الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
( 2556 ) فَصْلٌ : وَصِفَةُ هَذَا الطَّوَافِ كَصِفَةِ طَوَافِ الْقُدُومِ ، سِوَى أَنَّهُ يَنْوِي بِهِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ، وَيُعَيِّنُهُ بِالنِّيَّةِ .
وَلَا رَمَلَ فِيهِ ، وَلَا اضْطِبَاعَ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ يَرْمُلْ فِي السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ } .
وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي هَذَا الطَّوَافِ .
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْقَاسِمِ صَاحِبِ مَالِكٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُجْزِئُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ الَّذِي عَلَيْهِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ صَلَاةً ، وَالصَّلَاةُ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّاتِ اتِّفَاقًا .
( 2557 ) مَسْأَلَة : قَالَ : ( ثُمَّ قَدْ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) يَعْنِي إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالْحَلْقِ ، حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ الْإِحْرَامُ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ سِوَى النِّسَاءِ ، فَهَذَا الطَّوَافُ حَلَّلَ لَهُ النِّسَاءَ .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : { لَمْ يَحِلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ ، حَتَّى قَضَى حَجَّهُ ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْر ، فَأَفَاضَ بِالْبَيْتِ ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرَّمَهُ .
} وَعَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي حُصُولِ الْحِلِّ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ ، عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ ، وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ سَعَى مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَسْعَى ، إنْ قُلْنَا : إنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ .
وَإِنْ قُلْنَا : هُوَ سُنَّةٌ .
فَهَلْ يَحِلُّ قَبْلَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا ، يَحِلُّ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ وَاجِبَاتِهِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَحِلُّ ، لِأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، فَيَأْتِي بِهِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ ، كَالسَّعْيِ فِي الْعُمْرَةِ .
وَإِنَّمَا خَصَّ الْخِرَقِيِّ الْمُفْرِدَ وَالْقَارِنَ بِهَذَا ، لِكَوْنِهِمَا سَعَيَا مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ ، وَالْمُتَمَتِّعُ لَمْ يَسْعَ .
( 2558 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا ، فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا ، كَمَا فَعَلَ لِلْعُمْرَةِ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ طَوَافًا يَنْوِي بِهِ الزِّيَارَةَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
) أَمَّا الطَّوَافُ الْأَوَّلُ ، الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا ، فَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَمْ يَأْتِ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَالطَّوَافُ الَّذِي طَافَهُ فِي الْعُمْرَةِ كَانَ طَوَافَهَا ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ مَسْنُونٌ لِلْمُتَمَتِّعِ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ ، قَالَ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَإِذَا رَجَعَ إلَى مِنًى أَعْنِي الْمُتَمَتِّع كَمْ يَطُوفُ وَيَسْعَى ؟ قَالَ : يَطُوفُ وَيَسْعَى لِحَجِّهِ ، وَيَطُوفُ طَوَافًا آخَرَ لِلزِّيَارَةِ .
عَاوَدْنَاهُ فِي هَذَا غَيْرَ مَرَّةٍ ، فَثَبَتَ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ ، إذَا لَمْ يَكُونَا أَتَيَا مَكَّةَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَلَا طَافَا لِلْقُدُومِ ، فَإِنَّهُمَا يَبْدَآنِ بِطَوَافِ الْقُدُومِ قَبْلَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، قَالَتْ : فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ حَلُّوا ، فَطَافُوا طَوَافًا ، آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ ، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ ، فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا .
فَحَمَلَ أَحْمَدُ قَوْلَ عَائِشَةَ عَلَى أَنَّ طَوَافَهُمْ لِحَجِّهِمْ هُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ مَشْرُوعٌ ، فَلَمْ يَكُنْ تَعَيُّنُ طَوَافِ الزِّيَارَةِ مُسْقِطًا لَهُ ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ عِنْدَ دُخُولِهِ ، قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَلَى هَذَا الطَّوَافِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ ، بَلْ الْمَشْرُوعُ طَوَافٌ وَاحِدٌ لِلزِّيَارَةِ ، كَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهَا عَنْ تَحِيَّةِ
الْمَسْجِدِ .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ تَمَتَّعُوا مَعَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَلَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا ، فَإِنَّهَا قَالَتْ : طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ .
وَهَذَا هُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَلَمْ تَذْكُرْ طَوَافًا آخَرَ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي ذَكَرَتْهُ طَوَافَ الْقُدُومِ ، لَكَانَتْ قَدْ أَخَلَّتْ بِذِكْرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْحَجِّ ، لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ ، وَذَكَرَتْ مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا ذَكَرَتْ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا ، فَمِنْ أَيْنَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى طَوَافَيْنِ ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّهَا لَمَّا حَاضَتْ ، فَقَرَنَتْ الْحَجَّ إلَى الْعُمْرَةِ ، بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ لِلْقُدُومِ لَمْ تَطُفْ لِلْقُدُومِ ، وَلَا أَمَرَهَا بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، فِي الْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ فَخَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ ، أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ ، وَكَانَتْ قَارِنَةً ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا قَضَاءُ طَوَافِ الْقُدُومِ .
وَلِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ بِالطَّوَافِ الْوَاجِبِ ، لَشُرِعَ فِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ طَوَافٌ لِلْقُدُومِ مَعَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ قُدُومِهِ إلَى الْبَيْتِ ، فَهُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْمُتَمَتِّعِ ، الَّذِي يَعُودُ إلَى الْبَيْتِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ وَطَوَافِهِ بِهِ ، وَفِي الْجُمْلَةِ إنَّ هَذَا الطَّوَافَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ طَوَافٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْمُتَمَتِّع كَهُوَ فِي حَقِّ الْقَارِنِ وَالْمُفْرِدِ ، فِي أَنَّهُ رُكْنُ الْحَجِّ ، لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ بِالنِّيَّةِ ، فَلَوْ نَوَى بِهِ طَوَافَ الْوَدَاعِ أَوْ غَيْرَهُ ، لَمْ يُجْزِهِ .
( 2559 ) فَصْلٌ : وَالْأَطْوِفَةُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ : طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ ، لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
وَطَوَافُ الْقُدُومِ ، وَهُوَ سُنَّةٌ ، لَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ .
وَطَوَافُ الْوَدَاعِ ، وَاجِبٌ ، يَنُوبُ عَنْهُ الدَّمُ إذَا تَرَكَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ ، وَالثَّوْرِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَى تَارِكِ طَوَافِ الْقُدُومِ دَمٌ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِ طَوَافِ الْوَدَاعِ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ ، وَكَقَوْلِهِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ .
وَمَا عَدَا هَذِهِ الْأَطْوِفَةِ فَهُوَ نَفْلٌ ، وَلَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ أَكْثَرُ مِنْ سَعْيٍ وَاحِدٍ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ .
قَالَ جَابِرٌ : لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابُهُ ، بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا ، طَوَافَهُ الْأَوَّلَ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلَا يَكُونُ السَّعْيُ إلَّا بَعْدَ طَوَافٍ ، فَإِنْ سَعَى مَعَ طَوَافِ الْقُدُومِ ، لَمْ يَسْعَ بَعْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْعَ مَعَهُ ، سَعَى مَعَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ .
( 2560 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ فَيُكَبِّرَ فِي نَوَاحِيهِ ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَيَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : { دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ ، وَبِلَالٌ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، فَقُلْت لِبِلَالٍ : هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : نَعَمْ قُلْت : أَيْنَ هُوَ ؟ قَالَ : بَيْن الْعَمُودَيْنِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ : وَنَسِيت أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ ، دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ حَتَّى خَرَجَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
فَقَدَّمَ أَهْلُ الْعِلْمِ رِوَايَةَ بِلَالٍ عَلَى رِوَايَةِ أُسَامَة ؛ لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ ، وَأُسَامَةُ نَافٍ ، وَلِأَنَّ أُسَامَةَ كَانَ حَدِيثَ السِّنِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اشْتَغَلَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا فِي الْكَعْبَةِ عَنْ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِنْ لَمْ يَدْخُل الْبَيْتَ ، فَلَا بَأْسَ ، فَإِنَّ إسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ قَالَ : قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى : أَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْتَ فِي عُمْرَتِهِ ؟ قَالَ : لَا .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا وَهُوَ مَسْرُورٌ ، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ كَئِيبٌ فَقَالَ : إنِّي دَخَلْت الْكَعْبَةَ ، وَلَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت مَا دَخَلْتهَا ، إنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ شَقَقْت عَلَى أُمَّتِي } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
( 2561 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ زَمْزَمَ ، فَيَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا لِمَا أَحَبَّ ، وَيَتَضَلَّعَ مِنْهُ .
قَالَ جَابِرٌ ، فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثُمَّ أَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَهُمْ يَسْقُونَ ، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا ، فَشَرِبَ مِنْهُ .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ } .
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ : كُنْت عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَالِسًا ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ جِئْت ؟ قَالَ : مِنْ زَمْزَمَ قَالَ : فَشَرِبْت مِنْهَا كَمَا يَنْبَغِي ؟ قَالَ : فَكَيْفَ ؟ قَالَ : إذَا شَرِبْت مِنْهَا فَاسْتَقْبِلْ الْكَعْبَةَ ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ ، وَتَنَفَّسْ ثَلَاثًا مِنْ زَمْزَمَ ، وَتَضَلَّعْ مِنْهَا ، فَإِذَا فَرَغْت ، فَاحْمَدْ اللَّهَ تَعَالَى ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ ، أَنَّهُمْ لَا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ زَمْزَمَ .
} رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ .
وَيَقُولُ عِنْدَ الشُّرْبِ : بِسْمِ اللَّهِ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا عِلْمًا نَافِعًا ، وَرِزْقًا وَاسِعًا ، وَرِيًّا وَشِبَعًا ، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ ، وَاغْسِلْ بِهِ قَلْبِي ، وَامْلَأْهُ مِنْ حِكْمَتِك .
( 2562 ) فَصْلٌ : وَيُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ خُطْبَةً ، يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا مَنَاسِكَهُمْ مِنْ النَّحْرِ وَالْإِفَاضَةِ وَالرَّمْيِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرَ .
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَخْطُبُ يَوْمَئِذٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهَا تُسَنُّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ ، فَلَمْ تُسَنَّ فِيهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ .
يَعْنِي بِمِنًى } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ { رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى .
حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى ، عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ وَعَلِيٌّ يُعَبِّرُ عَنْهُ ، وَالنَّاسُ بَيْنَ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ ، وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ : سَمِعْت خُطْبَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ .
وَقَالَ الْهِرْمَاسُ بْنُ زِيَادٍ الْبَاهِلِيُّ : رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ ، يَوْمَ الْأَضْحَى بِمِنًى } .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُعَاذٍ : { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِمِنًى ، فَفُتِحَتْ أَسْمَاعُنَا ، حَتَّى كُنَّا نَسْمَعُ وَنَحْنُ فِي مَنَازِلِنَا ، فَطَفِقَ يُعَلِّمُهُمْ مَنَاسِكَهُمْ ، حَتَّى بَلَغَ الْجِمَارَ } .
رَوَى هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا أَبُو دَاوُد ، إلَّا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَلِأَنَّهُ يَوْمٌ تَكْثُرُ فِيهِ أَفْعَالُ الْحَجِّ ، وَيَحْتَاجُ إلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ أَحْكَامَ ذَلِكَ ، فَاحْتِيجَ إلَى الْخُطْبَةِ مِنْ أَجْلِهِ ، كَيَوْمِ عَرَفَةَ .
( 2563 ) فَصْلٌ : يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ ؛ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ : هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِيهِ ؛ مِنْ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ ، وَالدَّفْعِ مِنْهُ إلَى مِنًى ، وَالرَّمْيِ ، وَالنَّحْرِ ، وَالْحَلْقِ ، وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ ، وَالرُّجُوعِ إلَى مِنًى لِيَبِيتَ بِهَا ، وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ مِثْلُهُ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَوْمُ عِيدٍ ، وَيَوْمٌ يَحِلُّ فِيهِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ .
( 2564 ) فَصْلٌ : وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : الرَّمْيُ ، ثُمَّ النَّحْرُ ، ثُمَّ الْحَلْقُ ، ثُمَّ الطَّوَافُ .
وَالسُّنَّةُ تَرْتِيبهَا هَكَذَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَهَا ، كَذَلِكَ وَصَفَهُ جَابِرٌ فِي حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرَوَى أَنَسٌ ، أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى ، ثُمَّ نَحَرَ ، ثُمَّ حَلَقَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَإِنْ أَخَلَّ بِتَرْتِيبِهَا ، نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِالسُّنَّةِ فِيهَا ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَدَاوُد ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الرَّمْيِ ، أَوْ عَلَى النَّحْرِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ، فَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَعَلَيْهِ دَمَانِ .
وَقَالَ زُفَرُ : عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ ، كَمَا لَوْ حَلَقَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، حَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ .
قَالَ : { اذْبَحْ ، وَلَا حَرَجَ .
فَقَالَ آخَرُ : ذَبَحْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ؟ قَالَ : ارْمِ ، وَلَا حَرَجَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَمْ أَشْعُرْ ، فَحَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
قَالَ : فَمَا سَمِعْته يُسْأَلُ يَوْمَئِذٍ عَنْ أَمْرٍ مِمَّا يَنْسَى الْمَرْءُ أَوْ يَجْهَلُ ، مِنْ تَقْدِيمِ بَعْضِ الْأُمُورِ عَلَى بَعْضِهَا ، وَأَشْبَاهِهَا ، إلَّا قَالَ : ( افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ ) .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَهُوَ بِمِنًى ، فِي النَّحْرِ ، وَالْحَلْقِ ، وَالرَّمْيِ ، وَالتَّقْدِيمِ ، وَالتَّأْخِيرِ ، فَقَالَ : ( لَا حَرَجَ ) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَرَوَاهُ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَفِيهِ : فَحَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عِيسَى ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي حَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ؟ قَالَ : ارْمِ ، وَلَا حَرَجَ .
قَالَ : وَأَتَاهُ آخَرُ ، فَقَالَ : إنِّي أَفَضْت قَبْل أَنَّ أَرْمِيَ ؟ قَالَ : أَرْمِ ، وَلَا حَرَجَ } .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ يَوْمَ النَّحْرِ ، عَنْ رَجُلٍ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا حَرَجَ ، لَا حَرَجَ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ كُلَّهُ .
وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ .
عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ الدَّمِ بِفَقْدِ الشَّيْءِ فِي وَقْتِهِ ، سُقُوطُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ حَلَقَ فِي الْعُمْرَةِ بَعْدَ السَّعْيِ ، لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْحِلُّ مَا حَصَلَ قَبْلَهُ ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا ، إذَا قُلْنَا : إنَّ الْحِلَّ يَحْصُلُ بِالْحَلْقِ ، فَقَدْ حَلَقَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا إنْ فَعَلَهُ عَمْدًا ، عَالِمًا بِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا دَمَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِإِطْلَاقِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّه بْنِ عَمْرٍو ، مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ .
وَالثَّانِيَةُ ، عَلَيْهِ دَمٌ .
رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَالنَّخَعِيِّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَ ، وَقَالَ : ( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ) .
وَالْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ قَدْ جَاءَ
مُقَيَّدًا ، فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ ؟ فَقَالَ : إنْ كَانَ جَاهِلًا ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا التَّعَمُّدُ فَلَا ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : لَمْ أَشْعُرْ .
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّه : سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لَا يَقُولُ : لَمْ أَشْعُرْ .
فَقَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنَّ مَالِكًا وَالنَّاسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ : لَمْ أَشْعُرْ ، قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : وَهُوَ فِي الْحَدِيثِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الرَّمْيِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ قَدَّمَهُ عَلَى النَّحْرِ أَوْ النَّحْرَ عَلَى الرَّمْي فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
لِأَنَّهُ بِالْإِجْمَاعِ مَمْنُوعٌ مِنْ حَلْقِ شَعْرِهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ ، فَأَمَّا النَّحْرُ قَبْلَ الرَّمْيِ فَجَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ .
وَلَنَا ، الْحَدِيثُ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ فِي الْحَلْقِ ، وَالنَّحْرِ ، وَالتَّقْدِيمِ ، وَالتَّأْخِيرِ ، فَقَالَ : ( لَا حَرَجَ ) .
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مُخَالَفَةَ التَّرْتِيبِ لَا تُخْرِجُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ عَنْ الْإِجْزَاءِ ، وَلَا يَمْنَعُ وُقُوعُهَا مَوْقِعَهَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّمِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 2565 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَدَّمَ الْإِفَاضَةَ عَلَى الرَّمْيِ ، أَجْزَأَهُ طَوَافُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تُجْزِئُهُ الْإِفَاضَةُ ، فَلْيَرْمِ ، ثُمَّ لِيَنْحَر ، ثُمَّ لِيُفِضْ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَطَاءٌ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : أَفَضْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ؟ قَالَ : ارْمِ ، وَلَا حَرَجَ .
وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ قَدَّمَ شَيْئًا قَبْلِ شَيْءٍ ، فَلَا حَرَجَ } .
رَوَاهُمَا سَعِيدٌ .
فِي ( سُنَنِهِ ) .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ آخَرُ ، فَقَالَ : إنِّي أَفَضْت إلَى الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ؟ فَقَالَ : ارْمِ وَلَا حَرَجَ .
فَمَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إلَّا قَالَ : افْعَلْ ، وَلَا حَرَجَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَلِأَنَّهُ أَتَى بِالرَّمْيِ فِي وَقْتِهِ .
فَأَجْزَأَهُ ، كَمَا لَوْ رَتَّبَ .
وَمُقْتَضَى كَلَامِ أَصْحَابِنَا ، أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِالْإِفَاضَةِ قَبْلَ الرَّمْيِ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ ، كَمَنْ رَمَى وَلَمْ يُفِضْ .
فَعَلَى هَذَا لَوْ وَاقَعَ أَهْلَهُ قَبْلَ الرَّمْيِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَلَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ .
فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَلَمْ يَرْمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِتَرْكِ الرَّمْيِ ، وَحَجُّهُ صَحِيحٌ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ نَسِيَ ، أَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ نُسُكِهِ ، فَلْيُهْرِقْ لِذَلِكَ دَمًا .
وَقَالَ عَطَاءٌ : مَنْ نَسِيَ مِنْ النُّسُكِ شَيْئًا ، حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ، فَلْيُهْرِقْ لِذَلِكَ دَمًا .
( 2566 ) مَسْأَلَةٌ : ( ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مِنًى ، وَلَا يَبِيتُ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى ) السُّنَّةُ لِمَنْ أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِنًى ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى ، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى وَاجِبٌ .
وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس : لَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ مِنْ وَرَاءِ الْعَقَبَة مِنْ مِنًى لَيْلًا .
وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ ، وَإِبْرَاهِيمَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَالثَّانِيَةُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : إذَا رَمَيْت الْجَمْرَةَ فَبِتْ حَيْثُ شِئْت .
وَلِأَنَّهُ قَدْ حَلَّ مِنْ حَجِّهِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ ، كَلَيْلَةِ الْحَصْبَةِ .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى ، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَتَخْصِيصُ الْعَبَّاسِ بِالرُّخْصَةِ لِعُذْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا رُخْصَةَ لِغَيْرِهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { لَمْ يُرَخِّصْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَأَحَدٍ يَبِيتُ بِمَكَّةَ ، إلَّا لِلْعَبَّاسِ ، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ { ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : لَا يَبِيتَنَّ أَحَدٌ مِنْ الْحَاجِّ إلَّا بِمِنًى .
وَكَانَ يَبْعَثُ رِجَالًا يَدَعُونَ أَحَدًا يَبِيتُ وَرَاءَ الْعَقَبَةِ .
} وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ نُسُكًا ، وَقَدْ قَالَ : ( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ) .
( 2567 ) فَصْلٌ : فَإِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى ، فَعَنْ أَحْمَدَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَسَاءَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ بِشَيْءِ .
وَعَنْهُ يُطْعِمُ شَيْئًا .
وَخَفَّفَهُ ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : عَلَيْهِ دَمٌ .
وَضَحِكَ ، ثُمَّ قَالَ : دَمٌ بِمَرَّةٍ ، ثُمَّ شَدَّدَ بِمَرَّةٍ .
قُلْت : لَيْسَ إلَّا أَنْ يُطْعِمَ شَيْئًا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يُطْعِمُ شَيْئًا تَمْرًا أَوْ نَحْوَهُ .
فَعَلَى هَذَا أَيُّ شَيْءٍ تَصَدَّقَ بِهِ ، أَجْزَأَهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَيْلَةٍ وَأَكْثَرِ ؛ وَلَا تَقْدِيرَ فِيهِ .
وَعَنْهُ : فِي اللَّيَالِي الثَّلَاثِ دَمٌ ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَنْ تَرَكَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا ، أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا .
وَفِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ، وَقَالَ عَطَاءٌ : فِي كُلِّ حَصَاةٍ دِرْهَمٌ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ ، فَإِنَّنَا لَا نَعْلَمُ فِي تَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنَاسِكِ دِرْهَمًا ، وَلَا نِصْفَ دِرْهَمٍ ، فَإِيجَابُهُ بِغَيْرِ نَصٍّ تَحَكُّمٌ لَا وَجْهَ لَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 2568 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ ، وَزَالَتْ الشَّمْسُ ، رَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَيَقِفُ عِنْدَهَا ، وَيَرْمِي ، وَيَدْعُو ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، يُكَبِّرُ أَيْضًا ، وَيَدْعُو ، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَرْمِي بِهِ الْحَاجُّ سَبْعُونَ حَصَاةً ، سَبْعَةٌ مِنْهَا يَرْمِيهَا يَوْمَ النَّحْرِ ، بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ .
وَسَائِرُهَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ ، بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ ، كُلَّ يَوْمٍ إحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً ، لِثَلَاثِ جَمَرَاتٍ ، يَبْتَدِئُ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى ، وَهِيَ أَبْعَدُ الْجَمَرَاتِ مِنْ مَكَّةَ ، وَتَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ، فَيَجْعَلُهَا عَنْ يَسَارِهِ ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ، وَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، كَمَا وَصَفْنَا فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ عَنْهَا إلَى مَوْضِعٍ لَا يُصِيبُهُ الْحَصْي ، فَيَقِفُ طَوِيلًا يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى ، رَافِعًا يَدَيْهِ ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إلَى الْوُسْطَى فَيَجْعَلُهَا عَنْ يَمِينِهِ ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ، وَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، وَيَفْعَلُ مِنْ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ كَمَا فَعَلَ فِي الْأُولَى ، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، وَيَسْتَبْطِنُ الْوَادِيَ ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا خِلَافًا ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِرَفْعِ الْيَدَيْنِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ ، أَيَقُومُ الرَّجُلُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ إذَا رَمَى ؟ قَالَ : إي لَعَمْرِي شَدِيدًا ، وَيُطِيلُ الْقِيَامَ أَيْضًا .
قِيلَ : فَإِلَى أَيْنَ يَتَوَجَّهُ فِي قِيَامِهِ ؟ قَالَ : إلَى الْقِبْلَةِ ، وَيَرْمِيهَا فِي بَطْنِ الْوَادِي .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، قَالَتْ : { أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى ، فَمَكَثَ بِهَا لَيَالِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، يَرْمِي الْجَمْرَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، كُلَّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَيَقِفُ عِنْدَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ ، فَيُطِيلُ الْقِيَامَ ، وَيَتَضَرَّعُ ، وَيَرْمِي الثَّالِثَةَ ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ { ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، يُكَبِّرُ عَلَى إثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ ، وَيَسْتَهِلُّ ، وَيَقُومُ قِيَامًا طَوِيلًا ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِذَاتِ الشِّمَالِ ، فَيَسْتَهِلُّ ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلًا ، ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ ، وَيَقُومُ طَوِيلًا ، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ ، وَيَقُولُ : هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَدْعُو بِدُعَائِهِ الَّذِي دَعَا بِهِ بِعَرَفَةَ ، وَيَزِيدُ : وَأَصْلِحْ أَوْ أَتِمَّ لَنَا مَنَاسِكَنَا .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِر : كَانَ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولَانِ عِنْدَ الرَّمْيِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا ، وَذَنْبًا مَغْفُورًا .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، يَرْفَعَانِ أَيْدِيَهُمَا إذَا رَمَيَا الْجَمْرَةَ ، وَيُطِيلَانِ الْوُقُوفَ .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ، قَالَ : { أَفَضْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ ، فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ ، حَتَّى إذَا فَرَغَ قَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا ، وَذَنْبًا مَغْفُورًا .
ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْت الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ صَنَعَ } رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَعَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُومُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ ، مِقْدَارَ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
( 2569 ) فَصْلٌ : وَلَا يَرْمِي فِي أَيَّامِ التَّشْرِيق إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ، فَإِنْ رَمَى قَبْلَ الزَّوَالِ أَعَادَ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ ، إلَّا أَنَّ إِسْحَاقَ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ ، رَخَّصُوا فِي الرَّمْيِ يَوْمَ النَّفْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَلَا يَنْفِرُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ .
وَرَخَّصَ عِكْرِمَةُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا .
وَقَالَ طَاوُسٌ : يَرْمِي قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَيَنْفِرُ قَبْلَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا رَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ ؛ لِقَوْلِ عَائِشَةَ : يَرْمِي الْجَمْرَةَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ .
وَقَوْلِ جَابِرٍ ، فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ضُحَى يَوْمِ النَّحْرِ ، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : كُنَّا نَتَحَيَّنُ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَيْنَا .
وَأَيَّ وَقْتٍ رَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ أَجْزَأَهُ ، إلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُبَادَرَةُ إلَيْهَا حِينَ الزَّوَالِ ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ .
{ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْمِي الْجِمَارَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، قَدْرَ مَا إذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِهِ صَلَّى الظُّهْرَ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
( 2570 ) فَصْلٌ : وَالتَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْجَمَرَاتِ وَاجِبٌ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
فَإِنْ نَكَّسَ فَبَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، ثُمَّ الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ الْأُولَى ، أَوْ بَدَأَ بِالْوُسْطَى ، وَرَمَى الثَّلَاثَ ، لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْأُولَى ، وَأَعَادَ الْوُسْطَى وَالْقُصْوَى .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَإِنْ رَمَى الْقُصْوَى ، ثُمَّ الْأُولَى ، ثُمَّ الْوُسْطَى ، أَعَادَ الْقُصْوَى وَحْدَهَا .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ : لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا رَمَى مُنَكِّسًا يُعِيدُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ .
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا بَيْنَ يَدَيْ نُسُكٍ ، فَلَا حَرَجَ } .
وَلِأَنَّهَا مَنَاسِكُ مُتَكَرِّرَةٌ ، فِي أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، لَيْسَ بَعْضُهَا تَابِعًا لِبَعْضٍ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ التَّرْتِيبُ فِيهَا ، كَالرَّمْيِ وَالذَّبْحِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَتَّبَهَا فِي الرَّمْيِ ، وَقَالَ : ( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ) وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ مُتَكَرِّرٌ ، فَاشْتُرِطَ التَّرْتِيبُ فِيهِ ، كَالسَّعْيِ .
وَحَدِيثُهُمْ إنَّمَا جَاءَ فِي مَنْ يُقَدِّمُ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ ، لَا فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ النُّسُكِ عَلَى بَعْضٍ .
وَقِيَاسُهُمْ يَبْطُلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ تَرَكَ الْوُقُوفَ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءَ ، تَرَكَ السُّنَّةَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ، إلَّا الثَّوْرِيَّ .
قَالَ : يُطْعِمُ شَيْئًا ، وَإِنْ أَرَاقَ دَمًا أَحَبُّ إلَيَّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ ، فَيَكُونُ نُسُكًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ دُعَاءُ وُقُوفٍ مَشْرُوعٍ لَهُ ، فَلَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ ، كَحَالَةِ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ ، وَكَسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ ، وَلِأَنَّهَا إحْدَى الْجَمَرَاتِ ، فَلَمْ يَجِبْ الْوُقُوفُ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءُ ،
كَالْأُولَى ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ هَذَا نَدْبٌ .
( 2572 ) فَصْلٌ : وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْقُصَ فِي الرَّمْيِ عَنْ سَبْعِ حَصَيَاتٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ .
فَإِنْ نَقَصَ حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ ، فَلَا بَأْسَ ، وَلَا يَنْقُصُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ ، وَإِسْحَاقَ .
وَعَنْهُ : إنْ رَمَى بِسِتٍّ نَاسِيًا : فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَمَّدَهُ ، فَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ ، تَصَدَّقَ بِشَيْءِ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : مَا أُبَالِي رَمَيْت بِسِتٍّ أَوْ سَبْعٍ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا أَدْرِي رَمَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسِتٍّ أَوْ سَبْعٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ عَدَدَ السَّبْعِ شَرْطٌ .
وَنَسَبَهُ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى بِسَبْعٍ .
وَقَالَ أَبُو حَيَّةَ : لَا بَأْسَ بِمَا رَمَى بِهِ الرَّجُلُ مِنْ الْحَصَى .
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : صَدَقَ أَبُو حَيَّةَ .
وَكَانَ أَبُو حَيَّةَ بَدْرِيًّا .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، قَالَ : سُئِلَ طَاوُسٌ عَنْ رَجُلٍ تَرَكَ حَصَاةً ؟ قَالَ : يَتَصَدَّقُ بِتَمْرَةٍ أَوْ لُقْمَةٍ .
فَذَكَرْت ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ ، فَقَالَ : إنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ سَعْدٍ ، قَالَ سَعْدٌ : رَجَعْنَا مِنْ الْحَجَّةِ مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضُنَا يَقُولُ : رَمَيْت بِسِتٍّ وَبَعْضُنَا يَقُولُ : بِسَبْعٍ فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَغَيْرُهُ وَمَتَى أَخَلَّ بِحَصَاةٍ وَاجِبَةٍ مِنْ الْأَوْلَى ، لَمْ يَصِحَّ رَمْيُ الثَّانِيَةِ حَتَّى يُكْمِلَ الْأُولَى ، فَإِنْ لَمْ يَدْرِ مِنْ أَيِّ الْجِمَارِ تَرَكَهَا ، بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَإِنْ أَخَلَّ بِحَصَاةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ ، لَمْ يُؤَثِّرْ تَرْكُهَا .
( 2573 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَيَفْعَلُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ، خَرَجَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ .
فَإِنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ بِهَا ، لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَرْمِيَ مِنْ غَدٍ بَعْدَ الزَّوَالِ ، كَمَا رَمَى بِالْأَمْسِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَالرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، فِي وَقْتِهِ وَصِفَتِهِ وَهَيْئَتِهِ لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
فَإِنْ أَحَبَّ التَّعَجُّلَ فِي يَوْمَيْنِ ، خَرَجَ قَبْلَ الْغُرُوبِ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مِنًى شَاخِصًا عَنْ الْحَرَمِ ، غَيْرَ مُقِيمٍ بِمَكَّةَ ، أَنْ يَنْفِرَ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَإِنْ أَحَبَّ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ فَقَالَ أَحْمَدُ : لَا يُعْجِبُنِي لِمَنْ يَنْفِرُ النَّفْرَ الْأَوَّلَ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ .
وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ : مَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فَلَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ، فَإِنْ أَرَادَ التَّخْفِيفَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ فَلَا .
وَيَحْتَجُّ مَنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ شَاءَ مِنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَنْفِرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ ، إلَّا آلَ خُزَيْمَةَ ، فَلَا يَنْفِرُونَ إلَّا فِي النَّفْرِ الْآخِرِ .
جَعَلَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ : إلَّا آلَ خُزَيْمَةَ .
أَيْ أَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمٍ .
مَكَّةَ وَالْمَذْهَبُ جَوَازُ النَّفِيرِ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ لِكُلِّ أَحَدٍ .
وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى } .
قَالَ عَطَاءٌ : هِيَ لِلنَّاسِ عَامَّةً .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } .
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ : هَذَا أَجْوَدُ
حَدِيثٍ رَوَاهُ سُفْيَانُ .
وَقَالَ وَكِيعٌ : هَذَا الْحَدِيثُ أُمُّ الْمَنَاسِكِ ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ أَنَا اخْتَصَرْته .
وَلِأَنَّهُ دَفْعٌ مِنْ مَكَان ، فَاسْتَوَى فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ ، كَالدَّفْعِ ، مِنْ عَرَفَةَ وَمِنْ مُزْدَلِفَةَ .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي هَذَا أَرَادَ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ ، مُوَافَقَةً لِقَوْلِ عُمَرَ ، لَا غَيْرُ .
فَمَنْ أَحَبَّ التَّعْجِيلَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ خَرَجَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَإِنْ غَرَبَتْ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ مِنًى لَمْ يَنْفِرْ ، سَوَاءٌ كَانَ ارْتَحَلَ أَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي مَنْزِلِهِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْخُرُوجُ ، هَذَا قَوْلُ عُمَرَ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَأَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ أَنْ يَنْفِرَ مَا لَمْ يَطْلُعْ فَجْرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُل وَقْتُ رَمْيِ الْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَجَازَ لَهُ النَّفْرُ كَمَا قَبْلَ الْغُرُوبِ .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى { : فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } .
وَالْيَوْمُ اسْمٌ لِلنَّهَارِ ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ اللَّيْلُ فَمَا تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، فَلْيُقِمْ إلَى الْغَدِ حَتَّى يَنْفِرَ مَعَ النَّاسِ .
وَمَا قَاسُوا عَلَيْهِ لَا يُشْبِهُ مَا نَحْنُ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ تَعَجَّلَ فِي الْيَوْمَيْنِ .
( 2574 ) فَصْلٌ : إذَا أَخَّرَ رَمْيَ يَوْمٍ إلَى مَا بَعْدَهُ ، أَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ كُلَّهُ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ تَرَكَ السُّنَّةَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ يُقَدِّمُ بِالنِّيَّةِ رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثِ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ تَرَكَ حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا إلَى الْغَدِ رَمَاهَا ، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفُ صَاعٍ ، وَإِنْ تَرَكَ أَرْبَعًا رَمَاهَا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَلَنَا ، أَنَّ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقْتٌ لِلرَّمْيِ ، فَإِذَا أَخَّرَهُ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِهِ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ أَخَّرَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ إلَى آخِرِ وَقْتِهِ ، وَلِأَنَّهُ وَقْتٌ يَجُوزُ الرَّمْيُ فِيهِ ، فَجَازَ لِغَيْرِهِمْ كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَا يَكُونُ رَمْيُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَضَاءً ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ وَاحِدٌ .
وَإِنْ كَانَ قَضَاءً فَالْمُرَادُ بِهِ الْفِعْلُ ، كَقَوْلِهِ : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) .
وَقَوْلِهِمْ : قَضَيْت الدَّيْنَ .
وَالْحُكْمُ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إذَا أَخَّرَهَا ، كَالْحُكْمِ فِي رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فِي أَنَّهَا إذَا لَمْ تُرْمَ يَوْمَ النَّحْرِ رُمِيَتْ مِنْ الْغَدِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : يَلْزَمُهُ التَّرْتِيبُ بِنِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِيهَا ، مَعَ فِعْلِهَا فِي أَيَّامِهَا ، فَوَجَبَ تَرْتِيبُهَا مَجْمُوعَةً ، كَالصَّلَاتَيْنِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ وَالْفَوَائِتِ .
( 2575 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَدَعَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ مِنًى مَعَ الْإِمَامِ ) يَعْنِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُصَلُّونَ بِمِنًى { قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ رَكْعَتَيْنِ صَدْرًا مِنْ إمَارَتِهِ } .
وَهَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ مَرْضِيًّا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْضِيًّا صَلَّى الْمَرْءُ بِرُفْقَتِهِ فِي رَحْلِهِ .
فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ ، فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةً يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهَا حُكْمَ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَتَوْدِيعِهِمْ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُسْتَحَبُّ ، قِيَاسًا عَلَى الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ { رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ ، قَالَا : رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بَيْنَ أَوْسَاطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَنَحْنُ عِنْدَ رَاحِلَتِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْ سَرَّاءَ بِنْتِ نَبْهَانَ ، قَالَتْ : { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الرُّءُوسِ ، فَقَالَ : أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ .
قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : أَلَيْسَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؟ } .
رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
يَعْنِي يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ .
وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى أَنْ يُعَلِّمَهُمْ كَيْفَ يَتَعَجَّلُونَ ، وَكَيْفَ يُوَدِّعُونَ ، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ .
}
( 2577 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيُكَبِّرُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ، مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ ، يَوْمَ النَّحْرِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيق ) إنَّمَا خَصَّ الْمُحْرِمَ بِالتَّكْبِيرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ظُهْرًا ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَشْغُولٌ بِالتَّلْبِيَةِ ، فَلَا يَقْطَعُهَا إلَّا عِنْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلُ ، وَلَيْسَ بَعْدَهُمَا صَلَاةٌ قَبْلَ الظُّهْرِ ، فَيُكَبِّرُ حِينَئِذٍ بَعْدَهَا كَالْمُحِلِّ ، وَيَسْتَوِي هُوَ وَالْحَلَالُ فِي آخِرِ مُدَّةِ التَّكْبِيرِ .
وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ " .
( 2578 ) فَصْلٌ : قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يُسْتَحَبُّ لِمَنْ نَفَرَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُحَصَّبَ ، وَهُوَ الْأَبْطَحُ ، وَحَدُّهُ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إلَى الْمَقْبَرَةِ ، فَيُصَلِّيَ بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ، ثُمَّ يَضْطَجِعَ يَسِيرًا ، ثُمَّ يَدْخُلَ مَكَّةَ .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي بِالْمُحَصَّبِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَكَانَ كَثِيرَ الِاتِّبَاعِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَانَ طَاوُسٌ يُحَصِّبُ فِي شِعْبِ الْجَوْزِ .
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَفْعَلُهُ ، ثُمَّ تَرَكَهُ .
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ ، لَا يَرَيَانِ ذَلِكَ سُنَّةً ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ التَّحْصِيبُ لَيْسَ بِشَيْءِ ، إنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّ نُزُولَ الْأَبْطَحِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ ، إنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ إذَا خَرَجَ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَمَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ فَلِاتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْزِلُهُ ، قَالَ نَافِعٌ : { كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً ، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ يَنْزِلُونَ الْأَبْطَحَ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ .
( 2579 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( فَإِذَا أَتَى مَكَّةَ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يُوَدِّعَ الْبَيْتَ يَطُوفُ بِهِ سَبْعًا ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إذَا فَرَغَ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِهِ ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَتَى مَكَّةَ لَا يَخْلُو ؛ إمَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِقَامَةَ بِهَا ، أَوْ الْخُرُوجَ مِنْهَا ، فَإِنْ أَقَامَ بِهَا ، فَلَا وَدَاعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَدَاعَ مِنْ الْمُفَارِقِ ، لَا مِنْ الْمُلَازِمِ ، سَوَاءٌ نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ النَّفْرِ أَوْ بَعْدَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ أَنْ حَلَّ لَهُ النَّفْرُ ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الطَّوَافُ وَلَا يَصِحُّ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَارِقٍ ، فَلَا يَلْزَمُهُ وَدَاعٌ ، كَمَنْ نَوَاهَا قَبْلَ حِلِّ النَّفْرِ ، وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ " .
وَهَذَا لَيْسَ بِنَافِرٍ .
فَأَمَّا الْخَارِجُ مِنْ مَكَّةَ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ حَتَّى يُوَدِّعَ الْبَيْتَ بِطَوَافِ سَبْعٍ ، وَهُوَ وَاجِبٌ ، مَنْ تَرَكَهُ لَزِمَهُ دَمٌ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ : لَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الْحَائِضِ ، فَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، كَطَوَافِ الْقُدُومِ ، وَلِأَنَّهُ كَتَحِيَّةِ الْبَيْتِ ، أَشْبَهَ طَوَافَ الْقُدُومِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ { : أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ ، إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِمُسْلِمٍ ، قَالَ : كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ كُلَّ وَجْهٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَنْفِرُ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ } .
وَلَيْسَ فِي سُقُوطِهِ عَنْ الْمَعْذُورِ مَا يُجَوِّزُ سُقُوطَهُ لِغَيْرِهِ ، كَالصَّلَاةِ تَسْقُطُ عَنْ الْحَائِضِ ، وَتَجِبُ عَلَى غَيْرِهَا ، بَلْ تَخْصِيصُ الْحَائِضِ بِإِسْقَاطِهِ عَنْهَا دَلِيلٌ عَلَى
وُجُوبِهِ عَلَى غَيْرِهَا ، إذْ لَوْ كَانَ سَاقِطًا عَنْ الْكُلِّ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهَا بِذَلِكَ مَعْنًى .
وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْ الْحَائِضِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لِتَوْدِيعِ الْبَيْتِ ، وَطَوَافَ الصَّدْرِ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ صُدُورِ النَّاسِ مِنْ مَكَّةَ .
وَوَقْتُهُ بَعْدَ فَرَاغِ الْمَرْءِ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِهِ ؛ لِيَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ ، عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي تَوْدِيعِ الْمُسَافِرِ إخْوَانَهُ وَأَهْلَهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ " .
( 2580 ) فَصْلٌ : وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ كَالْمَكِّيِّ ، لَا وَدَاعَ عَلَيْهِ .
وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ خَارِجَ الْحَرَمِ ، قَرِيبًا مِنْهُ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ حَتَّى يُوَدِّعَ الْبَيْتَ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَقِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ .
ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ، فِي أَهْلِ بُسْتَانِ ابْنِ عَامِرٍ ، وَأَهْلِ الْمَوَاقِيتِ : إنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ ، لِأَنَّهُمْ مَعْدُودُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، بِدَلِيلِ سُقُوطِ دَمِ الْمُتْعَةِ عَنْهُمْ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ " .
وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ ، فَلَزِمَهُ التَّوْدِيعُ ، كَالْبَعِيدِ .
( 2581 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ، فَطَافَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يُجْزِئُهُ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ ، لِأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ ، وَقَدْ فَعَلَ ، وَلِأَنَّ مَا شُرِعَ لِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ أَجْزَأَ عَنْهُ الْوَاجِبُ مِنْ جِنْسِهِ ، كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ بِرَكْعَتَيْنِ تُجْزِئُ عَنْهُمَا الْمَكْتُوبَةُ .
وَعَنْهُ ، لَا يُجْزِئُهُ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعَ ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ وَاجِبَتَانِ ، فَلَمْ تُجْزِ إحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى ، كَالصَّلَاتَيْنِ الْوَاجِبَتَيْنِ .
( 2582 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ وَدَّعَ وَاشْتَغَلَ فِي تِجَارَةٍ ، عَادَ فَوَدَّعَ ، ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ خُرُوجِهِ ، لِيَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ ، فَإِنْ طَافَ لِلْوَدَاعِ ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِتِجَارَةٍ أَوْ إقَامَةٍ فَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إذَا طَافَ لِلْوَدَاعِ ، أَوْ طَافَ تَطَوُّعًا بَعْدَمَا حَلَّ لَهُ النَّفْرُ ، أَجْزَأْهُ عَنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ ، وَإِنْ أَقَامَ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ طَافَ بَعْدَمَا حَلَّ لَهُ النَّفْرُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَتُهُ ، كَمَا لَوْ نَفَرَ عَقِيبَهُ .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ } .
وَلِأَنَّهُ إذَا قَامَ بَعْدَهُ ، خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَدَاعًا فِي الْعَادَةِ ، فَلَمْ يُجْزِهِ ، كَمَا لَوْ طَافَهُ قَبْلَ حِلِّ النَّفْرِ .
فَأَمَّا إنْ قَضَى حَاجَةً فِي طَرِيقِهِ ، أَوْ اشْتَرَى زَادًا أَوْ شَيْئًا لِنَفْسِهِ فِي طَرِيقِهِ ، لَمْ يُعِدْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِإِقَامَةٍ تُخْرِجُ طَوَافَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا لَهُمَا .
( 2583 ) مَسْأَلَة ؛ قَالَ : ( فَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ الْوَدَاعِ ، رَجَعَ إنْ كَانَ بِالْقُرْبِ ، وَإِنْ بَعُدَ ، بَعَثَ بِدَمٍ ) هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَالْقَرِيبُ هُوَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ .
وَالْبَعِيدُ مَنْ بَلَغَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَكَانَ عَطَاءٌ يَرَى الطَّائِفَ قَرِيبًا .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ حَدُّ ذَلِكَ الْحَرَمُ ، فَمَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ قَرِيبٌ ، وَمَنْ خَرَجَ مِنْهُ فَهُوَ بَعِيدٌ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، أَنَّ مَنْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ ، فِي أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ ، وَلِذَلِكَ عَدَدْنَاهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَدَّ رَجُلًا مِنْ مُرٍّ إلَى مَكَّةَ ، لِيَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الرُّجُوعُ لِعُذْرٍ ، فَهُوَ كَالْبَعِيدِ .
وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ الْقَرِيبُ الَّذِي يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ دَمٍ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ ، وَالْمَعْذُورُ وَغَيْرُهُ ، كَسَائِرِ وَاجِبَاتِهِ .
فَإِنْ رَجَعَ الْبَعِيدُ ، فَطَافَ لِلْوَدَاعِ فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الدَّمُ بِبُلُوغِهِ مَسَافَةَ الْقَصْرِ ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِرُجُوعِهِ ، كَمَنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، فَأَحْرَمَ دُونَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ .
وَإِنْ رَجَعَ الْقَرِيبُ ، فَطَافَ ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ يُسْقِطُ عَنْهُ الرُّجُوعَ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ الدَّمَ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ ، لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ ، وَيَحْتَمِلُ سُقُوطَ الدَّمِ عَنْ الْبَعِيدِ بِرُجُوعِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ أَتَى بِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَدَلُهُ ، كَالْقَرِيبِ .
( 2584 ) فَصْلٌ : إذَا رَجَعَ الْبَعِيدُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ تَجَاوُزُ
الْمِيقَاتِ ، إنْ كَانَ جَاوَزَهُ ، إلَّا مُحْرِمًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ ، فَيَلْزَمُهُ طَوَافٌ لِإِحْرَامِهِ بِالْعُمْرَةِ وَالسَّعْيِ ، وَطَوَافٌ لِوَدَاعِهِ ، وَفِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ .
وَإِنْ كَانَ دُونَ الْمِيقَاتِ ، أَحْرَمَ مِنْ ، مَوْضِعِهِ .
فَأَمَّا إنْ رَجَعَ الْقَرِيبُ ، فَظَاهِرُ قَوْلِ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ لِإِتْمَامِ نُسُكٍ مَأْمُورٍ بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ رَجَعَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ .
فَإِنْ وَدَّعَ وَخَرَجَ ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ لَحَاجَةٍ ، فَقَالَ أَحْمَدُ أَحَبُّ إلَيَّ أَلَّا يَدْخُلَ إلَّا مُحْرِمًا ، وَأَحَبُّ إلَيَّ إذَا خَرَجَ أَنْ يُوَدِّعَ الْبَيْتَ بِالطَّوَافِ .
وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ لِإِتْمَامِ النُّسُكِ ، إنَّمَا دَخَلَ لَحَاجَةٍ غَيْرِ مُتَكَرِّرَةٍ ، فَأَشْبَهَ مَنْ يَدْخُلُهَا لِلْإِقَامَةِ بِهَا .
( 2585 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمَرْأَةُ إذَا حَاضَتْ قَبْلَ أَنْ تُوَدِّعَ ، خَرَجَتْ ، وَلَا وَدَاعَ عَلَيْهَا ، وَلَا فِدْيَةَ ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ أَنَّهُمَا أَمَرَا الْحَائِضَ بِالْمُقَامِ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ بِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ ، فَرَوَى مُسْلِمٌ ، أَنَّ زِيدَ بْنَ ثَابِتٍ خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ فِي هَذَا ، قَالَ طَاوُسٌ : كُنْت مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إذْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : تُفْتِي أَنْ لَا تَصْدُرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : إمَّا تَسْأَلُ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ ، هَلْ أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ : فَرَجَعَ زَيْدٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَضْحَكُ ، وَهُوَ يَقُولُ : مَا أَرَاك إلَّا قَدْ صَدَقْت .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ أَيْضًا .
وَقَدْ ثَبَتَ التَّخْفِيفُ عَنْ الْحَائِضِ بِحَدِيثِ { صَفِيَّةَ ، حِينَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّهَا حَائِضٌ .
فَقَالَ : أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّه ، إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ .
قَالَ : فَلْتَنْفِرْ إذًا .
وَلَا أَمَرَهَا بِفِدْيَةٍ وَلَا غَيْرِهَا } .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إلَّا أَنَّهُ خَفَّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ .
وَالْحُكْمُ فِي النُّفَسَاءِ كَالْحُكْمِ فِي الْحَائِضِ ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ النِّفَاسِ أَحْكَامُ الْحَيْضِ ، فِيمَا يُوجِبُ وَيُسْقِطُ .
( 2586 ) فَصْلٌ : وَإِذَا نَفَرْت الْحَائِضُ بِغَيْرِ وَدَاعٍ ، فَطَهُرَتْ قَبْلَ مُفَارَقَةِ الْبُنْيَانِ ، رَجَعَتْ فَاغْتَسَلَتْ وَوَدَّعَتْ ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَسْتَبِيحُ الرُّخَصَ .
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهَا الْإِقَامَةُ ، فَمَضَتْ ، أَوْ مَضَتْ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَعَلَيْهَا دَمٌ .
وَإِنْ فَارَقَتْ الْبُنْيَانَ ، لَمْ يَجِبْ الرُّجُوعُ ، إذَا كَانَتْ قَرِيبَةً ، كَالْخَارِجِ مِنْ غَيْر عُذْرٍ .
قُلْنَا : هُنَاكَ تَرَكَ وَاجِبًا ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِخُرُوجِهِ ، حَتَّى يَصِيرَ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إنْشَاءَ سَفَرٍ طَوِيلٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ ، وَهَا هُنَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، وَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُهُ ابْتِدَاءً إلَّا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُقِيمًا .
( 2587 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ الْمُوَدِّعُ فِي الْمُلْتَزَمِ ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ ، فَيَلْتَزِمَهُ ، وَيُلْصِقَ بِهِ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ ، وَيَدْعُوَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ طُفْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ ، فَلَمَّا جَاءَ دُبُرَ الْكَعْبَةِ ، قُلْت : أَلَا تَتَعَوَّذُ ؟ قَالَ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ .
ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ، فَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ ، فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ هَكَذَا - وَبَسَطَهَا بَسْطًا - وَقَالَ : هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ .
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ ، قَالَ : لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ، انْطَلَقْت فَرَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْكَعْبَةِ ، هُوَ وَأَصْحَابُهُ ، قَدْ اسْتَلَمُوا الرُّكْنَ مِنْ الْبَابِ إلَى الْحَطِيمِ ، وَوَضَعُوا خُدُودَهُمْ عَلَى الْبَيْتِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَطَهُمْ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ مَنْصُورٌ : سَأَلْت مُجَاهِدًا : إذَا أَرَدْت الْوَدَاعَ ، كَيْفَ أَصْنَعُ ؟ قَالَ : تَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، وَتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ ، ثُمَّ تَأْتِي زَمْزَمَ فَتَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا ، ثُمَّ تَأْتِي الْمُلْتَزَمَ مَا بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْبَابِ ، فَتَسْتَلِمُهُ ، ثُمَّ تَدْعُو ، ثُمَّ تَسْأَلُ حَاجَتَك ، ثُمَّ تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ ، وَتَنْصَرِفُ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ هَذَا بَيْتُك ، وَأَنَا عَبْدُك ، وَابْنُ عَبْدِك ، حَمَلْتنِي عَلَى مَا سَخَّرْت لِي مِنْ خَلْقِك ، وَسَيَّرْتنِي فِي بِلَادِك حَتَّى بَلَّغْتنِي بِنِعْمَتِك إلَى بَيْتِك ، وَأَعَنْتنِي عَلَى أَدَاءِ نُسُكِي ، فَإِنْ كُنْت رَضِيت عَنِّي ، فَازْدَدْ عَنِّي رِضًا ، وَإِلَّا فَمِنْ الْآنَ قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِك دَارِي ، فَهَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إنْ أَذِنْت لِي ، غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِك وَلَا بِبَيْتِك ، وَلَا
رَاغِبٍ عَنْك وَلَا عَنْ بَيْتِك ، اللَّهُمَّ فَأَصْحِبْنِي الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي ، وَالصِّحَّةَ فِي جِسْمِي ، وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي ، وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي ، وَارْزُقْنِي طَاعَتَك أَبَدًا مَا أَبْقَيْتنِي ، وَاجْمَعْ لِي بَيْنَ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ : رَأَيْت أَعْرَابِيًّا أَتَى الْمُلْتَزَمَ ، فَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ : بِك أَعُوذُ ، وَبِك أَلُوذُ ، اللَّهُمَّ فَاجْعَلْ لِي فِي اللَّهَفِ إلَى جُودِك ، وَالرِّضَا بِضَمَانِك ، مَنْدُوحًا عَنْ مَنْعِ الْبَاخِلِينَ ، وَغِنًى عَمَّا فِي أَيْدِي الْمُسْتَأْثِرِينَ ، اللَّهُمَّ بِفَرَجِك الْقَرِيبِ ، وَمَعْرُوفِك الْقَدِيمِ ، وَعَادَتِك الْحَسَنَةِ .
ثُمَّ أَضَلَّنِي فِي النَّاسِ ، فَلَقِيته بِعَرَفَاتٍ قَائِمًا ، وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْت لَمْ تَقْبَلْ حَجَّتِي وَتَعَبِي وَنَصَبِي ، فَلَا تَحْرِمْنِي أَجْرَ الْمُصَابِ عَلَى مُصِيبَتِهِ ، فَلَا أَعْلَمُ أَعْظَمَ مُصِيبَةً مِمَّنْ وَرَدَ حَوْضَك ، وَانْصَرَفَ مَحْرُومًا مِنْ وَجْهِ رَغْبَتِك .
وَقَالَ آخَرُ : يَا خَيْرَ مَوْفُودٍ إلَيْهِ ، قَدْ ضَعُفَتْ قُوَّتِي ، وَذَهَبَتْ مِنَّتِي ، وَأَتَيْت إلَيْك بِذُنُوبٍ لَا تَغْسِلُهَا الْبِحَارُ ، أَسْتَجِيرُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك ، وَبِعَفْوِك مِنْ عُقُوبَتِك ، رَبِّ ارْحَمْ مَنْ شَمِلَتْهُ الْخَطَايَا ، وَغَمَرَتْهُ الذُّنُوبُ ، وَظَهَرَتْ مِنْهُ الْعُيُوبُ ، ارْحَمْ أَسِيرَ ضُرٍّ ، وَطَرِيدَ فَقْرٍ ، أَسْأَلُك أَنْ تَهَبَ لِي عَظِيمَ جُرْمِي ، يَا مُسْتَزَادًا مِنْ نِعَمِهِ ، وَمُسْتَعَاذًا مِنْ نِقَمِهِ ، ارْحَمْ صَوْتَ حَزِينٍ دَعَاك بِزَفِيرٍ وَشَهِيقٍ ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت بَسَطْت إلَيْك يَدَيَّ دَاعِيًا ، فَطَالَمَا كَفَيْتنِي سَاهِيًا ، فَبِنِعْمَتِك الَّتِي تَظَاهَرَتْ عَلَيَّ عِنْدَ الْغَفْلَةِ ، لَا أَيْأَسُ مِنْهَا عِنْدَ التَّوْبَةِ ، فَلَا تَقْطَعْ رَجَائِي مِنْك لِمَا قَدَّمْت مِنْ اقْتِرَافٍ ، وَهَبْ لِي الْإِصْلَاحَ فِي الْوَلَدِ ، وَالْأَمْنَ فِي الْبَلَدِ ، وَالْعَافِيَةَ فِي الْجَسَدِ ، إنَّك سَمِيعٌ مُجِيبٌ ، اللَّهُمَّ إنَّ لَك عَلَيَّ حُقُوقًا ، فَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَيَّ ، وَلِلنَّاسِ قِبَلِي
تَبِعَاتٌ فَتَحَمَّلْهَا عَنِّي ، وَقَدْ أَوْجَبْت لِكُلِّ ضَيْفٍ قِرًى ، وَأَنَا ضَيْفُك اللَّيْلَةَ ، فَاجْعَلْ قِرَايَ الْجَنَّةَ ، اللَّهُمَّ إنِّي سَائِلُك عِنْدَ بَابِك ، مَنْ ذَهَبَتْ أَيَّامُهُ ، وَبَقِيَتْ آثَامُهُ ، وَانْقَطَعَتْ شَهْوَتُهُ ، وَبَقِيَتْ تَبِعَتُهُ ، فَارْضَ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ تَرْضَ عَنْهُ فَاعْفُ عَنْهُ ، فَقَدْ يَعْفُو السَّيِّدُ عَنْ عَبْدِهِ ، وَهُوَ عَنْهُ غَيْرُ رَاضٍ .
ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ حَائِضًا لَمْ تَدْخُلْ الْمَسْجِدَ ، وَوَقَفَتْ عَلَى بَابِهِ ، فَدَعَتْ بِذَلِكَ .
( 2588 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : إذَا وَدَّعَ الْبَيْتَ ، يَقُومُ عِنْدَ الْبَيْتِ إذَا خَرَجَ وَيَدْعُ وَإِذَا وَلَّى لَا يَقِفُ وَلَا يَلْتَفِتُ ، فَإِنْ الْتَفَتَ رَجَعَ فَوَدَّعَ .
وَرَوَى حَنْبَلٌ ، فِي " مَنَاسِكِهِ " عَنْ الْمُهَاجِرِ ، قَالَ : قُلْت لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : الرَّجُلُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ، وَيُصَلِّي ، فَإِذَا انْصَرَفَ خَرَجَ ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَقَامَ ؟ فَقَالَ : مَا كُنْت أَحْسَبُ يَصْنَعُ هَذَا إلَّا الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : أَكْرَهُ ذَلِكَ .
وَقَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إنْ الْتَفَتَ رَجَعَ فَوَدَّعَ .
عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ ، إذْ لَا نَعْلَمُ لِإِيجَابِ ذَلِكَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ، وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ : إذَا كِدْت تَخْرُجُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَالْتَفِتْ ، ثُمَّ اُنْظُرْ إلَى الْكَعْبَةِ ، ثُمَّ قُلْ : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ .
( 2589 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ تَرَكَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ، رَجَعَ مِنْ بَلَدِهِ حَرَامًا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ رُكْنُ الْحَجِّ ، لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ .
وَلَا يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ حَتَّى يَفْعَلَهُ ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ قَبْلَهُ ، لَمْ يَنْفَكّ إحْرَامُهُ ، وَرَجَعَ مَتَى أَمْكَنَهُ مُحْرِمًا ، لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يَحُجُّ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ .
وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ قَوْلًا ثَانِيًا .
وَقَالَ : يَأْتِي عَامًا قَابِلًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ صَفِيَّةَ حَاضَتْ ، قَالَ : " أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ " قِيلَ : إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ .
قَالَ : " فَلْتَنْفِرْ إذًا " .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الطَّوَافَ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ حَابِسٌ لِمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ .
فَإِنْ نَوَى التَّحَلُّلَ ، وَرَفَضَ إحْرَامَهُ ، لَمْ يَحِلَّ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَخْرُج مِنْهُ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ ، وَمَتَى رَجَعَ إلَى مَكَّةَ ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ ، حَلَّ بِطَوَافِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَفُوتُ وَقْتُهُ ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ .
( 2590 ) فَصْلٌ : فَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ الطَّوَافِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَرَكَ جَمِيعَهُ ، فِيمَا ذَكَرْنَا .
وَسَوَاءٌ تَرَكَ شَوْطًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : مَنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَة ، أَوْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ ، إنَّ سَعْيَهُ يُجْزِئُهُ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِمَا تَرَكَ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا أَتَى بِهِ لَا يُجْزِئُهُ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ ، فَلَا يُجْزِئُهُ إذَا خَرَجَ مِنْهَا ، كَمَا لَوْ طَافَ دُونَ الْأَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ
.
( 2591 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَرَكَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ، بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، فَلَمْ يَبْقَ مُحْرِمًا إلَّا عَنْ النِّسَاءِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، فَلَمْ يَبْقَ مُحْرِمًا إلَّا عَنْ النِّسَاءِ خَاصَّةً .
وَإِنْ وَطِئَ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ ، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، لَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ ، وَيُجَدِّدُ إحْرَامَهُ لِيَطُوفَ فِي إحْرَامٍ صَحِيحٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : مَنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ ، أَوْ اخْتَرَقَ الْحِجْرَ فِي طَوَافِهِ ، وَرَجَعَ إلَى بَغْدَادَ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى بَقِيَّةِ إحْرَامِهِ ، فَإِنْ وَطِئَ النِّسَاءَ ، أَحْرَمَ مِنْ التَّنْعِيمِ ، عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَهَذَا كَمَا قُلْنَا .
( 2592 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ طَافَ لِلْوَدَاعِ ، لَمْ يُجْزِئْهُ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ ) وَإِنَّمَا لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةِ شَرْطٌ فِيهِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَمَنْ طَافَ لِلْوَدَاعِ ، فَلَمْ يُعَيِّنْ النِّيَّةَ لَهُ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ .
( 2593 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَيْسَ فِي عَمَلِ الْقَارِنِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ ، إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ ) الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْقَارِنَ بَيْنَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةِ ، لَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا يَلْزَمُ الْمُفْرِدَ ، وَأَنَّهُ يُجْزِئُهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ ، لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ ، أَنَّ عَلَيْهِ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ .
وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ اخْتَارَ ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } .
وَتَمَامُهُمَا ، أَنْ يَأْتِيَ بِأَفْعَالِهِمَا عَلَى الْكَمَالِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَارِنِ وَغَيْرِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ طَوَافَانِ } .
وَلِأَنَّهُمَا نُسُكَانِ ، فَكَانَ لَهُمَا طَوَافَانِ ، كَمَا لَوْ كَانَا مُنْفَرِدَيْنِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَإِنَّمَا طَافُوا لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي مُسْلِمٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ ، لَمَّا قَرَنَتْ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ : يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك } .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ
وَالْعُمْرَةِ ، أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ عَنْهُمَا جَمِيعًا } .
وَعَنْ جَابِرٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا } .
رَوَاهُمَا التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى لَيْثٌ ، عَنْ طَاوُسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ لِعُمْرَتِهِمْ وَحَجِّهِمْ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَعَنْ سَلَمَةَ ، قَالَ : حَلَفَ طَاوُسٌ مَا طَافَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا .
وَلِأَنَّهُ نَاسِكٌ يَكْفِيهِ حَلْقٌ وَاحِدٌ ، وَرَمْيٌ وَاحِدٌ ، فَكَفَاهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ ، وَسَعْيٌ وَاحِدٌ ، كَالْمُفْرِدِ ، وَلِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا دَخَلَتْ أَفْعَالُ الصُّغْرَى فِي الْكُبْرَى ، كَالطَّهَارَتَيْنِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ إذَا وَقَعَتْ لَهُمَا فَقَدْ تَمَّا .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ ، فَلَا نَعْلَمُ صِحَّتَهُ ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ ، فِي بَعْضِهَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ ، وَفِي بَعْضِهَا عُمَرُ بْنُ يَزِيدَ ، وَفِي بَعْضِهَا حَفْصُ بْنُ أَبِي دَاوُد ، وَكُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ ، وَكَفَى بِهِ ضَعْفًا مُعَارَضَتُهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ .
وَإِنْ صَحَّ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ : عَلَيْهِ طَوَافٌ وَسَعْيٌ .
فَسَمَّاهُمَا طَوَافَيْنِ ، فَإِنَّ السَّعْيَ يُسَمَّى طَوَافًا ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ : عَلَيْهِ طَوَافَانِ ؛ طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ .
( 2594 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا ، فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : إذَا قَتَلَ الْقَارِنُ صَيْدًا ، فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ .
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : فِي ذَلِكَ جَزَاءَانِ .
فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا : فِي صَيْدِ الْحَرَمِ ثَلَاثَةٌ .
لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : فِي الْحِلِّ اثْنَانِ .
فَفِي الْحَرَمِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةً .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : عَلَيْهِ جَزَاءَانِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَإِذَا قُلْنَا عَلَيْهِ طَوَافَانِ ، لَزِمَهُ جَزَاءَانِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَمَنْ أَوْجَبَ جَزَاءَيْنِ ، فَقَدْ أَوْجَبَ مِثْلَيْنِ .
وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ وَاحِدٌ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ جَزَاءَانِ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ فِي الْحَرَمِ صَيْدًا .
وَلِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى مُحْرِمَيْنِ قَتَلَا صَيْدًا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا إلَّا فِدَاءٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَلِكَ مُحْرِمٌ وَحَلَالٌ قَتَلَا صَيْدًا حَرَمِيًّا .
( 2595 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَفْسَدَ الْقَارِنُ نُسُكَهُ بِالْوَطْءِ ، فَعَلَيْهِ فِدَاءٌ وَاحِدٌ .
وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَلَا يَسْقُطُ دَمُ الْقِرَانِ .
وَقَالَ الْحَكَمُ : عَلَيْهِ هَدَيَانِ .
وَيَتَخَرَّجُ لَنَا أَنْ يَلْزَمَهُ بَدَنَةٌ وَشَاةٌ إذَا قُلْنَا يَلْزَمُهُ طَوَافَانِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ وَطِئَ قَبْلَ الْوُقُوفِ ، فَسَدَ نُسُكُهُ ، وَعَلَيْهِ شَاتَانِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، الَّذِينَ سُئِلُوا عَمَّنْ أَفْسَدَ نُسُكَهُ ، لَمْ يَأْمُرُوهُ إلَّا بِفِدَاءٍ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا .
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ ، فَلَمْ يَجِبْ فِي إفْسَادِهِ أَكْثَرُ مِنْ فِدْيَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَالْآخَرَيْنِ ، وَسَائِرُ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، مِنْ اللُّبْسِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِهِمَا ، لَا يَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ فِدَاءٍ وَاحِدٍ ، كَمَا لَوْ كَانَ مُفْرِدًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 2596 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ دَمًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ، فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ ) هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ ، مَعْنَاهُ لَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ ، فَإِنَّ وُجُوبَ الدَّمِ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَنْفِيَّةِ بِقَوْلِهِ : " وَلَيْسَ فِي عَمَلِ الْقَارِنِ زِيَادَةٌ عَلَى عَمَلِ الْمُفْرِدِ " .
وَلَا نَعْلَمُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى الْقَارِنِ خِلَافًا ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد ، أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ ، أَنَّ ابْنَ دَاوُد لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ سُئِلَ عَنْ الْقَارِنِ ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ ؟ فَقَالَ : لَا .
فَجُرَّ بِرِجْلِهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ الْأَمْرِ بَيْنَهُمْ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجَّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } .
وَالْقَارِنُ مُتَمَتِّعٌ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ، بِدَلِيلِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سَمِعَ عُثْمَانَ يَنْهَى عَنْ الْمُتْعَةِ ، أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : إنَّمَا الْقِرَانُ لِأَهْلِ الْآفَاقِ .
وَتَلَا قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَرَنَ بَيْنَ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ ، فَلْيُهْرِقْ دَمًا } .
وَلِأَنَّهُ تَرَفَّهَ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ ، فَلَزِمَهُ دَمٌ كَالْمُتَمَتِّعِ .
وَإِذَا عَدِمَ الدَّمَ ، فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ ، كَالْمُتَمَتِّعِ سَوَاءٌ .
( 2597 ) فَصْلٌ : وَمِنْ شَرْطِ وُجُوب الدَّم عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَسْقَطَ الدَّمَ عَنْ الْمُتَمَتِّعِ ، وَلَيْسَ هَذَا مُتَمَتِّعًا .
وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ ؛ فَإِنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فَهُوَ فَرْعٌ عَلَيْهِ ، وَوُجُوبُ الدَّمِ عَلَى الْقَارِنِ إنَّمَا كَانَ بِمَعْنَى النَّصِّ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ الْفَرْعُ أَصْلَهُ .
( 2598 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَطَافَ وَسَعَى ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ عَامِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ، عَلَيْهِ دَمٌ ) ( 2599 ) فَصْلٌ : الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ : أَحَدُهَا ، وُجُوبُ الدَّمِ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَقَدِمَ مَكَّةَ فَفَرَغَ مِنْهَا ، وَأَقَامَ بِهَا ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ، أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ إنْ وَجَدَ ، وَإِلَّا فَالصِّيَامُ .
وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } الْآيَةَ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : { تَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلنَّاسِ : مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى ، فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَلْيُقَصِّرْ ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَيُهْدِي ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا ، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ جَابِرٌ : { كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ، فَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، نَشْتَرِكُ فِيهَا .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ أَبِي جَمْرَةَ ، قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْمُتْعَةِ .
فَأَمَرَنِي بِهَا ، وَسَأَلْته عَنْ الْهَدْيِ ، فَقَالَ : فِيهَا جَزُورٌ ، أَوْ بَقَرَةٌ ، أَوْ شَاةٌ ، أَوْ شِرْكٌ مِنْ دَمٍ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالدَّمُ الْوَاجِبُ شَاةٌ ، أَوْ سُبْعُ بَقَرَةٍ ، أَوْ سُبْعُ بَدَنَةٍ ، فَإِنْ نَحَرَ بَدَنَةً ، أَوْ ذَبَحَ بَقَرَةً ، فَقَدْ زَادَ خَيْرًا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُجْزِئُ
إلَّا بَدَنَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَمَتَّعَ ، سَاقَ بَدَنَةً .
وَهَذَا تَرْكٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } وَاطِّرَاحٌ لِلْآثَارِ الثَّابِتَةِ ، وَمَا احْتَجُّوا بِهِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ إهْدَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْبَدَنَةِ لَا يَمْنَعُ إجْزَاءَ مَا دُونَهَا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَلَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْبَدَنَةُ الَّتِي يَذْبَحُهَا عَلَى صِفَةِ بُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ إنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا فِي حَجَّتِهِ .
وَكَذَلِكَ ذَهَبُوا إلَى تَفْضِيلِ الْإِفْرَادِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ سَوْقُهُ لِلْبُدْنِ دَلِيلًا لَهُمْ فِي التَّمَتُّعِ ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا .
( 2600 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، فِي الشُّرُوطِ الَّتِي يَجِبُ الدَّمُ عَلَى مَنْ اجْتَمَعَتْ فِيهِ ، وَهِيَ خَمْسَةٌ ؛ الْأَوَّلُ ، أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ ، لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، سَوَاءٌ وَقَعَتْ أَفْعَالُهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، أَوْ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، سُئِلَ عَمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ قَدِمَ فِي شَوَّالٍ ، أَيَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ فِي شَوَّالٍ ، أَوْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ؟ فَقَالَ : لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا .
وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ ، وَذَكَرَ إسْنَادَهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدَ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ امْرَأَةٍ تَجْعَلُ عَلَى نَفْسِهَا عُمْرَةً فِي شَهْرٍ مُسَمًّى ، ثُمَّ تَحِلُّ إلَّا لَيْلَةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ تَحِيضُ ؟ قَالَ : لِتَخْرُجْ ، ثُمَّ لِتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ، ثُمَّ لِتَنْتَظِرْ حَتَّى تَطْهُرَ ، ثُمَّ لِتَطُفْ بِالْبَيْتِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : فَجَعَلَ عُمْرَتَهَا فِي الشَّهْرِ الَّذِي أَهَلَّتْ فِيهِ ، لَا فِي الشَّهْرِ الَّذِي حَلَّتْ فِيهِ .
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ مَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عُمْرَةً ، وَحَلَّ مِنْهَا قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، إلَّا قَوْلَيْنِ شَاذِّينَ ، أَحَدُهُمَا عَنْ طَاوُسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا اعْتَمَرْت فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ أَقَمْت حَتَّى الْحَجِّ ، فَأَنْتَ مُتَمَتِّعٌ .
وَالثَّانِي عَنْ الْحَسَنِ ، أَنَّهُ قَالَ : مِنْ اعْتَمَرَ بَعْدَ النَّحْرِ ، فَهِيَ مُتْعَةٌ .
قَالَ : ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ .
فَأَمَّا إنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ حَلَّ مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَذَهَبَ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا .
وَنُقِلَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ ، وَأَبِي عِيَاضٍ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ طَاوُسٌ : عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ
الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ الْحَرَمَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَالْحَكَمُ ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَطُوفُ فِيهِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَحِلُّ فِيهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ .
وَإِنْ طَافَ الْأَرْبَعَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ صَحَّتْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَ أَفْسَدَهَا ، أَشْبَهَ إذَا أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَا عَنْ جَابِرٍ ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِنُسُكٍ لَا تَتِمُّ الْعُمْرَةُ إلَّا بِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، كَمَا لَوْ طَافَ .
وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ .
الثَّانِي ، أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ، فَإِنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلَمْ يَحُجَّ ذَلِكَ الْعَامَ ، بَلْ حَجَّ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ ، فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، إلَّا قَوْلًا شَاذًّا عَنْ الْحَسَنِ ، فِي مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ، حَجَّ أَوْ لَمْ يَحُجَّ .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ هَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ .
} وَهَذَا يَقْتَضِي الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُمَا ، وَلِأَنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ ، فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ ، فَهَذَا أَوْلَى مِنْ التَّبَاعُدِ بَيْنَهُمَا أَكْثَرَ .
الثَّالِثُ ، أَنْ لَا يُسَافِرَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ سَفَرًا بَعِيدًا تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَالْمُغِيرَةِ الْمَدِينِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ ، بَطَلَتْ مُتْعَتُهُ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ
رَجَعَ إلَى مِصْرِهِ ، أَوْ إلَى غَيْرِهِ أَبْعَدَ مِنْ مِصْرِهِ ، بَطَلَتْ مُتْعَتُهُ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَقَالَ الْحَسَنُ : هُوَ مُتَمَتِّعٌ وَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ أَقَامَ ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ .
فَإِنْ خَرَجَ وَرَجَعَ ، فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ ذَلِكَ .
وَلِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ ، أَوْ مَا دُونَهُ ، لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَقَدْ أَنْشَأَ سَفَرًا بَعِيدًا لِحَجِّهِ ، فَلَمْ يَتَرَفَّهْ بِأَحَدِ السَّفَرَيْنِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ ، كَمَوْضِعِ الْوِفَاقِ .
وَالْآيَةُ تَنَاوَلَتْ الْمُتَمَتِّعَ ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ عُمَرَ .
الرَّابِعُ ، أَنْ يَحِلَّ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ ، فَإِنْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ حِلِّهِ مِنْهَا ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِينَ كَانَ مَعَهُمْ الْهَدْيُ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَهَذَا يَصِيرُ قَارِنًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ دَمُ الْمُتْعَةِ .
قَالَتْ عَائِشَةُ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ، فَقَدِمْت مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ ، لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَشَكَوْت ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اُنْقُضِي رَأْسَكِ ، وَامْتَشِطِي ، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ ، وَدَعِي الْعُمْرَةَ .
قَالَتْ : فَفَعَلْت ، فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ ، أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ ، فَاعْتَمَرْت مَعَهُ ، فَقَالَ : هَذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِك .
قَالَ عُرْوَةُ : فَقَضَى اللَّهُ حَجَّهَا وَعُمْرَتَهَا ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ وَلَا صَوْمٌ وَلَا
صَدَقَةٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ لِلْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَارِنًا ، وَتَرَفَّهَ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ .
وَقَوْلُ عُرْوَةَ : لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ .
يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَدْيٌ لِلْمُتْعَةِ ، إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَبَحَ عَنْ نِسَائِهِ بَقَرَةً بَيْنَهُنَّ .
الْخَامِسُ ، أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّ دَمَ الْمُتْعَةِ لَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، إذْ قَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
وَلِأَنَّ حَاضِرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِيقَاتُهُ مَكَّةُ ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ التَّرَفُّهُ بِأَحَدِ السَّفَرَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ ، فَأَشْبَهَ الْمُفْرِدَ .
( 2601 ) فَصْلٌ : ( وَحَاضِرُوا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أَهْلُ الْحَرَمِ ، وَمَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : أَهْلُ مَكَّةَ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : أَهْلُ الْحَرَمِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ .
وَقَالَ مَكْحُولٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : مَنْ دُونَ الْمَوَاقِيتِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ شُرِعَ فِيهِ النُّسُكُ ، فَأَشْبَهَ الْحَرَمَ .
وَلَنَا ، أَنَّ حَاضِرَ الشَّيْءِ مَنْ دَنَا مِنْهُ ، وَمَنْ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ قَرِيبٌ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا قَصَدَهُ لَا يَتَرَخَّصُ رُخَصَ السَّفَرِ ، فَيَكُونُ مِنْ حَاضِرِيهِ .
وَتَحْدِيدُهُ بِالْمِيقَاتِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَعِيدًا ، يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ الْبَعِيدِ إذَا قَصَدَهُ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى جَعْلِ الْبَعِيدِ مِنْ حَاضِرِيهِ ، وَالْقَرِيبِ مِنْ غَيْرِ حَاضِرِيهِ ، فِي الْمَوَاقِيتِ قَرِيبًا وَبَعِيدًا .
وَاعْتِبَارُنَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ حَدَّ الْحَاضِرَ بِدُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، بِنَفْيِ أَحْكَامِ الْمُسَافِرِينَ عَنْهُ ، فَالِاعْتِبَارُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الِاعْتِبَارِ بِالنُّسُكِ ؛ لِوُجُودِ لَفْظِ الْحُضُورِ فِي الْآيَةِ .
( 2602 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ قَرْيَتَانِ ؛ قَرِيبَةٌ ، وَبَعِيدَةٌ ، فَهُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ قَرِيبًا فَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ الشَّرْطُ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْقَرِيبَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ بِالتَّمَتُّعِ مُتَرَفِّهًا بِتَرْكِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَهُ حُكْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي يُقِيمُ بِهَا أَكْثَرِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَمِنْ الَّتِي مَالُهُ بِهَا أَكْثَرُ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَمِنْ الَّتِي يَنْوِي الْإِقَامَةَ بِهَا أَكْثَرَ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا حُكِمَ لِلْقَرْيَةِ الَّتِي أَحْرَمَ مِنْهَا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ لِمَا قُلْنَاهُ .
( 2603 ) فَصْلٌ : فَإِذَا دَخَلَ الْآفَاقِيُّ مَكَّةَ ، مُتَمَتِّعًا نَاوِيًا لِلْإِقَامَةِ بِهَا بَعْدَ تَمَتُّعِهِ ، فَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتْعَةِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَنْشَؤُهُ وَمَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ ، فَخَرَجَ عَنْهَا مُتَنَقِّلًا مُقِيمًا بِغَيْرِهَا ، ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا مُتَمَتِّعًا نَاوِيًا لِلْإِقَامَةِ بِهَا ، أَوْ غَيْرَ نَاوٍ لِذَلِكَ ، فَعَلَيْهِ دَمُ الْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالِانْتِقَالِ عَنْهَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا .
وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُضُورَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ وَفِعْلِهَا ، وَهَذَا إنَّمَا نَوَى الْإِقَامَةَ إذَا فَرَغَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ ، فَهُوَ نَاوٍ لِلْخُرُوجِ إلَى الْحَجِّ ، فَكَأَنَّهُ إنَّمَا نَوَى أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الدَّمُ .
فَأَمَّا إنْ خَرَجَ الْمَكِّيُّ مُسَافِرًا غَيْرَ مُتَنَقِّلٍ ، ثُمَّ عَادَ فَاعْتَمَرَ مِنْ الْمِيقَاتِ ، أَوْ قَصَّرَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا السَّفَرِ عَنْ كَوْنِ أَهْلِهِ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
( 2604 ) فَصْلٌ : وَهَذَا الشَّرْطُ لِوُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِكَوْنِهِ مُتَمَتِّعًا ؛ فَإِنَّ مُتْعَةَ الْمَكِّيِّ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَحَدُ الْأَنْسَاكِ الثَّلَاثَةِ ، فَصَحَّ مِنْ الْمَكِّيِّ ، كَالنُّسُكَيْنِ الْآخَرَيْنِ .
وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّمَتُّعِ هُوَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجَّ ، ثُمَّ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ .
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمَكِّيِّ .
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ : لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ مُتْعَةٌ .
وَمَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ دَمُ مُتْعَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ لَهُ لَا عَلَيْهِ ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
( 2605 ) فَصْلٌ : إذَا تَرَكَ الْآفَاقِيُّ الْإِحْرَامَ مِنْ الْمِيقَاتِ ، أَوْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِهِ بِعُمْرَةٍ ، ثُمَّ حَلَّ مِنْهَا ، وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ مِنْ عَامِهِ ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ، عَلَيْهِ دَمَانِ ؛ دَمُ الْمُتْعَةِ ، وَدَمٌ لِإِحْرَامِهِ مِنْ دُونِ مِيقَاتِهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرَّ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ ، وَحَلَّ مِنْهَا ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَلَالًا ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ، أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ ، عَلَيْهِ دَمٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ ، حَتَّى صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، فَأَحْرَمَ مِنْهُ ، فَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِلْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِد الْحَرَامِ .
وَلَيْسَ هَذَا بِجَيِّدٍ ؛ فَإِنَّ حُضُورَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْإِقَامَةِ بِهِ ، وَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الْإِقَامَةُ ، وَلَا نِيَّتُهَا ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَانِعُ مِنْ الدَّمِ السُّكْنَى بِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَاكِنٍ ؛ وَإِنْ أَحْرَمَ الْآفَاقِيُّ بِعُمْرَةٍ ، فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ ، فَاعْتَمَرَ مِنْ التَّنْعِيمِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ، فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ ، عَلَيْهِ دَمٌ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَفِي تَنْصِيصِهِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى إيجَابِ الدَّمِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى ، بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الدَّمِ ، أَنْ يَنْوِيَ فِي ابْتِدَاءِ الْعُمْرَةِ ، أَوْ فِي أَثْنَائِهَا ، أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ .
وَظَاهِرُ النَّصِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُشْتَرَطٍ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْقَوْلِ .
وَلِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ التَّرَفُّهُ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ ، كَمَنْ لَمْ يَنْوِ .
( 2606 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، فِي وَقْتِ وُجُوبِ الْهَدْيِ ، وَوَقْتِ ذَبْحِهِ .
أَمَّا وَقْتُ وُجُوبِهِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَجِبُ إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ .
فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } .
وَهَذَا قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ .
وَلِأَنَّ مَا جُعِلَ غَايَةً ، فَوُجُودُ أَوَّلِهِ كَافٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } .
وَلِأَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ ، فَلَزِمَهُ الدَّمُ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ أَوْ تَحَلَّلَ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ إذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ بِالْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ إنَّمَا يَحْصُلُ بَعْدَ وُجُودِ الْحَجِّ مِنْهُ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْوُقُوفِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْحَجُّ عَرَفَةَ } .
وَلِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ يَعْرِضُ الْفَوَاتُ ، فَلَا يَحْصُلُ التَّمَتُّعُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، ثُمَّ أُحْصِرَ ، أَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمُ الْمُتْعَةِ ، وَلَا كَانَ مُتَمَتِّعًا ، وَلَوْ وَجَبَ الدَّمُ لَمَا سَقَطَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : يَجِبُ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ .
وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ ، قَالَ : يَجِبُ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ ذَبْحِهِ ، فَكَانَ وَقْتَ وُجُوبِهِ .
فَأَمَّا وَقْتُ إخْرَاجِهِ فَيَوْمُ النَّحْرِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَا يَجُوزُ فِيهِ ذَبْحُ الْأُضْحِيَّةَ ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ ذَبْحُ هَدْيِ التَّمَتُّعِ ، كَقَبْلِ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ .
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : سَمِعْت أَحْمَدْ ، قَالَ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ وَمَعَهُ هَدْيٌ .
قَالَ : يَنْحَرُ بِمَكَّةَ ، وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ الْعَشْرِ نَحَرَهُ ، لَا يَضِيعُ أَوْ يَمُوتُ أَوْ يُسْرَقُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ .
وَإِنْ قَدِمَ فِي الْعَشْرِ ، لَمْ يَنْحَرْهُ حَتَّى يَنْحَرَهُ بِمِنًى ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ قَدِمُوا فِي الْعَشْرِ ، فَلَمْ يَنْحَرُوا حَتَّى نَحَرُوا بِمِنًى .
وَمَنْ جَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ نَحَرَهُ عَنْ عُمْرَتِهِ ، وَأَقَامَ عَلَى إحْرَامِهِ ، وَكَانَ قَارِنًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ نَحْرُهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ .
قَوْلًا وَاحِدًا ، وَفِيمَا قَبْلَ ذَلِكَ ، بَعْدَ حِلِّهِ مِنْ الْعُمْرَةِ ، احْتِمَالَانِ ؛ وَوَجْهُ جَوَازِهِ أَنَّهُ دَمٌ يَتَعَلَّقُ بِالْإِحْرَامِ ، وَيَنُوبُ عَنْهُ الصِّيَامُ ، فَجَازَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، كَدَمِ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ إبْدَالُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَجَازَ أَدَاؤُهُ قَبْلَهُ ، كَسَائِرِ الْفِدْيَاتِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ، فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، يَكُونُ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا ، فِي أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ ، يَنْتَقِلُ إلَى صِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ .
وَتُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَمَتَى عَدِمَهُ فِي مَوْضِعِهِ جَازَ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى الصِّيَامِ ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ مُوَقَّتٌ ، وَمَا كَانَ وُجُوبُهُ مُوَقَّتًا اُعْتُبِرَتْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ ، كَالْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ ، إذَا عَدِمَهُ فِي مَكَانِهِ انْتَقَلَ إلَى التُّرَابِ .
( 2608 ) فَصْلٌ : وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ وَقْتَانِ ؛ وَقْتُ جَوَازٍ ، وَوَقْتُ اسْتِحْبَابٍ .
فَأَمَّا وَقْتُ الثَّلَاثَةِ ، فَوَقْتُ الِاخْتِيَارِ لَهَا أَنْ يَصُومَهَا مَا بَيْنَ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ وَيَوْمِ عَرَفَةَ ، وَيَكُونُ آخِرُ الثَّلَاثَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ .
قَالَ طَاوُسٌ : يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَلْقَمَةَ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرَوَى ابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ ، أَنْ يَصُومُهُنَّ مَا بَيْنَ إهْلَالِهِ بِالْحَجِّ وَيَوْمِ عَرَفَةَ .
وَظَاهِرُ هَذَا أَنْ يَجْعَلَ آخِرَهَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ .
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي ، فِي " الْمُحَرَّرِ " .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ الَّذِي وَقَفْنَا عَلَيْهِ مِثْلُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ يَكُونُ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَإِنَّمَا أَحْبَبْنَا لَهُ صَوْمَ يَوْمِ عَرَفَةَ هَاهُنَا ، لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ ؛ لِيَصُومَهَا فِي الْحَجِّ ، وَإِنْ صَامَ مِنْهَا شَيْئًا قَبْلَ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ جَازَ .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا وَقْتُ جَوَازِ صَوْمِهَا فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إذَا حَلَّ مِنْ الْعُمْرَةِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ إحْرَامِ الْحَجِّ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } .
وَلِأَنَّهُ صِيَامٌ وَاجِبٌ ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهِ ، كَسَائِرِ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ .
وَلِأَنَّ مَا قَبْلَهُ وَقْتٌ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْمُبْدَلُ ، فَلَمْ يَجُزْ الْبَدَلُ ، كَقَبْلِ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : يَصُومُهُنَّ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ .
وَلَنَا ، أَنَّ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ أَحَدُ إحْرَامَيْ التَّمَتُّعِ ، فَجَازَ الصَّوْمُ بَعْدَهُ ، كَإِحْرَامِ الْحَجِّ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ } .
فَقِيلَ : مَعْنَاهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إضْمَارٍ ، إذْ كَانَ الْحَجُّ أَفْعَالًا لَا يُصَامُ فِيهَا ، إنَّمَا يُصَامُ فِي وَقْتِهَا ، أَوْ فِي أَشْهُرِهَا .
فَهُوَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ } .
وَأَمَّا تَقْدِيمُهُ عَلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ ، فَيَجُوزُ إذَا وُجِدَ السَّبَبُ ، كَتَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ ، وَزُهُوقِ النَّفْسِ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ بَدَلًا ، فَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الْمُبْدَلِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةً فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ الْهَدْيِ عَلَى إحْرَامِ الْحَجِّ ، فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ .
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّوْمِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ .
وَلَا نَعْلَمُ قَائِلًا بِجَوَازِهِ ، إلَّا رِوَايَةً حَكَاهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ الصَّوْمُ عَلَى سَبَبِهِ وَوُجُوبِهِ ، وَيُخَالِفُ قَوْلَ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَأَحْمَدُ يُنَزَّهُ عَنْ هَذَا .
وَأَمَّا السَّبْعَةُ ، فَلَهَا أَيْضًا وَقْتَانِ ؛ وَقْتُ اخْتِيَارٍ ، وَوَقْتُ جَوَازٍ .
أَمَّا وَقْتُ الِاخْتِيَارِ ، فَإِذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا ، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا وَقْتُ الْجَوَازِ ، فَمُنْذُ تَمْضِي أَيَّامُ التَّشْرِيقِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سُئِلَ أَحْمَدُ ، هَلْ يَصُومُ فِي الطَّرِيقِ أَوْ بِمَكَّةَ ؟ قَالَ : كَيْفَ شَاءَ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ .
وَعَنْ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ : يَصُومُهَا فِي الطَّرِيقِ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : يَصُومُهَا إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ؛ لِلْخَبَرِ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ .
وَهُوَ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقِيلَ عَنْهُ كَقَوْلِنَا ، وَكَقَوْلِ إِسْحَاقَ .
وَلَنَا ، أَنَّ كُلَّ صَوْمٍ لَزِمَهُ ، وَجَازَ فِي وَطَنِهِ ، جَازَ قَبْلَ ذَلِكَ ، كَسَائِرِ الْفُرُوضِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَوَّزَ لَهُ تَأْخِيرَ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ الْإِجْزَاءَ قَبْلَهُ ، كَتَأْخِيرِ صَوْمِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ وَالْمَرَضِ ، بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وَلِأَنَّ الصَّوْمَ وُجِدَ مِنْ أَهْلِهِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ ، فَأَجْزَأَهُ ، كَصَوْمِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ .
( 2609 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجِبُ التَّتَابُعُ ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي جَمْعًا وَلَا تَفْرِيقًا .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَغَيْرِهِمَا .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .
( 2610 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ لَمْ يَصُمْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، صَامَ أَيَّامَ مِنًى ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى لَا يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى ، وَيَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ ، إذَا لَمْ يَصُمْ الثَّلَاثَةَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ ، فَإِنَّهُ يَصُومُهَا بَعْدَ ذَلِكَ .
وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَعَائِشَةُ ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَمُجَاهِدٍ : إذَا فَاتَهُ الصَّوْمُ فِي الْعَشْرِ وَبَعْدَهُ ، وَاسْتَقَرَّ الْهَدْيُ فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } .
وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ مُوَقَّتٌ ، فَيَسْقُطُ بِخُرُوجِ وَقْتِهِ ، كَالْجُمُعَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ ، فَلَا يَسْقُطُ بِخُرُوجِ وَقْتِهِ ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ ، لَا عَلَى سُقُوطِهِ ، وَالْقِيَاسُ مُنْتَقَضٌ بِصَوْمِ الظِّهَارِ إذَا قُدِّمَ الْمَسِيسُ عَلَيْهِ ، وَالْجُمُعَةُ لَيْسَتْ بَدَلًا ، وَإِنَّمَا هِيَ الْأَصْلُ ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ لِأَنَّ الْوَقْتَ جُعِلَ شَرْطًا لَهَا كَالْجَمَاعَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ، وَعَائِشَةَ ، وَعُرْوَةَ ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، وَعَائِشَةُ ، قَالَا : { لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلَّا لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى تَرْخِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصِيَامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَيَّامِ الْحَجِّ إلَّا هَذِهِ الْأَيَّامُ ، فَيَتَعَيَّنُ الصَّوْمُ فِيهَا .
فَإِذَا صَامَ هَذِهِ الْأَيَّامَ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ صَامَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَا يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَالْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَوْمِ سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ذَكَرَ مِنْهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ } ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } .
وَلِأَنَّهَا لَا يَجُوزُ فِيهَا صَوْمُ النَّفْلِ ، فَلَا يَصُومُهَا عَنْ الْهَدْيِ ، كَيَوْمِ النَّحْرِ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، يَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إذَا قُلْنَا : يَصُومُ أَيَّامَ مِنًى فَلَمْ يَصُمْهَا .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي وُجُوبِ الدَّمِ عَلَيْهِ ، فَعَنْهُ عَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْوَاجِبَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ عَنْ وَقْتِهِ ، فَلَزِمَهُ دَمٌ ، كَرَمْيِ الْجِمَارِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُؤَخِّرِ لِعُذْرٍ ، أَوْ لِغَيْرِهِ ، لِمَا ذَكَرْنَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ ، لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ الَّذِي هُوَ الْمُبْدَلَ ، لَوْ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ ، لَا دَمَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِهِ ، فَالْبَدَلُ أَوْلَى .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ لَا يَلْزَمُهُ مَعَ الصَّوْمِ دَمٌ بِحَالٍ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ ، يَجِبُ الْقَضَاءُ بِفَوَاتِهِ ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ .
فَأَمَّا الْهَدْيُ الْوَاجِب ، إذَا أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ ، مِثْلُ أَنْ ضَاعَتْ نَفَقَتُهُ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاؤُهُ ، كَسَائِرِ الْهَدَايَا الْوَاجِبَةِ .
وَإِنْ أَخَّرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاؤُهُ ، كَسَائِرِ الْهَدَايَا .
وَالْأُخْرَى ، عَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ مُؤَقَّتٌ ، فَلَزِمَ الدَّمُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ ، كَرَمْيِ الْجِمَارِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : مَنْ تَمَتَّعَ ، فَلَمْ يُهْدِ إلَى قَابِلٍ ، يُهْدِي هُدَيَيْنِ .
كَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ .
( 2611 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَامَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ، لَمْ يَلْزَمْهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ .
وَقَالَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : عَلَيْهِ التَّفْرِيقُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ ، وَمَا وَجَبَ التَّفْرِيقُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ ، لَمْ يَسْقُطْ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ ، كَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ صَوْمٌ وَاجِبٌ ، فِي زَمَنٍ يَصِحُّ الصَّوْمُ فِيهِ ، فَلَمْ يَجِبْ تَفْرِيقُهُ ، كَسَائِرِ الصَّوْمِ .
وَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ فِي الْأَدَاءِ ، فَإِنَّهُ إذَا صَامَ أَيَّامَ مِنًى ، وَأَتْبَعَهَا السَّبْعَةَ ، فَمَا حَصَلَ التَّفْرِيقُ .
وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَ التَّفْرِيقِ فِي الْأَدَاءِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ ، فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ سَقَطَ ، كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ .
( 2612 ) فَصْلٌ : وَوَقْتُ وُجُوبِ الصَّوْمِ وَقْتُ وُجُوبِ الْهَدْيِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ ، فَكَانَ وَقْتُ وُجُوبِهِ وَقْتَ وُجُوبِ الْمُبْدَلِ ، كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ جَوَّزْتُمْ الِانْتِقَالَ إلَى الصَّوْمِ قَبْلَ زَمَانِ وُجُوبِ الْمُبْدَلِ ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَجْزُ عَنْ الْمُبْدَلِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْمُجَوَّزُ لِلِانْتِقَالِ إلَى الْبَدَلِ زَمَنَ الْوُجُوبِ ، وَكَيْفَ جَوَّزْتُمْ الصَّوْمَ قَبْلَ وُجُوبِهِ ؟ قُلْنَا : إنَّا جَوَّزْنَا لَهُ الِانْتِقَالَ إلَى الْبَدَلِ ، بِنَاءً عَلَى الْعَجْزِ الظَّاهِرِ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمُعَسِّر اسْتِمْرَارُ إعْسَارِهِ وَعَجْزِهِ ، كَمَا جَوَّزْنَا التَّكْفِيرَ بِالْبَدَلِ قَبْلَ وُجُوبِ الْمُبْدَلِ .
وَأَمَّا تَجْوِيزُ الصَّوْمِ قَبْلَ وُجُوبِهِ ، فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
( 2613 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ دَخَلَ فِي الصِّيَامِ ، ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّوْمِ إلَى الْهَدْيِ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ ) وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، وَحَمَّادٌ ، وَالثَّوْرِيُّ : إنْ أَيْسَرَ قَبْلَ أَنْ تَكْمُلَ الثَّلَاثَةُ ، فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ ، وَإِنْ أَكْمَلَ الثَّلَاثَةَ صَامَ السَّبْعَةَ .
وَقِيلَ : مَتَى قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، انْتَقَلَ إلَيْهِ ، صَامَ أَوْ لَمْ يَصُمْ .
وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ أَجْزَأَهُ الصِّيَامُ ، قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ فِي زَمَنِ وُجُوبِهِ ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ الْبَدَلُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَصُمْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ صَوْمٌ دَخَلَ فِيهِ لِعَدَمِ الْهَدْيِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ ، كَصَوْمِ السَّبْعَةِ ، وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْأَصْلُ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ ، وَإِنَّهُ مَا شُرِعَ فِي الصِّيَامِ .
( 2614 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ ، فَلَمْ يَشْرَعْ حَتَّى قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ .
قَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ : إذَا لَمْ يَصُمْ فِي الْحَجِّ فَلْيَصُمْ إذَا رَجَعَ .
وَلَا يَرْجِعُ إلَى الدَّمِ ، وَقَدْ انْتَقَلَ فَرْضُهُ إلَى الصِّيَامِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الصِّيَامَ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّتِهِ ، لِوُجُوبِهِ حَالَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُتَّصِلِ بِشَرْطِهِ ، وَهُوَ عَدَمُ الْهَدْيِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ .
قَالَ يَعْقُوبُ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الْمُتَمَتِّعِ إذَا لَمْ يَصُمْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ؟ قَالَ : عَلَيْهِ هَدْيَانِ ، يَبْعَثُ بِهِمَا إلَى مَكَّةَ .
أُوجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيَ الْأَصْلِيَّ ، وَهَدْيًا لِتَأْخِيرِهِ الصَّوْمَ عَنْ وَقْتِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْمُبْدَلِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي الْبَدَلِ ، فَلَزِمَهُ الِانْتِقَالُ إلَيْهِ ، كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ .
( 2615 ) فَصْلٌ : وَمَنْ لَزِمَهُ صَوْمُ الْمُتْعَةِ ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لِعُذْرٍ مَنَعَهُ عَنْ الصَّوْمَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، أَطْعَمَ عَنْهُ ، كَمَا يُطْعِمُ عَنْ صَوْمِ أَيَّامِ رَمَضَانَ .
وَلِأَنَّهُ صَوْمٌ وَجَبَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ ، أَشْبَهَ صَوْمَ رَمَضَانَ .
( 2616 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمَرْأَةُ إذَا دَخَلَتْ مُتَمَتِّعَةً ، فَحَاضَتْ ، فَخَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجَّ ، أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ ، وَكَانَتْ قَارِنَةً ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا قَضَاءُ طَوَافِ الْقُدُومِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَةَ إذَا حَاضَتْ قَبْلَ الطَّوَافِ لِلْعُمْرَةِ ، لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ ، وَلِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ ، وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهَا مَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ .
فَإِنْ خَشِيَتْ فَوَاتَ الْحَجِّ أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهَا ، وَتَصِيرُ قَارِنَةً .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَرْفُضُ الْعُمْرَةَ ، وَتُهِلُّ بِالْحَجِّ .
قَالَ أَحْمَدُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ قَدْ رَفَضَتْ الْعُمْرَةَ فَصَارَ حَجًّا ، وَمَا قَالَ هَذَا أَحَدٌ غَيْرُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَى عُرْوَةُ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : { أَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ، فَقَدِمْت مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ ، لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَشَكَوْت ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اُنْقُضِي رَأْسَك ، وَامْتَشِطِي ، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ ، وَدَعِي الْعُمْرَةَ .
قَالَتْ : فَفَعَلْت .
فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ ، فَاعْتَمَرْت مَعَهُ .
فَقَالَ : هَذِهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِك } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا رَفَضَتْ عُمْرَتهَا ، وَأَحْرَمَتْ بِحَجٍّ مِنْ وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ ؛ أَحَدُهَا ، قَوْلُهُ : " دَعِي عُمْرَتَك " .
وَالثَّانِي ، قَوْلُهُ : " وَامْتَشِطِي " .
وَالثَّالِثُ ، قَوْله : " هَذِهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِك " .
وَلَنَا ، مَا رَوَى { جَابِرٌ ، قَالَ : أَقْبَلَتْ عَائِشَةُ بِعُمْرَةٍ ، حَتَّى إذَا كَانَتْ بِسَرِفٍ عَرَكَتْ ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَائِشَةَ ، فَوَجَدَهَا تَبْكِي
، فَقَالَ : مَا شَأْنُك ؟ قَالَتْ : شَأْنِي أَنِّي قَدْ حِضْت ، وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ ، وَلَمْ أَحِلَّ ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ ، وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ الْآنَ .
فَقَالَ : إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ ، فَاغْتَسِلِي ، ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ فَفَعَلَتْ ، وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ ، حَتَّى إذَا طَهُرَتْ ، طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ .
ثُمَّ قَالَ : قَدْ حَلَلْت مِنْ حَجِّك وَعُمْرَتِك .
قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّه ، إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَجَجْت .
قَالَ : فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ ، فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ .
} وَرَوَى طَاوُسٌ ، عَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّهَا قَالَتْ : أَهْلَلْت بِعُمْرَةِ ، فَقَدِمْت وَلَمْ أَطُفْ حَتَّى حِضْت ، وَنَسَكْت الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا ، وَقَدْ أَهْلَلْت بِالْحَجِّ .
فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّفْرِ : يَسَعُك طَوَافُك لِحَجِّك وَعُمْرَتِك .
فَأَبَتْ ، فَبَعَثَ مَعَهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ، فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ } .
رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ .
وَهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا جَمِيعَهُ وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ خَشْيَةِ الْفَوَاتِ ، فَمَعَ خَشْيَةِ الْفَوَاتِ أَوْلَى .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَنَّ لِمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهَا الْحَجَّ ، مَا لَمْ يَفْتَتِحْ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ .
وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ، وَمَعَ إمْكَانِ الْحَجِّ مَعَ بَقَاءِ الْعُمْرَةِ لَا يَجُوزُ رَفْضُهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } .
وَلِأَنَّهَا مُتَمَكِّنَةٌ مِنْ إتْمَامِ عُمْرَتِهَا بِلَا ضَرَرٍ ، فَلَمْ يَجُزْ رَفْضُهَا ، كَغَيْرِ الْحَائِضِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ عُرْوَةَ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : " اُنْقُضِي رَأْسَك ، وَامْتَشِطِي ، وَدَعِي الْعُمْرَةَ " .
انْفَرَدَ بِهِ
عُرْوَةُ ، وَخَالَفَ بِهِ سَائِرَ مَنْ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ حِينَ حَاضَتْ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ ، وَالْقَاسِمِ ، وَالْأَسْوَدِ ، وَعَمْرَةَ وَعَائِشَةَ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ .
وَحَدِيثُ جَابِرٍ ، وَطَاوُسٍ مُخَالِفَانِ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ .
وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، حَدِيثَ حَيْضِهَا ، فَقَالَ فِيهِ : حَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : " دَعِي الْعُمْرَة ، وَانْقُضِي رَأْسَك ، وَامْتَشِطِي " .
وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُرْوَةَ لَمْ يَسْمَعْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ عَائِشَةَ ، وَهُوَ مَعَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مُخَالَفَتِهِ بَقِيَّةَ الرُّوَاةِ ، يَدُلُّ عَلَى الْوَهْمِ ، مَعَ مُخَالَفَتِهَا الْكِتَابَ وَالْأُصُولَ ، إذْ لَيْسَ لَنَا مَوْضِعٌ آخَرُ يَجُوزُ فِيهِ رَفْضُ الْعُمْرَةِ مَعَ إمْكَانِ إتْمَامِهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ قَوْلَهُ : " دَعِي الْعُمْرَةَ " .
أَيْ دَعِيهَا بِحَالِهَا ، وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ مَعَهَا ، أَوْ دَعِي أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ ، فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ .
وَأَمَّا إعْمَارُهَا مِنْ التَّنْعِيمِ ، فَلَمْ يَأْمُرْهَا بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي أَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَجَجْت .
قَالَ : " فَاذْهَبْ بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ ، فَأَعْمِرْهَا مِنْ التَّنْعِيمِ " .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْأَسْوَدِ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قُلْت : اعْتَمَرْت بَعْدَ الْحَجِّ ؟ قَالَتْ : وَاَللَّهِ مَا كَانَتْ عُمْرَةً ، مَا كَانَتْ إلَّا زِيَارَةً زُرْت الْبَيْتَ ، إنَّمَا هِيَ مِثْلُ نَفَقَتِهَا .
قَالَ أَحْمَدُ : إنَّمَا أَعْمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ حِينَ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَتْ : يَرْجِعُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ ، وَأَرْجِعُ بِنُسُكٍ ، فَقَالَ : " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ ، أَعْمِرْهَا " .
فَنَظَرَ إلَى أَدْنَى الْحَرَمِ ، فَأَعْمَرَهَا مِنْهُ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " وَلَمْ يَكُنْ
عَلَيْهَا قَضَاءُ طَوَافِ الْقُدُومِ " .
وَذَلِكَ لِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا ، وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ بِقَضَائِهِ ، وَلَا فَعَلَتْهُ هِيَ .
( 2617 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مُتَمَتِّعٍ خَشِيَ فَوَاتَ الْحَجِّ ، فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ ، وَيَصِيرُ قَارِنًا ، وَكَذَلِكَ الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي مَعَهُ هَدْيٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ ، بَلْ يُهِلُّ بِالْحَجِّ مَعَهَا ، فَيَصِيرُ قَارِنًا .
وَلَوْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ الْفَوَاتِ ، جَازَ ، وَكَانَ قَارِنًا ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ، وَرَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَمَّا بَعْدَ الطَّوَافِ ، فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَصِيرُ قَارِنًا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَصِيرُ قَارِنًا .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، فَصَحَّ ، كَمَا قَبْلَ الطَّوَافِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ شَارِعٌ فِي التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا ، كَمَا لَوْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ .
( 2618 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا إدْخَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَصِحَّ ، وَلَمْ يَصِرْ قَارِنًا .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ ، وَيَصِيرُ قَارِنًا ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ ، فَجَازَ إدْخَالُهُ عَلَى الْآخَرِ ، قِيَاسًا عَلَى إدْخَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَصْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : خَرَجْت أُرِيدُ الْحَجَّ ، فَقَدِمْت الْمَدِينَةَ ، فَإِذَا عَلِيٌّ قَدْ خَرَجَ حَاجًّا ، فَأَهْلَلْت بِالْحَجِّ ، ثُمَّ خَرَجْت ، فَأَدْرَكْت عَلِيًّا فِي الطَّرِيقِ ، وَهُوَ يُهِلُّ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ ، فَقُلْت : يَا أَبَا الْحَسَنِ ، إنَّمَا خَرَجْت مِنْ الْكُوفَةِ لِأَقْتَدِيَ بِك ، وَقَدْ سَبَقْتنِي ، فَأَهْلَلْت بِالْحَجِّ ، أَفَأَسْتَطِيعُ أَنْ أَدْخُلَ مَعَك فِيمَا أَنْتَ فِيهِ ؟ قَالَ : لَا ، إنَّمَا ذَلِكَ لَوْ كُنْت أَهْلَلْت بِعُمْرَةٍ .
وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ لَا يُفِيدُهُ إلَّا مَا أَفَادَهُ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ عَلَيْهِ ثَانِيًا فِي الْمُدَّةِ ، وَعَكْسُهُ إدْخَالُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ .
( 2619 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ وَطِئَ قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، فَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُمَا ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا ، وَلَا دَمَ عَلَيْهَا ) ( 2620 ) وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ، أَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يُفْسِدُ الْحَجَّ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ وَبَعْدَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : إنْ وَطِئَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } .
وَلِأَنَّهُ أَمِنَ الْفَوَاتَ ، فَأَمِنَ الْفَسَادَ ، كَمَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ .
وَلَنَا ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ، فَقَالَ : وَقَعْت بِأَهْلِي وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ .
فَقَالَا لَهُ : أَفْسَدْت حَجَّك .
وَلَمْ يَسْتَفْصِلُوا السَّائِلَ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا فَأَفْسَدَهُ ، كَقَبْلِ الْوُقُوفِ ، وَيُخَالِفُ مَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ تَامٍّ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْخَبَرِ الْأَمْنُ مِنْ الْفَوَاتِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَمْنِ الْفَوَاتِ أَمْنُ الْفَسَادِ ، وَبِدَلِيلِ الْعُمْرَةِ يَأْمَنُ فَوَاتَهَا وَلَا يَأْمَنُ فَسَادَهَا .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ : إنَّ حَجَّهُ تَامٌّ .
غَيْرَ أَبِي حَنِيفَةَ ، يَقُولُ : الْحَجُّ عَرَفَاتٌ ، فَمَنْ وَقَفَ بِهَا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ .
وَإِنَّمَا هَذَا مِثْلُ قَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } .
أَيْ أَدْرَكَ فَضْلَ الصَّلَاةِ ، وَلَمْ تَفُتْهُ ، كَذَلِكَ الْحَجُّ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَفْسُدُ حَجُّهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ وُجِدَ مِنْهُمَا ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ النَّاسِي وَالْعَامِدُ ، وَالْمُسْتَكْرَهَةُ وَالْمُطَاوِعَةُ ، وَالْمُسْتَيْقِظَةُ ، عَالِمًا كَانَ الرَّجُلُ أَوْ جَاهِلًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَفْسُدُ حَجُّ النَّاسِي ؛
لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَعْنًى يُوجِبُ الْقَضَاءَ ، فَاسْتَوَتْ فِيهِ الْأَحْوَالُ كُلُّهَا كَالْفَوَاتِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ، فَفَسَدَ حَجُّهُ ، كَمَا لَوْ وَطِئَ يَوْمَ النَّحْرِ .
( 2621 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ وَطِئَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ ، وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَهُ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَبْلَ الْوُقُوفِ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ ، فَلَمْ يُوجِبْ بَدَنَةً ، كَالْفَوَاتِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُ قَوْلِنَا ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا ، فَأَوْجَبَ الْبَدَنَةَ ، كَمَا بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَلِأَنَّ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ الْجِنَايَةُ بِهِ أَعْظَمُ ، فَكَفَّارَتُهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَغْلَظَ .
وَأَمَّا الْفَوَاتُ ، فَإِنَّهُمْ يُوجِبُونَ بِهِ بَدَنَةً ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ ؟ الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، أَنَّهُ لَا دَمَ عَلَيْهَا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ .
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : عَلَيْهَا دَمٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ حَجُّهَا ، فَوَجَبَتْ الْبَدَنَةُ ، كَمَا لَوْ طَاوَعَتْ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَجِبُ بِالْجِمَاعِ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ ، كَمَا لَوْ وَطِئَ فِي الصَّوْمِ .
( 2623 ) فَصْلٌ : وَمَنْ وَطِئَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ ، فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ مَعَ الْقَضَاءِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَبَدَنَةٌ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى طَوَافٍ وَسَعْيٍ ، فَأَشْبَهَتْ الْحَجَّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ وَطِئَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ كَقَوْلِنَا ، وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ، وَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ .
وَلَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا وُقُوفَ فِيهَا ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا بَدَنَةٌ ، كَمَا لَوْ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ دُونَ الْحَجِّ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا دُونَ حُكْمِهِ ، وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْحَجُّ .
وَلَنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ مَا قَبْلَ الطَّوَافِ وَبَعْدَهُ ، كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا فَأَفْسَدَهُ ، كَمَا قَبْلَ الطَّوَافِ .
( 2624 ) فَصْلٌ : إذَا أَفْسَدَ الْقَارِنُ وَالْمُتَمَتِّعُ نُسُكَهُمَا ، لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ عَنْهُمَا .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْقُطُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ التَّرَفُّهُ بِسُقُوطِ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا وَجَبَ فِي النُّسُكِ الصَّحِيحِ وَجَبَ فِي الْفَاسِدِ ، كَالْأَفْعَالِ ، وَلِأَنَّهُ دَمٌ وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِالْإِفْسَادِ ، كَالدَّمِ الْوَاجِبِ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ .
( 2625 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَفْسَدَ الْقَارِنُ نُسُكَهُ ، ثُمَّ قَضَى مُفْرِدًا ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْقَضَاءِ دَمٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ فِي الْقَضَاءِ مَا يَجِبُ فِي الْأَدَاءِ ، وَهَذَا كَانَ وَاجِبًا فِي الْأَدَاءِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ مَعَ الدَّمِ ، فَإِذَا أَتَى بِهِمَا فَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ أَوْلَى ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، كَمَنْ لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ بِتَيَمُّمِ ، فَقَضَى بِالْوُضُوءِ .
( 2626 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ وَطِئَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَيَمْضِي إلَى التَّنْعِيمِ فَيُحْرِمُ ؛ لِيَطُوفَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ) وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ ( 2627 ) : أَحَدُهَا ، أَنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ الْجَمْرَةِ لَا يُفْسِدُ الْحَجَّ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَعَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَرَبِيعَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَحَمَّادٌ : عَلَيْهِ حَجٌّ مِنْ قَابِلٍ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ إحْرَامًا مِنْ الْحَجِّ ، فَأَفْسَدَهُ ، كَالْوَطْءِ قَبْلَ الرَّمْيِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ ، وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ ، وَكَانَ قَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ ، وَقَضَى تَفَثَهُ } .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ أَصَابَ أَهْلَهُ قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ يَوْمَ النَّحْرِ : يَنْحَرَانِ جَزُورًا بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ .
وَلَا نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ .
وَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ لَهَا تَحَلُّلَانِ ، فَوُجُودُ الْمُفْسِدِ بَعْدَ تَحَلُّلِهَا الْأَوَّلِ لَا يُفْسِدُهَا ، كَبَعْدِ التَّسْلِيمَةِ الْأَوْلَى فِي الصَّلَاةِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ مَا قَبْلَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ .
الْفَصْلُ الثَّانِي ، أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ شَاةٌ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ ، وَرَبِيعَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَإِسْحَاقَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ عَلَيْهِ بَدَنَةً .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي الْحَجِّ ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، كَمَا قَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ لَمْ يُفْسِدْ ، فَلَمْ يُوجِبْ كَالْوَطْءِ دُونَ الْفَرْجِ إذَا لَمْ يُنْزِلْ .
وَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِحْرَامِ خَفَّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ ،
فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوجِبُهُ دُونَ مُوجِبِ الْإِحْرَامِ التَّامِّ .
( 2629 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، أَنَّهُ يَفْسُدُ الْإِحْرَامُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ رَمْيِ الْجَمْرَةِ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْحِلَّ .
وَبِذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ : حَجُّهُ صَحِيحٌ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ ؛ لِأَنَّهُ إحْرَامٌ لَا يَفْسُدُ جَمِيعُهُ ، فَلَمْ يَفْسُدْ بَعْضُهُ ، كَمَا لَوْ وَطِئَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الثَّانِي .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَطْءٌ صَادَفَ إحْرَامًا ، فَأَفْسَدَهُ ، كَالْإِحْرَامِ التَّامِّ ، وَإِذَا فَسَدَ إحْرَامُهُ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ لِيَأْتِيَ بِالطَّوَافِ فِي إحْرَامٍ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ رُكْنٌ ، فَيَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ فِي إحْرَامٍ صَحِيحٍ ، كَالْوُقُوفِ ، وَيَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلَّ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ، فَلَوْ أَبَحْنَا لِهَذَا الْإِحْرَامَ مِنْ الْحَرَمِ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ كُلَّهَا تَقَعُ فِي الْحَرَمِ ، فَأَشْبَهَ الْمُعْتَمِرَ .
وَإِذَا أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ ، طَافَ لِلزِّيَارَةِ ، وَسَعَى إنْ كَانَ لَمْ يَسْعَ فِي حَجِّهِ .
وَإِنْ كَانَ سَعَى ، طَافَ لِلزِّيَارَةِ ، وَتَحَلَّلَ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ بَقِيَّةُ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ لِيَأْتِيَ بِهَا فِي إحْرَامٍ صَحِيحٍ .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، أَنَّهُ يَعْتَمِرُ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا هَذَا أَيْضًا ، وَسَمَّوْهُ عُمْرَةً ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ ؛ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا عُمْرَةً حَقِيقِيَّة ، فَيَلْزَمُهُ سَعْيٌ وَتَقْصِيرٌ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " يُحْرِمُ مِنْ التَّنْعِيمِ " .
لَمْ يَذْكُرْهُ لِتَعْيِينِ الْإِحْرَامِ مِنْهُ ، بَلْ لِأَنَّهُ حَلَّ ، فَمَنْ أَحَلَّ وَأَحْرَمَ جَازَ كَالْمُعْتَمِرِ .
( 2630 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ حَلَقَ وَمَنْ لَمْ يَحْلِقْ ، فِي أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الرَّمْيِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِحْرَامٌ مِنْ الْحِلِّ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، وَالْخِرَقِيِّ وَمَنْ سَمَّيْنَاهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، لِتَرْتِيبِهِمْ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الْوَطْءِ بَعْدَ مُجَرَّدِ الرَّمْيِ ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ أَمْرٍ زَائِدٍ .
( 2631 ) فَصْلٌ : فَإِنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ ، وَلَمْ يَرْمِ ، ثُمَّ وَطِئَ ، لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ تَمَّ أَرْكَانُهُ كُلُّهَا ، وَلَا يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ مِنْ الْحِلِّ ، فَإِنَّ الرَّمْيَ لَيْسَ بِرُكْنٍ .
وَهَلْ يَلْزَمُهُ دَمٌ ؟ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ قَبْلَ وُجُودِ مَا يَتِمُّ بِهِ التَّحَلُّلُ ، فَأَشْبَهَ مَنْ وَطِئَ بَعْدَ الرَّمْيِ وَقَبْلَ الطَّوَافِ .
( 2632 ) فَصْلٌ : وَالْقَارِنُ كَالْمُفْرِدِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا وَطِئَ بَعْدَ الرَّمْيِ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ ، وَلَا عُمْرَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْحَجِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا كَانَ قَارِنًا ، وَلِأَنَّ التَّرْتِيبَ لِلْحَجِّ دُونَهَا ، وَالْحَجُّ لَا يَفْسُدُ قَبْلَ الطَّوَافِ ، كَذَلِكَ الْعُمْرَةُ .
وَقَالَ أَحْمَدُ مَنْ وَطِئَ بَعْدَ الطَّوَافِ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ : مَا عَلَيْهِ شَيْءٌ .
قَالَ أَبُو طَالِبٍ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَبِّلُ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، قَبْلَ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ ؟ قَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، قَدْ قَضَى الْمَنَاسِكَ .
فَعَلَى هَذَا ، لَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ شَيْءٌ .
( 2633 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمُبَاحٌ لِأَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرُّعَاةِ ، أَنْ يَرْمُوا بِاللَّيْلِ ) تُرْوَى هَذِهِ اللَّفْظَةُ : " الرُّعَاةُ " بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِثْبَاتِ الْهَاءِ ، مِثْلُ الدُّعَاةِ وَالْقُضَاةِ .
وَالرِّعَاءُ ، بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالْمَدِّ مِنْ غَيْرِ هَاءٍ ، وَهُمَا لُغَتَانِ صَحِيحَتَانِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ } .
وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ : { أَرْخَصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا ، وَيَدَعُوا يَوْمًا } .
وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِهَؤُلَاءِ الرَّمْيُ بِاللَّيْلِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَغِلُونَ بِالنَّهَارِ بِرَعْيِ الْمَوَاشِي وَحِفْظِهَا ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ هُمْ الَّذِينَ يَسْقُونَ مِنْ بِئْرِ زَمْزَمَ لِلْحَاجِّ ، فَيَشْتَغِلُونَ بِسِقَايَتِهِمْ نَهَارًا ، فَأُبِيحَ لَهُمْ الرَّمْيُ فِي وَقْتِ فَرَاغِهِمْ ، تَخْفِيفًا عَلَيْهِمْ ، فَيَجُوزُ لَهُمْ رَمْيُ كُلِّ يَوْمٍ فِي اللَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ، فَيَرْمُونَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فِي لَيْلَةِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَرَمْيُ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي لَيْلَةِ الثَّانِي ، وَرَمْيُ الثَّانِي فِي لَيْلَةِ الثَّالِثِ ، وَالثَّالِثِ إذَا أَخَّرُوهُ إلَى الْغُرُوبِ سَقَطَ عَنْهُمْ ، كَسُقُوطِهِ عَنْ غَيْرِهِمْ .
قَالَ عَطَاءٌ : لَا يَرْمِي اللَّيْلَ إلَّا رِعَاءُ الْإِبِلِ ، فَأَمَّا التُّجَّارُ فَلَا .
وَكَانَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، يَقُولُونَ : مَنْ نَسِيَ الرَّمْيَ إلَى اللَّيْلِ ، رَمَى ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، مِنْ الرُّعَاةِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ .
( 2634 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمُبَاحٌ لِلرُّعَاةِ أَنْ يُؤَخِّرُوا الرَّمْيَ ، فَيَقْضُوهُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرُّعَاةِ تَرْكُ الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِي مِنًى ، وَيُؤَخِّرُونَ رَمْيَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَيَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ عَنْ الرَّمِيَّيْنِ جَمِيعًا ؛ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي الْمَبِيتِ وَالْإِقَامَةِ لِلرَّمْيِ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي الْبَدَّاحِ بْنِ عَاصِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : { رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ ، ثُمَّ يَجْمَعُوا رَمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ ، يَرْمُونَهُ فِي أَحَدِهِمَا .
} قَالَ مَالِكٌ : ظَنَنْت أَنَّهُ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْهُمَا ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ ، قَالَ : رُخِّصَ لِلرِّعَاءِ أَنْ يَرْمُوا يَوْمًا ، وَيَدَعُوا يَوْمًا .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَهْلِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ الْعَبَّاسَ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى ، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الرِّعَاءِ ، وَأَهْلِ السِّقَايَةِ ، أَنَّ الرِّعَاءَ إذَا قَامُوا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ لَزِمَهُمْ الْبَيْتُوتَةُ ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرُّعَاةَ إنَّمَا رَعْيُهُمْ بِالنَّهَارِ ، فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ انْقَضَى وَقْتُ الرَّعْيِ ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ يَشْتَغِلُونَ لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَافْتَرَقَا ، وَصَارَ الرِّعَاءُ كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ لِمَرَضِهِ ، فَإِذَا حَضَرَهَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ ، وَالرِّعَاءُ أُبِيحَ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ لِأَجْلِ الرَّعْيِ ، فَإِذَا فَاتَ وَقْتُهُ وَجَبَ الْمَبِيتُ .
( 2635 ) فَصْلٌ : وَأَهْلُ الْأَعْذَارِ مِنْ غَيْرِ الرِّعَاءِ ، كَالْمَرْضَى ، وَمَنْ لَهُ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ ، وَنَحْوِهِمْ ، كَالرِّعَاءِ فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِهَؤُلَاءِ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِمْ ، أَوْ نَقُولُ : نَصَّ عَلَيْهِ لِمَعْنًى وُجِدَ فِي غَيْرِهِمْ ، فَوَجَبَ إلْحَاقُهُ بِهِمْ .
( 2636 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ مَرِيضًا ، أَوْ مَحْبُوسًا ، أَوْ لَهُ عُذْرٌ ، جَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إذَا رُمِيَ عَنْهُ الْجِمَارُ ، يَشْهَدُ هُوَ ذَاكَ أَوْ يَكُونُ فِي رَحْلِهِ ؟ قَالَ : يُعْجِبُنِي أَنْ يَشْهَدَ ذَاكَ إنْ قَدَرَ حِينَ يُرْمَى عَنْهُ .
قُلْت : فَإِنْ ضَعُفَ عَنْ ذَلِكَ ، أَيَكُونُ فِي رَحْلِهِ وَيَرْمِي عَنْهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ الْقَاضِي : الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَ الْحَصَى فِي يَدِ النَّائِبِ ، لِيَكُونَ لَهُ عَمَلٌ فِي الرَّمْيِ .
وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَى الْمُسْتَنِيبِ ، لَمْ تَنْقَطِعْ النِّيَابَةُ ، وَلِلنَّائِبِ الرَّمْيُ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ اسْتَنَابَهُ فِي الْحَجِّ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ .
وَبِمَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَنَحْوَهُ قَالَ مَالِكٌ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : يَتَحَرَّى الْمَرِيضُ حِينَ رَمْيِهِمْ ، فَيُكَبِّرُ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ .
( 2637 ) فَصْلٌ : وَمِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَعْجَبُ إلَيَّ إذَا تَرَكَ الْأَيَّامَ كُلَّهَا كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ .
وَفِي تَرْكِ جَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ دَمٌ أَيْضًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ عَلَيْهِ فِي جَمْرَةٍ أَوْ الْجَمَرَاتِ كُلِّهَا بَدَنَةً .
قَالَ الْحَسَنُ : مَنْ نَسِيَ جَمْرَةً وَاحِدَةً يَتَصَدَّقُ عَلَى مِسْكِينٍ .
وَلَنَا ، قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : مِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ مَنَاسِكِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَلِأَنَّهُ تَرَكَ مِنْ مَنَاسِكِهِ مَا لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ بِتَرْكِهِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَاةً كَالْمَبِيتِ .
وَإِنْ تَرَكَ أَقَلِّ مِنْ جَمْرَةٍ ، فَالظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فِي حَصَاةٍ ، وَلَا فِي حَصَاتَيْنِ .
وَعَنْهُ ، أَنَّهُ يَجِبُ الرَّمْيُ بِسَبْعٍ .
فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ ، أَيِّ شَيْءٍ كَانَ .
وَعَنْهُ ، أَنَّ فِي كُلِّ حَصَاةٍ دَمًا .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ، قَالَ : مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ مَنَاسِكِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَعَنْهُ : فِي الثَّلَاثَةِ دَمٌ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ ، فِي كُلِّ حَصَاةٍ مُدٌّ .
وَعَنْهُ : دِرْهَمٌ .
وَعَنْهُ ، نِصْفُ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ تَرَكَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ أَوْ الْجِمَارَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ تَرَكَ غَيْرَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ حَصَاةٍ نِصْفُ صَاعٍ ، إلَى أَنْ يَبْلُغَ دَمًا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ .
وَآخِرُ وَقْتِ الرَّمْيِ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَمَتَى خَرَجَتْ قَبْلَ رَمْيِهِ فَاتَ وَقْتُهُ ، وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْفِدَاءُ الْوَاجِبُ فِي تَرْكِ الرَّمْيِ .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، فِي مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى إبِلِهِ فِي لَيْلَةِ أَرْبَعَ عَشَرَةَ ، ثُمَّ رَمَى قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَإِنْ لَمْ يَرْمِ أَهْرَقَ دَمًا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَحِلَّ الرَّمْيِ النَّهَارُ ، فَيَخْرُجُ
وَقْتُ الرَّمْي بِخُرُوجِ النَّهَارِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْفِدْيَةِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ ( 2638 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ حَلَقَ أَرْبَعَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا ، عَامِدًا أَوْ مُخْطِئًا ، فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، أَوْ إطْعَامُ ثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ ، أَوْ ذَبْحُ شَاةٍ ، أَيَّ ذَلِكَ فَعَلَ أَجْزَأَهُ ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سِتَّةِ فُصُولٍ : ( 2639 ) الْفَصْلُ الْأَوَّل ، أَنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ فِدْيَةً إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ .
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ حَلَقَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِغَيْرِ عِلَّةٍ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : لَعَلَّك آذَاك هَوَامُّك ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : احْلِقْ رَأْسَك ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، أَوْ اُنْسُكْ شَاةً } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : " أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ تَمْرٍ " .
وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ إزَالَةِ الشَّعْرِ بِالْحَلْقِ ، أَوْ النُّورَةِ ، أَوْ قَصِّهِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
( 2640 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ ، وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ وَمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّ وَنَحْوُهُ عَنْ الثَّوْرِيِّ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، لَا فِدْيَةَ عَلَى النَّاسِي .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ } .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إتْلَافٌ ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ ، كَقَتْلِ الصَّيْدِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى مَنْ حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى بِهِ وَهُوَ مَعْذُورٌ ،
فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِ الْمَعْذُورِ ، وَدَلِيلًا عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْمَعْذُورِ بِنَوْعٍ آخَرَ ، مِثْلُ الْمُحْتَجِمِ الَّذِي يَحْلِقُ مَوْضِعَ مَحَاجِمِهِ ، أَوْ شَعْرًا عَنْ شَجَّتِهِ ، وَفِي مَعْنَى النَّاسِي النَّائِمُ الَّذِي يَقْلَعُ شَعْرَهُ ، أَوْ يُصَوِّبُ شَعْرَهُ إلَى تَنُّورٍ فَيَحْرِقُ لَهَبُ النَّارِ شَعْرَهُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .
( 2641 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، أَنَّ الْفِدْيَةَ هِيَ إحْدَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ وَالْخَبَرِ ، أَيَّهَا شَاءَ فَعَلَ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِهَا بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ ، وَالْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ إذَا حَلَقَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ ، مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ بِشَرْطِ الْعُذْرِ ، فَإِذَا عُدِمَ الشَّرْطُ وَجَبَ زَوَالُ التَّخْيِيرِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِي غَيْرِ الْمَعْذُورِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ تَبَعًا لَهُ ، وَالتَّبَعُ لَا يُخَالِفُ أَصْلَهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ كَفَّارَةٍ ثَبَتَ التَّخْيِيرُ فِيهَا إذَا كَانَ سَبَبُهَا مُبَاحًا ثَبَتَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ مَحْظُورًا ، كَجَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْن قَتْلِهِ لِلضَّرُورَةِ إلَى أَكْلِهِ ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ لِجَوَازِ الْحَلْقِ لَا لِلتَّخْيِيرِ .
( 2642 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ ، الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الدَّمُ أَرْبَعُ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، يَجِبُ فِي الثَّلَاثِ مَا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ .
قَالَ الْقَاضِي : هُوَ الْمَذْهَبُ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ شَعْرُ آدَمِيٍّ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ ، فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّق بِهِ الدَّمُ كَالرُّبْعِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ الدَّمُ بِدُونِ رُبْعِ الرَّأْسِ ؛ لِأَنَّ الرُّبْعَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ وَلِهَذَا إذَا رَأَى رَجُلًا يَقُولُ : رَأَيْت فُلَانًا .
وَإِنَّمَا رَأَى إحْدَى جِهَاتِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ مَا أَمَاطَ بِهِ الْأَذَى وَجَبَ الدَّمُ .
وَوَجْهُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الْأَرْبَعَ كَثِيرُ ، فَوَجَبَ بِهِ الدَّمُ كَالرُّبْعِ فَصَاعِدًا أَمَّا الثَّلَاثَةُ فَهِيَ آخِرُ الْقِلَّةِ وَآخِرُ الشَّيْءِ مِنْهُ ، فَأَشْبَهَ الشَّعْرَةَ وَالشَّعْرَتَيْنِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ الرُّبْعَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكُلِّ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالرُّبْعِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجَازٌ يَتَنَاوَلُ الْكَثِيرَ وَالْقَلِيلَ .
( 2643 ) الْفَصْلُ الْخَامِسُ أَنَّ شَعْرَ الرَّأْسِ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ ؛ لِأَنَّ شَعْرَ غَيْرِ الرَّأْسِ يَحْصُلُ بِحَلْقِهِ التَّرَفُّهُ وَالتَّنَظُّفُ ، فَأَشْبَهَ الرَّأْسَ .
فَإِنْ حَلَقَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ ، فَفِي الْجَمِيعِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَثُرَ .
وَإِنْ حَلَقَ مِنْ رَأْسِهِ شَعْرَتَيْنِ ، وَمِنْ بَدَنِهِ شَعْرَتَيْنِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ ، وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ فِيهَا رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ إذَا قَلَعَ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا فَفِيهِمَا دَمَانِ .
وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ يُخَالِفُ الْبَدَنَ ؛ بِحُصُولِ التَّحَلُّلِ بِهِ دُونَ الْبَدَنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الشَّعْرَ كُلَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الْبَدَنِ ، فَلَمْ تَتَعَدَّد الْفِدْيَةُ فِيهِ ، بِاخْتِلَافِ ، مَوَاضِعِهِ ، كَسَائِرِ الْبَدَنِ وَكَاللِّبَاسِ ، وَدَعْوَى الِاخْتِلَافِ تَبْطُلُ بِاللِّبَاسِ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ كَشْفُ الرَّأْسِ ، دُونَ غَيْرِهِ ، وَالْجَزَاءُ فِي اللُّبْسِ فِيهِمَا وَاحِدٌ .
( 2644 ) الْفَصْلُ السَّادِسُ ، أَنَّ الْفِدْيَةَ الْوَاجِبَةَ بِحَلْقِ الشَّعْرِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، بِقَوْلِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { احْلِقْ رَأْسَك ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ ، نِصْفُ صَاعٍ ، أَوْ اُنْسُكْ شَاةً } .
وَفِي لَفْظٍ : { أَوْ أَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : { أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ بَيْنَ كُلِّ مِسْكِينَيْنِ صَاعٌ } .
وَفِي لَفْظٍ : { فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَإِنْ شِئْت فَتَصَدَّقْ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ مِنْ تَمْرٍ .
بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ } .
رَوَاهُ كُلَّهُ أَبُو دَاوُد .
وَبِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَنَافِعٌ : الصِّيَامُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى عَشْرَةِ مَسَاكِينَ .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، قَالُوا : يُجْزِئُ مِنْ الْبُرِّ نِصْفُ صَاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ، وَمِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ صَاعٌ صَاعٌ .
وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى .
( 2645 ) فَصْلٌ : وَيُجْزِئُ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالزَّبِيبُ فِي الْفِدْيَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ أَجْزَأَ فِيهِ التَّمْرُ أَجْزَأَ فِيهِ ذَلِكَ ، كَالْفِطْرَةِ ، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، فِي حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، قَالَ : { فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي : احْلِقْ رَأْسَك ، وَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ فَرَقًا مِنْ زَبِيبٍ .
أَوْ اُنْسُكْ شَاةً .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَا يُجْزِئُ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ آصُعٍ ، إلَّا الْبُرَّ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، مُدٌّ مِنْ بُرٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ، مَكَانَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يُجْزِئُ إلَّا نِصْفُ صَاعٍ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِيهِ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ أَوْ الْقِيَاسِ ، وَالْفَرْعُ يُمَاثِلُ أَصْلَهُ وَلَا يُخَالِفُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
( 2646 ) فَصْلٌ : وَإِذَا حَلَقَ ثُمَّ حَلَقَ ، فَالْوَاجِبُ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، مَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ فِعْلِ الثَّانِي ، فَإِنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ ثُمَّ حَلَقَ ثَانِيًا ، فَعَلَيْهِ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ أَيْضًا .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا لَبِسَ ثُمَّ لَبِسَ ، أَوْ تَطَيَّبَ ثُمَّ تَطَيَّبَ ، أَوْ كَرَّرَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ اللَّاتِي لَا يَزِيدُ الْوَاجِبُ فِيهَا بِزِيَادَتِهَا ، وَلَا يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ، فَأَمَّا مَا يَتَقَدَّرُ الْوَاجِبُ بِقَدْرِهِ ، وَهُوَ إتْلَافُ الصَّيْدِ ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا جَزَاؤُهُ ، وَسَوَاءٌ فَعَلَهُ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا ، وَلَا تَدَاخُلَ فِيهِ ، فَفِعْلُ الْمَحْظُورَاتِ مُتَفَرِّقًا كَفِعْلِهَا مُجْتَمِعَةً فِي الْفِدْيَةِ ، مَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنْ الْأَوَّلِ قَبْلَ فِعْلِ الثَّانِي .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ إنْ كَرَّرَهُ لَأَسْبَابٍ ، مِثْلُ أَنْ لَبِسَ لِلْبَرْدِ ، ثُمَّ لَبِسَ لِلْحَرِّ ، ثُمَّ لَبِسَ لِلْمَرَضِ ، فَكَفَّارَاتٌ ، وَإِنْ كَانَ لِسَبَبٍ وَاحِدٍ ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْأَثْرَمُ ، فِي مَنْ لَبِسَ قَمِيصًا وَجُبَّةً وَعِمَامَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ ، لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ ، قُلْت لَهُ : فَإِنْ اعْتَلَّ فَلَبِسَ جُبَّةً ، ثُمَّ بَرِئَ ، ثُمَّ اعْتَلَّ فَلَبِسَ جُبَّةً ؟ فَقَالَ : هَذَا الْآنَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ .
وَعَنْ الشَّافِعِيّ كَقَوْلِنَا .
وَعَنْهُ : لَا يَتَدَاخَلُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : تَتَدَاخَلُ كَفَّارَةُ الْوَطْءِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَرَّرَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ فَكَفَّارَاتٌ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ حُكْمُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا يَتَدَاخَلُ إذَا كَانَ بَعْضُهُ عَقِيبَ بَعْضٍ يَجِبُ أَنْ يَتَدَاخَلَ ، وَإِنْ تَفَرَّقَ كَالْحُدُودِ وَكَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ فِدْيَةً وَاحِدَةً ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا وَقَعَ فِي دَفْعَةٍ أَوْ فِي دَفَعَاتٍ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَتَدَاخَلُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّهُ إذَا حَلَقَ
رَأْسَهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ .
( 2647 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ فَلَا يَتَدَاخَلُ ، وَيَجِبُ فِي كُلِّ صَيْدٍ جَزَاؤُهُ ، سَوَاءٌ وَقَعَ مُتَفَرِّقًا أَوْ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَتَدَاخَلُ ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَمِثْلُ الصَّيْدَيْنِ لَا يَكُونُ مِثْلَ أَحَدِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ صَيْدَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً ، وَجَبَ جَزَاؤُهُمَا ، فَإِذَا تَفَرَّقَا أَوْلَى أَنْ يَجِبَ ؛ لِأَنَّ حَالَةَ التَّفْرِيقِ لَا تَنْقُصُ عَنْ حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ .
( 2648 ) فَصْلٌ : إذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ ، أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ .
وَبِذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، فِي مُحْرِمٍ قَصَّ شَارِبَ حَلَالٍ : يَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ شَعْرَ آدَمِي ، فَأَشْبَهَ شَعْرَ الْمُحْرِمِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ شَعْرٌ مُبَاحُ الْإِتْلَافِ ، فَلَمْ يَجِبْ بِإِتْلَافِهِ شَيْءٌ ، كَشَعْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ .
( 2649 ) فَصْلٌ : وَإِنْ حَلَقَ مُحْرِمٌ رَأْسَ مُحْرِمٍ بِإِذْنِهِ ، فَالْفِدْيَةُ عَلَى مَنْ حُلِقَ رَأْسُهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ حَلَقَهُ حَلَالٌ بِإِذْنِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } .
وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ هُوَ الَّذِي يَحْلِقُهُ ، فَأَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ ، وَجَعَلَ الْفِدْيَةَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ حَلَقَهُ مُكْرَهًا أَوْ نَائِمًا ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : عَلَى الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ الْفِدْيَةُ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَلَمْ يُحْلَقْ بِإِذْنِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْقَطَعَ الشَّعْرُ بِنَفْسِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الْفِدْيَةَ عَلَى الْحَالِقِ ، حَرَامًا كَانَ أَوْ حَلَالًا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : عَلَى الْحَلَالِ صَدَقَةٌ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : عَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَزَالَ مَا مُنِعَ مِنْ إزَالَتِهِ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ ، فَكَانَتْ عَلَيْهِ فِدْيَتُهُ ، كَالْمُحْرِمِ يَحْلِقُ رَأْسَ نَفْسِهِ .
( 2650 ) فَصْلٌ : إذَا قَلَعَ جِلْدَةً عَلَيْهَا شَعْرٌ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ زَالَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ ، وَالتَّابِعُ لَا يُضْمَنُ ، كَمَا لَوْ قَلَعَ أَشْفَارَ عَيْنَيْ إنْسَانٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ أَهْدَابَهُمَا .
( 2651 ) فَصْلٌ : وَإِذَا خَلَّلَ شَعْرَهُ فَسَقَطَتْ شَعْرَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَلَا فِدْيَةَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ شَعْرِهِ النَّابِتِ فَفِيهَا الْفِدْيَةُ ، وَإِنْ شَكَّ فِيهَا فَلَا فِدْيَةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ نَفْيُ الضَّمَانِ إلَى أَنْ يَحْصُلَ يَقِينٌ .
( 2652 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ ) يَعْنِي إذَا حَلَقَ دُونَ الْأَرْبَعِ ، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، فِي الشَّعْرَةِ دِرْهَمٌ ، وَفِي الشَّعْرَتَيْنِ دِرْهَمَانِ .
وَعَنْهُ ، فِي كُلّ شَعْرَةٍ قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَنَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
قَالَ مَالِكٌ عَلَيْهِ فِيمَا قَلَّ مِنْ الشَّعْرِ إطْعَامُ طَعَامٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْي : يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِيهِ ، فَيَجِبُ فِيهِ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّدَقَةِ .
وَعَنْ مَالِكٍ ، فِي مَنْ أَزَالَ شَعْرًا يَسِيرًا : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ إنَّمَا أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ كُلِّهِ ، فَأَلْحَقْنَا بِهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّأْسِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا ضُمِنَتْ جُمْلَتُهُ ضُمِنَتْ أَبْعَاضُهُ ، كَالصَّيْدِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَجِبَ الْإِطْعَامُ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا عَدَلَ عَنْ الْحَيَوَانِ إلَى الْإِطْعَامِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَهَا هُنَا أَوْجَبَ الْإِطْعَامَ مَعَ الْحَيَوَانِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ فِيمَا لَا يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ ، وَيَجِبُ مُدٌّ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا وَجَبَ بِالشَّرْعِ فِدْيَةً ، فَكَانَ وَاجِبًا فِي أَقَلِّ الشَّعْرِ ، وَالطَّعَامُ الَّذِي يُجْزِئُ فِيهِ إخْرَاجُهُ ، وَهُوَ مَا يُجْزِئُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ ابْتِدَاءً مِنْ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ، كَاَلَّذِي يَجِبُ فِي الْأَرْبَعِ .
( 2653 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أُبِيحَ لَهُ حَلْقُ رَأْسِهِ لِأَذًى بِهِ ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْفِدْيَةِ قَبْلَ الْحَلْقِ وَبَعْدَهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ اشْتَكَى رَأْسَهُ ، فَأَتَى عَلِيٌّ فَقِيلَ لَهُ : هَذَا الْحُسَيْنُ يُشِيرُ إلَى رَأْسِهِ .
فَدَعَا بِجَزُورٍ فَنَحَرَهَا ، ثُمَّ حَلَقَهُ وَهُوَ بالسَّعْيَاءِ .
رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ .
وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ ، فَجَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَى وُجُوبِهَا ، كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ .
( 2654 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَكَذَلِكَ الْأَظْفَارُ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ أَظْفَارِهِ ، وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِأَخْذِهَا فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ .
وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ وَعَنْهُ : لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ بِفِدْيَةٍ وَلَنَا ، أَنَّهُ أَزَالَ مَا مُنِعَ إزَالَتُهُ لِأَجْلِ التَّرَفُّهِ ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ ، كَحَلْقِ الشَّعْرِ .
وَعَدَمُ النَّصِّ فِيهِ لَا يَمْنَعُ قِيَاسَهُ عَلَيْهِ ، كَشَعْرِ الْبَدَنِ مَعَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَالْحُكْمُ فِي فِدْيَةِ الْأَظْفَارِ كَالْحُكْمِ فِي فِدْيَةِ الشَّعْرِ سَوَاءٌ ، فِي أَرْبَعَةٍ مِنْهَا دَمٌ وَعَنْهُ فِي ثَلَاثَةٍ دَمٌ .
وَفِي الظُّفْرِ الْوَاحِدِ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ ، وَفِي الظُّفْرَيْنِ مُدَّانِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهِ .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ كَذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ الدَّمُ إلَّا بِتَقْلِيمِ أَظْفَارِ يَدٍ كَامِلَةٍ ، حَتَّى لَوْ قَلَّمَ مِنْ كُلِّ يَدٍ أَرْبَعَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلْ مَنْفَعَةَ الْيَد ، أَشْبَهَ الظُّفْرَ وَالظُّفْرَيْنِ .
وَلَنَا أَنَّهُ قَلَّمَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَلَّمَ خَمْسًا مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ ، وَمَا قَالُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا حَلَقَ رُبْعَ رَأْسِهِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ مَنْفَعَةَ الْعُضْوِ ، وَيَجِبُ بِهِ الدَّمُ ، وَقَوْلُهُمْ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَجِبَ بِهِ الدَّمُ فِي الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ مَنْ قَلَّمَ مَا يَجِبُ بِهِ الدَّمُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، كَمَا قُلْنَا فِي الشَّعْرِ ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْأَظْفَارِ بِالْإِلْحَاقِ بِالشَّعْرِ ، فَيَكُونُ حُكْمُ الْفَرْعِ حُكْمَ أَصْلِهِ ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعَةِ أَوْ الثَّلَاثَةِ بِقِسْطِهِ مِنْ الدَّمِ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا وَجَبَ فِيهَا الْحَيَوَانُ لَمْ يَجِبُ فِيهَا جُزْءٌ
مِنْهُ ، كَالزَّكَاةِ ( 2655 ) فَصْلٌ : وَفِي قَصِّ بَعْضِ الظُّفْرِ مَا فِي جَمِيعِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ بَعْضِ الشَّعْرَةِ مِثْلُ مَا فِي قَطْعِ جَمِيعِهَا ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ فِي الشَّعْرَةِ وَالظُّفْرِ ، سَوَاءٌ ، طَالَ أَوْ قَصُرَ ، وَلَيْسَ بِمُقَدَّرٍ بِمِسَاحَةٍ ، فَيَتَقَدَّرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، بَلْ هُوَ كَالْمُوضِحَةِ يَجِبُ فِي الصَّغِيرَةِ مِنْهَا مِثْلُ مَا يَجِبُ فِي الْكَبِيرَةِ .
وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا ، أَنَّهُ يَجِبُ بِحِسَابِ الْمُتْلَفِ كَالْإِصْبَعِ يَجِبُ فِي أُنْمُلَتِهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَم .
( 2656 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ تَطَيَّبَ الْمُحْرِمُ عَامِدًا ، غَسَلَ الطِّيبَ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ أَوْ الْخُفَّ عَامِدًا وَهُوَ يَجِدُ النَّعْلَ ، خَلَعَ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ) لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْمُحْرِمِ ، إذَا تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ عَامِدًا ؛ لِأَنَّهُ تَرَفَّهَ بِمَحْظُورٍ فِي إحْرَامِهِ ، فَلَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ ، كَمَا لَوْ تَرَفَّهَ بِحَلْقِ شَعْرِهِ ، أَوْ قَلْمِ ظُفْرِهِ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِدَمٍ ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ قَلِيلُ الطِّيبِ وَكَثِيرُهُ ، وَقَلِيلُ اللُّبْسِ وَكَثِيرُهُ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ الدَّمُ إلَّا بِتَطْيِيبِ عُضْوٍ كَامِلٍ ، وَفِي اللِّبَاسِ بِلَبَّاسِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَلَا شَيْءَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْبَسْ لِبْسًا مُعْتَادًا فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اتَّزَرَ بِالْقَمِيصِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمَحْظُورَاتِ ، فَاعْتُبِرَ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ كَالْوَطْءِ ، مَحْظُورًا ، فَلَا تَتَقَدَّرُ فِدْيَتُهُ بِالزَّمَنِ ، كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي اللُّبْسِ فِي الْعَادَةِ ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ تَقْدِيرٌ ، وَالتَّقْدِيرَاتُ بَابُهَا التَّوْقِيفُ ، وَتَقْدِيرُهُمْ بِعُضْوٍ وَيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ .
وَأَمَّا إذَا ائْتَزَرَ بِقَمِيصٍ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِلُبْسِ مَخِيطٍ ، وَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ مُحَرَّمٌ .
( 2657 ) فَصْلٌ : وَيَلْزَمُهُ غَسْلُ الطِّيبِ ، وَخَلْعُ اللِّبَاسِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَحْظُورًا ، فَيَلْزَمُهُ إزَالَتُهُ وَقَطْعُ اسْتَدَامَتْهُ ، كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ .
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي غَسْلِ الطِّيبِ بِحَلَالٍ ؛ لِئَلَّا يُبَاشِرَ الْمُحْرِمُ الطِّيبَ بِنَفْسِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَلِيَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي رَأَى عَلَيْهِ طِيبًا أَوْ خَلُوقًا : { اغْسِلْ عَنْك الطِّيبَ } .
وَلِأَنَّهُ تَارِكٌ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَغْسِلُهُ بِهِ ، مَسَحَهُ بِخِرْقَةِ ، أَوْ حَكَّهُ بِتُرَابِ أَوْ وَرَقٍ أَوْ حَشِيش ؛ لِأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ إزَالَتُهُ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ ، وَهَذَا نِهَايَةُ قُدْرَتِهِ .
( 2658 ) فَصْلٌ : إذَا احْتَاجَ إلَى الْوُضُوءِ وَغَسْلِ الطِّيبِ ، وَمَعَهُ مَاءٌ لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمَا قَدَّمَ غَسْلَ الطِّيبِ ، وَتَيَمَّمَ لِلْحَدَثِ ؛ لِأَنَّهُ لَا رُخْصَةَ فِي إبْقَاءِ الطِّيبِ ، وَفِي تَرْكِ الْوُضُوءِ إلَى التَّيَمُّمِ رُخْصَةٌ .
فَإِنْ قَدَرَ عَلَى قَطْعُ رَائِحَةِ الطِّيبِ بِغَيْرِ الْمَاءِ ، فَعَلَ وَتَوَضَّأَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إزَالَةِ الطِّيبِ قَطْع رَائِحَتِهِ ، فَلَا يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ ، وَالْوُضُوءُ بِخِلَافِهِ .
( 2659 ) فَصْلٌ : إذَا لَبِسَ قَمِيصًا وَعِمَامَةً وَسَرَاوِيلَ وَخُفَّيْنِ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَلَمْ يَجِبُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ فِدْيَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَالطِّيبِ فِي بَدَنِهِ وَرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ .
( 2660 ) فَصْلٌ : وَإِنْ فَعَلَ مَحْظُورًا مِنْ أَجْنَاسٍ ، فَحَلَقَ ، وَلَبِسَ ، وَتَطَيَّبَ ، وَوَطِئَ ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِدْيَةٌ ، سَوَاءٌ فَعَلَ ذَلِكَ مُجْتَمِعًا أَوْ مُتَفَرِّقًا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ فِي الطِّيبِ وَاللُّبْسِ وَالْحَلْقِ فِدْيَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ دَمٌ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : إذَا حَلَقَ ، ثُمَّ احْتَاجَ إلَى الطِّيبِ ، أَوْ إلَى قَلَنْسُوَةٍ أَوْ إلَيْهِمَا ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : إنْ لَبِسَ الْقَمِيصَ وَتَعَمَّمَ وَتَطَيَّبَ ، فَعَلَ ذَلِكَ جَمِيعًا ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا مَحْظُورَاتٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَجْنَاسِ ، فَلَمْ تَتَدَاخَلْ أَجْزَاؤُهَا ، كَالْحُدُودِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَالْأَيْمَانِ الْمُخْتَلِفَةِ .
وَعَكْسُهُ مَا إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ .
( 2661 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ لَبِسَ أَوْ تَطَيَّبَ نَاسِيًا ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَيَخْلَعُ اللِّبَاسَ ، وَيَغْسِلُ الطِّيبَ ، وَيَفْرَغُ إلَى التَّلْبِيَةِ ) الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُتَطَيِّبَ أَوْ اللَّابِسَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ .
قَالَ سُفْيَانُ : ثَلَاثَةٌ فِي الْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ سَوَاءٌ ؛ إذَا أَتَى أَهْلَهُ ، وَإِذَا أَصَابَ صَيْدًا ، وَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا جَامَعَ أَهْلَهُ بَطَلَ حَجُّهُ .
لِأَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ ، وَالصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ فَقَدْ ذَهَبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدَّهُ ، وَالشَّعْرُ إذَا حَلَقَهُ فَقَدْ ذَهَبَ ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ فِيهَا سَوَاءٌ ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ النِّسْيَانِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ ، مِثْلُ إذَا غَطَّى الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ ثُمَّ ذَكَرَ ، أَلْقَاهُ عَنْ رَأْسِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، أَوْ لَبِسَ خُفًّا ، نَزَعَهُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ فِي كُلِّ حَالٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ ، فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَسَهْوُهُ ، كَحَلْقِ الشَّعْرِ ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ ، وَالنِّسْيَانِ ، وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ } .
وَرَوَى يَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ ، { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ ، وَعَلَيْهِ أَثَرُ خَلُوقٍ ، أَوْ قَالَ : أَثَرُ صُفْرَةٍ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصْنَعَ فِي عُمْرَتِي ؟ قَالَ : اخْلَعْ عَنْك هَذِهِ الْجُبَّةَ ، وَاغْسِلْ عَنْك أَثَرَ هَذَا الْخَلُوقِ أَوْ قَالَ : أَثَرَ الصُّفْرَةِ ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّك } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
{ أَحْرَمْت بِالْعُمْرَةِ ، وَعَلَيَّ هَذِهِ الْجُبَّةُ } .
فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْفِدْيَةِ مَعَ مَسْأَلَتِهِ عَمَّا يَصْنَعُ ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ غَيْرُ جَائِزٍ إجْمَاعًا ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَذَرَهُ لِجَهْلِهِ ، وَالْجَاهِلُ وَالنَّاسِي وَاحِدٌ ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ يَجِبُ بِإِفْسَادِهَا الْكَفَّارَةُ ، فَكَانَ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ أَنَّهُ مَا يُفَرَّقُ بَيْنَ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ ، كَالصَّوْمِ ، فَأَمَّا الْحَلْقُ وَقَتْلُ الصَّيْدِ ، فَهُوَ إتْلَافٌ لَا يُمْكِنُ رَدُّ تَلَافِيهِ ، بِإِزَالَتِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ النَّاسِيَ مَتَى ذَكَرَ ، فَعَلَيْهِ غَسْلُ الطِّيبِ وَخَلْعُ اللِّبَاسِ فِي الْحَالِ ، فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ عَنْ زَمَنِ الْإِمْكَانِ ، فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِدَامَةُ الطِّيبِ هَاهُنَا ، كَاَلَّذِي يَتَطَيَّبُ قَبْلَ إحْرَامِهِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، فَكَانَ لَهُ اسْتَدَامَتْهُ ، وَهَا هُنَا هُوَ مُحْرِمٌ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ حُكْمُهُ بِالنِّسْيَانِ أَوْ الْجَهْلِ ، فَإِذَا زَالَ ظَهَرَ حُكْمُهُ .
وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ ، لِإِكْرَاهٍ أَوْ عِلَّةٍ ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُزِيلُهُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ ، وَجَرَى مَجْرَى الْمُكْرَهِ عَلَى الطِّيبِ ابْتِدَاءً .
وَحُكْمُ الْجَاهِلِ إذَا عَلِمَ ، حُكْمُ النَّاسِي إذَا ذَكَرَ ، وَحُكْمُ الْمُكْرَهِ حُكْمُ النَّاسِي ، فَإِنَّ مَا عُفِيَ عَنْهُ بِالنِّسْيَانِ ، عُفِيَ عَنْهُ بِالْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَرِينَانِ فِي الْحَدِيثِ الدَّالِ عَلَى الْعَفْوِ عَنْهُمَا .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : { يَفْرَغُ إلَى التَّلْبِيَةِ } .
أَيْ يُلَبِّي حِينَ ذَكَرَ اسْتِذْكَارًا لِلْحَجِّ أَنَّهُ نَسِيَهُ ، وَاسْتِشْعَارًا بِإِقَامَتِهِ عَلَيْهِ وَرُجُوعِهِ إلَيْهِ .
وَهَذَا قَوْلٌ يُرْوَى عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ .
( 2662 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ نَهَارًا ، أَوْ دَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ يَوْمَ عَرَفَةَ نَهَارًا وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْوُقُوفِ .
فَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ، وَلَمْ يَعُدْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ إنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ؛ احْتِجَاجًا بِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرَّسٍ ، وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ الْوُقُوفِ مَا أَجْزَأَهُ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَدْرَكَ اللَّيْلَ مُنْفَرِدًا .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَقَدْ قَالَ : { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } .
فَإِذَا تَرَكَهُ لَزِمَهُ ؛ دَمٌ ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ، فَلَزِمَهُ دَمٌ ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ مِنْ دُونِ الْمِيقَاتِ ، وَحَدِيثُهُمْ دَلَّ عَلَى الْإِجْزَاءِ ، وَالْكَلَامُ فِي وُجُوبِ الدَّمِ .
فَأَمَّا إذَا وَقَفَ فِي اللَّيْلِ خَاصَّةً ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ دَمٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَدْرَكَ اللَّيْلَ وَحْدَهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوُقُوفُ نَهَارًا ، فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ دَمٌ ، بِخِلَافِ مَنْ أَدْرَكَ نَهَارًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أَوْ دَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ } .
فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ بِذَلِكَ دَمًا ، وَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ .
وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ أَحْمَدَ ، قَالَ : سَمِعْته يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ دَفَعَ قَبْل الْإِمَامِ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَمَا غَابَتْ الشَّمْسُ ؟ فَقَالَ : مَا وَجَدْت أَحَدًا سَهَّلَ فِيهِ ، كُلُّهُمْ يُشَدِّدُ فِيهِ .
قَالَ : وَمَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَدْفَعَ إلَّا مَعَ الْإِمَامِ ، وَعَنْ عَطَاءٍ ، عَلَيْهِ شَاةٌ إذَا دَفَعَ قَبْلَ الْإِمَامِ .
قِيلَ : فَيَدْفَعُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ الْإِمَامِ ؟ فَقَالَ : الْمُزْدَلِفَةُ عِنْدِي غَيْرُ عَرَفَةَ .
وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ دَفَعَ قَبْلَ ابْنِ
الزُّبَيْرِ وَغَيْرُ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا لَمْ يُوجِبْ بِذَلِكَ شَيْئًا ، وَلَا عَدَّ الدَّفْعَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْإِمَامِ وَأَفْعَالَ النُّسُكِ مَعَهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فِي سَائِرِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ ، فَكَذَا هَاهُنَا ، وَإِنَّمَا وَقَعَ دَفْعُ الصَّحَابَةِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ ، كَالدَّفْعِ مَعَهُ مِنْ مُزْدَلِفَةَ ، وَالْإِفَاضَةِ مِنْ مِنَى ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِعْلًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ .
}
( 2663 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ ، مِنْ غَيْرِ الرُّعَاةِ وَأَهْلِ سِقَايَةِ الْحَاجِّ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ وَاجِبٌ يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ ، سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ، عَالِمًا أَوْ جَاهِلًا ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ نُسُكًا ، وَلِلنِّسْيَانِ أَثَرُهُ فِي تَرَكَ الْمَوْجُودِ كَالْمَعْدُومِ ، لَا فِي جَعْلِ الْمَعْدُومِ كَالْمَوْجُودِ ، إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لِأَهْلِ السِّقَايَةِ وَرُعَاةِ الْإِبِلِ ، فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ ، وَأَرْخَصَ لِلْعَبَّاسِ فِي الْمَبِيتِ لِأَجْلِ سِقَايَتِهِ ، وَلِأَنَّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً فِي الْمَبِيتِ ، لِحَاجَتِهِمْ إلَى حِفْظِ مَوَاشِيهِمْ وَسَقْيِ الْحَاجِّ ، فَكَانَ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ فِيهَا ، كَلَيَالِي مِنًى ، وَلِأَنَّهَا لَيْلَةٌ يُرْمَى فِي غَدِّهَا ، فَكَانَ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ فِيهَا ، كَلَيَالِي مِنًى .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى تَارِكِهِ .
وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ .
( 2664 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ قَتَلَ وَهُوَ مُحْرِمٌ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ ، عَامِدًا أَوْ مُخْطِئًا ، فَدَاهُ بِنَظِيرِهِ مِنْ النَّعَمِ ، إنْ كَانَ الْمَقْتُولُ دَابَّةً ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ سِتَّةٌ ( 2665 ) ؛ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ، فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِهِ ، وَنَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي الْجَزَاءِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ مُتَعَمِّدًا ، إلَّا الْحَسَنَ وَمُجَاهِدًا ، قَالَا : إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَالذَّاكِرُ لِإِحْرَامِهِ مُتَعَمِّدٌ ، وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ { : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } .
وَالْمُخْطِئُ وَالنَّاسِي لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِمَا .
وَقَتْلُ الصَّيْدِ نَوْعَانِ ، مُبَاحٌ وَمُحَرَّمٌ ، فَالْمُحَرَّمُ قَتْلُهُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُبِيحُ قَتْلَهُ ، فَفِيهِ الْجَزَاءُ .
وَالْمُبَاحُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يُضْطَرَّ إلَى أَكْلِهِ ، فَيُبَاحَ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { : وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } .
وَتَرْكُ الْأَكْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إلْقَاءٌ بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ ، وَمَتَى قَتَلَهُ ضَمِنَهُ ، سَوَاءٌ وَجَدَ غَيْرَهُ أَوْ لَمْ يَجِدْ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَا يَضْمَنُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ ، أَشْبَهَ صَيْدَ الْبَحْرِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ الْآيَةِ ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى يَحْدُثُ مِنْ الصَّيْدِ يَقْتَضِي قَتْلَهُ ، فَضَمِنَهُ كَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ لِدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُ لَا لِمَعْنَى فِيهِ ،
أَشْبَهَ حَلْقَ الشَّعْرِ لِأَذَى بِرَأْسِهِ .
النَّوْعُ الثَّانِي ، إذَا صَالَ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إلَّا بِقَتْلِهِ ، فَلَهُ قَتْلُهُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : عَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ ، أَشْبَهَ قَتْلَهُ لِحَاجَتِهِ إلَى أَكْلِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَيَوَانٌ قَتَلَهُ لِدَفْعِ شَرِّهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ ، كَالْآدَمِيِّ الصَّائِلِ ، وَلِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْمُؤْذِيَاتِ طَبْعًا ، فَصَارَ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَخْشَى مِنْهُ التَّلَفَ أَوْ يَخْشَى مِنْهُ مَضَرَّةً ، كَجَرْحِهِ ، أَوْ إتْلَافِ مَالِهِ ، أَوْ بَعْضِ حَيَوَانَاتِهِ .
النَّوْعُ الثَّالِثُ ، إذَا خَلَّصَ صَيْدًا مِنْ سَبُعٍ أَوْ شَبَكَةِ صَيَّادٍ ، أَوْ أَخَذَهُ لِيُخَلِّصَ مِنْ رِجْلِهِ خَيْطًا ، وَنَحْوَهُ فَتَلِفَ بِذَلِكَ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ .
وَقِيلَ : عَلَيْهِ الضَّمَانُ .
وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ ؛ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَلِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُ عَدِمَ الْقَصْدَ إلَى قَتْلِهِ ، فَأَشْبَهَ قَتْلَ الْخَطَأِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ فِعْلٌ أُبِيحَ لِحَاجَةِ الْحَيَوَانِ ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ ، كَمَا لَوْ دَاوَى وَلِيُّ الصَّبِيِّ الصَّبِيَّ فَمَاتَ بِذَلِكَ ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَعَمِّدٍ ، فَلَا تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ .
( 2666 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : عَلَى الْمُتَعَمِّدِ بِالْكِتَابِ ، وَعَلَى الْمُخْطِئِ بِالسُّنَّةِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا كَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَدَاوُد ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } .
فَدَلِيلُ خِطَابِهِ ، أَنَّهُ لَا جَزَاءَ عَلَى الْخَاطِئِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، فَلَا يَشْغَلُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَلِأَنَّهُ مَحْظُورٌ لِلْإِحْرَامِ لَا يُفْسِدُهُ ، فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ خَطَئِهِ وَعَمْدِهِ ، كَاللُّبْسِ وَالطِّيبِ .
وَوَجْهُ الْأُولَى قَوْلُ جَابِرٍ { : جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضَّبُعِ يَصِيدُهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا .
} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي بَيْضِ النَّعَامِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ : ثَمَنُهُ } .
وَلَمْ يُفَرِّقْ .
رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ فَاسْتَوَى عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ كَمَالِ الْآدَمِيِّ .
( 2667 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إحْرَامِ الْحَجِّ وَإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ ؛ لِعُمُومِ النَّصِّ فِيهِمَا .
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِحْرَامِ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ ، وَبَيْنَ الْإِحْرَامِ بِنُسُكَيْنِ ، وَهُوَ الْقَارِنُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا .
( 2668 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ ، أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يَجِبُ إلَّا بِقَتْلِ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَرَدَ بِهِ النَّصُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ } .
وَالصَّيْدُ مَا جَمَعَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا أَكْلُهُ ، لَا مَالِكَ لَهُ ، مُمْتَنِعًا .
فَيَخْرُجُ بِالْوَصْفِ الْأَوَّلِ كُلُّ مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ لَا جَزَاءِ فِيهِ ، كَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ ، وَالْمُسْتَخْبَثِ مِنْ الْحَشَرَاتِ ، وَالطَّيْرِ ، وَسَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إنَّمَا جُعِلَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الصَّيْدِ الْمُحَلَّلِ أَكْلُهُ .
وَقَالَ : كُلُّ مَا يُؤْذِي إذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْجَزَاءَ فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْمَأْكُولِ وَغَيْرِهِ ، كَالسَّبْعِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ الضَّبُعِ وَالذِّئْبِ ، تَغْلِيبًا لِتَحْرِيمِ ، قَتْلِهِ ، كَمَا عَلَّقُوا التَّحْرِيمَ فِي أَكْلِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : فِي أُمِّ حُبَيْنٍ جَدْيٌ .
وَأُمُّ حُبَيْنٍ : دَابَّةٌ مُنْتَفِخَةُ الْبَطْنِ .
وَهَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ ؛ فَإِنَّ أُمَّ حُبَيْنٍ لَا تُؤْكَلُ ، لِكَوْنِهَا مُسْتَخْبَثَةً عِنْدَ الْعَرَبِ .
حُكِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ سُئِلَ مَا تَأْكُلُونَ ؟ قَالَ : مَا دَبَّ وَدَرَجَ ، إلَّا أُمَّ حُبَيْنٍ .
فَقَالَ السَّائِلُ : لِيُهِنْ أُمَّ حُبَيْنٍ الْعَافِيَةُ .
وَإِنَّمَا تَبِعُوا فِيهَا قَضِيَّةَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَضَى فِيهَا بِحُلَّانَ ، وَهُوَ الْجَدْيُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهَا .
وَفِي الْقَمْلِ رِوَايَتَانِ ، ذَكَرْنَاهُمَا فِيمَا مَضَى وَالصَّحِيحُ ، أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ ، وَهُوَ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ ، وَلَا مِثْلَ لَهُ وَلَا قِيمَةَ .
قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ : كُنْت عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : أَخَذْت قَمْلَةً فَأَلْقَيْتهَا ، ثُمَّ طَلَبْتهَا فَلَمْ أَجِدْهَا .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تِلْكَ ضَالَّةٌ لَا تُبْتَغَيْ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا الرِّوَايَتَانِ فِيمَا أَزَالَهُ مِنْ شَعْرِهِ ، فَأَمَّا مَا
أَلْقَاهُ مِنْ ظَاهِرِ بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَمِنْ أَوْجَبَ فِيهِ الْجَزَاءَ قَالَ : أَيُّ شَيْءٍ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الثَّعْلَبِ ، فَعَنْهُ : فِيهِ الْجَزَاءُ .
وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ : هُوَ صَيْدٌ يُؤْكَلُ ، وَفِيهِ الْجَزَاءُ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : لَا شَيْءَ فِيهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَطَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ سَبُعٌ ، وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ } .
وَإِذَا أَوْجَبْنَا فِيهِ الْجَزَاءَ ، فَفِيهِ شَاةٌ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي السِّنَّوْرِ ، أَهْلِيًّا كَانَ أَوْ وَحْشِيًّا وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ سَبُعٌ ، وَلَيْسَ بِمَأْكُولٍ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ : فِي الْوَحْشِيِّ حُكُومَةٌ ، وَلَا شَيْءَ فِي الْأَهْلِيِّ ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ مَا كَانَ وَحْشِيًّا .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ ؛ لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي إبَاحَتِهِمَا ، وَكُلُّ مَا اُخْتُلِفَ فِي إبَاحَتِهِ يُخْتَلَفُ فِي جَزَائِهِ ، فَأَمَّا مَا يَحْرُمُ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ ، وَلَا نَصَّ فِيهِ .
الْوَصْفُ الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ وَحْشِيًّا ، وَمَا لَيْسَ بِوَحْشِيٍّ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ ذَبْحُهُ وَلَا أَكْلُهُ ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ كُلِّهَا ، وَالْخَيْلِ ، وَالدَّجَاجِ ، وَنَحْوِهَا .
لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا خِلَافًا ، وَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِالْأَصْلِ .
لَا بِالْحَالِ ، فَلَوْ اسْتَأْنَسَ الْوَحْشِيَّ وَجَبَ فِيهِ الْجَزَاءُ ، وَكَذَلِكَ وَجَبَ الْجَزَاءُ فِي الْحَمَامِ أَهْلِيِّهِ وَوَحْشِيِّهِ ، اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ .
وَلَوْ تَوَحَّشَ الْأَهْلِيُّ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي بَقَرَةٍ صَارَتْ وَحْشِيَّةً : لَا شَيْءَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ
الْأَصْلَ فِيهَا الْإِنْسِيُّ .
وَإِنْ تَوَلَّدَ مِنْ الْوَحْشِيِّ وَالْأَهْلِيِّ وَلَدٌ ، فَفِيهِ الْجَزَاءُ ، تَغْلِيبًا لِلتَّحْرِيمِ ، كَقَوْلِنَا فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمُحَرَّمِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الدَّجَاجِ السِّنْدِيِّ ، هَلْ فِيهِ جَزَاءٌ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَرَوَى مُهَنَّا ، عَنْ أَحْمَدَ ، فِي الْبَطِّ ، يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَبْحُهُ ، وَفِيهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْوَحْشِيُّ ، فَهُوَ كَالْحَمَامِ .
( 2669 ) الْفَصْلُ الْخَامِسُ ، أَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا يَجِبُ فِي صَيْدِ الْبَرِّ دُونَ صَيْدِ الْبَحْرِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا .
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : طَعَامُهُ مَا لَفَظَهُ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ حَيَوَانِ الْبَحْرِ الْمِلْحِ وَبَيْنَ مَا فِي الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ ، فَإِنَّ اسْمَ الْبَحْرِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا } .
وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَلَهُ بِصَيْدِ الْبَرِّ ، بِقَوْلِهِ { : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ } .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ فَهُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ ، وَحَيَوَانُ الْبَحْرِ مَا كَانَ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ ، وَيُفْرِخُ وَيَبِيضُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَعِيشُ إلَّا فِي الْمَاءِ كَالسَّمَكِ وَنَحْوِهِ ، فَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ ، كَالسُّلَحْفَاةِ وَالسَّرَطَانِ ، فَهُوَ كَالسَّمَكِ ، لَا جَزَاءَ فِيهِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : فِيهِ الْجَزَاءُ ، وَفِي الضُّفْدَعِ وَكُلِّ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يُفْرِخُ فِي الْمَاءِ وَيَبِيضُ فِيهِ ، فَكَانَ مِنْ حَيَوَانِهِ ، كَالسَّمَكِ ، فَأَمَّا طَيْرُ الْمَاءِ ، فَفِيهِ الْجَزَاءُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَغَيْرُهُمْ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ، غَيْرَ مَا حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، أَنَّهُ قَالَ : حَيْثُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ فَهُوَ مِنْ صَيْدِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا إنَّمَا يُفْرِخُ فِي الْبَرِّ وَيَبِيضُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الْمَاءَ لِيَعِيشَ فِيهِ وَيَكْتَسِبَ مِنْهُ ، فَهُوَ كَالصَّيَّادِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الْجَرَادِ ، فَعَنْهُ : هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ ، لَا جَزَاءَ فِيهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي سَعِيدٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَكَعْبٌ : هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ .
وَقَالَ عُرْوَةُ : هُوَ نَثْرَةُ حُوتٍ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { أَصَابَنَا ضَرْبٌ مِنْ جَرَادٍ ، فَكَانَ رَجُلٌ مِنَّا يَضْرِبُ بِسَوْطِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَقِيلَ : إنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَذَا مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ } .
وَعَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْجَرَادُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ ، وَفِيهِ الْجَزَاءُ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِكَعْبٍ فِي جَرَادَتَيْنِ : مَا جَعَلْت فِي نَفْسِك ؟ قَالَ : دِرْهَمَانِ .
قَالَ : بَخٍ ، دِرْهَمَانِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ جَرَادَةٍ .
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، فِي " مُسْنَدِهِ " .
وَلِأَنَّهُ طَيْرٌ يُشَاهَدُ طَيَرَانُهُ فِي الْبَرِّ ، وَيُهْلِكُهُ الْمَاءُ إذَا وَقَعَ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ الْعَصَافِيرَ .
فَأَمَّا الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا لِلرِّوَايَةِ الْأُولَى فَوَهُمْ .
قَالَهُ أَبُو دَاوُد .
فَعَلَى هَذَا يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، يَتَصَدَّقُ بِتَمْرَةٍ عَنْ الْجَرَادَةِ .
وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْقِيمَةِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ التَّقْدِيرَ ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ فِيهِ أَقَلَّ شَيْءٍ .
وَإِنْ افْتَرَشَ الْجَرَادُ فِي طَرِيقِهِ ، فَقَتَلَهُ بِالْمَشْيِ عَلَيْهِ ، عَلَى وَجْهٍ لَمْ يُمْكِنْهُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، وُجُوبُ جَزَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ لِنَفْعِ نَفْسِهِ ، فَضَمِنَهُ ، كَالْمُضْطَرِّ يَقْتُلُ صَيْدًا يَأْكُلُهُ .
وَالثَّانِي ، لَا يَضْمَنُهُ ؛ لِأَنَّهُ اضْطَرَّهُ إلَى إتْلَافِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَالَ عَلَيْهِ .
( 2670 ) الْفَصْلُ السَّادِسُ ، أَنَّ جَزَاءَ مَا كَانَ دَابَّةً مِنْ الصَّيْدِ نَظِيرُهُ مِنْ النَّعَمِ .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْوَاجِبُ الْقِيمَةُ وَيَجُوزُ فِيهَا الْمِثْلُ ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضَّبُعِ كَبْشًا .
وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى إيجَابِ الْمِثْلِ ، فَقَالَ عُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُعَاوِيَةُ : فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ .
وَحَكَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، فِي حِمَارِ الْوَحْشِ بِبَدَنَةٍ .
وَحَكَمَ عُمَرُ فِيهِ بِبَقَرَةِ .
وَحَكَمَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ فِي الظَّبْيِ بِشَاةٍ .
وَإِذَا حَكَمُوا بِذَلِكَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَالْبَلَدَانِ الْمُتَفَرِّقَةِ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْقِيمَةِ لَاعْتَبَرُوا صِفَةَ الْمُتْلَفِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِهَا الْقِيمَةُ ، إمَّا بِرُؤْيَةٍ أَوْ إخْبَارٍ ، وَلَمْ يُنْقَلُ عَنْهُمْ السُّؤَالُ عَنْ ذَلِكَ حَالَ الْحُكْمِ ، وَلِأَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي الْحَمَامِ بِشَاةٍ ، وَلَا يَبْلُغُ قِيمَةَ شَاةٍ فِي الْغَالِبِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْمُمَاثَلَةِ ، فَإِنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَ النَّعَمِ وَالصَّيْدِ ، لَكِنْ أُرِيدَتْ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ .
وَالْمُتْلَفُ مِنْ الصَّيْدِ قِسْمَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، قَضَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ ، فَيَجِبُ فِيهِ مَا قَضَتْ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُسْتَأْنَفُ الْحُكْمُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ .
} وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ ، بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } وَقَالَ { : اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي : أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ } .
وَلِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ ،
وَأَبْصَرُ بِالْعِلْمِ ، فَكَانَ حُكْمُهُمْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ ، كَالْعَالِمِ مَعَ الْعَامِّيِّ ، وَاَلَّذِي بَلَغَنَا قَضَاؤُهُمْ فِي ؛ الضَّبُعِ كَبْشٌ .
قَضَى بِهِ عُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَجَابِرٌ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ .
وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَعَلَ فِي الضَّبُعِ يَصِيدُهَا الْمُحْرِمُ كَبْشًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، قَالَ : فِي الضَّبُعِ كَبْشٌ ، إذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ ، وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ } .
قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ : الْجَفْرَةُ ، الَّتِي قَدْ فُطِمَتْ وَرَعَتْ .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
قَالَ أَحْمَدُ : { : حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الضَّبُع بِكَبْشٍ .
} وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ بِالشَّامِ يَعُدُّونَهَا مِنْ السِّبَاعِ وَيَكْرَهُونَ أَكْلَهَا .
وَهُوَ الْقِيَاسُ ، إلَّا أَنَّ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ وَالْآثَارِ أَوْلَى .
وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : فِيهِ بَدَنَةٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ .
وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَعُرْوَةَ ، وَقَتَادَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَالْأَيْلُ فِيهِ بَقَرَةٌ .
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : فِي الْوَعْلِ وَالثَّيْتَلِ بَقَرَةٌ ، كَالْأَيِّلِ .
وَالْأَرْوَى فِيهَا بَقَرَةٌ .
قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهَا عَضْبٌ ، وَهِيَ مِنْ أَوْلَادِ الْبَقَرِ مَا بَلَغَ أَنْ يُقْبَضَ عَلَى قَرْنِهِ ، وَلَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَكُونَ جِذْعًا .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْأَزْهَرِيِّ .
وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ .
ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَعُرْوَةُ ، وَالشَّافِعِيُّ ،
وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَلَا نَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ .
وَفِي الْوَبَرِ شَاةٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهِ جَفْرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَكْبَرَ مِنْهَا وَكَذَلِكَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَتْ الْعَرَبُ تَأْكُلُهُ .
وَالْجَفْرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ مَا أَتَى عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَفُصِلَتْ عَنْ أُمِّهَا ، وَالذَّكَرُ جَفْرٌ .
وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ .
قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : فِيهِ ثَمَنُهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : قِيمَتُهُ طَعَامًا .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : مَا سَمِعْنَا أَنَّ الضَّبَّ وَالْيَرْبُوعَ يُودِيَانِ .
وَاتِّبَاعُ الْآثَارِ أَوْلَى .
وَفِي الضَّبِّ جَدْيٌ .
قَضَى بِهِ عُمَرُ ، وَأَرْبَدُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، فِيهِ شَاةٌ ؛ لِأَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَطَاءً قَالَا فِيهِ ذَلِكَ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : حَفْنَةٌ مِنْ طَعَامٍ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : صَاعٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ : قِيمَتُهُ مِنْ الطَّعَامِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ قَضَاءَ عُمَرَ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ غَيْرِهِ ، وَالْجَدْيُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ الشَّاةِ .
وَفِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ .
قَضَى بِهِ عُمَرُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فِيهِ حَمَلٌ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : فِيهِ شَاةٌ .
وَقَضَاءُ عُمَرَ أَوْلَى .
وَالْعَنَاقُ : الْأُنْثَى مِنْ وَلَدِ الْمَعْزِ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ ، وَالذَّكَرُ جَدْيٌ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، مَا لَمْ تَقْضِ فِيهِ الصَّحَابَةُ ، فَيُرْجَعُ إلَى قَوْلِ عَدْلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
فَيَحْكُمَانِ فِيهِ بِأَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ النَّعَمِ ، مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ ، لَا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ ، بِدَلِيلِ أَنَّ قَضَاءَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ بِالْمِثْلِ فِي الْقِيمَةِ ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحَكَمِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ أَنْ
يَحْكُمَ فِي الضَّبِّ ، وَلَمْ يَسْأَلْ أَفَقِيهٌ هُوَ أَمْ لَا ؟ لَكِنْ تُعْتَبَرُ الْعَدَالَةُ ؛ لِأَنَّهَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّهَا شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ فِي سَائِرِ الْأَمَاكِنِ ، وَتُعْتَبَرُ الْخِبْرَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحُكْمِ بِالْمِثْلِ إلَّا مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ ، وَلِأَنَّ الْخِبْرَةَ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْحُكَّامِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ أَحَدَ الْعَدْلَيْنِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْكُمُ لِنَفْسِهِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَالْقَاتِلُ مَعَ غَيْرِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنَّا .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " ، وَالشَّافِعِيُّ ، فِي " مُسْنَدِهِ " ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : خَرَجْنَا حُجَّاجًا ، فَأُوطَأْ رَجُلٌ مِنَّا يُقَالُ لَهُ أَرْبَدُ ضَبًّا ، فَفَزَرَ ظَهْرَهُ ، فَقَدِمْنَا عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ أَرْبَدُ ، فَقَالَ لَهُ : اُحْكُمْ يَا أَرْبَدُ فِيهِ .
قَالَ : أَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .
قَالَ : إنَّمَا أَمَرْتُك أَنْ تَحْكُمَ ، وَلَمْ آمُرْك أَنْ تُزَكِّيَنِي .
فَقَالَ أَرْبَدُ : أَرَى فِيهِ جَدْيًا قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ .
قَالَ عُمَرُ : فَذَلِكَ فِيهِ .
فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ وَهُوَ الْقَاتِلُ ، وَأَمَرَ أَيْضًا كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْجَرَادَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَادَهُمَا وَهُوَ مُحْرِمٌ .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ يَخْرُجُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَمِينًا فِيهِ ، كَالزَّكَاةِ .
( 2671 ) فَصْلٌ : قَالَ أَصْحَابُنَا : فِي كَبِيرِ الصَّيْدِ مِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ ، وَفِي الصَّغِيرِ صَغِيرٌ ، وَفِي الذَّكَرِ ذَكَرٌ ، وَفِي الْأُنْثَى أُنْثَى ، وَفِي الصَّحِيحِ صَحِيحٌ ، وَفِي الْمَعِيبِ مَعِيبٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : فِي الصَّغِيرِ كَبِيرٌ ، وَفِي الْمَعِيبِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { هَدْيًا بَالِغَ
الْكَعْبَةِ } .
وَلَا يُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ صَغِيرٌ وَلَا مَعِيبٌ ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَتْلِ حَيَوَانٍ ، فَلَمْ تَخْتَلِفْ بِصَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ ، كَقَتْلِ الْآدَمِيِّ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَمِثْلُ الصَّغِيرِ صَغِيرٌ ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِالْيَدِ وَالْجِنَايَةِ اخْتَلَفَ ضَمَانُهُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، كَالْبَهِيمَةِ ، وَالْهَدْيُ فِي الْآيَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْمِثْلِ ، وَقَدْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى الضَّمَانِ بِمَا لَا يَصِحُّ هَدْيًا ، كَالْجَفْرَةِ وَالْعَنَاقِ وَالْجَدْيِ .
وَكَفَّارَةُ الْآدَمِيِّ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْهُ ، وَلَا تَجْرِي مَجْرَى الضَّمَانِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَتَبَعَّضُ فِي أَبْعَاضِهِ ، فَإِنْ فَدَى الْمَعِيبَ بِصَحِيحٍ فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَإِنْ فَدَاهُ بِمَعِيبٍ مِثْلِهِ جَازَ .
وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَيْبُ ، مِثْلُ أَنْ فَدَى الْأَعْرَجَ بِأَعْوَرَ ، أَوْ الْأَعْوَرَ بِأَعْرَجَ ، لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِهِ .
وَإِنْ فَدَى أَعْوَرَ مِنْ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ بِأَعْوَرَ مِنْ أُخْرَى ، أَوْ أَعْرَجَ مِنْ قَائِمَةٍ بِأَعْرَجَ مِنْ أُخْرَى جَازَ ؛ لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ يَسِيرٌ ، وَنَوْعُ الْعَيْبِ وَاحِدٌ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ مَحَلُّهُ .
وَإِنْ فَدَى الذَّكَرَ بِأُنْثَى ، جَازَ ؛ لِأَنَّ لَحْمَهَا أَطْيَبُ وَأَرْطَبُ .
وَإِنْ فَدَاهَا بِذَكَرٍ ، جَازَ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ لَحْمَهُ أَوْفَرُ فَتَسَاوَيَا .
وَالْآخَرُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ زِيَادَتَهُ عَلَيْهَا لَيْسَ هِيَ مِنْ جِنْسِ زِيَادَتِهَا ، فَأَشْبَهَ فِدَاءَ الْمَعِيبِ مِنْ نَوْعٍ بِمَعِيبٍ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ .
( 2672 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَتَلَ مَاخِضًا ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَضْمَنُهَا بِقِيمَةِ مِثْلِهَا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ لَحْمِهِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَضْمَنُهَا بِمَاخِضٍ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَإِيجَابُ الْقِيمَةِ عُدُولٌ عَنْ الْمِثْلِ مَعَ إمْكَانِهِ ، فَإِنْ فَدَاهَا بِغَيْرِ مَاخِضٍ ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ لَا تَزِيدُ فِي لَحْمِهَا ، بَلْ رُبَّمَا نَقَصَتْهَا ، فَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهَا فِي الْمِثْلِ ، كَاللَّوْنِ وَالْعَيْبِ .
وَإِنْ جَنَى عَلَى مَاخِضٍ ، فَأَتْلَفَ جَنِينَهَا ، وَخَرَجَ مَيِّتًا ، فَفِيهِ مَا نَقَصَتْ أُمُّهُ ، كَمَا لَوْ جَرَحَهَا ، وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا لِوَقْتٍ يَعِيشُ لِمِثْلِهِ ثُمَّ مَاتَ ، ضَمِنَهُ بِمِثْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِوَقْتٍ لَا يَعِيشُ لِمِثْلِهِ فَهُوَ كَالْمَيِّتِ ، كَجَنِينِ الْآدَمِيَّةِ .
( 2673 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ الصَّيْدِ ، وَجَبَ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّ جُمْلَتَهُ مَضْمُونَةٌ ، فَكَانَ بَعْضُهُ مَضْمُونًا كَالْآدَمِيِّ ، وَالْأَمْوَالِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا } .
فَالْجَرْحُ أَوْلَى بِالنَّهْيِ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ .
وَمَا كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ الصَّيْدِ وَجَبَ ضَمَانُهُ كَنَفْسِهِ ، وَيُضْمَن بِمِثْلِهِ مِنْ مِثْلِهِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ ضَمَانُ جُمْلَتِهِ بِالْمِثْلِ ، وَجَبَ فِي بَعْضِهِ مِثْلُهُ ، كَالْمَكِيلَاتِ .
وَالْآخَرُ يَجِبُ قِيمَةُ مِقْدَارِهِ مِنْ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ يَشُقُّ إخْرَاجُهُ ، فَيُمْنَعُ إيجَابُهُ ، وَلِهَذَا عَدَلَ الشَّارِعُ عَنْ إيجَابِ جُزْءٍ مِنْ بَعِيرٍ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ إلَى إيجَابِ شَاةٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْإِبِلِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ هَاهُنَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ ؛ لِوُجُودِ الْخِيَرَةِ لَهُ فِي الْعُدُولِ عَنْ الْمِثْلِ إلَى عَدْلِهِ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الصِّيَامِ ، فَيَنْتَفِي الْمَانِعُ فَيَثْبُتُ مُقْتَضَى الْأَصْلِ .
وَهَذَا إذَا انْدَمَلَ الصَّيْدُ مُمْتَنِعًا ، فَإِنْ انْدَمَلَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ ، ضَمِنَهُ جَمِيعَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَطَّلَهُ ، فَصَارَ كَالتَّالِفِ ، وَلِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى تَلَفِهِ ، فَصَارَ كَالْجَارِحِ لَهُ جُرْحًا يَتَيَقَّنُ بِهِ مَوْتُهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَضْمَنَهُ بِمَا نَقَصَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يَتْلَفْ ، وَلَمْ يَتْلَفْ جَمِيعُهُ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ قَتَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ .
وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ جَزَاءً وَاحِدًا ، وَضَمَانُهُ بِجَزَاءٍ كَامِلٍ يُفْضِي إلَى إيجَابِ جَزَاءَيْنِ .
وَإِنْ غَابَ غَيْرَ مُنْدَمِلٍ ، وَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ ، وَالْجِرَاحَةُ مُوجِبَةٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ جَمِيعِهِ ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ .
وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا نَقَصَ ، وَلَا يَضْمَنُ جَمِيعَهُ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ حُصُولَ التَّلَفِ بِفِعْلِهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْ ، كَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ ، فَلَمْ
يَعْلَمْ أَوْقَع بِهِ أَمْ لَا ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهُ مَيِّتًا ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَمَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ أَمْ مِنْ غَيْرِهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانُهُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ إتْلَافِهِ مِنْهُ ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ ، فَوَجَبَ إحَالَتُهُ عَلَى السَّبَبِ الْمَعْلُومِ ، كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ ، فَوَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا تَغَيُّرًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا ، فَإِنَّنَا نَحْكُمُ بِنَجَاسَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى صَيْدًا ، فَغَابَ عَنْ عَيْنِهِ ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا لَا أَثَرَ بِهِ غَيْرُ سَهْمِهِ ، حَلَّ أَكْلُهُ .
وَإِنْ صَيَّرَتْهُ الْجِنَايَةُ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ ، فَلَمْ يَعْلَمْ أَصَارَ مُمْتَنِعًا أَمْ لَا ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِامْتِنَاعِ .
( 2674 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَرَحَ صَيْدًا ، فَتَحَامَلَ ، فَوَقَعَ فِي شَيْءٍ تَلِفَ بِهِ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ نَفَّرَهُ ، فَتَلِفَ فِي حَالِ نُفُورِهِ ، ضَمِنَهُ .
فَإِنْ سَكَنَ فِي مَكَان ، وَأَمِنَ مِنْ نُفُورِهِ ، ثُمَّ تَلِفَ ، لَمْ يَضْمَنْهُ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهًا آخَرَ ، أَنْ يَضْمَنَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ ؛ لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " ، عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَخَلَ دَارَ النَّدْوَةِ ، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَلَى وَاقِفٍ فِي الْبَيْتِ ، فَوَقَعَ عَلَيْهِ طَيْرٌ مِنْ هَذَا الْحَمَامِ ، فَأَطَارَهُ ، فَوَقَعَ عَلَى وَاقِفٍ ، فَانْتَهَزَتْهُ حَيَّةٌ فَقَتَلَتْهُ ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، وَنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ : إنِّي وَجَدْت فِي نَفْسِي أَنِّي أَطَرْته مِنْ مَنْزِلٍ كَانَ فِيهِ آمِنًا إلَى مَوْقِعَةٍ كَانَ فِيهَا حَتْفُهُ .
فَقَالَ نَافِعٌ لِعُثْمَانَ : كَيْفَ تَرَى ، فِي عَنْزٍ ثَنِيَّةٍ عَفْرَاءَ ، يُحْكَمُ بِهَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ : أَرَى ذَلِكَ .
فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( 2675 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَا يَضْمَنُ بِهِ الْآدَمِيَّ ، يَضْمَنُ بِهِ الصَّيْدَ ، مِنْ مُبَاشَرَةٍ ، أَوْ بِسَبَبٍ ، وَمَا جَنَتْ عَلَيْهِ دَابَّتُهُ بِيَدِهَا أَوْ فَمِهَا مِنْ الصَّيْدِ ، فَالضَّمَانُ عَلَى رَاكِبِهَا ، أَوْ قَائِدِهَا ، أَوْ سَائِقِهَا ، وَمَا جَنَتْ بِرِجْلِهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حِفْظُ رِجْلِهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَضْمَنُ السَّائِقُ جَمِيعَ جِنَايَتِهَا ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَيْهَا ، وَيُشَاهِدُ رِجْلَهَا .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الرِّجْلِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الرِّجْلُ جُبَارٌ } .
وَإِنْ انْقَلَبَتْ فَأَتْلَفَتْ صَيْدًا ، لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُلّ عَلَيْهَا ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ } .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَتْ آدَمِيًّا ، لَمْ يَضْمَنْهُ .
وَلَوْ نَصَبَ الْمُحْرِمُ شَبَكَةً ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا ، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ ، كَمَا يَضْمَنُ الْآدَمِيَّ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَفَرَ الْبِئْرَ بِحَقٍّ ، كَحَفْرِهِ فِي دَارِهِ ، أَوْ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِهِ ، كَمَا لَا يَضْمَنُ الْآدَمِيَّ .
وَإِنْ نَصَبَ شَبَكَةً قَبْلَ إحْرَامِهِ ، فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ إحْرَامِهِ ، لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ إحْرَامِهِ تَسَبُّبٌ إلَى إتْلَافِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَادَهُ قَبْلَ إحْرَامِهِ ، وَتَرَكَهُ فِي مَنْزِلِهِ ، فَتَلِفَ بَعْدَ إحْرَامِهِ ، أَوْ بَاعَهُ وَهُوَ حَلَالٌ ، فَذَبَحَهُ الْمُشْتَرِي .
( 2676 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ طَائِرًا فَدَاهُ بِقِيمَتِهِ فِي مَوْضِعِهِ ) قَوْلُهُ : " بِقِيمَتِهِ فِي مَوْضِعِهِ " يَعْنِي يَجِبُ قِيمَتُهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَتْلَفَهُ فِيهِ .
لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الصَّيْدِ مِنْ الطَّيْرِ ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ دَاوُد ، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا كَانَ أَصْغَرَ مِنْ الْحَمَامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَهَذَا لَا مِثْلَ لَهُ .
وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى { : لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { : لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } : يَعْنِي الْفَرْخَ وَالْبَيْضَ وَمَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَفِرَّ مِنْ صِغَارِ الصَّيْدِ ، ( وَرِمَاحُكُمْ ) : يَعْنِي الْكِبَارَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الْجَرَادِ بِجَزَاءٍ .
وَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ جَزَاءٍ غَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي هَذَا بِدَلِيلٍ آخَرَ ، وَضَمَانُ غَيْرِ الْحَمَامِ مِنْ الطَّيْرِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الضَّمَانِ أَنْ يُضْمَنَ بِقِيمَتِهِ ، أَوْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْمَضْمُونَاتِ ، لَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ بِدَلِيلٍ ، فَفِيمَا عَدَاهُ تَجِبُ الْقِيمَةُ بِقَضِيَّةِ الدَّلِيلِ ، وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ فِي مَوْضِعِ إتْلَافِهِ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ آدَمِيٍّ فِي مَوْضِعِ قَوْمٍ فِي مَوْضِعِ الْإِتْلَافِ ، كَذَا هَاهُنَا .
( 2677 ) فَصْلٌ : وَيُضْمَنُ بَيْضُ الصَّيْدِ بِقِيمَتِهِ ، أَيَّ صَيْدٍ كَانَ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فِي بَيْضِ النَّعَامِ قِيمَتُهُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ .
وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { فِي بَيْضِ النَّعَامِ قِيمَتُهُ } ، مَعَ أَنَّ النَّعَامِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، فَغَيْرُهُ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْبَيْضَ لَا مِثْلَ لَهُ ، فَيَجِبُ قِيمَتُهُ ، كَصِغَارِ الطَّيْرِ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ ، لِكَوْنِهِ مَذَرًا ، أَوْ لِأَنَّ فَرْخَهُ مَيِّتٌ ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : إلَّا بَيْضَ النَّعَامِ ، فَإِنَّ لِقِشْرِهِ قِيمَةً .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَوَانٌ ، وَلَا مَآلُهُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مِنْهُ حَيَوَانٌ صَارَ كَالْأَحْجَارِ وَالْخَشَبِ ، وَسَائِرِ مَا لَهُ قِيمَةٌ مِنْ غَيْرِ الصَّيْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَقَبَ بَيْضَةً ، فَأَخْرَجَ مَا فِيهَا ، لَزِمَهُ جَزَاءُ جَمِيعِهَا ، ثُمَّ لَوْ كَسَرَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ ، لَمْ يَلْزَمْهُ لِذَلِكَ شَيْءٌ .
وَمِنْ كَسَرَ بَيْضَةً ، فَخَرَجَ مِنْهَا فَرْخٌ حَيٌّ ، فَعَاشَ ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ ، وَإِنْ مَاتَ فَفِيهِ مَا فِي صِغَارِ أَوْلَادِ الْمُتْلَفِ بَيْضُهُ ، فَفِي فَرْخِ الْحَمَامِ صَغِيرُ أَوْلَادِ الْغَنَمِ ، وَفِي فَرْخِ النَّعَامَةِ حِوَارٌ ، وَفِيمَا عَدَاهُمَا قِيمَتُهُ .
وَلَا يَحِلُّ لِمُحْرِمٍ أَكْلُ بَيْضِ الصَّيْدِ إذَا كَسَرَهُ هُوَ أَوْ مُحْرِمٌ سِوَاهُ ، وَإِنْ كَسَرَهُ حَلَالٌ فَهُوَ كَلَحْمِ الصَّيْدِ ، إنْ كَانَ أَخَذَهُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ لَمْ يُبَحْ لَهُ أَكْلُهُ ، وَإِلَّا أُبِيحَ .
وَإِنْ كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ ، لَمْ يَحْرُمْ عَلَى الْحَلَالِ ؛ لِأَنَّ حِلَّهُ لَا يَقِفُ عَلَى كَسْرِهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهُ أَهْلِيَّةٌ ، بَلْ لَوْ كَسَرَهُ مَجُوسِيٌّ أَوْ وَثَنِيٌّ ، أَوْ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ ، لَمْ يَحْرُمْ ، فَأَشْبَهَ قَطْعَ اللَّحْمِ وَطَبْخَهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَحْرُمُ عَلَى الْحَلَالِ أَكْلُهُ ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ
الصَّيْدَ ؛ لِأَنَّ كَسْرَهُ جَرَى مَجْرَى الذَّبْحِ ، بِدَلِيلِ حِلِّهِ لِلْمُحْرِمِ بِكَسْرِ الْحَلَالِ لَهُ .
وَإِنْ نَقَلَ بَيْضَ صَيْدٍ فَجَعَلَهُ تَحْتَ آخَرَ ، أَوْ تَرَكَ مَعَ بَيْضِ الصَّيْدِ بَيْضًا آخَرَ ، أَوْ شَيْئًا نَفَّرَهُ عَنْ بَيْضِهِ حَتَّى فَسَدَ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبِهِ ، وَإِنْ صَحَّ وَفَرَّخَ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ بَاضَ الصَّيْدُ عَلَى فِرَاشِهِ فَنَقَلَهُ بِرِفْقٍ فَفَسَدَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجَرَادَ إذَا انْفَرَشَ فِي طَرِيقِهِ ، وَحُكْمُ بِيضِ الْجَرَادِ .
وَإِنْ احْتَلَبَ لَبَنَ صَيْدٍ ، فَفِيهِ قِيمَةٌ ، كَمَا لَوْ حَلَبَ لَبَنَ حَيَوَانٍ مَغْصُوبٍ .
( 2678 ) فَصْلٌ : إذَا نَتَفَ مُحْرِمٌ رِيشَ طَائِرٍ ، فَفِيهِ مَا نَقَصَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَوْجَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ الْجَزَاءَ جَمِيعَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ نَقَصَهُ نَقْصًا يُمْكِنُ زَوَالُهُ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ بِكَمَالِهِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ .
فَإِنْ حَفِظَهُ ، فَأَطْعَمَهُ ، وَسَقَاهُ ، حَتَّى عَادَ رِيشُهُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ زَالَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْدَمَلَ الْجُرْحُ .
وَقِيلَ : عَلَيْهِ قِيمَةُ الرِّيشِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ صَارَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ بِنَتْفِ رِيشِهِ ، وَانْدَمَلَ غَيْرَ مُمْتَنِعٍ ، فَعَلَيْهِ جَزَاءُ جَمِيعِهِ ، كَالْجَرْحِ .
فَإِنْ غَابَ غَيْرَ مُنْدَمِلٍ ، فَفِيهِ مَا نَقَصَ ، كَالْجَرْحِ سَوَاءٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ثَمَّ احْتِمَالًا .
فَهَاهُنَا مِثْلُهُ .
( 2679 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( إلَّا أَنْ تَكُونَ نَعَامَةً ، فَيَكُونَ فِيهَا بَدَنَةٌ ، أَوْ حَمَامَةً ، وَمَا أَشْبَهَهَا ، فَيَكُونَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَاةٌ ) هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ : " وَإِنْ كَانَ طَائِرًا فَدَاهُ بِقِيمَتِهِ فِي مَوْضِعِهِ " .
وَاسْتَثْنَى النَّعَامَةَ مِنْ الطَّائِرِ ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ جَنَاحَيْنِ وَتَبِيضُ ، فَهِيَ كَالدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ .
أَوْجَبَ فِيهَا بَدَنَةً ؛ لِأَنَّ عُمَرَ ، وَعَلِيًّا ، وَعُثْمَانَ ، وَزِيدَ بْنَ ثَابِتٍ ، وَابْنَ عَبَّاسٍ ، وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، حَكَمُوا فِيهَا بِبَدَنَةِ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّ فِيهَا قِيمَتَهَا .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ .
وَاتِّبَاعُ النَّصِّ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَالْآثَارِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ النَّعَامَةَ تُشْبِهُ الْبَعِيرَ فِي خِلْقَتِهِ ، فَكَانَ مِثْلًا لَهَا ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّصِّ .
وَفِي الْحَمَامِ شَاةٌ .
حَكَمَ بِهِ عُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ ، فِي حَمَامِ الْحَرَمِ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَعُرْوَةُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ : فِيهِ قِيمَتُهُ .
إلَّا أَنَّ مَالِكًا وَافَقَ فِي حَمَامِ الْحَرَمِ لِحُكْمِ الصَّحَابَةِ ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .
قُلْنَا : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْحَمَامِ حَالَ الْإِحْرَامِ كَمَذْهَبِنَا ، وَلِأَنَّهَا حَمَامَةٌ مَضْمُونَةٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَضُمِنَتْ بِشَاةٍ ، كَحَمَامَةِ الْحَرَمِ ، وَلِأَنَّهَا مَتَى كَانَتْ الشَّاةُ مِثْلًا لَهَا فِي الْحَرَمِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْحِلِّ ، فَيَجِبُ ضَمَانُهَا بِهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَقِيَاسُ الْحَمَامِ عَلَى الْحَمَامِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى غَيْرِهِ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " وَمَا أَشْبَهَهَا " .
يَعْنِي مَا يُشْبِهُ الْحَمَامَةَ ،
فِي أَنَّهُ يَعُبُّ الْمَاءَ ، أَيْ يَضَعُ مِنْقَارَهُ فِيهِ ، فَيَكْرَعُ كَمَا تَكْرَعُ الشَّاةُ ، وَلَا يَأْخُذُ قَطْرَةً قَطْرَةً ، كَالدَّجَاجِ ، وَالْعَصَافِيرِ .
وَإِنَّمَا أَوْجَبُوا فِيهِ شَاةً لِشَبَهِهِ بِهَا فِي كَرْعِ الْمَاءِ مِثْلَهَا ، وَلَا يَشْرَبُ مِثْلَ شُرْبِ بَقِيَّةِ الطُّيُورِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي الْقَاسِمِ وشندي : كُلُّ طَيْرٍ يَعُبُّ الْمَاءَ ، يَشْرَبُ مِثْلَ الْحَمَامِ ، فَفِيهِ شَاةٌ .
فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْفَوَاخِتُ ، وَالْوَرَاشِينُ ، والسقايين وَالْقَمَرِيّ ، وَالدُّبْسِيّ ، وَالْقَطَّا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ حَمَامًا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْكِسَائِيّ ، أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مُطَوَّقٍ حَمَامٌ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، الْحَجَلُ حَمَامٌ ؛ لِأَنَّهُ مُطَوَّقٌ .
( 2680 ) فَصْلٌ : وَمَا كَانَ أَكْبَرَ مِنْ الْحَمَامِ ، كَالْحُبَارَى ، وَالْكُرْكِيِّ ، وَالْكَرَوَانُ ، وَالْحَجَلِ وَالْإِوَزِّ الْكَبِيرِ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، فِيهِ شَاةٌ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرٍ ، وَعَطَاءٍ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : فِي الْحَجَلَةِ وَالْقَطَاةِ وَالْحُبَارَى شَاةٌ شَاةٌ .
وَزَادَ عَطَاءٌ : فِي الْكُرْكِيِّ والكروان وَابْنِ الْمَاءِ وَدَجَاجِ الْحَبَشِ وَالْحَرْب ، شَاةٌ شَاةٌ .
وَالْحَرْبُ : هُوَ فَرْخُ الْحُبَارَى .
لِأَنَّ إيجَابَ الشَّاةِ فِي الْحَمَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى إيجَابِهَا فِيمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، فِيهِ قِيمَتُهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي وُجُوبَهَا فِي جَمِيعِ الطَّيْرِ ، تَرَكْنَاهُ فِي الْحَمَامِ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَفِي غَيْرِهِ يُرْجَعُ إلَى الْأَصْلِ .
( 2681 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَهُوَ مُخَيَّرٌ ، إنْ شَاءَ فَدَاهُ بِالنَّظِيرِ ، أَوْ قَوَّمَ النَّظِيرَ بِدَرَاهِمَ ، وَنَظَرَ كَمْ يَجِيءُ بِهِ طَعَامًا ، فَأَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، أَوْ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ ( 2682 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ، إنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ فِي الْجَزَاءِ بِأَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، بِأَيِّهَا شَاءَ كَفَّرَ ، مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ ، أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ ، فَيَجِبُ الْمِثْلُ أَوَّلًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ .
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ؛ لِأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ عَلَى التَّرْتِيبِ .
وَهَذَا أَوْكَدُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلٍ مَحْظُورٍ .
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ ، أَنَّهُ لَا إطْعَامَ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ لِيَعْدِلَ الصِّيَامَ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْإِطْعَامِ قَدَرَ عَلَى الذَّبْحِ .
هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَأَبِي عِيَاضٍ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } .
" وَأَوْ " فِي الْأَمْرِ لِلتَّخْيِيرِ .
رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ شَيْءٍ أَوْ أَوْ ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ .
وَأَمَّا مَا كَانَ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ، فَهُوَ الْأَوَّلُ الْأَوَّلُ .
وَلِأَنَّ عَطْفَ هَذِهِ الْخِصَالِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ بِأَوْ ، فَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَتِهَا كَفِدْيَةِ الْأَدَاءِ ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الطَّعَامَ كَفَّارَةً ، وَلَا يَكُونُ كَفَّارَةً مَا لَمْ يَجِبْ إخْرَاجُهُ ، وَجَعْلُهُ طَعَامًا لِلْمَسَاكِينِ ، وَأَلَّا يَجُوزَ صَرْفُهُ إلَيْهِمْ لَا يَكُونُ طَعَامًا لَهُمْ ، وَعَطَفَ الطَّعَامَ عَلَى الْهَدْيِ ، ثُمَّ عَطَفَ الصِّيَامَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَصْلَةً مِنْ خِصَالِهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِيهِ .
وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ ذُكِرَ فِيهَا الطَّعَامُ ،
فَكَانَ مِنْ خِصَالِهَا ، كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا وَجَبَتْ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ .
يَبْطُلُ بِفِدْيَةِ الْأَذَى .
عَلَى أَنَّ لَفْظَ النَّصِّ صَرِيحٌ فِي التَّخْيِيرِ ، فَلَيْسَ تَرْكُ مَدْلُولِهِ قِيَاسًا عَلَى هَدْيِ الْمُتْعَةِ بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ ، فَلَا يَجُوزُ قِيَاسُ هَدْيِ الْمُتْعَةِ فِي التَّخْيِيرِ عَلَى هَذَا ، لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ تَرْكِ النَّصِّ ، كَذَا هَاهُنَا .
( 2683 ) الْفَصْلُ الثَّانِي إذَا اخْتَارَ الْمِثْلَ ، ذَبَحَهُ ، وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } .
وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ حَيًّا عَلَى الْمَسَاكِينِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ هَدْيًا ، وَالْهَدْيُ يَجِبُ ذَبْحُهُ ، وَلَهُ ذَبْحُهُ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِأَيَّامِ النَّحْرِ ( 2684 ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، أَنَّهُ مَتَى اخْتَارَ الْإِطْعَامَ ، فَإِنَّهُ يُقَوِّمُ الْمِثْلَ بِدَرَاهِمَ ، وَالدَّرَاهِمَ بِطَعَامٍ ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُقَوِّمُ الصَّيْدَ لَا الْمِثْلَ ؛ لِأَنَّ التَّقْوِيمَ إذَا وَجَبَ لِأَجْلِ الْإِتْلَافِ ، قُوِّمَ الْمُتْلَفُ ، كَاَلَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ كُلَّ مَا تَلِفَ وَجَبَ فِيهِ الْمِثْلُ إذَا قُوِّمَ لَزِمَتْ قِيمَةُ مِثْلِهِ ، كَالْمِثْلِيِّ مِنْ مَالِ الْآدَمِيِّ ، وَيَعْتَبِرُ قِيمَةَ الْمِثْلِ فِي الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ إحْرَامَهُ ، وَلَا يُجْزِئُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ الْقِيمَةُ مِنْهَا ، وَالطَّعَامُ الْمُخْرَجُ هُوَ الَّذِي يُخْرَجُ فِي الْفِطْرَةِ وَفِدْيَةِ الْأَذَى ، وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَ كُلُّ مَا يُسَمَّى طَعَامًا ؛ لِدُخُولِهِ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ ، وَيُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ الْبُرِّ ، كَمَا يَدْفَعُ إلَيْهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فَأَمَّا بَقِيَّةُ الْأَصْنَافِ فَنِصْفُ صَاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَقَالَ فِي إطْعَامِ
الْمَسَاكِينِ فِي الْفِدْيَةِ ، وَجَزَاءِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ : إنْ أَطْعَمَ بُرًّا ، فَمُدُّ طَعَامٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ .
وَإِنْ أَطْعَمَ تَمْرًا فَنِصْفُ صَاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ .
وَأَطْلَقَ الْخِرَقِيِّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ .
وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مِنْ غَيْرِ الْبُرِّ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ ، إذْ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِي مَوْضِعٍ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فِي طُعْمَةِ الْمَسَاكِينِ ، وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ ، فَيُرَدُّ إلَى نَظَائِرِهِ .
وَلَا يُجْزِئُ إخْرَاجٌ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ قِيمَة الْهَدْيِ الْوَاجِبِ لَهُمْ فَيَكُونُ أَيْضًا لَهُمْ ، كَقِيمَةِ الْمِثْلِيِّ مِنْ مَالِ الْآدَمِيِّ ( 2685 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الصِّيَامِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا .
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ عَطَاءٍ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةِ دَخَلَهَا الصِّيَامُ وَالْإِطْعَامُ ، فَكَانَ الْيَوْمُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُدِّ ، كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَصُومُ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَقِيل ، وَالْحَسَنِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
قَالَ الْقَاضِي : الْمَسْأَلَةُ رِوَايَةٌ ، وَاحِدَةٌ ، وَالْيَوْمُ عَنْ مُدِّ بُرٍّ أَوْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ مُقَابَلٌ بِإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ ، وَإِطْعَامُ الْمِسْكِينِ مُدُّ بُرٍّ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْيَوْمَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي مُقَابَلَةِ إطْعَامِ الْمِسْكِينِ ، فَكَذَا هَاهُنَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ثَوْرٍ ، أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ مِنْ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ مِثْلُ كَفَّارَةِ الْأَذَى .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ جَزَاءٌ عَنْ مُتْلَفٍ فَاخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِهِ ، كَبَدَلِ مَالِ الْآدَمِيِّ ، وَإِذَا بَقِيَ مَا لَا يَعْدِلُ كَدُونِ الْمُدِّ ، صَامَ يَوْمًا كَامِلًا .
كَذَلِكَ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَحَمَّادٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ .
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَهُمْ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ ، فَيَجِبُ تَكْمِيلُهُ .
وَلَا يَجِبُ التَّتَابُعُ فِي الصِّيَامِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ مُطْلَقًا ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالتَّتَابُعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَ عَنْ بَعْضِ الْجَزَاءِ ، وَيُطْعِمَ عَنْ بَعْضٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَجَوَّزَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إذَا عَجَزَ عَنْ بَعْضِ الْإِطْعَامِ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، فَلَا يُؤَدِّي بَعْضَهَا بِالْإِطْعَامِ وَبَعْضَهَا بِالصِّيَامِ ، كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ .
( 2686 ) فَصْلٌ : وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الصَّيْدِ ، يُخَيَّرُ قَاتِلُهُ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِقِيمَتِهِ طَعَامًا ، فَيُطْعِمَهُ لِلْمَسَاكِينِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ .
وَهَلْ يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ ؟ فِيهِ احْتِمَالَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَجُوزُ .
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا أَصَابَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا ، وَلَمْ يُصِبْ لَهُ عَدْلًا يُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ ؛ قَوَّمَ طَعَامًا إنْ قَدَرَ عَلَى طَعَامٍ ، وَإِلَّا صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا .
هَكَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَلِأَنَّهُ جَزَاءُ صَيْدٍ ، فَلَمْ يَجُزْ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ فِيهِ ، كَاَلَّذِي لَهُ مِثْلٌ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لَيْسَ بِهَا الْقِيمَةُ ، وَإِذَا عَدِمَ أَحَدَ الثَّلَاثَةِ يَبْقَى التَّخْيِيرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ ، فَأَمَّا إيجَابُ شَيْءٍ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ فَلَا .
الثَّانِي ، يَجُوزُ إخْرَاجُ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِكَعْبٍ : مَا جَعَلْت عَلَى نَفْسِك ؟ قَالَ : دِرْهَمَيْنِ .
قَالَ : اجْعَلْ مَا جَعَلْت عَلَى نَفْسِك .
وَقَالَ عَطَاءٌ : فِي الْعُصْفُورِ نِصْفُ دِرْهَمٍ .
وَظَاهِرُهُ إخْرَاجُ الدَّرَاهِمِ الْوَاجِبَةِ .
( 2687 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَكُلَّمَا قَتَلَ صَيْدًا حُكِمَ عَلَيْهِ ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَجِبُ الْجَزَاء بِقَتْلِ الصَّيْدِ الثَّانِي ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا قَتَلَهُ ابْتِدَاءً .
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَحْمَدَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ؛ إحْدَاهُنَّ ، أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ صَيْدٍ جَزَاءٌ .
وَهَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ .
وَبِهِ قَالَ ، الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَجِبُ إلَّا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَقَتَادَةُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } .
وَلَمْ يُوجِبْ جَزَاءً .
وَالثَّالِثَةُ ، إنْ كَفَّرَ عَنْ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ لِلثَّانِي كَفَّارَةٌ ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ تَجِبُ بِفِعْلِ مَحْظُورٍ فِي الْإِحْرَامِ ، فَيَدْخُلُ جَزَاؤُهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ ، كَاللُّبْسِ وَالطِّيبِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا كَفَّارَةٌ عَنْ قَتْلٍ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ ، كَقَتْلِ الْآدَمِيِّ ، وَلِأَنَّهَا بَدَلُ مُتْلَفٍ يَجِبُ بِهِ الْمِثْلُ أَوْ الْقِيمَةُ ، فَأَشْبَهَ بَدَلَ مَالِ الْآدَمِيِّ .
قَالَ أَحْمَدُ : رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ ، أَنَّهُمْ حَكَمُوا فِي الْخَطَأِ ، وَفِي مَنْ قَتَلَ ، وَلَمْ يَسْأَلُوهُ : هَلْ كَانَ قَتَلَ قَبْلَ هَذَا أَوْ لَا ؟ وَإِنَّمَا هَذَا يَعْنِي لِتَخْصِيصِ الْإِحْرَامِ وَمَكَانِهِ ، وَالْآيَةُ اقْتَضَتْ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَائِدِ بِعُمُومِهَا .
وَذِكْرُ الْعُقُوبَةِ فِي الثَّانِي لَا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعَائِدَ لَوْ انْتَهَى كَانَ لَهُ مَا سَلَفَ ، وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ .
وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى
غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ جَزَاءَهُ مُقَدَّرٌ بِهِ ، وَيَخْتَلِفُ بِصِغَرِهِ وَكِبَرِهِ ، وَلَوْ أَتْلَفَ صَيْدَيْنِ مَعًا وَجَبَ جَزَاؤُهُمَا ، فَكَذَلِكَ إذَا تَفَرَّقَا ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ .
( 2688 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ إخْرَاجُ جَزَاءِ الصَّيْدِ بَعْدَ جَرْحِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ ، فَجَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْمَوْتِ ، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ ، وَلِأَنَّهَا كَفَّارَةٌ ، فَأَشْبَهَتْ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ .
( 2689 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَوْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ صَيْدٍ ، فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ) يُرْوَى عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ؛ إحْدَاهُنَّ ، أَنَّ الْوَاجِبَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَالثَّانِيَةُ ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَزَاءٌ .
رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي مُوسَى .
وَاخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَيُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّهَا كَفَّارَةُ قَتْلٍ يَدْخُلُهَا الصَّوْمُ ، أَشْبَهَتْ كَفَّارَةَ قَتْلِ الْآدَمِيِّ .
وَالثَّالِثَةُ ، إنْ كَانَ صَوْمًا صَامَ كُلُّ وَاحِدٍ صَوْمًا تَامًّا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَجَزَاءٌ وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا هَدْيٌ وَالْآخَرُ صَوْمٌ ، فَعَلَى الْمُهْدِي بِحِصَّتِهِ ، وَعَلَى الْآخَرِ صَوْمٌ تَامٌّ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ لَيْسَ بِكَفَّارَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَالصَّوْمُ كَفَّارَةٌ ، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْآدَمِيِّ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَالْجَمَاعَةُ قَدْ قَتَلُوا صَيْدًا ، فَيَلْزَمُهُمْ مِثْلُهُ ، وَالزَّائِدُ خَارِجٌ عَنْ الْمِثْلِ ، فَلَا يَجِبُ ، وَمَتَى ثَبَتَ اتِّخَاذُ الْجَزَاءِ فِي الْهَدْيِ ، وَجَبَ اتِّخَاذُهُ فِي الصِّيَامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { : أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } .
وَالِاتِّفَاقُ حَاصِلٌ أَنَّهُ مَعْدُولٌ بِالْقِيمَةِ ، إمَّا قِيمَةُ الْمُتْلَفِ ، وَإِمَّا قِيمَةُ مِثْلِهِ ، فَإِيجَابُ الزَّائِدِ عَلَى عَدْلِ الْقِيمَةِ خِلَافُ النَّصِّ ، وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَمَّنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا كَمَذْهَبِنَا ، وَلِأَنَّهُ جَزَاءٌ عَنْ مَقْتُولٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ ، فَكَانَ وَاحِدًا ، كَالدِّيَةِ ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَ
الْقَاتِلُ وَاحِدًا ، أَوْ بَدَلَ الْمَحِلِّ ، فَاتَّحَدَتْ بِاتِّحَادِهِ الدِّيَةُ ، وَكَفَّارَةُ الْآدَمِيِّ لَنَا فِيهَا مَنْعٌ ، وَلَا يَتَبَعَّضُ فِي أَبْعَاضِهِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ ، فَلَا يَتَبَعَّضُ عَلَى الْجَمَاعَةِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
( 2690 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ شَرِيكُ الْمُحْرِمِ حَلَالًا أَوْ سَبْعًا ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَلَالِ ، وَيُحْكَمُ عَلَى الْحَرَامِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ جَرْحُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ ، وَالسَّابِقُ الْحَلَالُ أَوْ السَّبْعُ ، فَعَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ مَجْرُوحًا ، وَإِنْ كَانَ السَّابِقُ الْمُحْرِمُ ، فَعَلَيْهِ جَزَاءُ جَرْحِهِ ، عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَ جَرْحُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، عَلَى الْمُحْرِمِ بِقِسْطِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ شَرِيكُهُ مُحْرِمًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَتْلَفَ الْبَعْضَ .
وَالثَّانِي ، عَلَيْهِ جَزَاءُ جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْجَزَاءِ عَلَى شَرِيكِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا دَالًّا وَالْآخَرُ مَدْلُولًا ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُمْسِكًا وَالْآخَرُ قَاتِلًا ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ أَيَّهُمَا كَانَ ، لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى الْآخَرِ .
( 2691 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَكَ حَرَامٌ وَحَلَالٌ فِي صَيْدٍ حَرَمِيٍّ ، فَالْجَزَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ يُنْسَبُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ ، وَلَا يَزْدَادُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِاجْتِمَاعِ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ ، وَهَذَا الِاشْتِرَاكُ الَّذِي هَذَا حُكْمُهُ هُوَ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْفِعْلُ مِنْهُمَا مَعًا ، فَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَا مَضَى .
( 2692 ) فَصْلٌ : إذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ ، وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ ، لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ ، وَلَا يَدُهُ الْحُكْمِيَّةُ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدِهِ ، أَوْ فِي يَدِ نَائِبٍ لَهُ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ .
وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ مَاتَ ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا .
وَمَنْ غَصَبَهُ لَزِمَهُ رَدُّهُ ، وَيَلْزَمُهُ إزَالَةُ يَدِهِ الْمُشَاهَدَةِ عَنْهُ .
وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ فِي قَبْضَتِهِ ، أَوْ رَحْلِهِ ، أَوْ خَيْمَتِهِ ، أَوْ قَفَصٍ مَعَهُ ، أَوْ مَرْبُوطًا بِحَبْلٍ مَعَهُ ، لَزِمَهُ إرْسَالُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : هُوَ ضَامِنٌ لِمَا فِي بَيْتِهِ أَيْضًا .
وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَيْسَ عَلَيْهِ إرْسَالُ مَا فِي يَدِهِ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ الْحُكْمِيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ ابْتِدَاءِ الصَّيْدِ الْمَنْعُ مِنْ اسْتَدَامَتْهُ ؛ بِدَلِيلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ .
وَلَنَا ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إزَالَةُ يَدِهِ الْحُكْمِيَّةِ ، أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِي الصَّيْدِ فِعْلًا ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَعَكْسُ هَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ الْمُشَاهَدَةِ ، فَإِنَّهُ فَعَلَ الْإِمْسَاكَ فِي الصَّيْدِ ، فَكَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ ، فَإِنَّ اسْتِدَامَةَ الْإِمْسَاكِ إمْسَاكٌ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُمْسِكُ شَيْئًا فَاسْتَدَامَ إمْسَاكَهُ ، حَنِثَ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ مَتَى أَرْسَلَهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَخَذَهُ رَدَّهُ إذَا حَلَّ ، وَمَنْ قَتَلَهُ ضَمِنَهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ كَانَ عَلَيْهِ ، وَإِزَالَةُ الْأَثَرِ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ ، بِدَلِيلِ الْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ .
فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ قَبْلَ إرْسَالِهِ بَعْدَ إمْكَانِهِ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ تَحْتَ الْيَدِ الْعَادِيَّةِ ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ ، كَمَالِ الْآدَمِيِّ .
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ إمْكَانِ الْإِرْسَالِ ، فَلَا ضَمَانَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
بِمُفْرِطٍ وَلَا مُتَعَدٍّ ، فَإِنْ أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ ، وَلِأَنَّ الْيَدَ قَدْ زَالَ حُكْمُهَا وَحُرْمَتُهَا ، فَإِنْ أَمْسَكَهُ حَتَّى حَلَّ ، فَمِلْكُهُ بَاقٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ بِالْإِحْرَامِ ، وَإِنَّمَا زَالَ حُكْمُ الْمُشَاهَدَةِ ، فَصَارَ كَالْعَصِيرِ يَتَخَمَّرُ ثُمَّ يَتَخَلَّلُ قَبْلَ إرَاقَتِهِ .
فَصْلٌ : وَلَا يَمْلِكُ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ ابْتِدَاءً بِالْبَيْعِ ، وَلَا بِالْهِبَةِ ، وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ ، فَإِنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ { أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِمَارًا وَحْشِيًّا ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : إنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ } .
فَإِنْ أَخَذَهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ ، ثُمَّ تَلِفَ ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ .
وَإِنْ كَانَ مَبِيعًا ، فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ أَوْ رَدُّهُ إلَى مَالِكِهِ .
فَإِنْ أَرْسَلَهُ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَبِيعِ أَيْضًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ إرْسَالُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إثْبَاتُ يَدِهِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى الصَّيْدِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَلَا يَسْتَرِدُّ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ الَّذِي بَاعَهُ وَهُوَ حَلَالٌ مُخْتَارٌ وَلَا عَيْبَ فِي ثَمَنِهِ ، وَلَا غَيْرَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ مِلْكٍ عَلَى الصَّيْدِ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ .
وَإِنْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِعَيْبِ أَوْ خِيَارٍ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرَّدِّ مُتَحَقِّقٌ ، ثُمَّ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُحْرِمِ ، وَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ .
( 2694 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَرِثَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَلَكَهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ لَيْسَ بِفِعْلِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ حُكْمًا ، اخْتَارَ ذَلِكَ أَوْ كَرِهَهُ ؛ وَلِهَذَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، فَيَدْخُلُ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ ، فَجَرَى مَجْرَى الِاسْتِدَامَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَاتِ التَّمَلُّكِ ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا حَلَّ مَلَكَهُ .
( 2695 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمَ النَّحْرِ ، تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَذَبَحَ ، إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ ، وَحَجَّ مِنْ قَابِلٍ ، وَأَتَى بِدَمٍ ) الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ ( 2696 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ، أَنَّ آخِرَ وَقْتِ الْوُقُوفِ آخِرُ لَيْلَةِ النَّحْرِ ، فَمَنْ [ لَمْ ] يُدْرِكْ الْوُقُوفَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ يَوْمئِذٍ فَاتَهُ الْحَجُّ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
قَالَ جَابِرٌ : لَا يَفُوتُ الْحَجُّ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ .
قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ ، فَقُلْت لَهُ : أَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحَجُّ عَرَفَةَ ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } يَدُلُّ عَلَى فَوَاتِهِ بِخُرُوجِ لَيْلَةِ جَمْعٍ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ بِلَيْلٍ ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ بِلَيْلٍ ، فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ، وَضَعَّفَهُ .
( 2697 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، أَنَّ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحَلَّاقٍ .
هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِهِ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، كَمَا ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِيَةُ ، يَمْضِي فِي حَجٍّ فَاسِدٍ .
وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ ، قَالَ : يَلْزَمُهُ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ مَا فَاتَ وَقْتُهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ مَا لَمْ يَفُتْ .
وَلَنَا ، قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا ؛ فَكَانَ
إجْمَاعًا .
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، فِي " مُسْنَدِهِ " ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي أَيُّوبَ حِينَ فَاتَهُ الْحَجُّ : اصْنَعْ مَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ، ثُمَّ قَدْ حَلَلْت ، فَإِنْ أَدْرَكْت الْحَجَّ قَابِلًا فَحُجَّ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُ ذَلِكَ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ سُلَيْمَانِ بْنِ يَسَارٍ ، أَنَّ هَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ حَجَّ مِنْ الشَّامِ ، فَقَدِمَ يَوْمَ النَّحْرِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا حَبَسَكَ ؟ قَالَ : حَسِبْت أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَرَفَةَ ، قَالَ : فَانْطَلِقْ إلَى الْبَيْتِ ، فَطُفْ بِهِ سَبْعًا ، وَإِنْ كَانَ مَعَك هَدِيَّةٌ فَانْحَرْهَا ، ثُمَّ إذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ فَاحْجُجْ ، فَإِنْ وَجَدْت سَعَةً فَأَهْدِ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعْت إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَرَوَى النَّجَّادُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ، وَلْيَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ " .
وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ فَوَاتٍ ، فَمَعَ الْفَوَاتِ أَوْلَى .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ إحْرَامَهُ بِعُمْرَةٍ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعَطَاءٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا يَصِيرُ إحْرَامُهُ بِعُمْرَةِ ، بَلْ يَتَحَلَّلُ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَحَلْقٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ انْعَقَدَ بِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ ، فَلَمْ يَنْقَلِبْ إلَى الْآخَرِ ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَنْ قَالَ : يَجْعَلُ إحْرَامَهُ عُمْرَةً .
أَرَادَ بِهِ يَفْعَلُ مَا فَعَلَ الْمُعْتَمِرُ ، وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ خِلَافٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِيرَ إحْرَامُ الْحَجِّ إحْرَامًا بِعُمْرَةِ ، بِحَيْثُ يُجْزِئُهُ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ إنْ لَمْ يَكُنْ
اعْتَمَرَ ، وَلَوْ أَدْخَلَ الْحَجَّ عَلَيْهَا لَصَارَ قَارِنًا ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْحَجُّ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ ، إلَّا أَنْ يَصِيرَ مُحْرِمًا بِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ ، فَيَصِيرَ كَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ ، وَلِأَنَّ قَلْبَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي فَسْخِ الْحَجِّ ، فَمَعَ الْحَاجَةِ أَوْلَى ، وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَا قَلْبُ الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا يَفُوتُ وَقْتُهَا ، فَلَا حَاجَةَ إلَى انْقِلَابِ إحْرَامِهَا ، بِخِلَافِ الْحَجِّ .
( 2698 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الْفَائِتُ وَاجِبًا ، أَوْ تَطَوُّعًا .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِهِ ، وَزَيْدٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمَرْوَانَ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، بَلْ إنْ كَانَتْ فَرْضًا فَعَلَهَا بِالْوُجُوبِ السَّابِقِ ، وَإِنْ كَانَتْ نَفْلًا سَقَطَتْ .
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْحَجِّ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ ، قَالَ : " بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً " .
وَلَوْ أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ ، كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ ، وَلِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي تَرْكِ إتْمَامِ حَجِّهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ كَالْمُحْصَرِ ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةُ تَطَوُّعٍ ، فَلَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهَا ، كَسَائِرِ التَّطَوُّعَات .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ ، وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ فَاتَهُ عَرَفَاتٌ فَاتَهُ الْحَجُّ ، فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةِ ، وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } وَلِأَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ ، فَيَصِيرُ كَالْمَنْذُورِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ التَّطَوُّعَات .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ ، فَإِنَّهُ أَرَادَ الْوَاجِبَ بِأَصْلِ الشَّرْعِ
حَجَّةً وَاحِدَةً وَهَذِهِ إنَّمَا تَجِبُ بِإِيجَابِهِ لَهَا بِالشُّرُوعِ فِيهَا ، فَهِيَ كَالْمَنْذُورَةِ ، وَأَمَّا الْمُحْصَرُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى التَّفْرِيطِ ، بِخِلَافِ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، وَإِذَا قَضَى أَجْزَأَهُ الْقَضَاءُ عَنْ الْحَجَّةِ الْوَاجِبَةِ ، لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ الْمَقْضِيَّةَ لَوْ تَمَّتْ لَأَجْزَأَتْ عَنْ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ قَضَاؤُهَا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَقُومُ مَقَامَ الْأَدَاءِ .
( 2699 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ ، أَنَّ الْهَدْيَ يَلْزَمُ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالْفُقَهَاءِ ، إلَّا أَصْحَابَ الرَّأْيِ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : لَا هَدْيَ عَلَيْهِ .
وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَوَاتُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْهَدْيِ ، لَلَزِمَ الْمُحْرِمَ هَدْيَانِ ؛ لِلْفَوَاتِ وَالْإِحْصَارِ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ عَطَاءٍ ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّهُ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ إتْمَامِهِ ، فَلَزِمَهُ هَدْيٌ ، كَالْمُحْرِمِ ، لَمْ يَفُتْ حَجُّهُ ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ قَبْلَ فَوَاتِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الْهَدْيَ فِي سَنَةِ الْقَضَاءِ ، إنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ ، وَإِلَّا أَخْرَجَهُ فِي عَامِهِ .
وَإِذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ قَدْ سَاقَهُ نَحَرَهُ ، وَلَا يُجْزِئُهُ ، إنَّ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ ، بَلْ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ هَدْيٌ أَيْضًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَالْهَدْيُ مَا اسْتَيْسَرَ ، مِثْلُ هَدْيِ الْمُتْعَةِ ؛ لِحَدِيثِ عُمَرَ .
أَيْضًا .
وَالْمُتَمَتِّعُ ، وَالْمُفْرِدُ ، وَالْقَارِنُ ، وَالْمَكِّيُّ وَغَيْرُهُ ، سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ .
( 2700 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اخْتَارَ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ الْبَقَاءَ عَلَى إحْرَامِهِ لِيَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ ، فَلَهُ ذَلِكَ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ تَطَاوُلَ الْمُدَّةِ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَفِعْلِ النُّسُكِ لَا يَمْنَعُ إتْمَامَهُ ، كَالْعُمْرَةِ ، وَالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ ؛ لِظَاهِرِ الْخَبَرِ ، وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ إحْرَامَ الْحَجِّ يَصِيرُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ فَصَارَ كَالْمُحْرِمِ بِالْعِبَادَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا .
( 2701 ) فَصْلٌ : وَإِذَا فَاتَ الْقَارِنَ الْحَجُّ ، حَلَّ ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا أَهَلَّ بِهِ مِنْ قَابِلٍ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَإِسْحَاقَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ مَا فَعَلَ عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَضَاءُ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ غَيْرُهُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَالثَّوْرِيُّ : يَطُوفُ وَيَسْعَى لِعُمْرَتِهِ ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى لِحَجِّهِ .
إلَّا أَنَّ سُفْيَانَ قَالَ : وَيُهْرِقُ دَمًا .
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنْ يَجِبَ الْقَضَاءُ عَلَى حَسَبِ الْأَدَاءِ ، فِي صُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا كَذَلِكَ ، وَيَلْزَمُهُ ؛ هَدْيَانِ ؛ هَدْيٌ لِلْقِرَانِ ، وَهَدْيُ فَوَاتِهِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ هَدْيٌ ثَالِثٌ لِلْقَضَاءِ .
وَلَيْسَ بِشَيْءِ ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ لَهُ هَدْيٌ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْهَدْيُ الَّذِي فِي سَنَةِ الْقَضَاءِ لِلْفَوَاتِ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُ الصَّحَابَةُ بِأَكْثَرِ مِنْ هَدْيٍ وَاحِدٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 2702 ) فَصْلٌ إذَا أَخْطَأَ النَّاسُ الْعَدَدَ فَوَقَفُوا فِي غَيْرِ لَيْلَةِ عَرَفَةَ ، أَجْزَأَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ .
بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَسِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَوْمُ عَرَفَةَ الَّذِي يُعَرِّفُ فِيهِ النَّاسُ .
فَإِنْ اخْتَلَفُوا ، فَأَصَابَ بَعْضٌ ، وَأَخْطَأَ بَعْضٌ وَقْتَ الْوُقُوفِ ، لَمْ يُجْزِئْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مَعْذُورِينَ فِي هَذَا } وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ ، وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ .
( 2703 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ عَبْدًا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ يَوْمًا ، ثُمَّ يُقَصِّرُ وَيَحِلُّ ) يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ هَدْيٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ ، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْهَدْيِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ كَالْمُعْسِرِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْهَدْيِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُهْدِيَ ، وَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا الصِّيَامُ وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ فِي الصَّيْدِ .
وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا كُلُّ دَمٍ لَزِمَهُ فِي الْإِحْرَامِ لَا يُجْزِئُهُ عَنْهُ إلَّا الصِّيَامُ .
وَقَالَ غَيْرُ الْخِرَقِيِّ : إنْ مَلَّكَهُ السَّيِّدُ هَدْيًا ، وَأَذِنَ لَهُ فِي ذَبْحِهِ خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ .
إنْ قُلْنَا : إنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ بِالتَّمْلِيكِ .
لَزِمَهُ أَنْ يُهْدِيَ ، وَيُجْزِئُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْهَدْيِ ، مَالِكٌ لَهُ ، فَلَزِمَهُ كَالْحُرِّ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَمْلِكُ .
لَمْ يُجْزِئْهُ إلَّا الصِّيَامُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْمِلْكِ ، فَصَارَ كَالْمُعْسِرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ الصِّيَامِ .
وَإِذَا صَامَ فَإِنَّهُ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ يَوْمًا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّيْدِ ، وَمَتَى بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدٍّ صَامَ عَنْهُ يَوْمًا كَامِلًا ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَبَعَّضُ ، فَيَجِبُ تَكْمِيلُهُ ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فِي بَعْضِ النَّهَارِ ، لَزِمَهُ صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مِنْ الصَّوْمِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ، كَصَوْمِ الْمُتْعَةِ ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ : فَإِنْ وَجَدْت سَعَةً فَأَهْدِ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ سَعَةً ، فَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعْت ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ ، فِي " مُسْنَدِهِ "
عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ .
وَأَحْمَدُ ذَهَبَ إلَى حَدِيثِ عُمَرَ ، وَاحْتَجَّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَوْمٌ وَجَبَ لِحِلِّهِ مِنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ إتْمَامِهِ ، فَكَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ كَصَوْمِ الْمُحْرِمِ .
وَالْمُعْسِرُ فِي الصَّوْمِ كَالْعَبْدِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ لِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ : إنْ وَجَدْت سَعَةً فَأَهْدِ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَصُمْ .
وَيُعْتَبَرُ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ فِي زَمَنِ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ فِي سَنَةِ الْقَضَاءِ إنَّ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ ، أَوْ فِي سَنَةِ الْفَوَاتِ إنَّ قُلْنَا لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " ثُمَّ يُقَصِّرُ وَيَحِلُّ " .
يُرِيدُ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَحْلِقُ هَاهُنَا ، وَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ إزَالَةُ الشَّعْرِ الَّذِي يَزِيدُ فِي قِيمَتِهِ وَمَالِيَّتِهِ ، وَهُوَ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ إزَالَتُهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إزَالَتُهُ .
كَغَيْرِ حَالَةِ الْإِحْرَامِ .
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الْحَلْقِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِحَقِّهِ .