الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
دُونَ الْمُوضِحَةِ ، فَفِيهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ ، لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِمُوضِحَةٍ .
( 6972 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ ، وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ وَتَهْشِمُهُ ) الْهَاشِمَةُ : هِيَ الَّتِي تَتَجَاوَزُ الْمُوضِحَةَ ، فَتَهْشِمُ الْعَظْمَ ، سُمِّيَتْ هَاشِمَةً ؛ لَهَشْمِهَا الْعَظْمَ .
وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا تَقْدِيرٌ ، وَأَكْثَرُ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ أَرْشَهَا مُقَدَّرٌ بِعَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ .
رَوَى ذَلِكَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .
وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَنَحْوَهُ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، إلَّا أَنَّهُمْ قَدَّرُوهَا بِعُشْرِ الدِّيَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَلْفُ دِرْهَمٍ .
وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يُوَقِّتُ فِيهَا شَيْئًا .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا أَعْرِفُ الْهَاشِمَةَ ، لَكِنْ فِي الْإِيضَاحِ خَمْسٌ ، وَفِي الْهَشْمِ حُكُومَةٌ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : النَّظَرُ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ ؛ إذْ لَا سُنَّةَ فِيهَا وَلَا إجْمَاعَ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْدِيرٌ ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الْحُكُومَةُ ، كَمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ زَيْدٍ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ نَعْرِفْ لَهُ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّهَا شَجَّةٌ فَوْقَ الْمُوضِحَةِ تَخْتَصُّ بِاسْمٍ ، فَكَانَ فِيهَا مُقَدَّرٌ كَالْمَأْمُومَةِ .
( 6973 ) فَصْلٌ : وَالْهَاشِمَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ خَاصَّةً ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُوضِحَةِ .
وَإِنْ هَشَمَهُ هَاشِمَتَيْنِ .
بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ ، فَفِيهِمَا عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُوضِحَةِ مِنْ التَّفْصِيلِ .
وَتَسْتَوِي الْهَاشِمَةُ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ .
وَإِنْ شَجَّهُ شَجَّةً ، بَعْضُهَا مُوضِحَةٌ ، وَبَعْضُهَا هَاشِمَةٌ ، وَبَعْضهَا سِمْحَاقٌ ، وَبَعْضُهَا مُتَلَاحِمَةٌ ، وَجَبَ أَرْشُ الْهَاشِمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُهَا هَاشِمَةً ، أَجْزَأَ أَرْشُهَا ، وَلَوْ انْفَرَدَ الْقَدْرُ
الْمَهْشُومُ ، وَجَبَ أَرْشُهَا ، فَلَا يَنْقُصُ ذَلِكَ بِمَا إذَا زَادَ مِنْ الْأَرْشِ فِي غَيْرِهَا .
وَإِنْ ضَرَبَ رَأْسَهُ ، فَهَشَمَ الْعَظْمَ ، وَلَمْ يُوضِحْهُ ، لَمْ تَجِبْ دِيَةُ الْهَاشِمَةِ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ الْمُقَدَّرَ وَجَبَ فِي هَاشِمَةٍ يَكُونُ مَعَهَا مُوضِحَةٌ ، وَفِي الْوَاجِبِ فِيهَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ؛ فِيهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْضَحَ وَكَسَرَ ، لَوَجَبَتْ عَشْرٌ ؛ خَمْسٌ فِي الْإِيضَاحِ ، وَخَمْسٌ فِي الْكَسْرِ ، فَإِذَا وُجِدَ الْكَسْرُ دُونَ الْإِيضَاحِ ، وَجَبَ خَمْسٌ .
وَالثَّانِي : تَجِبُ حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ كَسْرُ عَظْمٍ لَا جُرْحَ مَعَهُ ، فَأَشْبَهَ كَسْرَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ .
( 6974 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَوْضَحَهُ مُوضِحَتَيْنِ ، هَشَمَ الْعَظْمَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَاتَّصَلَ الْهَشْمُ فِي الْبَاطِنِ ، فَهُمَا هَاشِمَتَانِ ؛ لِأَنَّ الْهَشْمَ إنَّمَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْإِيضَاحِ ، فَإِذَا كَانَتَا مُوضِحَتَيْنِ ، كَانَ الْهَشْمُ هَاشِمَتَيْنِ ، بِخِلَافِ الْمُوضِحَةِ ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ تَبَعًا لِغَيْرِهَا ، فَافْتَرَقَا .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ ، وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ وَتَهْشِمُ وَتَسْطُو حَتَّى تَنْقُلَ عِظَامَهَا ) الْمُنَقِّلَةُ : زَائِدَةٌ عَلَى الْهَاشِمَةِ ، وَهِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعِظَامَ وَتُزِيلُهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا ، فَيُحْتَاجُ إلَى نَقْلِ الْعَظْمِ لِيَلْتَئِمَ .
وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ .
بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : { وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ .
} وَفِي تَفْصِيلِهَا مَا فِي تَفْصِيلِ الْمُوضِحَةِ وَالْهَاشِمَةِ ، عَلَى مَا مَضَى .
( 6976 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى جِلْدَةِ الدِّمَاغِ ، وَفِي الْآمَّةِ مِثْلُ مَا فِي الْمَأْمُومَةِ ) الْمَأْمُومَةُ وَالْآمَّةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَهْلُ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ لَهَا : الْآمَّةُ .
وَأَهْلُ الْحِجَازِ : الْمَأْمُومَةُ .
وَهِيَ الْجِرَاحَةُ الْوَاصِلَةُ إلَى أُمِّ الدِّمَاغِ ؛ سُمِّيَتْ أُمَّ الدِّمَاغِ ؛ لِأَنَّهَا تَحُوطُهُ وَتَجْمَعُهُ ، فَإِذَا وَصَلَتْ الْجِرَاحَةُ إلَيْهَا سُمِّيَتْ آمَّةً وَمَأْمُومَةً .
يُقَالُ : أَمَّ الرَّجُلَ آمَّةً وَمَأْمُومَةً ، وَأَرْشُهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ .
فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا مَكْحُولًا .
فَإِنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَتْ عَمْدًا .
فَفِيهَا ثُلُثَا الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ خَطَأً فَفِيهَا ثُلُثُهَا .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : { وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ } وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ .
وَلِأَنَّهَا شَجَّةٌ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَرْشُهَا بِالْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فِي الْمِقْدَارِ ، كَسَائِرِ الشِّجَاجِ .
( 6977 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَرَقَ جِلْدَةَ الدِّمَاغِ ، فَهِيَ الدَّامِغَةُ .
، وَفِيهَا مَا فِي الْمَأْمُومَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : لَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا الدَّامِغَةَ ، لِمُسَاوَاتِهَا الْمَأْمُومَةَ فِي أَرْشِهَا ، وَقِيلَ : فِيهَا مَعَ ذَلِكَ حُكُومَةٌ ؛ لِخَرْقِ جِلْدَةِ الدِّمَاغِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا ذِكْرَهَا لِكَوْنِهَا لَا يَسْلَمُ صَاحِبُهَا فِي الْغَالِبِ .
( 6978 ) فَصْل : فَإِنْ أَوْضَحَهُ رَجُلٌ ، ثُمَّ هَشَمَهُ الثَّانِي ، ثُمَّ جَعَلَهَا الثَّالِثُ مُنَقِّلَةً ، ثُمَّ جَعَلَهَا الرَّابِعُ مَأْمُومَةً ، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَرْشُ مُوضِحَتِهِ ، وَعَلَى الثَّانِي خَمْسٌ تَمَامُ أَرْشِ الْهَاشِمَةِ ، وَعَلَى الثَّالِثِ خَمْسٌ ، تَمَامُ أَرْشِ الْمُنَقِّلَةِ ، وَعَلَى الرَّابِعِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ ، تَمَامُ أَرْشُ الْمَأْمُومَةِ .
( 6979 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ ) وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، إلَّا مَكْحُولًا ، قَالَ فِيهَا : فِي الْعَمْدِ ثُلُثَا الدِّيَةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : { وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ } .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَلِأَنَّهَا جِرَاحَةٌ فِيهَا مُقَدَّرٌ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَدْرُ أَرْشِهَا بِالْعَمْدِ وَالْخَطَإِ ، كَالْمُوضِحَةِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي جِرَاحِ الْبَدَنِ الْخَالِيَةِ عَنْ قَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَكَسْرِ الْعِظَامِ مُقَدَّرًا غَيْرَ الْجَائِفَةِ ، وَالْجَائِفَةُ : مَا وَصَلَ إلَى الْجَوْفِ مِنْ بَطْنٍ ، أَوْ ظَهْرٍ ، أَوْ صَدْرٍ ، أَوْ ثُغْرَةِ نَحْرٍ ، أَوْ وَرِكٍ ، أَوْ غَيْرِهِ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، أَنَّ مَالِكًا ، وَأَبَا حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيَّ ، وَالْبَتِّيَّ ، وَأَصْحَابَهُمْ ، اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْجَائِفَةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْجَوْفِ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : الْجَائِفَةُ مَا أَفْضَى إلَى الْجَوْفِ وَلَوْ بِمَغْرِزِ إبْرَةٍ ، فَأَمَّا إنْ خَرَقَ شِدْقَهُ .
فَوَصَلَ إلَى بَاطِنِ الْفَمِ ، فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ ؛ لِأَنَّ دَاخِلَ الْفَمِ حُكْمُهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ ، لَا حُكْمُ الْبَاطِنِ .
وَإِنْ طَعَنَهُ فِي وَجْنَتِهِ ، فَكَسَرَ الْعَظْمَ .
وَوَصَلَ إلَى فِيهِ ، فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : هُوَ جَائِفَةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَى جَوْفٍ .
وَهَذَا يَنْتَقِضُ بِمَا إذَا خَرَقَ شِدْقَهُ .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَلَيْهِ دِيَةُ هَاشِمَةٍ ، لِكَسْرِ الْعَظْمِ ، وَفِيمَا زَادَ حُكُومَةٌ .
وَإِنْ جَرَحَهُ فِي أَنْفِهِ فَأَنْفَذَهُ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ فِي وَجْنَتِهِ فَأَنْقَذَهُ إلَى فِيهِ ، فِي الْحُكْمِ وَالْخِلَافِ .
وَإِنْ جَرَحَهُ فِي ذَكَرِهِ ، فَوَصَلَ إلَى مَجْرَى الْبَوْلِ مِنْ الذَّكَرِ ، فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ ؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ بِجَوْفٍ يُخَافُ التَّلَفُ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
( 6980 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَجَافَهُ جَائِفَتَيْنِ ، بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ ، فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ .
وَإِنْ خَرَقَ الْجَانِي مَا بَيْنَهُمَا ، أَوْ ذَهَبَ بِالسِّرَايَةِ ، صَارَ جَائِفَةً وَاحِدَةً ، فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ لَا غَيْرُ .
وَإِنْ خَرَقَ مَا بَيْنَهُمَا أَجْنَبِيٌّ ، أَوْ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثَا الدِّيَةِ ، وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ الثَّانِي ثُلُثُهَا ، وَيَسْقُطُ مَا قَابَلَ فِعْلَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى خَرْقِ مَا بَيْنَهُمَا لِلْمُدَاوَاةِ ، فَخَرَقَهَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ ، أَوْ خَرَقَهَا وَلِيُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِذَلِكَ ، أَوْ الطَّبِيبُ بِأَمْرِهِ ، فَلَا شَيْءَ فِي خَرْقِ الْحَاجِزِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ ثُلُثَا الدِّيَةِ .
وَإِنْ أَجَافَهُ رَجُلٌ ، فَوَسَّعَهَا آخَرُ ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْشُ جَائِفَةٍ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ كَانَ جَائِفَةً ، فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِانْضِمَامِهِ إلَى فِعْلِ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ لَا يَنْبَنِي عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ .
وَإِنْ وَسَّعَهَا الطَّبِيبُ بِإِذْنِهِ ، أَوْ إذْنِ وَلِيِّهِ لِمَصْلَحَتِهِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ وَسَّعَهَا جَانٍ آخَرُ ، فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، أَوْ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَبْلُغْ الْجَائِفَةَ .
وَإِنْ أَدْخَلَ السِّكِّينَ فِي الْجَائِفَةِ ثُمَّ أَخْرَجَهَا ، عُزِّرَ ، وَلَا أَرْشَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ خَاطَهَا ، فَجَاءَ آخَرُ ، فَقَطَعَ الْخُيُوطَ ، وَأَدْخَلَ السِّكِّينَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَلْتَحِمَ ، عُزِّرَ أَشَدَّ مِنْ التَّعْزِيرِ الْأَوَّلِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَغَرَّمَهُ ثَمَنَ الْخُيُوطِ وَأُجْرَةَ الْخَيَّاطِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَرْشُ جَائِفَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِفْهُ .
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْتِحَامِهَا ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْجَائِفَةِ وَثَمَنُ الْخُيُوطِ ؛ لِأَنَّهُ بِالِالْتِحَامِ عَادَ إلَى الصِّحَّةِ ، فَصَارَ كَاَلَّذِي لَمْ يُجْرَحْ .
وَإِنْ الْتَحَمَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ ، فَفَتَقَ مَا الْتَحَمَ ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ جَائِفَةٍ ؛
لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ فَتَقَ غَيْرَ مَا الْتَحَمَ عَلَيْهِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَرْشُ الْجَائِفَةِ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِمَ مِنْهَا شَيْءٌ .
وَإِنْ فَتَقَ بَعْضَ مَا الْتَحَمَ فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ ، أَوْ الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ ، كَمَا لَوْ وَسَّعَ جُرْحَهُ كَذَلِكَ .
( 6981 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَرَحَ فَخِذَهُ ، وَمَدَّ السِّكِّينَ حَتَّى بَلَغَ الْوَرِكَ ، فَأَجَافَ فِيهِ ، أَوْ جَرَحَ الْكَتِفَ ، وَجَرَّ السِّكِّينَ حَتَّى بَلَغَ الصَّدْرَ ، فَأَجَافَهُ فِيهِ ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْجَائِفَةِ وَحُكُومَةٌ فِي الْجِرَاحِ ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْجَائِفَةِ ، فَانْفَرَدَتْ بِالضَّمَانِ ، كَمَا لَوْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ وَجَرَّ السِّكِّينَ حَتَّى بَلَغَ الْقَفَا ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ مُوضِحَةٍ وَحُكُومَةٌ لِجُرْحِ الْقَفَا .
( 6982 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَدْخَلَ حَدِيدَةً أَوْ خَشَبَةً أَوْ يَدَهُ ، فِي دُبُرِ إنْسَانٍ ، فَخَرَقَ حَاجِزًا فِي الْبَاطِنِ ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَرْشُ جَائِفَةٍ ؛ لِأَنَّ الْجَائِفَةَ مَا خَرَقَتْ مِنْ الظَّاهِرِ إلَى الْجَوْفِ ، وَهَذِهِ بِخِلَافِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْخَلَ السِّكِّينَ فِي جَائِفَةٍ إنْسَانٍ ، فَخَرَقَ شَيْئًا فِي الْبَاطِنِ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِجَائِفَةٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
( 6983 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ جَرَحَهُ فِي جَوْفِهِ ، فَخَرَجَ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، فَهُمَا جَائِفَتَانِ ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ .
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : هِيَ جَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَحُكِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْجَائِفَةَ هِيَ الَّتِي تَنْفُذُ مِنْ ظَاهِرِ الْبَدَنِ إلَى الْجَوْفِ ، وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ إنَّمَا نَفَذَتْ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِسَهْمٍ ، فَأَنْفَذَهُ ، فَقَضَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ .
وَلَا مُخَالِفَ لَهُ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
أَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " سُنَنِهِ " .
وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي الْجَائِفَةِ إذَا نَفَذَتْ الْجَوْفَ ، بِأَرْشِ جَائِفَتَيْنِ .
لِأَنَّهُ أَنْفَذَهُ مِنْ مَوْضِعَيْنِ ، فَكَانَ جَائِفَتَيْنِ كَمَا لَوْ أَنْفَذَهُ بِضَرْبَتَيْنِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِوُصُولِ الْجُرْحِ إلَى الْجَوْفِ ، لَا بِكَيْفِيَّةِ إيصَالِهِ ، إذْ لَا أَثَرَ لِصُورَةِ الْفِعْلِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَعْنَى ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْكَيْفِيَّةِ لَيْسَ بِمَذْكُورِ فِي خَبَرٍ ، وَإِنَّمَا الْعَادَةُ فِي الْغَالِبِ وُقُوعُ الْجَائِفَةِ هَكَذَا ، فَلَا يُعْتَبَرُ ، كَمَا أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْغَالِبِ حُصُولُهَا بِالْحَدِيدِ ، وَلَوْ حَصَلَتْ بِغَيْرِهِ لَكَانَتْ جَائِفَةً .
ثُمَّ يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ بِمَا لَوْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَائِفَةٍ إنْسَانٍ ، فَخَرَقَ بَطْنَهُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ جَائِفَةٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ .
وَكَذَلِكَ يُخَرَّجُ فِيمَنْ أَوْضَحَ إنْسَانًا فِي رَأْسِهِ ، ثُمَّ أَخْرَجَ رَأْسَ السِّكِّينِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ ، فَهِيَ مُوضِحَتَانِ .
فَإِنْ هَشَمَهُ هَاشِمَةً لَهَا
مَخْرَجَانِ ، فَهِيَ هَاشِمَتَانِ .
وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ .
( 6984 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَدْخَلَ إصْبَعَهُ فِي فَرْجِ بِكْرٍ ، فَأَذْهَبَ بَكَارَتَهَا ، فَلَيْسَ بِجَائِفَةٍ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِجَوْفٍ .
( 6985 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ وَطِئَ زَوْجَتَهُ ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ ، فَفَتَقَهَا ، لَزِمَهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ ) .
مَعْنَى الْفَتْقِ ، خَرْقُ مَا بَيْنَ مَسْلَكِ الْبَوْلِ وَالْمَنِيِّ .
وَقِيلَ : بَلْ مَعْنَاهُ خَرْقُ مَا بَيْنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ ، إلَّا أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَذْهَبَ بِالْوَطْءِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْحَاجِزِ ، فَإِنَّهُ حَاجِزٌ غَلِيظٌ قَوِيٌّ .
وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فِي فَصْلَيْنِ ؛ ( 6986 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ، فِي أَصْلِ وُجُوبِ الضَّمَانِ .
وَالثَّانِي : فِي قَدْرِهِ : أَمَّا الْأَوَّلُ ، فَإِنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِوَطْءِ الصَّغِيرَةِ أَوْ النَّحِيفَةِ الَّتِي لَا تَحَمَّلُ الْوَطْءَ ، دُونَ الْكَبِيرَةِ الْمُحْتَمِلَةِ لَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ الضَّمَانُ فِي الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ ، فَيَجِبُ الضَّمَانُ بِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَجْنَبِيَّةٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ مُسْتَحَقٌّ ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ كَالْبَكَارَةِ ، وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ مِمَّنْ يَصِحُّ إذْنُهُ ، فَلَمْ يُضْمَنْ مَا تَلِفَ بِسِرَايَتِهِ ، كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي مُدَاوَاتِهَا بِمَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ ، وَكَقَطْعِ السَّارِقِ ، أَوْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ، وَعَكْسُهُ الصَّغِيرَةُ وَالْمُكْرَهَةُ عَلَى الزِّنَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ ، مَعَ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَيَكُونُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ فِي مَالِهِ ، إنْ كَانَ عَمْدًا مَحْضًا ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا لَا تُطِيقُهُ ، وَأَنَّ وَطْأَهُ يُفْضِيهَا .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ ، وَكَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُفْضِيَ إلَيْهِ ، فَهُوَ عَمْدُ الْخَطَإِ ، فَيَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ عَمْدَ الْخَطَإِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي مَالِهِ .
( 6987 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ ، وَهُوَ ثُلُثُ الدِّيَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَنْفَعَةَ الْوَطْءِ ، فَلَزِمَتْهُ الدِّيَةُ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ إسْكَتَيْهَا .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي الْإِفْضَاءِ بِثُلُثِ الدِّيَةِ .
وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا .
وَلِأَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ تَخْرِقُ الْحَاجِزَ بَيْنَ مَسْلَكِ الْبَوْلِ وَالذَّكَرِ ، فَكَانَ مُوجَبُهَا ثُلُثَ الدِّيَةِ ، كَالْجَائِفَةِ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَمْنَعُ الْوَطْءَ ، وَأَمَّا قَطْعُ الْإِسْكَتَيْنِ ، فَإِنَّمَا أَوْجَبَ الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ عُضْوَيْنِ فِيهِمَا نَفْعٌ وَجَمَالٌ ، فَأَشْبَهَ قَطْعَ الشَّفَتَيْنِ .
( 6988 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اسْتَطْلَقَ بَوْلُهَا مَعَ ذَلِكَ ، لَزِمَتْهُ دِيَةٌ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ دِيَةٌ وَحُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَتَيْنِ ، فَلَزِمَهُ أَرْشُهُمَا ، كَمَا لَوْ فَوَّتَ كَلَامَهُ وَذَوْقَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَتْلَفَ عُضْوًا وَاحِدًا ، فَلَمْ يَفُتْ غَيْرُ مَنَافِعِهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ لِسَانَهُ فَذَهَبَ ذَوْقُهُ وَكَلَامُهُ .
وَمَا قَالَهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَ دِيَةَ الْمَنْفَعَتَيْنِ ، لَأَوْجَبَ دِيَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ اسْتِطْلَاقَ الْبَوْلِ مُوجِبٌ الدِّيَةَ ، وَالْإِفْضَاءُ عِنْدَهُ مُوجِبٌ الدِّيَةَ مُنْفَرِدًا ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ الْحُكُومَةَ ، وَلَمْ يُوجَدْ مُقْتَضِيهَا ، فَإِنَّنَا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ فِي الْإِفْضَاءِ حُكُومَةً .
( 6989 ) فَصْلٌ : وَإِنْ انْدَمَلَ الْحَاجِزُ ، وَانْسَدَّ ، وَزَالَ الْإِفْضَاءُ ، لَمْ يَجِبْ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَوَجَبَتْ حُكُومَةٌ ، لِجَبْرِ مَا حَصَلَ مِنْ النَّقْصِ .
( 6990 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَكْرَهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَى ، فَأَفْضَاهَا ، لَزِمَهُ ثُلُثُ دِيَتِهَا ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِوَطْءٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ ، وَلَا مَأْذُونٍ فِيهِ ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَ بِهِ ، كَسَائِرِ الْجِنَايَاتِ .
وَهَلْ يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْبَكَارَةِ مَعَ ذَلِكَ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْبَكَارَةِ دَاخِلٌ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَإِنَّ مَهْرَ الْبِكْرِ أَكْثَرُ مِنْ مَهْرِ الثَّيِّبِ ، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا هُوَ عِوَضُ أَرْشِ الْبَكَارَةِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ مَرَّتَيْنِ ، كَمَا فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَضْمَنُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ أَتْلَفَهُ بِعُدْوَانِهِ ، فَلَزِمَهُ أَرْشُهُ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ بِإِصْبَعِهِ .
فَأَمَّا الْمُطَاوِعَةُ عَلَى الزِّنَى ، إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً فَفَتَقَهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي فَتْقِهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ الْوَطْءُ دُونَ الْفَتْقِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ضَرَرٌ حَصَلَ مِنْ فِعْلٍ مَأْذُونٍ فِيهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ ، كَأَرْشِ بَكَارَتِهَا ، وَمَهْرِ مِثْلِهَا ، وَكَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي قَطْعِ يَدِهَا ، فَسَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِهَا .
وَفَارَقَ مَا إذَا أَذِنَتْ فِي وَطْئِهَا ، فَقَطَعَ يَدَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، وَلَا مِنْ ضَرُورَتِهِ .
( 6991 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةِ فَأَفْضَاهَا ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ إفْضَائِهَا ، مَعَ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا أُذِنَ فِيهِ اعْتِقَادًا أَنَّ الْمُسْتَوْفِيَ لَهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ ، فَإِذَا كَانَ غَيْرُهُ ، ثَبَتَ فِي حَقِّهِ وُجُوبُ الضَّمَانِ لِمَا أَتْلَفَ ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي أَخْذِ الدَّيْنِ لِمَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُسْتَحِقُّهُ ، فَبَانَ أَنَّهُ غَيْرُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجِبُ لَهَا أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَرْشِ إفْضَائِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ لِإِتْلَافِ الْعُضْوِ ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ ضَمَانِهِ وَضَمَانِ مَنْفَعَتِهِ ، كَمَا لَوْ قَلَعَ عَيْنًا .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ تُنْقَلُ عَنْ الْوَطْءِ ، فَلَمْ يَدْخُلُ بَدَلُهُ فِيهَا ، كَمَا لَوْ كَسَرَ صَدْرَهَا .
وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ لِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ ، وَالْأَرْشُ يَجِبُ لِإِتْلَافِ الْحَاجِزِ ، فَلَا تَدْخُلُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ .
( 6992 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اسْتَطْلَقَ بَوْلُ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الزِّنَى ، وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ ، مَعَ إفْضَائِهِمَا ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُمَا وَالْمَهْرُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ : لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَيَجِبُ أَكْثَرُهُمَا .
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ .
( 6993 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الضِّلْعِ بَعِيرٌ ، وَفِي التَّرْقُوَةِ بَعِيرَانِ ) ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ فِي كُلِّ تَرْقُوَةٍ بَعِيرَيْنِ ، فَيَكُونُ فِي التَّرْقُوَتَيْنِ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .
وَالتَّرْقُوَةُ : هُوَ الْعَظْمُ الْمُسْتَدِيرُ حَوْلَ الْعُنُقِ مِنْ النَّحْرِ إلَى الْكَتِفَ .
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ تَرْقُوَتَانِ ، فَفِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ التَّرْقُوَتَانِ مَعًا ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِإِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِاسْتِغْرَاقِ ، فَيَكُونُ فِي كُلِّ تَرْقُوَةٍ بَعِيرٌ .
وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَإِسْحَاقُ .
وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ ، أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّا ذَكَرْنَا حُكُومَةً ، وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ عَظْمٌ بَاطِنٌ ، لَا يَخْتَصُّ بِجَمَالِ وَمَنْفَعَةٍ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ ، وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَكُونُ بِتَوْقِيفٍ أَوْ قِيَاسٍ صَحِيحٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَوْقِيفٌ وَلَا قِيَاسٌ .
وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّ فِي التَّرْقُوَةِ أَرْبَعِينَ دِينَارًا ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ : فِي التَّرْقُوَتَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا ؛ لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ ، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ غَيْرُهُمَا مِنْ جِنْسِهِمَا ، فَكَمَلَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، كَالْيَدَيْنِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالْهَاشِمَةِ ؛ فَإِنَّهَا كَسْرُ عِظَامٍ بَاطِنَةٍ ، وَفِيهَا مُقَدَّرٌ .
وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ : إنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِجَمَالٍ وَمَنْفَعَةٍ .
فَإِنَّ جَمَالَ هَذِهِ الْعِظَامِ وَنَفْعِهَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا ، وَلَا مُشَارَكَ لَهَا
فِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، فَمُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّنَا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ وَافَقَهُ فِيهِ .
( 6994 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الزَّنْدِ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ ؛ لِأَنَّهُ عَظْمَانِ ) قَالَ الْقَاضِي : يَعْنِي بِهِ الزَّنْدَيْنِ فِيهِمَا أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا أَرْبَعَةَ عِظَامٍ ، فَفِي كُلِّ عَظْمٍ بَعِيرٌ .
وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : فِيهِ حُكُومَةٌ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى سَعِيدٌ ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ فِي أَحَدِ الزَّنْدَيْنِ إذَا كُسِرَ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : إنَّ فِيهِ بَعِيرَيْنِ ، وَإِذَا كُسِرَ الزَّنْدَيْنِ فَفِيهِمَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الْإِبِلِ .
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَهَذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
( 6995 ) فَصْلٌ : وَلَا مُقَدَّرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْعِظَامِ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِي عَظْمِ السَّاقِ بَعِيرَانِ ، وَفِي السَّاقَيْنِ أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ ، وَفِي عَظْمِ الْفَخِذِ بَعِيرَانِ ، وَفِي الْفَخِذَيْنِ أَرْبَعَةٌ ، فَهَذِهِ تِسْعَةُ عِظَامٍ فِيهَا مُقَدَّرٌ ؛ الضِّلَعُ ، وَالتَّرْقُوَتَانِ ؛ وَالزَّنْدَانِ ، وَالسَّاقَانِ ، وَالْفَخِذَانِ ، وَمَا عَدَاهَا لَا مُقَدَّرَ فِيهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ ، وَأَبُو الْخَطَّابِ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْقَاضِي : فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ بَعِيرَانِ .
وَزَادَ أَبُو الْخَطَّابِ عَظْمَ الْقَدَمِ ؛ لِمَا رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَالْفَخِذِ وَالسَّاقِ وَالزَّنْدِ إذَا كُسِرَ وَاحِدٌ مِنْهَا فَجُبِرَ ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ دُحُورٌ يَعْنِي عِوَجًا بِعَيْرٍ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا دُحُورٌ ، فَبِحِسَابِ ذَلِكَ .
وَهَذَا الْخَبَرُ ، إنْ صَحَّ ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ ، فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَيْهِ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي غَيْرِ الْخَمْسَةِ ؛ الضِّلَعِ ، وَالتَّرْقُوَتَيْنِ ، وَالزَّنْدَيْنِ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّوْقِيفِ ، وَمُقْتَضَى الدَّلِيلِ وُجُوبُ الْحُكُومَةِ فِي هَذِهِ الْعِظَامِ الْبَاطِنَةِ كُلِّهَا ، وَإِنَّمَا خَالَفْنَاهُ فِي هَذِهِ الْعِظَامِ لِقَضَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَفِيمَا عَدَاهَا يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ ، وَمَا عَدَا هَذِهِ الْعِظَامَ ، كَعَظْمِ الظَّهْرِ وَغَيْرِهِ ، فَفِيهِ الْحُكُومَةُ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ، وَإِنْ خَالَفَ فِيهَا مُخَالِفٌ ، فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُصَارُ إلَيْهِ .
( 6996 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالشِّجَاجُ الَّتِي لَا تَوْقِيتَ فِيهَا ، أَوَّلُهَا الْحَارِصَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تَحْرِصُ الْجِلْدَ ) يَعْنِي تَشُقُّهُ قَلِيلًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ الْحَارِصَةُ ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ ، ثُمَّ الْبَازِلَةُ ، وَهِيَ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ ، ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ ، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَتْ فِي اللَّحْمِ ، ثُمَّ السِّمْحَاقُ ، وَهِيَ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَظْمِ قِشْرَةٌ رَقِيقَةٌ ، ثُمَّ الْمُوضِحَةُ .
هَكَذَا وَقَعَ فِي النُّسَخِ الَّتِي وَصَلَتْ إلَيْنَا : الْحَارِصَةُ ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ .
ثُمَّ الْبَازِلَةُ .
وَلَعَلَّهُ مِنْ غَلَطِ الْكَاتِبِ ، وَالصَّوَابُ : الْحَارِصَةُ ، ثُمَّ الْبَازِلَةُ ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ ، هَكَذَا رَتَّبَهَا سَائِرُ مَنْ عَلِمْنَا قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَلِأَنَّ الْبَاضِعَةَ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ ، فَلَا يُمْكِنُ وُجُودُهَا قَبْلَ الْبَازِلَةِ الَّتِي يَسِيلُ مِنْهَا الدَّمُ ، وَتُسَمَّى الدَّامِعَةَ ، لِقِلَّةِ سَيَلَانِ دَمِهَا ، تَشْبِيهًا لَهُ بِخُرُوجِ الدَّمْعِ مِنْ الْعَيْنِ ، وَاَلَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ يَسِيلُ مِنْهَا دَمٌ كَثِيرٌ فِي الْغَالِبِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُهَا سَابِقَةً عَلَى مَا لَا يَسِيلُ مِنْهَا إلَّا دَمٌ يَسِيرٌ كَدَمْعِ الْعَيْنِ ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ زِيدَ بْنَ ثَابِتٍ ، جَعَلَ فِي الْبَازِلَةِ بَعِيرًا ، وَفِي الْبَاضِعَةِ بَعِيرَيْنِ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : وَالشِّجَاجُ .
يَعْنِي : جِرَاحَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ ؛ فَإِنَّهُ يُسَمَّى شِجَاجًا خَاصَّةً ، دُونَ جِرَاحِ سَائِرِ الْبَدَنِ .
وَالشِّجَاجُ الْمُسَمَّاةُ عَشْرٌ ؛ خَمْسٌ مِنْهَا أَرْشُهَا مُقَدَّرٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا ، وَخَمْسٌ لَا تَوْقِيتَ فِيهَا ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : أَوَّلُهَا الْحَارِصَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ قَلِيلًا .
يَعْنِي تَقْشِرُ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ الْجِلْدِ ، لَا يَظْهَرُ مِنْهُ دَمٌ ، وَمِنْهُ : حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ .
إذَا شَقَّهُ قَلِيلًا .
ثُمَّ الْبَازِلَةُ ، وَهِيَ الَّتِي يَنْزِلُ مِنْهَا الدَّمُ .
أَيْ يَسِيلُ .
وَتُسَمَّى الدَّامِيَةَ أَيْضًا ، وَالدَّامِعَةَ ، ثُمَّ الْبَاضِعَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ اللَّحْمَ بَعْدَ الْجِلْدِ .
ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ ، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَتْ فِي اللَّحْمِ ، يَعْنِي دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا كَثِيرًا يَزِيدُ عَلَى الْبَاضِعَةِ ، وَلَمْ تَبْلُغْ السِّمْحَاقَ .
ثُمَّ السِّمْحَاقُ ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى قِشْرَةٍ رَقِيقَةٍ فَوْقَ الْعَظْمِ ، تُسَمَّى تِلْكَ الْقِشْرَةُ سِمْحَاقًا ، وَسُمِّيَتْ الْجِرَاحُ الْوَاصِلَةُ إلَيْهَا بِهَا ، وَيُسَمِّيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْمِلْطَا وَالْمِلْطَاةُ ، وَهِيَ الَّتِي تَأْخُذُ اللَّحْمَ كُلَّهُ حَتَّى تَخْلُصَ مِنْهُ .
ثُمَّ الْمُوضِحَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تَقْشُرُ تِلْكَ الْجِلْدَةَ ، وَتُبْدِي وَضَحَ الْعَظْمِ ، أَيْ بَيَاضَهُ ، وَهِيَ أَوَّلُ الشِّجَاجِ الْمُوَقَّتَةِ ، وَمَا قَبْلَهَا مِنْ الشِّجَاجِ الْخَمْسِ فَلَا تَوْقِيتَ فِيهَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ .
يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ فِي الدَّامِيَةِ بَعِيرًا ، وَفِي الْبَاضِعَةِ بَعِيرَيْنِ ، وَفِي الْمُتَلَاحِمَةِ ثَلَاثَةً ، وَفِي السِّمْحَاقِ أَرْبَعَةَ أَبْعِرَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي السِّمْحَاقِ مِثْلُ ذَلِكَ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْهُمَا .
وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ ، فِيهَا نِصْفُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهَا جِرَاحَاتٌ لَمْ يَرِدْ فِيهَا تَوْقِيتٌ فِي الشَّرْعِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا حُكُومَةً ، كَجِرَاحَاتِ الْبَدَنِ .
رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ ، قَالَ { قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُوضِحَةِ بِخَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ ، وَلَمْ يَقْضِ فِيمَا دُونَهَا } ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا مُقَدَّرٌ بِتَوْقِيفٍ ، وَلَا لَهُ قِيَاسٌ يَصِحُّ ، فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْحُكُومَةِ ، كَالْحَارِصَةِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْجِرَاحَاتِ مِنْ الْمُوضِحَةِ ، مِثْلُ أَنْ
يَكُونَ فِي رَأْسِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُوضِحَةٌ إلَى جَانِبِهَا ، قُدِّرَتْ هَذِهِ الْجِرَاحَةُ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَتْ بِقَدْرِ النِّصْفِ ، وَجَبَ نِصْفُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ ، إنْ كَانَتْ بِقَدْرِ الثُّلُثِ ، وَجَبَ ثُلُثُ الْأَرْشِ .
وَعَلَى هَذَا ، إلَّا أَنْ تَزِيدَ الْحُكُومَةُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ ، فَتُوجِبَ مَا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ ، فَإِذَا كَانَتْ الْجِرَاحَةُ قَدْرَ نِصْفِ الْمُوضِحَةِ ، وَشَيْنُهَا يَنْقُصُ قَدْرَ ثُلُثَيْهَا ، أَوْجَبْنَا ثُلُثَيْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ ، وَإِنْ نَقَصَتْ الْحُكُومَةُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ ، أَوْجَبْنَا النِّصْفَ ، فَنُوجِبُ الْأَكْثَرَ مِمَّا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ ، أَوْ قَدْرَهَا مِنْ الْمُوضِحَةِ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ سَبَبَانِ مُوجِبَانِ ؛ الشَّيْنُ وَقَدْرُهَا مِنْ الْمُوضِحَةِ ، فَوَجَبَ بِهَا أَكْثَرُهُمَا ؛ لِوُجُودِ سَبَبِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى إيجَابِ الْمِقْدَارِ ، أَنَّ هَذَا اللَّحْمَ فِيهِ مُقَدَّرٌ ، فَكَانَ فِي بَعْضِهِ بِمِقْدَارِهِ مِنْ دِيَتِهِ ، كَالْمَارِنِ وَالْحَشَفَةِ وَالشَّفَةِ وَالْجَفْنِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَهَذَا لَا نَعْلَمُهُ مَذْهَبًا لِأَحْمَدْ وَلَا يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُهُ ، وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جِرَاحَةٌ تَجِبُ فِيهَا الْحُكُومَةُ ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا مُقَدَّرٌ .
كَجِرَاحَاتِ الْبَدَنِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ ، فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ الْحُكُومَةُ ، وَلَا نَعْلَمُ لِمَا ذَكَرُوهُ نَظِيرًا .
( 6997 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْجِرَاحِ تَوْقِيتٌ ، وَلَمْ يَكُنْ نَظِيرًا لِمَا وُقِّتَتْ دِيَتُهُ ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ ) أَمَّا الَّذِي فِيهِ تَوْقِيتٌ ، فَهُوَ الَّذِي نَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَرْشِهِ ، وَبَيَّنَ قَدْرَ دِيَتِهِ ، كَقَوْلِهِ : { فِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ } .
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وَأَمَّا نَظِيرُهُ ، فَهُوَ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ ، وَمَقِيسًا عَلَيْهِ ، كَالْأَلْيَتَيْنِ ، وَالثَّدْيَيْنِ ، وَالْحَاجِبَيْنِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ أَيْضًا ، فَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُوَقَّتِ ، وَلَا مِمَّا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ ، كَالشِّجَاجِ الَّتِي دُونَ الْمُوضِحَةِ ، وَجِرَاحِ الْبَدَنِ سِوَى الْجَائِفَةِ ، وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ ، وَكَسْرِ الْعِظَامِ الْمَذْكُورَةِ ؛ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الْحُكُومَةُ .
( 6998 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْحُكُومَةُ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ عَبْدٌ لَا جِنَايَةَ بِهِ ، ثُمَّ يُقَوَّمَ وَهِيَ بِهِ قَدْ بَرَأَتْ ، فَمَا نَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ ، فَلَهُ مِثْلُهُ مِنْ الدِّيَةِ ، كَأَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ وَهُوَ عَبْدٌ صَحِيحٌ عَشَرَةً ، وَقِيمَتُهُ وَهُوَ عَبْدٌ بِهِ الْجِنَايَةُ تِسْعَةً ، فَيَكُونَ فِيهِ عُشْرُ دِيَتِهِ ) هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي تَفْسِيرِ الْحُكُومَةِ ، قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ كُلِّهِمْ ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ خِلَافًا .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَغَيْرُهُمْ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : حُكُومَةٌ ، أَنْ يُقَالَ إذَا أُصِيبَ الْإِنْسَانُ بِجُرْحٍ لَا عَقْلَ لَهُ مَعْلُومٌ : كَمْ قِيمَةُ هَذَا الْمَجْرُوحِ ؟ لَوْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يُجْرَحْ هَذَا الْجُرْحَ ، فَإِذَا قِيلَ : مِائَةُ دِينَارٍ .
قِيلَ : وَكَمْ قِيمَتُهُ وَقَدْ أَصَابَهُ هَذَا الْجُرْحُ ، وَانْتَهَى بُرْؤُهُ ؟ قِيلَ : خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ .
فَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى الْجَانِي نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ .
وَإِنْ قَالُوا : تِسْعُونَ .
فَعُشْرُ الدِّيَةِ .
وَإِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ ، فَعَلَى هَذَا الْمِثَالِ .
وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ جُمْلَتَهُ مَضْمُونَةٌ بِالدِّيَةِ ، فَأَجْزَاؤُهُ مَضْمُونَةٌ مِنْهَا ، كَمَا أَنَّ الْمَبِيعَ لَمَّا كَانَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، كَانَ أَرْشُ عَيْبِهِ مُقَدَّرًا مِنْ الثَّمَنِ ، فَيُقَالُ : كَمْ قِيمَتُهُ لَا عِيبَ فِيهِ ؟ فَقَالُوا : عَشَرَةٌ .
فَيُقَالُ : كَمْ قِيمَتُهُ وَفِيهِ الْعَيْبُ ؟ فَإِذَا قِيلَ : تِسْعَةٌ ، عُلِمَ أَنَّهُ نَقَصَ عُشْرُ قِيمَتِهِ ، فَيَجِبُ أَنَّ نَرُدَّ مِنْ الثَّمَنِ عُشْرَهُ ، أَيَّ قَدْرٍ كَانَ ، وَنُقَدِّرَهُ عَبْدًا لِيُمْكِنَ تَقْوِيمُهُ ، وَنَجْعَلَ الْعَبْدَ أَصْلًا لِلْحُرِّ فِيمَا لَا مُوَقَّتَ فِيهِ ، وَالْحُرَّ أَصْلًا لِلْعَبْدِ فِيمَا فِيهِ تَوْقِيتٌ .
( 6999 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَعَلَى هَذَا مَا زَادَ مِنْ الْحُكُومَةِ أَوْ نَقَصَ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ فِي رَأْسٍ أَوْ وَجْهٍ ، فَيَكُونَ أَسْهَلَ مِمَّا وُقِّتَ فِيهِ ، فَلَا يُجَاوَزُ بِهِ أَرْشُ الْمُوَقَّتِ ) يَعْنِي لَوْ نَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ أَكْثَرَ مِنْ عُشْرِ قِيمَتِهِ ، لَوَجَبَ أَكْثَرُ مِنْ عُشْرِ دِيَتِهِ ، وَلَوْ نَقَصَتْهُ أَقَلَّ مِنْ الْعُشْرِ ، مِثْلُ أَنْ نَقَصَتْهُ نِصْفَ عُشْرِ قِيمَتِهِ ؛ لَوَجَبَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَتِهِ ، إلَّا إذَا شَجَّهُ دُونَ الْمُوضِحَةِ ، فَبَلَغَ أَرْشُ الْجِرَاحِ بِالْحُكُومَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ ، لَمْ يَجِبْ الزَّائِدُ ، فَلَوْ جَرَحَهُ فِي وَجْهِهِ سِمْحَاقًا ، فَنَقَصَتْهُ عُشْرَ قِيمَتِهِ ، فَمُقْتَضَى الْحُكُومَةِ وُجُوبُ عَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ ، وَدِيَةُ الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ ، فَهَاهُنَا يُعْلَمُ غَلَطُ الْمُقَوِّمِ ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَةَ لَوْ كَانَتْ مُوضِحَةً ، لَمْ تَزِدْ عَلَى خَمْسٍ ، مَعَ أَنَّهَا سِمْحَاقٌ وَزِيَادَةٌ عَلَيْهَا ؛ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ عَلَى خَمْسٍ أَوْلَى .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ يَجِبُ مَا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ ، كَائِنًا مَا كَانَ ؛ لِأَنَّهَا جِرَاحَةٌ لَا مُقَدَّرَ فِيهَا ، فَوَجَبَ فِيهَا مَا نَقَصَ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا بَعْضُ الْمُوضِحَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْضَحَهُ ، لَقَطَعَ مَا قَطَعَتْهُ هَذِهِ الْجِرَاحَةُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ فِي بَعْضِ الشَّيْء أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ فِي الْمُوضِحَةِ أَكْثَرُ ، وَالشَّيْنَ أَعْظَمُ ، وَالْمَحَلَّ وَاحِدٌ ، فَإِذَا لَمْ يَزِدْ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ عَلَى خَمْسٍ ، كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنْ لَا يَزِيدَ مَا دُونَهَا عَلَيْهَا .
وَأَمَّا سَائِرُ الْبَدَنِ ، فَمَا كَانَ فِيهِ مُوَقَّتٌ ، كَالْأَعْضَاءِ ، وَالْعِظَامِ الْمَعْلُومَةِ ، وَالْجَائِفَةِ ، فَلَا يُزَادُ جُرْحُ عَظْمٍ عَلَى دِيَتِهِ ، مِثَالُهُ ، جَرَحَ أُنْمُلَةً ، فَبَلَغَ أَرْشُهَا بِالْحُكُومَةِ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ ، فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَى
دِيَةِ الْأُنْمُلَةِ .
وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فِي جَوْفِهِ دُونَ الْجَائِفَة ، لَمْ يَزِدْ عَلَى أَرْشِ الْجَائِفَةِ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، وَجَبَ مَا أَخْرَجَتْهُ الْحُكُومَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُخْتَلِفٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ وَجَبَ فِي بَعْضِ الْبَدَنِ أَكْثَرُ مِمَّا وَجَبَ فِي جَمِيعِهِ ، وَوَجَبَ فِي مَنَافِعِ اللِّسَانِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاجِبِ فِيهِ ؟ قُلْنَا : إنَّمَا وَجَبَتْ دِيَةُ النَّفْسِ عِوَضًا عَنْ الرُّوحِ ، وَلَيْسَتْ الْأَطْرَافُ بَعْضَهَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَيَحْتَمِلُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ أَنْ يَخْتَصَّ امْتِنَاعُ الزِّيَادَةِ بِالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ ؛ لِقَوْلِهِ : إلَّا أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ فِي رَأْسٍ أَوْ وَجْهٍ ، فَلَا يُجَاوَزُ بِهِ أَرْشُ الْمُوَقَّتِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَخْرَجَتْ الْحُكُومَةُ فِي شِجَاجِ الرَّأْسِ الَّتِي دُونَ الْمُوضِحَةِ قَدْرَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ ، أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَجِبُ أَنْ تَنْقُصَ عَنْهَا شَيْئًا ، عَلَى حَسَبِ مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِئَلَّا يَجِبَ فِي بَعْضِهَا مَا يَجِبُ فِي جَمِيعِهَا .
وَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وُجُوبُ مَا أَخْرَجَتْهُ الْحُكُومَةُ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الزَّائِدُ عَلَى أَرْشِ الْمُوضِحَةِ ؛ لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ ، أَوْ تَنْبِيهَ النَّصِّ ، فَفِيمَا لَمْ يَزِدْ ، يَجِبُ الْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ ، وَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالتَّنْبِيهِ ، يَجُوزُ أَنْ يُسَاوِيَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ ، كَمَا أَنَّهُ نَصَّ عَلَى وُجُوبِ فِدْيَةِ الْأَذَى فِي حَقِّ الْمَعْذُورِ ، وَلَمْ تَلْزَمْ زِيَادَتُهَا فِي حَقِّ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجِبَ فِي الْبَعْضِ مَا يَجِبُ فِي الْكُلِّ ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ دِيَةِ الْأَصَابِعِ ؛ مِثْلُ دِيَةِ الْيَدِ كُلِّهَا ، وَفِي حَشَفَةِ الذَّكَرِ مِثْلُ مَا فِي جَمِيعِهِ .
فَإِنَّ هَذَا وَجَبَ بِالتَّقْدِيرِ الشَّرْعِيِّ ، لَا بِالتَّقْوِيمِ .
قُلْنَا : إذَا ثَبَتَ الْحُكْمُ
بِنَصِّ الشَّارِعِ ، لَمْ يَمْتَنِعْ ثُبُوتُ مِثْلِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ ، وَالِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ .
وَفِي الْجُمْلَةِ ، فَالْحُكُومَةُ دَلِيلُ تَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا فِي الزَّائِدِ لِمَعْنًى مَفْقُودٍ فِي الْمُسَاوِي ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ فِيهِ بِهَا لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ ثَمَّ ، وَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْقُصَ أَدْنَى مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُسَاوَاةُ الْمَحْذُورَةُ ، وَيَجِبُ الْبَاقِي ، عَمَلًا بِالدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لَهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7001 ) فَصْلٌ : وَلَا يَكُون التَّقْوِيمُ إلَّا بَعْدَ بُرْءِ الْجُرْحِ ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجُرْحِ الْمُقَدَّرَ إنَّمَا يَسْتَقِرُّ بَعْدَ بُرْئِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهُ الْجِنَايَةُ شَيْئًا بَعْدَ الْبُرْءِ ، مِثْلُ أَنْ قَطَعَ إصْبَعًا أَوْ يَدًا زَائِدَةً ، أَوْ قَلَعَ لِحْيَةَ امْرَأَةٍ ، فَلَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ ، بَلْ زَادَهُ حُسْنًا ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَانِي ؛ لِأَنَّ الْحُكُومَةَ لِأَجْلِ جَبْرِ النَّقْصِ ، وَلَا نَقْصَ هَاهُنَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَطَمَ وَجْهَهُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ، وَإِنْ زَادَتْهُ الْجِنَايَةُ حُسْنًا ، فَالْجَانِي مُحْسِنٌ بِجِنَايَتِهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ سِلْعَةً أَوْ ثُؤْلُولًا ، وَبَطَّ خُرَّاجًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَضْمَنَ .
قَالَ الْقَاضِي : نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّ هَذَا جُزْءٌ مِنْ مَضْمُونٍ ، فَلَمْ يَعْرَ عَنْ ضَمَانٍ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مُقَدَّرَ الْأَرْشِ فَازْدَادَ بِهِ جَمَالًا ، أَوْ لَمْ يَنْقُصْهُ شَيْئًا ، فَعَلَى هَذَا يُقَوَّمُ فِي هَذَا أَقْرَبُ الْأَحْوَالِ إلَى الْبُرْءِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ قِيمَتِهِ بَعْدَ بُرْئِهِ ، قُوِّمَ فِي أَقْرَبِ الْأَحْوَالِ إلَيْهِ ، كَوَلَدِ الْمَغْرُورِ ، لَمَّا تَعَذَّرَ تَقْوِيمُهُ فِي الْبَطْنِ ، قُوِّمَ عِنْدَ الْوَضْعِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَمْكَنَ تَقْوِيمُهُ إلَى كَوْنِهِ فِي الْبَطْنِ .
وَإِنْ لَمْ يَنْقُصْ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، قُوِّمَ وَالدَّمُ جَارٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَقْصٍ لِلْخَوْفِ عَلَيْهِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَمَا ذَكَرْنَا .
وَتُقَوَّمُ لِحْيَةُ الْمَرْأَةِ كَأَنَّهَا لِحْيَةُ رَجُلٍ فِي حَالٍ يَنْقُصُهُ ذَهَابُ لِحْيَتِهِ .
وَإِنْ أَتْلَفَ سِنًّا زَائِدَةً ، قُوِّمَ وَلَيْسَ لَهُ سِنٌّ ، وَلَا خَلْفَهَا أَصْلِيَّةٌ ، ثُمَّ يُقَوَّمُ وَقَدْ ذَهَبَتْ الزَّائِدَةُ .
فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا قَدَّرْنَاهَا ابْنَ عِشْرِينَ نَقَصَهَا ذَهَابُ لِحْيَتِهَا يَسِيرًا ، وَإِنْ قَدَّرْنَاهَا ابْنَ أَرْبَعِينَ نَقَصَهَا كَثِيرًا ، قَدَّرْنَاهَا ابْنَ عِشْرِينَ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْأَحْوَالِ إلَى حَالِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ
تَقْوِيمَ الْجُرْحِ الَّذِي لَا يَنْقُصُ بَعْدَ الِانْدِمَالِ ، فَإِنَّا نُقَوِّمُهُ فِي أَقْرَبِ أَحْوَالِ النَّقْصِ إلَى حَالِ الِانْدِمَالِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِنَّ هَذَا لَا مُقَدَّرَ فِيهِ ، وَلَمْ يَنْقُصْ شَيْئًا ، فَأَشْبَهَ الضَّرْبَ ، وَتَضْمِينُ النَّقْصِ الْحَاصِلِ حَالَ جَرَيَانِ الدَّمِ ، إنَّمَا هُوَ تَضْمِينُ الْخَوْفِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ زَالَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَطَمَهُ فَاصْفَرَّ لَوْنُهُ حَالَ اللَّطْمَةِ ، أَوْ احْمَرَّ ، ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ .
وَتَقْدِيرُ الْمَرْأَةِ رَجُلًا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ اللِّحْيَةَ زَيْنٌ لِلرَّجُلِ ، وَعَيْبٌ فِيهَا ، وَتَقْدِيرُ مَا يَعِيبُ بِمَا يَزِينُ لَا يَصِحُّ ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ السِّنِّ فِي حَالَةِ إيرَادِ زَوَالِهَا ، بِحَالَةٍ تُكْرَهُ ، لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ يُقَدَّرُ بِنَظِيرِهِ ، وَيُقَاسُ عَلَى مِثْلِهِ ، لَا عَلَى ضِدِّهِ ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْوَجْهِ ، فَإِنَّمَا يُوجِبُ أَدْنَى مَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ ، وَهُوَ أَقَلُّ نَقْصٍ يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ .
( 7002 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَطَمَهُ عَلَى وَجْهِهِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي وَجْهِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ بِهِ جَمَالٌ وَلَا مَنْفَعَةٌ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ يَنْقُصُ فِيهَا ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ ، كَمَا لَوْ شَتَمَهُ .
وَإِنْ سَوَّدَ وَجْهَهُ أَوْ خَضَّرَهُ ، ضَمِنَهُ بِدِيَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ ، فَضَمِنَهُ بِدِيَتِهِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَيْ الْأَصَمِّ ، وَأَنْفَ الْأَخْشَمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ فِيهِ إلَّا حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُقَدَّرَ فِيهِ ، وَلَا هُوَ نَظِيرٌ لِمُقَدَّرٍ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ نَظِيرٌ لِقَطْعِ الْأُذُنَيْنِ فِي ذَهَابِ الْجَمَالِ ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ فِي ذَلِكَ ، فَيَكُونُ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ أَوْلَى .
وَإِنْ زَالَ السَّوَادُ ، يَرُدُّ مَا أَخَذَهُ ؛ لِزَوَالِ سَبَبِ الضَّمَانِ .
وَإِنْ زَالَ بَعْضُهُ ، وَجَبَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ ، وَرَدَّ الْبَاقِيَ .
وَإِنْ صَفَّرَ وَجْهَهُ أَوْ حَمَّرَهُ ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ لَمْ يَذْهَبْ عَلَى الْكَمَالِ ، وَهَذَا يُشْبِهُ مَا لَوْ سَوَّدَ سِنَّهُ ، أَوْ غَيَّرَ لَوْنَهَا ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ فِيهَا .
( 7003 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُوَقَّتٌ فِي الْحُرِّ ، فَفِيهِ مَا نَقَصَهُ بَعْدَ الْتِئَامِ الْجُرْحِ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا جَنَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مُوَقَّتٌ فِي الْحُرِّ ، فَهُوَ مُوَقَّتٌ فِي الْعَبْدِ مِنْ قِيمَتِهِ ، فَفِي يَدِهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ ، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ ، نَقَصَتْهُ الْجِنَايَةُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ ، وَهَكَذَا الْأَمَةُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ يَجِبُ ضَمَانُهَا بِمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا وَجَبَ جَبْرًا لِمَا فَاتَ بِالْجِنَايَةِ ، وَلَا يَنْجَبِرُ إلَّا بِإِيجَابِ مَا نَقَصَ مِنْ الْقِيمَةِ ، فَيَجِبُ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَسَائِرِ الْمَالِ ، وَلَا يَجِبُ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَدْ انْجَبَرَ ، فَلَا يَجِبُ لَهُ زِيَادَةٌ عَلَى مَا فَوَّتَهُ الْجَانِي عَلَيْهِ .
هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مُقَدَّرٌ شَرْعِيٌّ .
فَإِنْ كَانَ الْفَائِتُ بِالْجِنَايَةِ مُوَقَّتًا فِي الْحُرِّ ، كَيَدِهِ ، وَمُوضِحَتِهِ ، فَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، أَنَّ فِيهِ أَيْضًا مَا نَقَصَهُ ، بَالِغًا مَا بَلَغَ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ هَذَا اخْتِيَارُ الْخَلَّالِ .
وَرَوَى الْمَيْمُونِيُّ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا يَأْخُذُ قِيمَةَ مَا نَقَصَ مِنْهُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ ، فِيمَا عَدَا مُوضِحَتَهُ ، وَمُنَقِّلَتَهُ ، وَهَاشِمَتَهُ ، وَجَائِفَتَهُ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ الْأَمْوَالِ ، فَيَجِبُ فِيهِ مَا نَقَصَ كَالْبَهَائِمِ ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْقِيمَةِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، ضُمِنَ بَعْضُهُ بِمَا نَقَصَ ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ ضَمَانُ الْفَائِتِ بِمَا نَقَصَ ، خَالَفْنَاهُ فِيمَا وُقِّتَ فِي الْحُرِّ ، كَمَا خَالَفْنَاهُ فِي ضَمَانِ بَقِيَّتِهِ بِالدِّيَةِ الْمُؤَقَّتَةِ ، فَفِي الْعَبْدِ يَبْقَى فِيهِمَا عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ ، وَظَاهِرُ
الْمَذْهَبِ أَنَّ مَا كَانَ مُوَقَّتًا فِي الْحُرِّ ، فَهُوَ مُوَقَّتٌ فِي الْعَبْدِ ؛ فَفِي يَدِهِ ، أَوْ عَيْنِهِ ، أَوْ أُذُنِهِ ، أَوْ شَفَتِهِ ، نِصْفُ قِيمَتِهِ ، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ ، وَمَا أَوْجَبَ الدِّيَةَ فِي الْحُرِّ ، كَالْأَنْفِ ، وَاللِّسَانِ ، وَالْيَدَيْنِ ، وَالرِّجْلَيْنِ ، وَالْعَيْنَيْنِ ، وَالْأُذُنَيْنِ ، أَوْجَبَ قِيمَةَ الْعَبْدِ ، مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ السَّيِّدِ عَلَيْهِ .
رُوِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ ؛ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
قَالَ أَحْمَدُ : هَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : مَا أُصِيبَ بِهِ الْعَبْدُ فَهُوَ عَلَى مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ قَوْلَ عَلِيٍّ لَمَا احْتَجَّ أَحْمَدُ فِيهِ إلَّا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ .
إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيَّ قَالَا : مَا أَوْجَبَ الدِّيَةَ مِنْ الْحُرِّ ، يَتَخَيَّرُ سَيِّدُ الْعَبْدِ فِيهِ ، بَيْنَ أَنْ يُغَرِّمَهُ قِيمَتَهُ ، وَيَصِيرَ مِلْكًا لِلْجَانِي وَبَيْنَ أَنْ لَا يُضَمِّنَهُ شَيْئًا ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَرُوِيَ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، فِي مَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ عَمْدًا ، أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ ، هُوَ لَهُ ، وَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ .
وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا ، وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يُضْمَنُ بِالْقِصَاصِ وَالْكَفَّارَةِ ، فَكَانَ فِي أَطْرَافِهِ مُقَدَّرٌ كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّ أَطْرَافَهُ فِيهَا مُقَدَّرٌ مِنْ الْحُرِّ ، فَكَانَ فِيهَا مُقَدَّرٌ مِنْ الْعَبْدِ ، كَالشِّجَاجِ الْأَرْبَعِ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَمَا وَجَبَ فِي شِجَاجِهِ مُقَدَّرٌ ، وَجَبَ فِي أَطْرَافِهِ مُقَدَّرٌ كَالْحُرِّ .
وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، قَوْلُ عَلِيٍّ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ فِيهَا مُقَدَّرٌ ، فَوَجَبَ ذَلِكَ فِيهَا مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ السَّيِّدِ فِي الْعَبْدِ ، كَالْيَدِ الْوَاحِدَةِ ،
وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، وَلِأَنَّ مَنْ ضُمِنَتْ يَدُهُ بِمُقَدَّرٍ ، ضُمِنَتْ يَدَاهُ بِمِثْلَيْهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْلِكَهُ كَالْحُرِّ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ اجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ لِوَاحِدٍ .
لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ هَاهُنَا بَدَلُ الْعُضْوِ وَحْدَهُ ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْجُمْلَةِ ، لَكَانَ بَدَلُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ بَدَلًا عَنْ نِصْفِهِ ، وَبَدَلُ تِسْعِ أَصَابِعَ بَدَلًا عَنْ تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ ، وَالْأَمْرُ بِخِلَافِهِ .
وَالْأَمَةُ مِثْلُ الْعَبْدِ فِي ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهَا تُشَبَّهُ بِالْحُرَّةِ ، وَإِذَا بَلَغَتْ ثُلُثَ قِيمَتِهَا ، احْتَمَلَ أَنَّ جِنَايَتَهَا تُرَدُّ إلَى النِّصْفِ ، فَيَكُونُ فِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ ثَلَاثَةُ أَعْشَارِ قِيمَتِهَا ، وَفِي أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ خُمْسُهَا ، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ تُسَاوِي الرَّجُلَ فِي الْجِرَاحِ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا ، فَإِذَا بَلَغَتْ الثُّلُثَ ، رُدَّتْ إلَى النِّصْفِ ، وَالْأَمَةُ امْرَأَةٌ ، فَيَكُونُ أَرْشُهَا مِنْ قِيمَتِهَا كَأَرْشِ الْحُرَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُرَدَّ إلَى النِّصْفِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْحُرَّةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ؛ لِكَوْنِ الْأَصْلِ زِيَادَةُ الْأَرْشِ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ ، وَأَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ نَقْصُهَا وَضَرَرُهَا ، زَادَ فِي ضَمَانِهَا ، فَإِذَا خُولِفَ هَذَا فِي الْحُرَّةِ ، بَقِينَا فِي الْأَمَةِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ .
( 7004 ) فَصْلٌ : وَإِذَا جُنِيَ عَلَى الْعَبْدِ فِي رَأْسٍ أَوْ وَجْهٍ دُونَ الْمُوضِحَةِ ، فَنَقَصَتْهُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِهَا ، وَجَبَ مَا نَقَصَتْهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَدَّ إلَى نِصْفِ عُشْرِ قِيمَتِهِ ، كَالْحُرِّ إذَا زَادَ أَرْشُ شَجَّتِهِ الَّتِي دُونَ الْمُوضِحَةِ عَلَى نِصْفِ عُشْرِ دِيَتِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذِهِ جِرَاحَةٌ لَا مُوَقَّتَ فِيهَا ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا مَا نَقَصَ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ رَأْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ مَا نَقَصَ ، خُولِفَ فِي الْمُقَدَّرِ ، فَفِي هَذَا يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .
( 7005 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ خُنْثَى مُشْكِلًا ، فَفِيهِ نِصْفُ دِيَةِ ذَكَرٍ ، وَنِصْفُ دِيَةِ أُنْثَى ) وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْوَاجِبُ دِيَةُ أُنْثَى ؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ ، فَلَا يَجِبُ الزَّائِدَةُ بِالشَّكِّ .
وَلَنَا : أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الذُّكُورِيَّةَ وَالْأُنُوثِيَّةَ احْتِمَالًا وَاحِدًا ، وَقَدْ يَئِسْنَا مِنْ انْكِشَافِ حَالِهِ ، فَيَجِبُ التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا ، وَالْعَمَلُ بِكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ .
( 7006 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا جِرَاحُهُ ، فَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثُلُثَ الدِّيَةِ ، فَفِيهِ دِيَةُ جُرْحِ الذَّكَرِ ؛ لِاسْتِوَاءِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، مِثْلُ أَنْ قَطَعَ يَدَهُ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دِيَةِ يَدِ الذَّكَرِ ، سَبْعَةٌ وَثَلَاثُونَ بَعِيرًا وَنِصْفٌ ، وَيُقَادُ بِهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْقَوَدِ ، وَيُقَادُ هُوَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
( 7007 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نِصْفُهُ حُرٌّ ، وَنِصْفُهُ عَبْدٌ ، فَلَا قَوَدَ ، وَعَلَى الْجَانِي إنْ كَانَ عَمْدًا نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ وَنِصْفُ قِيمَتِهِ ، وَهَكَذَا فِي جِرَاحِهِ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ) يَعْنِي لَا قَوَدَ عَلَى قَاتِلِهِ إذَا كَانَ نِصْفُهُ حُرًّا ؛ لِأَنَّهُ نَاقِصٌ بِالرِّقِّ ، فَلَمْ يُقْتَلْ بِهِ الْحُرُّ ، كَمَا لَوْ كَانَ كُلُّهُ رَقِيقًا .
وَإِنْ كَانَ قَاتِلُهُ عَبْدًا ، قُتِلَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَكْمَلُ مِنْ الْجَانِي .
وَإِنْ كَانَ نِصْفُ الْقَاتِلِ حُرًّا ، وَجَبَ الْقَوَدُ ؛ لِتَسَاوِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْحُرِّيَّةُ فِي الْقَاتِلِ أَكْثَرَ ، لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ ؛ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاتِلُ عَبْدًا فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ ، وَنِصْفُ قِيمَتِهِ ، إذَا كَانَ عَمْدًا ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَفِي مَالِهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْعَبْدَ ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهَا دِيَةُ حُرٍّ فِي الْخَطَإِ ، وَالْعَاقِلَةُ تَحْمِلُ ذَلِكَ ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي جِرَاحِهِ إذَا كَانَ قَدْرُ الدِّيَةِ مِنْ أَرْشِهَا يَبْلُغُ ثُلُثَ الدِّيَةِ ، مِثْلُ أَنْ يَقْطَعَ أَنْفَهُ أَوْ يَدَيْهِ .
وَإِنْ قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ ، فَعَقْلُ جَمِيعِهَا عَلَى الْجَانِي فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ دِيَةِ الْيَدِ ، وَهُوَ رُبْعُ دِيَتِهِ ؛ لِأَجْلِ حُرِّيَّةِ نِصْفِهِ ، وَذَلِكَ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ ، وَعَلَيْهِ رُبْعُ قِيمَتِهِ .
( 7008 ) فَصْلٌ : وَدِيَةُ الْأَعْضَاءِ كَدِيَةِ النَّفْسِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ ، لَمْ يَخْتَلِفْ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَإٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْإِبِلِ ، وَجَبَ فِي الْعَمْدِ أَرْبَاعًا ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَفِي الْأُخْرَى يَجِبُ خَمْسٌ وَعَشْرٌ مِنْهَا حِقَاقٌ ، وَخَمْسٌ وَعَشْرٌ جِذَاعٌ ، وَخُمْسَاهَا خَلِفَاتٌ ، وَفِي الْخَطَإِ يَجِبُ أَخْمَاسًا ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ، مِثْلُ أَنْ يُوضِحَهُ عَمْدًا ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَرْبَعَةً أَرْبَاعًا ، وَالْخَامِسُ مِنْ أَحَدِ الْأَجْنَاسِ الْأَرْبَعَةِ ، قِيمَتُهُ رُبْعُ قِيمَةِ الْأَرْبَعِ .
وَإِنْ قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَجَبَ خَلِفَتَانِ ، وَحِقَّةٌ ، وَجَذَعَةٌ ، وَبَعِيرٌ قِيمَتُهُ نِصْفُ قِيمَةِ حِقَّةٍ وَنِصْفُ قِيمَةِ جَذَعَةٍ .
وَإِنْ كَانَ خَطَأً ، وَجَبَ الْخُمْسُ مِنْ الْأَجْنَاسِ الْخَمْسَةِ .
مِنْ كُلِّ جِنْسٍ بَعِيرٌ .
وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دِيَةَ أُنْمُلَةٍ ، وَقُلْنَا : يَجِبُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَجْنَاسٍ ، وَجَبَ بَعِيرٌ وَثُلُثٌ مِنْ الْخَلِفَاتِ ، وَحِقَّةٌ ، وَجَذَعَةٌ .
وَإِنْ قُلْنَا : أَرْبَاعًا ، وَجَبَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ ، قِيمَتُهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْأَرْبَعَةِ وَثُلُثِهَا .
وَإِنْ كَانَ خَطَأً ، فَقِيمَتُهَا ثُلُثَا قِيمَةِ الْخَمْسِ .
وَعِنْدَ أَصْحَابِنَا ، قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، أَوْ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ .
وَلَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِ أَسْنَانِهَا ، فَإِنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ ، مِثْلُ أَنْ كَانَتْ الْعَشَرَةُ دَنَانِيرَ تُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَقِيَاسُ قَوْلِهِمْ ، أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِمَا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، لَزِمَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَاءَهُ بِالدَّنَانِيرِ ، لَزِمَهُ قَبُولُهَا ، فَيَلْزَمُهُ قَبُولُ مَا يُسَاوِيهَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْقَسَامَةِ الْقَسَامَةُ : مَصْدَرُ أَقْسَمَ قَسَمًا وَقَسَامَةً .
وَمَعْنَاهُ حَلَفَ حَلِفًا .
وَالْمُرَادُ بِالْقَسَامَةِ هَاهُنَا الْأَيْمَانُ الْمُكَرَّرَةُ فِي دَعْوَى الْقَتْلِ .
قَالَ الْقَاضِي : هِيَ الْأَيْمَانُ إذَا كَثُرَتْ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ .
قَالَ : وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَذْهَبُونَ إلَى أَنَّهَا الْقَوْمُ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ ؛ سُمُّوا بِاسْمِ الْمَصْدَرِ ، كَمَا يُقَالُ : رَجُلٌ زُورٌ وَعَدْلٌ وَرِضًى .
وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ ، فَهُوَ مِنْ الْقَسَمِ الَّذِي هُوَ الْحَلِفُ .
وَالْأَصْلُ فِي الْقَسَامَةِ مَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، { أَنَّ مُحَيِّصَةُ بْنَ مَسْعُودٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ انْطَلَقَا إلَى خَيْبَرَ ، فَتَفَرَّقَا فِي النَّخِيلِ ، فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ ، فَاتَّهَمُوا الْيَهُودَ ، فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، وَابْنَا عَمِّهِ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فِي أَمْرِ أَخِيهِ ، وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَبِّرْ كَبِّرْ .
أَوْ قَالَ : لِيَبْدَأ الْأَكْبَرُ .
فَتَكَلَّمَا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ فَقَالُوا : أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ ، كَيْفَ نَحْلِفُ ؟ قَالَ : فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَوْمٌ كُفَّارٌ ضُلَّالٌ .
قَالَ : فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِهِ .
قَالَ سَهْلٌ : فَدَخَلْت مِرْبَدًا لَهُمْ ، فَرَكَضَتْنِي نَاقَةٌ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
( 7009 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَإِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ ، فَادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ عَلَى قَوْمٍ لَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ ، لَمْ يُحْكَمْ لَهُمْ بِيَمِينٍ ، وَلَا غَيْرِهَا ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ : ( 7010 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي أَنَّهُ إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي مَوْضِعٍ ، فَادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ قَتْلَهُ عَلَى رَجُلٍ ، أَوْ جَمَاعَةٍ ، وَلَمْ تَكُنْ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ ، وَلَا لَوْثٌ ، فَهِيَ كَسَائِرِ الدَّعَاوَى ، إنْ كَانَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ ، حُكِمَ لَهُمْ بِهَا ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : إذَا ادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ قَتْلَهُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، أَوْ عَلَى مُعَيَّنٍ ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ الْمَوْضِعِ خَمْسِينَ رَجُلًا ، يَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا : وَاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ ، وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلَهُ .
فَإِنْ نَقَصُوا عَلَى الْخَمْسِينَ ، كُرِّرَتْ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَتِمَّ ، فَإِذَا حَلَفُوا ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى بَاقِي الْخِطَّةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ، وَجَبَتْ عَلَى سُكَّانِ الْمَوْضِعِ ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا ، حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا أَوْ يُقِرُّوا ؛ لِمَا رُوِيَ ، أَنَّ رَجُلًا وُجِدَ قَتِيلًا بَيْنَ حَيَّيْنِ ، فَحَلَّفَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَقْرَبِهِمَا .
يَعْنِي أَقْرَبَ الْحَيَّيْنِ ، فَقَالُوا : وَاَللَّهِ مَا وَقَتْ أَيْمَانُنَا أَمْوَالَنَا ، وَلَا أَمْوَالُنَا أَيْمَانَنَا ، فَقَالَ عُمَرُ : حَقَنْتُمْ بِأَمْوَالِكُمْ دِمَاءَكُمْ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ ، وَقَوْلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } .
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَلِأَنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْيَمِينُ وَالْغُرْمُ ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ عُمَرَ ، وَأَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ ، ثُمَّ قِصَّةُ عُمَرَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ اعْتَرَفُوا بِالْقَتْلِ خَطَأً ، وَأَنْكَرُوا الْعَمْدَ ، فَأُحْلِفُوا عَلَى الْعَمْدِ ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِخَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَالِفِ لِلْأُصُولِ ، وَقَدْ صَارُوا هَاهُنَا إلَى ظَاهِرِ قَوْلِ عُمَرَ الْمُخَالِفِ لِلْأُصُولِ ، وَهُوَ إيجَابُ الْأَيْمَانِ عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَإِلْزَامُهُمْ الْغُرْمَ مَعَ عَدَمِ الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ تَحْلِيفِهِمْ وَتَغْرِيمِهِمْ وَحَبْسِهِمْ عَلَى الْأَيْمَانِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : سَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَسَنَّ الْقَسَامَةَ فِي الْقَتِيلِ الَّذِي وُجِدَ بِخَيْبَرَ ، وَقَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ السُّنَنِ .
( 7011 ) فَصْلٌ : وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنِ ، فَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى أَهْلِ مَدِينَةٍ أَوْ مُحَلَّةٍ ، أَوْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، أَوْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ ، لَمْ تُسْمَعْ الدَّعْوَى .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : تُسْمَعُ ، وَيُسْتَحْلَفُ خَمْسُونَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ ادَّعَوْا الْقَتْلَ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ ، وَلَمْ يُعَيِّنُوا الْقَاتِلَ ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْوَاهُمْ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا دَعْوَى فِي حَقٍّ ، فَلَمْ تُسْمَعْ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى .
فَأَمَّا الْخَبَرُ ، فَإِنَّ دَعْوَى الْأَنْصَارِ الَّتِي سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ تَكُنْ الدَّعْوَى الَّتِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا ، فَإِنَّ تِلْكَ مِنْ شَرْطِهَا حُضُورُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ ، أَوْ تَعَذُّرُ حُضُورِهِ عِنْدَنَا ، وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ إلَّا عَلَى وَاحِدٍ ، بِقَوْلِهِ : { تُقْسِمُونَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ } .
وَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ
( 7012 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا إنْ ادَّعَى الْقَتْلَ مِنْ غَيْرِ وُجُودِ قَتْلٍ وَلَا عَدَاوَةٍ ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ سَائِرِ الدَّعَاوَى ، فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
( 7013 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : إنَّهُ إذَا ادَّعَى الْقَتْلَ ، وَلَمْ تَكُنْ عَدَاوَةٌ ، وَلَا لَوْثٌ ، فَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يُحَلَّفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ ، وَيُخْلَى سَبِيلُهُ .
هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الدَّعْوَى خَطَأً أَوْ عَمْدًا ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى فِيمَا لَا يَجُوزُ بَذْلُهُ ، فَلَمْ يُسْتَحْلَفْ فِيهَا ، كَالْحُدُودِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقْضَى فِي هَذِهِ الدَّعْوَى بِالنُّكُولِ ، فَلَمْ يُسْتَحْلَفْ فِيهَا ، كَالْحُدُودِ ، وَالثَّانِيَةُ ، يُسْتَحْلَفُ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
ظَاهِرٌ فِي إيجَابِ الْيَمِينِ هَاهُنَا لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، عُمُومُ اللَّفْظِ فِيهِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ فِي صَدْرِ الْخَبَرِ بِقَوْلِهِ : { لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ } .
ثُمَّ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ : { وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
فَيَعُودُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ ، وَلِأَنَّهَا دَعْوَى فِي حَقٍّ آدَمِيٍّ ، فَيُسْتَحْلَفُ فِيهَا ، كَدَعْوَى الْمَالِ ، وَلِأَنَّهَا دَعْوَى لَوْ أَقَرَّ بِهَا لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ عَنْهَا ، فَتَجِبُ الْيَمِينُ فِيهَا ، كَالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْمَشْرُوعُ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يُشْرَعُ خَمْسُونَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهَا دَعْوًى فِي الْقَتْلِ ، فَكَانَ الْمَشْرُوعُ فِيهَا خَمْسِينَ يَمِينًا ، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ لَوْثٌ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي هَذَا ، كَالرِّوَايَتَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
ظَاهِرٌ
فِي أَنَّهَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ وَحَّدَ الْيَمِينَ ، فَيَنْصَرِفُ إلَى وَاحِدَةٍ وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ فِي الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ ، فَيَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمَشْرُوعَةِ فِي الدَّمِ وَالْمَالِ ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ يُعَضِّدُهَا الظَّاهِرُ وَالْأَصْلُ ، فَلَمْ تُغَلَّظْ ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ مَشْرُوعَةٌ فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ابْتِدَاءً ، فَلَمْ تُغَلَّظْ بِالتَّكْرِيرِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَا ذَكَرُوهُ .
فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ ، لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَحَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَاسْتَحَقَّ الْقِصَاصَ إنْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَمْدًا ، وَالدِّيَةَ إنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْقَتْلِ ؛ لَأَنْ يَمِينَ الْمُدَّعِي مَعَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ ، وَالْقِصَاصُ يَجِبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقَتْلَ لَمْ يَثْبُتْ بِبَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ ، وَلَمْ يُعَضِّدْهُ لَوْثٌ ، فَلَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْكُلْ ، وَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُ الْأَيْمَانِ مَعَ النُّكُولِ بِبَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ ؛ لِأَنَّهَا أَضْعَفُ مِنْهَا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ إلَّا عَنَدَ عَدَمِهِمَا ، فَيَكُونَ بَدَلًا عَنْهُمَا ، وَالْبَدَلُ أَضْعَفُ مِنْ الْمُبْدَلِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْأَقْوَى ، ثُبُوتُهُ بِالْأَضْعَفِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الدِّيَةِ ، وُجُوبُ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ، وَلَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، وَيُحْتَاطُ لَهُ ، وَيُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالدِّيَةُ بِخِلَافِهِ .
فَأَمَّا الدِّيَةُ فَتَثْبُتُ بِالنُّكُولِ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ الْمَالَ بِهِ ، أَوْ تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَيَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً ، وَيَسْتَحِقُّهَا ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي مَالٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7014 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ وَلَوْثٌ ، فَادَّعَى أَوْلِيَاؤُهُ عَلَى وَاحِدٍ ، حَلَفَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى قَاتِلِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَاسْتَحَقُّوا دَمَهُ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَمْدًا ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ : ( 7015 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي اللَّوْثِ الْمُشْتَرَطِ فِي الْقَسَامَةِ ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ اللَّوْثَ هُوَ الْعَدَاوَةُ الظَّاهِرَةُ بَيْنَ الْمَقْتُولِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، كَنَحْوِ مَا بَيْنَ الْأَنْصَارِ وَيَهُودِ خَيْبَرَ ، وَمَا بَيْنَ الْقَبَائِلِ ، وَالْأَحْيَاءِ ، وَأَهْلِ الْقُرَى الَّذِينَ بَيْنَهُمْ الدِّمَاءُ وَالْحُرُوبُ ، وَمَا بَيْنَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ ، وَمَا بَيْنَ الشُّرْطَةِ وَاللُّصُوصِ ، وَكُلِّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ ضِغْنٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ .
نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ ، فِيمَنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، يُنْظَرُ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِي حَيَاتِهِ شَيْءٌ .
يَعْنِي ضِغْنًا يُؤْخَذُونَ بِهِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي فِي اللَّوْثِ غَيْرَ الْعَدَاوَةِ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْفَرِيقَيْنِ يَقْتَتِلَانِ ؛ فَيَنْكَشِفُونَ عَنْ قَتِيلٍ ، فَاللَّوْثُ عَلَى الطَّائِفَةِ وَاللَّوْثُ عَلَى طَائِفَةِ الْقَتِيلِ الَّتِي الْقَتِيلُ مِنْ غَيْرِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَتْلَى بِالْتِحَامٍ ، أَوْ مُرَامَاةً بِالسِّهَامِ ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ السِّهَامُ فَاللَّوْثُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مَعَ الْعَدَاوَةِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بِهِ الْقَتِيلُ غَيْرُ الْعَدُوِّ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ مُهَنًّا الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا .
وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي أَنْ يُوجَدَ الْقَتِيلُ فِي مَوْضِعِ عَدُوٍّ لَا يَخْتَلِطُ بِهِمْ غَيْرُهُمْ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارِيَّ قُتِلَ فِي خَيْبَرَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا الْيَهُودُ ، وَجَمِيعُهُمْ أَعْدَاءٌ .
وَلِأَنَّهُ مَتَى اخْتَلَطَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ ، احْتَمَلَ أَنْ
يَكُونَ الْقَاتِلُ ذَلِكَ الْغَيْرَ .
ثُمَّ نَاقَضَ الْقَاضِي قَوْلَهُ ، فَقَالَ فِي قَوْمٍ ازْدَحَمُوا فِي مَضِيقٍ ، فَافْتَرَقُوا عَنْ قَتِيلٍ : إنْ كَانَ فِي الْقَوْمِ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَتَلَهُ ؛ لِكَوْنِهِ بِقُرْبِهِ ، فَهُوَ لَوْثٌ .
فَجَعَلَ الْعَدَاوَةَ لَوْثًا مَعَ وُجُودِ غَيْرِ الْعَدُوِّ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَلْ الْأَنْصَارَ : هَلْ كَانَ بِخَيْبَرَ غَيْرُ الْيَهُودِ أَمْ لَا ؟ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُ غَيْرِهِمْ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَمْلَاكًا لِلْمُسْلِمِينَ ، يَقْصِدُونَهَا لِأَخْذِ غَلَّاتِ أَمْلَاكِهِمْ مِنْهَا ، وَعِمَارَتِهَا ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا ، وَالِامْتِيَارِ مِنْهَا ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مَدِينَةٌ عَلَى جَادَّةٍ تَخْلُو مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا .
وَقَوْلُ الْأَنْصَارِ : لَيْسَ لَنَا بِخَيْبَرَ عَدُوٌّ إلَّا يَهُودُ .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِهَا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِعَدُوٍّ ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاكَهُمْ فِي الْعَدَاوَةِ ، لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ اللَّوْثِ فِي حَقِّ وَاحِدٍ ، وَتَخْصِيصِهِ بِالدَّعْوَى مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ فِي احْتِمَالِ قَتْلِهِ ؛ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ ذَلِكَ وُجُودَ مَنْ يَبْعُدُ مِنْهُ الْقَتْلُ أَوْلَى .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ ، لَا يَنْفِي اللَّوْثَ ، فَإِنَّ اللَّوْثَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ يَقِينُ الْقَتْلِ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَا يُنَافِيهِ الِاحْتِمَالُ ، وَلَوْ تُيُقِّنَ الْقَتْلُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْأَيْمَانِ ، وَلَوْ اُشْتُرِطَ نَفْيُ الِاحْتِمَالِ ؛ لَمَا صَحَّتْ الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُهُ ، وَلَا عَلَى الْجَمَاعَةِ كُلِّهِمْ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَشْتَرِكَ الْجَمِيعُ فِي قَتْلِهِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ اللَّوْثَ مَا يُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ الْمُدَّعِي ، وَذَلِكَ فِي دَارٍ أَوْ غَيْرِهَا ، مِنْ وُجُوهٍ ؛ أَحَدُهَا ، الْعَدَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمَاعَةٌ عَنْ قَتِيلٍ ، فَيَكُونَ
ذَلِكَ لَوْثًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ فَأَنْكَرَ كَوْنَهُ مَعَ الْجَمَاعَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَزْدَحِمَ النَّاسُ فِي مَضِيقٍ ، فَيُوجَدَ فِيهِمْ قَتِيلٌ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَوْثٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَنْ مَاتَ بِالزِّحَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ : فِدْيَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ؛ فَإِنَّ سَعِيدًا رَوَى فِي " سُنَنِهِ " ، عَنْ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ : قُتِلَ رَجُلٌ فِي زِحَامِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ ، فَجَاءَ أَهْلُهُ إلَى عُمَرَ ، فَقَالَ : بَيِّنَتُكُمْ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ .
فَقَالَ عَلِيٌّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، لَا يُطَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، إنْ عَلِمْت قَاتِلَهُ ، وَإِلَّا فَأَعْطِ دِيَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِيمَنْ وُجِدَ مَقْتُولًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ : يُنْظَرُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فِي حَيَاتِهِ يَعْنِي عَدَاوَةً يُؤْخَذُونَ .
فَلَمْ يَجْعَلْ الْحُضُورَ لَوْثًا ، وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّوْثَ الْعَدَاوَةَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، فِيمَنْ مَاتَ فِي الزِّحَامِ : دِيَتُهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ حَصَلَ مِنْهُمْ .
وَقَالَ مَالِكٌ : دَمُهُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ لَهُ قَاتِلٌ ، وَلَا وُجِدَ لَوْثٌ ؛ فَيُحْكَمَ بِالْقَسَامَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، أَنَّهُ كُتِبَ إلَيْهِ فِي رَجُلٍ وُجِدَ قَتِيلًا ، لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ ، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ : إنَّ مِنْ الْقَضَايَا قَضَايَا لَا يُحْكَمُ فِيهَا إلَّا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَهَذَا مِنْهَا .
الرَّابِعُ ، أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ لَا يُوجَدُ بِقُرْبِهِ إلَّا رَجُلٌ مَعَهُ سَيْفٌ أَوْ سِكِّينٌ مُلَطَّخٌ بِالدَّمِ ، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ قَتَلَهُ ، مِثْلُ أَنْ يَرَى رَجُلًا هَارِبًا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ الْقَاتِلُ أَوْ سَبْعًا يُحْتَمَلُ ذَلِكَ فِيهِ .
الْخَامِسُ : أَنْ يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ ، فَيَفْتَرِقُونَ عَنْ قَتِيلٍ مِنْ إحْدَاهُمَا ، فَاللَّوْثُ عَلَى الْأُخْرَى .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
فَإِنْ كَانُوا بِحَيْثُ لَا تَصِلُ سِهَامُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ، فَاللَّوْثُ عَلَى طَائِفَةِ الْقَتِيلِ .
هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ عَقْلَ الْقَتِيلِ عَلَى الَّذِينَ نَازَعُوهُمْ فِيمَا إذَا اقْتَتَلَتْ الْفِئَتَانِ ، إلَّا أَنْ يَدَّعُوا عَلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : عَلَى الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلِ أَصْحَابِهِ ، فَاسْتَوَى الْجَمِيعُ فِيهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ فِي قَوْمٍ اقْتَتَلُوا ، فَقُتِلَ بَعْضُهُمْ ، وَجُرِحَ بَعْضُهُمْ : فَدِيَةُ الْمَقْتُولِينَ عَلَى الْمَجْرُوحِينَ ، تَسْقُطُ مِنْهَا دِيَةُ الْجِرَاحِ .
وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا جُرْحَ فِيهِ ، فَهَلْ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَاتِ شَيْءٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، ذَكَرَهُمَا ابْنُ حَامِدٍ .
السَّادِسُ ، أَنْ يَشْهَدَ بِالْقَتْلِ عَبِيدٌ أَوْ نِسَاءٌ ، فَهَذَا فِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، أَنَّهُ لَوْثٌ ؛ لِأَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الْمُدَّعِي فِي دَعْوَاهُ ، فَأَشْبَهَ الْعَدَاوَةَ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَيْسَ بِلَوْثٍ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مَرْدُودَةٌ ، فَلَمْ تَكُنْ لَوْثًا ، كَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِ كُفَّارٌ .
وَإِنْ شَهِدَ بِهِ فُسَّاقٌ أَوْ صِبْيَانٌ ، فَهَلْ يَكُونُ لَوْثًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَيْسَ بِلَوْثٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِشَهَادَتِهِمْ حُكْمٌ ، فَلَا يَثْبُتُ اللَّوْثُ بِهَا ، كَشَهَادَةِ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ .
وَالثَّانِي : يَثْبُتُ بِهَا اللَّوْثُ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ الْمُدَّعِي ، فَأَشْبَهَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ ، وَقَوْلُ الصِّبْيَانِ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ ، وَقَبُولِ الْهَدِيَّةِ ، وَنَحْوِهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَجِيءَ الصِّبْيَانُ مُتَفَرِّقِينَ ؛ لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ إلَيْهِمْ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ .
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ قَدْ ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدَ ،
أَنَّهَا لَوْثٌ ؛ لِأَنَّهَا تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ الْمُدَّعِي ، أَشْبَهَتْ الْعَدَاوَةَ .
وَرُوِيَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَوْثٍ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الَّذِي قُتِلَ فِي الزِّحَامِ ؛ لِأَنَّ اللَّوْثَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَدَاوَةِ بِقَضِيَّةِ الْأَنْصَارِيِّ الْقَتِيلِ بِخَيْبَرَ ، وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِالْمَظِنَّةِ ، وَلَا يَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي الْمَظَانِّ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَتَعَدَّى بِتَعَدِّي سَبَبِهِ ، وَالْقِيَاسُ فِي الْمَظَانِّ جَمْعٌ بِمُجَرَّدِ الْحِكْمَةِ وَغَلَبَةِ الظُّنُونِ ، وَالْحِكَمُ وَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ وَلَا تَأْتَلِفُ ، وَتَنْخَبِطُ وَلَا تَنْضَبِطُ ، وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ ، فَلَا يُمْكِنُ رَبْطُ الْحُكْمِ بِهَا ، وَلَا تَعْدِيَتُهُ بِتَعَدِّيهَا ، وَلِأَنَّهَا يُعْتَبَرُ فِي التَّعْدِيَةِ وَالْقِيَاسِ التَّسَاوِي بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْمُقْتَضِي ، وَلَا سَبِيلَ إلَى يَقِينِ التَّسَاوِي بَيْنَ الظَّنَّيْنِ مَعَ كَثْرَةِ الِاحْتِمَالَاتِ وَتَرَدُّدِهَا ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، حُكْمُ هَذِهِ الصُّوَرِ حُكْمُ غَيْرِهَا ، مِمَّا لَا لَوْثَ فِيهِ .
( 7016 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ ، أَنَّهُ قَتَلَ أَحَدَ هَذَيْنِ الْقَتِيلَيْنِ .
لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَوْثًا عِنْدَ أَحَدِ عُلَمَائِنَا .
قَوْلَهُ : وَإِنْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا الْقَتِيلَ قَتَلَهُ أَحَدُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا قَتَلَهُ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا قَتَلَهُ بِسَيْفٍ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسِكِّينٍ ، لَمْ تَثْبُتْ الشَّهَادَةُ ، وَلَمْ تَكُنْ لَوْثًا .
هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي وَاخْتِيَارُهُ .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِيمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِقَتْلِهِ ، وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِقَتْلِهِ ، أَنَّهُ يَثْبُتُ الْقَتْلُ .
وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ ثُبُوتَ الْقَتْلِ هَاهُنَا ، وَفِيمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسِكِّينٍ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْقَتْلِ ، وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ لَوْثٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَفِي الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا هُوَ لَوْثٌ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ الْمُدَّعِي ، أَشْبَهَتْ شَهَادَةَ النِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا شَهَادَةٌ مَرْدُودَةٌ ؛ لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا ، فَلَمْ تَكُنْ لَوْثًا ، كَالصُّورَةِ الْأُولَى .
فَصْلٌ : وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ اللَّوْثِ أَنْ يَكُونَ بِالْقَتِيلِ أَثَرٌ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ شَرْطٌ .
وَهَذَا قَوْلُ حَمَّادٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ ، احْتَمَلَ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ .
وَلَنَا ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَلْ الْأَنْصَارَ ، هَلْ كَانَ بِقَتِيلِهِمْ أَثَرٌ أَوْ لَا ؟ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ يَحْصُلُ بِمَا لَا أَثَرَ لَهُ ، كَغَمِّ الْوَجْهِ ، وَالْخَنْقِ ، وَعَصْرِ الْخُصْيَتَيْنِ ، وَضَرْبَةِ الْفُؤَادِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ بِهِ أَثَرٌ ، وَمَنْ بِهِ أَثَرٌ قَدْ يَمُوتُ حَتْفَ أَنْفِهِ ؛ لِسَقْطَتِهِ ، أَوْ صَرْعَتِهِ ، أَوْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ .
فَعَلَى قَوْلِ مَنْ اعْتَبَرَ الْأَثَرَ ، إنْ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ أُذُنِهِ ، فَهُوَ لَوْثٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْخَنْقِ لَهُ ، أَوْ أَمْرٍ أُصِيبَ بِهِ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَنْفِهِ ، فَهَلْ يَكُونُ لَوْثًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
( 7018 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَثْبُتُ مَا لَمْ يَتَّفِقْ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى الدَّعْوَى ، فَإِنْ كَذَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ : قَتَلَهُ هَذَا .
وَقَالَ الْآخَرُ : لَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا .
أَوْ قَالَ : بَلْ قَتَلَهُ هَذَا الْآخَرُ ، لَمْ تَثْبُتْ الْقَسَامَةُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُكَذِّبُ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا .
وَذُكِرَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَبْطُلُ بِتَكْذِيبِ الْفَاسِقِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِتَبْرِئَةِ مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَخُوهُ ، فَقُبِلَ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى دَيْنًا لَهُمَا ، وَإِنَّمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ ، فَأَمَّا عَلَى نَفْسِهِ ، فَهُوَ كَالْعَدْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي حَقِّهَا ؛ فَأَمَّا إنْ لَمْ يُكَذِّبْهُ ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ فِي الدَّعْوَى ، مِثْلُ أَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا ؛ قَتَلَهُ هَذَا .
وَقَالَ الْآخَرُ : لَا نَعْلَمُ قَاتِلَهُ .
فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَثْبُتُ ؛ لِاشْتِرَاطِهِ ادِّعَاءَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى وَاحِدٍ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ غَائِبًا ، فَادَّعَى الْحَاضِرُ دُونَ الْغَائِبِ ، أَوْ ادَّعَيَا جَمِيعًا عَلَى وَاحِدٍ ، وَنَكَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْأَيْمَانِ ، لَمْ يَثْبُتْ الْقَتْلُ ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ .
وَمُقْتَضَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي ، ثُبُوتُ الْقَسَامَةِ .
وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يُكَذِّبْ الْآخَرَ ، فَلَمْ تَبْطُلْ الْقَسَامَةُ ، كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُ الْوَارِثَيْنِ امْرَأَةً أَوْ صَغِيرًا ، فَعَلَى قَوْلِهِمْ ، يَحْلِفُ الْمُدَّعِي خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَيَسْتَحِقُّ نِصْفَ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَا يَثْبُتُ شَيْءُ مِنْ الْحَقِّ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْبَيِّنَةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا دَيْنًا لِأَبِيهِمَا ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّيْن إلَّا أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً كَامِلَةً .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ ، فِيمَا إذَا كَانَ
أَحَدُهُمَا غَائِبًا ، أَنَّ الْأَوَّلَ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ يَحْلِفُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَمِينًا ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ مَقْسُومَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَخِيهِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ فِي الدَّعْوَى ، وَلَا يَحْلِفُ الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ حِصَّتِهِ ، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ أَقْسَمَ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى أَيْمَانِ أَخِيهِ .
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ أَنَّ الْأَوَّلَ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَهَلْ يَحْلِفُ الثَّانِي خَمْسِينَ أَوْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا يَقُولُ ، يَحْلِفُ خَمْسِينَ ؛ لِأَنَّ أَخَاهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا بِخَمْسِينَ ، فَكَذَلِكَ هُوَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا لَمْ يَتَّفِقَا فِي الدَّعْوَى ، فَلَمْ تَثْبُتْ الْقَسَامَةُ ، كَمَا لَوْ كَذَّبَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ ، إنَّمَا يَثْبُتُ بِأَيْمَانِهِمَا الَّتِي أُقِيمَتْ مُقَامَ الْبَيِّنَةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ أَحَدُهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فِي الْأَيْمَانِ ، كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى .
فَعَلَى هَذَا ، إنْ قَدِمَ الْغَائِبُ ، فَوَافَقَ أَخَاهُ ، أَوْ عَادَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَقَالَ : قَدْ عَرَفْتُهُ ، هُوَ الَّذِي عَيَّنَهُ أَخِي .
أَقْسَمَا حِينَئِذٍ .
وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ هَذَا .
وَقَالَ الْآخَرُ : قَتَلَهُ هَذَا وَفُلَانٌ .
فَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، لَا تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى وَاحِدٍ .
وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ ، يَحْلِفَانِ عَلَى مَنْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ ، وَيَسْتَحِقَّانِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَلَا يَجِبُ الْقَوَدُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ ، وَيَحْلِفَانِ جَمِيعًا عَلَى هَذَا الَّذِي اتَّفَقَا عَلَيْهِ عَلَى حَسَبِ دَعْوَاهُمَا ، وَيَسْتَحِقَّانِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُكَذِّبُ الْآخَرَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ، فَبَقِيَ اللَّوْثُ فِي حَقِّهِ فِي نِصْفِ الدَّمِ الَّذِي اتَّفَقَا
عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي النِّصْفِ الَّذِي كَذَّبَهُ أَخُوهُ فِيهِ ، وَلَا يَحْلِفُ الْآخَرُ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ أَخَاهُ كَذَّبَهُ فِي دَعْوَاهُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَ أَبِي زَيْدٌ وَآخَرُ لَا أَعْرِفُهُ .
وَقَالَ الْآخَرُ : قَتَلَهُ عَمْرٌو وَآخَرُ لَا أَعْرِفُهُ .
لَمْ تَثْبُتْ الْقَسَامَةُ ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّهُمَا مَا اتَّفَقَا فِي الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْلِفَا عَلَى مَنْ لَمْ يَتَّفِقَا فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ ، وَالْحَقُّ إنَّمَا ثَبَتَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ بِأَيْمَانِ الْجَمِيعِ ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ بِأَيْمَانِ الْبَعْضِ ؟ ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي : تَثْبُتُ الْقَسَامَةُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا تَكْذِيبٌ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي جَهِلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، هُوَ الَّذِي عَرَفَهُ أَخُوهُ ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الَّذِي عَيَّنَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَيَسْتَحِقُّ رُبْعَ الدِّيَةِ ، فَإِنْ عَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَقَالَ : قَدْ عَرَفْت الَّذِي جَهِلَهُ ، وَهُوَ الَّذِي عَيَّنَهُ أَخِي .
حَلَفَ أَيْضًا عَلَى الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ أَخُوهُ ، وَأَخَذَ مِنْهُ رُبْعَ الدِّيَةِ ، وَيَحْلِفُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى أَيْمَانِ أَخِيهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ، كَمَا لَوْ عَرَفَهُ ابْتِدَاءً .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ أَخَاهُ حَلَفَ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي هَذَا قَوْلَانِ كَالْوَجْهَيْنِ .
وَيَجِيءُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَحْلِفُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَاَلَّذِي يَسْتَحِقُّهُ النِّصْفُ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْأَيْمَانِ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَخُوهُ مَعَهُ .
وَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : الَّذِي كُنْت جَهِلْتُهُ غَيْرُ الَّذِي عَيَّنَهُ أَخِي .
بَطَلَتْ الْقَسَامَةُ الَّتِي
أَقْسَمَاهَا ؛ لِأَنَّ التَّكْذِيبَ يَقْدَحُ فِي اللَّوْثِ ؛ فَيَرُدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَخَذَ مِنْ الدِّيَةِ .
وَإِنْ كَذَّبَ أَحَدُهُمَا أَخَاهُ ، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ الْآخَرُ ، بَطَلَتْ قَسَامَةُ الْمُكَذَّبِ دُونَ الَّذِي لَمْ يُكَذَّبْ .
( 7019 ) فَصْلٌ : إنْ قَالَ الْوَلِيُّ بَعْدَ الْقَسَامَةِ : غَلِطْت ، مَا هَذَا الَّذِي قَتَلَهُ .
أَوْ : ظَلَمْتُهُ بِدَعْوَايَ الْقَتْلَ عَلَيْهِ .
أَوْ قَالَ : كَانَ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي بَلَدٍ آخَرَ يَوْمَ قَتْلِ وَلِيِّي ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا بُعْدٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا كَانَ فِيهِ .
بَطَلَتْ الْقَسَامَةُ ، وَلَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ .
وَإِنْ قَالَ : مَا أَخَذْتُهُ حَرَامٌ .
سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّنِي كَذَبْت فِي دَعْوَايَ عَلَيْهِ .
بَطَلَتْ قَسَامَتُهُ أَيْضًا .
وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت أَنَّ الْأَيْمَانَ تَكُونُ فِي جَنَبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ .
لَمْ تَبْطُلْ الْقَسَامَةُ ؛ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ ، فَيُقَدَّمُ عَلَى اعْتِقَادِهِ ، وَإِنْ قَالَ : هَذَا مَغْصُوبٌ .
وَأَقَرَّ بِمَنْ غَصَبَ مِنْهُ ، لَزِمَهُ رَدُّهُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لِأَحَدٍ ، لَمْ تُرْفَعْ يَدُهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مُسْتَحِقُّهُ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِقَصْدِهِ .
( 7020 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَقْتُولِ ، لَا يُمْكِنُ مَجِيئُهُ مِنْهُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، بَطَلَتْ الدَّعْوَى .
وَإِنْ قَالَتْ الْبَيِّنَةُ : نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَقْتُلْهُ .
لَمْ تُسْمَعْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُجَرَّدٌ .
فَإِنْ قَالَا : مَا قَتَلَهُ فُلَانٌ ، بَلْ قَتَلَهُ فُلَانٌ .
سُمِعَتْ ؛ لِأَنَّهَا شَهِدَتْ بِإِثْبَاتٍ تَضَمَّنَ النَّفْيَ ، فَسُمِعَتْ ، كَمَا لَوْ قَالَتْ : مَا قَتَلَهُ فُلَانٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَوْمَ الْقَتْلِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ .
فَصْلٌ : فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : مَا قَتَلَهُ هَذَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، بَلْ أَنَا قَتَلْتُهُ .
فَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ ، لَمْ تَبْطُلْ دَعْوَاهُ ، وَلَهُ الْقَسَامَةُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الدِّيَةِ إنْ كَانَ أَخَذَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ ، وَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِمَنْ يُكَذِّبُهُ .
وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلِيُّ ، أَوْ طَالَبَهُ بِمُوجَبِ الْقَتْلِ ، لَزِمَهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ ، وَبَطَلَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَرَى مَجْرَى الْإِقْرَارِ بِبُطْلَانِ الدَّعْوَى .
وَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمُقِرِّ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَهُ مُطَالَبَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِحَقٍّ ، فَمَلَكَ مُطَالَبَتَهُ بِهِ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَالثَّانِي : لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ عَلَى الْأَوَّلِ انْفِرَادَهُ بِالْقَتْلِ ؛ إبْرَاءٌ لِغَيْرِهِ ، فَلَا يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ مَنْ أَبْرَأَهُ .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّهُ يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُمَا ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ الثَّانِي بِالدِّيَةِ ، فَإِنَّهُ قَالَ ، فِي رَجُلٍ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِالْقَتْلِ ، فَأُخِذَ لِيُقَادَ مِنْهُ ، فَجَاءَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : مَا قَتَلَهُ هَذَا ، أَنَا قَتَلْتُهُ : فَالْقَوَدُ يَسْقُطُ عَنْهُمَا ، وَالدِّيَةُ عَلَى الثَّانِي .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ ، أَنَّ رَجُلًا ذَبَحَ رَجُلًا فِي خَرِبَةٍ ، وَتَرَكَهُ وَهَرَبَ ، وَكَانَ قَصَّابٌ قَدْ ذَبَحَ شَاةً ، وَأَرَادَ ذَبْحَ أُخْرَى ، فَهَرَبَتْ مِنْهُ إلَى الْخَرِبَةِ ، فَتَبِعَهَا حَتَّى وَقَفَ عَلَى الْقَتِيلِ ، وَالسِّكِّينُ بِيَدِهِ مُلَطَّخَةٌ بِالدَّمِ ، فَأُخِذَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ ، وَجِيءَ بِهِ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ، فَقَالَ الْقَاتِلُ فِي نَفْسِهِ : يَا وَيْلَهُ ، قَتَلْت نَفْسًا ، وَيُقْتَلُ بِسَبَبِي آخَرُ فَقَامَ فَقَالَ : أَنَا قَتَلْتُهُ ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ هَذَا .
فَقَالَ عُمَرُ : إنْ كَانَ قَدْ قَتَلَ نَفْسًا فَقَدْ أَحْيَا نَفْسًا .
وَدَرَأَ عَنْهُ الْقِصَاصَ .
وَلِأَنَّ الدَّعْوَى عَلَى الْأَوَّلِ شُبْهَةٌ فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنْ الثَّانِي : وَتَجِبُ الدِّيَةُ
عَلَيْهِ ؛ لِإِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ الْمُوجِبِ لَهَا .
وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحُّ وَأَعْدَلُ ، مَعَ شَهَادَةِ الْأَثَرِ بِصِحَّتِهِ .
( 7022 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إذَا ادَّعَوْا الْقَتْلَ عَلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَتِيلِ لَوْثٌ ، شُرِعَتْ الْيَمِينُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِينَ أَوَّلًا ، فَيَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ ، وَثَبَتَ حَقُّهُمْ قِبَلَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا ، اُسْتُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَبُرِّئَ .
وَبِهَذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ ، وَرَبِيعَةُ ، وَأَبُو الزِّنَادِ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ أَوَّلًا خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَيُبَرَّءُونَ .
فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَحْلِفُوا ، اُسْتُحْلِفَ خَمْسُونَ مِنْ الْمُدَّعِينَ ، أَنَّ حَقَّنَا قِبَلَكُمْ ، ثُمَّ يُعْطَوْنَ الدِّيَةَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَفِي لَفْظٍ { : الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، فِي " مُسْنَدِهِ " .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَار { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ ، وَبَدَأَ بِهِمْ : يَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا .
فَأَبَوْا ، فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ : اسْتَحِقُّوا قَالُوا : نَحْلِفُ عَلَى الْغَيْبِ يَا رَسُول اللَّهِ .
فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِ } ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ؛ وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ فِي دَعْوَى ، فَوَجَبَتْ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ابْتِدَاءً كَسَائِرِ الدَّعَاوَى .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُسْتَحْلَفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا الْقَتِيلُ ، بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ ، وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلًا ، وَيُغَرَّمُونَ الدِّيَةَ ؛ لِقَضَاءِ عُمَرَ ، بِذَلِكَ .
وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَتَكَلَّمُوا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُجَيْدِ بْنِ قِبْطِيٍّ ، أَحَدِ بَنِي حَارِثَةَ ؛ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ : وَاَيْمُ اللَّهِ ، مَا كَانَ سَهْلٌ بِأَعْلَمَ مِنْهُ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَسَنَّ مِنْهُ ، قَالَ : وَاَللَّهِ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { احْلِفُوا عَلَى مَا لَا عِلْمَ لَكُمْ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَ إلَى يَهُودَ حِينَ كَلَّمَتْهُ الْأَنْصَارُ : إنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَبْيَاتِكُمْ قَتِيلٌ فَدُوهُ .
فَكَتَبُوا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلُوهُ ، وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ قَاتِلًا ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ } .
.
وَلَنَا حَدِيثُ سَهْلٍ ، وَهُوَ صَحِيحٌ مُتَّفَقُ عَلَيْهِ ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ ، فِي " مُوَطَّئِهِ " ، وَعَمِلَ بِهِ .
وَمَا عَارَضَهُ مِنْ الْحَدِيثِ لَا يَصِحُّ لِوُجُوهٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّهُ نَفْيٌ ، فَلَا يُرَدُّ بِهِ قَوْلُ الْمُثْبِتِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ سَهْلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهَدَ الْقِصَّةَ ، وَعَرَفَهَا ، حَتَّى إنَّهُ قَالَ : رَكَضَتْنِي نَاقَةٌ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ وَالْآخَرَ يَقُولُ بِرَأْيِهِ وَظَنِّهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْوِيَهُ عَنْ أَحَدٍ ، وَلَا حَضَرَ الْقِصَّةَ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ حَدِيثَنَا مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَحَدِيثُهُمْ بِخِلَافِهِ .
الرَّابِعُ ، أَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِحَدِيثِهِمْ ، وَلَا حَدِيثِنَا ، فَكَيْفَ يَحْتَجُّونَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا خَالَفُوهُ فِيهِ ، وَحَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ صُحْبَةً ، فَهُوَ أَدْنَى لَهُمْ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ ، وَقَدْ خَالَفَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ ، وَحَدِيثُ : { الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
لَمْ تُرَدَّ بِهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاسَ لَا يُعْطَوْنَ بِدَعْوَاهُمْ ، وَهَا هُنَا قَدْ أُعْطُوا بِدَعْوَاهُمْ ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَنَا أَخَصُّ مِنْهُ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ ، ثُمَّ
هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ؛ لِكَوْنِ الْمُدَّعِينَ أُعْطُوا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُمْ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا يَمِينٍ مِنْهُمْ ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ، إلَّا فِي الْقَسَامَةِ } وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ يَتَعَيَّنُ الْعَمَلُ بِهَا ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ ؛ وَلِأَنَّهَا أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ .
فَيُبْدَأُ فِيهَا بِأَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ ، كَاللِّعَانِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ أَيْمَانَ الْقَسَامَةِ خَمْسُونَ مُرَدَّدَةً ، عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ ، لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِيهِ .
( 7023 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إذَا حَلَفُوا اسْتَحَقُّوا الْقَوَدَ ، إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَمْدًا ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَإِسْحَاقَ : لَا تَجِبُ بِهَا الدِّيَةُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ : { إمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ } .
وَلِأَنَّ أَيْمَانَ الْمُدَّعِينَ إنَّمَا هِيَ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ ، وَحُكْمِ الظَّاهِرِ ، فَلَا يَجُوزُ إشَاطَةُ الدَّمِ بِهَا ؛ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ الْمُتَمَكِّنَةِ مِنْهَا ، وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ لَا يَثْبُتُ بِهَا النِّكَاحُ ، وَلَا يَجِبُ بِهَا الْقِصَاصُ ، كَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ } .
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ : { فَيُسَلَّمُ إلَيْكُمْ } .
وَفِي لَفْظٍ : { وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ } وَأَرَادَ دَمَ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْقَتِيلِ ثَابِتٌ لَهُمْ قَبْلَ الْيَمِينِ .
وَالرُّمَّةُ : الْحَبْلُ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ مَنْ عَلَيْهِ الْقَوَدُ .
وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا الْعَمْدُ ، فَيَجِبُ بِهَا الْقَوَدُ ، كَالْبَيِّنَةِ .
وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَادَ بِالْقَسَامَةِ الطَّائِفَةَ } .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَلِأَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُدَّعِي مَعَ يَمِينِهِ ، احْتِيَاطًا لِلدَّمِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ ، سَقَطَ هَذَا الْمَعْنَى .
( 7024 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعُونَ ، حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَبُرِّئَ هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ ، وَرَبِيعَةُ ، وَأَبُو الزِّنَادِ ، وَمَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ ، وَيُغَرَّمُونَ الدِّيَةَ ؛ لِقَضِيَّةِ عُمَرَ ، وَخَبَرِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ } .
أَيْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْكُمْ .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : { فَيَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَيَبْرَءُونَ مِنْ دَمِهِ } .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُغَرِّمْ الْيَهُودَ ، وَأَنَّهُ أَدَّاهَا مِنْ عِنْدِهِ ، وَلِأَنَّهَا أَيْمَانٌ مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيَبْرَأُ بِهَا ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إعْطَاءٌ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْخَبَرِ ، وَمُخَالَفَةِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَ الْإِنْسَانِ لَا يُقْبَلُ عَلَى غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِهِ ، كَدَعْوَى الْمَالِ ، وَسَائِرِ الْحُقُوقِ ؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْيَمِينِ وَالْغُرْمِ ، فَلَمْ يُشْرَعْ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ .
( 7025 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعُونَ ، وَلَمْ يَرْضَوْا بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَدَاهُ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يَعْنِي أَدَّى دِيَتَهُ ؛ لِقَضِيَّةِ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ حِينَ قُتِلَ بِخَيْبَرَ ، فَأَبَى الْأَنْصَارُ أَنْ يَحْلِفُوا ؛ وَقَالُوا : كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفَّارٍ ؟ فَوَدَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِهِ .
كَرَاهِيَةَ أَنْ يُطَلَّ دَمُهُ } .
فَإِنْ تَعَذَّرَ فِدَاؤُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُوجِبُهُ عَلَيْهِمْ الْيَمِينُ ، وَقَدْ امْتَنَعَ مُسْتَحِقُّوهَا مِنْ اسْتِيفَائِهَا ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُمْ غَيْرُهَا ، كَدَعْوَى الْمَالِ .
( 7026 ) فَصْلٌ : وَإِنْ امْتَنَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مِنْ الْيَمِينِ ، لَمْ يُحْبَسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُمْ يُحْبَسُونَ حَتَّى يَحْلِفُوا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا يَمِينٌ مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَلَمْ يُحْبَسْ عَلَيْهَا ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِالنُّكُولِ ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ ، فَلَا يُشَاطُ بِهَا الدَّمُ ، كَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيَدِيهِ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَرَوَى عَنْهُ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ ، أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ .
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنُّكُولِ ، فَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ هَاهُنَا ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، يُفْضِي إلَى إهْدَارِ الدَّمِ ، وَإِسْقَاطِ حَقِّ الْمُدَّعِينَ ، مَعَ إمْكَانِ جَبْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ تَوَجَّهَتْ فِي دَعْوَى أَمْكَنَ إيجَابُ الْمَالِ بِهَا ، فَلَمْ تَخْلُ مِنْ وُجُوبِ شَيْءٍ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَهَا هُنَا لَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالٌ بِنُكُولِهِ ، وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْيَمِينِ ؛ لَخَلَا مِنْ وُجُوبِ شَيْءٍ عَلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ رُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعِينَ ، إنْ قُلْنَا : مُوجَبُهَا الْمَالُ .
فَإِنْ حَلَفُوا ، اسْتَحَقُّوا ، وَإِنْ نَكَلُوا ، فَلَا شَيْءَ لَهُمْ .
وَإِنْ قُلْنَا : مُوجَبُهَا الْقِصَاصُ .
فَهَلْ تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعِينَ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصْلُحُ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا شُرِعَتْ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا نَكَلَ عَنْهَا الْمُدَّعِي ، فَلَا تُرَدُّ عَلَيْهِ ، كَمَا لَا تُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا نَكَلَ الْمُدَّعِي عَنْهَا بَعْدَ رَدِّهَا عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ مَرْدُودَةٌ عَلَى أَحَدِ
الْمُتَدَاعِيَيْنِ ، فَلَا تُرَدُّ عَلَى مَنْ رَدَّهَا ، كَدَعْوَى الْمَالِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَنَّ الْمَجْرُوحَ قَالَ : دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ .
فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لِلْقَسَامَةِ ، مَا لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْم ؛ مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ : هُوَ لَوْثٌ ؛ لِأَنَّ قَتِيلَ بَنِي إسْرَائِيلَ قَالَ : قَتَلَنِي فُلَانٌ .
فَكَانَ حُجَّةً .
وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ ، لَادَّعَى قَوْمُ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ } وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي حَقًّا لِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَمُتْ ؛ وَلِأَنَّهُ خَصْمٌ ، فَلَمْ تَكُنْ دَعْوَاهُ لَوْثًا ، كَالْوَلِيِّ .
فَأَمَّا قَتِيلُ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيهِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَمُعْجِزَاتِ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، حَيْثُ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَأَنْطَقَهُ بِقُدْرَتِهِ بِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ .
وَلَمْ يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى لِيُنْطِقَهُ بِالْكَذِبِ ، بِخِلَافِ الْحَيِّ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى مِثْلِ هَذَا الْيَوْمَ ، ثُمَّ ذَاكَ فِي تَنْزِيهِ الْمُتَّهَمِينَ ، فَلَا يَجُوزُ تَعْدِيَتُهَا إلَى تُهْمَةِ الْبَرِيئِينَ .
( 7028 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لَا يُقْسِمُونَ يَعْنِي إذَا كَانَ الْمُسْتَحِقُّ نِسَاءً وَصِبْيَانًا لَمْ يُقْسِمُوا ؛ أَمَّا الصِّبْيَانُ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْم أَنَّهُمْ لَا يُقْسِمُونَ ، سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ، أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ حُجَّةٌ لِلْحَالِفِ ، وَالصَّبِيُّ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ حُجَّةٌ ، وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ ، لَمْ يُقْبَلْ ، فَلَأَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى .
وَأَمَّا النِّسَاءُ فَإِذَا كُنَّ مِنْ أَهْلِ الْقَتِيلِ ، لَمْ يُسْتَحْلَفْنَ .
وَبِهَذَا قَالَ رَبِيعَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَهُنَّ مَدْخَلٌ فِي قَسَامَةِ الْخَطَإِ دُونَ الْعَمْدِ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَلَا يُقْسِمُ فِي الْعَمْدِ إلَّا اثْنَانِ فَصَاعِدًا ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْسِمُ كُلُّ وَارِثٍ بَالِغٍ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ فِي دَعْوًى ، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُقْسِمُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ } .
وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ يَثْبُتُ بِهَا قَتْلُ الْعَمْدِ ، فَلَا تُسْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ ، كَالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْمُدَّعَاةَ الَّتِي تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهَا هِيَ الْقَتْلُ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلنِّسَاءِ فِي إثْبَاتِهِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَالُ ضِمْنًا ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى رَجُلٍ ادَّعَى زَوْجِيَّةَ امْرَأَةٍ بَعْدَ مَوْتِهَا لِيَرِثَهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ ، وَلَا بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مَقْصُودَهَا الْمَالُ .
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُدَّعًى عَلَيْهَا الْقَتْلُ ، فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يُقْسِمُ مِنْ الْعَصَبَةِ رِجَالٌ .
لَمْ تُقْسِمْ الْمَرْأَةُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ .
وَإِنْ قُلْنَا : يُقْسِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ .
فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْتَحْلَفَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُثْبِتُ بِقَوْلِهَا حَقًّا وَلَا قَتْلًا ،
وَإِنَّمَا هِيَ لِتَبْرِئَتِهَا مِنْهُ ، فَتُشْرَعُ فِي حَقِّهَا الْيَمِينُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَوْثٌ .
فَعَلَى هَذَا ، إذَا كَانَ فِي الْأَوْلِيَاءِ نِسَاءٌ وَرِجَالٌ ، أَقْسَمَ الرِّجَالُ ، وَسَقَطَ حُكْمُ النِّسَاءِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صِبْيَانٌ وَرِجَالٌ بَالِغُونَ ، أَوْ كَانَ فِيهِمْ حَاضِرُونَ وَغَائِبُونَ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْقَسَامَةَ لَا تَثْبُتُ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ ، فَكَذَا لَا تَثْبُتُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَتِهِ الْكَامِلَةِ ، وَالْبَيِّنَةُ أَيْمَانُ الْأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ ، وَالْأَيْمَانُ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ ؛ وَلِأَنَّ الْحَقَّ إنْ كَانَ قِصَاصًا ، فَلَا يُمْكِنُ تَبْعِيضُهُ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي قَسَامَةِ الْحَاضِرِ الْبَالِغِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ ، فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِوَاسِطَةِ ثُبُوتِ الْقَتْلِ ، وَهُوَ لَا يَتَبَعَّضُ أَيْضًا .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا ، لَمْ يُقْسِمْ الْكَبِيرُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ ، وَلَا الْحَاضِرُ حَتَّى يَقْدَمَ الْغَائِبُ ؛ لِأَنَّ حَلِفَ الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِلْمَالِ ، كَالْخَطَإِ وَعَمْدِ الْخَطَإِ ، فَلِلْحَاضِرِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْلِفَ ، وَيَسْتَحِقَّ قِسْطَهُ مِنْ الدِّيَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، وَابْنِ حَامِدٍ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَاخْتَلَفُوا فِي كَمْ يُقْسِمُ الْحَاضِرُ ؟ فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : يُقْسِمُ بِقِسْطِهِ مِنْ الْأَيْمَانِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى اثْنَيْنِ أَقْسَمَ الْحَاضِرُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَمِينًا ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً أَقْسَمَ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا ، وَإِنْ كَانُوا أَرْبَعَةً أَقْسَمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ يَمِينًا ، وَكُلَّمَا قَدِمَ غَائِبٌ أَقْسَمَ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ ، وَاسْتَوْفَى حَقَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَمِيعُ حَاضِرِينَ ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا غَابَ بَعْضُهُمْ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ قِسْطِهِ مِنْ الدِّيَةِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ قِسْطِهِ مِنْ الْأَيْمَانِ .
وَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ : يَحْلِفُ الْأَوَّلُ خَمْسِينَ يَمِينًا .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ ، وَالْبَيِّنَةُ هِيَ الْأَيْمَانُ كُلُّهَا ، وَلِذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا دَيْنًا لِأَبِيهِمَا ، لَمْ يَسْتَحِقَّ نَصِيبَهُ مِنْهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ الْمُثْبِتَةِ لِجَمِيعِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْخَمْسِينَ فِي الْقَسَامَةِ كَالْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ .
وَلَوْ ادَّعَى مَالًا لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ ، لَهُ بِهِ شَاهِدٌ ، لَحَلَفَ يَمِينًا كَامِلَةً ، كَذَلِكَ هَذَا .
فَإِذَا قَدِمَ الثَّانِي : أَقْسَمَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَمِينًا ، وَجْهًا وَاحِدًا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى أَيْمَانِ أَخِيهِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يُقْسِمُ خَمْسِينَ يَمِينًا أَيْضًا ، لِأَنَّ أَخَاهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ بِخَمْسِينَ ، فَكَذَلِكَ هُوَ .
فَإِذَا قَدِمَ ثَالِثٌ ، أَوْ بَلَغَ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، يُقْسِمُ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى أَيْمَانِ أَخَوَيْهِ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، فِيهِ قَوْلَانِ ، أَحَدُهُمَا ؛ أَنَّهُ يُقْسِمُ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا .
وَالثَّانِي : خَمْسِينَ يَمِينًا وَإِنْ قَدِمَ رَابِعٌ ، كَانَ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7029 ) فَصْلٌ : وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقْسِمَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْقَسَامَةِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا لِلدَّمِ ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَانِعُ مِنْ يَمِينِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا قَسَامَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْقِلُ مِنْ الْعَقْلِ ، وَلَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِشَهَادَتِهِ ، أَشْبَهَ الْمَرْأَةَ .
( 7030 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَإِذَا خَلَّفَ الْمَقْتُولُ ثَلَاثَةَ بَنِينَ ، جُبِرَ الْكَسْرُ عَلَيْهِمْ ، فَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا .
اخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُ يَحْلِفُ مِنْ الْعَصَبَةِ الْوَارِثُ مِنْهُمْ وَغَيْرُ الْوَارِثِ ، خَمْسُونَ رَجُلًا ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَمِينًا وَاحِدَةً .
وَهَذَا قَوْلٌ لِمَالِكٍ ، فَعَلَى هَذَا ، يَحْلِفُ الْوَارِثُ مِنْهُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ دَمَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا خَمْسِينَ ، تُمِّمُوا مِنْ سَائِرِ الْعَصَبَةِ ، يُؤْخَذُ الْأَقْرَبُ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبُ مِنْ قَبِيلَتِهِ الَّتِي يَنْتَسِبُ إلَيْهَا ، وَيُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ نَسَبِهِ مِنْ الْمَقْتُولِ ، فَأَمَّا مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ الْقَبِيلَةِ ، وَلَمْ يُعْرَفْ وَجْهُ النَّسَبِ ، لَمْ يُقْسِمْ ؛ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قُرَشِيًّا وَالْمَقْتُولُ قُرَشِيٌّ ، وَلَا يُعْرَفُ كَيْفِيَّةُ نَسَبِهِ مِنْهُ ، فَلَا يُقْسِمُ ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ آدَمَ وَنُوحٍ ، وَكُلُّهُمْ يَرْجِعُونَ إلَى أَبٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ قُتِلَ مَنْ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ ، لَمْ يُقْسِمْ عَنْهُ سَائِرُ النَّاسِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ نَسَبِهِ خَمْسُونَ ، رُدِّدَتْ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ ، وَقُسِمَتْ بَيْنَهُمْ ، فَإِنْ انْكَسَرَتْ عَلَيْهِمْ ، جُبِرَ كَسْرُهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ : { يَحْلِفُ خَمْسُونَ رَجُلًا مِنْكُمْ ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ } .
وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ خَمْسُونَ رَجُلًا وَارِثًا ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ إلَّا أَخُوهُ ، أَوْ مَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ ، أَوْ أَقْرَبُ مِنْهُ نَسَبًا ، وَلِأَنَّهُ خَاطَبَ بِهَذَا بَنِي عَمِّهِ ، وَهُمْ غَيْرُ وَارِثِينَ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يُقْسِمُ إلَّا الْوَارِثُ ، وَتُعْرَضُ الْأَيْمَانُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، عَلَى حَسَبِ مَوَارِيثِهِمْ .
هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ
، وَاخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ فِي دَعْوَى حَقٍّ ، فَلَا تُشْرَعُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ ، كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، تُقْسَمُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ مِنْ الرِّجَالِ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ وَالْعَصَبَاتِ عَلَى قَدْرِ إرْثِهِمْ ، فَإِنْ انْقَسَمَتْ مِنْ غَيْرِ كَسْرٍ ، مِثْلُ أَنْ يُخَلِّفَ الْمَقْتُولُ اثْنَيْنِ ، أَوْ أَخًا وَزَوْجًا ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةَ بَنِينَ ، وَجَدًّا أَوْ أَخَوَيْنِ ، جُبِرَ الْكَسْرُ عَلَيْهِمْ ، فَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ تَكْمِيلَ الْخَمْسِينَ وَاجِبٌ ، وَلَا يُمْكِنُ تَبْعِيضُ الْيَمِينِ ، وَلَا حَمْلُ بَعْضِهِمْ لَهَا عَنْ بَعْضٍ ، فَوَجَبَ تَكْمِيلُ الْيَمِينِ الْمُنْكَسِرَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ .
وَإِنْ خَلَّفَ أَخًا مِنْ أَبٍ وَأَخًا مِنْ أُمٍّ ، فَعَلَى الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ سُدُسُ الْأَيْمَانِ ، ثُمَّ يُجْبَرُ الْكَسْرُ ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ تِسْعُ أَيْمَانٍ ، وَعَلَى الْأَخِ مِنْ الْأَبِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِينَ خَمْسِينَ يَمِينًا ، سَوَاءٌ تَسَاوَوْا فِي الْمِيرَاثِ أَوْ اخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا حَلَفَهُ الْوَاحِدُ إذَا انْفَرَدَ ، حَلَفَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ ، كَالْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى ، وَعَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ قَالَ : يُنْظَرُ إلَى مَنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْيَمِينِ .
فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْآخَرِ .
وَلَنَا ، عَلَى أَنَّ الْخَمْسِينَ تُقْسَمُ بَيْنَهُمْ ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ : { تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ } .
وَأَكْثَرُ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْأَيْمَانِ خَمْسُونَ ، وَلَوْ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ ، لَكَانَتْ مِائَةً وَمِائَتَيْنِ ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ؛ وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ لِلْمُدَّعِينَ ، فَلَمْ تَزِدْ عَلَى مَا يُشْرَعُ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ ، كَالْبَيِّنَةِ ،
وَيُفَارِقُ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي ، وَلِأَنَّهَا لَمْ يُمْكِنْ قِسْمَتُهَا ، فَكَمَلَتْ فِي حَقِّ وَاحِدٍ ؛ كَالْيَمِينِ الْمُنْكَسِرَةِ فِي الْقَسَامَةِ ، فَإِنَّهَا تُجْبَرُ وَتَكْمُلُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ ؛ لِكَوْنِهَا لَا تَتَبَعَّضُ ، وَمَا لَا يَتَبَعَّضُ يَكْمُلُ ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .
وَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِلْيَمِينِ عَمَّنْ عَلَيْهِ بَعْضُهَا ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ تَسَاوَى الْكَسْرَانِ ، بِأَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ نِصْفُهَا ، أَوْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ ثُلُثُهَا ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُهَا ؛ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى تَكْمُلُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ ، وَيَسْتَوِي مَنْ لَهُ فِي الْمُدَّعَى كَثِيرٌ وَقَلِيلٌ ، كَذَا هَاهُنَا ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يَتَحَمَّلَ الْيَمِينَ غَيْرُ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ، كَالْيَمِينِ الْكَامِلَةِ ، وَكَالْجُزْءِ الْأَكْبَرِ .
( 7031 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا قَسَامَةَ عَلَيْهِ بِحَالٍ ، وَهُوَ النِّسَاءُ ، سَقَطَ حُكْمُهُ ، فَإِذَا كَانَ ابْنٌ وَبِنْتٌ ، حَلَفَ الِابْنُ الْخَمْسِينَ كُلَّهَا .
وَإِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ وَأَخٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ ، قُسِمَتْ الْأَيْمَانُ بَيْنَ الْأَخَوَيْنِ ، عَلَى أَحَدَ عَشَرَ ، عَلَى الْأَخِ مِنْ الْأُمِّ ثَلَاثَةٌ ، وَعَلَى الْآخَرِ ثَمَانِيَةٌ ، ثُمَّ يُجْبَرُ الْكَسْرُ عَلَيْهِمَا ، فَيَحْلِفُ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ سَبْعَةً وَثَلَاثِينَ يَمِينًا ، وَالْأَخُ مِنْ الْأُمِّ أَرْبَعَ عَشْرَةَ يَمِينًا .
( 7032 ) فَصْلٌ : فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَحِقُّ ، انْتَقَلَ إلَى وَارِثِهِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَيْمَانِ ، وَكَانَتْ الْأَيْمَانُ بَيْنَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَوَارِيثِهِمْ ، وَيُجْبَرُ الْكَسْرُ فِيهَا عَلَيْهِمْ ، كَمَا يَنْجَبِرُ فِي حَقِّ وَرَثَةِ الْقَتِيلِ .
وَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُمْ ، قُسِمَ نَصِيبُهُ مِنْ الْأَيْمَانِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، فَلَوْ كَانَ لِلْقَتِيلِ ثَلَاثَةُ بَنِينَ ، كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا ، فَإِنْ مَاتَ بَعْضُهُمْ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمَ ، وَخَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ ، قُسِمَتْ أَيْمَانُهُ بَيْنَهُمْ ، فَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّةُ أَيْمَانٍ .
وَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ ، حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ تِسْعَةَ أَيْمَانٍ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَوْرُوثِ فِي إثْبَاتِ حُجَجِهِ ، كَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِهِ ، وَهَذَا مِنْ حُجَجِهِ ، وَلِذَلِكَ يَمْلِكُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ وَالْحَلِفَ فِي الْإِنْكَارِ ، وَمَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ فِي دَعْوَى الْمَالِ .
وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي الْأَيْمَانِ ، فَحَلَفَ بَعْضَهَا ، فَإِنَّ وَرَثَتَهُ يَسْتَأْنِفُونَ الْأَيْمَانَ ، وَلَا يَبْنُونَ عَلَى أَيْمَانِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ جَرَتْ مَجْرَى الْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَحَدٌ بِيَمِينِ غَيْرِهِ ، وَلَا يَبْطُلُ هَذَا بِمَا إذَا حَلَفَ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ ثُمَّ مَاتَ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمَالَ إرْثًا عَنْهُ ، لَا بِيَمِينِهِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ الْوَارِثَانِ ، كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا ، فَإِنَّ الدِّيَةَ تُسْتَحَقُّ بِيَمِينِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْأَيْمَانِ ، وَيَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ أَيْمَانِهِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُ الْعَدَدِ شَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِهَا .
( 7033 ) فَصْلٌ : وَلَوْ حَلَفَ بَعْضَ الْأَيْمَانِ ، ثُمَّ جُنَّ ، ثُمَّ أَفَاقَ ، فَإِنَّهُ يُتَمِّمُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ ؛ لِأَنَّ أَيْمَانَهُ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا ، وَيُفَارِقُ الْمَوْتَ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ إتْمَامُ الْأَيْمَانِ مِنْهُ ، وَغَيْرُهُ لَا يَبْنِي عَلَى يَمِينِهِ ، وَهَا هُنَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُتِمَّهَا إذَا أَفَاقَ ، وَلَا تَبْطُلُ بِالتَّفْرِيقِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَلَّفَهُ بَعْضَ الْأَيْمَانِ ، ثُمَّ تَشَاغَلَ عَنْهُ ، لَمْ تَبْطُلْ ، وَيُتِمُّهَا ، وَمَا لَا يُبْطِلُهُ التَّفْرِيقُ ، لَا يُبْطِلُهُ تَخَلُّلُ الْجُنُونِ لَهُ كَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةِ ، وَإِنْ حَلَفَ بَعْضَ الْأَيْمَانِ ، ثُمَّ عُزِلَ الْحَاكِمُ ، وَوُلِّيَ غَيْرُهُ ، أَتَمَّهَا عِنْدَ الثَّانِي : وَلَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْنَافُهَا ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بَعْضَهَا ، ثُمَّ سَأَلَ الْحَاكِمَ إنْظَارَهُ ، فَأَنْظَرَهُ ، بَنَى عَلَى مَا مَضَى ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِئْنَافُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
( 7034 ) فَصْلٌ : إذَا رُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ ، وَكَانَ عَمْدًا ، لَمْ تَجُزْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ ، فَيَحْلِفُ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَإِنْ كَانَتْ عَنْ غَيْر عَمْدٍ ، كَالْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ مِنْ شَرْطِهَا اللَّوْثُ ، وَالْعَدَاوَةُ ، إنَّمَا أَثَرُهَا فِي تَعَمُّدِ الْقَتْلِ ، لَا فِي خَطَئِهِ ، فَإِنَّ احْتِمَالَ الْخَطَإِ فِي الْعَمْدِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ .
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : فِيهِ قَسَامَةٌ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ اللَّوْثَ لَا يَخْتَصُّ الْعَدَاوَةَ عِنْدَهُمْ .
فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ الدَّعْوَى عَلَى جَمَاعَةٍ ، فَإِذَا اُدُّعِيَ عَلَى جَمَاعَةٍ ، لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسُونَ يَمِينًا .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : تُقْسَمُ الْأَيْمَانُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ، كَقَسْمِهَا بَيْنَ الْمُدَّعِينَ ، إلَّا أَنَّهَا هَاهُنَا تُقْسَمُ بِالسَّوِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ مُتَسَاوُونَ فِيهَا ، فَهُمْ كَبَنِي الْمَيِّتِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالْوَجْهَيْنِ .
وَالْحُجَّةُ لِهَذَا الْقَوْلِ ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا } .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : { فَيَحْلِفُونَ لَكُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَيَبْرَءُونَ مِنْ دَمِهِ } .
وَلِأَنَّهُمْ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فِي الْقَسَامَةِ ، فَتَسْقُطُ الْأَيْمَانُ عَلَى عَدَدِهِمْ ، كَالْمُدَّعِينَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْلِفُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا خَمْسِينَ رَجُلًا ، رُدِّدَتْ عَلَى مَنْ حَلَفَ مِنْهُمْ حَتَّى تَكْمُلَ خَمْسِينَ يَمِينًا ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ يَحْلِفُ إلَّا الَّذِي اُدُّعِيَ عَلَيْهِ ، حَلَفَ وَحْدَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا } .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذِهِ أَيْمَانٌ يُبْرِئُ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ نَفْسَهُ مِنْ الْقَتْلِ ، فَكَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ خَمْسُونَ ، كَمَا لَوْ اُدُّعِيَ عَلَى كُلِّ
وَاحِدٍ وَحْدَهُ قَتِيلٌ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُبْرِئُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَالَ الِاشْتِرَاكِ إلَّا مَا يُبْرِئُهُ حَالَ الِانْفِرَادِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ ، بِخِلَافِ الْمُدَّعِينَ ، فَإِنَّ أَيْمَانَهُمْ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَلْفِيقِهَا تَلْفِيقُ مَا يَخْتَلِفُ مَدْلُولُهُ أَوْ مَقْصُودُهُ .
( 7035 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ يُقْتَلُ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ تُوجِبُ الْقَوَدَ ، إلَّا أَنْ يُحِبَّ الْأَوْلِيَاءُ أَخْذَ الدِّيَةِ أَمَّا إذَا كَانَ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا حُرًّا ، فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَسَامَةِ قِصَّةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ حِينَ قُتِلَ بِخَيْبَرَ ، فَاتُّهِمَ الْيَهُودُ بِقَتْلِهِ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا ، وَكَانَ قَاتِلُهُ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ ، وَهُوَ الْمُمَاثِلُ لَهُ فِي حَالِهِ ، فَفِيهِ الْقَسَامَةُ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : لَا قَسَامَةَ فِي الْعَبْدِ ؛ فَإِنَّهُ مَالٌ ، فَلَمْ تَجِبْ الْقَسَامَةُ فِيهِ ، كَقَتْلِ الْبَهِيمَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَتْلٌ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ ، فَأَوْجَبَ الْقَسَامَةَ ، كَقَتْلِ الْحُرِّ ، وَفَارَقَ الْبَهِيمَةَ ؛ فَإِنَّهَا لَا قِصَاصَ فِيهَا .
وَيُقْسِمُ عَلَى الْعَبْدِ سَيِّدُهُ ، لِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِدَمِهِ .
وَأُمُّ الْوَلَدِ ، وَالْمُدَبَّرُ ، وَالْمُكَاتَبُ ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ ، كَالْقِنِّ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَابِتٌ فِيهِمْ .
وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِمَّنْ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ، كَالْمُسْلِمِ يَقْتُلُ كَافِرًا ، وَالْحُرِّ يَقْتُلُ عَبْدًا ، فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ ، فِي ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَة إنَّمَا تَكُونُ فِيمَا يُوجِبُ الْقَوَدَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهِمَا الْقَسَامَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ قَتْلُ آدَمِيٍّ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، فَشَرَعَتْ الْقَسَامَةُ فِيهِ ، كَقَتْلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ حُجَّةً فِي قَتْلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ، كَانَ حُجَّةً فِي قَتْلِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ ،
كَالْبَيِّنَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَتْلٌ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، فَأَشْبَهَ قَتْلَ الْبَهِيمَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ شَرْعِهَا فِيمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، شَرْعُهَا مَعَ عَدَمِهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا اُتُّهِمَ بِقَتْلِ سَيِّدِهِ ، شُرِعَتْ الْقَسَامَةُ إذَا كَانَ الْقَتْلُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لَمْ تُشْرَعْ الْقَسَامَةُ .
( 7036 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قُتِلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ ، فَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى الْجَانِي ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْعَبْدِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَفِي بَدَلِهِ ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ انْتِزَاعُهُ مِنْهُ ، وَلَهُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ .
وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عَبْدًا ، فَقُتِلَ ، فَالْقَسَامَةُ لِسَيِّدِهِ دُونَهُ ؛ لِأَنَّ مَا يَبْتَاعُهُ الْمَأْذُونُ يَمْلِكُهُ سَيِّدُهُ دُونَهُ ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ مِنْهُ .
وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمَ ، فَلِسَيِّدِهِ أَنْ يُقْسِمَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ الْمُسْتَحِقَّ لِبَدَلِ الْمَقْتُولِ ، بِمَنْزِلَةِ وَرَثَةِ الْحُرِّ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْسِمَ ، وَلَوْ مَلَّكَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ عَبْدًا فَقُتِلَ ، فَالْقَسَامَةُ لِلسَّيِّدِ ، سَوَاءٌ قُلْنَا : يَمْلِكُ الْعَبْدُ بِالتَّمْلِيكِ ، أَوْ لَا يَمْلِكُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَمْلِكْ ، فَالْمِلْكُ لِسَيِّدِهِ ، وَإِنْ مَلَكَ فَهُوَ مِلْكٌ غَيْرُ ثَابِتٍ ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ سَيِّدُهُ انْتِزَاعَهُ مِنْهُ ؛ وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ .
وَإِنْ أَوْصَى لِأُمِّ وَلَدِهِ بِبَدَلِ الْعَبْدِ ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ ، كَمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِثَمَرَةٍ لَمْ تُخْلَقْ .
وَالْقَسَامَةُ لِلْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ الْقَائِمُونَ مَقَامَ الْمُوصِي فِي إثْبَاتِ حُقُوقِهِ ، فَإِذَا حَلَفُوا ، ثَبَتَ لَهَا الْبَدَلُ بِالْوَصِيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفُوا ، لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَحْلِفَ ، كَمَا إذَا امْتَنَعَ الْوَرَثَةُ مِنْ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ .
( 7037 ) فَصْلٌ : وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ ، كَغَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ، فِي دَعْوَى الْقَتْلِ ، وَالدَّعْوَى عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِمَالٍ ، أَوْ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ بِالنُّكُولِ عَنْ الْيَمِينِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِي حَالِ حَجْرِهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ فِي الْحَالِ غَيْرُ مَقْبُولٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَالِ ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
( 7038 ) فَصْلٌ : وَلَوْ جُرِحَ مُسْلِمٌ فَارْتَدَّ ، وَمَاتَ عَلَى الرِّدَّةِ ، فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْجُرْحَ ، وَلَا قَسَامَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَلِأَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ فَيْئًا ، وَالْفَيْءُ لَيْسَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ مُعَيَّنٌ فَتَثْبُتُ الْقَسَامَةُ لَهُ .
وَإِنْ مَاتَ مُسْلِمًا ، فَارْتَدَّ وَارِثُهُ قَبْلَ الْقَسَامَةِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ ، وَإِنْ أَقْسَمَ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ عَنْ مَالِهِ وَحُقُوقِهِ ، فَلَا يَبْقَى مُسْتَحِقًّا لِلْقَسَامَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ .
وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى الشِّرْكِ الَّذِي لَا ذَنْبَ أَعْظَمُ مِنْهُ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ دَمَ مُسْلِمٍ ، وَلَا يَثْبُتُ بِهَا قَتْلٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : الْأَوْلَى أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ ، فَإِنْ أَقْسَمَ ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَالِ بِالْقَسَامَةِ حَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا يَبْطُلُ بِرِدَّتِهِ ، كَاكْتِسَابِ الْمَالِ بِوُجُوهِ الِاكْتِسَابِ ، وَكُفْرُهُ لَا يَمْنَعُ يَمِينَهُ ، فَإِنَّ الْكَافِرَ تَصِحُّ يَمِينُهُ ، وَتُعْرَضُ عَلَيْهِ فِي الدَّعَاوَى فَإِنْ حَلَفَ ، ثَبَتَ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ ، فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ ، كَانَ لَهُ ، وَإِنْ مَاتَ كَانَ فَيْئًا .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُرْتَدِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ قَدْ زَالَ عَنْهُ ، وَإِمَّا مَوْقُوفٌ ، وَحُقُوقُ الْمَالِ حُكْمُهَا حُكْمُهُ ؛ فَإِنْ قُلْنَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ ، فَلَا حَقَّ لَهُ ، وَإِنْ قُلْنَا : هُوَ مَوْقُوفٌ .
فَهُوَ قَبْلَ انْكِشَافِ حَالِهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِشَيْءٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ ، فَكَيْفَ وَقَتْلُ الْمُسْلِمِ أَمْرٌ كَبِيرٌ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَلَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشَّكِّ .
فَأَمَّا إنْ ارْتَدَّ قَبْلَ مَوْتِ مَوْرُوثِهِ ، لَمْ يَكُنْ وَارِثًا ، وَلَا حَقَّ لَهُ ، وَتَكُونُ الْقَسَامَةُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْوُرَّاثِ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ سِوَاهُ ، فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ ؛
لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ قَسَامَةِ غَيْرِهِ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى رَجَعَ قَبْلَ قَسْمِ الْمِيرَاثِ ، قُسِمَ لَهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا تَعُودُ الْقَسَامَةُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا اُسْتُحِقَّتْ عَلَى غَيْرِهِ .
وَإِنْ ارْتَدَّ رَجُلٌ فَقُتِلَ عَبْدُهُ ، أَوْ قُتِلَ ثُمَّ ارْتَدَّ ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُقْسِمَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ .
فَإِنْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ ، عَادَتْ الْقَسَامَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بَدَلَ الْعَبْدِ .
( 7039 ) فَصْلٌ : وَلَا قَسَامَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْأَطْرَافِ وَالْجَوَارِحِ .
وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا خِلَافًا ، وَمِمَّنْ قَالَ : لَا قَسَامَةَ فِي ذَلِكَ .
مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَثْبُتُ فِي النَّفْسِ لِحُرْمَتِهَا ، فَاخْتَصَّتْ بِهَا دُونَ الْأَطْرَافِ ، كَالْكَفَّارَةِ ؛ وَلِأَنَّهَا تَثْبُتُ حَيْثُ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُهُ التَّعْبِيرُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَتَعْيِينُ قَاتِلِهِ ، وَمَنْ قُطِعَ طَرَفُهُ ، يُمْكِنُهُ ذَلِكَ ، وَحُكْمُ الدَّعْوَى فِيهِ حُكْمُ الدَّعْوَى فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ يَمِينًا وَاحِدَةً ؛ وَلِأَنَّهَا دَعْوَى لَا قَسَامَةَ فِيهَا ، فَلَا تُغَلَّظُ بِالْعَدَدِ ، كَالدَّعْوَى فِي الْمَالِ .
( 7040 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَلَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْقَسَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ قَتْلِ وَاحِدٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُسْتَحَقُّ بِهَا قَتْلُ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقَوَدِ ، فَاسْتَوَى فِيهَا الْوَاحِدُ وَالْجَمَاعَةُ ، كَالْبَيِّنَةِ .
وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ ، فَيُدْفَعُ إلَيْكُمْ بِرُمَّتِهِ } .
فَخَصَّ بِهَا الْوَاحِدَ ؛ وَلِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ ضَعِيفَةٌ ، خُولِفَ بِهَا الْأَصْلُ فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ ، وَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ فِيمَا عَدَاهُ .
وَبَيَانُ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ بِهَا ، أَنَّهَا تَثْبُتُ بِاللَّوْثِ ، وَاللَّوْثُ شُبْهَةٌ مُغَلِّبَةٌ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَ الْمُدَّعِي ، وَالْقَوَدُ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهَا ، وَلِأَنَّ الْأَيْمَانَ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى تَثْبُتُ ابْتِدَاءً فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ .
وَبَيَانُ ضَعْفِهَا ، أَنَّهَا تَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي وَيَمِينِهِ ، مَعَ التُّهْمَةِ فِي حَقِّهِ ، وَالشَّكِّ فِي صِدْقِهِ ، وَقِيَامِ الْعَدَاوَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ حَقٍّ لِغَيْرِهِ ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ وَحْدَهُ فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ لِنَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
وَفَارَقَ الْبَيِّنَةَ ، فَإِنَّهَا قَوِيَتْ بِالْعَدَدِ ، وَعَدَالَةِ الشُّهُودِ ، وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِي حَقِّهِمْ مِنْ الْجِهَتَيْنِ ، فِي كَوْنِهِمْ لَا يُثْبِتُونَ لِأَنْفُسِهِمْ حَقًّا وَلَا نَفْعًا ، وَلَا يَدْفَعُونَ عَنْهَا ضُرًّا ، وَلَا عَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ بِهَا سَائِرُ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ الَّتِي تَنْتَفِي بِالشُّبُهَاتِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا قَسَامَةَ فِيمَا لَا قَوَدَ فِيهِ ، فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، فَيَطَّرِدُ قَوْلُهُ فِي أَنَّ
الْقَسَامَةَ لَا تُشْرَعُ إلَّا فِي حَقِّ وَاحِدٍ .
وَعِنْدَ غَيْرِهِ أَنَّ الْقَسَامَةَ تَجْرِي فِيمَا لَا قَوَدَ فِيهِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقْسِمُوا فِي هَذَا عَلَى جَمَاعَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
فَعَلَى هَذَا ، إنْ ادَّعَى عَلَى اثْنَيْنِ ، عَلَى أَحَدِهِمَا لَوْثٌ ، حَلَفَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ اللَّوْثُ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الدِّيَةِ عَلَيْهِ ، وَحَلَفَ الْآخَرُ يَمِينًا وَاحِدَةً ، وَبُرِّئَ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ .
وَإِنْ ادَّعَى عَلَى ثَلَاثَةٍ عَلَيْهِمْ لَوْثٌ ، وَلَمْ يَحْضُرْ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، حَلَفَ عَلَى الْحَاضِرِ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَاسْتَحَقَّ ثُلُثَ الدِّيَةِ ، فَإِذَا حَضَرَ الثَّانِي : فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَحْلِفُ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا أَيْضًا ، وَيَسْتَحِقُّ ثُلُثَ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ عَلَى الْآخَرِ ، كَالْبَيِّنَةِ ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ عَلَى الثَّانِي : كَإِقَامَتِهَا عَلَى الْأَوَّلِ .
وَالثَّانِي : يَحْلِفُ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ حَضَرَا مَعًا ، لَحَلَفَ عَلَيْهِمَا خَمْسِينَ يَمِينًا ، حِصَّةُ هَذَا مِنْهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ .
وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الْيَمِينَ لَا تُقْسَمُ عَلَيْهِمْ إذَا حَضَرُوا ، وَلَوْ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مُنْفَرِدٍ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَيْمَانِ لَمْ يَصِحَّ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ ، وَإِنَّمَا الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ، وَتَتَنَاوَلُهُمْ تَنَاوُلًا وَاحِدًا ، وَلِأَنَّهَا لَوْ قُسِمَتْ عَلَيْهِمْ بِالْحِصَصِ ، لَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْسَمَ عَلَى الْأَوَّلِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَ عَشْرَةَ يَمِينًا ، وَكَذَلِكَ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ حِصَّتُهُ مِنْ الْأَيْمَانِ ، فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ ، لَا وَجْهَ لِحَلِفِهِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَمِينًا .
وَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا حَلَفَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ وَحِصَّةِ الثَّالِثِ .
فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ أَرْبَعَةً وَثَلَاثِينَ .
وَإِذَا قَدِمَ الثَّالِثُ : فَفِيهِ
الْوَجْهَانِ ؛ أَصَحُّهُمَا ، يَحْلِفَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَيَسْتَحِقُّ ثُلُثَ الدِّيَةِ .
وَالْآخَرُ ، يَحْلِفُ سَبْعَةَ عَشَرَ يَمِينًا .
وَإِنْ حَضَرُوا جَمِيعًا ، حَلَفَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَاسْتَحَقَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا ، وَهَذَا التَّفْرِيعُ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ حُضُورِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقْتَ الْأَيْمَانِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أُقِيمَتْ مُقَامَ الْبَيِّنَةِ ، فَاشْتُرِطَ حُضُورُ مَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ ، كَالْبَيِّنَةِ .
وَكَذَلِكَ إنْ رُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ ، اُشْتُرِطَ حُضُورُ الْمُدَّعِينَ وَقْتَ حَلِفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ ، فَيُعْتَبَرُ رِضَاهُ بِهَا وَحُضُورُهُ ، إلَّا أَنْ يُوَكِّلَ وَكِيلًا ، فَيَقُومَ حُضُورُهُ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ .
( 7041 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي : قَتَلَهُ هَذَا وَرَجُلٌ آخَرُ لَا أَعْرِفُهُ .
وَكَانَ عَلَى الْمُعَيَّنِ لَوْثٌ ، أَقْسَمَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا ، وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الدِّيَةِ ، فَإِنْ تَعَيَّنَ لَهُ الْآخَرُ ، حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ الدِّيَةِ .
وَإِنْ قَالَ : قَتَلَهُ هَذَا ، وَنَفَرٌ لَا أَعْلَمُ عَدَدَهُمْ .
لَمْ تَجِبْ الْقَسَامَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَمْ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ .
( 7042 ) فَصْلٌ : وَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إلَّا مُحَرَّرَةً ، بِأَنْ يَقُولَ : أَدَّعِي أَنَّ هَذَا قَتَلَ وَلِيِّي فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ ، عَمْدًا ، أَوْ خَطَأً ، أَوْ شِبْهَ الْعَمْدِ .
وَيَصِفُ الْقَتْلَ ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا قَالَ : قَصَدَ إلَيْهِ بِسَيْفٍ ، أَوْ بِمَا يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا .
فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ ، فَأَقَرَّ ثَبَتَ الْقَتْلُ ، وَإِنْ أَنْكَرَ وَثَمَّ بَيِّنَةٌ ، حُكِمَ بِهَا ، وَإِلَّا صَارَ الْأَمْرُ إلَى الْأَيْمَانِ .
وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يَقُولَ : قَتَلَهُ هَذَا ، وَهَذَا تَعَمَّدَ قَتْلَهُ .
وَيَصِفُ الْعَمْدَ بِصِفَتِهِ ، فَيُقَالُ لَهُ : عَيِّنْ وَاحِدًا .
فَإِنَّ الْقَسَامَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْقَوَدِ لَا تَكُونُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ .
الْحَالُ الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ : تَعَمَّدَ هَذَا ، وَهَذَا كَانَ خَاطِئًا ، فَهُوَ يَدَّعِي قَتْلًا غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْقَوَدِ ، فَيُقْسِمُ عَلَيْهِمَا ، وَيَأْخُذُ نِصْفَ الدِّيَةِ مِنْ مَالِ الْعَامِدِ ، وَنِصْفَهَا مِنْ عَاقِلَةِ الْمُخْطِئِ .
الْحَالُ الثَّالِثُ ؛ أَنْ يَقُولَ : عَمَدَ هَذَا ، وَلَا أَدْرِي أَكَانَ قَتْلُ الثَّانِي عَمْدًا أَوْ خَطَأً ؟ فَقِيلَ : لَا تَسُوغُ الْقَسَامَةُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مُخْطِئًا ، فَيَكُونَ مُوجَبُهَا الدِّيَةَ عَلَيْهِمَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَامِدًا ، فَلَا تَسُوغُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِمَا ، وَيَجِبُ تَعْيِينُ وَاحِدٍ ، وَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ مُوجَبُهَا الْقَوَدَ ، فَلَمْ تَجُزْ الْقَسَامَةُ مَعَ هَذَا .
فَإِنْ عَادَ فَقَالَ : عَلِمْت أَنَّ الْآخَرَ كَانَ عَامِدًا .
فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ وَاحِدًا ، وَيُقْسِمَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ قَالَ : كَانَ مُخْطِئًا .
ثَبَتَتْ الْقَسَامَةُ حِينَئِذٍ ، وَيُسْأَلُ ، فَإِنْ أَنْكَرَ ، ثَبَتَتْ الْقَسَامَةُ .
وَإِنْ أَقَرَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ لَا بِالْقَسَامَةِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا
تَحْمِلُ اعْتِرَافًا .
الْحَالُ الرَّابِعُ ، أَنْ يَقُولَ : قَتَلَاهُ خَطَأً ، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ، أَوْ أَحَدُهُمَا خَاطِئٌ ، وَالْآخَرُ شِبْهُ الْعَمْدِ .
فَلَهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَيْهِمَا .
فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ عَمْدًا ، فَسُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْعَمْدِ ، فَفَسَّرَهُ بِعَمْدِ الْخَطَإِ ، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ ، وَأَقْسَمَ عَلَى مَا فَسَّرَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي وَصْفِ الْقَتْلِ بِالْعَمْدِيَّةِ .
وَنَقْلَ الْمُزَنِيّ ، عَنْ الشَّافِعِيِّ : لَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْعَمْدِ بَرَّأَ الْعَاقِلَةَ ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْمَالَ .
وَلَنَا ، أَنَّ دَعْوَاهُ قَدْ تَحَرَّرَتْ ، وَإِنَّمَا غَلِطَ فِي تَسْمِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ عَمْدًا ، وَهَذَا مِمَّا يَشْتَبِهُ ، فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ .
وَلَوْ أَحْلَفَهُ الْحَاكِمُ قَبْلَ تَحْرِيرِ الدَّعْوَى وَتَبَيُّنِ نَوْعِ الْقَتْلِ ، لَمْ يُعْتَدَّ بِالْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ غَيْرَ مُحَرَّرَةٍ ، فَكَأَنَّهُ حَلَّفَهُ قَبْلَ الدَّعْوَى ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُحَلِّفُهُ لِيُوجِبَ لَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا يَسْتَحِقُّهُ بِدَعْوَاهُ ، لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِالْيَمِينِ ، فَلَمْ يَصِحَّ .
( 7043 ) فَصْلٌ : قَالَ الْقَاضِي : يَجُوزُ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُقْسِمُوا عَلَى الْقَاتِلِ ، إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُ قَتَلَهُ ، وَإِنْ كَانُوا غَائِبِينَ عَنْ مَكَانِ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَنْصَارِ : { تَحْلِفُونَ ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ } .
وَكَانُوا بِالْمَدِينَةِ ، وَالْقَتْلُ بِخَيْبَرَ .
وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْلِفُ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ ، كَمَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى مِنْ إنْسَانٍ شَيْئًا ، فَجَاءَ آخَرُ يَدَّعِيهِ ، جَازَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِلْكُ الَّذِي بَاعَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ شَيْئًا بِخَطِّهِ أَوْ خَطِّ أَبِيهِ وَدَفْتَرِهِ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ ، وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ شَيْئًا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ عَيْبًا ، فَادَّعَى عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مَعِيبٌ ، وَأَرَادَ رَدَّهُ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ بَاعَهُ بَرِيئًا مِنْ الْعَيْبِ .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي إلَّا بَعْدَ الِاسْتِثْبَاتِ ، وَغَلَبَةِ ظَنٍّ يُقَارِبُ الْيَقِينَ ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ : اتَّقُوا اللَّهَ ، وَاسْتَثْبِتُوا .
وَيَعِظَهُمْ ، وَيُحَذِّرَهُمْ ، وَيَقْرَأَ عَلَيْهِمْ : { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } .
وَيُعَرِّفَهُمْ مَا فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ ، وَظُلْمِ الْبَرِيءِ ، وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَيُعَرِّفَهُمْ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
( 7044 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَظْهِرَ فِي أَلْفَاظِ الْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ تَأْكِيدًا ، فَيَقُولَ : وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالَمِ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورِ .
فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظَةِ : وَاَللَّهِ .
كَفَى ، أَوْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ ، أَوْ بِاَللَّهِ ، أَوْ تَاللَّهِ .
بِالْجَرِّ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْعَرَبِيَّةُ .
فَإِنْ قَالَهُ مَضْمُومًا ، أَوْ مَنْصُوبًا ، فَقَدْ لَحَنَ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيُجْزِئُهُ تَعَمَّدَهُ أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ ؛ لِأَنَّهُ لَحْنٌ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا تَأْكِيدٌ ، وَيَقُولُ : لَقَدْ قَتَلَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ وَيُشِيرُ إلَيْهِ فُلَانًا ابْنِي ، أَوْ أَخِي ، مُنْفَرِدًا بِقَتْلِهِ ، مَا شَرَكَهُ غَيْرُهُ .
وَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ قَالَ : مُنْفَرِدَيْنِ ، مَا شَرَكَهُمَا غَيْرُهُمَا .
ثُمَّ يَقُولُ : عَمْدًا أَوْ خَطَأً .
وَبِأَيِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ ، حَلَفَ ، أَجْزَأَ ، إذَا كَانَ إطْلَاقُهُ يَنْصَرِفُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَيَقُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْيَمِينِ : وَاَللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ ، وَلَا شَارَكْت فِي قَتْلِهِ ، وَلَا أَحْدَثْت شَيْئًا مَاتَ مِنْهُ ، وَلَا كَانَ سَبَبًا فِي مَوْتِهِ ، وَلَا مُعِينًا عَلَى مَوْتِهِ .
( 7045 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً ، أَوْ شَارَكَ فِيهَا ، أَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، وَكَانَ الْفِعْلُ خَطَأً ، فَعَلَى الْقَاتِلِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ، فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ .
وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ الْأَصْلُ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
الْآيَةَ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَى الْقَاتِلِ خَطَأً كَفَّارَةً سَوَاءً كَانَ الْمَقْتُولُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، وَتَجِبُ فِي قَتْلِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، سَوَاءٌ بَاشَرَهُ بِالْقَتْلِ ، أَوْ تَسَبَّبَ إلَى قَتْلِهِ بِسَبَبٍ يَضْمَنُ بِهِ النَّفْسَ ، كَحَفْرِ الْبِئْرِ ، وَنَصْبِ السِّكِّينِ ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ .
وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجِبُ بِالتَّسَبُّبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلٍ ، وَلِأَنَّهُ ضَمِنَ بَدَلَهُ بِغَيْرِ مُبَاشَرَةٍ لِلْقَتْلِ ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ كَالْعَاقِلَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي الضَّمَانِ ، فَكَانَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِتْلَافِ الْآدَمِيِّ ، يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُهُ ، فَتَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، كَمَا لَوْ كَانَ رَاكِبًا فَأَوْطَأَ دَابَّتَهُ إنْسَانًا .
وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِالْأَبِ إذَا أَكْرَهَ إنْسَانًا عَلَى قَتْلِ ابْنِهِ ؛ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ ، وَفَارَقَ الْعَاقِلَةَ ؛ فَإِنَّهَا تَتَحَمَّلُ عَنْ غَيْرِهَا .
وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهَا قَتْلٌ ، وَلَا تَسَبُّبٌ إلَيْهِ .
وَقَوْلُهُمْ : لَيْسَ بِقَتْلٍ .
مَمْنُوعٌ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيَلْزَمُ الشُّهُودَ الْكَفَّارَةُ ، سَوَاءٌ قَالُوا : أَخْطَأْنَا ، أَوْ تَعَمَّدْنَا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ بِالسَّبَبِ تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْخَطَأُ وَالْعَمْدُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَصَدَ بِهِ
الْقَتْلَ ، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى الْخَطَإِ ، فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ .
( 7046 ) فَصْلٌ : وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِ الْعَبْدِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تَجِبُ بِهِ ، لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، أَشْبَهَ الْبَهِيمَةَ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
وَلِأَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِهِ ، كَالْحُرِّ ، وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ ، وَيُفَارِقُ الْبَهَائِمَ بِذَلِكَ .
( 7047 ) فَصْلٌ : وَتَجِبُ بِقَتْلِ الْكَافِرِ الْمَضْمُونِ ، سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا .
وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَمَالِكٌ : لَا كَفَّارَةَ فِيهِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
فَمَفْهُومُهُ أَنْ لَا كَفَّارَةَ فِي غَيْرِ الْمُؤْمِنِ .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
وَالذِّمِّيُّ لَهُ مِيثَاقٌ ، وَهَذَا مَنْطُوقٌ يُقَدَّمُ عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ ، وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَقْتُولٌ ظُلْمًا ، فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِهِ ، كَالْمُسْلِمِ .
( 7048 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَتَلَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ ، وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي أَمْوَالِهِمَا ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ ، تَجِبُ بِالشَّرْعِ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ ، يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ ، فَتَعَلَّقَتْ بِهِمْ ، كَالدِّيَةِ .
وَتُفَارِقُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ بَدَنِيَّتَانِ ، وَهَذِهِ مَالِيَّةٌ ، أَشْبَهَتْ نَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ .
وَأَمَّا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ، فَلَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ ، وَلَا قَوْلَ لَهُمَا ، وَهَذِهِ تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ ، وَفِعْلُهُمَا مُتَحَقِّقٌ قَدْ أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا ، وَيَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَوْلِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعِتْقَ يَتَعَلَّقُ بِإِحْبَالِهِمَا دُونَ إعْتَاقِهِمَا بِقَوْلِهِمَا .
وَأَمَّا الْكَافِرُ فَتَجِبُ عَلَيْهِ ، وَتَكُونُ عُقُوبَةٌ عَلَيْهِ ، كَالْحُدُودِ .
( 7049 ) فَصْلٌ : وَمَنْ قَتَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُسْلِمًا يَعْتَقِدُهُ كَافِرًا ، أَوْ رَمَى إلَى صَفِّ الْكُفَّارِ ، فَأَصَابَ فِيهِمْ مُسْلِمًا فَقَتَلَهُ ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
( 7050 ) فَصْلٌ : وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ كُلَّ قَتْلٍ مُبَاحٍ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ ، كَقَتْلِ الْحَرْبِيِّ ، وَالْبَاغِي ، وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَالْقَتْلِ قِصَاصًا أَوْ حَدًّا ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ لِمَحْوِ الْمَأْمُورِ بِهِ .
وَأَمَّا الْخَطَأُ ، فَلَا يُوصَفُ بِتَحْرِيمٍ وَلَا إبَاحَةٍ ؛ لِأَنَّهُ كَفِعْلِ الْمَجْنُونِ ، وَالْبَهِيمَةِ ، لَكِنَّ النَّفْسَ الذَّاهِبَةَ بِهِ مَعْصُومَةٌ مُحَرَّمَةٌ مُحْتَرَمَةٌ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا .
وَقَالَ قَوْمٌ : الْخَطَأُ مُحَرَّمٌ وَلَا إثْمَ فِيهِ .
وَقِيلَ : لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مَا أَثِمَ فَاعِلُهُ ، وَهَذَا لَا إثْمَ فِيهِ ، وقَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } .
هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ .
وَ { إلَّا } فِي مَوْضِعِ " لَكِنْ " .
التَّقْدِيرُ : لَكِنْ قَدْ يَقْتُلُهُ خَطَأً .
وَقِيلَ : { إلَّا } بِمَعْنَى " وَلَا " ، أَيْ وَلَا خَطَأً .
وَهَذَا يَبْعُدُ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ النَّهْيُ ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحْرِيمِ مِنْهُ ، وَكَوْنِهِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوُسْعِ ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بِمَعْنَى " وَلَا " كَانَتْ عَاطِفَةً لِلْخَطَإِ عَلَى مَا قَبْلَهُ ، وَلَيْسَ قَبْلَهُ مَا يَصْلُحُ عَطْفُهُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا قَتْلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَصِبْيَانِهِمْ ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ إيمَانٌ وَلَا أَمَانٌ ، وَإِنَّمَا مُنِعَ مِنْ قَتْلِهِمْ ، لِانْتِفَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ ، لِكَوْنِهِمْ يَصِيرُونَ بِالسَّبْيِ رَقِيقًا يُنْتَفَعُ بِهِمْ .
وَكَذَلِكَ قَتْلُ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ ، لَا كَفَّارَةَ فِيهِ ؛ لِذَلِكَ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُضْمَنُوا بِشَيْءٍ ، فَأَشْبَهُوا مَنْ قَتْلُهُ مُبَاحٌ .
( 7051 ) فَصْلٌ : وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً ، وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجِبُ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ نَفْسِهِ لَا يَجِبُ ، فَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ ، كَقَتْلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَصِبْيَانِهِمْ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُؤْمِنٌ مَقْتُولٌ خَطَأً ، فَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى قَاتِلِهِ ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ .
وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِنَّ { عَامِرَ بْنَ الْأَكْوَعِ ، قَتَلَ نَفْسَهُ خَطَأً ، وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ بِكَفَّارَةٍ } .
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً } إنَّمَا أُرِيدَ بِهَا إذَا قَتَلَ غَيْرَهُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } .
وَقَاتِلُ نَفْسِهِ لَا تَجِبُ فِيهِ دِيَةٌ ؛ بِدَلِيلِ قَتْلِ عَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7052 ) فَصْلٌ : وَمَنْ شَارَكَ فِي قَتْلٍ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ ، وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ شُرَكَائِهِ كَفَّارَةٌ .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ ، عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّ عَلَى الْجَمِيعِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ .
وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَحَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ ، وَأَنْكَرَهُ سَائِرُ أَصْحَابِهِ .
وَاحْتَجَّ لِمَنْ أَوْجَبَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
وَ { مَنْ } يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ وَالْجَمَاعَةَ ، وَلَمْ يُوجِبْ إلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً ، وَدِيَةً ، وَالدِّيَةُ لَا تَتَعَدَّدُ ، فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ ؛ وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةُ قَتْلٍ ، فَلَمْ تَتَعَدَّدْ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ مَعَ اتِّحَادِ الْمَقْتُولِ ، كَكَفَّارَةِ الصَّيْدِ الْحَرَمِيِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ ، وَهِيَ مِنْ مُوجَبِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ ، فَكَمَلَتْ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِكِينَ ، كَالْقِصَاصِ .
وَتُخَالِفُ كَفَّارَةَ الصَّيْدِ ؛ فَإِنَّهَا تَجِبُ بَدَلًا ، وَلِهَذَا تَجِبُ فِي أَبْعَاضِهِ ، وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ .
( 7053 ) فَصْلٌ : إذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجِبُ .
وَقَدْ مَضَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ .
( 7054 ) فَصْلٌ : وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ : أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا رَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ ، قَالَ : { أَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاحِبٍ لَنَا ، قَدْ أُوجِبَ بِالْقَتْلِ .
فَقَالَ : اعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً ، يَعْتِقْ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ } .
، وَلِأَنَّهَا إذَا وَجَبَتْ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ ، فَفِي الْعَمْدِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ إثْمًا ، وَأَكْبَرُ جُرْمًا ، وَحَاجَتُهُ إلَى تَكْفِيرِ ذَنْبِهِ أَعْظَمُ .
وَلَنَا ، مَفْهُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
ثُمَّ ذَكَرَ قَتْلَ الْعَمْدِ ، فَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ كَفَّارَةً ، وَجَعَلَ جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ .
وَرُوِيَ { أَنَّ سُوَيْدٌ بْنَ الصَّامِتِ قَتَلَ رَجُلًا ، فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْقَوَدَ ، وَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً } .
{ وَعَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ قَتَلَ رَجُلَيْنِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَدَاهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُوجِبْ كَفَّارَةً } .
وَلِأَنَّهُ فِعْلٌ يُوجِبُ الْقَتْلَ ، فَلَا يُوجِبُ كَفَّارَةً ، كَزِنَى الْمُحْصَنِ ، وَحَدِيثُ وَاثِلَةَ ، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ خَطَأً ، وَسَمَّاهُ مُوجِبًا ، أَيْ فَوَّتَ النَّفْسَ بِالْقَتْلِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ شِبْهَ عَمْدٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْإِعْتَاقِ تَبَرُّعًا ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ غَيْرَ الْقَاتِلِ بِالْإِعْتَاقِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِي الْخَطَإِ ، فَتَمْحُو إثْمَهُ ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَخْلُو مِنْ تَفْرِيطٍ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إيجَابُهَا فِي مَوْضِعٍ عَظُمَ الْإِثْمُ فِيهِ ، بِحَيْثُ لَا يَرْتَفِعُ
بِهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ ، وَمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ ، كَقَتْلِ الْوَالِدِ وَلَدَهُ وَالسَّيِّدِ عَبْدَهُ ، وَالْحُرِّ الْعَبْدَ ، وَالْمُسْلِمِ الْكَافِرَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَمْدِ .
( 7055 ) فَصْلٌ : وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ .
وَلَمْ أَعْلَمْ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ قَوْلًا ، لَكِنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ وَلِأَنَّهُ أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَإِ فِي نَفْيِ الْقِصَاصِ ، وَحَمْلِ الْعَاقِلَةِ دِيَتَهُ ، وَتَأْجِيلِهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، فَجَرَى مَجْرَاهُ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا لَمْ يَحْمِلْ شَيْئًا مِنْ الدِّيَةِ لِتَحَمُّلِهِ الْكَفَّارَةَ ، فَلَوْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، تَحَمَّلَ مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْقَاتِلُ عَنْ وُجُوبِ شَيْءٍ أَصْلًا ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهَذَا .
( 7056 ) فَصْلٌ : وَكَفَّارَةُ الْقَتْل عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، بِنَصِّ الْكِتَابِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ أَوْ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فِي مِلْكِهِ ، فَاضِلَةً عَنْ حَاجَتِهِ ، أَوْ يَجِدْ ثَمَنَهَا ، فَاضِلًا عَنْ كِفَايَتِهِ ، فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ ، وَهَذَا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ أَيْضًا ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَثْبُتُ الصِّيَامُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَلَوْ وَجَبَ لَذَكَرَهُ .
وَالثَّانِي : يَجِبُ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ فِيهَا عِتْقٌ وَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، فَكَانَ فِيهَا إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عِنْدَ عَدَمِهَا ، كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي نَصِّ الْقُرْآنِ ، فَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي نَظِيرِهِ ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، إنْ عَجَزَ عَنْ الْإِطْعَامِ ، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي هَذَا ، كَالرِّوَايَتَيْنِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 7057 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا عَدْلَانِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا أَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي نَفْسٍ ، كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ مِنْ الْمُكَافِئِ ، أَوْ فِي طَرَفٍ ، كَقَطْعِهِ مِنْ مَفْصِلٍ عَمْدًا مِمَّنْ يُكَافِئُهُ ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَلَا شَاهِدٌ وَيَمِينُ الطَّالِبِ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إرَاقَةُ دَمٍ ، عُقُوبَةً عَلَى جِنَايَةٍ ، فَيُحْتَاطُ لَهُ بِاشْتِرَاطِ الشَّاهِدَيْنِ الْعَدْلَيْنِ ، كَالْحُدُودِ .
وَسَوَاءٌ كَانَ الْقِصَاصُ يَجِبُ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ ، أَوْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ يُحْتَاطُ لِدَرْئِهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَتْلِ إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا الْقَتْلُ ، فَلَمْ يُقْبَلْ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةٍ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَى مِنْ الْمُحْصَنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ ، فَيُقْبَلُ فِيهِ اثْنَانِ ، كَقَطْعِ الطَّرَفِ .
وَفَارَقَ الزِّنَى فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِهَذَا ، وَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ كَوْنَهُ قَتْلًا ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْأَرْبَعَةِ فِي زِنَى الْبِكْرِ ، وَلَا قَتْلَ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الرَّامِي بِهِ ، وَالشُّهُودِ إذَا لَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمْ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ مَا لَيْسَ مِثْلَهُ .
( 7058 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَا أَوْجَبَ مِنْ الْجِنَايَاتِ الْمَالَ دُونَ الْقَوَدِ ، قُبِلَ فِيهِ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ، أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ مَعَ يَمِينِ الطَّالِبِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَا كَانَ مُوجَبُهُ الْمَالَ ، كَقَتْلِ الْخَطَإِ ، وَشِبْهِ الْعَمْدِ ، وَالْعَمْدِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُكَافِئُهُ ، وَالْجَائِفَةِ ، وَالْمَأْمُومَةِ ، وَمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ ، وَشَرِيكِ الْخَاطِئِ ، وَأَشْبَاهِ هَذَا ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَشَهَادَةُ عَدْلٍ وَيَمِينُ الطَّالِبِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَثْبُتُ أَيْضًا إلَّا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ ، وَلَا تُسْمَعُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ ، وَلَا شَاهِدٌ وَيَمِينٌ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى قَتْلٍ ، أَوْ جِنَايَةٍ عَلَى آدَمِيٍّ ، فَلَمْ تُسْمَعُ مِنْ النِّسَاءِ كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، يُبَيِّنُ صِحَّةَ هَذَا ، أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلنِّسَاءِ مَدْخَلٌ فِي الْقَسَامَةِ فِي الْعَمْدِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُنَّ مَدْخَلٌ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْمَالِ ، فَيَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُنَّ لَا مَدْخَلَ لَهُنَّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى دَمٍ بِحَالٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى مَا يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ عَلَى الْخُصُوصِ ، فَوَجَبَ أَنْ تُقْبَلَ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ .
وَفَارَقَ قَتْلَ الْعَمْدِ ؛ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ الَّتِي يُحْتَاطُ بِإِسْقَاطِهَا ، فَاحْتِيطَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى أَسْبَابِهَا ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا ، الْمَقْصُودُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ ، فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُنَّ عَلَى سَبَبِهِ .
( 7059 ) فَصْلٌ : وَلَوْ ادَّعَى جِنَايَةَ عَمْدٍ ، وَقَالَ : عَفَوْت عَنْ الْقِصَاصِ فِيهَا .
لَمْ يُقْبَلْ فِيهِ شَاهِدٌ وَامْرَأَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْفُو عَنْ شَيْءٍ ثَبَتَ لَهُ ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْقَتْلُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ .
وَإِنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ إمَّا بِشَاهِدَيْنِ ، أَوْ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، صَحَّ الْعَفْوُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ لَهُ بِوُجُودِ الْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا خَفِيَ ثُبُوتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ ، فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ ، عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا مِنْ حِينِ وُجِدَ الْقَتْلُ ، فَيَكُونُ الْعَفْوُ مُصَادِفًا لِحَقِّهِ الثَّابِتِ ، فَيَنْفُذُ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا يُنَازِعُهُ فِيهِ مُنَازِعٌ ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِلْكَهُ حِينَ الْعِتْقِ .
( 7060 ) فَصْلٌ : وَلَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِالشَّهَادَةِ إلَّا مَعَ زَوَالِ الشُّبْهَةِ فِي لَفْظِ الشَّاهِدَيْنِ ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَا : نَشْهَدُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ .
أَوْ : فَمَاتَ مِنْهُ .
فَإِنْ قَالَا : ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَمَاتَ .
أَوْ : فَوَجَدْنَاهُ مَيِّتًا .
أَوْ : فَمَاتَ عَقِيبَهُ .
أَوْ قَالَا : ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ ، فَأَسَالَ دَمَهُ .
أَوْ : فَأَنْهَرَ دَمَهُ ، فَمَاتَ مَكَانَهُ .
لَمْ يَثْبُتْ الْقَتْلُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَاتَ عَقِيبَ الضَّرْبِ بِسَبَبٍ آخَرَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ ؛ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ بِالْقَتْلِ ، فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنَّهُ اتَّكَأَ عَلَيْهِ بِمَرْفِقِهِ فَمَاتَ ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ : فَمَاتَ مِنْهُ ؟ فَأَعَادَ الرَّجُلُ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ ، فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ : قُمْ ، فَلَا شَهَادَةَ لَكَ .
وَإِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بِالْجُرْحِ ، فَقَالَا : ضَرَبَهُ ، فَأَوْضَحَهُ .
أَوْ فَاتَّضَحَ مِنْهُ .
أَوْ : فَوَجَدْنَاهُ مُوضَحًا مِنْ الضَّرْبَةِ .
قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا .
وَإِنْ قَالَا : ضَرَبَهُ فَاتَّضَحَ رَأْسُهُ .
أَوْ : وَجَدْنَاهُ مُوضَحًا ، أَوْ : فَأَسَالَ دَمَهُ ، وَوَجَدْنَا فِي رَأْسِهِ مُوضِحَةً .
لَمْ يَثْبُتْ الْإِيضَاحُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتَّضِحَ عَقِيبَ ضَرْبِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ .
وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمُوضِحَةِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي رَأْسِهِ مُوضِحَتَانِ ، فَيَحْتَاجَانِ إلَى بَيَانِ مَا شَهِدَا بِهِ مِنْهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْسَعَهَا غَيْرُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُعَيِّنَهَا الشَّاهِدَانِ ، فَيَقُولَانِ : هَذِهِ .
وَإِنْ قَالَا : أَوْضَحَهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ رَأْسِهِ مُوضِحَةً قَدْرُ مِسَاحَتِهَا كَذَا وَكَذَا .
قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا .
وَإِنْ قَالَا : لَا نَعْلَمُ قَدْرَهَا ، أَوْ مَوْضِعَهَا .
لَمْ يُحْكَمْ بِالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ مَعَ الْجَهَالَةِ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا .
وَإِنْ قَالَا : ضَرَبَ رَأْسَهُ ، فَأَسَالَ دَمَهُ .
كَانَتْ بَازِلَةً .
وَإِنْ قَالَا : فَسَالَ دَمُهُ .
لَمْ يَثْبُتْ شَيْءٌ ؛ لِجَوَازِ أَنْ
يَسِيلَ دَمُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ .
وَإِنْ قَالَا : نَشْهَدُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ ، فَقَطَعَ يَدَهُ .
وَلَمْ يَكُنْ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ، وَثَبَتَ الْقِصَاصُ ؛ لِعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ .
وَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ ، وَلَمْ يُعَيِّنَا الْمَقْطُوعَةَ ، لَمْ يَثْبُتْ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُعَيِّنَا الْيَدَ الَّتِي يَجِبُ الْقِصَاصُ مِنْهَا ، وَتَجِبُ دِيَةُ الْيَدَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَدَيْنِ .
( 7061 ) فَصْلٌ : إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ عَمْدًا ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ .
وَلَمْ يَقُلْ : عَمْدًا وَلَا خَطَأً .
ثَبَتَ الْقَتْلُ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ تَمَّتْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ تَثْبُتْ صِفَتُهُ ؛ لِعَدَمِ تَمَامِهَا عَلَيْهِ ، وَيُسْأَلُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَنْ صِفَتِهِ ، فَإِنْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْقَتْلِ ، لَمْ يُقْبَلْ إنْكَارُهُ ، لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِقَتْلِ الْعَمْدِ ، ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِقَتْلِ الْخَطَإِ ، وَأَنْكَرَ الْوَلِيُّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ .
وَهَلْ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ ؟ يُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهَانِ .
وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلِيُّ عَلَى الْخَطَإِ ، ثَبَتَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِقَتْلِ الْعَمْدِ ، وَكَذَّبَهُ الْوَلِيُّ ، وَقَالَ : بَلْ كَانَ خَطَأً .
لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَدَّعِيهِ ، وَتَجِبُ دِيَةُ الْخَطَإِ .
وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ شَيْئًا مِنْ دِيَتِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا ، وَتَكُونُ فِي مَالِهِ ، لِأَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ بِبَيِّنَةٍ ، وَفِي بَعْضِهَا الْقَاتِلُ مُقِرٌّ بِأَنَّهَا فِي مَالِهِ دُونَ مَالِ عَاقِلَتِهِ .
وَإِنْ قَالَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ : أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ عَمْدًا .
وَقَالَ الْآخَرُ : أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ خَطَأً .
ثَبَتَ الْقَتْلُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ شَهَادَتَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ عِنْدَ أَحَدِهِمَا بِقَتْلِ الْعَمْدِ ، وَيُقِرَّ عِنْدَ الْآخَرِ بِقَتْلِ الْخَطَإِ ، فَثَبَتَ إقْرَارُهُ بِالْقَتْلِ دُونَ صِفَتِهِ ، وَيُطَالَبُ بِبَيَانِ صِفَتِهِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً ، ثَبَتَ الْقَتْلُ أَيْضًا دُونَ صِفَتِهِ ، وَيُطَالَبُ بِبَيَانِ صِفَتِهِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَعْتَقِدُهُ أَحَدُهُمَا خَطَأً ، وَالْآخَرُ عَمْدًا ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ غَدْوَةً ؛ وَقَالَ الْآخَرُ :
عَشِيَّةً .
وَقَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ بِسَيْفٍ .
وَقَالَ الْآخَرُ : بِعَصًا .
لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُخَالِفُ صَاحِبَهُ وَيُكَذِّبُهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَثْبُتُ الْقَتْلُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْقَتْلِ ، وَاخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ ، فَأَشْبَهَ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ يُكَذِّبُ صَاحِبَهُ ، فَإِنَّ الْقَتْلَ غَدْوَةً غَيْرُ الْقَتْلِ عَشِيَّةً ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقْتَلَ غَدْوَةً ثُمَّ يُقْتَلَ عَشِيَّةً ، وَلَا أَنْ يُقْتَلَ بِسَيْفٍ ، ثُمَّ يُقْتَلَ بِعَصًا ، بِخِلَافِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ ، وَالْخِلَافُ فِي نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ ، وَقَدْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَتْلِهِ ، ثَبَتَ الْقَتْلُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ بِغَيْرِ مَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ ، فَلَمْ تَتَّفِقْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ هُوَ الْقَتْلُ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ، فَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَتْلِ عَمْدًا ، وَالْآخَرُ بِالْقَتْلِ خَطَأً ، أَوْ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ أَلْفًا ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ لَهُ .
( 7062 ) فَصْلٌ : إذَا قُتِلَ رَجُلٌ عَمْدًا قَتْلًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فَشَهِدَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَفَا عَنْ الْقَوَدِ سَقَطَ الْقِصَاصُ ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّاهِدُ عَدْلًا ، أَوْ فَاسِقًا ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ تَضَمَّنَتْ سُقُوطَ حَقِّهِ مِنْ الْقِصَاصِ ، وَقَوْلُهُ مَقْبُولٌ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ أَحَدَ الْوَلِيَّيْنِ إذَا عَفَا عَنْ حَقِّهِ ، سَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ .
وَيُشْبِهُ هَذَا مَا لَوْ كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ، فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ ، وَهُوَ مُوسِرٌ ، عَتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ أَنْكَرَهُ الْآخَرُ .
فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِالْعَفْوِ شَهِدَ بِالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ ، لَمْ يَسْقُطْ الْمَالُ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ اعْتَرَفَ أَنَّ نَصِيبَهُ سَقَطَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، فَأَمَّا نَصِيبُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ ثَبَتَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ ، حَلَفَ الْجَانِي مَعَهُ ، وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَقُّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، وَيَحْلِفُ الْجَانِي أَنَّهُ عَفَا عَنْ الدِّيَةِ ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أُسْقِطَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ ، فَلَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ فِي الْيَمِينِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى مَا يُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَا يُدَّعَى عَلَيْهِ غَيْرُ الدِّيَةِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا جُرِحَ رَجُلٌ ، فَشَهِدَ لَهُ رَجُلَانِ مِنْ وَرَثَتِهِ غَيْرُ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحُ مُنْدَمِلَةٌ ، فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُنْدَمِلَةٍ ، لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَصِيرَ نَفْسًا ، فَتَجِبَ الدِّيَةُ لَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا ، فَإِنْ شَهِدَا فِي تِلْكَ الْحَالِ ، وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا ، ثُمَّ انْدَمَلَتْ ، فَأَعَادَا شَهَادَتَهُمَا ، فَهَلْ تُقْبَلُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ ، فَلَا تُقْبَلُ ؛ وَإِنْ زَالَتْ التُّهْمَةُ ، كَالْفَاسِقِ إذَا أَعَادَ شَهَادَتَهُ الْمَرْدُودَةَ بَعْدَ عَدَالَتِهِ .
وَالثَّانِي : تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ التُّهْمَةِ قَدْ تَحَقَّقَ زَوَالُهُ .
وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَهَذَيْنِ .
وَإِنْ شَهِدَ وَارِثَا الْمَرِيضِ بِمَالٍ ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا لَهُ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْمَالَ لِلْمَرِيضِ ، وَإِنْ مَاتَ انْتَقَلَ إلَيْهِمَا عَنْهُ ، فَأَشْبَهَتْ الشَّهَادَةَ لِلصَّحِيحِ ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهَا إذَا صَارَتْ نَفْسًا وَجَبَتْ الدِّيَةُ لَهُمَا بِهَا .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ الْمَالُ لِلْمَرِيضِ ، تَعَلَّقَ حَقُّ وَرَثَتِهِ بِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ تَبَرُّعُهُ فِيهِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ، وَإِنْ شَهِدَ لِلْمَجْرُوحِ بِالْجُرْحِ مَنْ لَا يَرِثُهُ ، لِكَوْنِهِ مَحْجُوبًا ، كَالْأَخَوَيْنِ يَشْهَدَانِ لِأَخِيهِمَا ، وَلَهُ ابْنٌ ، سُمِعَتْ شَهَادَتُهُمَا ، فَإِنْ مَاتَ ابْنُهُ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمَا ، لَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ ؛ لِأَنَّ مَا يَطْرَأُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا ، كَالْفِسْقِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ ، لَمْ يُحْكَمْ بِهَا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا مُسْتَحِقَّيْنِ ، فَلَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمَا ، كَمَا لَوْ فَسَقَ الشَّاهِدَانِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمْ .
وَإِنْ شَهِدَ عَلَى
رَجُلٍ بِالْجِرَاحِ الْمُوجِبَةِ لِلدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، فَشَهِدَ بَعْضُ عَاقِلَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِجَرْحِ الشُّهُودِ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَا مَالٍ وَقْتَ الْعَقْلِ ، فَيَكُونُ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، كَجِرَاحَةِ الْعَمْدِ ، أَوْ الْعَبْدِ ، سُمِعَتْ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِجَرْحِ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ضَرَرًا ، فَإِنَّ مُوجَبَ هَذِهِ الْجِرَاحَةِ الْقِصَاصُ أَوْ الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْجَانِي ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْجُرْحِ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الِاعْتِرَافَ .
وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بِجِرَاحٍ عَقْلُهُ دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ خَطَأً ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةُ الْعَاقِلَةِ بِجَرْحِ الشُّهُودِ قَبْلَ الِانْدِمَالِ ، لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا صَارَتْ نَفْسًا فَتَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ ، قُبِلَتْ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ .
وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ بِالْجَرْحِ لَيْسَا مِنْ الْعَاقِلَةِ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرَانِ مِنْ الْعَاقِلَةِ الَّتِي تَتَحَمَّلُ أَنْ لَوْ مَاتَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمَا ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الْعَاقِلَةِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرَانِ مِنْهَا بِمَوْتِ الْقَرِيبِ ، وَالظَّاهِرُ حَيَاتُهُ .
وَفَارَقَ الْفَقِيرَ إذَا شَهِدَ ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ لَيْسَتْ عَلَيْهِ أَمَارَةٌ ، فَإِنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ مِنْ الْعَاقِلَةِ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مِنْهَا بِحُدُوثِ أَمْرٍ لَمْ يَتَّفِقْ الْآنَ سَبَبُهُ ، فَهُمَا سَوَاءٌ ، وَاحْتِمَالُ غِنَى الْفَقِيرِ ، كَاحْتِمَالِ مَوْتِ الْحَيِّ ، بَلْ الْمَوْتُ أَقْرَبُ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَكُلُّ حَيٍّ مَيِّتٌ ، وَكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ، وَلَيْسَ
كُلُّ فَقِيرٍ يَسْتَغْنِي ، فَمَا ثَبَتَ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ يَثْبُتُ فِي الْأُخْرَى ، فَيَثْبُتُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَجْهَانِ ، بِأَنْ يُنْقَلَ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى .
( 7064 ) فَصْلٌ : إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلَيْنِ ، أَنَّهُمَا قَتَلَا رَجُلًا ، ثُمَّ شَهِدَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا عَلَى الْأَوَّلَيْنِ أَنَّهُمَا اللَّذَانِ قَتَلَاهُ ، فَصَدَّقَ الْوَلِيُّ الْأَوَّلَيْنِ ، وَكَذَّبَ الْآخَرَيْنِ ، وَجَبَ الْقَتْلُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُكَذِّبُهُمَا ، وَهُمَا يَدْفَعَانِ بِشَهَادَتِهِمَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا ضَرَرًا .
وَإِنْ صَدَّقَ الْآخَرَيْنِ وَحْدَهُمَا ، بَطَلَتْ شَهَادَةُ الْجَمِيعِ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَيْنِ ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِتَكْذِيبِهِ لَهُمَا ، وَرُجُوعِهِ عَمَّا شَهِدَا لَهُ بِهِ ، وَالْآخَرَانِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا عَدُوَّانِ لِلْأَوَّلَيْنِ ، وَلِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ضَرَرًا ، وَإِنْ صَدَّقَ الْجَمِيعَ ، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ بِتَصْدِيقِ الْأَوَّلَيْنِ مُكَذِّبٌ لِلْآخَرَيْنِ ، وَتَصْدِيقُهُ لِلْآخَرَيْنِ تَكْذِيبٌ لِلْأَوَّلَيْنِ ، وَهُمَا مُتَّهَمَانِ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ تُتَصَوَّرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَالشَّهَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الدَّعْوَى ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فَرْضُ تَصْدِيقِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ ؟ قُلْنَا : قَدْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَشْهَدُوا قَبْلَ الدَّعْوَى ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْوَلِيُّ مَنْ قَتَلَهُ ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَيْرُ الشُّهَدَاءِ ، الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا } .
وَهَذَا مَعْنَى ذَلِكَ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } .
إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } .
فَفِيهَا خَمْسُ فَوَائِدَ : أَحَدُهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا بِالْبَغْيِ عَنْ الْإِيمَانِ ، فَإِنَّهُ سَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ .
الثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ أَوْجَبَ قِتَالَهُمْ .
الثَّالِثَةُ ، أَنَّهُ أَسْقَطَ قِتَالَهُمْ إذَا فَاءُوا إلَى أَمْرِ اللَّهِ .
الرَّابِعَةُ ، أَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ التَّبِعَةَ فِيمَا أَتْلَفُوهُ فِي قِتَالِهِمْ .
الْخَامِسَةُ أَنَّ الْآيَةَ أَفَادَتْ جَوَازَ قِتَالِ كُلِّ مَنْ مَنَعَ حَقًّا عَلَيْهِ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ أَعْطَى إمَامًا صَفْقَةَ يَدِهِ ، وَثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ، فَلْيُطِعْهُ مَا اسْتَطَاعَ ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ ، فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى عَرْفَجَةُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ .
وَرَفَعَ صَوْتَهُ : أَلَا وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي وَهُمْ جَمِيعٌ ، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ ، كَائِنًا مَنْ كَانَ } .
فَكُلُّ مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ ، وَجَبَتْ طَاعَتُهُ ، وَحَرُمَ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَقِتَالُهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } .
وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ : { بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ } .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ، فَمَاتَ ، فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ } .
رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
وَأَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، عَلَى قِتَالِ الْبُغَاةِ ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاتَلَ أَهْلَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ وَأَهْلَ النَّهْرَوَانِ .
وَالْخَارِجُونَ عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ ، أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ ؛ أَحَدُهَا ، قَوْمٌ امْتَنَعُوا مِنْ طَاعَتِهِ ، وَخَرَجُوا عَنْ قَبْضَتِهِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ ، فَهَؤُلَاءِ قُطَّاعُ طَرِيقٍ ، سَاعُونَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، يَأْتِي حُكْمُهُمْ فِي بَابٍ مُفْرَدٍ .
الثَّانِي : قَوْمٌ لَهُمْ تَأْوِيلٌ ، إلَّا أَنَّهُمْ نَفَرٌ يَسِيرٌ ، لَا مَنَعَةَ لَهُمْ ، كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْعَشَرَةِ وَنَحْوِهِمْ ، فَهَؤُلَاءِ قُطَّاعُ طَرِيقٍ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ ابْنَ مُلْجَمٍ لَمَّا جَرَحَ عَلِيًّا ، قَالَ لِلْحَسَنِ : إنْ بَرِئْتُ رَأَيْتُ رَأْيِي ، وَإِنْ مِتُّ فَلَا تُمَثِّلُوا بِهِ .
فَلَمْ يُثْبِتْ لِفِعْلِهِ حُكْمَ الْبُغَاةِ .
وَلِأَنَّنَا لَوْ أَثْبَتْنَا لِلْعَدَدِ الْيَسِيرِ حُكْمَ الْبُغَاةِ ، فِي سُقُوطِ ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوهُ ، أَفْضَى إلَى إتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ ، وَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْبُغَاةِ إذَا خَرَجُوا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ .
الثَّالِثُ : الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ ، وَيُكَفِّرُونَ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ ، وَكَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمْوَالَهُمْ ، إلَّا مَنْ خَرَجَ مَعَهُمْ ، فَظَاهِرُ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ ، أَنَّهُمْ بُغَاةٌ ، حُكْمُهُمْ حُكْمُهُمْ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ .
وَمَالِكٌ يَرَى اسْتِتَابَتَهُمْ ، فَإِنْ تَابُوا ، وَإِلَّا قُتِلُوا عَلَى إفْسَادِهِمْ ، لَا عَلَى كُفْرِهِمْ .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَى أَنَّهُمْ كُفَّارٌ مُرْتَدُّونَ ، حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ ، وَتُبَاحُ دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ ، فَإِنْ تَحَيَّزُوا فِي مَكَان ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَشَوْكَةٌ ، صَارُوا أَهْلَ حَرْبٍ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ ، وَإِنْ كَانُوا فِي قَبْضَةِ الْإِمَامِ ، اسْتَتَابَهُمْ ، كَاسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّينَ ، فَإِنْ تَابُوا ، وَإِلَّا ، ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ ،
وَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ فَيْئًا ، لَا يَرِثُهُمْ وَرَثَتُهُمْ الْمُسْلِمُونَ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يَخْرُجُ قَوْمٌ تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ ، وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ، يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلَا يَرَى شَيْئًا ، وَيَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلَا يَرَى شَيْئًا ، وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلَا يَرَى شَيْئًا ، وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ } رَوَاهُ مَالِكٌ ، فِي " مُوَطَّئِهِ " ، وَالْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، ثَابِتُ الْإِسْنَادِ وَفِي لَفْظٍ قَالَ : { يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ ، أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ، فَأَيْنَمَا لَقِيتَهُمْ فَاقْتُلْهُمْ ؛ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرُوِيَ مَعْنَاهُ مِنْ وُجُوهٍ .
يَقُولُ : فَكَمَا خَرَجَ هَذَا السَّهْمُ نَقِيًّا خَالِيًا مِنْ الدَّمِ وَالْفَرْثِ ، لَمْ يَتَعَلَّقْ مِنْهَا بِشَيْءٍ ، كَذَلِكَ خُرُوجُ هَؤُلَاءِ مِنْ الدِّينِ ، يَعْنِي الْخَوَارِجَ .
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، { أَنَّهُ رَأَى رُءُوسًا مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَجِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَقَالَ : كِلَابُ النَّارِ ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ ، خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ .
ثُمَّ قَرَأَ : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
فَقِيلَ لَهُ : أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إلَّا مَرَّةً ، أَوْ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا ، أَوْ أَرْبَعًا حَتَّى عَدَّ سَبْعًا مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ سَهْلٍ ، عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ أَبِي
غَالِبٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ { أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ : شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ ، وَخَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوا ، كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ ، كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ ، كِلَابُ أَهْلِ النَّارِ ، قَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ مُسْلِمِينَ فَصَارُوا كُفَّارًا .
قُلْت : يَا أَبَا أُمَامَةَ ، هَذَا شَيْءٌ تَقُولُهُ ؟ قَالَ : بَلْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا } .
قَالَ : " هُمْ أَهْلُ النَّهْرَوَانِ " .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، فِي حَدِيثٍ آخِرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ .
وَقَالَ : لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ } .
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ بُغَاةٌ ، وَلَا يَرَوْنَ تَكْفِيرَهُمْ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَهْلَ الْحَدِيثِ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ وَجَعْلِهِمْ كَالْمُرْتَدِّينَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ : قَوْلُهُ : { يَتَمَارَى فِي الْفُوقِ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ عَلِقُوا مِنْ الْإِسْلَامِ بِشَيْءٍ ، بِحَيْثُ يُشَكُّ فِي خُرُوجِهِمْ مِنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لَمَّا قَاتَلَ أَهْلَ النَّهْرِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : لَا تَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ .
وَبَعَثَ إلَيْهِمْ : أَقِيدُونَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ .
قَالُوا : كُلُّنَا قَتَلَهُ .
فَحِينَئِذٍ اسْتَحَلَّ قِتَالَهُمْ ؛ لَإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُمْ .
وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَهْلِ النَّهْرِ ، أَكُفَّارٌ هُمْ ؟ قَالَ : مِنْ الْكُفْرِ فَرُّوا .
قِيلَ : فَمُنَافِقُونَ ؟ قَالَ : إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا .
قِيلَ : فَمَا هُمْ ؟ قَالَ : هُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ فِتْنَةٌ ، فَعَمُوا فِيهَا وَصَمُّوا ، وَبَغَوْا عَلَيْنَا ، وَقَاتَلُونَا فَقَاتَلْنَاهُمْ .
وَلَمَّا جَرَحَهُ
ابْنُ مُلْجَمٍ ، قَالَ لِلْحَسَنِ : أَحْسِنُوا إسَارَهُ ، فَإِنْ عِشْتُ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي ، وَإِنْ مِتّ فَضَرْبَةٌ كَضَرْبَتِي .
وَهَذَا رَأْيُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيهِمْ ، وَكَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَنَّ الْخَوَارِجَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ابْتِدَاءً ، وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ ؛ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِمْ وَوَعْدِهِ بِالثَّوَابِ مَنْ قَتَلَهُمْ ، فَإِنَّ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَوْلَا أَنْ يَنْظُرُوا ، لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلِأَنَّ بِدْعَتَهُمْ ، وَسُوءَ فِعْلِهِمْ ، يَقْتَضِي حِلَّ دِمَائِهِمْ ؛ بِدَلِيلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِظَمِ ذَنْبِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ ، وَأَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ ، وَأَنَّهُمْ كِلَابُ النَّارِ ، وَحَثِّهِ عَلَى قَتْلِهِمْ ، وَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَهُمْ لَقَتَلَهُمْ قَتْلَ عَادٍ ، فَلَا يَجُوزُ إلْحَاقُهُمْ بِمَنْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ ، وَتَوَرَّعَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِتَالِهِمْ ، وَلَا بِدْعَةَ فِيهِمْ .
الصِّنْفُ الرَّابِعُ : قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ ، يَخْرُجُونَ عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ ، وَيَرُومُونَ خَلْعَهُ لَتَأْوِيلٍ سَائِغٍ ، وَفِيهِمْ مَنَعَةٌ يَحْتَاجُ فِي كَفِّهِمْ إلَى جَمْعِ الْجَيْشِ ، فَهَؤُلَاءِ الْبُغَاةُ ، الَّذِينَ نَذْكُرُ فِي هَذَا الْبَابِ حُكْمَهُمْ ، وَوَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ مَعُونَةُ إمَامِهِمْ ، فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا مَعُونَتَهُ ، لَقَهَرَهُ أَهْلُ الْبَغْيِ ، وَظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ .
( 7065 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَإِذَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامٍ ، فَمَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَطْلُبُ مَوْضِعَهُ ، حُورِبُوا ، وَدُفِعُوا بِأَسْهَلِ مَا يَنْدَفِعُونَ بِهِ ) وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ مَنْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى إمَامَتِهِ وَبَيْعَتِهِ ، ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ ، وَوَجَبَتْ مَعُونَتُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ ، وَفِي مَعْنَاهُ ، مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِعَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بِعَهْدِ إمَامٍ قَبْلَهُ إلَيْهِ ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى بَيْعَتِهِ ، ، وَعُمَرَ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ إلَيْهِ ، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَبُولِهِ .
وَلَوْ خَرَجَ رَجُلٌ عَلَى الْإِمَامِ ، فَقَهَرَهُ ، وَغَلَبَ النَّاسَ بِسَيْفِهِ حَتَّى أَقَرُّوا لَهُ ، وَأَذْعَنُوا بِطَاعَتِهِ ، وَبَايَعُوهُ ، صَارَ إمَامًا يَحْرُمُ قِتَالُهُ ، وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ ، خَرَجَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ ، فَقَتَلَهُ ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلَادِ وَأَهْلِهَا ، حَتَّى بَايَعُوهُ طَوْعًا وَكُرْهًا ، فَصَارَ إمَامًا يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ ، وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ ، وَذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ ، وَيَدْخُلُ الْخَارِجُ عَلَيْهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي ، وَهُمْ جَمِيعٌ ، فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ ، كَائِنًا مَنْ كَانَ } .
فَمَنْ خَرَجَ عَلَى مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ بَاغِيًا ، وَجَبَ قِتَالُهُ ، وَلَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَبْعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يَسْأَلُهُمْ ، وَيَكْشِفُ لَهُمْ الصَّوَابَ ، إلَّا أَنْ يَخَافَ كَلَبَهُمْ ؛ فَلَا يُمْكِنَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ .
فَأَمَّا إنْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُهُمْ ، عَرَّفَهُمْ ذَلِكَ ، وَأَزَالَ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْمَظَالِمِ ، وَأَزَالَ حُجَجَهُمْ ، فَإِنْ لَجُّوا ، قَاتَلَهُمْ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْأَمْرِ بِالْإِصْلَاحِ قَبْلَ
الْقِتَالِ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَاسَلَ أَهْلَ الْبَصْرَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ الْجَمَلِ ، ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَبْدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذَا يَوْمٌ مَنْ فَلَجَ فِيهِ فَلَجَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
ثُمَّ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَ .
فَقَالَ : اللَّهُمَّ أَكِبَّ قَتَلَةَ عُثْمَانَ لِوَجْهِهِمْ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِي ، أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا اعْتَزَلَتْهُ الْحَرُورِيَّةُ ، بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ ، فَوَاضَعُوهُ كِتَابَ اللَّهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ .
فَإِنْ أَبَوْا الرُّجُوعَ ، وَعَظَهُمْ ، وَخَوَّفَهُمْ الْقِتَالَ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ كَفُّهُمْ ، وَدَفْعُ شَرِّهِمْ ، لَا قَتْلُهُمْ ، فَإِذَا أَمْكَنَ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ ، كَانَ أَوْلَى مِنْ الْقِتَالِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْفَرِيقَيْنِ .
فَإِنْ سَأَلُوا الْإِنْظَارَ ، نَظَرَ فِي حَالِهِمْ ، وَبَحَثَ عَنْ أَمْرِهِمْ ، فَإِنْ بَانَ لَهُ أَنَّ قَصْدَهُمْ الرُّجُوعُ إلَى الطَّاعَةِ ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ ، أَمْهَلَهُمْ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ الِاجْتِمَاعَ عَلَى قِتَالِهِ ، وَانْتِظَارَ مَدَدٍ يَقْوَوْنَ بِهِ ، أَوْ خَدِيعَةَ الْإِمَامِ ، أَوْ لِيَأْخُذُوهُ عَلَى غِرَّةٍ ، وَيَفْتَرِقَ عَسْكَرُهُ ، لَمْ يُنْظِرْهُمْ ، وَعَاجَلَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَصِيرَ هَذَا طَرِيقًا إلَى قَهْرِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَلَا يَجُوزُ هَذَا ، وَإِنْ أَعْطَوْهُ عَلَيْهِ مَالًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ عَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ .
وَإِنْ بُذِلَ لَهُ رَهَائِنُ عَلَى إنْظَارِهِمْ ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُهَا لِذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ الرَّهَائِنَ
لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِغَدْرِ أَهْلِهِمْ ، فَلَا يُفِيدُ شَيْئًا .
وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ أَسْرَى مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَأَعْطَوْا بِذَلِكَ رَهَائِنَ مِنْهُمْ ، قَبِلَهُمْ الْإِمَامُ ، وَاسْتَظْهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنْ أَطْلَقُوا أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ عِنْدَهُمْ ، أُطْلِقَتْ رَهَائِنُهُمْ ، وَإِنْ قَتَلُوا مَنْ عِنْدَهُمْ ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُ رَهَائِنِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ بِقَتْلِ غَيْرِهِمْ ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ ، خَلَّى الرَّهَائِنَ ، كَمَا تُخَلَّى الْأُسَارَى مِنْهُمْ .
وَإِنْ خَافَ الْإِمَامُ عَلَى الْفِئَةِ الْعَادِلَةِ الضَّعْفَ عَنْهُمْ ، أَخَّرَ قِتَالَهُمْ إلَى أَنْ تُمْكِنَهُ الْقُوَّةُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ الِاصْطِلَامُ وَالِاسْتِئْصَالُ ، فَيُؤَخِّرُهُمْ حَتَّى تَقْوَى شَوْكَةُ أَهْلِ الْعَدْلِ ، ثُمَّ يُقَاتِلُهُمْ .
وَإِنْ سَأَلُوهُ أَنْ يُنْظِرَهُمْ أَبَدًا ، وَيَدَعَهُمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ ، وَيَكُفُّوا عَنْ الْمُسْلِمِينَ ، نَظَرْت ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ قُوَّتَهُ عَلَيْهِمْ ، وَخَافَ قَهْرَهُمْ لَهُ إنْ قَاتَلَهُمْ ، تَرَكَهُمْ .
وَإِنْ قَوِيَ عَلَيْهِمْ ، لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ طَاعَةَ الْإِمَامِ ، وَلَا تُؤْمَنُ قُوَّةُ شَوْكَتِهِمْ ، بِحَيْثُ يُفْضِي إلَى قَهْرِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَمَنْ مَعَهُ .
ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُمْ بِدُونِ الْقَتْلِ ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ لِأَهْلِهِمْ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إذَا حَصَلَ بِدُونِ الْقَتْلِ ، لَمْ يَجُزْ الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ .
وَإِنْ حَضَرَ مَعَهُمْ مَنْ لَا يُقَاتِلُ ، لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى أَصْحَابَهُ عَنْ قَتْلِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ السَّجَّادِ ، وَقَالَ : إيَّاكُمْ وَصَاحِبَ الْبُرْنُسِ .
فَقَتَلَهُ رَجُلٌ ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ : وَأَشْعَثَ قَوَّامٍ بِآيَاتِ رَبِّهِ قَلِيلِ الْأَذَى فِيمَا تَرَى الْعَيْنُ مُسْلِمِ هَتَكْتُ لَهُ بِالرُّمْحِ جَيْبَ قَمِيصِهِ فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ
عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ غَيْرَ أَنْ لَيْسَ تَابِعًا عَلِيًّا وَمَنْ لَمْ يَتْبَعْ الْحَقَّ يُظْلَمْ يُنَاشِدُنِي { حم } ، وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ فَهَلَّا تَلَا { حم } قَبْلَ التَّقَدُّمِ وَكَانَ السَّجَّادُ حَامِلَ رَايَةِ أَبِيهِ ، وَلَمْ يَكُنْ يُقَاتِلُ ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلِيٌّ قَتْلَهُ ، وَلِأَنَّهُ صَارَ رِدْءًا لَهُمْ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } .
وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَإِنَّمَا خُصَّ مِنْ ذَلِكَ مَا حَصَلَ ضَرُورَةَ دَفْعِ الْبَاغِي وَالصَّائِلِ ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِجْمَاعِ فِيهِ ؛ وَلِهَذَا حَرُمَ قَتْلُ مُدْبِرِهِمْ وَأَسِيرِهِمْ ، وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ ، مَعَ أَنَّهُمْ إنَّمَا تَرَكُوا الْقِتَالَ عَجْزًا عَنْهُ ، وَمَتَى مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ ، عَادُوا إلَيْهِ ، فَمَنْ لَا يُقَاتِلُ تَوَرُّعًا عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ وَلَا يُخَافُ مِنْهُ الْقِتَالُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْلَى ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ ، لَمْ يُحْتَجْ إلَى دَفْعِهِ ، وَلَا صَدَرَ مِنْهُ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ ، فَلَمْ يَحِلَّ دَمُهُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ } .
فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ ، فِي نَهْيِهِ عَنْ قَتْلِ السَّجَّادِ ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ نَهْيَ عَلِيٍّ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ مَنْ خَالَفَهُ ، وَلَا يَمْتَثِلُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا قَوْلَ رَسُولِهِ ، وَلَا قَوْلَ إمَامِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : لَمْ يُنْكِرْ قَتْلَهُ ؛ قُلْنَا : لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا أَنَّ عَلِيًّا عَلِمَ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِي قَتْلِهِ ، وَلَا حَضَرَ قَتْلَهُ فَيُنْكِرَهُ ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ طَافَ فِي الْقَتْلَى رَآهُ ، فَقَالَ : السَّجَّادُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ، هَذَا الَّذِي قَتَلَهُ بِرُّهُ بِأَبِيهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَشْعُرْ بِقَتْلِهِ .
وَرَأَى كَعْبَ بْنَ سَوْرٍ ، فَقَالَ : يَزْعُمُونَ إنَّمَا خَرَجَ إلَيْنَا الرَّعَاعُ ، وَهَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ تَرْكُهُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ اجْتِزَاءً بِالنَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ قِتَالِهِمْ كَفُّهُمْ ، وَهَذَا كَافٌّ لِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ كَالْمُنْهَزِمِ .
( 7066 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَاتَلَ مَعَهُمْ عَبِيدٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ ، فَهُمْ كَالرَّجُلِ الْبَالِغِ الْحُرِّ ، يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ ، وَيُتْرَكُونَ مُدْبِرِينَ ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ لِلدَّفْعِ ، وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ قَتْلَ إنْسَانٍ ، جَازَ دَفْعُهُ وَقِتَالُهُ ، وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِهِ ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا كَانَ مَعَهُمْ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، يُقَاتِلُونَ : قُوتِلُوا ، وَقُتِلُوا .
( 7067 ) فَصْلٌ : وَلَا يُقَاتَلُ الْبُغَاةُ بِمَا يَعُمُّ إتْلَافُهُ ، كَالنَّارِ ، وَالْمَنْجَنِيقِ ، وَالتَّغْرِيقِ ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ مَنْ لَا يُقَاتِلُ ، وَمَا يَعُمُّ إتْلَافُهُ يَقَعُ عَلَى مَنْ يُقَاتِلُ وَمَنْ لَا يُقَاتِلُ .
فَإِنْ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ ، مِثْلُ أَنْ يَحْتَاطَ بِهِمْ الْبُغَاةُ ، وَلَا يُمْكِنَهُمْ التَّخَلُّصُ إلَّا بِرَمْيِهِمْ بِمَا يَعُمُّ إتْلَافُهُ ، جَازَ ذَلِكَ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا تَحَصَّنَ الْخَوَارِجُ ، فَاحْتَاجَ الْإِمَامُ إلَى رَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ ، فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ مَا كَانَ لَهُمْ عَسْكَرٌ ، وَمَا لَمْ يَنْهَزِمُوا ، وَإِنْ رَمَاهُمْ الْبُغَاةُ بِالْمَنْجَنِيقِ وَالنَّارِ ، جَازَ رَمْيُهُمْ بِمِثْلِهِ .
( 7068 ) فَصْلٌ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَإِذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، فَقَدَرَ الْإِمَامُ عَلَى قَهْرِهِمَا ، لَمْ يُعِنْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا عَلَى الْخَطَإِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ ، وَخَافَ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى حَرْبِهِ ، ضَمَّ إلَيْهِ أَقْرَبَهُمَا إلَى الْحَقِّ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا ، اجْتَهَدَ بِرَأْيِهِ فِي ضَمِّ إحْدَاهُمَا ، وَلَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ مَعُونَةَ إحْدَاهُمَا ، بَلْ الِاسْتِعَانَةَ عَلَى الْأُخْرَى ، فَإِذَا هَزَمَهَا ، لَمْ يُقَاتِلْ مَنْ مَعَهُ حَتَّى يَدْعُوَهُمْ إلَى الطَّاعَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ حَصَلُوا فِي أَمَانِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا يَسْتَعِينُ عَلَى قِتَالِهِمْ بِالْكُفَّارِ بِحَالٍ ، وَلَا بِمَنْ يُرَى قَتْلُهُمْ مُدْبِرِينَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَيْهِمْ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنِينَ وَصِنْفٍ آخَرَ مِنْهُمْ ، إذَا كَانَ أَهْلُ الْعَدْلِ هُمْ الظَّاهِرِينَ عَلَى مَنْ يَسْتَعِينُونَ بِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقَصْدَ كَفُّهُمْ ، وَرَدُّهُمْ إلَى الطَّاعَةِ ، دُونَ قَتْلِهِمْ ، وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى كَفِّهِمْ ، اسْتَعَانَ بِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ ، لَمْ يَجُزْ .
( 7069 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَظْهَرَ قَوْمٌ رَأْيَ الْخَوَارِجِ ، مِثْلُ تَكْفِيرِ مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً ، وَتَرْكِ الْجَمَاعَةِ ، وَاسْتِحْلَالِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ ، إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ قَبْضَةِ الْإِمَامِ ، وَلَمْ يَسْفِكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ ، فَحَكَى الْقَاضِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِذَلِكَ قَتْلُهُمْ وَلَا قِتَالُهُمْ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْفِقْهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
فَعَلَى هَذَا ، حُكْمُهُمْ فِي ضَمَانِ النَّفْسِ وَالْمَالِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ .
وَإِنْ سَبُّوا الْإِمَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ ، عُزِّرُوا ؛ لِأَنَّهُمْ ارْتَكَبُوا مُحَرَّمًا لَا حَدَّ فِيهِ .
وَإِنْ عَرَّضُوا بِالسَّبِّ ، فَهَلْ يُعَزَّرُونَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْإِبَاضِيَّةِ ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ : يُسْتَتَابُونَ ، فَإِنْ تَابُوا ، وَإِلَّا ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ .
قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ : رَأَى مَالِكٌ قَتْلَ الْخَوَارِجِ وَأَهْلِ الْقَدَرِ ، مِنْ أَجْلِ الْفَسَادِ الدَّاخِلِ فِي الدِّينِ ، كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، فَإِنْ تَابُوا ، وَإِلَّا قُتِلُوا عَلَى إفْسَادِهِمْ ، لَا عَلَى كُفْرِهِمْ .
وَأَمَّا مَنْ رَأَى تَكْفِيرَهُمْ ، فَمُقْتَضَى قَوْلِهِ ، أَنَّهُمْ يُسْتَتَابُونَ ، فَإِنْ تَابُوا ، وَإِلَّا قُتِلُوا لِكُفْرِهِمْ ، كَمَا يُقْتَلُ الْمُرْتَدُّ ، وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ ، لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ { وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : إنَّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ .
لِأَبِي بَكْرٍ : اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ .
ثُمَّ قَالَ لِعُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ قَبْلَ قِتَالِهِ } .
وَهُوَ الَّذِي قَالَ : { يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ } .
يَعْنِي الْخَوَارِجَ .
وَقَوْلُ عُمَرَ لِصَبِيغٍ : لَوْ وَجَدْتُك مَحْلُوقًا ، لَضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك بِالسَّيْفِ
.
يَعْنِي لَقَتَلْتُك .
وَإِنَّمَا يَقْتُلُهُ لِكَوْنِهِ مِنْ الْخَوَارِجِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { سِيمَاهُمْ التَّسْبِيدُ } .
يَعْنِي حَلْقَ رُءُوسِهِمْ .
وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِفِعْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ ، أَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ يَوْمًا ، فَقَالَ رَجُلٌ بِبَابِ الْمَسْجِدِ : لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ .
فَقَالَ عَلِيٌّ : كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ .
ثُمَّ قَالَ : لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ ؛ لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ .
وَرَوَى أَبُو يَحْيَى ، قَالَ : صَلَّى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةً ، فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْ الْخَوَارِجِ : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ } .
فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } .
وَكَتَبَ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَاةَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : إنَّ الْخَوَارِجَ يَسُبُّونَكَ .
فَكَتَبَ إلَيْهِ : إنْ سَبُّونِي فَسُبُّوهُمْ ، أَوْ اُعْفُوا عَنْهُمْ ، وَإِنْ شَهَرُوا السِّلَاحَ فَاشْهَرُوا عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ ضَرَبُوا فَاضْرِبُوا .
وَلِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْمَدِينَةِ } ، فَلَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِغَيْرِهِمْ أَوْلَى .
وَقَدْ رُوِيَ فِي خَبَرِ الْخَارِجِيِّ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِ { ، أَنَّ خَالِدًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ قَالَ : ، لَعَلَّهُ يُصَلِّي .
قَالَ : رُبَّ مُصَلٍّ لَا خَيْرَ فِيهِ .
قَالَ : إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ .
}
( 7070 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : فَإِنْ آلَ مَا دُفِعُوا بِهِ إلَى نُفُوسِهِمْ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الدَّافِعِ ، وَإِنْ قُتِلَ الدَّافِعُ فَهُوَ شَهِيدٌ .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ أَهْلِ الْبَغْيِ إلَّا بِقَتْلِهِمْ ، جَازَ قَتْلُهُمْ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُمْ ؛ مِنْ إثْمٍ وَلَا ضَمَانٍ وَلَا كَفَّارَةٍ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ ، وَقَتَلَ مَنْ أَحَلَّ اللَّهُ قَتْلَهُ ، وَأَمَرَ بِمُقَاتَلَتِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا أَتْلَفَهُ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ حَالَ الْحَرْبِ ، مِنْ الْمَالِ ، لَا ضَمَانَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَضْمَنُوا الْأَنْفُسَ فَالْأَمْوَالُ أَوْلَى .
وَإِنْ قُتِلَ الْعَادِلُ ، كَانَ شَهِيدًا ؛ لِأَنَّهُ قُتِلَ فِي قِتَالٍ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ : { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } .
وَهَلْ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يُغَسَّلُ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ شَهِيدُ مَعْرَكَةٍ أُمِرَ بِالْقِتَالِ فِيهَا ، فَأَشْبَهَ شَهِيدَ مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يُغَسَّلُ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ وَلِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاسْتَثْنَى قَتِيلَ الْكُفَّارِ فِي الْمَعْرَكَةِ } ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ ؛ وَلِأَنَّ شَهِيدَ مَعْرَكَةِ الْكُفَّارِ أَجْرُهُ أَعْظَمُ ، وَفَضْلُهُ أَكْثَرُ ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ يُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ، وَهَذَا لَا يَلْحَقُ بِهِ فِي فَضْلِهِ ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ مِثْلُ حُكْمِهِ ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَاسُ عَلَى مِثْلِهِ .
فَصْلٌ : وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ أَيْضًا ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ حَالَ الْحَرْبِ ، مِنْ نَفْسٍ وَلَا مَالَ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَفِي الْآخَرِ ، يَضْمَنُونَ ذَلِكَ ؛ لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ : تَدُونَ قَتْلَانَا ، وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ .
وَلِأَنَّهَا نُفُوسٌ وَأَمْوَالٌ مَعْصُومَةٌ ، أُتْلِفَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا ضَرُورَةِ دَفْعٍ مُبَاحٍ ؛ فَوَجَبَ ضَمَانُهُ ، كَاَلَّذِي تَلِفَتْ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ ، أَنَّهُ قَالَ : كَانَتْ الْفِتْنَةُ الْعُظْمَى بَيْنَ النَّاسِ وَفِيهِمْ الْبَدْرِيُّونَ ، فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَا يُقَامَ حَدٌّ عَلَى رَجُلٍ ارْتَكَبَ فَرْجًا حَرَامًا بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ ، وَلَا يَغْرَمَ مَالًا أَتْلَفَهُ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ .
وَلِأَنَّهَا طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ بِالْحَرْبِ ، بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ ، فَلَمْ تَضْمَنْ مَا أَتْلَفَتْ عَلَى الْأُخْرَى ، كَأَهْلِ الْعَدْلِ ، وَلِأَنَّ تَضْمِينَهُمْ يُفْضِي إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الطَّاعَةِ ، فَلَا يُشْرَعُ ، كَتَضْمِينِ أَهْلِ الْحَرْبِ .
فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ ، وَلَمْ يُمْضِهِ ، فَإِنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ : أَمَّا أَنْ يَدُوا قَتْلَانَا فَلَا ؛ فَإِنَّ قَتْلَانَا قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ، عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ .
فَوَافَقَهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَرَجَعَ إلَى قَوْلِهِ ، فَصَارَ أَيْضًا إجْمَاعًا حُجَّةً لَنَا ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ غَرَّمَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ قَتَلَ طُلَيْحَةُ عُكَاشَةَ بْنَ مُحْصِنٍ ، وَثَابِتَ بْنَ أَثْرَمَ ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، فَلَمْ يُغَرَّمْ شَيْئًا .
ثُمَّ لَوْ وَجَبَ التَّغْرِيمُ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّينَ ، لَمْ يَلْزَمْ مِثْلُهُ هَاهُنَا ، فَإِنَّ أُولَئِكَ كُفَّارٌ لَا تَأْوِيلَ لَهُمْ ، وَهَؤُلَاءِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ إلْحَاقُهُمْ بِهِمْ ، فَأَمَّا مَا أَتْلَفَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ ، قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ ، فَعَلَى مُتْلِفِهِ ضَمَانُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ
، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَتَلَ الْخَوَارِجُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ ، أَرْسَلَ إلَيْهِمْ عَلِيٌّ : أَقِيدُونَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ .
وَلَمَّا قَتَلَ ابْنُ مُلْجَمٍ عَلِيًّا فِي غَيْرِ الْمَعْرَكَةِ ، أُقِيدَ بِهِ .
وَهَلْ يَتَحَتَّمُ قَتْلُ الْبَاغِي إذَا قَتَلَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي غَيْرِ الْمَعْرَكَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَتَحَتَّمُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ بِإِشْهَارِ السِّلَاحِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، فَيُحَتَّمَ قَتْلُهُ ، كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ .
وَالثَّانِي : لَا يَتَحَتَّمُ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنْ شِئْت أَنْ أَعْفُوَ ، وَإِنْ شِئْت اسْتَقَدْت .
فَأَمَّا الْخَوَارِجُ ، فَالصَّحِيحُ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، إبَاحَةُ قَتْلِهِمْ ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى قَاتِلِ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ .
( 7072 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا دُفِعُوا لَمْ يُتْبَعْ لَهُمْ مُدْبِرٌ ، وَلَا يُجَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ ، وَلَمْ يُقْتَلْ لَهُمْ أَسِيرٌ ، وَلَمْ يُغْنَمْ لَهُمْ مَالٌ ، وَلَمْ تُسْبَ لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ إذَا تَرَكُوا الْقِتَالَ ؛ إمَّا بِالرُّجُوعِ إلَى الطَّاعَةِ ، وَإِمَّا بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ ، وَإِمَّا بِالْهَزِيمَةِ إلَى فِئَةٍ أَوْ إلَى غَيْرِ فِئَةٍ ، وَإِمَّا بِالْعَجْزِ ؛ لِجِرَاحٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ أَسْرٍ ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ ، وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، إذَا هُزِمُوا وَلَا فِئَةَ لَهُمْ كَقَوْلِنَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ يَلْجَئُونَ إلَيْهَا ، جَازَ قَتْلُ مُدْبِرِهِمْ وَأَسِيرِهِمْ ، وَالْإِجَازَةُ عَلَى جَرِيحِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ ، لَمْ يُقْتَلُوا ، لَكِنْ يُضْرَبُونَ ضَرْبًا وَجِيعًا ، وَيُحْبَسُونَ حَتَّى يُقْلِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ ، وَيُحْدِثُوا تَوْبَةً .
ذَكَرُوا هَذَا فِي الْخَوَارِجِ .
وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ هَذَا .
وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى لَمْ يَقْتُلْهُمْ ، اجْتَمَعُوا ثُمَّ عَادُوا إلَى الْمُحَارَبَةِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ : لَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ ، وَلَا يُهْتَكُ سِتْرٌ ، وَلَا يُفْتَحُ بَابٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابًا أَوْ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ، وَلَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ .
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَمَّارٍ .
وَعَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَدَى قَوْمًا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، قُتِلُوا مُدْبِرِينَ .
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، أَنَّهُ قَالَ : شَهِدْت صِفِّينَ ، فَكَانُوا لَا يُجِيزُونَ عَلَى جَرِيحٍ ، وَلَا يَقْتُلُونَ مُولِيًا ، وَلَا يَسْلُبُونَ قَتِيلًا .
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي ، فِي " شَرْحِهِ " ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ ، مَا حُكْمُ مَنْ بَغَى عَلَى أُمَّتِي ؟ فَقُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
فَقَالَ : لَا يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ ، وَلَا
يُجَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ ، وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرُهُمْ ، وَلَا يُقْسَمُ فَيْؤُهُمْ } .
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهُمْ وَكَفُّهُمْ ، وَقَدْ حَصَلَ ، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُمْ ، كَالصَّائِلِ .
وَلَا يُقْتَلُونَ لِمَا يُخَافُ فِي الثَّانِي : كَمَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ قَتَلَ إنْسَانٌ مَنْ مُنِعَ مِنْ قَتْلِهِ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ مَعْصُومًا ، لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهِ .
وَفِي الْقِصَاصِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَجِبُ ، لِأَنَّهُ مُكَافِئُ مَعْصُومٍ .
وَالثَّانِي : لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ فِي قَتْلِهِمْ اخْتِلَافًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَأَمَّا أَسِيرُهُمْ ، فَإِنْ دَخَلَ فِي الطَّاعَةِ ، خُلِّيَ سَبِيلُهُ ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ ، وَكَانَ رَجُلًا جَلْدًا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، حُبِسَ مَا دَامَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْحَرْبُ ، خُلِّيَ سَبِيلُهُ ، وَشُرِطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى الْقِتَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ الْفَانِينَ ، خُلِّيَ سَبِيلُهُمْ ، وَلَمْ يُحْبَسُوا ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَفِي الْآخَرِ ، يُحْبَسُونَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَسْرًا لِقُلُوبِ الْبُغَاةِ .
وَإِنْ أَسَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ أُسَارَى مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرِ ، جَازَ فِدَاءُ أَسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِأُسَارَى أَهْلِ الْبَغْيِ .
وَإِنْ قَتَلَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ ، لَمْ يَجُزْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ قَتْلُ أُسَارَاهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ بِجِنَايَةِ غَيْرِهِمْ ، وَلَا يَزِرُونَ وِزْرَ غَيْرِهِمْ .
وَإِنْ أَبَى الْبُغَاةُ مُفَادَاةَ الْأَسْرَى الَّذِينَ مَعَهُمْ ، وَحَبَسُوهُمْ ، احْتَمَلَ أَنْ يَجُوزَ لِأَهْلِ الْعَدْلِ حَبْسُ مَنْ مَعَهُمْ ؛ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى تَخْلِيصِ أُسَارَاهُمْ بِحَبْسِ مَنْ مَعَهُمْ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ حَبْسُهُمْ وَيُطْلَقُونَ ؛ لِأَنَّ الذَّنْبَ فِي حَبْسِ أُسَارَى أَهْلِ الْعَدْلِ لِغَيْرِهِمْ .
( 7073 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا غَنِيمَةُ أَمْوَالِهِمْ ، وَسَبْيُ ذُرِّيَّتِهِمْ ، فَلَا نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أَبِي أُمَامَةَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ؛ وَلِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ مَا حَصَلَ مِنْ ضَرُورَةِ دَفْعِهِمْ وَقِتَالِهِمْ ، وَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ ، قَالَ : مَنْ عَرَفَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ مَعَ أَحَدٍ ، فَلْيَأْخُذْهُ .
وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِ عَلِيٍّ قَدْ أَخَذَ قِدْرًا وَهُوَ يُطْبَخُ فِيهَا ، فَجَاءَ صَاحِبُهَا لِيَأْخُذَهَا ، فَسَأَلَهُ الَّذِي يَطْبُخُ فِيهَا إمْهَالَهُ حَتَّى يَنْضَجَ الطَّبِيخُ ، فَأَبَى ، وَكَبَّهُ ، وَأَخَذَهَا .
وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا نَقَمَ الْخَوَارِجُ مِنْ عَلِيٍّ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ ، فَإِنْ حَلَّتْ لَهُ دِمَاؤُهُمْ ، فَقَدْ حَلَّتْ لَهُ أَمْوَالُهُمْ ، وَإِنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أَمْوَالُهُمْ ، فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ .
فَقَالَ لَهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَفَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ ؟ يَعْنِي عَائِشَةَ أَمْ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا تَسْتَحِلُّونَ مِنْ غَيْرِهَا ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : لَيْسَتْ أُمَّكُمْ .
فَقَدْ كَفَرْتُمْ ، وَإِنْ قُلْتُمْ : إنَّهَا أُمُّكُمْ .
وَاسْتَحْلَلْتُمْ سَبْيَهَا ، فَقَدْ كَفَرْتُمْ .
يَعْنِي بِقَوْلِهِ إنَّكُمْ إنْ جَحَدْتُمْ أَنَّهَا أُمُّكُمْ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } .
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمًّا لَهُمْ ، لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ .
وَلِأَنَّ قِتَالَ الْبُغَاةِ إنَّمَا هُوَ لِدَفْعِهِمْ وَرَدِّهِمْ إلَى الْحَقِّ ، لَا لِكُفْرِهِمْ ، فَلَا يُسْتَبَاحُ مِنْهُمْ إلَّا مَا حَصَلَ ضَرُورَةَ الدَّفْعِ ؛ كَالصَّائِلِ ، وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ ، وَبَقِيَ حُكْمُ الْمَالِ وَالذُّرِّيَّةِ عَلَى أَصْلِ الْعِصْمَةِ .
وَمَا أُخِذَ مِنْ كُرَاعِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ ، لَمْ يُرَدَّ إلَيْهِمْ حَالَ الْحَرْبِ ؛ لِئَلَّا يُقَاتِلُونَا بِهِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّ
أَحْمَدَ أَوْمَأَ إلَى جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَالَ الْتِحَامِ الْحَرْبِ ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ قِتَالِهِمْ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَ يَجُوزُ فِيهَا إتْلَافُ نُفُوسِهِمْ وَحَبْسُ سِلَاحِهِمْ وَكُرَاعِهِمْ ؛ فَجَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، كَسِلَاحِ أَهْلِ الْحَرْبِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ ، فَلَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، كَغَيْرِهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَمَتَى انْقَضَتْ الْحَرْبُ ، وَجَبَ رَدُّهُ إلَيْهِمْ ، كَمَا تُرَدُّ إلَيْهِمْ سَائِرُ أَمْوَالِهِمْ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ .
} وَرَوَى أَبُو قَيْسٍ ، أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَادَى : مَنْ وَجَدَ مَالَهُ فَلْيَأْخُذْهُ .
( 7074 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ ، غُسِّلَ وَكُفِّنَ ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ ) يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ ، صُلِّيَ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ فِئَةٌ ، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، فَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ ، كَالْكُفَّارِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ ، فِي " جَامِعِهِ " .
وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ حُكْمُ الشَّهَادَةِ ، فَيُغَسَّلُونَ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَالْمُقْتَصِّ مِنْهُ ، وَالْقَاتِلِ فِي الْمُحَارَبَةِ ( 7075 ) فَصْلٌ : لَمْ يُفَرِّقْ أَصْحَابُنَا بَيْنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فِي هَذَا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى الْخَوَارِجِ فَإِنَّهُ قَالَ : أَهْلُ الْبِدَعِ ، إنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : الْجَهْمِيَّةُ وَالرَّافِضَةُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ، قَدْ تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا .
وَذَكَرَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُقَاتَلَ خَيْبَرُ مِنْ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِيهَا ، فَقَاتَلَ رَجُلٌ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ ، فَقُتِلَ ، فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقِيلَ : إنَّهُ كَانَ فِي قَرْيَةٍ أَهْلُهَا نَصَارَى ، لَيْسَ فِيهَا مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ .
قَالَ : أَنَا لَا أَشْهَدُهُ ، يَشْهَدُهُ مَنْ شَاءَ } .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُصَلَّى عَلَى الْإِبَاضِيَّةِ ، وَلَا الْقَدَرِيَّةِ ، وَسَائِرِ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ ، وَلَا تُتْبَعُ جَنَائِزُهُمْ ، وَلَا تُعَادُ مَرْضَاهُمْ .
وَالْإِبَاضِيَّةُ صِنْفٌ مِنْ الْخَوَارِجِ ، نُسِبُوا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
إبَاضٍ ، صَاحِبِ مَقَالَتِهِمْ .
وَالْأَزَارِقَةُ أَصْحَابُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ .
وَالنَّجَدَاتُ أَصْحَابُ نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ .
وَالْبَيْهَسِيَّةِ أَصْحَابُ بَيْهَسٍ .
وَالصُّفْرِيَّةُ قِيلَ : إنَّهُمْ نُسِبُوا إلَى صُفْرَةِ أَلْوَانِهِمْ ، وَأَصْنَافُهُمْ كَثِيرَةٌ .
وَالْحَرُورِيَّةُ نُسِبُوا إلَى أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا : حَرُورَاءَ خَرَجُوا بِهَا .
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ : لَا أُصَلِّي عَلَى الرَّافِضِيِّ ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ عُمَرَ كَافِرٌ ، وَلَا عَلَى الْحَرُورِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ عَلِيًّا كَافِرٌ .
وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ : مَنْ شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ فَهُوَ كَافِرٌ ، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ .
وَوَجْهُ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ ، أَنَّهُمْ يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَرَوْنَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ ، فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ، كَالْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَلِأَنَّهُمْ مَرَقُوا مِنْ الدِّينِ ، فَأَشْبَهُوا الْمُرْتَدِّينَ .
( 7076 ) فَصْلٌ : وَالْبُغَاةُ إذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ ، لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ ، وَإِنَّمَا هُمْ يُخْطِئُونَ فِي تَأْوِيلِهِمْ ، وَالْإِمَامُ وَأَهْلُ الْعَدْلِ مُصِيبُونَ فِي قِتَالِهِمْ ، فَهُمْ جَمِيعًا كَالْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي الْأَحْكَامِ ، مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ عَدْلًا .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا أَعْلَمُ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ خِلَافًا .
فَأَمَّا الْخَوَارِجُ ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ ، إذَا خَرَجُوا عَلَى الْإِمَامِ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، لِأَنَّهُمْ فُسَّاقٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَفْسُقُونَ بِالْبَغْيِ ، وَخُرُوجِهِمْ عَلَى الْإِمَامِ ، وَلَكِنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ فِسْقَهُمْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ ، فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ ، وَقَدْ قُبِلَ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَيُذْكَرُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَةِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 7077 ) فَصْلٌ : ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْعَادِلِ قَتْلُ ذِي رَحِمِهِ الْبَاغِي ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِحَقٍّ ، فَأَشْبَهَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ .
وَكَرِهَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْقَصْدَ إلَى ذَلِكَ .
وَهُوَ أَصَحُّ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : { كَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا حُذَيْفَةَ وَعُتْبَةَ عَنْ قَتْلِ أَبِيهِ } .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَحِلُّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِمُصَاحَبَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَعْرُوفِ .
فَإِنْ قَتَلَهُ ، فَهَلْ يَرِثُهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَرِثُهُ .
هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِحَقٍّ ، فَلَمْ يَمْنَعْ الْمِيرَاثَ ، كَالْقِصَاصِ وَالْقَتْلِ فِي الْحَجِّ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يَرِثُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَيْسَ لِقَاتِلٍ شَيْءٌ } .
فَأَمَّا الْبَاغِي إذَا قَتَلَ الْعَادِلَ ، فَلَا يَرِثُهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَرِثُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِتَأْوِيلٍ ، أَشْبَهَ قَتْلَ الْعَادِلِ الْبَاغِيَ .
وَلَنَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلَمْ يَرِثْهُ ، كَالْقَاتِلِ خَطَأً ، وَفَارَقَ مَا إذَا قَتَلَهُ الْعَادِلُ ، لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِحَقٍّ .
وَقَالَ قَوْمٌ : إذَا تَعَمَّدَ الْعَادِلُ قَتْلَ قَرِيبِهِ ، فَقَتَلَهُ ابْتِدَاءً ؛ لَمْ يَرِثْهُ ، وَإِنْ قَصَدَ ضَرْبَهُ ، لِيَصِيرَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ ، فَجَرَحَهُ ، وَمَاتَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ ، وَرِثَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِحَقٍّ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ : هُوَ أَقْرَبُ الْأَقَاوِيلِ .
( 7078 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَا أَخَذُوا فِي حَالِ امْتِنَاعِهِمْ ؛ مِنْ زَكَاةٍ ، أَوْ خَرَاجٍ ، لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِمْ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ إذَا غَلَبُوا عَلَى بَلَدٍ ، فَجَبَوْا الْخَرَاجَ وَالزَّكَاةَ وَالْجِزْيَةَ ، وَأَقَامُوا الْحُدُودَ ، وَقَعَ ذَلِكَ مَوْقِعَهُ ، فَإِذَا ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ بَعْدُ عَلَى الْبَلَدِ ، وَظَفِرُوا بِأَهْلِ الْبَغْيِ ، لَمْ يُطَالَبُوا بِشَيْءٍ مِمَّا جَبَوْهُ ، وَلَمْ يُرْجَعْ بِهِ عَلَى مَنْ أُخِذَ مِنْهُ .
رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْخَوَارِجِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : عَلَى مَنْ أَخَذُوا مِنْهُ الزَّكَاةَ الْإِعَادَةُ ، لِأَنَّهُ أَخَذَهَا مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ صَحِيحَةٌ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهَا آحَادُ الرَّعِيَّةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، لَمْ يُطَالِبْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا جَبَوْهُ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا أَتَاهُ سَاعِي نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ ، دَفَعَ إلَيْهِ زَكَاتَهُ .
وَكَذَلِكَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ .
وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ الِاحْتِسَابِ بِهَا ضَرَرًا عَظِيمًا ، وَمَشَقَّةً كَثِيرَةً ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يَغْلِبُونَ عَلَى الْبِلَادِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ ، فَلَوْ لَمْ يُحْتَسَبْ بِمَا أَخَذُوهُ ، أَدَّى إلَى ثِنَا الصَّدَقَاتِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ كُلِّهَا .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِذَا ذَكَرَ أَرْبَابُ الصَّدَقَاتِ أَنَّهُمْ قَدْ أَخَذُوا صَدَقَاتِهِمْ ، قُبِلَ قَوْلُهُمْ بِغَيْرِ يَمِينٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُسْتَحْلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ .
وَإِنْ ادَّعَى أَهْلُ الذِّمَّةِ دَفْعَ جِزْيَتِهِمْ ، لَمْ تُقْبَلْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَأْمُونِينَ ، وَلِأَنَّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ عِوَضٌ ، وَلَيْسَ بِمُوَاسَاةٍ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ ، كَأُجْرَةِ الدَّارِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُمْ إذَا مَضَى الْحَوْلُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبُغَاةَ لَا يَدَعُونَ الْجِزْيَةَ لَهُمْ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ ؛
لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُمْ ، وَلِأَنَّهُ إذَا مَضَى لِذَلِكَ سُنُونَ كَثِيرَةٌ ، شَقَّ عَلَيْهِمْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى كُلِّ عَامٍ ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَغْرِيمِهِمْ الْجِزْيَةَ مَرَّتَيْنِ .
وَإِنْ ادَّعَى مَنْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ دَفْعَهُ إلَيْهِمْ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى مُسْلِمٍ ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ كَالزَّكَاةِ .
وَالثَّانِي : لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ ، فَأَشْبَهَ الْجِزْيَةَ .
وَإِنْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ ذِمِّيًّا ، فَهُوَ كَالْجِزْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَلَى غَيْرِ مُسْلِمٍ ، فَهُوَ كَالْجِزْيَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْخَرَاجَيْنِ ، فَأَشْبَهَ الْجِزْيَةَ .
( 7079 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ حَاكِمِهِمْ ، إلَّا مَا يُنْقَضُ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهِ ) يَعْنِي إذَا نَصَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَاضِيًا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ الْعَدْلِ ، يَنْفُذُ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا يَنْفُذُ مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَيُرَدُّ مِنْهُ مَا يُرَدُّ .
فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالَهُمْ ، لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَدْلٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ يَفْسُقُونَ بِبَغْيِهِمْ ، وَالْفِسْقُ يُنَافِي الْقَضَاءَ .
وَلَنَا أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي الْفُرُوعِ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْقَضَاءِ ، وَلَمْ يَفْسُقْ كَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا حَكَمَ بِمَا لَا يُخَالِفُ إجْمَاعًا ، نَفَذَ حُكْمُهُ ، وَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ ، نُقِضَ حُكْمُهُ لِأَنَّ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ إذَا حَكَمَ نُقِضَ حُكْمُهُ ؛ فَقَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ أَوْلَى .
وَإِنْ حَكَمَ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ حَالَ الْحَرْبِ ، جَازَ حُكْمُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ .
وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ فِيمَا أَتْلَفُوهُ قَبْلَ قِيَامِ الْحَرْبِ ، لَمْ يَنْفُذْ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ .
وَإِنْ حَكَمَ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فِيمَا أَتْلَفُوهُ حَالِ الْحَرْبِ ، لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ ؛ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ .
وَإِنْ حَكَمَ بِوُجُوبِ ضَمَانِ مَا أَتْلَفُوهُ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَرْبِ ، نَفَذَ حُكْمُهُ .
وَإِنْ كَتَبَ قَاضِيهِمْ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ ، جَازَ قَبُولُ كِتَابِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ ثَابِتُ الْقَضَايَا ، نَافِذُ الْأَحْكَامِ .
وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَقْبَلَهُ ، كَسْرًا لِقُلُوبِهِمْ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يَقْبَلُهُ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ لَا يَجُوزُ .
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي هَذَا .
فَأَمَّا الْخَوَارِجُ إذَا وَلَّوْا قَاضِيًا ، لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِهِمْ الْفِسْقُ ، وَالْفِسْقُ يُنَافِي الْقَضَاءَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَصِحَّ قَضَاؤُهُ ، وَتَنْفُذَ أَحْكَامُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَطَاوَلُ ، وَفِي الْقَضَاءِ بِفَسَادِ قَضَايَاهُ وَعُقُودِهِ - الْأَنْكِحَةِ وَغَيْرِهَا - ضَرَرٌ كَثِيرٌ ، فَجَازَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ ، كَمَا لَوْ أَقَامَ الْحُدُودَ ، وَأَخَذَ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ وَالزَّكَاةَ .
فَصْلٌ : وَإِنْ ارْتَكَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ فِي حَالِ امْتِنَاعِهِمْ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ ، أُقِيمَتْ فِيهِمْ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا تَسْقُطُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا امْتَنَعُوا بِدَارٍ ، لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ ، وَلَا عَلَى مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ تَاجِرٍ أَوْ أَسِيرٍ ؛ لِأَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ دَارِ الْإِمَامِ ، فَأَشْبَهُوا مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ تَجِبُ فِيهِ الْعِبَادَاتُ فِي أَوْقَاتِهَا ، تَجِبُ الْحُدُودُ فِيهِ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِهَا ، كَدَارِ أَهْلِ الْعَدْلِ ؛ وَلِأَنَّهُ زَانٍ أَوْ سَارِقٌ ، لَا شُبْهَةَ فِي زِنَاهُ وَسَرِقَتِهِ ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، كَاَلَّذِي فِي دَارِ الْعَدْلِ .
وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ أَتَى حَدًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ ، لَكِنْ لَا يُقَامُ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
( 7081 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَعَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ بِالْكُفَّارِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ ؛ أَحَدُهُمْ : أَهْلُ الْحَرْبِ ، فَإِذَا اسْتَعَانُوا بِهِمْ ، أَوْ آمَنُوهُمْ ، أَوْ عَقَدُوا لَهُمْ ذِمَّةً ، لَمْ يَصِحَّ وَاحِدٌ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ إلْزَامُ كَفِّهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَؤُلَاءِ يَشْتَرِطُونَ عَلَيْهِمْ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَصِحُّ .
وَلِأَهْلِ الْعَدْلِ قِتَالُهُمْ ، كَمَنْ لَمْ يُؤَمِّنُوهُ سَوَاءً .
وَحُكْمُ أَسِيرِهِمْ حُكْمُ أَسِيرِ سَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ ، فَأَمَّا أَهْلُ الْبَغْيِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ قَتْلُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ آمَنُوهُمْ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ الْغَدْرُ بِهِمْ .
الصِّنْفُ الثَّانِي : الْمُسْتَأْمَنُونَ ، فَمَتَى اسْتَعَانُوا بِهِمْ فَأَعَانُوهُمْ ، نَقَضُوا عَهْدَهُمْ ، وَصَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الشَّرْطَ ، وَهُوَ كَفُّهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ مُكْرَهِينَ ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ عُذْرًا ، وَإِنْ ادَّعَوْا الْإِكْرَاهَ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ .
الصِّنْفُ الثَّالِثُ : أَهْلُ الذِّمَّةِ ، فَإِذَا أَعَانُوهُمْ ، وَقَاتَلُوا مَعَهُمْ ، فَفِيهِمْ وَجْهَانِ ، ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا أَهْلَ الْحَقِّ ، فَيَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدُوا بِقِتَالِهِمْ .
وَالثَّانِي : لَا يَنْتَقِضُ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَعْرِفُونَ الْمُحِقَّ مِنْ الْمُبْطِلِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهُمْ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ ، كَالْوَجْهَيْنِ .
فَإِنْ قُلْنَا : يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ .
صَارُوا كَأَهْلِ الْحَرْبِ فِيمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ .
فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْبَغْيِ ، فِي قَتْلِ مُقْبِلِهِمْ ، وَالْكَفِّ عَنْ أَسِيرِهِمْ ، وَمُدْبِرِهِمْ وَجَرِيحِهِمْ ، إلَّا أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَالَ الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ ، فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا
أَتْلَفُوا حَالَ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوهُ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ ، وَهَؤُلَاءِ لَا تَأْوِيلَ لَهُمْ ، وَلِأَنَّهُ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الطَّاعَةِ ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَا حَاجَةَ بِنَا إلَى ذَلِكَ فِيهِمْ .
وَإِنْ أَكْرَهَهُمْ الْبُغَاةُ عَلَى مَعُونَتِهِمْ ، لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ ، وَإِنْ ادَّعَوْا ذَلِكَ ، قُبِلَ قَوْلُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ .
وَإِنْ قَالُوا ظَنَنَّا أَنَّ مَنْ اسْتَعَانَ بِنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَزِمَتْنَا مَعُونَتُهُ .
لَمْ يَنْتَقِضْ عَهْدُهُمْ .
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُونَ ، انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ أَقْوَى حُكْمًا ؛ لِأَنَّ عَهْدَهُمْ مُؤَبَّدٌ ، وَلَا يَجُوزُ نَقْضُهُ لِخَوْفِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ ، وَيَلْزَمُ الْإِمَامَ الدَّفْعُ عَنْهُمْ ، وَالْمُسْتَأْمَنُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ .
فَصْلٌ : وَإِذَا ارْتَدَّ قَوْمٌ فَأَتْلَفُوا مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ ، لَزِمَهُمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ ، سَوَاءٌ تَحَيَّزُوا ، أَوْ صَارُوا فِي مَنَعَةٍ ، أَوْ لَمْ يَصِيرُوا .
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : حُكْمُهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْبَغْيِ ، فِيمَا أَتْلَفُوهُ مِنْ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّ تَضْمِينَهُمْ ، يُؤَدِّي إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَأَشْبَهُوا أَهْلَ الْبَغْيِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِ الرِّدَّةِ ، حِينَ رَجَعُوا : تَرُدُّونَ عَلَيْنَا مَا أَخَذْتُمْ مِنَّا ، وَلَا نَرُدُّ عَلَيْكُمْ مَا أَخَذْنَا مِنْكُمْ ، وَأَنْ تَدُوا قَتْلَانَا ، وَلَا نَدِي قَتْلَاكُمْ .
قَالُوا : نَعَمْ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ .
فَقَالَ عُمَرُ : كُلُّ مَا قُلْتَ كَمَا قُلْتَ ، إلَّا أَنْ يَدُوا مَا قُتِلَ مِنَّا ، فَلَا ؛ لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاسْتُشْهِدُوا .
وَلِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوهُ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ ، فَأَشْبَهُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ .
فَأَمَّا الْقَتْلَى ، فَحُكْمُهُمْ فِيهِمْ حُكْمُ أَهْلِ الْبَغْيِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ خَبَرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَلِأَنَّ طُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّ قَتَلَ عُكَاشَةَ بْنَ مُحْصِنٍ الْأَسَدِيَّ ، وَثَابِتَ بْنَ أَثْرَمَ ، فَلَمْ يَغْرَمْهُمَا ، وَبَنُو حَنِيفَةَ قَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، فَلَمْ يَغْرَمُوا شَيْئًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ أَحْمَدَ ، وَكَلَامُهُ فِي الْمَالِ ، عَلَى وُجُوبِ رَدِّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ دُونَ مَا أَتْلَفُوهُ ، وَعَلَى مَنْ أَتْلَفَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنَعَةٌ ، أَوْ أَتْلَفَ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ ، وَمَا أَتْلَفُوهُ حَالَ الْحَرْبِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَقَطَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ الرُّجُوعِ إلَى الطَّاعَةِ ، فَلَأَنْ يَسْقُطَ ذَلِكَ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى التَّنْفِيرِ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْلَى ، لِأَنَّهُمْ إذَا امْتَنَعُوا صَارُوا كُفَّارًا مُمْتَنِعِينَ بِدَارِهِمْ ،
فَأَشْبَهُوا أَهْلَ الْحَرْبِ .
وَيُحْمَلُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْمَالِ ، فَيَكُونُ مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا سَوَاءً .
وَهَذَا أَعْدَلُ وَأَصَحُّ .
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَأَمَّا مَنْ لَا مَنَعَةَ لَهُ فَيَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ ، كَالْوَاحِدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنَعَةَ لَهُ ، وَلَا يَكْثُرُ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَبَقِيَ الْمَالُ وَالنَّفْسُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عَلَى عِصْمَتِهِ ، وَوُجُوبِ ضَمَانِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْمُرْتَدِّ الْمُرْتَدُّ : هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَمُعَاذٍ ، وَأَبِي مُوسَى ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَخَالِدٍ ، وَغَيْرِهِمْ ، وَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
( 7083 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، وَكَانَ بَالِغًا عَاقِلًا ، دُعِيَ إلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَضُيِّقَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ رَجَعَ ، وَإِلَّا قُتِلَ .
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ خَمْسَةٌ : ( 7084 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي وُجُوبِ الْقَتْلِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَكْحُولٌ ، وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَالْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ لَا تُقْتَلُ ؛ وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَرَقَّ نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ ، وَذَرَارِيَّهُمْ ، وَأَعْطَى عَلِيًّا مِنْهُمْ امْرَأَةً ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَكَانَ هَذَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يُنْكَرْ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ ، وَلَا تُقْتَلُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَقْتُلُوا امْرَأَةً } .
وَلِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ، فَلَا تُقْتَلُ بِالطَّارِئِ ، كَالصَّبِيِّ .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ؛ الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، { أَنَّ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا : أُمُّ مَرْوَانَ ، ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَبَلَغَ أَمْرُهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَمَرَ أَنْ تُسْتَتَابَ ، فَإِنْ تَابَتْ ، وَإِلَّا قُتِلَتْ } .
وَلِأَنَّهَا شَخْصٌ مُكَلَّفٌ بَدَّلَ دِينَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ ، فَيُقْتَلُ كَالرَّجُلِ .
وَأَمَّا نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الْمَرْأَةِ ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْأَصْلِيَّةُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حِينَ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً ، وَكَانَتْ كَافِرَةً أَصْلِيَّةً ، وَلِذَلِكَ نَهَى الَّذِينَ بَعَثَهُمْ إلَى ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُرْتَدٌّ .
وَيُخَالِفُ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ الطَّارِئَ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّجُلَ يُقَرُّ عَلَيْهِ ، وَلَا يُقْتَلُ أَهْلُ الصَّوَامِعِ ، وَالشُّيُوخُ وَالْمَكَافِيفُ ، وَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى تَرْكِهِ بِضَرْبٍ وَلَا حَبْسٍ ، وَالْكُفْرُ الطَّارِئُ بِخِلَافِهِ ، وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ؛ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ .
وَأَمَّا بَنُو حَنِيفَةَ ، فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَنْ اُسْتُرِقَّ مِنْهُمْ تَقَدَّمَ لَهُ إسْلَامٌ ، وَلَمْ يَكُنْ بَنُو حَنِيفَةَ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ ، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا كَانُوا رِجَالًا ، فَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَى إسْلَامِهِ ، مِنْهُمْ ثُمَامَةُ بْنُ أَثَالٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ الدَّجَّالُ الْحَنَفِيُّ .
الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ الرِّدَّةَ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ ، فَأَمَّا مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ ، كَالطِّفْلِ الَّذِي لَا عَقْلَ لَهُ ، وَالْمَجْنُونِ ، وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِإِغْمَاءٍ ، أَوْ نَوْمٍ ، أَوْ مَرَضٍ ، أَوْ شُرْبِ دَوَاءٍ يُبَاحُ شُرْبُهُ ، فَلَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ ، وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ إذَا ارْتَدَّ فِي حَالِ جُنُونِهِ ، أَنَّهُ مُسْلِمٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ عَمْدًا ، كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ، إذَا طَلَبَ أَوْلِيَاؤُهُ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِكَلَامِهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ فِي إقْرَارِهِ ، وَلَا طَلَاقِهِ ، وَلَا إعْتَاقِهِ ، وَأَمَّا السَّكْرَانُ ، وَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ ، فَنَذْكُرُ حُكْمَهُمَا فِيمَا بَعْدُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ .
( 7086 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حَتَّى يُسْتَتَابَ ثَلَاثًا .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَعَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ ، لَكِنْ تُسْتَحَبُّ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، وَطَاوُسٍ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } .
وَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِتَابَتَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا قَدِمَ عَلَى أَبِي مُوسَى ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَجُلًا مُوثَقًا ، فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالَ : رَجُلٌ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ رَاجَعَ دِينَهُ دِينَ السَّوْءِ فَتَهَوَّدَ .
قَالَ : لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
قَالَ : اجْلِسْ .
قَالَ : لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِتَابَتَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ يُقْتَلُ لِكُفْرِهِ ، فَلَمْ تَجِبْ اسْتِتَابَتُهُ كَالْأَصْلِيِّ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُتِلَ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ ، لَمْ يُضْمَنْ ، وَلَوْ حَرُمَ قَتْلُهُ قَبْلَهُ ضُمِنَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : إنْ كَانَ مُسْلِمًا أَصْلِيًّا ، لَمْ يُسْتَتَبْ ، وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ، اُسْتُتِيبَ .
وَلَنَا حَدِيثُ أُمِّ مَرْوَانَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ تُسْتَتَابَ .
وَرَوَى مَالِكٌ ، فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ مِنْ قِبَلِ أَبِي مُوسَى ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : هَلْ كَانَ مِنْ مُغَرِّبَةِ خَبَرٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ ، فَقَالَ : مَا فَعَلْتُمْ بِهِ ؟ قَالَ : قَرَّبْنَاهُ ، فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ .
فَقَالَ عُمَرُ : فَهَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ثَلَاثًا ،
فَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا ، وَاسْتَتَبْتُمُوهُ ، لَعَلَّهُ يَتُوبُ ، أَوْ يُرَاجِعُ أَمْرَ اللَّهِ ؟ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَحْضُرْ ، وَلَمْ آمُرْ ، وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي .
وَلَوْ لَمْ تَجِبْ اسْتِتَابَتُهُ لَمَا بَرِئَ مِنْ فِعْلِهِمْ .
وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِصْلَاحُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ إتْلَافُهُ قَبْلَ اسْتِصْلَاحِهِ ، كَالثَّوْبِ النَّجِسِ .
وَأَمَّا الْأَمْرُ بِقَتْلِهِ ، فَالْمُرَادُ بِهِ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ فِيهِ : وَكَانَ قَدْ اُسْتُتِيبَ .
وَيُرْوَى أَنَّ أَبَا مُوسَى اسْتَتَابَهُ شَهْرَيْنِ قَبْلَ قُدُومِ مُعَاذٍ عَلَيْهِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : فَدَعَاهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ ، فَجَاءَ مُعَاذٌ ، فَدَعَاهُ وَأَبَى ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وُجُوبُ الضَّمَانِ ، بِدَلِيلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَصِبْيَانِهِمْ وَشُيُوخِهِمْ .
إذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الِاسْتِتَابَةِ ، فَمُدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : إنْ تَابَ فِي الْحَالِ ، وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ ، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ مَرْوَانَ ، وَمُعَاذٍ ، وَلِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى كُفْرِهِ ، أَشْبَهَ بَعْدَ الثَّلَاثِ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : يُدْعَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَإِنْ أَبَى ، ضُرِبَتْ عُنُقُهُ .
وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : يُسْتَتَابُ أَبَدًا .
وَهَذَا يُفْضِي إلَى أَنْ لَا يُقْتَلَ أَبَدًا ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
وَعَنْ عَلِيٍّ ، أَنَّهُ اسْتَتَابَ رَجُلًا شَهْرًا .
وَلَنَا حَدِيثُ عُمَرَ ، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ إنَّمَا تَكُونُ لِشُبْهَةٍ ، وَلَا تَزُولُ فِي الْحَالِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُنْتَظَرَ مُدَّةً يَرْتَئِي فِيهَا ، وَأَوْلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، لِلْأَثَرِ فِيهَا ، وَإِنَّهَا مُدَّةٌ قَرِيبَةٌ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ فِي
مُدَّةِ الِاسْتِتَابَةِ ، وَيُحْبَسَ ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ : هَلَّا حَبَسْتُمُوهُ ، وَأَطْعَمْتُمُوهُ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا ؟ وَيُكَرِّرُ دِعَايَتَهُ ، لَعَلَّهُ يَتَعَطَّفُ قَلْبُهُ ، فَيُرَاجِعَ دِينَهُ .
( 7087 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ ؛ لِمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ .
وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ، وَيُقْتَلُ بِالسَّيْفِ ؛ لِأَنَّهُ آلَةُ الْقَتْلِ ، وَلَا يُحْرَقُ بِالنَّارِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِ الْمُرْتَدِّينَ ، وَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ خَالِدٌ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ، وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } .
يَعْنِي النَّارَ .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ .
}
( 7088 ) الْفَصْلُ الْخَامِسُ : أَنَّ مَفْهُومَ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ إذَا تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ، وَلَمْ يُقْتَلْ ، أَيَّ كُفْرٍ كَانَ ، وَسَوَاءٌ كَانَ زِنْدِيقًا يَسْتَسِرُّ بِالْكُفْرِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَالْعَنْبَرِيِّ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ ، وَقَالَ : إنَّهُ أَوْلَى عَلَى مَذْهَبِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ، لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ ، وَمَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ ، وَإِسْحَاقَ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ ، كَهَاتَيْنِ ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا } .
وَالزِّنْدِيقُ لَا تَظْهَرُ مِنْهُ عَلَامَةٌ تُبَيِّنُ رُجُوعَهُ وَتَوْبَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُظْهِرًا لِلْإِسْلَامِ ، مُسِرًّا لِلْكُفْرِ ، فَإِذَا وُقِفَ عَلَى ذَلِكَ ، فَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ ، لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَهَا ، وَهُوَ إظْهَارُ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا مَنْ تَكَرَّرَتْ رِدَّتُهُ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا } .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي سَعْدٍ مَرَّ عَلَى مَسْجِدِ بَنِي حَنِيفَةَ ، فَإِذَا هُمْ يَقْرَءُونَ بِرَجَزِ مُسَيْلِمَةَ ، فَرَجَعَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ ، فَأُتِيَ بِهِمْ ، فَاسْتَتَابَهُمْ ، فَتَابُوا ، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ ، إلَّا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ ابْنُ النَّوَّاحَةِ .
قَالَ : قَدْ أُتِيتُ بِكَ مَرَّةً ، فَزَعَمْتَ أَنَّكَ قَدْ تُبْتَ ، وَأَرَاك قَدْ عُدْتَ .
فَقَتَلَهُ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } .
وَرُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا