنَا أَنَّهُ قَتْلٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَانَ إلَى الْإِمَامِ ، كَرَجْمِ الزَّانِي ، وَكَقَتْلِ الْحُرِّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ } .
فَلَا يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ لِلرِّدَّةِ ، فَإِنَّهُ قُتِلَ لِكُفْرِهِ ، لَا حَدًّا فِي حَقِّهِ .
وَأَمَّا خَبَرُ حَفْصَةَ ، فَإِنَّ عُثْمَانَ تَغَيَّظَ عَلَيْهَا ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْجَلْدُ فِي الزِّنَى ، فَإِنَّهُ تَأْدِيبٌ ، وَلِلسَّيِّدِ تَأْدِيبُ عَبْدِهِ ، بِخِلَافِ الْقَتْلِ .
فَإِنْ قَتَلَهُ غَيْرُ الْإِمَامِ ، أَسَاءَ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ غَيْرُ مَعْصُومٍ ، وَسَوَاءٌ قَتَلَهُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ أَوْ بَعْدَهَا ؛ لِذَلِكَ .
وَعَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ التَّعْزِيرُ ؛ لِإِسَاءَتِهِ وَافْتِيَاتِهِ .
( 7090 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ وَجُمْلَتُهُ ، أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا قُتِلَ ، أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ ، فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ ، وَأَرْشِ جِنَايَتِهِ ، وَنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَقَرِيبِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَا يَجُوزُ تَعْطِيلُهَا ، وَأَوْلَى مَا يُوجَدُ مِنْ مَالِهِ ، وَمَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ فَهُوَ فَيْءٌ يُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِوَرَثَتِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَعَنْهُ أَنَّهُ لِقَرَابَتِهِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ .
وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً فِي الْفَرَائِضِ بِمَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا هَاهُنَا .
( 7091 ) فَصْلٌ : وَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمُرْتَدِّ بِمُجَرَّدِ رِدَّتِهِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
فَعَلَى هَذَا ، إنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ ، زَالَ مِلْكُهُ بِمَوْتِهِ ، وَإِنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ ، فَمِلْكُهُ بَاقٍ لَهُ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَزُولُ مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ ، وَإِنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ عَادَ إلَيْهِ تَمْلِيكًا مُسْتَأْنَفًا ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِإِسْلَامِهِ ، فَزَوَالُ إسْلَامِهِ يُزِيلُ عِصْمَتَهُمَا ، كَمَا لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَلَكُوا إرَاقَةَ دَمِهِ بِرِدَّتِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكُوا مَالَهُ بِهَا .
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : مَالُهُ مَوْقُوفٌ ؛ إنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَّا بَقَاءَ مِلْكِهِ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ تَبَيَّنَّا زَوَالَهُ مِنْ حِينِ رِدَّتِهِ .
قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ : هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ، كَهَذِهِ الثَّلَاثَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ سَبَبٌ يُبِيحُ دَمَهُ ، فَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ ، كَزِنَى الْمُحْصَنِ ، وَالْقَتْلِ لِمَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا ، وَزَوَالُ الْعِصْمَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ زَوَالُ الْمِلْكِ ، بِدَلِيلِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَالْقَاتِلِ فِي الْمُحَارَبَةِ ، وَأَهْلِ الْحَرْبِ ، فَإِنَّ مِلْكَهُمْ ، ثَابِتٌ مَعَ عِصْمَتِهِمْ ، وَلَوْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ ، لَكِنْ يُبَاحُ قَتْلُهُ - لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ - ، وَأَخْذُ مَالِهِ - لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ - ، لِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا ، حُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّ جَمَاعَةٌ وَامْتَنَعُوا فِي دَارِهِمْ عَنْ طَاعَةِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ ، زَالَتْ عِصْمَتُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ الْأَصْلِيِّينَ لَا عِصْمَةَ لَهُمْ فِي دَارِهِمْ ، فَالْمُرْتَدُّ أَوْلَى .
( 7092 ) فَصْلٌ : وَيُؤْخَذُ مَالُ الْمُرْتَدِّ ، فَيُجْعَلُ عِنْدَ ثِقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ إمَاءٌ جُعِلْنَ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ ؛ لِأَنَّهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنْهُنَّ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَقَارُهُ ، وَعَبِيدُهُ ، وَإِمَاؤُهُ .
وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُفْعَلَ ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ انْتِظَارِهِ قَرِيبَةٌ ، لَيْسَ فِي انْتِظَارِهِ فِيهَا ضَرَرٌ ، فَلَا يَفُوتُ عَلَيْهِ مَنَافِعُ مِلْكِهِ فِيمَا لَا يَرْضَاهُ مِنْ أَجْلِهَا ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا رَاجَعَ الْإِسْلَامَ ، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ بِإِجَارَةِ الْحَاكِمِ لَهُ .
وَإِنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، أَوْ تَعَذَّرَ قَتْلُهُ مُدَّةً طَوِيلَةً ، فَعَلَ الْحَاكِمُ مَا يَرَى الْحَظَّ فِيهِ ، مِنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ وَغَيْرِهِ ، وَإِجَارَةِ مَا يَرَى إبْقَاءَهُ ، وَالْمُكَاتَبُ يُؤَدِّي إلَى الْحَاكِمِ ، فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ .
( 7093 ) فَصْلٌ : وَتَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ فِي رِدَّتِهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ ؛ إنْ أَسْلَمَ تَبَيَّنَّا أَنَّ تَصَرُّفَهُ كَانَ صَحِيحًا ، وَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ ، كَانَ بَاطِلًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، تَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ زَالَ بِرِدَّتِهِ .
وَهَذَا أَحَدُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : إنْ تَصَرَّفَ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، انْبَنَى عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ ، وَإِنْ تَصَرَّفَ بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ كَالسَّفِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مِلْكَهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ ، فَكَانَ تَصَرُّفُهُ مَوْقُوفًا ، كَتَبَرُّعِ الْمَرِيضِ .
( 7094 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَزَوَّجَ ، لَمْ يَصِحَّ تَزَوُّجُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى النِّكَاحِ ، وَمَا مَنَعَ الْإِقْرَارَ عَلَى النِّكَاحِ ، مَنَعَ انْعِقَادَهُ ، كَنِكَاحِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَةَ .
وَإِنْ زَوَّجَ ، لَمْ يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى مُوَلِّيَتِهِ قَدْ زَالَتْ بِرِدَّتِهِ .
وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَكُونُ مَوْقُوفًا ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَمَةِ فَلَا بُدَّ فِي عَقْدِهِ مِنْ وِلَايَةٍ صَحِيحَةٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُزَوِّجَ أَمَتَهَا ، وَكَذَلِكَ الْفَاسِقُ ، وَالْمُرْتَدُّ لَا وِلَايَةَ لَهُ ، فَإِنَّهُ أَدْنَى حَالًا مِنْ الْفَاسِقِ الْكَافِرِ .
( 7095 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وُجِدَ مِنْ الْمُرْتَدِّ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْمِلْكَ ، كَالصَّيْدِ ، وَالِاحْتِشَاشِ ، وَالِاتِّهَابِ ، وَالشِّرَاءِ ، وَإِيجَارِ نَفْسِهِ إجَارَةً خَاصَّةً ، أَوْ مُشْتَرَكَةً ، ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ ، وَكَذَلِكَ تَثْبُتُ أَمْلَاكُهُ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ لَمْ يُثْبِتْ لَهُ مِلْكًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ ، وَلِهَذَا زَالَتْ أَمْلَاكُهُ الثَّابِتَةُ لَهُ ، فَإِنْ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهُ شَيْءٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ .
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لَهُ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ حُكْمِهِ ، لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ ، فَإِذَا وُجِدَتْ ، تَحَقَّقَ الشَّرْطُ ، فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ حِينَئِذٍ ، كَمَا تَعُودُ إلَيْهِ أَمْلَاكُهُ الَّتِي زَالَتْ عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ .
فَعَلَى هَذَا ، إنْ مَاتَ ، أَوْ قُتِلَ ، ثَبَتَ الْمِلْكُ لِمَنْ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ مِلْكُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَاهُ .
( 7096 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِيمَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، إلَّا أَنَّ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ مَالِهِ ، يَصِيرُ مُبَاحًا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، كَمَا أُبِيحَ دَمُهُ ، وَأَمَّا أَمْلَاكُهُ وَمَالُهُ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَمِلْكُهُ ثَابِتٌ فِيهِ ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْحَاكِمُ بِمَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُورَثُ مَالُهُ ، كَمَا لَوْ مَاتَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَوْتَى ، بِدَلِيلِ حِلِّ دَمِهِ وَمَالِهِ الَّذِي مَعَهُ لِكُلِّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ حَيٌّ فَلَمْ يُورَثْ ، كَالْحَرْبِيِّ الْأَصْلِيِّ ، وَحِلُّ دَمِهِ لَا يُوجِبُ تَوْرِيثَ مَالِهِ ، بِدَلِيلِ الْحَرْبِيِّ الْأَصْلِيِّ ، وَإِنَّمَا حَلَّ مَالُهُ الَّذِي مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْعَاصِمُ لَهُ ، فَأَشْبَهَ مَال الْحَرْبِيِّ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَأَمَّا الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى الْعِصْمَةِ ، كَمَالِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي مَعَ مُضَارِبِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ عِنْدَ مُودَعِهِ .
( 7097 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ ، دُعِيَ إلَيْهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ صَلَّى ، وَإِلَّا قُتِلَ ، جَاحِدًا تَرْكَهَا أَوْ غَيْرَ جَاحِدٍ قَدْ سَبَقَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فِي بَابٍ مُفْرَدٍ لَهَا ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي كُفْرِ مَنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا ، إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَجْهَلُ مِثْلُهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْوُجُوبَ ، كَحَدِيثِ الْإِسْلَامِ ، وَالنَّاشِئِ بِغَيْرِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ بَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ ، لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ ، وَعُرِّفَ ذَلِكَ ، وَتُثْبَتُ لَهُ أَدِلَّةُ وُجُوبِهَا ، فَإِنْ جَحَدَهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَفَرَ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَاحِدُ لَهَا نَاشِئًا فِي الْأَمْصَارِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَإِنَّهُ يُكَفَّرُ بِمُجَرَّدِ جَحْدِهَا ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَبَانِي الْإِسْلَامِ كُلِّهَا ، وَهِيَ الزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ ؛ لِأَنَّهَا مَبَانِي الْإِسْلَامِ ، وَأَدِلَّةُ وُجُوبِهَا لَا تَكَادُ تَخْفَى ، إذْ كَانَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَشْحُونَيْنِ بِأَدِلَّتِهَا ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهَا ، فَلَا يَجْحَدُهَا إلَّا مُعَانِدٌ لِلْإِسْلَامِ ، يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ الْأَحْكَامِ ، غَيْرُ قَابِلٍ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا إجْمَاعِ أُمَّتِهِ .
( 7098 ) فَصْلٌ : وَمَنْ اعْتَقَدَ حِلَّ شَيْءٍ أُجْمِعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَظَهَرَ حُكْمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَزَالَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ ، كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَالزِّنَى ، وَأَشْبَاهِ هَذَا ، مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ ، كُفِّرَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ .
وَإِنْ اسْتَحَلَّ قَتْلَ الْمَعْصُومِينَ ، وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ ، بِغَيْرِ شُبْهَةٍ وَلَا تَأْوِيلٍ ، فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ ، كَالْخَوَارِجِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَكْثَرَ الْفُقَهَاءِ لَمْ يَحْكُمُوا بِكُفْرِهِمْ مَعَ اسْتِحْلَالِهِمْ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ ، وَفِعْلِهِمْ لِذَلِكَ مُتَقَرِّبِينَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِ ابْنِ مُلْجَمٍ مَعَ قَتْلِهِ أَفْضَلَ الْخَلْقِ فِي زَمَنِهِ ، مُتَقَرِّبًا بِذَلِكَ ، وَلَا يُكَفَّرُ الْمَادِحُ لَهُ عَلَى هَذَا ، الْمُتَمَنِّي مِثْلَ فِعْلِهِ ، فَإِنَّ عِمْرَانَ بْنَ حِطَّانَ قَالَ فِيهِ يَمْدَحُهُ لِقَتْلِ عَلِيٍّ : يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا إلَّا لِيَبْلُغَ عِنْدَ اللَّهِ رِضْوَانَا إنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ أَوْفَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا وَقَدْ عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ تَكْفِيرُ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ ، وَأَمْوَالِهِمْ ، وَاعْتِقَادُهُمْ التَّقَرُّبَ بِقَتْلِهِمْ إلَى رَبِّهِمْ ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَحْكُمْ الْفُقَهَاءُ بِكُفْرِهِمْ ؛ لِتَأْوِيلِهِمْ .
وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلٍ مِثْلِ هَذَا .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ شَرِبَ الْخَمْرَ مُسْتَحِلًّا لَهَا ، فَأَقَامَ عُمَرُ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَلَمْ يُكَفِّرْهُ .
وَكَذَلِكَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ ، وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ ، شَرِبُوا الْخَمْرَ بِالشَّامِ مُسْتَحِلِّينَ لَهَا ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَة .
فَلَمْ يُكَفَّرُوا ، وَعُرِّفُوا تَحْرِيمَهَا ، فَتَابُوا ، وَأُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ .
فَيُخَرَّجُ فِيمَنْ كَانَ
مِثْلَهُمْ مِثْلُ حُكْمِهِمْ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ جَاهِلٍ بِشَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يَجْهَلَهُ ، لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يُعَرَّفَ ذَلِكَ ، وَتَزُولَ عَنْهُ الشُّبْهَةُ ، وَيَسْتَحِلَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : مَنْ قَالَ : الْخَمْرُ حَلَالٌ .
فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ ، فَإِنْ تَابَ ، وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ .
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ لَا يَخْفَى عَلَى مِثْلِهِ تَحْرِيمُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
فَأَمَّا إنْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ ، أَوْ مَيْتَةً ، أَوْ شَرِبَ خَمْرًا ، لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ فَعَلَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ ، كَمَا يَفْعَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ .
( 7099 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَذَبِيحَةُ الْمُرْتَدِّ حَرَامٌ ، وَإِنْ كَانَتْ رِدَّتُهُ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : إنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، حَلَّتْ ذَبِيحَتُهُ .
وَيُحْكَى ذَلِكَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ كَافِرٌ ، لَا يُقَرُّ عَلَى دِينِهِ ، فَلَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ ، كَالْوَثَنِيِّ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ أَهْلِ الْكِتَابِ إذَا تَدَيَّنَ بَدِينِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ ، وَلَا يُسْتَرَقُّ .
وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ الْمُرْتَدَّةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ : فَهُوَ مِنْهُمْ .
فَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ مِنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَى حِلَّ ذَبَائِحِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ، وَلَا نِكَاحِ نِسَائِهِمْ ، مَعَ تَوْلِيَتِهِمْ لِلنَّصَارَى ، وَدُخُولِهِمْ فِي دِينِهِمْ ، وَمَعَ إقْرَارِهِمْ بِمَا صُولِحُوا عَلَيْهِ ، فَلَأَنْ لَا يَعْتَقِدَ ذَلِكَ فِي الْمُرْتَدِّينَ أَوْلَى .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا ذَبَحَ حَيَوَانًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ حَيًّا ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ عَلَيْهِ ، وَحَرَّمَهُ ، وَإِنْ ذَبَحَهُ بِإِذْنِهِ ، لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي إتْلَافِهِ .
( 7100 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالصَّبِيُّ إذَا كَانَ لَهُ عَشْرُ سِنِينَ ، وَعَقَلَ الْإِسْلَامَ ، فَأَسْلَمَ ، فَهُوَ مُسْلِمٌ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ يَصِحُّ إسْلَامُهُ فِي الْجُمْلَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَأَبُو أَيُّوبَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَزُفَرُ : لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ حَتَّى يَبْلُغَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ } .
حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ تَثْبُتُ بِهِ الْأَحْكَامُ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ الصَّبِيِّ كَالْهِبَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَحْدُ مَنْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ ، كَالْمَجْنُونِ ، وَالنَّائِمِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ ، أَشْبَهَ الطِّفْلَ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
دَخَلَ الْجَنَّةَ } .
وَقَوْلِهِ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ ، إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا .
} وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الصَّبِيُّ ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ ، فَصَحَّتْ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ ، كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَعَا عِبَادَهُ إلَى دَارِ السَّلَامِ ، وَجَعَلَ طَرِيقَهَا الْإِسْلَامَ ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يُجِبْ دَعْوَتَهُ فِي الْجَحِيمِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ ، فَلَا يَجُوزُ مَنْعُ الصَّبِيِّ مِنْ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ ، مَعَ إجَابَتِهِ إلَيْهَا ، وَسُلُوكِهِ طَرِيقَهَا ، وَلَا إلْزَامُهُ بِعَذَابِ اللَّهِ ، وَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ ، وَسَدُّ طَرِيقِ النَّجَاةِ عَلَيْهِ مَعَ هَرَبِهِ مِنْهَا ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ إجْمَاعٌ ، فَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ صَبِيًّا ، وَقَالَ
: سَبَقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا صَبِيًّا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حِلْمِ وَلِهَذَا قِيلَ : أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ ، وَمِنْ الصِّبْيَانِ عَلِيٌّ ، وَمِنْ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ ، وَمِنْ الْعَبِيدِ بِلَالٌ ، وَقَالَ عُرْوَةُ : أَسْلَمَ عَلِيٌّ وَالزُّبَيْرُ ، وَهُمَا ابْنًا ثَمَانِ سِنِينَ ، وَبَايَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لِسَبْعِ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ ، وَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَحَدٍ إسْلَامَهُ ، مِنْ صَغِيرٍ وَلَا كَبِيرٍ .
فَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ .
} فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ، فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُكْتَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَالْإِسْلَامُ يُكْتَبُ لَهُ لَا عَلَيْهِ ، وَيَسْعَدُ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَهُوَ كَالصَّلَاةِ تَصِحُّ مِنْهُ وَتُكْتَبُ لَهُ وَإِنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ، وَنَفَقَةَ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ ، وَيَحْرِمُهُ مِيرَاثَ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ ، وَيَفْسَخُ نِكَاحَهُ .
قُلْنَا : أَمَّا الزَّكَاةُ فَإِنَّهَا نَفْعٌ ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ الزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ ، وَتَحْصِينِ الْمَالِ وَالثَّوَابِ ، وَأَمَّا الْمِيرَاثُ وَالنَّفَقَةُ ، فَأَمْرٌ مُتَوَهَّمٌ ، وَهُوَ مَجْبُورٌ بِمِيرَاثِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَسُقُوطِ نَفَقَةِ أَقَارِبِهِ الْكُفَّارِ ، ثُمَّ إنَّ هَذَا الضَّرَرَ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَخَلَاصِهِ مِنْ شَقَاءِ الدَّارَيْنِ وَالْخُلُودِ فِي الْجَحِيمِ ، فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الضَّرَرِ فِي أَكْلِ الْقُوتِ ، الْمُتَضَمِّنِ قُوتَ مَا يَأْكُلُهُ ، وَكُلْفَةُ تَحْرِيكِ فِيهِ لِمَا كَانَ بَقَاؤُهُ بِهِ لَمْ يُعَدَّ ضَرَرًا ، وَالضَّرَرُ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي جَنْبِ مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّفْعِ ، أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْخِرَقِيِّ اشْتَرَطَ لِصِحَّةِ إسْلَامِهِ شَرْطَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَكُونَ لَهُ
عَشْرُ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِضَرْبِهِ عَلَى الصَّلَاةِ لِعَشْرٍ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَعْقِلَ الْإِسْلَامَ .
وَمَعْنَاهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبُّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
وَهَذَا لَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهِ .
فَإِنَّ الطِّفْلَ الَّذِي لَا يَعْقِلَ ، لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ اعْتِقَادُ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا كَلَامُهُ لِقَلْقَةٍ بِلِسَانِهِ ، لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْعَشْرِ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُصَحِّحِينَ لِإِسْلَامِهِ ، لَمْ يَشْتَرِطُوا ذَلِكَ ، وَلَمْ يَحُدُّوا لَهُ حَدًّا مِنْ السِّنِينَ .
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَتَى مَا حَصَلَ ، لَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةٍ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، إذَا كَانَ ابْنَ سَبْعِ سِنِينَ فَإِسْلَامُهُ إسْلَامٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ ، } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حَدٌّ لِأَمْرِهِمْ ، وَصِحَّةِ عِبَادَاتِهِمْ ، فَيَكُونُ حَدًّا لِصِحَّةِ إسْلَامِهِمْ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : إذَا أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ ، جُعِلَ إسْلَامُهُ إسْلَامًا .
وَلَعَلَّهُ يَقُولُ إنَّ عَلِيًّا أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إسْلَامُهُ ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ بُعِثَ إلَى أَنْ مَاتَ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً ، وَعَاشَ عَلِيٌّ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثِينَ سَنَةً ؛ فَذَلِكَ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ ، فَإِذَا ضَمَمْت إلَيْهَا خَمْسًا ، كَانَتْ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ .
وَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ : أُجِيزُ إسْلَامَ ابْنِ ثَلَاثِ سِنِينَ ، مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ أَجَزْنَاهُ .
وَهَذَا لَا يَكَادُ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ ، وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ ، وَلَا يَثْبُتُ لِقَوْلِهِ حُكْمٌ ، فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ وَدَلَّتْ أَحْوَالُهُ وَأَقْوَالُهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِسْلَامِ ، وَعَقْلِهِ إيَّاهُ ، صَحَّ
مِنْهُ كَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7101 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ رَجَعَ ، وَقَالَ : لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت .
لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ ، وَأُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا أَسْلَمَ ، وَحَكَمْنَا بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ ، لِمَعْرِفَتِنَا بِعَقْلِهِ بِأَدِلَّتِهِ ، فَرَجَعَ ، وَقَالَ : لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت .
لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَلَمْ يَبْطُلْ إسْلَامُهُ الْأَوَّلُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي مَظِنَّةِ النَّقْصِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا .
قَالَ : وَالْعَمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَقْلُهُ لِلْإِسْلَامِ ، وَمَعْرِفَتُهُ بِهِ بِأَفْعَالِهِ أَفْعَالَ الْعُقَلَاءِ ، وَتَصَرُّفَاتِهِ تَصَرُّفَاتِهِمْ ، وَتَكَلُّمِهِ بِكَلَامِهِمْ ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِهِ مَعْرِفَةُ عَقْلِهِ ؛ وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا رُشْدَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ بِأَفْعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ ، وَعَرَفْنَا جُنُونَ الْمَجْنُونِ وَعَقْلَ الْعَاقِلِ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ ، فَلَا يَزُولُ مَا عَرَفْنَاهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ .
وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ تَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِهِ ، ثُمَّ أَنْكَرَ مَعْرِفَتَهُ بِمَا قَالَ ، لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ ، وَكَانَ مُرْتَدًّا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا ارْتَدَّ ، صَحَّتْ رِدَّتُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَا رِدَّتُهُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصِحُّ إسْلَامُهُ ، وَلَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ } .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُكْتَبَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ وَلَا شَيْءٌ ، وَلَوْ صَحَّتْ رِدَّتُهُ ، لَكُتِبَتْ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ ، إنَّمَا يُكْتَبُ لَهُ ، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ أَمْرٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ
كَالزِّنَى وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ إنَّمَا صَحَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ مَصْلَحَةً ، فَأَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ وَالتَّدْبِيرَ ، وَالرِّدَّةُ تَمَحَّضَتْ مَضَرَّةً وَمَفْسَدَةً ، فَلَمْ تَلْزَمْ صِحَّتُهَا مِنْهُ .
فَعَلَى هَذَا ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ ، فَإِذَا بَلَغَ ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ ، كَانَ مُرْتَدًّا حِينَئِذٍ .
( 7102 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُقْتَلُ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَيُجَاوِزَ بَعْدَ بُلُوغِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى كُفْرِهِ قُتِلَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُقْتَلُ ، سَوَاءٌ قُلْنَا بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ ، أَوْ لَمْ نَقُلْ ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ فِي سَائِر الْحُدُودِ ، وَلَا يُقْتَلُ قِصَاصًا ؛ فَإِذَا بَلَغَ ، فَثَبَتَ عَلَى رِدَّتِهِ ، ثَبَتَ حُكْمُ الرِّدَّةِ حِينَئِذٍ ، فَيُسْتَتَابُ ثَلَاثًا ، فَإِنْ تَابَ ، وَإِلَّا قُتِلَ ، سَوَاءٌ قُلْنَا : إنَّهُ كَانَ مُرْتَدًّا قَبْلَ بُلُوغِهِ أَوْ لَمْ نَقُلْ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَصْلِيًّا فَارْتَدَّ ، أَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ صَبِيًّا ثُمَّ ارْتَدَّ .
( 7103 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ ، وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ ، لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمَا وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِمَا مِمَّنْ كَانُوا قَبْلَ الرِّدَّةِ رِقٌّ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرِّقَّ لَا يَجْرِي عَلَى الْمُرْتَدِّ ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً ، وَسَوَاءٌ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أَقَامَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا لَحِقَتْ الْمُرْتَدَّةُ بِدَارِ الْحَرْبِ ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهَا ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَبَى بَنِي حَنِيفَةَ ، وَاسْتَرَقَّ نِسَاءَهُمْ ، وَأُمُّ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْ سَبْيِهِمْ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى كُفْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُ كَالرَّجُلِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ الَّذِينَ سَبَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَانُوا أَسْلَمُوا ، وَلَا ثَبَتَ لَهُمْ حُكْمُ الرِّدَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُسْبَى .
قُلْنَا : هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ ، ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ .
فَأَمَّا أَوْلَادُ الْمُرْتَدِّينَ فَإِنْ كَانُوا وُلِدُوا قَبْلَ الرِّدَّةِ ، فَإِنَّهُمْ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ ، وَلَا يَتْبَعُونَهُمْ فِي الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو ، وَقَدْ تَبِعُوهُمْ فِيهِ ، فَلَا يَتْبَعُونَهُمْ فِي الْكُفْرِ ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ صِغَارًا ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، وَلَا كِبَارًا ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ ثَبَتُوا عَلَى إسْلَامِهِمْ بَعْدَ كُفْرِهِمْ فَهُمْ مُسْلِمُونَ ، وَإِنْ كَفَرُوا فَهُمْ مُرْتَدُّونَ ، حُكْمُهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ فِي الِاسْتِتَابَةِ ، وَتَحْرِيمِ الِاسْتِرْقَاقِ .
وَأَمَّا مَنْ حَدَثَ بَعْدَ الرِّدَّةِ ، فَهُوَ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ ، لِأَنَّهُ وُلِدَ بَيْنَ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ ، وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُرْتَدٍّ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُهُمْ ؛ لِأَنَّ آبَاءَهُمْ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ ،
وَلِأَنَّهُمْ لَا يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ ، فَلَا يُقَرُّونَ بِالِاسْتِرْقَاقِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ وُلِدُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهُمْ ، وَإِنْ وُلِدُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، جَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ، فَجَازَ اسْتِرْقَاقُهُمْ ، كَوَلَدِ الْحَرْبِيَّيْنِ ، بِخِلَافِ آبَائِهِمْ .
فَعَلَى هَذَا ، إذَا وَقَعَ فِي الْأَسْرِ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، لَمْ يُقَرَّ بِالْجِزْيَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَذْلَ الْجِزْيَةَ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، لَمْ يُقَرَّ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إلَى الْكُفْرِ بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ .
فَأَمَّا مَنْ كَانَ حَمْلًا حِينَ رِدَّتِهِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ كَالْحَادِثِ بَعْدَ كُفْرِهِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، هُوَ كَالْمَوْلُودِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ ، وَلِهَذَا يَرِثُ .
وَلَنَا ، أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ .
( 7104 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَوْلَادِهِمَا الَّذِينَ وَصَفْتُ مِنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، اُسْتُتِيبَ ثَلَاثًا ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ ) .
قَوْلُهُ : الَّذِينَ وَصَفْتُ .
يَعْنِي الَّذِينَ وُلِدُوا قَبْلَ الرِّدَّةِ ، فَإِنَّهُمْ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِمْ ، فَلَا يُسْتَرَقُّونَ .
وَمَتَى قَدَرَ عَلَى الزَّوْجَيْنِ ، أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِمَا ، اُسْتُتِيبَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ ، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ بَالِغٍ انْتَظَرْنَا بُلُوغَهُ ، ثُمَّ اسْتَتَبْنَاهُ ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْبَسَ حَتَّى لَا يَهْرُبَ .
( 7105 ) فَصْلٌ : وَمَتَى ارْتَدَّ أَهْلُ بَلَدٍ ، وَجَرَتْ فِيهِ أَحْكَامُهُمْ ، صَارُوا دَارَ حَرْبٍ فِي اغْتِنَامِ أَمْوَالِهِمْ ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ الْحَادِثِينَ بَعْدَ الرِّدَّةِ ، وَعَلَى الْإِمَامِ قِتَالُهُمْ ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَ أَهْلَ الرِّدَّةِ بِجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ ، وَهَؤُلَاءِ أَحَقُّهُمْ بِالْقِتَالِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ رُبَّمَا أَغْرَى أَمْثَالَهُمْ بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ وَالِارْتِدَادِ مَعَهُمْ ، فَيَكْثُرُ الضَّرَرُ بِهِمْ .
وَإِذَا قَاتَلَهُمْ ، قَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَيَتْبَعُ مُدْبِرَهُمْ ، وَيُجْهِزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ ، وَتُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَصِيرُ دَارَ حَرْبٍ حَتَّى تُجْمَعَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ ؛ أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْحَرْبِ ، لَا شَيْءَ بَيْنَهُمَا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ .
الثَّانِي : أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنٌ .
الثَّالِثُ : أَنْ تَجْرِيَ فِيهَا أَحْكَامُهُمْ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا دَارُ كُفَّارٍ ، فِيهَا أَحْكَامُهُمْ ، فَكَانَتْ دَارَ حَرْبٍ - كَمَا لَوْ اجْتَمَعَ فِيهَا هَذِهِ الْخِصَالُ - ، أَوْ دَارَ الْكَفَرَةِ الْأَصْلِيِّينَ .
( 7106 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَتَلَ الْمُرْتَدُّ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَالْوَلِيُّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَتْلِهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْقِصَاصَ ، قُدِّمَ عَلَى قَتْلِ الرِّدَّةِ ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ الرِّدَّةُ أَوْ تَأَخَّرَتْ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ ، وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا عَاقِلَةَ لَهُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَتُؤْخَذُ مِنْهُ الدِّيَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهَا دِيَةُ الْخَطَإِ ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ مَاتَ ، أُخِذَتْ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ فِي حَقِّ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ حَالَّةً ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا أُجِّلَتْ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ ، فَأَمَّا الْجَانِي ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ حَالَّةً ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ مُتْلَفٍ ، فَكَانَتْ حَالَّةً ، كَسَائِرِ أَبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ .
( 7107 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ، كَانَ أَوْلَادُهُ الْأَصَاغِرُ تَبَعًا لَهُ ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إذَا أَسْلَمَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا ، وَأَدْرَكَ فَأَبَى الْإِسْلَامَ ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُقْتَلْ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ أَسْلَمَ الْأَبُ ، تَبِعَهُ أَوْلَادُهُ ، وَإِنْ أَسْلَمَتْ الْأُمُّ لَمْ يَتْبَعُوهَا ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْحَرْبِيَّيْنِ يَتْبَعُ أَبَاهُ دُونَ أُمِّهِ ، بِدَلِيلِ الْمَوْلَيَيْنِ إذَا كَانَ لَهُمَا وَلَدٌ ، كَانَ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى أَبِيهِ دُونَ مَوْلَى أُمِّهِ ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ عَبْدًا أَوْ الْأُمُّ مَوْلَاةً ، فَأُعْتِقَ الْعَبْدُ ، لَجَرَّ وَلَاءَ وَلَدِهِ إلَى مَوَالِيهِ ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ يَشْرُفُ بِشَرَفِ أَبِيهِ ، وَيَنْتَسِبُ إلَى قَبِيلَتِهِ دُونَ قَبِيلَةِ أُمِّهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَتْبَعَ أَبَاهُ فِي دِينِهِ أَيَّ دِينٍ كَانَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إذَا بَلَغَ خُيِّرَ بَيْنَ دِينِ أَبِيهِ وَدِينِ أُمِّهِ ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ كَانَ عَلَى دِينِهِ .
وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِحَدِيثِ الْغُلَامِ الَّذِي أَسْلَمَ أَبُوهُ ، وَأَبَتْ أُمُّهُ أَنْ تُسْلِمَ ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ فِي الدِّينِ ، فَإِنْ اخْتَلَفَا ، وَجَبَ أَنْ يَتْبَعَ الْمُسْلِمَ مِنْهُمَا ، كَوَلَدِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكِتَابِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ، وَيَتَرَجَّحُ الْإِسْلَامُ بِأَشْيَاءَ ؛ مِنْهَا أَنَّهُ دِينُ اللَّهِ الَّذِي رَضِيَهُ لِعِبَادِهِ ، وَبَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ دُعَاةً لِخَلْقِهِ إلَيْهِ ، وَمِنْهَا أَنَّهُ تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَيَتَخَلَّصُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَأَدَاءِ الْجِزْيَةِ ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ سُخْطِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ ، وَمِنْهَا أَنَّ الدَّارَ دَارُ الْإِسْلَامِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا ، وَمَنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فِيهَا ، وَإِذَا كَانَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ ، أُجْبِرَ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ بِالْقَتْلِ ، كَوَلَدِ
الْمُسْلِمَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَإِذَا رَجَعَ عَنْ إسْلَامِهِ ، وَجَبَ قَتْلُهُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى غَيْرِهِ .
وَلَنَا ، عَلَى مَالِكٍ ، أَنَّ الْأُمَّ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ ، فَيَتْبَعُهَا وَلَدُهَا فِي الْإِسْلَامِ ، كَالْأَبِ ، بَلْ الْأُمُّ أَوْلَى بِهِ ، لِأَنَّهَا أَخَصُّ بِهِ ، لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْهَا حَقِيقَةً ، وَتَخْتَصُّ بِحَمْلِهِ وَرَضَاعِهِ ، وَيَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ ، وَلِأَنَّ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ يَتْبَعُ الْوَلَدُ أُمَّهُ دُونَ أَبِيهِ ، وَهَذَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرَهُ .
وَأَمَّا تَخْيِيرُ الْغُلَامِ ، فَهُوَ فِي الْحَضَانَةِ لَا فِي الدِّينِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَكَذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ عَلَى كُفْرِهِ ، قُسِمَ لَهُ الْمِيرَاثُ ؛ وَكَانَ مُسْلِمًا بِمَوْتِ مَنْ مَاتَ مِنْهُمَا ) يَعْنِي ، إذَا مَاتَ أَحَدُ أَبَوَيْ الْوَلَدِ الْكَافِرَيْنِ ، صَارَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا بِمَوْتِهِ ، وَقُسِمَ لَهُ الْمِيرَاثُ .
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِمَوْتِهِمَا وَلَا مَوْتِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتْ كُفْرُهُ تَبَعًا ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إسْلَامٌ ، وَلَا مِمَّنْ هُوَ تَابِعٌ لَهُ فَوَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ خُلَفَائِهِ ، أَنَّهُ أَجْبَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَوْتِ أَبِيهِ ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ زَمَنُهُمْ عَنْ مَوْتِ بَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ يَتِيمٍ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ { : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَجَعَلَ كُفْرَهُ بِفِعْلِ أَبَوَيْهِ ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا ، انْقَطَعْت التَّبَعِيَّةُ ، فَوَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي وُلِدَ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِيمَنْ مَاتَ أَبُوهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَقَضِيَّةُ الدَّارِ الْحُكْمُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا ، وَلِذَلِكَ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْكُفْرُ لِلطِّفْلِ الَّذِي لَهُ أَبَوَانِ ، فَإِذَا عُدِمَا أَوْ أَحَدُهُمَا ، وَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى حُكْمِ الدَّارِ ، لِانْقِطَاعِ تَبَعِيَّتِهِ لِمَنْ يُكَفَّرُ بِهَا ، وَإِنَّمَا قُسِمَ لَهُ الْمِيرَاثُ ، لِأَنَّ إسْلَامَهُ إنَّمَا ثَبَتَ بِمَوْتِ أَبِيهِ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ الْمِيرَاثَ ، فَهُوَ سَبَبٌ لَهُمَا ، فَلَمْ يَتَقَدَّمْ الْإِسْلَامُ الْمَانِعُ مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ الْمُعَلَّقَةَ بِالْمَوْتِ لَا تُوجِبُ الْمِيرَاثَ فِيمَا إذَا قَالَ سَيِّدُ الْعَبْدِ لَهُ : إذَا مَاتَ أَبُوك فَأَنْتَ حُرٌّ .
فَمَاتَ أَبُوهُ ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ وَلَا يَرِثُ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ
الْإِسْلَامُ الْمُعَلَّقُ بِالْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ الْمِيرَاثَ ، وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى انْقَطَعَتْ تَبَعِيَّتُهُ لِأَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا ، ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الدَّارِ ، فَأَمَّا دَارُ الْحَرْبِ ، فَلَا نَحْكُمُ بِإِسْلَامِ وَلَدِ الْكَافِرَيْنِ فِيهَا بِمَوْتِهِمَا ، وَلَا مَوْتِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِ أَهْلِهَا ، وَكَذَلِكَ لَمْ نَحْكُمْ بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا .
( 7109 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ ، فَقَالَ : مَا كَفَرْت .
فَإِنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، لَمْ يُكْشَفْ عَنْ شَيْءٍ ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ ( 7110 ) : الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ مَنْ تَثْبُتُ الرِّدَّةُ بِشَهَادَتِهِ ، فَأَنْكَرَ ، لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ وَاسْتُتِيبَ ، فَإِنْ تَابَ ، وَإِلَّا قُتِلَ .
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّ إنْكَارَهُ يَكْفِي فِي الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ النُّطْقُ بِالشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْكُفْرِ ثُمَّ أَنْكَرَهُ ، قُبِلَ مِنْهُ ، وَلَمْ يُكَلَّفْ الشَّهَادَتَيْنِ ، كَذَا هَاهُنَا .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ أُتِيَ بَرْجَلٍ عَرَبِيٍّ قَدْ تَنَصَّرَ ، فَاسْتَتَابَهُ ، فَأَبَى أَنْ يَتُوبَ ، فَقَتَلَهُ ، وَأُتِيَ بِرَهْطٍ يُصَلُّونَ وَهُمْ زَنَادِقَةٌ ، وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الشُّهُودُ الْعُدُولُ ، فَجَحَدُوا ، وَقَالُوا : لَيْسَ لَنَا دِينٌ إلَّا الْإِسْلَامَ .
فَقَتَلَهُمْ ، وَلَمْ يَسْتَتِبْهُمْ ، ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرُونَ لِمَ اسْتَتَبْتُ النَّصْرَانِيَّ ؟ اسْتَتَبْتُهُ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ دِينَهُ ، فَأَمَّا الزَّنَادِقَةُ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ ، فَإِنَّمَا قَتَلْتُهُمْ لِأَنَّهُمْ جَحَدُوا ، وَقَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ .
وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ كُفْرُهُ ، فَلَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ بِدُونِ الشَّهَادَتَيْنِ ، كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ، وَلِأَنَّ إنْكَارَهُ تَكْذِيبٌ لِلْبَيِّنَةِ ، فَلَمْ تُسْمَعْ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى .
فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِالْكُفْرِ ثُمَّ أَنْكَرَ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ نَقُولَ فِيهِ كَمَسْأَلَتِنَا ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ بِقَوْلِهِ ، فَقُبِلَ رُجُوعُهُ عَنْهُ ، وَمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِهِ ، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ ، كَالزِّنَى ، لَوْ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ فَرَجَعَ ، كُفَّ عَنْهُ ، وَإِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ ، لَمْ
يُقْبَلْ رُجُوعُهُ .
( 7111 ) فَصْلٌ : وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الرِّدَّةِ مِنْ عَدْلَيْنِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَبِهِ يَقُولُ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ ، إلَّا الْحَسَنَ ، قَالَ : لَا يُقْبَلُ فِي الْقَتْلِ إلَّا أَرْبَعَةٌ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ بِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ ، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهَا إلَّا أَرْبَعَةٌ ، قِيَاسًا عَلَى الزِّنَى .
وَلَنَا ، أَنَّهَا شَهَادَةٌ فِي غَيْرِ الزِّنَى ، فَقُبِلَتْ مِنْ عَدْلَيْنِ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى السَّرِقَةِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الزِّنَى ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْأَرْبَعَةُ لِعِلَّةِ الْقَتْلِ ، بِدَلِيلِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ فِي زِنَى الْبِكْرِ ، وَلَا قَتْلَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ كَوْنُهُ زِنًى ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الرِّدَّةِ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَى يُوجِبُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ، بِخِلَافِ الْقَذْفِ بِالرِّدَّةِ .
( 7112 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ رِدَّتُهُ بِالْبَيِّنَةِ ، أَوْ غَيْرِهَا فَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، لَمْ يُكْشَفْ عَنْ صِحَّةِ مَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهِ ، وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ ، وَلَا يُكَلَّفُ الْإِقْرَارَ بِمَا نُسِبَ إلَيْهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ هَذَا يَثْبُتُ بِهِ إسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَكَذَلِكَ إسْلَامُ الْمُرْتَدِّ ، وَلَا حَاجَةَ مَعَ ثُبُوتِ إسْلَامِهِ إلَى الْكَشْفِ عَنْ صِحَّةِ رِدَّتِهِ .
وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِجَحْدِ الْوَحْدَانِيَّةِ ، أَوْ جَحْدِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ جَحْدِهِمَا مَعًا ، فَأَمَّا مَنْ كَفَرَ بِغَيْرِ هَذَا ، فَلَا يَحْصُلُ إسْلَامُهُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ بِمَا جَحَدَهُ .
وَمَنْ أَقَرَّ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْكَرَ كَوْنَهُ مَبْعُوثًا إلَى الْعَالَمِينَ ، لَا يَثْبُتُ إسْلَامُهُ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، أَوْ يَتَبَرَّأَ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ الْإِسْلَامَ .
وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ مَبْعُوثٍ بَعْدُ غَيْرِ هَذَا ، لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ بِأَنَّ هَذَا الْمَبْعُوثَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ ، احْتَمَلَ أَنَّهُ أَرَادَ مَا اعْتَقَدَهُ .
وَإِنْ ارْتَدَّ بِجُحُودِ فَرْضٍ ، لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى يُقِرَّ بِمَا جَحَدَهُ ، وَيُعِيدَ الشَّهَادَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِمَا اعْتَقَدَهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ جَحَدَ نَبِيًّا ، أَوْ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ كِتَابًا مِنْ كُتُبِهِ ، أَوْ مَلَكًا مِنْ مَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ ثَبَتَ أَنَّهُمْ مَلَائِكَةُ اللَّهِ ، أَوْ اسْتَبَاحَ مُحَرَّمًا ، فَلَا بُدَّ فِي إسْلَامِهِ مِنْ
الْإِقْرَارِ بِمَا جَحَدَهُ .
وَأَمَّا الْكَافِرُ بِجَحْدِ الدِّينِ مِنْ أَصْلِهِ ، إذَا شَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ { أَنَّ يَهُودِيًّا قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
ثُمَّ مَاتَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ .
} وَلِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَهُوَ مُقِرٌّ بِمَنْ أَرْسَلَهُ ، وَبِتَوْحِيدِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ ، وَقَدْ جَاءَ بِتَوْحِيدِهِ .
وَالثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ إنْ كَانَ مُقِرًّا بِالتَّوْحِيدِ كَالْيَهُودِ ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّ تَوْحِيدَ اللَّهِ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ ، وَقَدْ ضَمَّ إلَيْهِ الْإِقْرَارَ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَمُلَ إسْلَامُهُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُوَحِّدٍ ، كَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وَالْوَثَنِيِّينَ ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ ، حَتَّى يَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
وَبِهَذَا جَاءَتْ أَكْثَرُ الْأَخْبَارِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَحَدَ شَيْئَيْنِ لَا يَزُولُ جَحْدُهُمَا إلَّا بِإِقْرَارِهِ بِهِمَا جَمِيعًا .
وَإِنْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ .
لَمْ نَحْكُمْ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ غَيْرَ نَبِيِّنَا .
وَإِنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ .
فَقَالَ الْقَاضِي : يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِهَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِالشَّهَادَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْمَانِ لِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مَعْرُوفٍ وَهُوَ الشَّهَادَتَانِ ، فَإِذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا تَضَمَّنَ الشَّهَادَتَيْنِ ، كَانَ مُخْبِرًا بِهِمَا .
وَرَوَى الْمِقْدَادُ ، أَنَّهُ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ ، فَقَاتَلَنِي ، فَضَرَبَ إحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ ، فَقَطَعَهَا ، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ ، فَقَالَ : أَسْلَمْتُ .
أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ
قَالَهَا ؟ قَالَ : لَا تَقْتُلْهُ ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِك قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ ، وَإِنَّك بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الَّتِي قَالَهَا .
} وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ .
قَالَ : { أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إنِّي مُسْلِمٌ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ كُنْتَ قُلْتَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك ، أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلَاحِ } .
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذَا فِي الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ، أَوْ مَنْ جَحَدَ الْوَحْدَانِيَّةَ أَمَّا مَنْ كَفَرَ بِجَحْدِ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ أَوْ فَرِيضَةٍ وَنَحْوِهَا ، فَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مَا هُوَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ كُلَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُسْلِمُونَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ كَافِرٌ .
( 7113 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَتَى الْكَافِرُ بِالشَّهَادَتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : لَمْ أُرِدْ الْإِسْلَامَ فَقَدْ صَارَ مُرْتَدًّا ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ .
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ ، فَلَا يُرَاقُ دَمُهُ بِالشُّبْهَةِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، فَيُقْتَلُ إذَا رَجَعَ كَمَا لَوْ طَالَتْ مُدَّتُهُ .
( 7114 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَلَّى الْكَافِرُ ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ صَلَّى جَمَاعَةً أَوْ فُرَادَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ صَلَّى فِي دَارِ الْحَرْبِ ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، وَإِنْ صَلَّى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، لَمْ يُحْكَمْ بِإِسْلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَلَّى رِيَاءً وَتَقِيَّةً .
وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ إسْلَامًا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ إسْلَامًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، كَالشَّهَادَتَيْنِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ رُكْنٌ يَخْتَصُّ بِهِ الْإِسْلَامُ ، فَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ بِهِ كَالشَّهَادَتَيْنِ .
وَاحْتِمَالُ التَّقِيَّةِ وَالرِّيَاءِ ، يَبْطُلُ بِالشَّهَادَتَيْنِ .
وَسَوَاءٌ كَانَ أَصْلِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا .
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَرْكَانِ ، مِنْ الزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ ، فَلَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِهِ ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَحُجُّونَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى مَنَعَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ .
} وَالزَّكَاةُ صَدَقَةٌ ، وَهُمْ يَتَصَدَّقُونَ .
وَقَدْ فَرَضَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مِنْ الزَّكَاةِ مِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَصِيرُوا بِذَلِكَ مُسْلِمِينَ ، وَأَمَّا الصِّيَامُ فَلِكُلِّ أَهْلِ دِينٍ صِيَامٌ ، وَلِأَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ بِفِعْلٍ ، إنَّمَا هُوَ إمْسَاكٌ عَنْ أَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ ، وَقَدْ يَتَّفِقُ هَذَا مِنْ الْكَافِرِ ، كَاتِّفَاقِهِ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِنِيَّةِ الصِّيَامِ ؛ لِأَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّهَا أَفْعَالٌ تَتَمَيَّزُ عَنْ أَفْعَالِ الْكُفَّارِ ، وَيَخْتَصُّ بِهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَثْبُتُ الْإِسْلَامُ حَتَّى يَأْتِيَ بِصَلَاةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ صَلَاةِ الْكُفَّارِ ، مِنْ اسْتِقْبَالِ قِبْلَتِنَا ، وَالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ ، وَلَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ فِي صَلَاتِهِمْ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْمُرْتَدِّ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّ مَا
حَصَلَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي الْأَصْلِيِّ ، حَصَلَ بِهِ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ كَالشَّهَادَتَيْنِ .
فَعَلَى هَذَا ، لَوْ مَاتَ الْمُرْتَدُّ فَأَقَامَ وَرَثَتُهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ رِدَّتِهِ ، حُكِمَ لَهُمْ بِالْمِيرَاثِ ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ أَنَّهُ ارْتَدَّ بَعْدَ صَلَاتِهِ أَوْ تَكُونَ رِدَّتُهُ بِجَحْدِ فَرِيضَةٍ ، أَوْ كِتَابٍ ، أَوْ نَبِيٍّ ، أَوْ مَلَكٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي يَنْتَسِبُ أَهْلُهَا إلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِصَلَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الصَّلَاةِ ، وَيَفْعَلُهَا مَعَ كُفْرِهِ ، فَأَشْبَهَ فِعْلَهُ غَيْرَهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7115 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ ، كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ ، فَأَسْلَمَ ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا ، مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ .
فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ .
وَإِنْ رَجَعَ إلَى دِينِ الْكُفْرِ ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَصِيرُ مُسْلِمًا فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ قُتِلَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ { : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
فَإِذَا قَالُوهَا ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا .
} وَلِأَنَّهُ أَتَى بِقَوْلِ الْحَقِّ ، فَلَزِمَهُ حُكْمُهُ كَالْحَرْبِيِّ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ ، كَالْمُسْلِمِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِكْرَاهِ قَوْله تَعَالَى : { لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ } .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ - إذَا أَقَامَ عَلَى مَا عُوهِدَ عَلَيْهِ - ، وَالْمُسْتَأْمَنَ لَا يَجُوزُ نَقْضُ عَهْدِهِ ، وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ .
وَلِأَنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ ، كَالْإِقْرَارِ وَالْعِتْقِ .
وَفَارَقَ الْحَرْبِيَّ وَالْمُرْتَدَّ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُمَا ، وَإِكْرَاهُهُمَا عَلَى الْإِسْلَامِ ، بِأَنْ يَقُولَ : إنْ أَسْلَمْتَ وَإِلَّا قَتَلْنَاك .
فَمَتَى أَسْلَمَ ، حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا .
وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ أُكْرِهَ بِحَقٍّ ، فَحُكِمَ بِصِحَّةِ مَا يَأْتِي بِهِ ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ الْمُسْلِمُ عَلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّى ، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ ، فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ ،
فَإِنَّ مَنْ اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ ، وَأَسْلَمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَهُوَ مُسْلِمٌ عِنْدَ اللَّهِ ، مَوْعُودٌ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَنْ أَسْلَمَ طَائِعًا ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ ، فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ ، لَا حَظَّ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ ، سَوَاءٌ فِي هَذَا مَنْ يَجُوزُ إكْرَاهُهُ ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ إكْرَاهُهُ ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ اعْتِقَادِهِ مِنْ الْعَاقِلِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ ، وَيَقُومُونَ بِفَرَائِضِهِ ، وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ .
( 7116 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ ، فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ ، لَمْ يَصِرْ كَافِرًا .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : هُوَ كَافِرٌ فِي الظَّاهِرِ ، تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ، وَلَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ إنْ مَاتَ ، وَلَا يُغَسَّلُ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ ، فَأَشْبَهَ الْمُخْتَارَ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ .
} وَرُوِيَ { أَنَّ عَمَّارًا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى تَكَلَّمَ بِمَا طَلَبُوا مِنْهُ ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ يَبْكِي ، فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ عَادُوا فَعُدْ } .
وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَجَابَهُمْ ، إلَّا بِلَالٌ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَحَدٌ .
أَحَدٌ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ .
} وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ ، وَفَارَقَ مَا إذَا أُكْرِهَ بِحَقٍّ ، فَإِنَّهُ خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَهُ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ .
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ ، فَمَتَى زَالَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ ، أُمِرَ بِإِظْهَارِ إسْلَامِهِ ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إسْلَامِهِ ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ ، مُخْتَارًا لَهُ .
وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ ، وَكَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ ،
وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ ، لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الْإِكْرَاهِ .
وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَالَ نُطْقِهِ بِهِ ، حُكِمَ بِرِدَّتِهِ .
فَإِنْ ادَّعَى وَرَثَتُهُ رُجُوعَهُ إلَى الْإِسْلَامِ ، لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَأْكُلُهُ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ ، كَمَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا .
وَإِنْ قَالَ بَعْضُ وَرَثَتِهِ : أَكَلَهُ مُسْتَحِلًّا لَهُ .
أَوْ أَقَرَّ بِرِدَّتِهِ ، حُرِمَ مِيرَاثَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَيُدْفَعُ إلَى مُدَّعِي إسْلَامِهِ قَدْرُ مِيرَاثِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْهُ ، وَيُدْفَعُ الْبَاقِي إلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِعَدَمِ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ، دُفِعَ إلَيْهِ نَصِيبُهُ ، وَنَصِيبُ الْمُقِرِّ بِرِدَّةِ الْمَوْرُوثِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ رِدَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ .
( 7117 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ ، فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ وَلَا يَقُولَهَا ، وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِمَا رَوَى خَبَّابٌ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ قَبْلِكُمْ لَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ، فَيُجْعَلُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِمِنْشَارٍ ، فَيُوضَعُ عَلَى شِقِّ رَأْسِهِ ، وَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ ، مَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ .
} وَجَاءَ تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْكُفَّارِ ، أَخَذَ قَوْمًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، فَخَدَّ لَهُمْ أُخْدُودًا فِي الْأَرْضِ ، وَأَوْقَدَ فِيهِ نَارًا ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَلْقُوهُ فِي النَّارِ .
فَجَعَلُوا يُلْقُونَهُمْ فِيهَا ، حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ عَلَى كَتِفِهَا صَبِيٌّ لَهَا ، فَتَقَاعَسَتْ مِنْ أَجْلِ الصَّبِيِّ ، فَقَالَ الصَّبِيُّ : يَا أُمَّهْ اصْبِرِي ، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ .
فَذَكَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُؤْسَرُ ، فَيُعْرَضُ عَلَى الْكُفْرِ ، وَيُكْرَهُ عَلَيْهِ ، أَلَهُ أَنْ يَرْتَدَّ ؟ فَكَرِهَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً ، وَقَالَ مَا يُشْبِهُ هَذَا عِنْدِي الَّذِينَ أُنْزِلَتْ فِيهِمْ الْآيَةُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ كَانُوا يُرَادُونَ عَلَى الْكَلِمَةِ ثُمَّ يُتْرَكُونَ يَعْمَلُونَ مَا شَاءُوا ، وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَتَرْكِ دِينِهِمْ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يُكْرَهُ عَلَى كَلِمَةٍ يَقُولُهَا ثُمَّ يُخَلَّى ، لَا ضَرَرَ فِيهَا ، وَهَذَا الْمُقِيمُ بَيْنَهُمْ ، يَلْتَزِمُ بِإِجَابَتِهِمْ إلَى الْكُفْرِ الْمُقَامِ عَلَيْهِ ، وَاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ ، وَفِعْلِ الْمَحْظُورَاتِ
وَالْمُنْكَرَاتِ ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً تَزَوَّجُوهَا ، وَاسْتَوْلَدُوهَا أَوْلَادًا كُفَّارًا ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ ، وَظَاهِرُ حَالِهِمْ الْمَصِيرُ إلَى الْكُفْرِ الْحَقِيقِيِّ ، وَالِانْسِلَاخُ مِنْ الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ .
( 7118 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ ارْتَدَّ وَهُوَ سَكْرَانُ ، لَمْ يُقْتَلُ حَتَّى يُفِيقَ ، وَيَتِمَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ وَقْتِ رِدَّتِهِ ، فَإِنْ مَاتَ فِي سُكْرِهِ ، مَاتَ كَافِرًا ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي رِدَّةِ السَّكْرَانِ ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا تَصِحُّ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْهُ ، لَا يَصِحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَصْدِ ، وَالسَّكْرَانُ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ وَلَا قَصْدُهُ ، فَأَشْبَهَ الْمَعْتُوهَ ، وَلِأَنَّهُ زَائِلُ الْعَقْلِ ، فَلَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ كَالنَّائِمِ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، فَلَمْ تَصِحَّ رِدَّتُهُ كَالْمَجْنُونِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، أَنَّ الْعَقْلَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ ، وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ ، وَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ اسْتِتَابَتُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، قَالُوا فِي السَّكْرَانِ : إذَا سَكِرَ هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، فَحَدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي .
فَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ حَدَّ الْفِرْيَةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا فِي سُكْرِهِ ، وَأَقَامُوا مَظِنَّتَهَا مُقَامَهَا ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ ، فَصَحَّتْ رِدَّتُهُ كَالصَّاحِي .
وَقَوْلُهُمْ " لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ " مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ ، وَيَأْثَمُ بِفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَهَذَا مَعْنَى التَّكْلِيفِ ، وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ لَا يَزُولُ عَقْلُهُ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَلِهَذَا يَتَّقِي الْمَحْذُورَاتِ ، وَيَفْرَحُ بِمَا يَسُرُّهُ ، وَيُسَاءُ بِمَا يَضُرُّهُ ، وَيَزُولُ سُكْرُهُ عَنْ قُرْبٍ مِنْ الزَّمَانِ ، فَأَشْبَهَ النَّاعِسَ ، بِخِلَافِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ ، وَأَمَّا اسْتِتَابَتُهُ فَتُؤَخَّرُ إلَى حِينِ صَحْوِهِ ، لِيَكْمُلَ عَقْلُهُ ، وَيَفْهَمَ مَا يُقَالُ لَهُ ، وَتُزَالَ شُبْهَتُهُ إنْ كَانَ قَدْ قَالَ الْكُفْرَ مُعْتَقِدًا لَهُ ، كَمَا تُؤَخَّرُ اسْتِتَابَتُهُ إلَى حِينِ زَوَالِ شِدَّةِ عَطَشِهِ وَجُوعِهِ ، وَيُؤَخَّرُ الصَّبِيُّ إلَى
حِينِ بُلُوغِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ جُعِلَ لِلزَّجْرِ ، وَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ فِي حَالِ سُكْرِهِ .
وَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ فِي حَالِ سُكْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ زَالَتْ بِرِدَّتِهِ .
وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ، لَمْ يَرِثْهُ وَرَثَتُهُ ، وَلَا يَقْتُلُهُ حَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ ارْتَدَّ ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ سُكْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ ، لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَصْحُوَ ، ثُمَّ يُسْتَتَابَ عَقِيبَ صَحْوِهِ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فِي الْحَالِ .
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي سُكْرِهِ صَحَّ إسْلَامُهُ ، ثُمَّ يُسْأَلُ بَعْدَ صَحْوِهِ ، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى إسْلَامِهِ ، فَهُوَ مُسْلِمٌ مِنْ حِينِ أَسْلَمَ ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ صَحِيحٌ ، وَإِنْ كَفَرَ فَهُوَ كَافِرٌ مِنْ الْآنَ ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ صَحَّ ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ اسْتِظْهَارًا ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إسْلَامِهِ فِي سُكْرِهِ ، مَاتَ مُسْلِمًا .
( 7119 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ إسْلَامُ السَّكْرَانِ فِي سُكْرِهِ ؛ سَوَاءٌ كَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّتْ رِدَّتُهُ مَعَ أَنَّهَا مَحْضُ مَضَرَّةٍ ، وَقَوْلُ بَاطِلٍ ، فَلَأَنْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ ، الَّذِي هُوَ قَوْلُ حَقٍّ ، وَمَحْضُ مَصْلَحَةٍ ، أَوْلَى .
فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إسْلَامِهِ ، وَقَالَ : لَمْ أَدْرِ مَا قُلْت .
لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى مَقَالَتِهِ ، وَأُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَسْلَمَ ، وَإِلَّا قُتِلَ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَصِحَّ إسْلَامُهُ ، بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ رِدَّتَهُ لَا تَصِحُّ ، فَإِنَّ مَنْ لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ ، لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ ، كَالطِّفْلِ وَالْمَعْتُوهِ .
( 7120 ) فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ رِدَّةُ الْمَجْنُونِ وَلَا إسْلَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لَهُ .
وَإِنْ ارْتَدَّ فِي صِحَّتِهِ ، ثُمَّ جُنَّ ، لَمْ يُقْتَلْ فِي حَالِ جُنُونِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الرِّدَّةِ ، وَالْمَجْنُونُ لَا يُوصَفُ بِالْإِصْرَارِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِتَابَتُهُ .
وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فَجُنَّ قُتِلَ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ ، وَهَا هُنَا يَسْقُطُ بِرُجُوعِهِ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا يَسْقُطُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَحِقِّ لَهُ ، فَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا أَنْ يُجَنَّ الْمُسْتَحِقُّ لِلْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي حَالَ جُنُونِهِ .
( 7121 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ ، أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، سَوَاءٌ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فِي رِدَّتِهِ ، أَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِهَا .
وَقَالَ قَتَادَةُ ، فِي مُسْلِمٍ أَحْدَثَ حَدَثًا ، ثُمَّ لَحِقَ بِالرُّومِ ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِ : إنْ كَانَ ارْتَدَّ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ارْتَدَّ ، أُقِيمَ عَلَيْهِ .
وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، إلَّا حُقُوقَ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ رِدَّتَهُ أَحْبَطَتْ عَمَلَهُ ، فَأَسْقَطَتْ مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي حَالِ شِرْكِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِرِدَّتِهِ ، كَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .
وَفَارَقَ مَا فَعَلَهُ فِي شِرْكِهِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ } .
فَالْمُرَادُ بِهِ مَا فَعَلَهُ فِي كُفْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ مَا قَبْلَ رِدَّتِهِ ، أَفْضَى إلَى كَوْنِ الرِّدَّةِ - الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ - مُكَفِّرَةً لِلذُّنُوبِ ، وَأَنَّ مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَزِمَتْهُ حُدُودٌ يَكْفُرُ ثُمَّ يُسْلِمُ فَتُكَفَّرُ ذُنُوبُهُ ، وَتَسْقُطُ حُدُودُهُ .
( 7122 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا فَعَلَهُ فِي رِدَّتِهِ ، فَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ ، قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ ، وَقَتَلَ النَّفْسَ ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَأَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ .
فَقَالَ : تُقَامُ فِيهِ الْحُدُودُ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ .
وَسَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ ارْتَدَّ فَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَقَتَلَ بِهَا مُسْلِمًا ، ثُمَّ رَجَعَ تَائِبًا ، وَقَدْ أَسْلَمَ ، فَأَخَذَهُ وَلِيُّهُ ، يَكُونُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؟ فَقَالَ : قَدْ زَالَ عَنْهُ الْحُكْمُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَتَلَ وَهُوَ مُشْرِكٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ سَرَقَ وَهُوَ مُشْرِكٌ .
ثُمَّ تَوَقَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَقَالَ : لَا أَقُولُ فِي هَذَا شَيْئًا .
وَقَالَ الْقَاضِي : مَا أَصَابَ فِي رِدَّتِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جُرْحٍ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي مَنَعَةٍ وَجَمَاعَةٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ بِإِقْرَارِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِجَحْدِهِ ، كَمَا لَا يَسْقُطُ مَا الْتَزَمَهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِجَحْدِهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ الْمُرْتَدُّ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَوْنِهِ فِي جَمَاعَةٍ مُمْتَنِعَةٍ ، لَا يَضْمَنُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا ، وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ هَذَا ، أُخِذَ بِهِ ، إذَا كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَلَزِمَهُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ ، كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ .
وَأَمَّا إنْ ارْتَكَبَ حَدًّا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ، كَالزِّنَى ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَالسَّرِقَةِ ، فَإِنَّهُ إنْ قُتِلَ بِالرِّدَّةِ ، سَقَطَ مَا سِوَى الْقَتْلِ مِنْ الْحُدُودِ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ مَعَ الْقَتْلِ حَدٌّ ، اُكْتُفِيَ بِالْقَتْلِ ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ ، أُخِذَ بِحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَأُخِذَ بِهِمَا ، كَالذِّمِّيِّ وَالْمُسْتَأْمَنِ .
وَأَمَّا حَدُّ الْخَمْرِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَافِرٌ ، فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ
الْخَمْرِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجِبَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ رِدَّتِهِ ، وَهَذَا مِنْ أَحْكَامِهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِجَحْدِهِ بَعْدَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7123 ) فَصْلٌ : وَمَنْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ ، أَوْ صَدَّقَ مَنْ ادَّعَاهُ ، فَقَدْ ارْتَدَّ ؛ لِأَنَّ مُسَيْلِمَةَ لَمَّا ادَّعَى النُّبُوَّةَ ، فَصَدَّقَهُ قَوْمُهُ ، صَارُوا بِذَلِكَ مُرْتَدِّينَ ، وَكَذَلِكَ طُلَيْحَةُ الْأَسَدِيُّ وَمُصَدِّقُوهُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ كَذَّابُونَ ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ .
}
( 7124 ) فَصْلٌ : وَمَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى ، كَفَرَ ، سَوَاءٌ كَانَ مَازِحًا أَوْ جَادًّا .
وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَهْزَأَ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ بِآيَاتِهِ أَوْ بِرُسُلِهِ ، أَوْ كُتُبِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ } .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْتَفَى مِنْ الْهَازِئِ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ ، حَتَّى يُؤَدَّبَ أَدَبًا يَزْجُرُهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُكْتَفَ مِمَّنْ سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْبَةِ فَمِمَّنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْلَى .
( 7125 ) فَصْلٌ : فِي السِّحْرِ : وَهُوَ عُقَدٌ وَرُقًى وَكَلَامٌ يَتَكَلَّمُ بِهِ ، أَوْ يَكْتُبُهُ ، أَوْ يَعْمَلُ شَيْئًا فِي بَدَنِ الْمَسْحُورِ أَوْ قَلْبِهِ ، أَوْ عَقْلِهِ ، مِنْ غَيْر مُبَاشَرَةٍ لَهُ .
وَلَهُ حَقِيقَةٌ ، فَمِنْهُ مَا يَقْتُلُ ، وَمَا يُمْرِضُ ، وَيَأْخُذُ الرَّجُلَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَيَمْنَعُهُ وَطْأَهَا ، وَمِنْهُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَمَا يُبَغِّضُ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ ، أَوْ يُحَبِّبُ بَيْنَ اثْنَيْنِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إلَى أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، إنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } .
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ شَيْئًا يَصِلُ إلَى بَدَنِ الْمَسْحُورِ ، كَدُخَانٍ وَنَحْوِهِ ، جَازَ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا أَنْ يَحْصُلَ الْمَرَضُ وَالْمَوْتُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِلَ إلَى بَدَنِهِ شَيْءٌ ، فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ، لَبَطَلَتْ مُعْجِزَاتُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْرِقُ الْعَادَاتِ ، فَإِذَا جَازَ مِنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ، بَطَلَتْ مُعْجِزَاتُهُمْ وَأَدِلَّتُهُمْ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } يَعْنِي السَّوَاحِرَ اللَّاتِي يَعْقِدْنَ فِي سِحْرِهِنَّ ، وَيَنْفُثْنَ عَلَيْهِ ، وَلَوْلَا أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ ، لَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } .
إلَى قَوْلِهِ : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } .
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ ، حَتَّى إنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ : أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفْتَانِي فِيمَا
اسْتَفْتَيْتُهُ ؟ أَنَّهُ أَتَانِي مَلَكَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي ، وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ ، فَقَالَ : مَا وَجَعُ الرَّجُلِ ؟ قَالَ : مَطْبُوبٌ قَالَ : مَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ : لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ ، فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ ، فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانِ .
} ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَغَيْرُهُ .
جُفُّ الطَّلْعَةِ : وِعَاؤُهَا .
وَالْمُشَاطَةُ : الشَّعَرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ شَعَرِ الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ إذَا مُشِطَ .
فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمْ سِحْرًا .
وَقَدْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ وُجُودُ عَقْدِ الرَّجُلِ عَنْ امْرَأَتِهِ حِينَ يَتَزَوَّجُهَا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِهَا ، وَحَلُّ عَقْدِهِ ، فَيَقْدِرُ عَلَيْهَا بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْهَا ، حَتَّى صَارَ مُتَوَاتِرًا لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ .
وَرُوِيَ مِنْ أَخْبَارِ السَّحَرَةِ مَا لَا يَكَادُ يُمْكِنُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ فِيهِ .
وَأَمَّا إبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ مَا يَأْتِي بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى أَنْ تَسْعَى الْعِصِيُّ وَالْحِبَالُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ وَتَعْلِيمَهُ حَرَامٌ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَيُكَفَّرُ السَّاحِرُ بِتَعَلُّمِهِ وَفِعْلِهِ ، سَوَاءٌ اعْتَقَدَ تَحْرِيمَهُ أَوْ إبَاحَتَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَفَّرُ ، فَإِنَّ حَنْبَلًا رُوِيَ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ عَمِّي فِي الْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ : أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلِ كُلِّهَا ، فَإِنَّهُ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْمُرْتَدِّ ، فَإِنْ تَابَ وَرَاجَعَ يَعْنِي يُخَلَّى سَبِيلُهُ .
قُلْت لَهُ : يُقْتَلُ ؟ قَالَ : لَا ، يُحْبَسُ ، لَعَلَّهُ يَرْجِعُ .
قُلْت لَهُ : لِمَ لَا تَقْتُلُهُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ يُصَلِّي ، لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَفَّرَهُ لَقَتَلَهُ .
وَقَوْلُهُ فِي مَعْنَى الْمُرْتَدِّ .
يَعْنِي الِاسْتِتَابَةَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنْ اعْتَقَدَ
أَنَّ الشَّيَاطِينَ تَفْعَلُ لَهُ مَا يَشَاءُ ، كُفِّرَ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لَمْ يُكَفَّرْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ اعْتَقَدَ مَا يُوجِبُ الْكُفْرَ ، مِثْلَ التَّقَرُّبِ إلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ ، وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا يَلْتَمِسُ ، أَوْ اعْتَقَدَ حِلَّ السِّحْرِ ، كُفِّرَ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَطَقَ بِتَحْرِيمِهِ ، وَثَبَتَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فُسِّقَ وَلَمْ يُكَفَّرْ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا سَحَرَتْهَا ، بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَلَوْ كُفِّرَتْ لَصَارَتْ مُرْتَدَّةً يَجِبُ قَتْلُهَا ، وَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُهَا ، وَلِأَنَّهُ شَيْءٌ يَضُرُّ بِالنَّاسِ ، فَلَمْ يُكَفَّرْ بِمُجَرَّدِهِ كَأَذَاهُمْ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } .
إلَى قَوْلِهِ : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } .
أَيْ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ، أَيْ وَمَا كَانَ سَاحِرًا كَفَرَ بِسِحْرِهِ .
وَقَوْلُهُمَا : إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ .
أَيْ لَا تَتَعَلَّمْهُ فَتَكْفُرَ بِذَلِكَ ، وَقَدْ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهَا ، فَجَعَلَتْ تَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا ، وَقَالَتْ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ عَجُوزًا ذَهَبَتْ بِي إلَى هَارُوتَ وَمَارُوتَ .
فَقُلْت : عَلِّمَانِي السِّحْرَ .
فَقَالَا : اتَّقِي اللَّهَ وَلَا تَكْفُرِي ، فَإِنَّكِ عَلَى رَأْسِ أَمْرِكِ .
فَقُلْت : عَلِّمَانِي السِّحْرَ .
فَقَالَا : اذْهَبِي إلَى ذَلِكَ التَّنُّورِ ، فَبُولِي فِيهِ .
فَفَعَلْتُ ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ فَارِسًا مُقَنَّعًا فِي الْحَدِيدِ خَرَجَ مِنِّي حَتَّى طَارَ ، فَغَابَ فِي السَّمَاءِ ، فَرَجَعْتُ إلَيْهِمَا ، فَأَخْبَرْتُهُمَا ، فَقَالَا : ذَلِكَ إيمَانُكِ .
فَذَكَرَتْ بَاقِيَ الْقِصَّةِ إلَى أَنْ قَالَتْ : وَاَللَّهِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا صَنَعْتُ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا ، وَلَا أَصْنَعُهُ أَبَدًا فَهَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَتْ
عَائِشَةُ : وَرَأَيْتهَا تَبْكِي بُكَاءً شَدِيدًا ، فَطَافَتْ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ - تَسْأَلُهُمْ ، هَلْ لَهَا مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ ، إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهَا : إنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَبَوَيْكِ حَيًّا ، فَبِرِّيهِ ، وَأَكْثِرِي مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ مَا اسْتَطَعْتِ .
وَقَوْلُ عَائِشَةَ قَدْ خَالَفَهَا فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السَّاحِرُ كَافِرٌ وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُدَبَّرَةَ تَابَتْ فَسَقَطَ عَنْهَا الْقَتْلُ وَالْكُفْرُ بِتَوْبَتِهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا سَحَرَتْهَا ، بِمَعْنَى أَنَّهَا ذَهَبَتْ إلَى سَاحِرٍ سَحَرَ لَهَا .
( 7126 ) فَصْلٌ : وَحَدُّ السَّاحِرِ الْقَتْلُ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَحَفْصَةَ ، وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَجُنْدُبِ بْنِ كَعْبٍ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ .
وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْقَتْلَ بِمُجَرَّدِ السِّحْرِ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ ، أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، بَاعَتْ مُدَبَّرَةً سَحَرَتْهَا ، وَلَوْ وَجَبَ قَتْلُهَا لَمَا حَلَّ بَيْعُهَا ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ؛ كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ أَوْ زِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } .
وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحِلَّ دَمُهُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : حَدُّ السَّاحِرِ ، ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ .
} قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ .
، وَرَوَى سَعِيدٌ ، وَأَبُو دَاوُد فِي " كِتَابَيْهِمَا " ، عَنْ بَجَالَةَ قَالَ : كُنْت كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ ، إذْ جَاءَنَا كِتَابُ عُمَرَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ : اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ .
فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ فِي يَوْمٍ ، وَهَذَا اُشْتُهِرَ فَلَمْ يُنْكَرْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَقَتَلَتْ حَفْصَةُ جَارِيَةً لَهَا سَحَرَتْهَا .
وَقَتَلَ جُنْدُبُ بْنُ كَعْبٍ سَاحِرًا كَانَ يَسْحَرُ بَيْنَ يَدَيْ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ .
وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ فَيُقْتَلُ ؛ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَوْهُ .
( 7127 ) فَصْلٌ : وَهَلْ يُسْتَتَابُ السَّاحِرُ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا ، لَا يُسْتَتَابُ وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ اسْتَتَابَ سَاحِرًا ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ السَّاحِرَةَ سَأَلَتْ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ ، هَلْ لَهَا مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَمَا أَفْتَاهَا أَحَدٌ .
وَلِأَنَّ السِّحْرَ مَعْنًى فِي قَلْبِهِ ، لَا يَزُولُ بِالتَّوْبَةِ ، فَيُشْبِهُ مَنْ لَمْ يَتُبْ ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يُسْتَتَابُ ، فَإِنْ تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْظَمَ مِنْ الشِّرْكِ ، وَالْمُشْرِكُ يُسْتَتَابُ ، وَمَعْرِفَتُهُ السِّحْرَ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ تَوْبَتِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبِلَ تَوْبَةَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ وَجَعَلَهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فِي سَاعَةٍ ، وَلِأَنَّ السَّاحِرَ لَوْ كَانَ كَافِرًا فَأَسْلَمَ صَحَّ إسْلَامُهُ وَتَوْبَتُهُ ، فَإِذَا صَحَّتْ التَّوْبَةُ مِنْهُمَا صَحَّتْ مِنْ أَحَدِهِمَا ، كَالْكُفْرِ ، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْقَتْلَ إنَّمَا هُوَ بِعَمَلِهِ بِالسِّحْرِ ، لَا بِعِلْمِهِ ، بِدَلِيلِ السَّاحِرِ إذَا أَسْلَمَ ، وَالْعَمَلُ بِهِ يُمْكِنُ التَّوْبَةُ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ مَا يَكْفُرُ بِاعْتِقَادِهِ ، يُمْكِنُ التَّوْبَةُ مِنْهُ كَالشِّرْكِ ، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ التَّوْبَةِ فِي الدُّنْيَا ، مِنْ سُقُوطِ الْقَتْلِ وَنَحْوِهِ ، فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَسُقُوطِ عُقُوبَةِ الدَّارِ الْآخِرَةِ عَنْهُ ، فَتَصِحُّ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسُدَّ بَابَ التَّوْبَةِ عَنْ أَحَدٍ ، مِنْ خَلْقِهِ ، وَمَنْ تَابَ إلَى اللَّهِ قَبِلَ تَوْبَتَهُ ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
( 7128 ) فَصْلٌ : وَالسِّحْرُ الَّذِي ذَكَرْنَا حُكْمَهُ .
هُوَ الَّذِي يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ سِحْرًا ، مِثْلُ فِعْلِ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ ، حِينَ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ .
وَرَوَيْنَا فِي مَغَازِي الْأُمَوِيِّ أَنَّ النَّجَاشِيَّ دَعَا السَّوَاحِرَ ، فَنَفَخْنَ فِي إحْلِيلِ عُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَهَامَ مَعَ الْوَحْشِ ، فَلَمْ يَزَلْ مَعَهَا إلَى إمَارَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَمْسَكَهُ إنْسَانٌ ، فَقَالَ : خَلِّنِي وَإِلَّا مِتُّ ، فَلَمْ يُخَلِّهِ ، فَمَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ .
وَبَلَغَنَا أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ أَخَذَ سَاحِرَةً ، فَجَاءَ زَوْجُهَا كَأَنَّهُ مُحْتَرِقٌ ، فَقَالَ : قُولُوا لَهَا تَحُلُّ عَنِّي .
فَقَالَتْ : ائْتُونِي بِخُيُوطٍ وَبَابٍ .
فَأَتَوْهَا بِهِ ، فَجَلَسَتْ عَلَى الْبَابِ ، حِينَ أَتَوْهَا بِهِ وَجَعَلَتْ تَعْقِدُ ، وَطَارَ بِهَا الْبَابُ ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهَا .
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ ، مِثْلُ أَنْ يَعْقِدَ الرَّجُلَ الْمُتَزَوِّجَ ، فَلَا يُطِيقَ وَطْءَ زَوْجَتِهِ ، هُوَ السِّحْرُ الْمُخْتَلَفُ فِي حُكْمِ صَاحِبِهِ ، فَأَمَّا الَّذِي يُعَزِّمُ عَلَى الْمَصْرُوعِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْجِنَّ ، وَيَأْمُرُهَا فَتُطِيعُهُ ، فَهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ ظَاهِرًا .
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي جُمْلَةِ السَّحَرَةِ .
وَأَمَّا مَنْ يَحُلُّ السِّحْرَ ، فَإِنْ كَانَ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ الذِّكْرِ وَالْإِقْسَامِ وَالْكَلَامِ الَّذِي لَا بَأْسَ بِهِ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِشَيْءٍ مِنْ السِّحْرِ ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْهُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَحُلُّ السِّحْرَ ، فَقَالَ : قَدْ رَخَّصَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ .
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إنَّهُ يَجْعَلُ الطِّنْجِيرَ مَاءً ، وَيَغِيبُ فِيهِ ، وَيَعْمَلُ كَذَا ، فَنَفَضَ يَدَهُ كَالْمُنْكِرِ ، وَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ قِيلَ لَهُ : فَتَرَى أَنْ يُؤْتَى مِثْلُ هَذَا يَحُلُّ السِّحْرَ ؟ فَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ
، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ يُعَذِّبُهَا السَّحَرَةُ ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَخُطُّ خَطًّا عَلَيْهَا ، وَأَغْرِزُ السِّكِّينَ عِنْدَ مَجْمَعِ الْخَطِّ ، وَأَقْرَأُ الْقُرْآنَ .
فَقَالَ مُحَمَّدُ : مَا أَعْلَمُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَأْسًا عَلَى حَالٍ ، وَلَا أَدْرِي مَا الْخَطُّ وَالسِّكِّينُ ؟ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الرَّجُلِ يُؤْخَذُ عَنْ امْرَأَتِهِ ، فَيَلْتَمِسُ مَنْ يُدَاوِيهِ ، فَقَالَ : إنَّمَا نَهَى اللَّهُ عَمَّا يَضُرُّ ، وَلَمْ يَنْهَ عَمَّا يَنْفَعُ .
وَقَالَ أَيْضًا : إنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْفَعَ أَخَاك فَافْعَلْ .
فَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَزِّمَ وَنَحْوَهُ ، لَمْ يَدْخُلُوا فِي حُكْمِ السَّحَرَةِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يُسَمَّوْنَ بِهِ ، وَهُوَ مِمَّا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ .
( 7129 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْكَاهِنُ الَّذِي لَهُ رَئِيٌّ مِنْ الْجِنِّ ، تَأْتِيه بِالْأَخْبَارِ ، وَالْعَرَّافُ الَّذِي يَحْدُسُ وَيَتَخَرَّصُ ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ ، فِي الْعَرَّافِ وَالْكَاهِنِ وَالسَّاحِرِ : أَرَى أَنْ يُسْتَتَابَ مِنْ هَذِهِ الْأَفَاعِيلِ .
قِيلَ لَهُ يُقْتَلُ ؟ قَالَ : لَا ، يُحْبَسُ ، لَعَلَّهُ يَرْجِعُ .
قَالَ : وَالْعِرَافَةُ طَرَفٌ مِنْ السِّحْرِ ، وَالسَّاحِرُ أَخْبَثُ ، لِأَنَّ السِّحْرَ شُعْبَةٌ مِنْ الْكُفْرِ .
وَقَالَ : السَّاحِرُ وَالْكَاهِنُ حُكْمُهُمَا الْقَتْلُ ، أَوْ الْحَبْسُ حَتَّى يَتُوبَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَلْبِسَانِ أَمْرَهُمَا ، وَحَدِيثُ عُمَرَ اُقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَكَاهِنٍ .
وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، أَنَّهُ يُقْتَلُ إذَا لَمْ يَتُبْ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَقْتُلُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ السَّاحِرِ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَهَذَا بِدَرْءِ الْقَتْلِ عَنْهُ أَوْلَى .
( 7130 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا سَاحِرُ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَلَا يُقْتَلُ لِسِحْرِهِ ، إلَّا أَنْ يَقْتُلَ بِهِ - وَهُوَ مِمَّا يُقْتَلُ بِهِ غَالِبًا - فَيُقْتَلَ قِصَاصًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقْتَلُ ؛ لِعُمُومِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَلِأَنَّهُ جِنَايَةٌ أَوْجَبَتْ قَتْلَ الْمُسْلِمِ ، فَأَوْجَبَتْ قَتْلَ الذِّمِّيِّ كَالْقَتْلِ .
وَلَنَا ، { أَنَّ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ } .
وَلِأَنَّ الشِّرْكَ أَعْظَمُ مِنْ سِحْرِهِ ، وَلَا يُقْتَلُ بِهِ ، وَالْأَخْبَارُ وَرَدَتْ فِي سَاحِرِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ يَكْفُرُ بِسِحْرِهِ ، وَهَذَا كَافِرٌ أَصْلِيٌّ .
وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ ، وَالْمُتَكَلِّمِ بِهِ ، وَيَنْتَقِضُ بِالزِّنَى مِنْ الْمُحْصَنِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ الذِّمِّيُّ عِنْدَهُمْ ، وَيُقْتَلُ بِهِ الْمُسْلِمُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْحُدُودِ الزِّنَى حَرَامٌ ، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ الْعِظَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا .
} وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَالَ { سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك .
قَالَ : قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك .
قَالَ : قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك .
} أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
وَكَانَ حَدُّ الزَّانِي فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ الْحَبْسَ لِلثَّيِّبِ ، وَالْأَذَى بِالْكَلَامِ مِنْ التَّقْرِيعِ وَالتَّوْبِيخِ لِلْبِكْرِ ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : ( مِنْ نِسَائِكُمْ ) الثَّيِّبُ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( مِنْ نِسَائِكُمْ ) إضَافَةُ زَوْجِيَّةٍ ، كَقَوْلِهِ : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } .
وَلَا فَائِدَةَ فِي إضَافَتِهِ هَاهُنَا نَعْلَمُهَا إلَّا اعْتِبَارُ الثُّيُوبَةِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ عُقُوبَتَيْنِ ، إحْدَاهُمَا أَغْلَظُ مِنْ الْأُخْرَى ، فَكَانَتْ الْأَغْلَظُ لِلثَّيِّبِ ، وَالْأُخْرَى لِلْأَبْكَارِ .
كَالرَّجْمِ وَالْجَلْدِ ، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا بِمَا رَوَى عُبَادَةَ بْنُ الصَّامِتِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : خُذُوا عَنِّي ، خُذُوا
عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِالسُّنَّةِ ؟ قُلْنَا : قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى جَوَازِهِ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ طُرُقُهُ ، وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ قَالَ : لَيْسَ هَذَا نَسْخًا ، إنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ لِلْقُرْآنِ وَتَبْيِينٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ حُكْمٍ ظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ ، فَأَمَّا مَا كَانَ مَشْرُوطًا بِشَرْطٍ ، وَزَالَ الشَّرْطُ ، لَا يَكُونُ نَسْخًا ، وَهَا هُنَا شَرَطَ اللَّهُ تَعَالَى حَبْسَهُنَّ إلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا ، فَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ السَّبِيلَ ، فَكَانَ بَيَانًا لَا نَسْخًا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ نَسْخَهُ حَصَلَ بِالْقُرْآنِ ، فَإِنَّ الْجَلْدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالرَّجْمَ كَانَ فِيهِ ، فَنُسِخَ رَسْمُهُ ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ .
( 7131 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَإِذَا زَنَى الْحُرُّ الْمُحْصَنُ ، أَوْ الْحُرَّةُ الْمُحْصَنَةُ ، جُلِدَا وَرُجِمَا حَتَّى يَمُوتَا ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ، يُرْجَمَانِ ، وَلَا يُجْلَدَانِ ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ ثَلَاثَةٍ : الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى الزَّانِي الْمُحْصَنِ ، رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً .
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا إلَّا الْخَوَارِجَ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : الْجَلْدُ لِلْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ تَرْكُ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّابِتِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ ، لِأَخْبَارِ آحَادٍ يَجُوزُ الْكَذِبُ فِيهَا ، وَلِأَنَّ هَذَا يُفْضِي إلَى نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ ، فِي أَخْبَارٍ تُشْبِهُ الْمُتَوَاتِرَ ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي أَثْنَاءِ الْبَابِ فِي مَوَاضِعِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ، وَإِنَّمَا نُسِخَ رَسْمُهُ دُونَ حُكْمِهِ ، فَرُوِيَ عَنْ { عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ، فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ ، فَقَرَأْتُهَا وَعَقَلْتُهَا وَوَعَيْتُهَا ، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ .
فَأَخْشَى إنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ .
فَيَضِلُّوا
بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، فَالرَّجْمُ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إذَا أُحْصِنَ ، مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ، أَوْ الِاعْتِرَافُ ، وَقَدْ قَرَأْتهَا : الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا آيَةُ الْجَلْدِ ، فَنَقُولُ بِهَا ، فَإِنَّ الزَّانِيَ يَجِبُ جَلْدُهُ ، فَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا رُجِمَ مَعَ الْجَلْدِ ، وَالْآيَةُ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِنَفْيِهِ .
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ جَلَدَ شُرَاحَةَ ، ثُمَّ رَجَمَهَا ، وَقَالَ : جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ رَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ثُمَّ لَوْ قُلْنَا : إنَّ الثَّيِّبَ لَا يُجْلَدُ لَكَانَ هَذَا تَخْصِيصًا لِلْآيَةِ الْعَامَّةِ ، وَهَذَا سَائِغٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، فَإِنَّ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْإِثْبَاتِ كُلَّهَا مُخَصَّصَةٌ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا نَسْخٌ .
لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْصِيصٌ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ نَسْخًا ، لَكَانَ نَسْخًا بِالْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ رُسُلَ الْخَوَارِجِ جَاءُوا عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا عَابُوا عَلَيْهِ الرَّجْمُ ، وَقَالُوا : لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَّا الْجَلْدُ .
وَقَالُوا : الْحَائِضُ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهَا قَضَاءَ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ ، وَالصَّلَاةُ أَوْكَدُ .
فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ : وَأَنْتُمْ لَا تَأْخُذُونَ إلَّا بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ .
قَالَ : فَأَخْبِرُونِي عَنْ عَدَدِ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ ، وَعَدَدِ أَرْكَانِهَا وَرَكَعَاتِهَا وَمَوَاقِيتِهَا ، أَيْنَ تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ وَأَخْبِرُونِي عَمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ ، وَمَقَادِيرِهَا وَنُصُبِهَا ؟ فَقَالُوا : أَنْظِرْنَا فَرَجَعُوا يَوْمَهُمْ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا مِمَّا سَأَلَهُمْ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ .
فَقَالُوا : لَمْ نَجِدْهُ فِي الْقُرْآنِ .
قَالَ : فَكَيْفَ
ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ ؟ قَالُوا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ .
فَقَالَ لَهُمْ فَكَذَلِكَ الرَّجْمُ ، وَقَضَاءُ الصَّوْمِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ وَرَجَمَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ وَالْمُسْلِمُونَ ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ ، وَفَعَلَ ذَلِكَ نِسَاؤُهُ وَنِسَاءُ أَصْحَابِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَمَعْنَى الرَّجْمِ أَنْ يُرْمَى بِالْحِجَارَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يُقْتَلَ بِذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمَرْجُومَ يُدَامُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ حَتَّى يَمُوتَ .
وَلِأَنَّ إطْلَاقَ الرَّجْمِ يَقْتَضِي الْقَتْلَ بِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ } .
وَقَدْ { رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ زَنَيَا ، وَمَاعِزًا ، وَالْغَامِدِيَّةَ ، حَتَّى مَاتُوا .
}
فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الزَّانِي رَجُلًا أُقِيمَ قَائِمًا ، وَلَمْ يُوثَقْ بِشَيْءٍ وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ ، سَوَاءٌ ثَبَتَ الزِّنَى بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْفِرْ لِمَاعِزٍ .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : { لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِ مَاعِزٍ خَرَجْنَا بِهِ إلَى الْبَقِيعِ ، فَوَاَللَّهِ مَا حَفَرْنَا لَهُ ، وَلَا أَوْثَقْنَاهُ ، وَلَكِنَّهُ قَامَ لَنَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ الْحَفْرَ لَهُ ، وَدَفْنَ بَعْضِهِ ، عُقُوبَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ فِي حَقِّهِ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَثْبُتَ .
وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّهَا لَا يُحْفَرُ لَهَا أَيْضًا .
وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " الْخِلَافِ " ، وَذَكَرَ فِي " الْمُجَرَّدِ " أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ ، لَمْ يُحْفَرْ لَهَا ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ ، حُفِرَ لَهَا إلَى الصَّدْرِ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ وَبُرَيْدَةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ امْرَأَةً ، فَحَفَرَ لَهَا إلَى الثَّنْدُوَةِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا ، وَلَا حَاجَةَ إلَى تَمْكِينِهَا مِنْ الْهَرَبِ ، لِكَوْنِ الْحَدِّ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِفِعْلٍ مِنْ جِهَتِهَا ، بِخِلَافِ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ ، فَإِنَّهَا تُتْرَكُ عَلَى حَالٍ لَوْ أَرَادَتْ الْهَرَبَ تَمَكَّنَتْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهَا عَنْ إقْرَارِهَا مَقْبُولٌ .
وَلَنَا ، أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحَادِيثِ عَلَى تَرْكِ الْحَفْرِ ، فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْفِرْ لِلْجُهَنِيَّةِ ، وَلَا لِمَاعِزٍ ، وَلَا لِلْيَهُودِيَّيْنِ } ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ ، وَلَا يَقُولُونَ بِهِ ، فَإِنَّ الَّتِي نُقِلَ عَنْهُ الْحَفْرُ لَهَا ، ثَبَتَ حَدُّهَا بِإِقْرَارِهَا ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَنَا فِيهَا ، فَلَا يَسُوغُ لَهُمْ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مَعَ مُخَالِفَتِهِمْ لَهُ
.
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ ثِيَابَ الْمَرْأَةِ تُشَدُّ عَلَيْهَا ، كَيْ لَا تَنْكَشِفَ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، قَالَ : فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَشُدَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا .
( 7134 ) فَصْلٌ : وَالسُّنَّةُ أَنْ يَدُورَ النَّاسُ حَوْلَ الْمَرْجُومِ ، فَإِنْ كَانَ الزِّنَى ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ الشُّهُودُ بِالرَّجْمِ ، وَإِنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ بَدَأَ بِهِ الْإِمَامُ أَوْ الْحَاكِمُ ، إنْ كَانَ ثَبَتَ عِنْدَهُ ، ثُمَّ يَرْجُمُ النَّاسُ بَعْدَهُ .
وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الرَّجْمُ رَجْمَانِ ؛ فَمَا كَانَ مِنْهُ بِإِقْرَارٍ ، فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْإِمَامُ ، ثُمَّ النَّاسُ ، وَمَا كَانَ بِبَيِّنَةٍ ، فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْبَيِّنَةُ ، ثُمَّ النَّاسُ .
وَلِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ أَبْعَدُ لَهُمْ مِنْ التُّهْمَةِ فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ هَرَبَ مِنْهُمْ ، وَكَانَ الْحَدُّ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ ، اتَّبَعُوهُ حَتَّى يَقْتُلُوهُ ، وَإِنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ ، تَرَكُوهُ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ ، لَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ ، خَرَجَ يَشْتَدُّ ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ ، وَقَدْ عَجَزَ أَصْحَابُهُ ، فَنَزَعَ لَهُ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ فَرَمَاهُ بِهِ ، فَقَتَلَهُ ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ .
فَقَالَ : هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ ، يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ .
فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ فِي هَرَبِهِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ أُنَيْسٍ حِينَ قَتَلَ مَاعِزًا ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ زِنَاهُ بِإِقْرَارِهِ ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِاحْتِمَالِ الرُّجُوعِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْتَلْ ، وَأُتِيَ بِهِ الْإِمَامَ ، فَكَانَ مُقِيمًا عَلَى اعْتِرَافِهِ رَجَمَهُ ، وَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ ، تَرَكَهُ .
( 7135 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ يُجْلَدُ ، ثُمَّ يُرْجَمُ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَبُو ذَرٍّ .
ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْهُمَا ، وَاخْتَارَهُ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَدَاوُد ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يُرْجَمُ وَلَا يُجْلَدُ .
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ ؛ أَنَّهُمَا رَجَمَا وَلَمْ يَجْلِدَا .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا اجْتَمَعَ حَدَّانِ لِلَّهِ تَعَالَى ، فِيهِمَا الْقَتْلُ أَحَاطَ الْقَتْلُ بِذَلِكَ .
وَبِهَذَا قَالَ النَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ .
وَنَصَرَاهُ فِي " سُنَنِهِمَا " ؛ لِأَنَّ جَابِرًا رَوَى ، أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ ، وَرَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ وَلَمْ يَجْلِدْهَا .
وَقَالَ : وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِجَلْدِهَا ، وَكَانَ هَذَا آخِرَ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، يَقُولُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ : إنَّهُ أَوَّلُ حَدٍّ نَزَلَ ، وَإِنَّ حَدِيثَ مَاعِزٍ بَعْدَهُ ، رَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْلِدْهُ ، وَعُمَرُ رَجَمَ وَلَمْ يَجْلِدْ .
وَنَقَلَ عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ نَحْوَ هَذَا .
وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فِيهِ قَتْلٌ ، فَلَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهُ جَلْدٌ كَالرِّدَّةِ ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ إذَا اجْتَمَعَتْ وَفِيهَا قَتْلٌ سَقَطَ مَا سِوَاهُ ، فَالْحَدُّ أَوْلَى .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وَهَذَا عَامٌّ ، ثُمَّ جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالرَّجْمِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ ، وَالتَّغْرِيبِ فِي حَقِّ
الْبِكْرِ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا .
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَرَجَمْتهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ : { وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ ، الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } .
وَهَذَا الصَّرِيحُ الثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يُتْرَكُ إلَّا بِمِثْلِهِ ، وَالْأَحَادِيثُ الْبَاقِيَةُ لَيْسَتْ صَرِيحَةً ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الرَّجْمَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَلْدَ ، فَلَا يُعَارَضُ بِهِ الصَّرِيحُ ، بِدَلِيلِ أَنَّ التَّغْرِيبَ يَجِبُ بِذِكْرِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ ، وَلِأَنَّهُ زَانٍ فَيُجْلَدُ كَالْبِكْرِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ شُرِعَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ عُقُوبَتَانِ ؛ الْجَلْدُ وَالتَّغْرِيبُ ، فَيُشْرَعُ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ أَيْضًا عُقُوبَتَانِ ؛ الْجَلْدُ ، وَالرَّجْمُ ، فَيَكُونُ الرَّجْمُ مَكَانَ التَّغْرِيبِ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، يُبْدَأُ بِالْجَلْدِ أَوَّلًا ، ثُمَّ يُرْجَمُ ، فَإِنْ وَالَى بَيْنَهُمَا جَازَ ، لِأَنَّ إتْلَافَهُ مَقْصُودٌ ، فَلَا تَضُرُّ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ جَلَدَهُ يَوْمًا وَرَجَمَهُ آخَرَ ، جَازَ ، فَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ ، ثُمَّ رَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، ثُمَّ قَالَ : جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَرَجَمْتهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
( 7136 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الرَّجْمَ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُحْصَنِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ إنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنَ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ .
ذَكَرَ مِنْهَا : أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ .
} وَلِلْإِحْصَانِ شُرُوطٌ سَبْعَةٌ ؛ أَحَدُهُمَا ، الْوَطْءُ فِي الْقُبُلِ ، وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } .
وَالثِّيَابَةُ تَحْصُلُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ الْخَالِيَ عَنْ الْوَطْءِ ، لَا يَحْصُلُ بِهِ إحْصَانٌ ؛ سَوَاءٌ حَصَلَتْ فِيهِ خَلْوَةٌ ، أَوْ وَطْءٌ دُونَ الْفَرْجِ ، أَوْ فِي الدُّبُرِ ، أَوْ لَمْ يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ ثَيِّبًا ، وَلَا تَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَدِّ الْأَبْكَارِ ، الَّذِينَ حَدُّهُمْ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، بِمُقْتَضَى الْخَبَرِ .
وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَطْئًا حَصَلَ بِهِ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَدُّ الْوَطْءِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطْءِ .
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ فِي نِكَاحٍ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُسَمَّى إحْصَانًا ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ } .
يَعْنِي الْمُتَزَوِّجَاتِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّ الزِّنَى ، وَوَطْءَ الشُّبْهَةِ ، لَا يَصِيرُ بِهِ الْوَاطِئُ مُحْصَنًا .
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ التَّسَرِّيَ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ ، وَلَا تَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يَحْصُلُ الْإِحْصَانُ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ اللَّيْثِ ،
وَالْأَوْزَاعِيِّ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ سَوَاءٌ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ ، مِثْلُ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ ، وَتَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ وَأُمِّ الْمَرْأَةِ ، وَلَحَاقِ الْوَلَدِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِحْصَانِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ .
فَلَمْ يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ ، كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ ، وَلَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ بِالْوَطْءِ فِيهِ ، وَهَذِهِ ثَبَتَتْ فِي كُلِّ وَطْءٍ ، وَلَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالنِّكَاحِ ، إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ هَاهُنَا صَارَ شُبْهَةً ، فَصَارَ الْوَطْءُ فِيهِ كَوَطْءِ الشُّبْهَةِ سَوَاءً .
الرَّابِعُ ، الْحُرِّيَّةُ وَهِيَ شَرْطٌ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ كُلِّهِمْ ، إلَّا أَبَا ثَوْرٍ : قَالَ الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ هُمَا مُحْصَنَانِ ، يُرْجَمَانِ إذَا زَنَيَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إجْمَاعٌ يُخَالِفُ ذَلِكَ .
وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ فِي الْعَبْدِ تَحْتَهُ حُرَّةٌ : هُوَ مُحْصَنٌ ، يُرْجَمُ إذَا زَنَى ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَهُ أَمَةٌ ، لَمْ يُرْجَمْ .
وَهَذِهِ أَقْوَالٌ تُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } .
وَالرَّجْمُ لَا يَنْتَصِفُ ، وَإِيجَابُهُ كُلُّهُ يُخَالِفُ النَّصَّ مَعَ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ قَبْلَهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إذَا عَتَقَا بَعْدَ الْإِصَابَةِ ، فَهَذَا فِيهِ اخْتِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ وَافَقَ الْأَوْزَاعِيُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا وَطِئَ الْأَمَةَ ، ثُمَّ عَتَقَا ، لَمْ يَصِيرَا مُحْصَنَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَزَادَ فَقَالَ فِي الْمَمْلُوكَيْنِ إذَا أُعْتِقَا ، وَهُمَا مُتَزَوِّجَانِ ، ثُمَّ وَطِئَهَا الزَّوْجُ : لَا يَصِيرَانِ مُحْصَنَيْنِ بِذَلِكَ الْوَطْءِ .
وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ شَاذٌّ ، خَالَفَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِهِ ؛ فَإِنَّ الْوَطْءَ وُجِدَ مِنْهُمَا حَالَ كَمَالِهِمَا ، فَحَصَّنَهُمَا ، كَالصَّبِيَّيْنِ إذَا بَلَغَا .
الشَّرْطُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ ، الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ ، فَلَوْ وَطِئَ وَهُوَ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ ، ثُمَّ
بَلَغَ أَوْ عَقَلَ ، لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ : يَصِيرُ مُحْصَنًا ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ فِي رِقِّهِ ، ثُمَّ عَتَقَ ، يَصِيرُ مُحْصَنًا ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْلَالُ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا ، فَحَصَلَ بِهِ الْإِحْصَانُ كَالْمَوْجُودِ حَالَ الْكَمَالِ .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ ، جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ .
} فَاعْتَبَرَ الثُّيُوبَةَ خَاصَّةً ، وَلَوْ كَانَتْ تَحْصُلُ قَبْلَ ذَلِكَ ، لَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ قَبْلَ بُلُوغِهِ وَعَقْلِهِ ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ ، وَيُفَارِقُ الْإِحْصَانُ الْإِحْلَالَ ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْوَطْءِ فِي حَقِّ الْمُطَلِّقِ ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً لَهُ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَطَأَهَا غَيْرُهُ ، وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَأْبَاهُ الطِّبَاعُ وَيَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ ، فَاعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ زَجْرًا عَنْ الطَّلَاقِ ثَلَاثًا ، وَهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الْعَاقِلُ وَالْمَجْنُونُ ، بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ ، فَإِنَّهُ اُعْتُبِرَ لِكَمَالِ النِّعْمَةِ فِي حَقِّهِ ، فَإِنْ مَنْ كَمَلَتْ النِّعْمَةُ فِي حَقِّهِ ، كَانَتْ جِنَايَتُهُ أَفْحَشَ وَأَحَقَّ بِزِيَادَةِ الْعُقُوبَةِ ، وَالنِّعْمَةُ فِي الْعَاقِلِ الْبَالِغِ أَكْمَلُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الشَّرْطُ السَّابِعُ ، أَنْ يُوجَدَ الْكَمَالُ فِيهِمَا جَمِيعًا حَالَ الْوَطْءِ ، فَيَطَأُ الرَّجُلُ الْعَاقِلُ الْحُرُّ امْرَأَةً عَاقِلَةً حُرَّةً .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ ، وَنَحْوُهُ ، قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
قَالُوهُ فِي الرَّقِيقِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا كَامِلًا صَارَ مُحْصَنًا ، إلَّا الصَّبِيَّ إذَا وَطِئَ الْكَبِيرَةَ ، لَمْ يُحْصِنْهَا ، وَنَحْوُهُ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ .
وَاخْتُلِفَ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، فَقِيلَ : لَهُ قَوْلَانِ ، أَحَدُهُمَا ، كَقَوْلِنَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْكَامِلَ يَصِيرُ مُحْصَنًا .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ ،
بَالِغٌ عَاقِلٌ ، وَطِئَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ، فَصَارَ مُحْصَنًا ، كَمَا لَوْ كَانَ الْآخَرُ مِثْلَهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا الْقَوْلَانِ فِي الصَّبِيِّ دُونَ الْعَبْدِ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُحْصَنًا ، قَوْلًا وَاحِدًا ، إذَا كَانَ كَامِلًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ لَمْ يُحْصَنْ بِهِ أَحَدُ الْمُتَوَاطِئَيْنِ ، فَلَمْ يُحْصَنْ الْآخَرُ ، كَالتَّسَرِّي ، وَلِأَنَّهُ مَتَى كَانَ أَحَدُهُمَا نَاقِصًا ، لَمْ يَكْمُلْ الْوَطْءُ ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِحْصَانُ ، كَمَا لَوْ كَانَا غَيْرَ كَامِلَيْنِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ .
( 7137 ) فَصْلٌ : وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي الْإِحْصَانِ .
وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الذِّمِّيَّانِ مُحْصَنَيْنِ ، فَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيَّةً ، فَوَطِئَهَا ، صَارَا مُحْصَنَيْنِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الذِّمِّيَّةَ : لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالثَّوْرِيُّ : هُوَ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ .
فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ مُحْصَنًا ، وَلَا تُحْصِنُ الذِّمِّيَّةُ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ ، فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } .
وَلِأَنَّهُ إحْصَانٌ مِنْ شَرْطِهِ الْحُرِّيَّةُ ، فَكَانَ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِيهِ ، كَإِحْصَانِ الْقَذْفِ .
وَقَالَ مَالِكٌ كَقَوْلِهِمْ ، إلَّا أَنَّ الذِّمِّيَّةَ تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الْكَمَالُ فِي الزَّوْجَيْنِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : { جَاءَ الْيَهُودُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِالزِّنَى اسْتَوَتْ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحَدِّ .
وَحَدِيثُهُمْ لَمْ يَصِحَّ ، وَلَا نَعْرِفُهُ فِي مُسْنَدٍ .
وَقِيلَ : هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ .
ثُمَّ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى إحْصَانِ الْقَذْفِ ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ ، فَإِنَّ رَاوِيَهُمَا وَاحِدٌ ، وَحَدِيثُنَا صَرِيحٌ فِي الرَّجْمِ ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ خَبَرِهِمْ عَلَى الْإِحْصَانِ الْآخَرِ .
فَإِنْ قَالُوا : إنَّمَا رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودِيَّيْنِ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ رَاجَعَهَا ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، أَقَامَهُ
فِيهِمْ ، وَفِيهَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } .
قُلْنَا : إنَّمَا حَكَمَ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } .
وَلِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمُ بِغَيْرِ شَرِيعَتِهِ ، وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَسَاغَ لِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا رَاجَعَ التَّوْرَاةَ لِتَعْرِيفِهِمْ أَنَّ حُكْمَ التَّوْرَاةِ مُوَافِقٌ لِمَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّهُمْ تَارِكُونَ لِشَرِيعَتِهِمْ ، مُخَالِفُونَ لِحُكْمِهِمْ ، ثُمَّ هَذَا حُجَّةٌ لَنَا ، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي وُجُوبِ الرَّجْمِ إنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّهِمْ يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، فَقَدْ ثَبَتَ وُجُودُ الْإِحْصَانِ فِيهِمْ ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ سِوَى وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَى مَنْ زَنَى مِنْهُمْ بَعْدَ وُجُودِ شُرُوطِ الْإِحْصَانِ مِنْهُ ، وَإِنْ مَنَعُوا ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي حَقِّهِمْ ، فَلِمَ حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ .
وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى إحْصَانِ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْعِفَّةَ ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا هَاهُنَا .
( 7138 ) فَصْلٌ : وَلَوْ ارْتَدَّ الْمُحْصَنُ ، لَمْ يَبْطُلْ إحْصَانُهُ ، فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُحْصَنًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِنْدَهُ شَرْطٌ فِي الْإِحْصَانِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، ثُمَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ } .
وَلِأَنَّهُ زَنَى بَعْدَ الْإِحْصَانِ ، فَكَانَ حَدُّهُ الرَّجْمَ ، كَاَلَّذِي لَمْ يَرْتَدَّ .
فَأَمَّا إنْ نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ إحْصَانِهِ ، فَسُبِيَ وَاسْتُرِقَّ ، ثُمَّ أُعْتِقَ ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَبْطُلَ إحْصَانُهُ ، لِأَنَّهُ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ فَأَشْبَهَ مَنْ ارْتَدَّ .
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَبْطُلَ ؛ لِأَنَّهُ بَطَلَ بِكَوْنِهِ رَقِيقًا ، فَلَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ ، بِخِلَافِ مَنْ ارْتَدَّ .
فَصْلٌ : وَإِذَا زَنَى وَلَهُ زَوْجَةٌ لَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ، فَقَالَ : مَا وَطِئْتُهَا .
لَمْ يُرْجَمْ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُرْجَمُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ وَطْءٍ .
فَقَدْ حَكَمَ بِالْوَطْءِ ضَرُورَةَ الْحُكْمِ بِالْوَلَدِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِإِمْكَانِ الْوَطْءِ وَاحْتِمَالِهِ ، وَالْإِحْصَانُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ مَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْإِمْكَانِ وُجُودُ مَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَقِيقَةُ وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَهُ .
مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا فِي الزَّوْجِيَّةِ ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ مَعَ تَحَقُّقِ انْتِفَائِهِ ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ لِامْرَأَةٍ وَلَدٌ مِنْ زَوْجٍ ، فَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونُ وَطِئَهَا لَمْ يَثْبُتْ إحْصَانُهَا لِذَلِكَ .
( 7140 ) فَصْلٌ : وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الْإِحْصَانِ أَنَّهُ دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الدُّخُولِ كَالْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الْمُجَامَعَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَا يُكْتَفَى بِهِ حَتَّى تَقُولَ : جَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا .
أَوْ نَحْوَهُ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْوَةِ بِهَا ، وَلِهَذَا تَثْبُتُ بِهَا أَحْكَامُهُ .
وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَأَمَّا إذَا قَالَتْ : جَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا .
فَلَمْ نَعْلَمْ خِلَافًا فِي ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي إذَا قَالَتْ : وَطِئَهَا .
فَإِنْ قَالَتْ : بَاشَرَهَا ، أَوْ مَسَّهَا ، أَوْ أَصَابَهَا ، أَوْ أَتَاهَا .
فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ الْإِحْصَانُ ؛ لِأَنَّ هَذَا يُسْتَعْمَلُ فِيمَا دُونَ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ كَثِيرًا ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِحْصَانُ الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالِاحْتِمَالِ
( 7141 ) فَصْلٌ : وَإِذَا جُلِدَ الزَّانِي عَلَى أَنَّهُ بِكْرٌ ، ثُمَّ بَانَ مُحْصَنًا ، رُجِمَ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، { أَنَّ رَجُلًا زَنَى بِامْرَأَةٍ ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ الْحَدَّ ، ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّهُ مُحْصَنٌ ، فَرُجِمَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، فَقَدْ أَتَى بِبَعْضِ الْوَاجِبِ ، فَيَجِبُ إتْمَامُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْحَدِّ الْوَاجِبِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ .
( 7142 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُغَسَّلَانِ ، وَيُكَفَّنَانِ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمَا وَيُدْفَنَانِ ) لَا خِلَافَ فِي تَغْسِيلِهِمَا وَدَفْنِهِمَا ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمَا .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ شُرَاحَةَ وَكَانَ رَجَمَهَا ، فَقَالَ : اصْنَعُوا بِهَا كَمَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ .
وَصَلَّى عَلِيٌّ عَلَى شُرَاحَةَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : مَنْ قَتَلَهُ الْإِمَامُ فِي حَدٍّ لَا نُصَلِّي عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ جَابِرًا قَالَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ : فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ ، فِي حَدِيثِ الْجُهَنِيَّةِ : { فَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَتْ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَصَلَّوْا عَلَيْهَا ، فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهَا وَقَدْ زَنَتْ ؟ فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً ، لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ ، وَهَلْ وَجَدْت أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا ؟ } وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَفِيهِ : فَرُجِمَتْ ، وَصَلَّى عَلَيْهَا .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَوْ مَاتَ قَبْلَ الْحَدِّ صُلِّيَ عَلَيْهِ ، فَيُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهُ ، كَالسَّارِقِ .
وَأَمَّا خَبَرُ مَاعِزٍ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْضُرْهُ ، أَوْ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِأَمْرٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَا يُعَارِضُ مَا رَوَيْنَاهُ
مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا زَنَى الْحُرُّ الْبِكْرُ ، جُلِدَ مِائَةً ، وَغُرِّبَ عَامًا ) يَعْنِي لَمْ يُحْصَنْ وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْإِحْصَانَ وَشُرُوطَهُ ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْجَلْدِ عَلَى الزَّانِي إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا ، وَقَدْ جَاءَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وَجَاءَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافِقَةً لِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ .
وَيَجِبُ مَعَ الْجَلْدِ تَغْرِيبُهُ عَامًا ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ .
وَبِهِ قَالَ أُبَيٍّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : يُغَرَّبُ الرَّجُلُ دُونَ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إلَى حِفْظٍ وَصِيَانَةٍ ، وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ التَّغْرِيبِ بِمَحْرَمٍ أَوْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ، لَا يَجُوزُ التَّغْرِيبُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ } .
وَلِأَنَّ تَغْرِيبَهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ إغْرَاءٌ لَهَا بِالْفُجُورِ ، وَتَضْيِيعٌ لَهَا ، وَإِنْ غُرِّبَتْ بِمَحْرَمٍ ، أَفْضَى إلَى تَغْرِيبِ مَنْ لَيْسَ بِزَانٍ ، وَنَفْيِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ، وَإِنْ كُلِّفَتْ أُجْرَتَهُ ، فَفِي ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى عُقُوبَتِهَا بِمَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ ، كَمَا لَوْ زَادَ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ ، وَالْخَبَرُ الْخَاصُّ فِي التَّغْرِيبِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَالْعَامُّ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ الْعَمَلِ بِعُمُومِهِ مُخَالَفَةُ مَفْهُومِهِ ، فَإِنَّهُ دَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ
عَلَى الزَّانِي أَكْثَرُ مِنْ الْعُقُوبَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ ، وَإِيجَابُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْمَرْأَةِ يَلْزَمُ مِنْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ ، وَفَوَاتُ حِكْمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ زَجْرًا عَنْ الزِّنَا ، وَفِي تَغْرِيبِهَا إغْرَاءٌ بِهِ ، وَتَمْكِينٌ مِنْهُ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُخَصَّصُ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ بِإِسْقَاطِ الْجَلْدِ ، فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ ، فَتَخْصِيصُهُ هَاهُنَا أَوْلَى .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : لَا يَجِبُ التَّغْرِيبُ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : حَسْبُهُمَا مِنْ الْفِتْنَةِ أَنْ يُنْفَيَا .
وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّ عُمَرَ غَرَّبَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الْخَمْرِ إلَى خَيْبَرَ ، فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ فَتَنَصَّرَ ، فَقَالَ عُمَرُ : لَا أُغَرِّبُ مُسْلِمًا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا .
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْجَلْدِ دُونَ التَّغْرِيبِ ، فَإِيجَابُ التَّغْرِيبِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ، جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ ، { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا ، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ ، وَإِنَّنِي افْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ ، فَسَأَلْت رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَقَالُوا : إنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالرَّجْمُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ ، وَتَغْرِيبُ عَامٍ .
وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً ، وَغَرَّبَهُ عَامًا وَأَمَرَ أُنَيْسًا الْأَسْلَمِيَّ أَنْ يَأْتِيَ امْرَأَةَ الْآخَرِ ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ رَجَمَهَا ، فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ ، أَنَّهُ قَالَ : فَسَأَلْت رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَقَالُوا : إنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ
وَتَغْرِيبُ عَامٍ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَهُمْ ، مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَضَاءِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الَّذِي قَالَ لَهُ هَذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يَدُلُّ عَلَى عُقُوبَتَيْنِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ ، وَمَا رَوَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ لَا يَثْبُتُ ؛ لِضَعْفِ رُوَاتِهِ وَإِرْسَالِهِ .
وَقَوْلُ عُمَرَ : لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا .
فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ تَغْرِيبَهُ فِي الْخَمْرِ الَّذِي أَصَابَتْ الْفِتْنَةُ رَبِيعَةَ فِيهِ .
وَقَوْلُ مَالِكٍ يُخَالِفُ عُمُومَ الْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ حَدًّا فِي الرَّجُلِ ، يَكُونُ حَدًّا فِي الْمَرْأَةِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ .
وَقَوْلُ مَالِكٍ فِيمَا يَقَعُ لِي ، أَصَحُّ الْأَقْوَالِ وَأَعْدَلُهَا ، وَعُمُومُ الْخَبَرِ مَخْصُوصٌ بِخَبَرِ النَّهْيِ عَنْ سَفَرِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى سَائِرِ الْحُدُودِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوِي الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِهَا ، بِخِلَافِ هَذَا الْحَدِّ ، وَيُمْكِنُ قَلْبُ هَذَا الْقِيَاسِ ، بِأَنَّهُ حَدٌّ ، فَلَا تُزَادُ فِيهِ الْمَرْأَةُ عَلَى مَا عَلَى الرَّجُلِ ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ
( 7144 ) فَصْلٌ : وَيُغَرَّبُ الْبِكْرُ الزَّانِي حَوْلًا كَامِلًا ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَ مُضِيِّ الْحَوْلِ ، أُعِيدَ تَغْرِيبُهُ ، حَتَّى يُكْمِلَ الْحَوْلَ مُسَافِرًا ، وَيَبْنِي عَلَى مَا مَضَى .
وَيُغَرَّبُ الرَّجُلُ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهَا فِي حُكْمِ الْحَضَرِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ أَحْكَامُ الْمُسَافِرِينَ ، وَلَا يَسْتَبِيحُ شَيْئًا مِنْ رُخَصِهِمْ .
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ ، فَإِنْ خَرَجَ مَعَهَا مَحْرَمُهَا نُفِيَتْ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مَعَهَا مَحْرَمُهَا ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهَا تُغَرَّبُ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، كَالرَّجُلِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا تُغَرَّبُ إلَى دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ؛ لِتَقْرُبَ مِنْ أَهْلِهَا ، فَيَحْفَظُوهَا .
وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ أَحْمَدَ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي التَّغْرِيبِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ ، فَإِنَّهُ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : يُنْفَى مِنْ عَمَلِهِ إلَى عَمَلٍ غَيْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَوْ نُفِيَ إلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى ، بَيْنَهُمَا مِيلٌ أَوْ أَقَلُّ ، جَازَ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : يَجُوزُ أَنْ يُنْفَى مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ .
وَنَحْوُهُ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ وَرَدَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ ، فَيَتَنَاوَلُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، وَالْقَصْرُ يُسَمَّى سَفَرًا ، وَيَجُوزُ فِيهِ التَّيَمُّمُ ، وَالنَّافِلَةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ .
وَلَا يُحْبَسُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي نُفِيَ إلَيْهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ يُحْبَسُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ زِيَادَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ ، فَلَا تُشْرَعُ ، كَالزِّيَادَةِ عَلَى الْعَامِّ .
( 7145 ) فَصْلٌ : وَإِذَا زَنَى الْغَرِيبُ غُرِّبَ إلَى بَلَدٍ غَيْرِ وَطَنِهِ .
وَإِنْ زَنَى فِي الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ إلَيْهِ ، غُرِّبَ مِنْهُ إلَى غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي غُرِّبَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّغْرِيبِ يَتَنَاوَلُهُ حَيْثُ كَانَ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ أَنِسَ بِالْبَلَدِ الَّذِي سَكَنَهُ ، فَيُبْعَدُ عَنْهُ .
( 7146 ) فَصْلٌ : وَيَخْرُجُ مَعَ الْمَرْأَةِ مَحْرَمُهَا حَتَّى يُسْكِنَهَا فِي مَوْضِعٍ ، ثُمَّ إنْ شَاءَ رَجَعَ إذَا أَمِنَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ مَعَهَا حَتَّى يَكْمُلَ حُولُهَا .
وَإِنْ أَبَى الْخُرُوجَ مَعَهَا ، بَذَلَتْ لَهُ الْأُجْرَةَ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَتَبْذُلُ مِنْ مَالِهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ مُؤْنَةِ سَفَرِهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا التَّغَرُّبُ بِنَفْسِهَا ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا زِيَادَةٌ عَلَيْهِ كَالرَّجُلِ ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ مُؤْنَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ ، فَلَمْ يَلْزَمْهَا ، كَأُجْرَةِ الْجَلَّادِ .
فَعَلَى هَذَا تُبْذَلُ الْأُجْرَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا ، إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ ، بُذِلَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
فَإِنْ أَبَى مَحْرَمُهَا الْخُرُوجَ مَعَهَا ، لَمْ يُجْبَرْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ ، غُرِّبَتْ مَعَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ .
وَالْقَوْلُ فِي أُجْرَةِ مَنْ يُسَافِرُ مَعَهَا مِنْهُنَّ ، كَالْقَوْلِ فِي أُجْرَةِ الْمَحْرَمِ .
فَإِنْ أَعْوَزَ ، فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ : تَبْقَى بِغَيْرِ مَحْرَمٍ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَأْخِيرِهِ ، فَأَشْبَهَ سَفَرَ الْهِجْرَةِ وَالْحَجِّ إذَا مَاتَ مُحْرِمُهَا فِي الطَّرِيقِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ النَّفْيُ ، إذَا لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا ، كَمَا يَسْقُطُ سَفَرُ الْحَجِّ ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ ، فَإِنَّ تَغْرِيبَهَا إغْرَاءٌ لَهَا بِالْفُجُورِ ، وَتَعْرِيضٌ لَهَا لِلْفِتْنَةِ ، وَعُمُومُ الْحَدِيثِ مَخْصُوصٌ بِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ سَفَرِهَا بِغَيْرِ مَحْرَمٍ .
( 7147 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَدَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَالطَّائِفَةُ وَاحِدٌ فَمَا فَوْقَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٍ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا وَاحِدًا مَعَ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ حَاصِلٌ ضَرُورَةً ، فَيَتَعَيَّنُ صَرْفُ الْأَمْرِ إلَى غَيْرِهِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَإِسْحَاقُ : اثْنَانِ .
فَإِنْ أَرَادَ بِهِ وَاحِدًا مَعَ الَّذِي يُقِيمُ الْحَدَّ ، فَهُوَ مِثْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ أَرَادَ اثْنَيْنِ غَيْرَهُ ، فَوَجْهُهُ أَنَّ الطَّائِفَةَ اسْمٌ لِمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِد ، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : ثَلَاثَةٌ ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ جَمَاعَةٌ ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ ، وَقَالَ مَالِكٌ : أَرْبَعَةٌ ؛ لِأَنَّهُ الْعَدَدُ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَى .
وَلِلشَّافِعِيِّ ، قَوْلَانِ ، كَقَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ : خَمْسَةٌ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : عَشَرَةٌ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : نَفَرٌ .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلِأَنَّ اسْمَ الطَّائِفَةِ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } .
ثُمَّ قَالَ : { فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } .
وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً } .
: إنَّهُ مَخْشِيُّ بْنُ حِمْيَرٍ وَحْدَهُ .
وَلَا يَجِبُ أَنْ يَحْضُرَ الْإِمَامُ ، وَلَا الشُّهُودُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ ثَبَتَ الْحَدُّ بِبَيِّنَةٍ ، فَعَلَيْهَا الْحُضُورُ ، وَالْبُدَاءَةُ بِالرَّجْمِ ، وَإِنْ ثَبَتَ بِاعْتِرَافٍ ، وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْحُضُورُ ، وَالْبُدَاءَةُ بِالرَّجْمِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الرَّجْمُ رَجَمَانِ ؛ فَمَا كَانَ مِنْهُ بِإِقْرَارٍ ، فَأَوَّلُ مَنْ يَرْجُمُ الْإِمَامُ ، ثُمَّ النَّاسُ ، وَمَا كَانَ بِبَيِّنَةٍ ، فَأَوَّلُ مِنْ يَرْجُمُ
الْبَيِّنَةُ ، ثُمَّ النَّاسُ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، بِإِسْنَادِهِ .
وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَحْضُرْ الْبَيِّنَةُ وَلَا الْإِمَامُ ، كَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً ، وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَلَنَا ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِرَجْمِ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ ، وَلَمْ يَحْضُرْهُمَا ، } وَالْحَدُّ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِمَا .
وَقَالَ : { يَا أُنَيْسُ ، اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } .
وَلَمْ يَحْضُرْهَا .
وَلِأَنَّهُ حَدٌّ ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَحْضُرَهُ الْإِمَامُ ، وَلَا الْبَيِّنَةُ ، كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَخَلُّفَهُمْ عَنْ الْحُضُورِ ، وَلَا امْتِنَاعَهُمْ مِنْ الْبُدَاءَةِ بِالرَّجْمِ ، شُبْهَةٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ وَالْفَضِيلَةِ .
قَالَ أَحْمَدُ : سُنَّةُ الِاعْتِرَافِ أَنْ يَرْجُمَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ .
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ ، رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ ، عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ أَنَّهُ رَجَمَ امْرَأَةً ، فَحَفَرَ لَهَا إلَى الثَّنْدُوَةِ ، ثُمَّ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ ، ثُمَّ قَالَ : ارْمُوا ، وَاتَّقُوا الْوَجْهَ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
( 7148 ) فَصْلٌ : وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى حَامِلٍ حَتَّى تَضَعَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ زِنًى أَوْ غَيْرِهِ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْحَامِلَ لَا تُرْجَمُ حَتَّى تَضَعَ .
وَقَدْ رَوَى بُرَيْدَةَ ، { أَنَّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي غَامِدٍ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، طَهِّرْنِي .
قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَتْ : إنَّهَا حُبْلَى مِنْ زِنًى .
قَالَ : أَنْتِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ .
فَقَالَ لَهَا : ارْجِعِي حَتَّى تَضَعِينَ مَا فِي بَطْنِك .
قَالَ ، فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ ، قَالَ : فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قَدْ وَضَعَتْ الْغَامِدِيَّةُ .
فَقَالَ : إذًا لَا نَرْجُمُهَا ، وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ تُرْضِعُهُ .
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ : إلَيَّ إرْضَاعَهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، قَالَ : فَرَجَمَهَا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً زَنَتْ فِي أَيَّامِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهَا وَهِيَ حَامِلٌ ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ : إنْ كَانَ لَك سَبِيلٌ عَلَيْهَا ، فَلَيْسَ لَك سَبِيلٌ عَلَى حَمْلِهَا .
فَقَالَ : عَجَزَ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَك .
وَلَمْ يَرْجُمْهَا .
وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ .
وَلِأَنَّ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا إتْلَافًا لَمَعْصُومٍ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا أَوْ غَيْرَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَلَفُ الْوَلَدِ مِنْ سِرَايَةِ الضَّرْبِ وَالْقَطْعِ ، وَرُبَّمَا سَرَى إلَى نَفْسِ الْمَضْرُوبِ وَالْمَقْطُوعِ ، فَيَفُوتُ الْوَلَدُ بِفَوَاتِهِ .
فَإِذَا وَضَعْت الْوَلَدَ ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا ، لَمْ تُرْجَمْ حَتَّى تَسْقِيَهُ اللِّبَأَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَعِيشُ إلَّا بِهِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ ، أَوْ تَكَفَّلَ أَحَدٌ بِرَضَاعِهِ رُجِمَتْ ، وَإِلَّا تُرِكَتْ حَتَّى تَفْطِمَهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ ، وَلِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ ، { أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : إنِّي فَجَرْت ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى .
فَقَالَ لَهَا : ارْجِعِي حَتَّى تَلِدِي .
فَرَجَعَتْ ، فَلَمَّا وَلَدَتْ ، أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ ، فَقَالَ : ارْجِعِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ .
فَجَاءَتْ بِهِ وَقَدْ فَطَمَتْهُ ، وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ يَأْكُلُهُ ، فَأَمَرَ بِالصَّبِيِّ ، فَدُفِعَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا ، وَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ، وَأَمَرَ بِهَا فَصُلِّيَ عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ .
} وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَمْلُهَا ، لَمْ تُؤَخَّرُ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ حَمَلَتْ مِنْ الزِّنَى ، { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الْيَهُودِيَّةَ وَالْجُهَنِيَّةَ ، وَلَمْ يَسْأَلْ عَنْ اسْتِبْرَائِهِمَا .
} وَقَالَ لِأُنَيْسٍ : { اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } .
وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِسُؤَالِهَا عَنْ اسْتِبْرَائِهَا .
وَرَجَمَ عَلِيٌّ شُرَاحَةَ ، وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا .
وَإِنْ ادَّعَتْ الْحَمْلَ قُبِلَ قَوْلُهَا ، كَمَا قَبِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَ الْغَامِدِيَّةِ .
وَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْوَلَدَ ، وَانْقَطَعَ النِّفَاسُ ، وَكَانَتْ قَوِيَّةً يُؤْمَنُ تَلَفُهَا ، أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نِفَاسِهَا ، أَوْ ضَعِيفَةً يُخَافُ تَلَفُهَا ، لَمْ يُقَمْ عَلَيْهَا الْحَدُّ حَتَّى تَطْهُرَ وَتَقْوَى .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ فِي الْحَالِ ، بِسَوْطٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهَا مِنْ السَّوْطِ ، أُقِيمَ بِالْعُثْكُولِ .
يَعْنِي شِمْرَاخَ النَّخْلِ ، وَأَطْرَافَ الثِّيَابِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِضَرْبِ الْمَرِيضِ الَّذِي زَنَى ، فَقَالَ : { خُذُوا لَهُ مِائَةَ شِمْرَاخٍ ، فَاضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً } .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ ، فَأَمَرَنِي
أَنَّ أَجْلِدَهَا ، فَإِذَا هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ ، فَخَشِيتُ إنْ أَنَا جَلَدْتهَا أَنْ أَقْتُلَهَا ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَحْسَنْت } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَلَفْظُهُ ، قَالَ : { فَأَتَيْتُهُ ، فَقَالَ : يَا عَلِيُّ ، أَفَرَغْتَ ؟ فَقُلْت : أَتَيْتهَا وَدَمُهَا يَسِيلُ .
فَقَالَ : دَعْهَا حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهَا الدَّمُ ، ثُمَّ أَقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ } .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ ، { أَنَّ الْمَرْأَةَ انْطَلَقَتْ ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا ، فَجَاءَتْ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا : انْطَلِقِي ، فَتَطَهَّرِي مِنْ الدَّمِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ لَوْ تَوَالَى عَلَيْهِ حَدَّانِ ، فَاسْتَوْفَى أَحَدَهُمَا ، لَمْ يُسْتَوْفَ الثَّانِي حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْكَمَالِ ، مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ ، فَكَانَ أَوْلَى .
( 7149 ) فَصْلٌ : وَالْمَرِيضُ عَلَى ضَرْبَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُرْجَى بُرْؤُهُ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَلَا يُؤَخَّرُ .
كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي النُّفَسَاءِ .
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقَامَ الْحَدَّ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ فِي مَرَضِهِ ، وَلَمْ يُؤَخِّرْهُ ، وَانْتَشَرَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يُنْكِرُوهُ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ فَلَا يُؤَخَّرُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ .
قَالَ الْقَاضِي : وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ تَأْخِيرُهُ ؛ لِقَوْلِهِ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ عَاقِلٌ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الَّتِي هِيَ حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى .
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ مَرَضًا خَفِيفًا ، لَا يَمْنَعُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْكَمَالِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ خَفَّفَ عَنْهُ فِي السَّوْطِ ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ لَهُ سَوْطًا وَسَطًا ، كَاَلَّذِي يُضْرَبُ بِهِ الصَّحِيحُ ، ثُمَّ إنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَدَّمُ عَلَى فِعْلِ عُمَرَ ، مَعَ أَنَّهُ اخْتِيَارُ عَلِيٍّ وَفِعْلُهُ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي تَأْخِيرِهِ لِأَجْلِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ الْمُفْرِطِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ .
فَهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْحَالِ وَلَا يُؤَخَّرُ ، بِسَوْطٍ يُؤْمَنُ مَعَهُ التَّلَفُ ، كَالْقَضِيبِ الصَّغِيرِ ، وَشِمْرَاخِ النَّخْلِ ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، جُمِعَ ضِغْثٌ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ ، فَضُرِبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَأَنْكَرَ مَالِكٌ هَذَا ، وَقَالَ : قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وَهَذَا جَلْدَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، { عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا مِنْهُمْ اشْتَكَى حَتَّى ضَنِيَ ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ فَهَشَّ لَهَا ، فَوَقَعَ بِهَا ، فَسُئِلَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذُوا مِائَةَ شِمْرَاخٍ فَيَضْرِبُوهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، أَوْ لَا يُقَامَ أَصْلًا ، أَوْ يُضْرَبَ ضَرْبًا كَامِلًا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَا يَجُوزُ جَلْدُهُ جَلْدًا تَامًّا ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى إتْلَافِهِ ، فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَقَوْلُهُمْ : هَذَا جَلْدَةٌ وَاحِدَةٌ .
قُلْنَا : يَجُوزُ أَنْ يُقَامَ ذَلِكَ فِي حَالِ الْعُذْرِ مَقَامَ مِائَةٍ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ أَيُّوبَ : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } .
وَهَذَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِ حَدِّهِ بِالْكُلِّيَّةِ ، أَوْ قَتْلِهِ بِمَا لَا يُوجِبُ الْقَتْلَ .
( 7150 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا زَنَى الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ ، جُلِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسِينَ جَلْدَةً ، وَلَمْ يُغَرَّبَا ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ خَمْسُونَ جَلْدَةً بِكْرَيْنِ كَانَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ .
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْبَتِّيُّ ، وَالْعَنْبَرِيُّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَطَاوُسٌ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ : إنْ كَانَا مُزَوَّجَيْنِ فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْحَدِّ ، وَلَا حَدَّ عَلَى غَيْرِهِمَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } .
فَدَلِيلُ خِطَابِهِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنَاتِ .
وَقَالَ دَاوُد عَلَى الْأَمَةَ نِصْفُ الْحَدِّ إذَا زَنَتْ بَعْدَمَا زُوِّجَتْ ، وَعَلَى الْعَبْدِ جَلْدُ مِائَةٍ بِكُلِّ حَالٍ ، وَفِي الْأَمَةِ إذَا لَمْ تُزَوَّجْ رِوَايَتَانِ ؛ ؟ إحْدَاهُمَا ، لَا حَدَّ عَلَيْهَا .
وَالْأُخْرَى ، تُجْلَدُ مِائَةً ؛ لِأَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
عَامٌّ ، خَرَجَتْ مِنْهُ الْأَمَةُ الْمُحْصَنَةُ بِقَوْلِهِ : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } .
فَيَبْقَى الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ الَّتِي لَمْ تُحْصَنْ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ .
وَيَحْتَمِلُ دَلِيلُ الْخِطَابِ فِي الْأَمَةِ أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا ، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إذَا لَمْ يُحْصَنَا بِالتَّزْوِيجِ ، فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْحَدِّ ، وَإِنْ أُحْصِنَا فَعَلَيْهِمَا الرَّجْمُ ؛ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ لَا يَتَبَعَّضُ ، فَوَجَبَ تَكْمِيلُهُ ، كَالْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ شِهَابٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ ، وَسُئِلَ ، قَالُوا : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَمَةِ
إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ ، فَقَالَ : إذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَهَذَا نَصٌّ فِي جَلْدِ الْأَمَةِ إذَا لَمْ تُحْصَنْ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُوَافِقِيهِ وَدَاوُد .
وَجَعْلُ دَاوُد عَلَيْهَا مِائَةً إذَا لَمْ تُحْصَنْ ، وَخَمْسِينَ إذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً ، خِلَافُ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِنَّ اللَّهَ ضَاعَفَ عُقُوبَةَ الْمُحْصَنَةِ عَلَى غَيْرِهَا ، فَجَعَلَ الرَّجْمَ عَلَى الْمُحْصَنَةِ ، وَالْجَلْدَ عَلَى الْبِكْرِ وَدَاوُد ضَاعَفَ عُقُوبَةَ الْبِكْرِ عَلَى الْمُحْصَنَةِ ، وَاتِّبَاعُ شَرْعِ اللَّهِ أَوْلَى .
وَأَمَّا دَلِيلُ الْخِطَابِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، رَحْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ ، أَنَّهُ قَالَ : إحْصَانُهَا إسْلَامُهَا وَأَقْرَاؤُهَا .
بِفَتْحِ الْأَلْفِ .
ثُمَّ دَلِيلُ الْخِطَابِ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ ، سِوَى اخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ ، وَمَتَى كَانَتْ لَهُ فَائِدَةٌ أُخْرَى ، لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا ، مِثْلَ أَنْ يَخْرُجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ، أَوْ لِلتَّنْبِيهِ ، أَوْ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ } .
وَلَمْ يَخْتَصَّ التَّحْرِيمُ بِاَللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ .
وَقَالَ : { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } .
وَحَرُمَ حَلَائِلُ الْأَبْنَاءِ مِنْ الرَّضَاعِ ، وَأَبْنَاءِ الْأَبْنَاءِ .
وَقَالَ : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } .
وَأُبِيحَ الْقَصْرُ بِدُونِ الْخَوْفِ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَمَةِ ، فَالتَّنْصِيصُ عَلَى أَحَدِهِمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ ، كَمَا أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ .
} ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ ، ثُمَّ إنَّ الْمَنْطُوقَ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ ، فَخَالَفَ نَصَّ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } .
وَعَمِلَ بِهِ فِيمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ ، وَخَرَقَ الْإِجْمَاعَ فِي إيجَابِ الرَّجْمِ عَلَى الْمُحْصَنَاتِ ، كَمَا خَرَقَ دَاوُد الْإِجْمَاعَ فِي تَكْمِيلِ الْجَلْدِ عَلَى الْعَبِيدِ ، وَتَضْعِيفِ حَدِّ الْأَبْكَارِ عَلَى الْمُحْصَنَاتِ
( 7151 ) فَصْلٌ : وَلَا تَغْرِيبَ عَلَى عَبْدٍ وَلَا أَمَةٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : يُغَرَّبُ نِصْفَ عَامٍ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } وَحَدَّ ابْنُ عُمَرَ مَمْلُوكَةً لَهُ ، وَنَفَاهَا إلَى فَدَكَ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ ، جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } .
وَلَنَا ، الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي حُجَّتِنَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ تَغْرِيبًا ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَذَكَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِهِ ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَقِيمُوا عَلَى أَرِقَّائِكُمْ الْحَدَّ ، مَنْ أُحْصِنَ مِنْهُمْ ، وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ ؛ فَإِنَّ أَمَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَنَتْ ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا } .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ غَرَّبَهَا .
وَأَمَّا الْآيَةُ ، فَإِنَّهَا حُجَّةٌ لَنَا ؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ مِائَةُ جَلْدَةٍ لَا غَيْرُ ، فَيَنْصَرِفُ التَّنْصِيفُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَنْصَرِفْ إلَى تَنْصِيفِ الرَّجْمِ ، وَلِأَنَّ التَّغْرِيبَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ عُقُوبَةٌ لِسَيِّدِهِ دُونَهُ ، فَلَمْ يَجِبْ فِي الزِّنَى ، كَالتَّغْرِيمِ ، بَيَانُ ذَلِكَ ، أَنَّ الْعَبْدَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي تَغْرِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَرِيبٌ فِي مَوْضِعِهِ ، وَيُتْرِفُهُ بِتَغْرِيبِهِ مِنْ الْخِدْمَةِ ، وَيَتَضَرَّرُ سَيِّدُهُ بِتَفْوِيتِ خِدْمَتِهِ ، وَالْخَطَرِ بِخُرُوجِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ ، وَالْكُلْفَةِ فِي حِفْظِهِ ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مَعَ بُعْدِهِ عَنْهُ ، فَيَصِيرُ الْحَدُّ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ غَيْرِ الزَّانِي ، وَالضَّرَرُ عَلَى غَيْرِ الْجَانِي ، وَمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ ، فَفِي حَقِّ نَفْسِهِ وَإِسْقَاطِ حَقِّهِ ، وَلَهُ فِعْلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ زِنًى وَلَا جِنَايَةٍ ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي
حَقِّ غَيْرِهِ
( 7152 ) فَصْلٌ : وَإِذَا زَنَى الْعَبْدُ ، ثُمَّ عَتَقَ ، حُدَّ حَدَّ الرَّقِيقِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ .
وَلَوْ زَنَى حُرٌّ ذِمِّيٌّ ، ثُمَّ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ سُبِيَ وَاسْتُرِقَّ ، حُدَّ حَدَّ الْأَحْرَارِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ وَهُوَ حُرٌّ .
وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الزَّانِيَيْنِ رَقِيقًا ، وَالْآخَرُ حُرًّا ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدُّهُ .
وَلَوْ زَنَى بِكْرٌ بِثَيِّبٍ ، حُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدَّهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا تَلْزَمُهُ عُقُوبَةُ جِنَايَتِهِ .
وَلَوْ زَنَى بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَقَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ ، فَعَلَيْهِ حَدُّ الْأَحْرَارِ ؛ لِأَنَّهُ زَنَى وَهُوَ حُرٌّ .
وَإِنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الرَّقِيقِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِحُرِّيَّتِهِ ، ثُمَّ عُلِمَتْ بَعْدُ تُمِّمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْأَحْرَارِ .
وَإِنْ عَفَا السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا الْحَسَنَ ، قَالَ : يَصِحُّ عَفْوُهُ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ سَيِّدِهِ ، كَالْعِبَادَاتِ ، وَكَالْحُرِّ إذَا عَفَا عَنْهُ الْإِمَامُ .
( 7153 ) فَصْلٌ : وَلِلسَّيِّدِ إقَامَةُ الْحَدِّ بِالْجَلْدِ عَلَى رَقِيقِهِ الْقِنِّ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ .
رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي حُمَيْدٍ وَأَبِي أُسَيْدَ السَّاعِدِيَّيْنِ ، وَفَاطِمَةَ ابْنَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلْقَمَةَ ، وَالْأَسْوَدِ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَهُبَيْرَةَ بْنِ مَرْيَمَ ، وَأَبِي مَيْسَرَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : أَدْرَكْت بَقَايَا الْأَنْصَارِ يَجْلِدُونَ وَلَائِدَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ الْحُدُودَ إذَا زَنَوْا .
وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، أَنَّ فَاطِمَةَ حَدَتَ جَارِيَةٌ لَهَا زَنَتْ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ ، أَنَّ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدَ كَانَا يُقِيمَانِ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ زَنَى مِنْ خَدَمِ عَشَائِرِهِمْ .
رَوَى ذَلِكَ سَعِيدٌ ، فِي " سُنَنِهِ " .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ إلَى السُّلْطَانِ ، وَلِأَنَّ مِنْ لَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْحُرِّ لَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْعَبْدِ ، كَالصَّبِيِّ ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ ، وَيُعْتَبَرُ لِذَلِكَ شُرُوطٌ ، مِنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ ، وَمَجِيئِهِمْ مُجْتَمِعِينَ ، أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَذِكْرِ حَقِيقَةِ الزِّنَى ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى فَقِيهٍ يَعْرِفُهَا ، وَيَعْرِفُ الْخِلَافَ فِيهَا ، وَالصَّوَابَ مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَوَّضَ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ، كَحَدِّ الْأَحْرَارِ ، وَلِأَنَّهُ حَدٌّ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَيُفَوَّضُ إلَى الْإِمَامِ ، كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَلَنَا مَا رَوَى سَعِيدٌ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ ، فَتَيَقَّنَ زِنَاهَا ، فَلْيَجْلِدْهَا ، وَلَا يُثَرِّبْ بِهَا ، فَإِنْ عَادَتْ ، فَلْيَجْلِدْهَا ، وَلَا يُثَرِّبْ بِهَا
، فَإِنْ عَادَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ، وَلَا يُثَرِّبْ بِهَا ، فَإِنْ عَادَتْ الرَّابِعَةَ ، فَلْيَجْلِدْهَا ، وَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ } .
وَقَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى ، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ ، عَنْ عَلِيٍّ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَلِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ تَأْدِيبَ أَمَتِهِ وَتَزْوِيجَهَا ، فَمَلَكَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهَا ، كَالسُّلْطَانِ ، وَفَارَقَ الصَّبِيَّ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّمَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ ؛ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ جَلْدًا كَحَدِّ الزِّنَى ، وَالشُّرْبِ ، وَحَدِّ الْقَذْفِ ، فَأَمَّا الْقَتْلُ فِي الرِّدَّةِ ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ ، فَلَا يَمْلِكُهَا إلَّا الْإِمَامُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَفِيهِمَا وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُهَا .
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .
وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَطَعَ عَبْدًا سَرَقَ .
وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ .
وَعَنْ حَفْصَةَ أَنَّهَا قَتَلَتْ أَمَةً لَهَا سَحَرَتْهَا .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ حَدٌّ أَشْبَهَ الْجَلْدَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : كَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي أَنَّ فِي قَطْعِ السَّارِقِ رِوَايَتَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْأَصْلَ تَفْوِيضُ الْحَدِّ إلَى الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَيُفَوَّضُ إلَى نَائِبِهِ ، كَمَا فِي حَقِّ الْأَحْرَارِ ، وَلِمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا فُوِّضَ إلَى السَّيِّدِ الْجَلْدُ خَاصَّةً ، لِأَنَّهُ تَأْدِيبٌ ، وَالسَّيِّدُ يَمْلِكُ تَأْدِيبَ عَبْدِهِ وَضَرْبَهُ عَلَى الذَّنْبِ ، وَهَذَا مِنْ جِنْسِهِ ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا فِي أَنَّ هَذَا مُقَدَّرٌ ، وَالتَّأْدِيبُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَهَذَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي مَنْعِ السَّيِّدِ مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ ، فَإِنَّهُمَا إتْلَافٌ لِجُمْلَتِهِ أَوْ بَعْضِهِ الصَّحِيحِ ، وَلَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ هَذَا مِنْ عَبْدِهِ ، وَلَا شَيْئًا مِنْ جِنْسِهِ ، وَالْخَبَرُ الْوَارِدُ فِي حَدِّ السَّيِّدِ عَبْدَهُ ، إنَّمَا جَاءَ فِي الزِّنَى خَاصَّةً ، وَإِنَّمَا قِسْنَا عَلَيْهِ مَا يُشْبِهُهُ مِنْ الْجَلْدِ .
وَقَوْلُهُ : { أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .
إنَّمَا جَاءَ فِي سِيَاقِ الْجَلْدِ فِي الزِّنَى ، فَإِنَّ أَوَّلَ الْحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : { أُخْبِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمَةٍ لَهُمْ فَجَرَتْ ، فَأَرْسَلَنِي إلَيْهَا ، فَقَالَ : اجْلِدْهَا الْحَدَّ .
قَالَ : فَانْطَلَقْت ، فَوَجَدْتهَا لَمْ
تَجِفَّ مِنْ دَمِهَا ، فَرَجَعْت إلَيْهِ ، فَقَالَ : أَفَرَغْتَ ؟ .
فَقُلْت : وَجَدْتهَا لَمْ تَجِفَّ مِنْ دَمِهَا .
قَالَ : إذَا جَفَّتْ مِنْ دَمِهَا ، فَاجْلِدْهَا الْحَدَّ ، وَأَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } .
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ الْحَدَّ وَشِبْهَهُ .
وَأَمَّا فِعْلُ حَفْصَةَ ، فَقَدْ أَنْكَرَهُ عُثْمَانُ عَلَيْهَا ، وَشَقَّ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهَا .
وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، فَلَا نَعْلَمُ ثُبُوتَهُ عَنْهُ .
الشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَخْتَصَّ السَّيِّدُ بِالْمَمْلُوكِ ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ ، أَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ مُزَوَّجَةً ، أَوْ كَانَ الْمَمْلُوكُ مُكَاتَبًا ، أَوْ بَعْضُهُ حُرًّا ، لَمْ يَمْلِكْ السَّيِّدُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : يَمْلِكُ السَّيِّدُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمِلْكِهَا ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ بَعْضَ نَفْعِهَا ، فَأَشْبَهَتْ الْمُسْتَأْجَرَةَ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ ذَاتَ زَوْجٍ ، رُفِعَتْ إلَى السُّلْطَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ ، جَلَدَهَا سَيِّدُهَا نِصْفَ مَا عَلَى الْمُحْصَنِ .
وَلَمْ نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّ نَفْعَهَا مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ مُطْلَقًا ، أَشْبَهَتْ الْمُشْتَرَكَةَ ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ إنَّمَا مُنِعَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ يُقِيمُهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، فَإِنَّ الْجُزْءَ الْحُرَّ أَوْ الْمَمْلُوكَ لَغَيْرِهِ ، لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ ، وَهُوَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِ ، وَهَذَا يُشْبِهُهُ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْحَدِّ هُوَ مَحَلُّ اسْتِمْتَاعِ الزَّوْجِ ، وَهُوَ بَدَنُهَا فَلَا يَمْلِكُهُ ، وَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِالْمُشْتَرَكِ ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ ، وَالْمُسْتَأْجَرَةُ إجَارَتُهَا مُؤَقَّتَةٌ تَنْقَضِي .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ نَقُولَ : لَا يَمْلِكُ إقَامَتَهُ عَلَيْهَا فِي حَالِ إجَارَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إلَى تَفْوِيتِ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَكَذَلِكَ
الْأَمَةُ الْمَرْهُونَةُ ، يُخَرَّجُ فِيهَا وَجْهَانِ .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : أَنْ يَثْبُتَ الْحَدُّ بِبَيِّنَةٍ أَوْ اعْتِرَافٍ ، فَإِنْ ثَبَتَ بِاعْتِرَافٍ ، فَلِلسَّيِّدِ إقَامَتُهُ ، إذَا كَانَ يَعْرِفُ الِاعْتِرَافَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْحَدُّ وَشُرُوطُهُ ، وَإِنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ ، اُعْتُبِرَ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَحْتَاجُ إلَى الْبَحْثِ عَنْ الْعَدَالَةِ ، وَمَعْرِفَةِ شُرُوطِ سَمَاعِهَا وَلَفْظِهَا ، وَلَا يَقُومُ بِذَلِكَ إلَّا الْحَاكِمُ .
وَقَالَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ : إنْ كَانَ السَّيِّدُ يُحْسِنُ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ ، وَيَعْرِفُ شُرُوطَ الْعَدَالَةِ ، جَازَ أَنْ يَسْمَعَهَا ، وَيُقِيمَ الْحَدَّ بِهَا ، كَمَا يُقِيمُهُ بِالْإِقْرَارِ .
وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْحَدُّ ، فَأَشْبَهَتْ الْإِقْرَارَ .
وَلَا يُقِيمُ السَّيِّدُ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ بِعِلْمِهِ ، فَالسَّيِّدُ أَوْلَى ، فَإِنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ لِلْحَدِّ أَقْوَى مِنْ وِلَايَةِ السَّيِّدِ ؛ لِكَوْنِهَا مُتَّفَقًا عَلَيْهَا ، وَثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْحَدُّ فِي حَقِّهِ بِالْعِلْمِ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يُقِيمُهُ بِعِلْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ ، فَمَلَكَ إقَامَتَهُ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ ، وَيُفَارِقُ الْحَاكِمَ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ مُتَّهَمٌ ، وَلَا يَمْلِكُ مَحَلَّ إقَامَتِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ ، أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ بَالِغًا عَاقِلًا عَالِمًا بِالْحُدُودِ وَكَيْفِيَّةِ إقَامَتِهَا ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ ، وَالْجَاهِلَ بِالْحَدِّ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ ، فَلَا يُفَوَّضُ إلَيْهِ .
وَفِي الْفَاسِقِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ فَنَافَاهَا الْفِسْقُ ، كَوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ .
وَالثَّانِي : يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ اسْتَفَادَهَا بِالْمِلْكِ ، فَلَمْ يُنَافِهَا الْفِسْقُ كَبَيْعِ الْعَبْدِ .
وَإِنْ
كَانَ مُكَاتَبًا فَفِيهِ احْتِمَالَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ .
وَالثَّانِي : يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَفَادُ بِالْمِلْكِ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ تَصَرُّفَاتِهِ .
وَفِي الْمَرْأَةِ أَيْضًا احْتِمَالَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا تَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ .
وَالثَّانِي : تَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّ فَاطِمَةَ جَلَدَتْ أَمَةً لَهَا ، وَعَائِشَةَ قَطَعَتْ أَمَةً لَهَا سَرَقَتْ ، وَحَفْصَةَ قَتَلَتْ أَمَةً لَهَا سَحَرَتْهَا .
وَلِأَنَّهَا مَالِكَةٌ تَامَّةُ الْمِلْكِ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ أَشْبَهَتْ الرَّجُلَ .
وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ ، أَنَّ الْحَدَّ يُفَوَّضُ إلَى وَلِيِّهَا ؛ لِأَنَّهُ يُزَوِّجُ أَمَتَهَا وَمَوْلَاتَهَا ، فَمَلَكَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكَتِهَا .
( 7154 ) فَصْلٌ : وَإِنْ فَجَرَ بِأَمَةٍ ، ثُمَّ قَتَلَهَا ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَقِيمَتُهَا .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا أَوْجَبْت عَلَيْهِ قِيمَتَهَا ، أَسْقَطْت الْحَدَّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِغَرَامَتِهِ لَهَا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِقَتْلِ الْمَزْنِيِّ بِهَا ، كَمَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً فَغَرِمَ دِيَتَهَا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ يَمْلِكُهَا .
غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا غَرِمَهَا بَعْدَ قَتْلِهَا ، وَلَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ ، ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَلَكَهَا ، فَإِنَّمَا مَلَكَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الْحَدِّ ، فَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا ، وَلَوْ زَنَى بِأَمَةٍ ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ، الْحَدُّ ، مَعَ ثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لَهُ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَلَوْ زَنَى بِأَمَةٍ ، ثُمَّ غَصَبَهَا ، فَأَبَقَتْ مِنْ يَدِهِ ، ثُمَّ غَرِمَهَا ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدَّانِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْقُطْ بِالْمِلْكِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، فَبِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَوْلَى .
( 7155 ) فَصْلٌ : وَإِذَا زَنَى مَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ ، وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ ، فَلَا رَجْمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكْمُلْ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ خَمْسُونَ جَلْدَةً ، وَنِصْفُ حَدِّ الْعَبْدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ جَلْدَةً ، وَيُغَرَّبُ نِصْفَ عَامٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُغَرَّبَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ فِي جَمِيعِهِ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ ، وَنَصِيبُهُ مِنْ الْعَبْدِ لَا تَغْرِيبَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ تَرْكُ حَقِّهِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ ، وَلَا تَأْخِيرُ حَقِّهِ بِالْمُهَايَأَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ .
وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ تَغْرِيبِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ زَمَنُ التَّغْرِيبِ مَحْسُوبًا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ نَصِيبِهِ الْحُرِّ ، وَلِلسَّيِّدِ نِصْفُ عَامٍ بَدَلًا عَنْهُ ، وَمَا زَادَ مِنْ الْحُرِّيَّةَ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا ، فَبِحِسَابِ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا كَسْرٌ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ ثُلُثُهُ حُرًّا ، فَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْ يَلْزَمَهُ ثُلُثَا جَلْدِ الْحُرِّ .
وَهُوَ سِتٌّ وَسِتُّونَ جَلْدَةً وَثُلُثَانِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ الْكَسْرُ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَتَى دَارَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالْإِسْقَاطِ ، سَقَطَ .
وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ ، بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ فِي الْحَدِّ ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ كُلُّهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ .
}
( 7156 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالزَّانِي مَنْ أَتَى الْفَاحِشَةَ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّ مَنْ وَطِئَ امْرَأَةً فِي قُبُلِهَا حَرَامًا لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي وَطْئِهَا ، أَنَّهُ زَانٍ يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَى ، إذَا كَمَلَتْ شُرُوطُهُ .
وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ زِنًى لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ ، لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا ، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ ، فَكَانَ زِنًى ، كَالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } .
الْآيَةُ .
ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا : الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ .
} وَالْوَطْءُ فِي الدُّبُرِ فَاحِشَةٌ ، بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَوْمِ لُوطٍ : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } .
يَعْنِي الْوَطْءَ فِي أَدْبَارِ الرِّجَالِ ، وَيُقَالُ : أَوَّلُ مَا بَدَأَ قَوْمُ لُوطٍ بِوَطْءِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ ، ثُمَّ صَارُوا إلَى ذَلِكَ فِي الرِّجَالِ .
( 7157 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَطِئَ مَيِّتَةً ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، عَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ وَطِىءَ فِي فَرْجِ آدَمِيَّةٍ ، فَأَشْبَهَ وَطْءَ الْحَيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ ذَنْبًا ، وَأَكْثَرُ إثْمًا ؛ لِأَنَّهُ انْضَمَّ إلَى فَاحِشَةِ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمَيِّتَةِ .
وَالثَّانِي : لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَبِهَذَا أَقُولُ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي الْمَيِّتَةِ كَلَا وَطْءٍ ، لِأَنَّهُ عُضْوٌ مُسْتَهْلَكٌ ، وَلِأَنَّهَا لَا يُشْتَهَى مِثْلُهَا ، وَتَعَافُهَا النَّفْسُ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْع الزَّجْرِ عَنْهَا ، وَالْحَدُّ إنَّمَا وَجَبَ زَجْرًا .
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ يُمْكِنُ وَطْؤُهَا ، فَوَطْؤُهَا زِنًى يُوجِبُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهَا كَالْكَبِيرَةِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَصْلُحُ لِلْوَطْءِ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ ، كَالْمَيِّتَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : لَا حَدَّ عَلَى مِنْ وَطِئَ صَغِيرَةً لَمْ تَبْلُغْ تِسْعًا ؛ لِأَنَّهَا لَا يُشْتَهَى مِثْلُهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْخَلَ إصْبَعَهُ فِي فَرْجِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَدْخَلَتْ امْرَأَةٌ ذَكَرَ صَبِيٍّ لَمْ يَبْلُغْ عَشْرًا ، لَا حَدَّ عَلَيْهَا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ وَطْؤُهَا ، وَأَمْكَنْت الْمَرْأَةُ مَنْ أَمْكَنَهُ الْوَطْءُ فَوَطِئَهَا ، أَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْهُمَا ، وَلَا يَجُوزُ تَحْدِيدُ ذَلِكَ بِتِسْعٍ وَلَا عَشْرٍ ؛ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوْقِيفِ ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي هَذَا ، وَكَوْنُ التِّسْعِ وَقْتًا لِإِمْكَانِ الِاسْتِمْتَاعِ غَالِبًا ، لَا يَمْنَعُ وُجُودَهُ قَبْلَهُ ، كَمَا أَنَّ الْبُلُوغَ يُوجَدُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا غَالِبًا ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُجُودِهِ قَبْلَهُ .
( 7158 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَزَوَّجَ ذَاتَ مَحْرَمِهِ ، فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
فَإِنْ وَطِئَهَا ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ .
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ الْحَسَنُ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو أَيُّوبَ ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ مِنْهُ ، فَلَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ ثُمَّ وَطِئَهَا .
وَبَيَانُ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ قَدْ وُجِدَتْ صُورَةُ الْمُبِيحِ ، وَهُوَ عَقْدُ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِلْإِبَاحَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ ، بَقِيَتْ صُورَتُهُ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ ، مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ ، وَالْوَاطِئُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِّ ، عَالَمٌ بِالتَّحْرِيمِ ، فَيَلْزَمهُ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ ، وَصُورَةُ الْمُبِيحِ إنَّمَا تَكُونُ شُبْهَةً إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً ، وَالْعَقْدُ هَاهُنَا بَاطِلٌ مُحَرَّمٌ ، وَفِعْلُهُ جِنَايَةٌ تَقْتَضِي الْعُقُوبَةَ ، انْضَمَّتْ إلَى الزِّنَى ، فَلَمْ تَكُنْ شُبْهَةً ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهَا ، وَعَاقَبَهَا ، ثُمَّ زَنَى بِهَا ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا ، فَإِنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمُبَاحَاتِ ، وَلَيْسَ بِشُبْهَةٍ .
وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ ، فَلَنَا فِيهِ مَنْعٌ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ، فَإِنَّ الْمِلْكَ الْمُقْتَضِي لِلْإِبَاحَةِ صَحِيحٌ ثَابِتٌ ، وَإِنَّمَا تَخَلَّفَتْ الْإِبَاحَةُ لَمُعَارِضٍ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ؛ فَإِنَّ الْمُبِيحَ غَيْرُ مَوْجُودٍ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ بَاطِلٌ ، وَالْمِلْكُ بِهِ غَيْرُ ثَابِتٍ ، فَالْمُقْتَضِي مَعْدُومٌ ، فَافْتَرَقَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى خَمْرًا فَشَرِبَهُ ، أَوْ غُلَامًا فَوَطِئَهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِّ ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ
حَالٍ .
وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو أَيُّوبَ ، وَابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ .
وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ ، أَوْ بِذَاتِ مَحْرَمٍ ، فَقَالَ : يُقْتَلُ وَيُؤْخَذُ مَالُهُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، حَدُّهُ حَدُّ الزَّانِي وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ .
وَوَجْهُ الْأُولَى ، مَا رَوَى { الْبَرَاءُ .
قَالَ : لَقِيت عَمِّي وَمَعَهُ الرَّايَةُ ، فَقُلْت : إلَى أَيْنَ تُرِيدُ ؟ فَقَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ ، أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ ، وَآخُذَ مَالَهُ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْجُوزَجَانِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَسَمَّى الْجُوزَجَانِيُّ عَمَّهُ الْحَارِثَ بْنَ عَمْرٍو .
وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ ، فَاقْتُلُوهُ } وَرُفِعَ إلَى الْحَجَّاجِ رَجُلٌ اغْتَصَبَ أُخْتَهُ عَلَى نَفْسِهَا ، فَقَالَ : احْبِسُوهُ ، وَسَلُوا مَنْ هَاهُنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَسَأَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مُطَرِّفٍ ، فَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ تَخَطَّى الْمُؤْمِنِينَ ، فَخُطُّوا وَسَطَهُ بِالسَّيْفِ } .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ أَخَصُّ مَا وَرَدَ فِي الزِّنَى ، فَتُقَدَّمُ .
وَالْقَوْلُ فِي مَنْ زَنَى بِذَاتِ مَحْرَمِهِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ ، كَالْقَوْلِ فِي مَنْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ .
( 7159 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ نِكَاحٍ أُجْمِعَ عَلَى بُطْلَانِهِ ، كَنِكَاحِ خَامِسَةٍ ، أَوْ مُتَزَوِّجَةٍ ، أَوْ مُعْتَدَّةٍ ، أَوْ نِكَاحِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا ، إذَا وَطِئَ فِيهِ عَالَمًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَهُوَ زِنًى ، مُوجِبٌ لِلْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فِيهِ قَبْلَ الْعَقْدِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : لَا حَدَّ فِيهِ ؛ لِمَا ذَكَرُوهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : يُجْلَدُ مِائَةً ، وَلَا يُنْفَى .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى ، وَرَوَى أَبُو نَصْرٍ الْمَرُّوذِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نَضْلَةَ ، قَالَ : رُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتهَا ، فَقَالَ : هَلْ عَلِمْتُمَا ؟ فَقَالَا : لَا .
قَالَ : لَوْ عَلِمْتُمَا لَرَجَمْتُكُمَا .
فَجَلَدَهُ أَسْوَاطًا ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا .
وَرَوَى أَبُو بَكْرٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ خِلَاسٍ ، قَالَ : رُفِعَ إلَى عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، امْرَأَةٌ تَزَوَّجَتْ وَلَهَا زَوْجٌ كَتَمَتْهُ ، فَرَجَمَهَا ، وَجَلَدَ زَوْجَهَا الْآخَرَ مِائَةَ جَلْدَةِ .
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، لِعُذْرِ الْجَهْلِ ، وَلِذَلِكَ دَرَأَ عُمَرُ عَنْهُمَا الْحَدَّ ؛ لِجَهْلِهِمَا .
( 7160 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ فِي نِكَاحٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، كَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، وَالشِّغَارِ ، وَالتَّحْلِيلِ ، وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ، وَنِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ أُخْتِهَا الْبَائِنِ ، وَنِكَاحِ الْخَامِسَةِ فِي عِدَّةِ الرَّابِعَةِ الْبَائِنِ ، وَنِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ فِيهِ شُبْهَةٌ ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبَهِ .
( 7161 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوَطْءِ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ بَيْنَ غَيْرِهِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يَجِبُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ فَرْجٌ لَهُ مِلْكٌ ، فَلَا يُحَدُّ بِوَطْئِهِ ، كَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمَرْهُونَةِ .
( 7162 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى أُمَّهُ أَوْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَنَحْوَهُمَا ، وَوَطِئَهُمَا ، فَذَكَرَ الْقَاضِي عَنْ أَصْحَابِنَا ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ فَرْجٌ لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ ، فَوَجَبَ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ ، كَفَرْجِ الْغُلَامِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا حَدَّ فِيهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ مَمْلُوكٍ لَهُ ، يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَنْهُ ، وَأَخْذَ صَدَاقِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْحَدُّ ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ .
فَأَمَّا إنْ اشْتَرَى ذَاتَ مَحْرَمِهِ مِنْ النَّسَبِ ، مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ، وَوَطِئَهَا ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ فِيهَا ، فَلَمْ تُوجَدْ الشُّبْهَةُ .
( 7163 ) فَصْلٌ : فَإِنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ زَوْجَتِهِ ، وَقِيلَ : هَذِهِ زَوْجَتُك .
فَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَإِنْ لَمْ يُقَلْ لَهُ : هَذِهِ زَوْجَتُك .
أَوْ وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً ظَنَّهَا امْرَأَتَهُ ، أَوْ جَارِيَتَهُ ، فَوَطِئَهَا ، أَوْ دَعَا زَوْجَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ ، فَجَاءَتْهُ غَيْرُهَا ، فَظَنَّهَا الْمَدْعُوَّةَ ، فَوَطِئَهَا ، أَوْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؛ لِعَمَاهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي مَحَلٍّ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ اعْتَقَدَ إبَاحَتَهُ بِمَا يُعْذَرُ مِثْلُهُ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قِيلَ لَهُ : هَذِهِ زَوْجَتُك .
وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِهَا .
فَأَمَّا إنْ دَعَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ ، فَأَجَابَهُ غَيْرُهَا ، فَوَطِئَهَا يَظُنُّهَا الْمَدْعُوَّةَ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَدْعُوَّةُ مِمَّنْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ ، كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِهَذَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا يَظُنُّهُ ابْنَهُ أَوْ عَبْدَهُ ، فَبَانَ أَجْنَبِيًّا .
( 7164 ) فَصْلٌ : وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الزِّنَى .
قَالَ عُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، لَا حَدَّ إلَّا عَلَى مَنْ عَلِمَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
فَإِنْ ادَّعَى الزَّانِي الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ ، وَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَجْهَلَهُ ، كَحَدِيثِ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَالنَّاشِئِ بِبَادِيَةٍ ، قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ، كَالْمُسْلِمِ النَّاشِئِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ ، لَمْ يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الزِّنَى لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ كَذَلِكَ ، فَقَدْ عُلِمَ كَذِبُهُ .
وَإِنْ ادَّعَى الْجَهْلَ بِفَسَادِ نِكَاحٍ بَاطِلٍ ، قُبِلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَبِلَ قَوْلَ الْمُدَّعِي الْجَهْلَ بِتَحْرِيمِ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُجْهَلُ كَثِيرًا ، وَيَخْفَى عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
( 7165 ) فَصْلٌ : فَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ غَيْرِهِ ، فَهُوَ زَانٍ .
سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ بِالْبَذْلِ وَالْإِبَاحَةِ ، وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، الْأَبُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ ، فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : عَلَيْهِ الْحَدُّ ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ إجْمَاعٌ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ ، أَشْبَهَ وَطْءَ جَارِيَةِ أَبِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ مِنْهُ ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيك } .
فَأَضَافَ مَالَ وَلَدِهِ إلَيْهِ ، وَجَعَلَهُ لَهُ ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ جَعْلِهِ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْحَدِّ الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِانْتِفَاءِ الْحَدِّ فِي عَصْرِ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا ، قَدْ اشْتَهَرَ قَوْلُهُمْ ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا ، وَلَا حَدَّ عَلَى الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ انْتَفَى عَنْ الْوَاطِئِ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ ، فَيَنْتَفِي عَنْ الْمَوْطُوءَةِ ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَضَايِفَاتِ ، إذَا ثَبَتَ فِي أَحَدِ الْمُتَضَايِفَيْنِ ثَبَتَ فِي الْآخَرِ ، فَكَذَلِكَ شُبْهَتُهُ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى وَطْءِ جَارِيَةِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْوَلَدِ فِيهَا ، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى قَوْلًا فِي وَطْءِ جَارِيَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، أَنَّهُ لَا يُحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ ، أَشْبَهَ الْأَبَ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا عَلِمْنَاهُ .
الْمَوْضِعُ الثَّانِي : إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ بِإِذْنِهَا ، فَإِنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةً ، وَلَا يُرْجَمُ إنْ كَانَ ثَيِّبًا ، وَلَا يُغَرَّبُ إنْ كَانَ بِكْرًا .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ ، فَهُوَ زَانٍ ، حُكْمُهُ حُكْمُ الزَّانِي بِجَارِيَةِ الْأَجْنَبِيِّ .
وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ يُعَزَّرُ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ امْرَأَتَهُ ، فَكَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِي مَمْلُوكَتِهَا .
وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، وَعَطَاءٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، أَنَّهُ كَوَطْءِ الْأَجْنَبِيَّةِ ، سَوَاءٌ أَحَلَّتْهَا لَهُ ، أَوْ لَمْ تُحِلَّهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا ، فَأَشْبَهَ وَطْءَ جَارِيَةِ أُخْتِهِ ، وَلِأَنَّهُ إبَاحَةٌ لِوَطْءِ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُنْ شُبْهَةً ، كَإِبَاحَةِ سَائِرِ الْمُلَّاكِ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَالْحَسَنِ ، إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ غُرْمُ مِثْلِهَا ، وَتَعْتِقُ ، وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ ، فَعَلَيْهِ غُرْمُ مِثْلِهَا وَيَمْلِكُهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ ، أَنَّ { رَجُلًا يُقَالُ لَهُ : عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حُنَيْنٍ ، وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ ، فَرُفِعَ إلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، وَهُوَ أَمِيرٌ عَلَى الْكُوفَةِ ، فَقَالَ : لَأَقْضِيَنَّ فِيك بِقَضِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَك ، جَلَدْنَاك مِائَةً ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَك ، رَجَمْنَاك بِالْحِجَارَةِ .
فَوَجَدُوهَا أَحَلَّتْهَا لَهُ ، فَجَلَدَهُ مِائَةً .
} وَإِنْ عَلِقَتْ مِنْ هَذَا الْوَطْءِ ، فَهَلْ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَلْحَقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ ، فَلَحِقَ بِهِ النَّسَبُ ، كَوَطْءِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ .
وَالْأُخْرَى ، لَا يَلْحَقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ ، أَشْبَهَ الزِّنَى الْمَحْضَ .
( 7166 ) فَصْلٌ : وَلَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهَةٍ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ ، وَالنِّسْيَانِ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } .
وَعَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ وَائِلٍ ، عَنْ أَبِيهِ { ، أَنَّ امْرَأَةً اُسْتُكْرِهَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَرَأَ عَنْهَا الْحَدَّ } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
قَالَ : وَأُتِيَ عُمَرُ بِإِمَاءٍ مِنْ إمَاءِ الْإِمَارَةِ ، اسْتَكْرَهَهُنَّ غِلْمَانٌ مِنْ غِلْمَانِ الْإِمَارَةِ ، فَضَرَبَ الْغِلْمَانَ ، وَلَمْ يَضْرِبْ الْإِمَاءَ وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ : قَالَ : أُتِيَ عُمَرُ بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَتْ ، فَقَالَتْ : إنِّي كُنْت نَائِمَةً ، فَلَمْ أَسْتَيْقِظْ إلَّا بَرْجَلٍ قَدْ جَثَمَ عَلَيَّ .
فَخَلَّى سَبِيلَهَا ، وَلَمْ يَضْرِبْهَا .
وَلِأَنَّ هَذَا شُبْهَةٌ ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ بِالْإِلْجَاءِ ، وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَهَا عَلَى نَفْسِهَا ، وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رَاعٍ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ ، قَدْ عَطِشَتْ ، فَسَأَلَتْهُ أَنْ يَسْقِيَهَا ، فَقَالَ لَهَا : أَمْكِنِينِي مِنْ نَفْسِك .
قَالَ : هَذِهِ مُضْطَرَّةٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً اسْتَسْقَتْ رَاعِيًا ، فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا إلَّا أَنْ تُمْكِنَهُ مِنْ نَفْسِهَا ، فَفَعَلَتْ ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ ، فَقَالَ لَعَلِيٍّ : مَا تَرَى فِيهَا ؟ قَالَ : إنَّهَا مُضْطَرَّةٌ .
فَأَعْطَاهَا عُمَرُ شَيْئًا ، وَتَرَكَهَا .
( 7167 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أُكْرِهَ الرَّجُلُ فَزَنَى ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : عَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِانْتِشَارِ ، وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِيهِ .
فَإِذَا وُجِدَ الِانْتِشَارُ انْتَفَى الْإِكْرَاهُ ، فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى غَيْرِ الزِّنَى ، فَزَنَى .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُهُ ، حُدَّ اسْتِحْسَانًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالْإِكْرَاهُ شُبْهَةٌ ، فَيَمْنَعُ الْحَدَّ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةً ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ ، إذَا كَانَ بِالتَّخْوِيفِ ، أَوْ بِمَنْعِ مَا تَفُوتُ حَيَاتُهُ بِمَنْعِهِ ، كَانَ الرَّجُلُ فِيهِ كَالْمَرْأَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا الْحَدُّ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ التَّخْوِيفَ يُنَافِي الِانْتِشَارَ .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ التَّخْوِيفَ بِتَرْكِ الْفِعْلِ ، وَالْفِعْلُ لَا يُخَافُ مِنْهُ ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ .
وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 7168 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ تَلَوَّطَ ، قُتِلَ ، بِكْرًا كَانَ أَوْ ثَيِّبًا ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَالْأُخْرَى حُكْمُهُ حُكْمُ الزَّانِي ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ اللِّوَاطِ ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ، وَعَابَ مَنْ فَعَلَهُ ، وَذَمَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ } .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي حَدِّهِ ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ ، أَنَّ حَدَّهُ الرَّجْمُ ، بِكْرًا كَانَ أَوْ ثَيِّبًا .
وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْمَرٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَأَبِي حَبِيبٍ ، وَرَبِيعَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّ حَدَّهُ حَدُّ الزَّانِي .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ ، فَهُمَا زَانِيَانِ } .
وَلِأَنَّهُ إيلَاجُ فَرْجِ آدَمِيٍّ فِي فَرْجِ آدَمِيٍّ ، لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ ، وَلَا شُبْهَةَ مِلْكٍ ، فَكَانَ زِنًى كَالْإِيلَاجِ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ ، إذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ زِنًا دَخَلَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ وَالْأَخْبَارِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ فَاحِشَةٌ ، فَكَانَ زِنًى ، كَالْفَاحِشَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ اللُّوطِيِّ .
وَهُوَ
قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ لِمَا رَوَى صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ ، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ أَنَّهُ وَجَدَ فِي بَعْضِ ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ ، فَكَتَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّحَابَةَ فِيهِ ، فَكَانَ عَلِيٌّ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا فِيهِ فَقَالَ : مَا فَعَلَ هَذَا إلَّا أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِهَا ، أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ .
فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى خَالِدٍ بِذَلِكَ ، فَحَرَقَهُ .
وَقَالَ الْحَكَمُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الْوَطْءِ ، أَشْبَهَ غَيْرَ الْفَرْجِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَفِي لَفْظٍ : { فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ } .
وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَتِهِ .
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَأَنَّهُ كَانَ يَرَى رَجْمَهُ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَذَّبَ قَوْمَ لُوطٍ بِالرَّجْمِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعَاقَبَ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ بِمِثْلِ عُقُوبَتِهِمْ .
وَقَوْلُ مَنْ أَسْقُطَ الْحَدَّ عَنْهُ يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ ، وَقِيَاسُ الْفَرْجِ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي مَمْلُوكٍ لَهُ أَوْ أَجْنَبِيٍّ ؛ لِأَنَّ الذَّكَرَ لَيْسَ بِمَحَلِّ لِوَطْءِ الذَّكَرِ ، فَلَا يُؤَثِّرُ مِلْكُهُ لَهُ .
وَلَوْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَتَهُ فِي دُبُرِهَا ، كَانَ مُحَرَّمًا ، وَلَا حَدَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلٌّ لِلْوَطْءِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى حِلِّهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً مَانِعَةً مِنْ الْحَدِّ ، بِخِلَافِ التَّلَوُّطِ .
( 7169 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَدَالَكَتْ امْرَأَتَانِ ، فَهُمَا زَانِيَتَانِ مَلْعُونَتَانِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَتَتْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ ، فَهُمَا زَانِيَتَانِ : } .
وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ إيلَاجًا ، فَأَشْبَهَ الْمُبَاشَرَةَ دُونَ الْفَرْجِ ، وَعَلَيْهِمَا التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ زِنًى لَا حَدَّ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مُبَاشَرَةَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ .
وَلَوْ بَاشَرَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ ، اسْتَمْتَعَ بِهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي لَقِيت امْرَأَةً ، فَأَصَبْت مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَقِمْ الصَّلَاةَ } الْآيَةُ .
فَقَالَ الرَّجُلُ : أَلِيَ هَذِهِ الْآيَةُ ؟ فَقَالَ : لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَلَوْ وُجِدَ رَجُلٌ مَعَ امْرَأَة ، يُقَبِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ، وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ وَطِئَهَا أَوْ لَا ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا ، فَإِنْ قَالَا : نَحْنُ زَوْجَانِ ، وَاتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا .
وَبِهِ قَالَ الْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَإِنْ شُهِدَ عَلَيْهِمَا بِالزِّنَى ، فَقَالَا : نَحْنُ زَوْجَانِ .
فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ إنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ بِالنِّكَاحِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالزِّنَى تَنْفِي كَوْنَهُمَا زَوْجَيْنِ ، فَلَا تَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ إذَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهَا أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَيَاهُ مُحْتَمَلٌ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً ، كَمَا لَوْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ ، فَادَّعَى أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُهُ .
( 7170 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ أَتَى بَهِيمَةً أُدِّبَ ، وَأُحْسِنَ أَدَبُهُ ، وَقُتِلَتْ الْبَهِيمَةُ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَةَ ، فَرُوِيَ عَنْهُ ، أَنَّهُ يُعَزَّرُ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَإِسْحَاقَ ، وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، حُكْمُهُ حُكْمُ اللَّائِطِ سَوَاءً .
وَقَالَ الْحَسَنُ : حَدُّهُ حَدُّ الزَّانِي .
وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : يُقْتَلُ هُوَ وَالْبَهِيمَةُ ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَتَى بَهِيمَةً ، فَاقْتُلُوهُ ، وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ نَصٌّ ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الْوَطْءِ فِي فَرْجِ الْآدَمِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَهُ لَهَا ، وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ يَحْتَاجُ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ إلَى الْحَدِّ ، فَإِنَّ النُّفُوسَ تَعَافُهُ ، وَعَامَّتُهَا تَنْفِرُ مِنْهُ ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ فِي انْتِفَاءِ الْحَدِّ وَالْحَدِيثُ يَرْوِيهِ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو ، وَلَمْ يُثْبِتْهُ أَحْمَدُ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : هُوَ ضَعِيفٌ .
وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُهُ ، وَهُوَ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا يُضْعِفُ الْحَدِيثَ عَنْهُ ، قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يَأْتِي الْبَهِيمَةَ ، فَوَقَفَ عِنْدَهَا ، وَلَمْ يُثْبِتْ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو فِي ذَلِكَ .
وَلِأَنَّ الْحَدَّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِحَدِيثٍ فِيهِ هَذِهِ الشُّبْهَةُ وَالضَّعْفُ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : أُدِّبَ ، وَأُحْسِنَ أَدَبُهُ .
يَعْنِي يُعَزَّرُ ، وَيُبَالَغُ فِي تَعْزِيرِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ ، فَأَوْجَبَ التَّعْزِيرَ ، كَوَطْءِ الْمَيِّتَةِ .
( 7171 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ قَتْلُ الْبَهِيمَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ ، مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الِاخْتِيَارُ قَتْلُهَا ، وَإِنْ تُرِكَتْ فَلَا بَأْسَ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ إنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً ذُبِحَتْ ، وَإِلَّا لَمْ تُقْتَلْ .
وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ } .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَتَى بَهِيمَةً ، فَاقْتُلُوهُ ، وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ } وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ كَوْنِهَا مَأْكُولَةً أَوْ غَيْرَ مَأْكُولَةٍ ، وَلَا بَيْنَ مِلْكِهِ وَمِلْكِ غَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ ، وَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ فِي قَتْلِ الْفَاعِلِ الْجَانِي ، فَفِي حَقِّ حَيَوَانٍ لَا جِنَايَةَ مِنْهُ أَوْلَى .
قُلْنَا : إنَّمَا يُعْمَلْ بِهِ فِي قَتْلِ الْفَاعِلِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ حَدٌّ ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَهَذَا إتْلَافُ مَالٍ ، فَلَا تُؤَثِّرُ الشُّبْهَةُ فِيهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ إتْلَافُ آدَمِيٍّ ، وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ حُرْمَةً ، فَلَمْ يَجُزْ التَّهَجُّمُ عَلَى إتْلَافِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُ هَذَا فِي إتْلَافِ مَالٍ ، وَلَا حَيَوَانٍ سِوَاهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ إنْ كَانَ لِلْفَاعِلِ ، ذَهَبَ هَدَرًا ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ ، فَعَلَى الْفَاعِلِ غَرَامَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ إتْلَافِهِ ، فَيَضْمَنُهُ ، كَمَا لَوْ نَصَبَ لَهُ شَبَكَةً فَتَلِفَ بِهَا .
ثُمَّ إنْ كَانَتْ مَأْكُولَةً ، فَهَلْ يُبَاحُ أَكْلُهَا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَحِلُّ أَكْلُهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ } .
وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مِنْ جِنْسٍ يَجُوزُ أَكْلُهُ ، ذَبَحَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ ، فَحَلَّ أَكْلُهُ ، كَمَا
لَوْ لَمْ يُفْعَلْ بِهِ هَذَا الْفِعْلُ ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ أَكْلُهُ ؛ لِشُبْهَةِ التَّحْرِيمِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا يَحِلُّ أَكْلُهَا ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قِيلِ لَهُ : مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ ؟ قَالَ : مَا أُرَاهُ قَالَ ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ كَرِهَ أَكْلَهَا وَقَدْ فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ الْفِعْلُ .
وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجِبُ قَتْلُهُ ، لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَجُزْ أَكْلُهُ ، كَسَائِرِ الْمَقْتُولَاتِ ، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ قَتْلِهَا ، فَقِيلَ : إنَّمَا قُتِلَتْ لِئَلَّا يُعَيَّرَ فَاعِلُهَا ، وَيُذَكَّرَ بِرُؤْيَتِهَا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ بَطَّةَ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ عَلَى بَهِيمَةٍ فَاقْتُلُوهُ ، وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْبَهِيمَةِ ؟ قَالَ : لَا يُقَالُ هَذِهِ وَهَذِهِ } .
وَقِيلَ : لِئَلَّا تَلِدَ خَلْقًا مُشَوَّهًا .
وَقِيلَ : لِئَلَّا تُؤْكَلَ .
وَإِلَيْهَا أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَعْلِيلِهِ .
وَلَا يَجِبُ قَتْلُهَا حَتَّى يَثْبُتَ هَذَا الْعَمَلُ بِهَا بِبَيِّنَةٍ ، فَأَمَّا إنْ أَقَرَّ الْفَاعِلُ ، فَإِنْ كَانَتْ الْبَهِيمَةُ لَهُ ، ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهَا بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهَا لِغَيْرِ مَالِكِهَا .
وَهَلْ يَثْبُتُ هَذَا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ ، وَإِقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الزِّنَى ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، نَذْكُرهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 7172 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، مِمَّنْ ذَكَرْت ، مَنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ ؛ إقْرَارٍ ؛ أَوْ بَيِّنَةٍ .
فَإِنْ ثَبَتَ بِإِقْرَارٍ اُعْتُبِرَ إقْرَارُ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَكَمُ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يُحَدُّ بِإِقْرَارِ مَرَّةٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ ، فَارْجُمْهَا } .
وَاعْتِرَافُ مَرَّةٍ اعْتِرَافٌ ، وَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا الرَّجْمَ بِهِ .
وَرَجَمَ الْجُهَنِيَّةَ ، وَإِنَّمَا اعْتَرَفَتْ مَرَّةً .
وَقَالَ عُمَرُ : إنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أُحْصِنْ ، إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ، أَوْ الِاعْتِرَافُ .
وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ، فَيَثْبُتُ بِاعْتِرَافِ مَرَّةٍ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْأَسْلَمِيِّينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي زَنَيْتُ .
فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي زَنَيْتُ .
فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي زَنَيْتُ .
فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، حَتَّى ثَنَى ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ ، دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَبِكَ جُنُونٌ ؟ .
قَالَ : لَا .
قَالَ : فَهَلْ أَحْصَنْتَ ؟ .
قَالَ : نَعَمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُرْجُمُوهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ بِمَرَّةٍ ، لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ حَدٍّ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَرَوَى نُعَيْمُ بْنُ هَزَّالٍ حَدِيثَهُ ، وَفِيهِ : {
حَتَّى قَالَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّك قَدْ قُلْتهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَبِمَنْ ؟ .
قَالَ بِفُلَانَةَ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَهَذَا تَعْلِيلٌ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إقْرَارَ الْأَرْبَعِ هِيَ الْمُوجِبَةُ .
وَرَوَى أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ ، { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، قَالَ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ أَقْرَرْت أَرْبَعًا ، رَجَمَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَهَذَا يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى هَذَا ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْخَطَإِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ هَذَا مِنْ حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا ذَلِكَ مَا تَجَاسَرَ عَلَى قَوْلِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ .
فَأَمَّا أَحَادِيثُهُمْ ، فَإِنَّ الِاعْتِرَافَ لَفْظُ الْمَصْدَرِ يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَحَدِيثُنَا يُفَسِّرُهُ ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ الِاعْتِرَافَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ كَانَ أَرْبَعًا .
فَصْلٌ : وَسَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الزَّانِي ، يُرَدَّدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، عَلَى حَدِيثِ مَاعِزٍ ، هُوَ أَحْوَطُ .
قُلْت لَهُ : فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، أَوْ فِي مَجَالِسَ شَتَّى ؟ قَالَ : أَمَّا الْأَحَادِيثُ ، فَلَيْسَتْ تَدُلُّ إلَّا عَلَى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، إلَّا ذَاكَ الشَّيْخَ بَشِيرَ بْنَ مُهَاجِرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، وَذَاكَ عِنْدِي مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَرْبَعِ إقْرَارَاتٍ ، فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ ؛ لِأَنَّ مَاعِزًا أَقَرَّ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ أَرْبَعًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحَدِيثَ ، وَلِأَنَّهُ إحْدَى حُجَّتَيْ الزِّنَى ، فَاكْتَفَى بِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، كَالْبَيِّنَةِ .
( 7174 ) فَصْلٌ : يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْإِقْرَارِ أَنْ يَذْكُرَ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ ، لِتَزُولَ الشُّبْهَةُ ؛ لِأَنَّ الزِّنَى يُعَبِّرُ عَمَّا لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْحَدِّ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ؛ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَاعِزٍ : لَعَلَّك قَبَّلْت ، أَوْ غَمَزْت ، أَوْ نَظَرْت .
قَالَ : لَا .
قَالَ : أَفَنِكْتَهَا .
لَا يُكَنِّي .
قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، { قَالَ : أَفَنِكْتَهَا ؟ .
قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : حَتَّى غَابَ ذَاكَ مِنْك فِي ذَاكَ مِنْهَا ؟ .
قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ ، وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ .
قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَى ؟ .
قَالَ : نَعَمْ ، أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ حَلَالًا } .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
( 7175 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَكَذَّبَتْهُ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَهَا .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّا صَدَّقْنَاهَا فِي إنْكَارِهَا ، فَصَارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ ، فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ ، فَسَمَّاهَا لَهُ ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَرْأَةِ ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ ، فَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ زَنَتْ ، فَجَلَدَهُ الْحَدَّ وَتَرَكَهَا } .
وَلِأَنَّ انْتِفَاءَ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّهَا لَا يُبْطِلُ إقْرَارَهُ ، كَمَا لَوْ سَكَتَتْ ، أَوْ كَمَا لَوْ لَمْ يُسْأَلْ ، وَلِأَنَّ عُمُومَ الْخَبَرِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِاعْتِرَافِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ : إذَا كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّنَا صَدَّقْنَاهَا فِي إنْكَارِهَا .
لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّنَا لَمْ نَحْكُمْ بِصِدْقِهَا ، وَانْتِفَاءُ الْحَدِّ إنَّمَا كَانَ لِعَدَمِ الْمُقْتَضَى ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ أَوْ الْبَيِّنَةُ ، لَا لِوُجُودِ التَّصْدِيقِ ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ سَكَتَتْ ، أَوْ لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ ، وَالْبِكْرَ وَالثَّيِّبَ ، فِي الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ حُجَّتَيْ الزِّنَى ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْكُلَّ ، كَالْبَيِّنَةِ .
( 7176 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَهُوَ بَالِغٌ صَحِيحٌ عَاقِلٌ ) أَمَّا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ فَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِهِمَا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ ، وَصِحَّةِ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُمَا ، وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِمَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ ؛ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فِي قِصَّةِ مَاعِزٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ قَوْمَهُ : أَمَجْنُونٌ هُوَ ؟ قَالُوا : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ } .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ أَقَرَّ عِنْدَهُ : أَبِكَ جُنُونٌ ؟ } .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ ، قَالَ : أُتِيَ عُمَرُ بِمَجْنُونَةٍ قَدْ زَنَتْ ، فَاسْتَشَارَ فِيهَا أُنَاسًا فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ ، فَمَرَّ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : مَا شَأْنُ هَذِهِ ؟ .
قَالُوا : مَجْنُونَةُ آلِ فُلَانٍ زَنَتْ ، فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ .
فَقَالَ : ارْجِعُوا بِهَا .
ثُمَّ أَتَاهُ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثَةٍ ؛ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَعْقِلَ ؟ قَالَ : بَلَى .
قَالَ : فَمَا بَالُ هَذِهِ ؟ قَالَ : لَا شَيْءَ .
قَالَ : فَأَرْسِلْهَا فَأَرْسَلَهَا .
قَالَ : فَجَعَلَ عُمَرُ يُكَبِّرُ .
( 7177 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ يُجَنُّ مَرَّةً وَيُفِيقُ أُخْرَى ، فَأَقَرَّ فِي إفَاقَتِهِ أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ مُفِيقٌ ، أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ زَنَى فِي إفَاقَتِهِ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَى الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ وُجِدَ مِنْهُ فِي حَالِ تَكْلِيفِهِ ، وَالْقَلَمُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عَنْهُ ، وَإِقْرَارُهُ وُجِدَ فِي حَالِ اعْتِبَارِ كَلَامِهِ .
فَإِنْ أَقَرَّ فِي إفَاقَتِهِ ، وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى حَالٍ ، أَوْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالزِّنَى ، وَلَمْ تُضِفْهُ إلَى حَالِ إفَاقَتِهِ ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وُجِدَ فِي حَالِ جُنُونِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ مَعَ الِاحْتِمَالِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، فِي حَدِيثِ الْمَجْنُونَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا عُمَرُ ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ : إنَّ هَذِهِ مَعْتُوهَةُ بَنِي فُلَانٍ ، لَعَلَّ الَّذِي أَتَاهَا أَتَاهَا فِي بَلَائِهَا .
فَقَالَ عُمَرُ : لَا أَدْرِي .
فَقَالَ عَلِيٌّ : وَأَنَا لَا أَدْرِي .
( 7178 ) فَصْلٌ : وَالنَّائِمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ ، فَلَوْ زَنَى بِنَائِمَةٍ ، أَوْ اسْتَدْخَلَتْ امْرَأَةٌ ذَكَرَ نَائِمٍ ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ الزِّنَى حَالَ نَوْمِهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُ .
وَلَوْ أَقَرَّ فِي حَالِ نَوْمِهِ ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَدْلُولِهِ .
فَأَمَّا السَّكْرَانُ وَنَحْوُهُ ، فَعَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ ، إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي سُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَوْجَبُوا عَلَيْهِ حَدَّ الْفِرْيَةِ ؛ لِكَوْنِ السُّكْرِ مَظِنَّةً لَهَا ، وَلِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ بِسَبَبٍ لَا يُعْذَرُ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَاقِلٍ ، فَيَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلِأَنَّ طَلَاقَهُ لَا يَقَعُ فِي رِوَايَةٍ ، فَأَشْبَهَ النَّائِمَ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْحَدِّ عَنْهُ يُفْضِي إلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ فِعْلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ ، شَرِبَ الْخَمْرَ ، وَفَعَلَ مَا أَحَبَّ ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَلِأَنَّ السُّكْرَ مَظِنَّةٌ لِفِعْلِ الْمَحَارِمِ ، وَسَبَبٌ إلَيْهِ ، فَقَدْ تَسَبَّبَ إلَى فِعْلِهَا حَالَ صَحْوِهِ .
فَأَمَّا إنْ أَقَرَّ بِالزِّنَى وَهُوَ سَكْرَانُ ، لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ ، وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ عَلَى صِحَّةِ خَبَرِهِ ، فَأَشْبَهَ قَوْلَ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ .
وَقَدْ رَوَى بُرَيْدَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْكَهَ مَاعِزًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ، لِيَعْلَمَ هَلْ هُوَ سَكْرَانُ أَوْ لَا ، وَلَوْ كَانَ السَّكْرَانُ مَقْبُولَ الْإِقْرَارِ ، لَمَا اُحْتِيجَ إلَى تَعَرُّفِ بَرَاءَتِهِ مِنْهُ .
( 7179 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا قَوْلُهُ : وَهُوَ صَحِيحٌ .
فَفَسَّرَهُ الْقَاضِي بِالصَّحِيحِ مِنْ الْمَرَضِ ، يَعْنِي أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ ، وَإِنْ وَجَبَ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِمَا يُؤْمَنُ بِهِ تَلَفُهُ ، فَإِنْ خِيفَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ ، ضُرِبَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً بِضِغْثٍ فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ أَوْ عُودٍ صَغِيرٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّحِيحَ الَّذِي يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوَطْءُ ، فَلَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَى مَنْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ، كَالْمَجْنُونِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّنَا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الزِّنَى الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ ، وَلَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ ، فَهِيَ كَاذِبَةٌ ، وَعَلَيْهَا الْحَدُّ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَإِنْ أَقَرَّ الْخَصِيُّ أَوْ الْعِنِّينُ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ ذَلِكَ ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ بِهِ ، كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ .
( 7180 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا الْأَخْرَسُ ، فَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إشَارَتُهُ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إقْرَارٌ ، وَإِنْ فُهِمَتْ إشَارَتُهُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : عَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ إقْرَارُهُ بِغَيْرِ الزِّنَى صَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ كَالنَّاطِقِ ، وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يُحَدُّ بِإِقْرَارٍ وَلَا بَيِّنَةٍ ، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ تَحْتَمِلُ مَا فُهِمَ مِنْهَا وَغَيْرُهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ لِكَوْنِهِ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلَا يَجِبُ بِالْبَيِّنَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ شُبْهَةٌ لَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا وَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا شُبْهَةً ، وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ ، وَالْإِشَارَةُ لَا تَنْتَفِي مَعَهَا الشُّبُهَاتُ ، فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِهَا الْحَدُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَعَهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ .
( 7181 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ مِنْ الْمُكْرَهِ ، فَلَوْ ضُرِبَ الرَّجُلُ لِيُقِرَّ بِالزِّنَا ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ الزِّنَا .
وَلَا نَعْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ إقْرَارَ الْمُكْرَهِ لَا يَجِبُ بِهِ حَدٌّ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ الرَّجُلُ بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إذَا جَوَّعْتَهُ ، أَوْ ضَرَبْتَهُ ، أَوْ أَوْثَقْتَهُ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ فِي رَجُلٍ اعْتَرَفَ بَعْدَ جَلْدِهِ : لَيْسَ عَلَيْهِ حَدٌّ .
وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا ثَبَتَ بِهِ الْمُقَرُّ بِهِ ؛ لِوُجُودِ الدَّاعِي إلَى الصِّدْقِ ، وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْهُ ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُتَّهَمُ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ ، وَمَعَ الْإِكْرَاهِ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَصَدَ بِإِقْرَارِهِ دَفْعَ ضَرَرِ الْإِكْرَاهِ ، فَانْتَفَى ظَنُّ الصِّدْقِ عَنْهُ ، فَلَمْ يُقْبَلْ .
( 7182 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَ امْرَأَةً ، وَادَّعَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ ، وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ يَكُونَ زَوْجَهَا .
نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ لَمْ تُقِرَّ الْمَرْأَةُ بِوَطْئِهِ إيَّاهَا ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِالزِّنَا ، وَلَا مَهْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَدَّعِيهِ ، وَإِنْ اعْتَرَفَتْ بِوَطْئِهِ إيَّاهَا ، وَأَقَرَّتْ بِأَنَّهُ زَنَى بِهَا مُطَاوِعَةً ، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ بِدُونِ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ ، وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ أَكْرَهَهَا عَلَيْهِ ، أَوْ اشْتَبَهَ عَلَيْهَا ، فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِهِ .
فَقَدْ رَوَى مُهَنَّا ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ وَطِئَ امْرَأَةً ، وَزَعَمَ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ ، وَأَنْكَرَتْ هِيَ أَنْ يَكُونَ زَوْجَهَا ، وَأَقَرَّتْ بِالْوَطْءِ .
قَالَ : فَهَذِهِ قَدْ أَقَرَّتْ عَلَى نَفْسِهَا بِالزِّنَا ، وَلَكِنْ يُدْرَأُ عَنْهُ الْحَدُّ بِقَوْلِهِ : إنَّهَا امْرَأَتُهُ ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ، وَيُدْرَأُ عَنْهَا الْحَدُّ حَتَّى تَعْتَرِفَ مِرَارًا .
قَالَ أَحْمَدُ : وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ عَلَيْهَا الْحَدَّ ، يَذْهَبُونَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ .
( 7183 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَنْزِعُ عَنْ إقْرَارِهِ حَتَّى يَتِمَّ عَلَيْهِ الْحَدُّ ) وَجُمْلَتُهُ : إنَّ مِنْ شَرْطِ إقَامَةِ الْحَدِّ بِالْإِقْرَارِ ، الْبَقَاءَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْحَدِّ ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ أَوْ هَرَبَ ، كُفَّ عَنْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَلَا يُتْرَكُ ؛ لِأَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ فَقَتَلُوهُ ، وَلَمْ يَتْرُكُوهُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : { رُدُّونِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ قَوْمِي هُمْ غَرُّونِي مِنْ نَفْسِي ، وَأَخْبَرُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ قَاتِلِي .
فَلَمْ يَنْزِعُوا عَنْهُ حَتَّى قَتَلُوهُ .
} أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَوْ قُبِلَ رُجُوعُهُ ، لَلَزِمَتْهُمْ دِيَتُهُ ؛ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ بِإِقْرَارِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ، أَنَّهُ إنْ رَجَعَ حُدَّ لِلْفِرْيَةِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ رَجَعَ عَنْ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ ، ضُرِبَ دُونَ الْحَدِّ .
وَلَنَا { أَنَّ مَاعِزًا هَرَبَ ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ ، يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ } .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَجَابِرٍ ، وَنُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ ، وَنَصْرِ بْنِ دَاهِرٍ ، وَغَيْرِهِمْ ، { أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا هَرَبَ ، فَقَالَ لَهُمْ : رُدُّونِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ ، يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ .
} فَفِي هَذَا أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ رُجُوعُهُ .
وَعَنْ بُرَيْدَةَ ، قَالَ : كُنَّا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ وَمَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ ، لَوْ رَجَعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا .
أَوْ قَالَ : لَوْ
لَمْ يَرْجِعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا ، لَمْ يَطْلُبْهُمَا ، وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا عِنْدَ الرَّابِعَةِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّ رُجُوعَهُ شُبْهَةٌ ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إحْدَى بَيِّنَتَيْ الْحَدِّ ، فَيَسْقُطُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ ، كَالْبَيِّنَةِ إذَا رَجَعَتْ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُقُوقِ ، فَإِنَّهَا لَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَاعِزٍ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ بَعْدَ هَرَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الرُّجُوعِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا هَرَبَ لَمْ يُتْبَعْ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ } .
وَإِنْ لَمْ يُتْرَكْ وَقُتِلَ ، لَمْ يُضْمَنْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لَمْ يُضَمِّنْ مَاعِزًا مَنْ قَتَلَهُ ؛ وَلِأَنَّ هَرَبَهُ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي رُجُوعِهِ .
وَإِنْ قَالَ : رُدُّونِي إلَى الْحَاكِمِ .
وَجَبَ رَدُّهُ ، وَلَمْ يَجُزْ إتْمَامُ الْحَدِّ ، فَإِنْ أُتِمَّ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ أَتَمَّهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي هَرَبِهِ .
وَإِنْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ ، وَقَالَ : كَذَبْت فِي إقْرَارِي .
أَوْ : رَجَعْت عَنْهُ .
أَوْ : لَمْ أَفْعَلْ مَا أَقْرَرْت بِهِ .
وَجَبَ تَرْكُهُ ، فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَجَبَ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَالَ إقْرَارُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ ، فَصَارَ كَمَنْ لَمْ يُقِرَّ ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى قَاتِلِهِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ رُجُوعِهِ ، فَكَانَ اخْتِلَافُهُمْ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْقِصَاصِ ؛ وَلِأَنَّ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ مِمَّا يَخْفَى ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ .
( 7184 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( أَوْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحْرَارٌ عُدُولٌ ، يَصِفُونَ الزِّنَا ) ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِي شُهُودِ الزِّنَا سَبْعَةَ شُرُوطٍ ؛ أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونُوا أَرْبَعَةً .
وَهَذَا إجْمَاعٌ ، لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } .
وَقَالَ تَعَالَى : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } { وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَأَيْت لَوْ وَجَدْت مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا ، أُمْهِلُهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعَمْ .
} رَوَاهُ مَالِكٌ ، فِي " الْمُوَطَّإِ " وَأَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " الشَّرْطُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونُوا رِجَالًا كُلُّهُمْ ، وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِحَالٍ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، إلَّا شَيْئًا يُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ ، وَحَمَّادٍ ، أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَامْرَأَتَانِ .
وَهُوَ شُذُوذٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْأَرْبَعَةِ اسْمٌ لِعَدَدِ الْمَذْكُورِينَ ، وَيَقْتَضِي أَنْ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَرْبَعَةٍ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَرْبَعَةَ إذَا كَانَ بَعْضُهُمْ نِسَاءً لَا يُكْتَفَى بِهِمْ ، وَإِنَّ أَقَلَّ مَا يُجْزِئُ خَمْسَةٌ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ؛ وَلِأَنَّ فِي شَهَادَتِهِنَّ شُبْهَةً ؛ لِتَطَرُّقِ الضَّلَالِ إلَيْهِنَّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } .
وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ .
الشَّرْطُ الثَّالِثُ : الْحُرِّيَّةُ ، فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ، إلَّا رِوَايَةً حُكِيَتْ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ شَهَادَتَهُمْ تُقْبَلُ
.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ ؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّهُ عَدْلٌ ذَكَرٌ مُسْلِمٌ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، كَالْحُرِّ .
وَلَنَا أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي شَهَادَتِهِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ فِي الْحَدِّ ؛ لِأَنَّهُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
الشَّرْطُ الرَّابِعُ : الْعَدَالَةُ ، وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهَا ؛ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ تُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ ، فَهَاهُنَا مَعَ مَزِيدِ الِاحْتِيَاطِ أَوْلَى ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ ، وَلَا مَسْتُورِ الْحَالِ الَّذِي لَا تُعْلَمُ عَدَالَتُهُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا .
الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ كُفَّارٌ ، لَا تَتَحَقَّقُ الْعَدَالَةُ فِيهِمْ ، وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ وَلَا أَخْبَارُهُمْ الدِّينِيَّةُ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ .
الشَّرْطُ السَّادِسُ ، أَنْ يَصِفُوا الزِّنَا ، فَيَقُولُوا : رَأَيْنَا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ ، وَالرِّشَاءِ فِي الْبِئْرِ .
وَهَذَا قَوْلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ { مَاعِزٍ ، أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالزِّنَا ، فَقَالَ : أَنِكْتَهَا .
فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقَالَ : حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْك ، فِي ذَلِكَ مِنْهَا ، كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ ، وَالرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ ؟ .
قَالَ : نَعَمْ .
} وَإِذَا اُعْتُبِرَ التَّصْرِيحُ فِي الْإِقْرَارِ ، كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي الشَّهَادَةِ أَوْلَى .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { جَاءَتْ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ وَامْرَأَةٍ زَنَيَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ .
فَأَتَوْهُ بِابْنَيْ صُورِيَا ، فَنَشَدَهُمَا : كَيْفَ تَجِدَانِ أَمْرَ
هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ ؟ .
قَالَا : نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجَهَا ، مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ، رُجِمَا .
قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ؟ قَالَا : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا ، وَكَرِهْنَا الْقَتْلَ .
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ ، فَجَاءَ أَرْبَعَةٌ ، فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا .
} وَلِأَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَصِفُوا الزِّنَا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَاعْتُبِرَ كَشْفُهُ .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : يَجُوزُ لِلشُّهُودِ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى ذَلِكَ مِنْهُمَا ، لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا لِيَحْصُلَ الرَّدْعُ بِالْحَدِّ ، فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ قَدْ غَيَّبَهُ فِي فَرْجِهَا كَفَى ، وَالتَّشْبِيهُ تَأْكِيدٌ .
وَأَمَّا تَعْيِينُهُمْ الْمَزْنِيَّ بِهَا أَوْ الزَّانِيَ ، إنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ ، وَمَكَانِ الزِّنَا ، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُشْتَرَطُ ، لِئَلَّا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ اُخْتُلِفَ فِي إبَاحَتِهَا ، وَيُعْتَبَرُ ذِكْرُ الْمَكَانِ ، لِئَلَّا تَكُونَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ عَلَى غَيْرِ الْفِعْلِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ ، وَلِهَذَا { سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا ، فَقَالَ : إنَّك أَقْرَرْت أَرْبَعًا ، فَبِمَنْ ؟ } .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ هَذَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذِكْرُهُمَا فِي الْإِقْرَارِ ، وَلَمْ يَأْتِ ذِكْرُهُمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الشَّهَادَةِ فِي رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ ذِكْرُ الْمَكَانِ ؛ وَلِأَنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ الزَّمَانِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ الْمَكَانِ ، كَالنِّكَاحِ ، وَيَبْطُلُ مَا ذِكْرُهُ بِالزَّمَانِ .
الشَّرْطُ السَّابِعُ ، مَجِيءُ الشُّهُودِ كُلِّهِمْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ .
ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ ، فَقَالَ : وَإِنْ جَاءَ أَرْبَعَةٌ مُتَفَرِّقِينَ ، وَالْحَاكِمُ جَالِسٌ فِي
مَجْلِسِ حُكْمِهِ ، لَمْ يَقُمْ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ ، وَإِنْ جَاءَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ أَنْ قَامَ الْحَاكِمُ ، كَانُوا قَذَفَةً ، وَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَالْبَتِّيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَجْلِسَ ، وَقَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } .
وَلِأَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ مَقْبُولَةٌ إنْ اتَّفَقَتْ ، تُقْبَلُ إذَا افْتَرَقَتْ فِي مَجَالِسَ ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ .
وَلَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ وَنَافِعًا وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ شَهِدُوا عِنْدَ عُمَرَ ، عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ بِالزِّنَا ، وَلَمْ يَشْهَدْ زِيَادٌ ، فَحَدَّ الثَّلَاثَةَ .
وَلَوْ كَانَ الْمَجْلِسُ غَيْرَ مُشْتَرَطٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحُدَّهُمْ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكْمُلُوا بِرَابِعٍ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ ، فَحَدَّهُمْ ، ثُمَّ جَاءَ رَابِعٌ فَشَهِدَ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَلَوْلَا اشْتِرَاطُ الْمَجْلِسِ ، لَكَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ .
وَبِهَذَا فَارَقَ سَائِرَ الشَّهَادَاتِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ : فَإِنَّهَا لَمْ تَتَعَرَّضْ لِلشُّرُوطِ ، وَلِهَذَا لَمْ تَذْكُرْ الْعَدَالَةَ ، وَصِفَةَ الزِّنَا ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ } .
لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا فِي الزَّمَانِ كُلِّهِ ، أَوْ مُقَيَّدًا ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ جَلْدِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ زَمَنٍ إلَّا يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ فِيهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، أَوْ بِكَمَالِهِمْ إنْ كَانَ قَدْ شَهِدَ بَعْضُهُمْ ، فَيَمْتَنِعُ جَلْدُهُمْ الْمَأْمُورُ بِهِ ، فَيَكُونُ تَنَاقُضًا ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ ، فَأَوْلَى مَا قُيِّدَ بِالْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَالِ الْوَاحِدَةِ ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ ، وَاكْتُفِيَ فِيهِ بِالْقَبْضِ فِيمَا يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِيهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اجْتِمَاعُهُمْ حَالَ مَجِيئِهِمْ ، وَلَوْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، قَبِلَ شَهَادَتَهُمْ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ ، فَهُمْ قَذَفَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْتَمِعُوا فِي مَجِيئِهِمْ ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ ، كَاَلَّذِينَ لَمْ يَشْهَدُوا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ .
وَلَنَا قِصَّةُ الْمُغِيرَةِ ، فَإِنَّ الشُّهُودَ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَسُمِعَتْ شَهَادَتُهُمْ ، وَإِنَّمَا حُدُّوا لِعَدَمِ كَمَالِهَا .
وَفِي حَدِيثِهِ ، أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ قَالَ : أَرَأَيْت إنْ جَاءَ آخَرُ يَشْهَدُ ، أَكُنْت تَرْجُمُهُ ؟ .
قَالَ عُمَرُ : أَيْ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ .
وَلِأَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ ؛ وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَائِهِ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَإِذَا تَفَرَّقُوا فِي مَجَالِسَ ، فَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ مَنْ شَهِدَ بِالزِّنَا ، وَلَمْ يُكْمِلْ الشَّهَادَةَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } .
( 7185 ) فَصْلٌ : وَاذَا لَمْ تَكْمُلْ شُهُودُ الزِّنَا ، فَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ .
فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِمْ رِوَايَتَيْنِ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهِمْ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ شُهُودٌ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ كَانُوا أَرْبَعَةً أَحَدُهُمَا فَاسِقٌ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } .
وَهَذَا يُوجِبُ الْجَلْدَ عَلَى كُلِّ رَامٍ لَمْ يَشْهَدْ بِمَا قَالَ أَرْبَعَةٌ ؛ وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، فَإِنَّ عُمَرَ جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ وَأَصْحَابَهُ حِينَ لَمْ يُكْمِلْ الرَّابِعُ شَهَادَتَهُ ، بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ .
وَرَوَى صَالِحٌ فِي " مَسَائِلِهِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ ، فَشَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُ عُمَرَ ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَشَهِدَ ، فَتَغَيَّرَ لَوْنُ عُمَرَ ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَشَهِدَ ، فَاسْتَكْبَرَ ذَلِكَ عُمَرُ ، ثُمَّ جَاءَ شَابٌّ يَخْطِرُ بِيَدَيْهِ ، فَقَالَ عُمَرُ : مَا عِنْدَك يَا سُلَحَ الْعُقَابِ ؟ وَصَاحَ بِهِ عُمَرُ صَيْحَةً ، فَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ كِدْت يُغْشَى عَلَيَّ .
فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، رَأَيْت أَمْرًا قَبِيحًا .
فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُشَمِّتْ الشَّيْطَانَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ : فَأَمَرَ بِأُولَئِكَ النَّفَرِ فَجُلِدُوا .
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا شُهِدَ عِنْدَهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ ، شَهِدَ ثَلَاثَةٌ ، وَبَقِيَ زِيَادٌ ، فَقَالَ عُمَرُ أَرَى شَابًّا حَسَنًا ، وَأَرْجُو أَنْ لَا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ : يَا أَمِيرُ ، رَأَيْت اسْتًا تَنْبُو ، وَنَفَسًا يَعْلُو ، وَرَأَيْت رِجْلَيْهَا فَوْقَ عُنُقِهِ ،
كَأَنَّهُمَا أُذُنَا حِمَارٍ ، وَلَا أَدْرِي مَا وَرَاءَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ .
وَأَمَرَ بِالثَّلَاثَةِ فَضُرِبُوا .
وَقَوْلُ عُمَرَ : يَا سُلَحَ الْعُقَابِ مَعْنَاهُ : أَنَّهُ يُشْبِهُ سُلَحَ الْعُقَابِ ، الَّذِي يُحَرِّقُ كُلَّ شَيْءٍ أَصَابَهُ ، وَكَذَلِكَ هَذَا ، تُوقَعُ الْعُقُوبَةُ بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ لَا مَحَالَةَ ، إنْ كَمَلَتْ شَهَادَتُهُ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكْمُلْ ، حُدَّ أَصْحَابُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ خَالَفَهُمْ أَبُو بَكْرَةَ وَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ شَهِدُوا .
قُلْنَا : لَمْ يُخَالِفُوا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ، إنَّمَا خَالَفُوهُمْ فِي صِحَّةِ مَا شَهِدُوا بِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ رَامٍ بِالزِّنَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِأَحَدٍ .
( 7186 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَمَلُوا أَرْبَعَةً غَيْرَ مَرْضِيِّينَ ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، كَالْعَبِيدِ وَالْفُسَّاقِ وَالْعُمْيَانِ ، فَفِيهِمْ ثَلَاثُ ؛ رِوَايَاتٍ ؛ إحْدَاهُنَّ : عَلَيْهِمْ الْحَدُّ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَمْ تَكْمُلْ ، فَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ ، كَمَا لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً .
وَالثَّانِيَةُ : لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، فَدَخَلُوا فِي عُمُومِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ عَدَدَهُمْ قَدْ كَمَلَ ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ لِمَعْنًى غَيْرِ تَفْرِيطِهِمْ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مَسْتُورُونَ ، وَلَمْ تَثْبُتْ عَدَالَتُهُمْ وَلَا فِسْقُهُمْ .
الثَّالِثَةُ : إنْ كَانُوا عُمْيَانًا أَوْ بَعْضُهُمْ ، جُلِدُوا ، وَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ فُسَّاقًا ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّ الْعُمْيَانَ مَعْلُومٌ كَذِبُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمَا لَمْ يَرَوْهُ يَقِينًا ، وَالْآخَرُونَ يَجُوزُ صِدْقُهُمْ ، وَقَدْ كَمَلَ عَدَدُهُمْ ، فَأَشْبَهُوا مَسْتُورِي الْحَالِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ كَانَ رَدُّ الشَّهَادَةِ لِمَعْنًى ظَاهِرٍ ، كَالْعَمَى ، وَالرِّقِّ ، وَالْفِسْقِ الظَّاهِرِ فَفِيهِمْ قَوْلَانِ ، وَإِنْ كَانَ لِمَعْنًى خَفِيٍّ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ مَا يَخْفَى يَخْفَى عَلَى الشُّهُودِ ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنْهُمْ ، بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ .
وَإِنْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَامْرَأَتَانِ ، حَدُّ الْجَمِيعُ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ كَعَدَمِهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَهَذَا يُقَوِّي رِوَايَةَ إيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الْأَوَّلِينَ ، وَيُنَبِّهُ عَلَى إيجَابِ الْحَدِّ فِيمَا إذَا كَانُوا عُمْيَانًا أَوْ أَحَدُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ يُحْتَمَلُ صِدْقُهُمَا ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَالْأَعْمَى كَاذِبٌ يَقِينًا ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَفْعَالِ ، فَوُجُوبُ
الْحَدِّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ مَعَهُمْ أَوْلَى .
( 7187 ) فَصْلٌ : وَإِنْ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ ، أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، فَعَلَى جَمِيعِهِمْ الْحَدُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالثَّانِيَةُ : يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ دُونَ الرَّاجِعِ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ قَبْلَ الْحَدِّ ، فَهُوَ كَالتَّائِبِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ ؛ وَلِأَنَّ فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الرُّجُوعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَفِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِ زَجْرٌ لَهُ عَنْ الرُّجُوعِ ، خَوْفًا مِنْ الْحَدِّ ، فَتَفُوتُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ ، وَتَتَحَقَّقُ الْمَفْسَدَةُ ، فَنَاسَبَ ذَلِكَ نَفْيَ الْحَدِّ عَنْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُحَدُّ الرَّاجِعُ دُونَ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ فِي قَذْفِهِ ، وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ فَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ بَعْدَ وُجُوبِهِ بِرُجُوعِ الرَّاجِعِ ، وَمَنْ وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ ، لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ، فَلَمْ يُحَدَّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَرْجِعْ .
وَلَنَا أَنَّهُ نَقَصَ الْعَدَدُ بِالرُّجُوعِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، فَلَزِمَهُمْ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ ، وَامْتَنَعَ الرَّابِعُ مِنْ الشَّهَادَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : وَجَبَ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِمْ .
يَبْطُلُ بِمَا إذَا رَجَعُوا كُلُّهُمْ ، وَبِالرَّاجِعِ وَحْدَهُ ، فَإِنَّ الْحَدَّ وَجَبَ ثُمَّ سَقَطَ ، وَوَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ بِسُقُوطِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إذَا وَجَبَ عَلَى الرَّاجِعِ مَعَ الْمَصْلَحَةِ فِي رُجُوعِهِ ، وَإِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ ، وَإِحْيَائِهِ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ إشْرَافِهِ عَلَى التَّلَفِ ، فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى .
( 7188 ) فَصْلٌ : وَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ ، وَاثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ ، أَوْ شَهِدَ كُلُّ اثْنَيْنِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا فِي بَلَدٍ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ صَاحِبَاهُمَا ، أَوْ اخْتَلَفُوا فِي الْيَوْمِ فَالْجَمِيعُ قَذَفَةٌ ، وَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ .
وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَلُوا أَرْبَعَةً .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ أَرْبَعَةٌ عَلَى زِنًا وَاحِدٍ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِالشَّهَادَةِ اثْنَانِ وَحْدَهُمَا ، فَأَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : عَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَحَكَى قَوْلًا لِأَحْمَدَ .
وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ زِنَا وَاحِدٍ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ ، فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ ؛ وَلِأَنَّ جَمِيعَ مَا يُعْتَبَرُ لَهُ الْبَيِّنَةُ ، يُعْتَبَرُ كَمَالُهَا فِي حَقِّ وَاحِدٍ ، فَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاطُ لَهُ ، وَيَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : إنَّهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ بَيْضَاءَ ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِسَوْدَاءَ ، فَهُمْ قَذَفَةٌ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَنْهُ ، وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَهُ .
( 7189 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي زَاوِيَةِ بَيْتٍ ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي زَاوِيَةٍ مِنْهُ أُخْرَى ، وَكَانَتْ الزَّاوِيَتَانِ مُتَبَاعِدَتَيْنِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْبَيْتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتَا مُتَقَارِبَتَيْنِ ، كَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ ، وَحُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تَكْمُلْ ؛ وَلِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمَكَانِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْبَيْتَيْنِ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ ، سَوَاءٌ تَقَارَبَتْ الزَّاوِيَتَانِ أَوْ تَبَاعَدَتَا .
وَلَنَا أَنَّهُمَا إذَا تَقَارَبَتَا أَمْكَنَ صِدْقُ الشُّهُودِ ، بِأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ فِي إحْدَاهُمَا ، وَتَمَامُهُ فِي الْأُخْرَى ، أَوْ يَنْسُبُهُ كُلُّ اثْنَيْنِ إلَى إحْدَى الزَّاوِيَتَيْنِ لِقُرْبِهِ مِنْهَا ، فَيَجِبُ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ ، كَمَا لَوْ اتَّفَقُوا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا مُتَبَاعِدَتَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَوْنُ الْمَشْهُودِ بِهِ فِعْلًا وَاحِدًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ فِعْلَيْنِ ، فَلِمَ أَوْجَدْتُمْ الْحَدَّ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ؟ قُلْنَا : لَيْسَ هَذَا بِشُبْهَةٍ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّ هَذَا يُحْتَمَلُ فِيهِ وَالْحَدُّ وَاجِبٌ .
وَالْقَوْلُ فِي الزَّمَانِ كَالْقَوْلِ فِي هَذَا ، وَإِنَّهُ مَتَى كَانَ بَيْنَهُمَا زَمَنٌ مُتَبَاعِدٌ ، لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ فِي جَمِيعِهِ ، كَطَرَفَيْ النَّهَارِ ، لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ ، وَمَتَى تَقَارَبَا كَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - .
( 7190 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي قَمِيصٍ أَبْيَضَ ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي قَمِيصٍ أَحْمَرَ ، أَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي ثَوْبِ كَتَّانٍ ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا فِي ثَوْبِ خَزٍّ ، كَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَكْمُلُ ؛ لِتَنَافِي الشَّهَادَتَيْنِ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ قَمِيصَانِ ، فَذَكَرَ كُلُّ اثْنَيْنِ وَاحِدًا ، وَتَرَكَا ذِكْرَ الْآخَرِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَبْيَضُ وَعَلَيْهَا قَمِيصٌ أَحْمَرُ ، وَإِذَا أَمْكَنَ التَّصْدِيقُ ، لَمْ يَجُزْ التَّكْذِيبُ .
( 7191 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُكْرَهَةً ، وَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بِهَا مُطَاوِعَةً ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا إجْمَاعًا ؛ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَكْمُلْ عَلَى فِعْلٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ .
وَفِي الرَّجُلِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، وَالْقَاضِي ، وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمْ تَكْمُلْ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمُطَاوِعَةِ غَيْرُ فِعْلِ الْمُكْرَهَةِ ، وَلَمْ يَتِمَّ الْعَدَدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ شَاهِدَيْنِ مِنْهُمَا يُكَذِّبَانِ الْآخَرَيْنِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ ، أَوْ يَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَذِّبًا لِلْآخَرِ ، إلَّا بِتَقْدِيرِ فِعْلَيْنِ تَكُونُ مُطَاوِعَةً فِي أَحَدِهِمَا ، مُكْرَهَةً فِي الْآخَرِ ، وَهَذَا يَمْنَعُ كَوْنَ الشَّهَادَةِ كَامِلَةً عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ ؛ وَلِأَنَّ شَاهِدَيْ الْمُطَاوِعَةِ قَاذِفَانِ لَهَا ، وَلَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى غَيْرِهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ .
اخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَوَجْهٌ ثَانٍ لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ كَمَلَتْ عَلَى وُجُودِ الزِّنَا مِنْهُ ، وَاخْتِلَافُهُمَا إنَّمَا هُوَ فِعْلُهَا ، لَا فِعْلُهُ ، فَلَا يَمْنَعُ كَمَالَ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ .
وَفِي الشُّهُودِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ؛ أَحَدُهَا : لَا حَدَّ عَلَيْهِمْ .
وَهُوَ قَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى الرَّجُلِ بِشَهَادَتِهِمْ .
وَالثَّانِي : عَلَيْهِمْ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزِّنَا وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ ، فَلَزِمَهُمْ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكْمُلْ عَدَدُهُمْ .
وَالثَّالِثُ : يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى شَاهِدَيْ الْمُطَاوِعَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَذَفَا الْمَرْأَةَ بِالزِّنَا وَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهَا ، وَلَا يَجِبُ عَلَى شَاهِدَيْ الْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّهُمَا
لَمْ يَقْذِفَا الْمَرْأَةَ وَقَدْ كَمَلَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الرَّجُلِ ، وَإِنَّمَا انْتَفَى عَنْهُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ .
( 7192 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَمَّتْ الشَّهَادَةُ بِالزِّنَا فَصَدَّقَهُمْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا ، لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْبَيِّنَةِ الْإِنْكَارُ ، وَمَا كَمَلَ الْإِقْرَارُ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } .
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبِيلَ بِالْحَدِّ ، فَتَجِبُ إقَامَتُهُ ؛ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ تَمَّتْ عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ ؛ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَحَدُ حُجَّتَيْ الزِّنَا ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِوُجُودِ الْحُجَّةِ الْأُخْرَى أَوْ بَعْضِهَا ، كَالْإِقْرَارِ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ وُجُودَ الْإِقْرَارِ يُؤَكِّدُ الْبَيِّنَةَ ، وَيُوَافِقُهَا ، وَلَا يُنَافِيهَا ، فَلَا يَقْدَحُ فِيهَا ، كَتَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ ، وَلَا نُسَلِّمُ اشْتِرَاطَ الْإِنْكَارِ ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى بِالْإِقْرَارِ فِي غَيْرِ الْحَدِّ إذَا وُجِدَ بِكَمَالِهِ ، وَهَا هُنَا لَمْ يَكْمُلْ ، فَلَمْ يَجُزْ الِاكْتِفَاءُ بِهِ ، وَوَجَبَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ ، وَالْعَمَلُ بِهَا .
وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ مَرَّةً ، أَوْ دُونَ الْأَرْبَعِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ تَمَّتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ ، وَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ إقْرَارًا تَامًّا ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ بِرُجُوعِهِ ، وَقَوْلُهُ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ .
( 7193 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ ، وَاعْتَرَفَ هُوَ مَرَّتَيْنِ ، لَمْ تَكْمُلْ الْبَيِّنَةُ ، وَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا بَيْنَ مَنْ اعْتَبَرَ إقْرَارَ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ لَمْ تَكْمُلْ ، وَلَا تُلَفَّقُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، كَإِقْرَارِ بَعْضٍ مَرَّةً .
( 7194 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَمَلَتْ الْبَيِّنَةُ ، ثُمَّ مَاتَ الشُّهُودُ أَوْ غَابُوا ، جَازَ الْحُكْمُ بِهَا ، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونُوا رَجَعُوا وَهَذِهِ شُبْهَةٌ تَدْرَأُ الْحَدَّ .
وَلَنَا أَنَّ كُلَّ شَهَادَةٍ جَازَ الْحُكْمُ بِهَا مَعَ حُضُورِ الشُّهُودِ ، جَازَ مَعَ غَيْبَتِهِمْ ، كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ ، وَاحْتِمَالُ رُجُوعِهِمْ لَيْسَ بِشُبْهَةٍ كَمَا لَوْ حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ .
( 7195 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَهِدُوا بِزِنًا قَدِيمٍ ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ ، وَجَبَ الْحَدُّ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أَقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى زِنًا قَدِيمٍ ، وَأَحُدُّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ .
وَذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا بِحَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا بِحَضْرَتِهِ ، فَإِنَّمَا هُمْ شُهُودُ ضِغْنٍ ؛ وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ لِلشَّهَادَةِ إلَى هَذَا الْوَقْتِ يَدُلُّ عَلَى التُّهْمَةِ ، فَيَدْرَأُ ذَلِكَ الْحَدَّ .
وَلَنَا عُمُومُ الْآيَةِ وَأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ عَلَى الْفَوْرِ ، فَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحَسَنُ مُرْسَلًا ، وَمَرَاسِيلُ الْحَسَنِ لَيْسَتْ بِالْقَوِيَّةِ ، وَالتَّأْخِيرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِعُذْرٍ أَوَغَيْبَةً ، وَالْحَدُّ لَا يَسْقُطُ بِمُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ ، فَإِنَّهُ لَوْ سَقَطَ بِكُلِّ احْتِمَالٍ ، لَمْ يَجِبْ حَدٌّ أَصْلًا .
( 7196 ) فَصْلٌ : وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالْحَدِّ مِنْ غَيْرِ مُدَّعٍ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ اخْتِلَافًا ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَاحْتَجَّ بِقَضِيَّةِ أَبِي بَكْرَةَ ، حِينَ شَهِدَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمُغِيرَةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ دَعْوَى ، وَشَهِدَ الْجَارُودُ وَصَاحِبُهُ عَلَى قُدَامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ بِشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ دَعْوَى .
وَلِأَنَّ الْحَدَّ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَمْ تَفْتَقِرْ الشَّهَادَةُ بِهِ إلَى تَقَدُّمِ دَعْوَى ، كَالْعِبَادَاتِ ، يُبَيِّنُهُ أَنَّ الدَّعْوَى فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ ، وَهَذَا لَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْ الْآدَمِيِّينَ فَيَدَّعِيَهُ ، فَلَوْ وَقَعَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الدَّعْوَى لَامْتَنَعَتْ إقَامَتُهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ عَلَى حَدٍّ ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُقِيمَهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } .
وَتَجُوزُ إقَامَتُهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } .
وَلِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا بِالْحَدِّ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ، لَمْ تُنْكَرْ عَلَيْهِمْ شَهَادَتُهُمْ بِهِ .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ وَغَيْرِهِ التَّعْرِيضُ بِالْوُقُوفِ عَنْ الشَّهَادَةِ ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُمَرَ لِزِيَادٍ : إنِّي لَأَرَى رَجُلًا أَرْجُو أَنْ لَا يَفْضَحَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّ تَرْكَهَا أَفْضَلُ ، فَلَمْ يَكُنْ بَأْسٌ بِدَلَالَتِهِ عَلَى الْفَضْلِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ ، فَقَالَ إنَّ لِي جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ، أَفَأَرْفَعُهُمْ إلَى السُّلْطَانِ ؟ فَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ : إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ ، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
}
( 7197 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا ، فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنْ النِّسَاءِ أَنَّهَا عَذْرَاءُ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا ، وَلَا عَلَى الشُّهُودِ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهَا الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْحُدُودِ ، فَلَا تَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِنَّ .
وَلَنَا أَنَّ الْبَكَارَةَ تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ ، وَوُجُودُهَا يَمْنَعُ مِنْ الزِّنَا ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّ الزِّنَا ، لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْإِيلَاجِ فِي الْفَرْجِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ الْبَكَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْبِكْرَ هِيَ الَّتِي لَمْ تُوطَأْ فِي قُبُلِهَا ، وَإِذَا انْتَفَى الزِّنَا ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا مَجْبُوبٌ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ ؛ لِكَمَالِ عِدَّتِهِمْ ، مَعَ احْتِمَالِ صِدْقِهِمْ ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَطِئَهَا ثُمَّ عَادَتْ عُذْرَتُهَا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُمْ غَيْرَ مُوجِبٍ لَهُ عَلَيْهَا ، فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَيَجِبُ أَنْ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهَا مَقْبُولَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ .
فَأَمَّا إنْ شَهِدَتْ بِأَنَّهَا رَتْقَاءُ ، أَوْ ثَبَتَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مَجْبُوبٌ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَيَقَّنُ كَذِبُهُمْ فِي شَهَادَتِهِمْ بِأَمْرٍ لَا يَعْلَمُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ .