الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
( 125 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْقَائِمُ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ كَافِرًا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَالْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ غَمْسُهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْغَمْسِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْخِطَابِ ، وَلَا خِطَابَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْغَسْلِ هَاهُنَا تَعَبُّدٌ ، وَلَا تَعَبُّدَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ ؛ وَلِأَنَّ غَمْسَهُمْ لَوْ أَثَّرَ فِي الْمَاءِ لَأَثَّرَ فِي جَمِيعِ زَمَانِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ الْمُزِيلَ مِنْ حُكْمِ الْمَنْعِ مِنْ شَرْطِهِ النِّيَّةُ ، وَمَا هُمْ مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَا نَعْلَمُ قَائِلًا بِذَلِكَ .
( 126 ) فَصْلٌ : وَالنَّوْمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرُ بِغَسْلِ الْيَدِ مَا نَقَضَ الْوُضُوءَ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي النَّوْمِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : هُوَ مَا زَادَ عَلَى نِصْفِ اللَّيْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ بَائِتًا إلَّا بِذَلِكَ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ بَائِتًا بِهَا ، وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ دَمٌ ، بِخِلَافِ مَنْ دَفَعَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا جَاءَ مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَائِتًا بِهَا ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا بَاتَ بِهَا دُونَ النِّصْفِ .
( 127 ) فَصْلٌ : وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ تَعَبُّدِيَّةٌ ، فَأَشْبَهَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ .
وَالثَّانِي : لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِوَهْمِ النَّجَاسَةِ ، وَلَا تُعْتَبَرُ فِي غَسْلِهَا النِّيَّةُ ؛ وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْغَسْلُ ، وَقَدْ أَتَى بِهِ ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِجْزَاءِ بِهِ .
وَلَا يَفْتَقِرُ الْغَسْلُ إلَى تَسْمِيَةٍ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَفْتَقِرُ إلَيْهَا قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ .
وَهَذَا بَعِيدٌ ؛ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الْوُضُوءِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي الصَّحِيحِ ، وَمَنْ أَوْجَبَهَا فَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا تَعَبُّدًا ، فَيَجِبُ قَصْرُهَا عَلَى مَحَلِّهَا ، فَإِنَّ التَّعَبُّدَ بِهِ فَرْعُ التَّعْلِيلِ ، وَمِنْ شَرْطِهِ كَوْنُ الْمَعْنَى مَعْقُولًا ، وَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِهِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ آكَدُ ، وَهُوَ فِي أَرْبَعَةِ أَعْضَاءَ ، وَسَبَبُهُ غَيْرُ سَبَبِ غَسْلِ الْيَدِ .
( 128 ) فَصْلٌ : وَلَوْ انْغَمَسَ الْجُنُبُ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ ، أَوْ تَوَضَّأَ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ ، يَغْمِسُ فِيهِ أَعْضَاءَهُ ، وَلَمْ يَنْوِ غَسْلَ الْيَدَيْنِ مِنْ نُومِ اللَّيْلِ ، صَحَّ غُسْلُهُ وَوُضُوءُهُ ، وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ غَسْلِ الْيَدِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ النِّيَّةَ فِي غَسْلِهَا ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْعُضْوِ لَا يَمْنَعُ رَفْعَ الْحَدَثِ ، فَلَوْ غَسَلَ أَنْفَهُ أَوْ يَدَهُ فِي الْوُضُوءِ ، وَهُوَ نَجِسٌ ، لَارْتَفَعَ حَدَثُهُ ، وَبَقَاءُ الْحَدَثِ عَلَى الْوُضُوءِ لَا يَمْنَعُ رَفْعَ حَدَثٍ آخَرَ ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ تَوَضَّأَ الْجُنُبُ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ ، أَوْ اغْتَسَلَ وَلَمْ يَنْوِ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى ، صَحَّتْ الْمَنْوِيَّةُ دُونَ غَيْرِهَا ، وَهَذَا لَا يَخْرُجُ عَنْ شَبَهِهِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ .
( 129 ) فَصْلٌ : إذَا وَجَدَ مَاءً قَلِيلًا لَيْسَ مَعَهُ مَا يَغْتَرِفُ بِهِ وَيَدَاهُ نَجِسَتَانِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ بِفِيهِ وَيَصُبُّ عَلَى يَدِهِ .
وَهَكَذَا لَوْ أَمْكَنَهُ غَمْسُ خِرْقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَصَبُّهُ عَلَى يَدَيْهِ فَعَلَ ذَلِكَ .
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ تَيَمَّمَ وَتَرَكَهُ ؛ لِئَلَّا يَنْجُسَ الْمَاءُ وَيَتَنَجَّسَ بِهِ .
فَإِنْ كَانَ لَمْ يَغْسِلْ يَدَيْهِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ تَوَضَّأَ مِنْهُ ، عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُ الْمَاءَ بَاقِيًا عَلَى إطْلَاقِهِ .
وَمَنْ جَعَلَهُ مُسْتَعْمَلًا ، قَالَ : يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ مَعَهُ .
وَلَوْ اسْتَيْقَظَ الْمَحْبُوسُ مِنْ نَوْمِهِ فَلَمْ يَدْرِ ؛ أَهُوَ مِنْ نَوْمِ النَّهَارِ أَوْ اللَّيْلِ ؟ لَمْ يَلْزَمْهُ غَسْلُ يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ ، فَلَا نُوجِبُهُ بِالشَّكِّ .
( 130 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْوُضُوءِ .
ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَسْنُونَةٌ فِي طَهَارَةِ الْأَحْدَاثِ كُلِّهَا .
رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ الَّذِي اسْتَقَرَّتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .
يَعْنِي إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَعَنْهُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِيهَا كُلِّهَا ؛ الْوُضُوءِ ، وَالْغُسْلِ ، وَالتَّيَمُّمِ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَمَذْهَبُ الْحَسَنِ وَإِسْحَاقَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحْسَنُ .
وَهَذَا نَفْيٌ فِي نَكِرَةٍ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ وُضُوءُهُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى : أَنَّهَا طَهَارَةٌ ، فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى التَّسْمِيَةِ ، كَالطَّهَارَةِ مِنْ النَّجَاسَةِ ، أَوْ عِبَادَةٌ ، فَلَا تَجِبُ فِيهَا التَّسْمِيَةُ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالشَّرْعِ وَالْأَحَادِيثِ ، قَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ يَثْبُتُ فِي هَذَا حَدِيثٌ ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهَا حَدِيثًا لَهُ إسْنَادٌ جَيِّدٌ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ : ضَعَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَدِيثَ فِي التَّسْمِيَةِ ، وَقَالَ : أَقْوَى شَيْءٍ فِيهِ حَدِيثُ كَثِيرِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ رُبَيْحٍ - يَعْنِي حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ - ثُمَّ ذَكَرَ رُبَيْحًا ، أَيْ مَنْ هُوَ ؟ وَمَنْ أَبُوهُ ؟ فَقَالَ : يَعْنِي الَّذِي يَرْوِي حَدِيثَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ .
يَعْنِي أَنَّهُمْ مَجْهُولُونَ ، وَضَعَّفَ إسْنَادَهُ .
وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَيُحْمَلُ عَلَى تَأْكِيدِ الِاسْتِحْبَابِ وَنَفْيِ الْكَمَالِ
بِدُونِهَا ، كَقَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } .
( 131 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا فَتَرَكَهَا عَمْدًا ، لَمْ تَصِحَّ طَهَارَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا فِي الطَّهَارَةِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ النِّيَّةَ .
وَإِنْ تَرَكَهَا سَهْوًا صَحَّتْ طَهَارَتُهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد فَإِنَّهُ قَالَ .
سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ : إذَا نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي الْوُضُوءِ ؟ قَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ فَعَلَى هَذَا إذَا ذَكَرِ فِي أَثْنَاءِ طَهَارَتِهِ أَتَى بِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عُفِيَ عَنْهَا مَعَ السَّهْوِ فِي جُمْلَةِ الْوُضُوءِ فَفِي بَعْضِهِ أَوْلَى ، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا حَتَّى غَسَلَ عُضْوًا لَمْ يَعْتَدَّ بِغَسْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعَ الْعَمْدِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ : إذَا سَمَّى فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ .
يَعْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى وُضُوئِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا تَسْقُطُ بِالسَّهْوِ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَقِيَاسًا لَهَا عَلَى سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { عُفِيَ لِأُمَّتِي عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ } ؛ وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَادَةٌ تَتَغَايَرُ أَفْعَالُهَا ، فَكَانَ فِي وَاجِبَاتِهَا مَا يَسْقُطُ بِالسَّهْوِ كَالصَّلَاةِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى سَائِرِ وَاجِبَاتِ الطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ تَأَكَّدَ وُجُوبُهَا ، بِخِلَافِ التَّسْمِيَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ هِيَ قَوْلُ بِسْمِ اللَّهِ لَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا ، كَالتَّسْمِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ ، وَعِنْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ وَشُرْبِ الشَّرَابِ ، وَمَوْضِعُهَا بَعْدَ النِّيَّةِ قَبْلَ أَفْعَالِ الطَّهَارَةِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ قَوْلٌ وَاجِبٌ فِي الطَّهَارَةِ ، فَيَكُونُ بَعْدَ النِّيَّةِ ، لِتَشْمَلَ النِّيَّةَ جَمِيعَ وَاجِبَاتِهَا ، وَقَبْلَ أَفْعَالِ الطَّهَارَةِ ، لِيَكُونَ مُسَمِّيًا عَلَى جَمِيعِهَا ، كَمَا
يُسَمَّى عَلَى الذَّبِيحَةِ وَقْتَ ذَبْحِهَا .
( 132 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَالْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ : اجْتِذَابُ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ إلَى أَقْصَى الْأَنْفِ ، وَلَا يَجْعَلُهُ سَعُوطًا ، وَذَلِكَ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْوُضُوءِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَلَا يُسْتَحَبُّ ، لَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى عَاصِمُ بْنُ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْوُضُوءِ .
قَالَ أَسْبِغْ الْوُضُوءَ ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ ، وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَلِأَنَّهُ مِنْ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ ، فَاسْتُحِبَّتْ الْمُبَالَغَةُ فِيهِ كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا .
( 133 ) فَصْلٌ : الْمُبَالَغَةُ مُسْتَحَبَّةٌ فِي سَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَسْبِغْ الْوُضُوءَ .
} وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ إدَارَةُ الْمَاءِ فِي أَعْمَاقِ الْفَمِ وَأَقَاصِيهِ وَأَشْدَاقِهِ ، وَلَا يَجْعَلُهُ وَجُورًا لَمْ يَمُجَّهُ ، وَإِنْ ابْتَلَعَهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ قَدْ حَصَلَ .
وَالْمُبَالَغَةُ فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ بِالتَّخْلِيلِ ، وَبِتَتَبُّعِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَنْبُو عَنْهَا الْمَاءُ بِالدَّلْكِ وَالْعَرْكِ وَمُجَاوَزَةِ مَوْضِعِ الْوُجُوبِ بِالْغَسْلِ .
وَقَدْ رَوَى نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، { أَنَّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتَّى كَادَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَنْكِبَيْنِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتَّى رَفَعَ إلَى السَّاقَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى أَبُو حَازِمٍ عَنْهُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا ، وَقَالَ : سَمِعْت خَلِيلِي يَقُولُ : { تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنْ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
( 134 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ : أَنَّ اللِّحْيَةَ إنْ كَانَتْ خَفِيفَةً تَصِفُ الْبَشَرَةَ وَجَبَ غَسْلُ بَاطِنِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً لَمْ يَجِبْ غَسْلُ مَا تَحْتَهَا ، وَيُسْتَحَبُّ تَخْلِيلُهَا .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ : ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَأَنَسُ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : إذَا تَرَكَ تَخْلِيلَ لِحْيَتِهِ عَامِدًا أَعَادَ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ .
} رَوَاهُ عَنْهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانِ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : هَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَنَسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ وَقَالَ : هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ .
} وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَوَضَّأَ عَرَكَ عَارِضَيْهِ بَعْضَ الْعَرْكِ ، ثُمَّ شَبَكَ لِحْيَتَهُ بِأَصَابِعِهِ مِنْ تَحْتِهَا .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو ثَوْرٍ : يَجِبُ غَسْلُ بَاطِنِ شُعُورِ الْوَجْهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا كَمَا يَجِبُ فِي الْجَنَابَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِغَسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ كَمَا أُمِرَ بِغَسْلِهِ فِي الْجَنَابَةِ ، فَمَا وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا وَجَبَ فِي الْآخَرِ مِثْلُهُ .
وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ ، وَلَا يَجِبُ التَّخْلِيلُ ؛ وَمِمَّنْ رَخَّصَ فِي تَرْكِ التَّخْلِيلِ ابْنُ عُمَرَ ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَطَاوُسٌ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَأَبُو الْقَاسِمِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغَسْلِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّخْلِيلَ ، وَأَكْثَرُ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْكِهِ .
وَلَوْ كَانَ
وَاجِبًا لَمَا أَخَلَّ بِهِ فِي وُضُوءٍ ، وَلَوْ فَعَلَهُ فِي كُلِّ وُضُوءٍ لَنَقَلَهُ كُلُّ مَنْ حَكَى وُضُوءَهُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ ، وَتَرْكُهُ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَسْلَ مَا تَحْتَ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَثِيفَ اللِّحْيَةِ فَلَا يَبْلُغُ الْمَاءُ مَا تَحْتَ شَعْرِهَا بِدُونِ التَّخْلِيلِ وَالْمُبَالَغَةِ ، وَفِعْلُهُ لِلتَّخْلِيلِ فِي بَعْضِ أَحْيَانِهِ يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 135 ) فَصْلٌ : قَالَ يَعْقُوبُ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ التَّخْلِيلِ ؟ فَأَرَانِي مِنْ تَحْتِ لِحْيَتِهِ ، فَخَلَّلَ بِالْأَصَابِعِ .
وَقَالَ حَنْبَلُ : مِنْ تَحْتِ ذَقَنِهِ مِنْ أَسْفَلِ الذَّقَنِ ، يُخَلِّلُ جَانِبَيْ لِحْيَتِهِ جَمِيعًا بِالْمَاءِ ، وَيَمْسَحُ جَانِبَيْهَا وَبَاطِنَهَا .
وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ : قَالَ أَحْمَدُ إنْ شَاءَ خَلَّلَهَا مَعَ وَجْهِهِ ، وَإِنْ شَاءَ إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَعَهَّدَ بَقِيَّةَ شُعُورِ وَجْهِهِ وَيَمْسَحَ مَآقِيهِ ؛ لِيَزُولَ مَا بِهِمَا مِنْ كُحْلٍ أَوْ غَمَصٍ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ { ذَكَرَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : كَانَ يَمْسَحُ الْمَأْقَيْنِ .
}
( 136 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَأَخْذُ مَاءٍ جَدِيدٍ لِلْأُذُنَيْنِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا الْمُسْتَحَبُّ : أَنْ يَأْخُذَ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا .
قَالَ أَحْمَدُ : أَنَا أَسْتَحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا ، كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ لِأُذُنَيْهِ مَاءً جَدِيدًا .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَخْبَارِ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ } .
رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ ، وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ ، وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً .
} رَوَاهُنَّ أَبُو دَاوُد .
وَلَنَا أَنَّ إفْرَادَهُمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَقَدْ ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إلَى أَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مِنْ الْوَجْهِ وَظَاهِرُهُمَا مِنْ الرَّأْسِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ : لَيْسَا مِنْ الْوَجْهِ وَلَا مِنْ الرَّأْسِ .
فَفِي إفْرَادِهِمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ خُرُوجٌ مِنْ بَعْضِ الْخِلَافِ ، فَكَانَ أَوْلَى .
وَإِنْ مَسَحَهُمَا بِمَاءِ الرَّأْسِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ .
( 137 ) فَصْلٌ : قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَسَحَ رَأْسَهُ ، وَلَمْ أَرَهُ يَمْسَحُ عَلَى عُنُقِهِ ، فَقُلْت لَهُ : أَلَّا تَمْسَحُ عَلَى عُنُقِك ؟ قَالَ : إنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقُلْت : أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : هُوَ مَوْضِعُ الْغُلِّ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَلَكِنْ هَكَذَا يَمْسَحُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ .
وَقَالَ أَيْضًا : هُوَ زِيَادَةٌ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ أَنَّ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى : أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ .
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { امْسَحُوا أَعْنَاقَكُمْ مَخَافَةَ الْغُلِّ } .
وَاَلَّذِي وَقَفْت عَلَيْهِ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ : رَأَيْت أَبِي إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ فِي الْوُضُوءِ مَسَحَ قَفَاهُ .
وَوَهَّنَ الْخَلَّالُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ، وَقَالَ : هِيَ وَهْمٌ .
وَقَدْ أَنْكَرَ أَحْمَدُ حَدِيثَ طَلْحَةَ بْنَ مُصَرِّفٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ : { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ الْقَذَالَ .
} وَهُوَ أَوَّلُ الْقَفَا .
وَذَكَرَ أَنَّ سُفْيَانَ كَانَ يُنْكِرُهُ ، وَأَنْكَرَهُ ، يَحْيَى أَيْضًا .
وَخَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا نَعْرِفُهُ ، وَلَمْ يَرَوْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ .
( 138 ) فَصْلٌ : وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ غَسْلَ دَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَمِيَ مِنْ كَثْرَةِ إدْخَالِ الْمَاءِ فِي عَيْنَيْهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي الْغُسْلِ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ أَبْلَغُ ، فَإِنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْبَدَنِ ، وَتُغْسَلُ فِيهِ بَوَاطِنُ الشُّعُورِ الْكَثِيفَةِ ، وَمَا تَحْتَ الْجَفْنَيْنِ وَنَحْوِهِمَا ، وَدَاخِلُ الْعَيْنَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ الْمُمْكِنِ غَسْلُهُ فَإِذَا لَمْ تَجِبْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَسْنُونٍ فِي وُضُوءٍ وَلَا غُسْلٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ ، وَلَا أَمَرَ بِهِ ، وَفِيهِ ضَرَرٌ ، وَمَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى كَرَاهَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِبَصَرِهِ ، وَفِعْلُ مَا يُخَافُ مِنْهُ ذَهَابُ الْبَصَرِ أَوْ نَقْصُهُ مِنْ غَيْرِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا .
( 139 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ وَتَخْلِيلُ مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مَسْنُونٌ ، وَهُوَ فِي الرِّجْلَيْنِ آكَدُ ؛ { لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ : أَسْبِغْ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ الْأَصَابِعَ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ وَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ بْنُ شَدَّادٍ : { : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَوَضَّأَ دَلَكَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَلِّلَ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَيَبْدَأُ فِي تَخْلِيلِ الْيُمْنَى مِنْ خِنْصَرِهَا إلَى إبْهَامِهَا ، وَفِي الْيُسْرَى مِنْ إبْهَامِهَا إلَى خِنْصَرِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي وُضُوئِهِ .
وَفِي هَذَا تَيَمُّنٌ ( 140 ) فَصْلٌ : ` وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْرُكَ رِجْلَهُ بِيَدِهِ ، وَيَتَعَهَّدَ عَقِبَيْهِ ، وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي يَزْلَقُ عَنْهَا الْمَاءُ ، قَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَحْمَدَ : إذَا تَوَضَّأَ فَأَدْخَلَ رِجْلَهُ فِي الْمَاءِ ، فَأَخْرَجَهَا ؟ قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُمِرَّ يَدَهُ عَلَى رِجْلِهِ ، وَيُخَلِّلَ أَصَابِعَهُ .
قُلْت : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، يُجْزِئُهُ ؟ قَالَ : أَرْجُو أَنْ يُجْزِئُهُ مِنْ التَّخْلِيلِ أَنْ يُحَرِّكَ رِجْلَهُ فِي الْمَاءِ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا زَلَقَ الْمَاءُ عَنْ الْجَسَدِ فِي الشِّتَاءِ .
قِيلَ لَهُ : مَنْ تَوَضَّأَ يُحَرِّكُ خَاتَمَهُ ؟ قَالَ : إنْ كَانَ ضَيِّقًا لَا بُدَّ أَنْ يُحَرِّكَهُ ، وَإِنْ كَانَ وَاسِعًا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَاءُ أَجْزَأَهُ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو رَافِعٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ إذَا تَوَضَّأَ حَرَّكَ خَاتَمَهُ .
} وَإِذَا شَكَّ فِي وُصُولِ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ وَجَبَ تَحْرِيكُهُ ؛ لِيَتَيَقَّنَ وُصُولَ الْمَاءِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُصُولِهِ .
وَإِنْ الْتَفَّ بَعْضُ أَصَابِعِهِ عَلَى
بَعْضٍ وَكَانَ مُتَّصِلًا ، لَمْ يَجِبْ فَصْلُ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا كَأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلْتَصِقًا وَجَبَ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى مَا بَيْنَهُمَا .
( 141 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَغَسْلُ الْمَيَامِنِ قَبْلَ الْمَيَاسِرِ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ - فِيمَا عَلِمْنَا - فِي اسْتِحْبَابِ الْبُدَاءَةِ بِالْيُمْنَى ، وَمِمَّنْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ ، وَأَهْلُ الشَّامِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ بَدَأَ بِيَسَارِهِ قَبْلَ يَمِينِهِ .
وَأَصْلُ الِاسْتِحْبَابِ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْجِبُهُ ذَلِكَ ، وَيَفْعَلُهُ ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا تَوَضَّأْتُمْ فَابْدَءُوا بِمَيَامِنِكُمْ } .
رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ .
وَحَكَى عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، { وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَبَدَأَ بِالْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى .
} رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ ، وَكَذَا الرِّجْلَانِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَأَيْدِيَكُمْ ، وَأَرْجُلَكُمْ .
} وَلَمْ يُفَصِّلْ ، وَالْفُقَهَاءُ يُسَمُّونَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ أَرْبَعَةً ، يَجْعَلُونَ الْيَدَيْنِ عُضْوًا ، وَالرَّجُلَيْنِ عُضْوًا ، وَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ .
بَابُ فَرْضِ الطَّهَارَةِ ( 142 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَفَرْضُ الطَّهَارَةِ مَاءٌ طَاهِرٌ ، وَإِزَالَةُ الْحَدَثِ أَرَادَ بِالطَّاهِرِ : الطَّهُورَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى أَنَّ الطَّهَارَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمَاءِ الطَّهُورِ .
وَعَنَى بِإِزَالَةِ الْحَدَثِ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْأَحْجَارِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ ذَلِكَ بِحَالَةِ وُجُودِ الْحَدَثِ ، كَمَا تَقَيَّدَ اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ بِحَالَةِ وُجُودِهِ .
وَسَمَّى هَذَيْنِ فَرْضَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِنْ شَرَائِطِ الْوُضُوءِ ، وَشَرَائِطُ الشَّيْءِ وَاجِبَةٌ لَهُ ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْفَرْضُ وَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ اشْتِرَاطُ الِاسْتِنْجَاءِ لِصِحَّةِ الْوُضُوءِ ، فَلَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ لَمْ يَصِحَّ كَالتَّيَمُّمِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ : يَصِحُّ الْوُضُوءُ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ ، وَيَسْتَجْمِرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَحْجَارِ ، أَوْ يَغْسِلُ فَرْجَهُ بِحَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يَمَسُّ الْفَرْجَ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ ، وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهَا إزَالَةُ نَجَاسَةٍ ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ لِصِحَّةِ الطَّهَارَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْفَرْجِ .
فَأَمَّا التَّيَمُّمُ قَبْلَ الِاسْتِجْمَارِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَصِحُّ وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِلصَّلَاةِ ، وَمَنْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ يُمْكِنُهُ إزَالَتُهَا لَا تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ ، فَلَمْ تَصِحَّ نِيَّةُ الِاسْتِبَاحَةِ كَالتَّيَمُّمِ قَبْلَ الْوَقْتِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ فَأَشْبَهَتْ طَهَارَةَ الْوُضُوءِ ، وَالْمَنْعُ مِنْ الْإِبَاحَةِ لِمَانِعٍ آخَرَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ التَّيَمُّمِ ، كَمَا لَوْ تَيَمَّمَ فِي مَوْضِعٍ نُهِيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ ، أَوْ تَيَمَّمَ مَنْ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ أَوْ عَلَى بَدَنِهِ فِي غَيْرِ الْفَرْجِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى غَيْرِ الْفَرْجِ مِنْ بَدَنِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْفَرْجِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ
الْعِلَّةِ .
وَالْأَشْبَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَوْ افْتَرَقَا فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ ؛ وَلِأَنَّ نَجَاسَةَ الْفَرْجِ سَبَبُ وُجُوبِ التَّيَمُّمِ ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهَا مَانِعًا مِنْهُ ، بِخِلَافِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ .
( 143 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالنِّيَّةُ لِلطَّهَارَةِ يَعْنِي نِيَّةَ الطَّهَارَةِ .
وَالنِّيَّةُ : الْقَصْدُ ، يُقَالُ : نَوَاك : اللَّهُ بِخَيْرٍ .
أَيْ قَصَدَك بِهِ .
وَنَوَيْت السَّفَرَ .
أَيْ : قَصَدْته ، وَعَزَمْت عَلَيْهِ .
وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ الطَّهَارَةِ لِلْأَحْدَاثِ كُلِّهَا ، لَا يَصِحُّ وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ وَلَا تَيَمُّمٌ ، إلَّا بِهَا .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي التَّيَمُّمِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } الْآيَةَ ، ذَكَرَ الشَّرَائِطَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ ، وَلَوْ كَانَتْ شَرْطًا لَذَكَرَهَا ؛ وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ حُصُولُ الْإِجْزَاءِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، فَتَقْضِي الْآيَةُ حُصُولَ الْإِجْزَاءِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ بِالْمَاءِ ، فَلَمْ تَفْتَقِرْ إلَى النِّيَّةِ كَغَسْلِ النَّجَاسَةِ .
وَلَنَا : مَا رَوَى عُمَرُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُ عَمَلٌ شَرْعِيٌّ بِدُونِ النِّيَّةِ ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ ، فَلَمْ تَصِحَّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ ، وَالْآيَةُ حُجَّةٌ لَنَا ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ { : إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } .
أَيْ : لِلصَّلَاةِ ، كَمَا يُقَالُ : إذَا لَقِيت الْأَمِيرَ فَتَرَجَّلْ .
أَيْ : لَهُ وَإِذَا رَأَيْت الْأَسَدَ فَاحْذَرْ .
أَيْ : مِنْهُ ، وَقَوْلُهُمْ : ذَكَرَ كُلَّ الشَّرَائِطِ .
قُلْنَا : إنَّمَا ذَكَرَ أَرْكَانَ الْوُضُوءِ ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْطَهُ كَآيَةِ التَّيَمُّمِ .
وَقَوْلُهُمْ : مُقْتَضَى الْأَمْرِ حُصُولُ الْإِجْزَاءِ .
قُلْنَا : بَلْ مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الْفِعْلِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ .
فَاشْتُرِطَ لِصِحَّتِهِ شَرْطٌ آخَرُ ، بِدَلِيلِ
التَّيَمُّمِ وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا طَهَارَةٌ .
قُلْنَا : إلَّا أَنَّهَا عِبَادَةٌ ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَنْوِيَّةً ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَطَاعَةٌ لَهُ ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ .
( 144 ) فَصْلٌ : وَمَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ ؛ إذْ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَصْدِ ، وَمَحَلُّ الْقَصْدِ الْقَلْبُ ، فَمَتَى اعْتَقَدَ بِقَلْبِهِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِلِسَانِهِ وَإِنْ لَمْ تَخْطِرْ النِّيَّةُ بِقَلْبِهِ لَمْ يُجْزِهِ .
وَلَوْ سَبَقَ لِسَانُهُ إلَى غَيْرِ مَا اعْتَقَدَهُ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ مَا اعْتَقَدَهُ بِقَلْبِهِ .
( 145 ) فَصْلٌ : وَصِفَتُهَا أَنْ يَقْصِدَ بِطَهَارَتِهِ اسْتِبَاحَةَ شَيْءٍ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا بِهَا ، كَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ ، وَيَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ ، وَمَعْنَاهُ إزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْ كُلِّ فِعْلٍ يَفْتَقِرُ إلَى الطَّهَارَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَنْ وَافَقَنَا عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ ، لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلَافًا .
فَإِنْ نَوَى بِالطَّهَارَةِ مَا لَا تُشْرَعُ لَهُ الطَّهَارَةُ ؛ كَالتَّبَرُّدِ وَالْأَكْلِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِ ، وَلَمْ يَنْوِ الطَّهَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ ، لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الطَّهَارَةَ ، وَلَا مَا يَتَضَمَّنُ نِيَّتَهَا ، فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ ، كَاَلَّذِي لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا .
وَإِنْ نَوَى تَجْدِيدَ الطَّهَارَةِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا ، فَهَلْ تَصِحُّ طَهَارَتُهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مَا نَوَاهُ ، وَلِلْخَبَرِ ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ .
وَالثَّانِيَةُ لَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ وَلَا مَا تَضَمَّنَهُ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى التَّبَرُّدَ .
وَإِنْ نَوَى مَا تُشْرَعُ لَهُ الطَّهَارَةُ وَلَا تُشْتَرَطُ ، كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَذَانِ وَالنَّوْمِ ، فَهَلْ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَصْلُهُمَا ، إذَا نَوَى تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ وَهُوَ مُحْدِثٌ ، وَالْأَوْلَى صِحَّةُ طَهَارَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى شَيْئًا مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ ، وَهُوَ الْفَضِيلَةُ الْحَاصِلَةُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ ، فَصَحَّتْ طَهَارَتُهُ ، كَمَا لَوْ نَوَى بِهَا مَا لَا يُبَاحُ إلَّا بِهَا ؛ وَلِأَنَّهُ نَوَى طَهَارَةً شَرْعِيَّةً ، فَصَحَّتْ لِلْخَبَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَبْطُلُ هَذَا بِمَا لَوْ نَوَى بِطَهَارَتِهِ مَا لَا تُشْرَعُ لَهُ الطَّهَارَةُ .
قُلْنَا : إنْ نَوَى طَهَارَةً شَرْعِيَّةً ، مِثْلُ إنْ قَصَدَ أَنْ يَأْكُلَ وَهُوَ مُتَطَهِّرٌ طَهَارَةً شَرْعِيَّةً ، أَوْ قَصَدَ أَنْ لَا يَزَالَ عَلَى وُضُوءٍ ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا ، وَتَصِحُّ طَهَارَتُهُ .
وَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ نَظَافَةَ أَعْضَائِهِ مِنْ وَسَخٍ أَوْ طِينٍ أَوْ غَيْرِهِ ، لَمْ تَصِحَّ طَهَارَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهَا ، وَإِنْ نَوَى وُضُوءًا مُطْلَقًا أَوْ طَهَارَةً ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَصَحُّهُمَا صِحَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ وَالطَّهَارَةَ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إطْلَاقُهُمَا إلَى الْمَشْرُوعِ ، فَيَكُونُ نَاوِيًا لَوُضُوءٍ شَرْعِيٍّ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : لَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ مَا يُبَاحُ بِدُونِ الطَّهَارَةِ ، أَشْبَهَ قَاصِدَ الْأَكْلِ ، وَالطَّهَارَةُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ وَإِلَى غَيْرِهِ ، فَلَمْ تَصِحَّ مَعَ التَّرَدُّدِ .
وَإِنْ نَوَى بِطَهَارَتِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ وَتَبْرِيدَ أَعْضَائِهِ ، صَحَّتْ طَهَارَتُهُ ؛ لِأَنَّ التَّبْرِيدَ يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا الِاشْتِرَاكُ ، كَمَا لَوْ قَصَدَ بِالصَّلَاةِ الطَّاعَةَ وَالْخَلَاصَ مِنْ خَصْمِهِ .
وَإِنْ قَصَدَ الْجُنُبُ بِالْغُسْلِ اللُّبْثَ فِي الْمَسْجِدِ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِذَلِكَ .
( 146 ) فَصْلٌ وَيَجِبُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهَا شَرْطٌ لَهَا ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهَا فِي جَمِيعِهَا ، فَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ النِّيَّةِ لَمْ يُعْتَدُّ بِهِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ غَسْلِ كَفَّيْهِ ، لِتَشْمَلَ النِّيَّةُ مَسْنُونَ الطَّهَارَةِ وَمَفْرُوضَهَا .
فَإِنْ غَسَلَ كَفَّيْهِ قَبْلَ النِّيَّةِ كَانَ كَمَنْ لَمْ يَغْسِلْهُمَا .
وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ ، كَقَوْلِنَا فِي الصَّلَاةِ ، وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ .
وَيُسْتَحَبُّ اسْتِصْحَابُ ذِكْرِ النِّيَّةِ إلَى آخِرِ طَهَارَتِهِ ؛ لِتَكُونَ أَفْعَالُهُ مُقْتَرِنَةً بِالنِّيَّةِ ، فَإِنْ اسْتَصْحَبَ حُكْمَهَا أَجْزَأَهُ .
وَمَعْنَاهُ : أَنْ لَا يَنْوِيَ قَطْعَهَا .
وَإِنْ عَزَبَتْ عَنْ خَاطِرِهِ ، وَذَهَلَ عَنْهَا ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي قَطْعِهَا ؛ لِأَنَّ مَا اُشْتُرِطَتْ لَهُ النِّيَّةُ لَا يَبْطُلُ بِعُزُوبِهَا ، وَالذُّهُولِ عَنْهَا ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ .
وَإِنْ قَطَعَ نِيَّتَهُ فِي أَثْنَائِهَا مِثْلُ أَنْ يَنْوِيَ أَنْ لَا يُتِمَّ طَهَارَتَهُ ، أَوْ إنْ نَوَى جَعْلَ الْغُسْلِ لِغَيْرِ الطَّهَارَةِ ، لَمْ يَبْطُلْ مَا مَضَى مِنْ طَهَارَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِقَطْعِ النِّيَّةِ بَعْدَهُ ، كَمَا لَوْ نَوَى قَطْعَ النِّيَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْوُضُوءِ ، وَمَا أَتَى بِهِ مِنْ الْغُسْلِ بَعْدَ قَطْعِ النِّيَّةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بِغَيْرِ شَرْطِهِ .
فَإِنْ أَعَادَ غُسْلَهُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ طُولِ الْفَصْلِ ، صَحَّتْ طَهَارَتُهُ ؛ لِوُجُودِ أَفْعَالِ الطَّهَارَةِ كُلِّهَا مَنْوِيَّةً مُتَوَالِيَةً .
وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ ، انْبَنَى ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ ، فَإِنْ قُلْنَا : هِيَ وَاجِبَةٌ .
بَطَلَتْ طَهَارَتُهُ ؛ لِفَوَاتِهَا ، وَإِنْ قُلْنَا : هِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ أَتَمَّهَا .
( 147 ) فَصْلٌ وَإِنْ شَكَّ فِي النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الطَّهَارَةِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَكَّ فِي شَرْطِهَا وَهُوَ فِيهَا ، فَلَمْ تَصِحَّ كَالصَّلَاةِ ، إلَّا أَنَّ النِّيَّةَ إنَّمَا هِيَ الْقَصْدُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ مُقَارَنَتُهَا ، فَمَهْمَا عَلِمَ أَنَّهُ جَاءَ لِيَتَوَضَّأَ وَأَرَادَ فِعْلَ الْوُضُوءِ مُقَارِنًا لَهُ أَوْ سَابِقًا عَلَيْهِ قَرِيبًا مِنْهُ فَقَدْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ ، وَإِنْ شَكَّ فِي وُجُودِ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الطَّهَارَةِ لَمْ يَصِحَّ مَا فَعَلَهُ مِنْهَا ، وَهَكَذَا إنْ شَكَّ فِي غَسْلِ عُضْوٍ أَوْ مَسْحِ رَأْسِهِ ، كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَهْمًا كَالْوَسْوَاسِ ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ .
وَإِنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى شَكِّهِ ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي الْعِبَادَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا ، أَشْبَهَ الشَّكَّ فِي شَرْطِ الصَّلَاةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ الطَّهَارَةُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا بَاقٍ ، بِدَلِيلِ بُطْلَانِهَا بِمُبْطِلَاتِهَا ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَحْكُومًا ؛ بِصِحَّتِهَا قَبْلَ شَكِّهِ ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِالشَّكِّ ، كَمَا لَوْ شَكَّ فِي وُجُودِ الْحَدَثِ الْمُبْطِلِ .
( 148 ) فَصْلٌ وَإِذَا وَضَّأَهُ غَيْرُهُ اُعْتُبِرَتْ النِّيَّةُ مِنْ الْمُتَوَضِّئِ دُونَ الْمُوَضِّئِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَضِّئَ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالْوُضُوءِ ، وَالْوُضُوءُ يَحْصُلُ لَهُ بِخِلَافِ الْمُوَضِّئِ ، فَإِنَّهُ آلَةٌ لَا يُخَاطَبُ بِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ فَأَشْبَهَ الْإِنَاءَ أَوْ حَامِلَ الْمَاءِ إلَيْهِ .
( 149 ) فَصْلٌ وَإِذَا تَوَضَّأَ وَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ وَصَلَّى الْعَصْرَ ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ تَرَكَ مَسْحَ رَأْسِهِ ، أَوْ وَاجِبًا فِي الطَّهَارَةِ فِي أَحَدِ الْوُضُوءَيْنِ ، لَزِمَهُ إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاتَيْنِ مَعًا ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بُطْلَانَ أَحَدِ الصَّلَاتَيْنِ لَا بِعَيْنِهَا .
وَكَذَا لَوْ تَرَكَ وَاجِبًا فِي وُضُوءِ إحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهُ ، لَزِمَهُ إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ صَلَاةً مِنْ خَمْسٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا ، فَلَزِمَتْهُ ، كَمَا لَوْ نَسِيَ صَلَاةً فِي يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا ، وَإِنْ كَانَ الْوُضُوءُ تَجْدِيدًا لَا عَنْ حَدَثٍ ، وَقُلْنَا إنَّ التَّجْدِيدَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ ، فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : يَرْفَعُ الْحَدَثَ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ الْأُولَى إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فَصَلَاتُهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ لَمْ تَبْطُلْ بِالتَّجْدِيدِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فَقَدْ ارْتَفَعَ الْحَدَثُ بِالتَّجْدِيدِ .
( 150 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَغَسْلُ الْوَجْهِ ، وَهُوَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ إلَى مَا انْحَدَرَ مِنْ اللَّحْيَيْنِ وَالذَّقَنِ وَإِلَى أُصُولِ الْأُذُنَيْنِ ، وَيَتَعَاهَدُ الْمِفْصَلَ ، وَهُوَ مَا بَيْنَ اللِّحْيَةِ وَالْأُذُنِ .
غَسْلُ الْوَجْهِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ، وَقَوْلُهُ : مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ ، أَيْ فِي غَالِبِ النَّاسِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ ، بَلْ لَوْ كَانَ أَجْلَحَ يَنْحَسِرُ شَعْرُهُ عَنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ ، غَسَلَ إلَى حَدِّ مَنَابِتِ الشَّعْرِ فِي الْغَالِبِ ، وَالْأَفْرَعُ الَّذِي يَنْزِلُ شَعْرُهُ إلَى الْوَجْهِ ، يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الشَّعْرِ الَّذِي يَنْزِلُ عَنْ حَدِّ الْغَالِبِ .
وَذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إلَى أَنَّ الْأُذُنَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ يُغْسَلَانِ مَعَهُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { سَجَدَ وَجْهِي لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ .
} أَضَافَ السَّمْعَ إلَيْهِ كَمَا أَضَافَ الْبَصَرَ .
وَقَالَ مَالِكٌ مَا بَيْنَ اللِّحْيَةِ وَالْأُذُنِ لَيْسَ مِنْ الْوَجْهِ وَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ ، وَهَذَا لَا يُوَاجَهُ بِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ قَالَ بِقَوْلِ مَالِكٍ هَذَا .
وَلَنَا عَلَى الزُّهْرِيِّ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ } .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالرُّبَيِّعِ ، وَالْمِقْدَامِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ أُذُنَيْهِ مَعَ رَأْسِهِ .
} وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا .
وَلَمْ يَحْكِ أَحَدٌ أَنَّهُ غَسَلَهُمَا مَعَ الْوَجْهِ ، وَإِنَّمَا أَضَافَهُمَا إلَى الْوَجْهِ لِمُجَاوَرَتِهِمَا لَهُ ، وَالشَّيْءُ يُسَمَّى بِاسْمِ مَا جَاوَرَهُ .
وَلَنَا عَلَى مَالِكٍ أَنَّ هَذَا مِنْ الْوَجْهِ فِي حَقِّ مَنْ لَا لِحْيَةَ لَهُ ، فَكَانَ مِنْهُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ لِحْيَةٌ كَسَائِرِ الْوَجْهِ .
وَقَوْلُهُ : إنَّ الْوَجْهَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ .
قُلْنَا : وَهَذَا يَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ فِي الْغُلَامِ .
وَيُسْتَحَبُّ تَعَاهُدُ هَذَا الْمَوْضِعِ
بِالْغَسْلِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ ، قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : أَرَانِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَا بَيْنَ أُذُنِهِ وَصُدْغِهِ ، وَقَالَ : هَذَا مَوْضِعٌ يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَاهَدَ .
وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِفْصَلُ اللَّحْيِ مِنْ الْوَجْهِ ، فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ الْخِرَقِيِّ مِفْصَلًا .
( 151 ) فَصْلٌ وَيَدْخُلُ فِي الْوَجْهِ الْعِذَارُ ، وَهُوَ الشَّعْرُ الَّذِي عَلَى الْعَظْمِ النَّاتِئِ الَّذِي هُوَ سَمْتُ صِمَاخِ الْأُذُنِ ، وَمَا انْحَطَّ عَنْهُ إلَى وَتَدِ الْأُذُنِ .
وَالْعَارِضُ : وَهُوَ مَا نَزَلَ عَنْ حَدِّ الْعِذَارِ ، وَهُوَ الشَّعْرُ الَّذِي عَلَى اللَّحْيَيْنِ .
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَالْمُفَضَّلُ بْنُ سَلَمَةَ : مَا جَاوَزَ وَتَدَ الْأُذُنِ عَارِضٌ .
وَالذَّقَنُ : مَجْمَعُ اللَّحْيَيْنِ .
فَهَذِهِ الشُّعُورُ الثَّلَاثَةُ مِنْ الْوَجْهِ يَجِبُ غَسْلُهَا مَعَهُ .
وَكَذَلِكَ الشُّعُورُ الْأَرْبَعَةُ ، وَهِيَ الْحَاجِبَانِ ، وَأَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ ، وَالْعَنْفَقَةُ ، وَالشَّارِبُ .
فَأَمَّا الصُّدْغُ ، وَهُوَ الشَّعْرُ الَّذِي بَعْدُ انْتِهَاءِ الْعِذَارِ ، وَهُوَ مَا يُحَاذِي رَأْسَ الْأُذُنِ وَيَنْزِلُ عَنْ رَأْسِهَا قَلِيلًا ، وَالنَّزْعَتَانِ ، وَهُمَا مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الشَّعْرُ مِنْ الرَّأْسِ مُتَصَاعِدًا فِي جَانِبَيْ الرَّأْسِ ، فَهُمَا مِنْ الرَّأْسِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي الصُّدْغِ وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّهُ مِنْ الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْعِذَارِ ، أَشْبَهَ الْعَارِضَ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذٍ قَالَتْ : { رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ رَأْسَهُ ، وَمَسَحَ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ ، وَصُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ ، مَرَّةً وَاحِدَةً .
} فَمَسَحَهُ مَعَ الرَّأْسِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ غَسَلَهُ مَعَ الْوَجْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ مُتَّصِلٌ بِشَعْرِ الرَّأْسِ لَا يَخْتَصُّ الْكَبِيرَ ، فَكَانَ مِنْ الرَّأْسِ ، كَسَائِرِ نَوَاحِيهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْقِيَاسِ طَرْدِيٌّ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ ، وَلَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِنَا .
فَأَمَّا التَّحْذِيفُ ، وَهُوَ الشَّعْرُ الدَّاخِلُ فِي الْوَجْهِ مَا بَيْنَ انْتِهَاءِ الْعِذَارِ وَالنَّزْعَةِ ، فَهُوَ مِنْ الْوَجْهِ .
ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ الرَّأْسِ ؛ لِأَنَّهُ شَعْرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَعْرٌ لَكَانَ مِنْ الْوَجْهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَيْهِ شَعْرٌ ، كَسَائِرِ
الْوَجْهِ .
( 152 ) فَصْلٌ : وَهَذِهِ الشُّعُورُ كُلُّهَا إنْ كَانَتْ كَثِيفَةً لَا تَصِفُ الْبَشَرَةَ ، أَجْزَأَهُ غَسْلُ ظَاهِرِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ تَصِفُ الْبَشَرَةَ ، وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَهُ .
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا كَثِيفًا وَبَعْضُهَا خَفِيفًا ، وَجَبَ غَسْلُ بَشَرَةِ الْخَفِيفِ مَعَهُ وَظَاهِرِ الْكَثِيفِ .
أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ ذَكَرَ فِي الشَّارِبِ ، وَالْعَنْفَقَةِ ، وَالْحَاجِبَيْنِ ، وَأَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ ، وَلِحْيَةِ الْمَرْأَةِ ، وَجْهًا آخَرَ فِي وُجُوبِ غَسْلِ بَاطِنِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتُرُ مَا تَحْتَهَا عَادَةً ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ كَانَ نَادِرًا ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَنَا أَنَّهُ شَعْرٌ سَاتِرٌ لِمَا تَحْتَهُ ، أَشْبَهَ لِحْيَةَ الرَّجُلِ ، وَدَعْوَى النُّدْرَةِ فِي الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ وَالْعَنْفَقَةِ ، غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، بَلْ الْعَادَةُ ذَلِكَ .
( 153 ) فَصْلٌ : وَمَتَى غَسَلَ هَذِهِ الشُّعُورَ ، ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ ، أَوْ انْقَلَعَتْ جِلْدَةٌ مِنْ يَدَيْهِ ، أَوْ قَصَّ ظُفْرَهُ أَوْ انْقَلَعَ ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِي طَهَارَتِهِ .
قَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ مَا زَادَهُ ذَلِكَ إلَّا طَهَارَةً .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ ظُهُورَ بَشَرَةِ الْوَجْهِ بَعْدَ غَسْلِ شَعْرِهِ يُوجِبُ غَسْلَهَا ، قِيَاسًا عَلَى ظُهُورِ قَدَمِ الْمَاسِحِ عَلَى الْخُفِّ ، وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ إلَى الشَّعْرِ أَصْلًا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْبَشَرَةَ دُونَ الشَّعْرِ ، لَمْ يُجْزِهِ ، بِخِلَافِ الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهُمَا بَدَلٌ يُجْزِئُ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ دُونَهُمَا .
( 154 ) فَصْلٌ وَيَجِبُ غَسْلُ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ اللِّحْيَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يَجِبُ غَسْلُ مَا نَزَلَ مِنْهَا عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ طُولًا وَعَرْضًا ؛ لِأَنَّهُ شَعْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ ، فَأَشْبَهَ مَا نَزَلَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ عَنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ غَسْلُ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْمُوَاجَهَةُ ، وَالشَّعْرُ لَيْسَ بِبَشَرَةٍ ، وَمَا تَحْتَهُ لَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ .
وَقَدْ قَالَ الْخَلَّالُ الَّذِي ثَبَتَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي اللِّحْيَةِ أَنَّهُ لَا يَغْسِلُهَا وَلَيْسَتْ مِنْ الْوَجْهِ أَلْبَتَّةَ .
قَالَ : وَرَوَى بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيُّمَا أَعْجَبُ إلَيْك غَسْلُ اللِّحْيَةِ أَوْ التَّخْلِيلُ ؟ فَقَالَ : غَسْلُهَا لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يُخَلِّلْ أَجْزَأْهُ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ مِثْلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ عَنْهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْوَجْهِ مِنْهَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَلَيْهِ غَسْلَ الرُّبْعِ مِنْ اللِّحْيَةِ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ ، وُجُوبُ غَسْلِ اللِّحْيَةِ كُلِّهَا مِمَّا هُوَ نَابِتٌ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ ، سَوَاءٌ حَاذَى مَحَلَّ الْفَرْضِ أَوْ تَجَاوَزَهُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَوْلُ أَحْمَدَ فِي نَفْيِ الْغَسْلِ ، أَرَادَ بِهِ غَسْلَ بَاطِنِهَا ، أَيْ غَسْلُ بَاطِنِهَا لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَدْ غَطَّى لِحْيَتَهُ فِي الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : اكْشِفْ وَجْهَكَ ؛ فَإِنَّ اللِّحْيَةَ مِنْ الْوَجْهِ } ؛ وَلِأَنَّهُ نَابِتٌ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ يَدْخُلُ فِي اسْمِهِ ظَاهِرًا ، فَأَشْبَهَ الْيَدَ الزَّائِدَةَ ؛
وَلِأَنَّهُ يُوَاجَهُ بِهِ ، فَيَدْخُلُ فِي اسْمِ الْوَجْهِ ، وَيُفَارِقُ شَعْرَ الرَّأْسِ ، فَإِنَّ النَّازِلَ عَنْهُ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِهِ ، وَالْخُفُّ لَا يَجِبُ مَسْحُ جَمِيعِهِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ .
( 155 ) فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَزِيدَ فِي مَاءِ الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ غُضُونًا وَشُعُورًا وَدَوَاخِلَ وَخَوَارِجَ ، لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى جَمِيعِهِ ، وَقَدْ رَوَى عَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي الْإِنَاءِ جَمِيعًا ، فَأَخَذَ بِهِمَا حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَضَرَبَ بِهِمَا عَلَى وَجْهِهِ ، ثُمَّ الثَّانِيَةَ ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ مِثْلُ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَخَذَ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى قَبْضَةً مِنْ مَاءٍ فَتَرَكَهَا تَسْتَنُّ عَلَى وَجْهِهِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَوْلُهُ : ( تَسْتَنُّ ) أَيْ : تَسِيلُ وَتَنْصَبُّ .
قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُؤْخَذُ لِلْوَجْهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُؤْخَذُ لِعُضْوٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ : كَرِهَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ ، ثُمَّ يَصُبَّهُ ، ثُمَّ يَغْسِلَ وَجْهَهُ ، وَقَالَ : هَذَا مَسْحٌ ، وَلَكِنَّهُ يَغْسِلُ غَسْلًا .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد .
عَنْ أَنَسٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ ، وَقَالَ : هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ .
}
( 156 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَالْفَمُ وَالْأَنْفُ مِنْ الْوَجْهِ .
يَعْنِي أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبَانِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ جَمِيعًا : الْغُسْلُ ، وَالْوُضُوءُ ؛ فَإِنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ وَاجِبٌ فِيهِمَا .
هَذَا الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ وَحُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى فِي الِاسْتِنْشَاقِ وَحْدَهُ أَنَّهُ وَاجِبٌ .
قَالَ الْقَاضِي : الِاسْتِنْشَاقُ وَاجِبٌ فِي الطَّهَارَتَيْنِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ } .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : { إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِمُسْلِمٍ : { مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ } .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، مَرْفُوعًا { اسْتَنْثِرُوا مَرَّتَيْنِ بَالِغَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا } .
وَهَذَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ؛ وَلِأَنَّ الْأَنْفَ لَا يَزَالُ مَفْتُوحًا ، وَلَيْسَ لَهُ غِطَاءٌ يَسْتُرُهُ ، بِخِلَافِ الْفَمِ .
وَقَالَ غَيْرُ الْقَاضِي ، عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى : إنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبَانِ فِي الْكُبْرَى ، مَسْنُونَانِ فِي الصُّغْرَى .
وَهَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ الْكُبْرَى يَجِبُ فِيهَا غَسْلُ كُلِّ مَا أَمْكَنَ مِنْ الْبَدَنِ كَبَوَاطِنِ الشُّعُورِ الْكَثِيفَةِ ، وَلَا يَمْسَحُ فِيهَا عَنْ الْحَوَائِلِ ، فَوَجَبَا فِيهَا ، بِخِلَافِ الصُّغْرَى .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجِبَانِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ ، وَإِنَّمَا هُمَا مَسْنُونَانِ فِيهِمَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَقَتَادَةَ وَرَبِيعَةَ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ وَاللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ } ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ ، وَالْفِطْرَةُ : السُّنَّةُ ، وَذِكْرُهُ لَهُمَا مِنْ الْفِطْرَةِ يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِمَا
لِسَائِرِ الْوُضُوءِ ؛ وَلِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ عُضْوَانِ بَاطِنَانِ ، فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا كَبَاطِنِ اللِّحْيَةِ وَدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَجْهَ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ ، وَلَا تَحْصُلُ الْمُوَاجَهَةُ بِهِمَا .
وَلَنَا مَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ مِنْ الْوُضُوءِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ } .
رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَقْصِيًا ، ذَكَرَ أَنَّهُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ، وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَيْهِمَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِمَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَتَفْصِيلًا لِلْوُضُوءِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَكَوْنُهُمَا مِنْ الْفِطْرَةِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهُمَا ، لِاشْتِمَالِ الْفِطْرَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ فِيهَا الْخِتَانَ ، وَهُوَ وَاجِبٌ .
( 157 ) فَصْلٌ : وَالْمَضْمَضَةُ : إدَارَةُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ .
وَالِاسْتِنْشَاقُ : اجْتِذَابُ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ إلَى بَاطِنِ الْأَنْفِ .
وَالِاسْتِنْثَارُ : إخْرَاجُ الْمَاءِ مِنْ أَنْفِهِ .
وَلَكِنْ يُعَبَّرُ بِالِاسْتِنْثَارِ عَنْ الِاسْتِنْشَاقِ ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ لَوَازِمِهِ .
وَلَا يَجِبُ إدَارَةُ الْمَاءِ فِي جَمِيعِ الْفَمِ ، وَلَا إيصَالَ الْمَاءِ إلَى جَمِيعِ بَاطِنِ الْأَنْفِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الصَّائِمِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُنَنِ الطَّهَارَةِ .
وَإِذَا أَدَارَ الْمَاءَ فِي فِيهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ مَجِّهِ وَبَلْعِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ بِهِ ، فَإِنْ جَعَلَهُ فِي فِيهِ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ ، فَنَوَى رَفْعَ الْحَدَثَيْنِ ، ارْتَفَعَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ
قَدْ لَبِثَ فِي فِيهِ حَتَّى تَحَلَّلَ مِنْ رِيقِهِ مَاءٌ يُغَيِّرُهُ لَمْ يَمْنَعْ ؛ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ فِي مَحَلِّ الْإِزَالَةِ لَا يَمْنَعُ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَغَيَّرَ الْمَاءُ عَلَى عُضْوِهِ بِعَجِينٍ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ بِيُمْنَاهُ ، ثُمَّ يَسْتَنْثِرَ بِيُسْرَاهُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { تَوَضَّأَ ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ غَرَفَ بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ رَفَعَهَا إلَى فِيهِ ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ بِكَفٍّ وَاحِدَةٍ ، وَاسْتَنْثَرَ بِيُسْرَاهُ ، وَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا - ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ الْوُضُوءِ - ثُمَّ قَالَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ لَنَا كَمَا تَوَضَّأْت لَكُمْ ، فَمَنْ كَانَ سَائِلًا عَنْ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا وُضُوءُهُ .
} رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، بِإِسْنَادِهِ .
وَعَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الْإِنَاءِ ، فَمَلَأَ كَفَّهُ فَتَمَضْمَضَ ، وَاسْتَنْشَقَ ، وَنَثَرَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا وُضُوءُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي ، وَالنَّسَائِيُّ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ : أَيُّمَا أَعْجَبُ إلَيْك ؛ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى حِدَةٍ ؟ قَالَ : بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي التَّوْرِ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، يُمَضْمِضُ وَيَسْتَنْثِرُ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ .
} رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَفِي لَفْظٍ : { تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَفِي لَفْظٍ : { فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ ، فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ ، { أَنَّهُ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلَاثًا بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : { فَمَضْمَضَ ثَلَاثًا وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ .
} رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
فَإِنْ شَاءَ الْمُتَوَضِّئُ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ ثَلَاثِ غَرَفَاتٍ ، وَإِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ .
وَإِنْ أَفْرَدَ الْمَضْمَضَةَ بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ ، وَالِاسْتِنْشَاقَ بِثَلَاثٍ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ؛ وَلِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ فِي الْغَسْلِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ .
( 159 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ غَسْلِ بَقِيَّةِ الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَجْزَائِهِ ، وَلَكِنْ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِهِمَا قَبْلَ الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمَا إلَّا شَيْئًا نَادِرًا .
وَهَلْ يَجِبُ التَّرْتِيبُ وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ غَيْرِ الْوَجْهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا تَجِبُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ ، فَوَجَبَ غَسْلُهُمَا قَبْلَ غَسْلِ الْيَدَيْنِ لِلْآيَةِ ، وَقِيَاسًا عَلَى سَائِرِ أَجْزَائِهِ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا تَجِبُ ، بَلْ لَوْ تَرَكَهُمَا فِي وُضُوئِهِ وَصَلَّى تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَأَعَادَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ ؛ لِمَا رَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِوَضُوءٍ ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَهُمَا بِغَيْرِ الْقُرْآنِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ التَّرْتِيبِ .
وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِيهِمَا .
قِيلَ لِأَحْمَدَ فَنَسِيَ الْمَضْمَضَةَ وَحْدَهَا ؟ قَالَ : الِاسْتِنْشَاقُ عِنْدِي آكَدُ ، وَذَلِكَ لِصِحَّةِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : وَهَلْ يُسَمَّيَانِ فَرْضًا مَعَ وُجُوبِهِمَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْوَاجِبِ ، هَلْ يُسَمَّى فَرْضًا أَوْ لَا ؟ وَالصَّحِيحُ : أَنَّهُ يُسَمَّى فَرْضًا ، فَيُسَمَّيَانِ هَاهُنَا فَرْضًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 160 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيُدْخِلُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْغَسْلِ .
لَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } .
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ إدْخَالُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْغَسْلِ ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَابْنُ دَاوُد : لَا يَجِبُ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ زَفَرَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْغَسْلِ إلَيْهِمَا ، وَجَعَلَهُمَا غَايَتَهُ بِحَرْفِ إلَى ، وَهُوَ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ ، فَلَا يَدْخُلُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ .
} وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ إلَى مِرْفَقَيْهِ .
} وَهَذَا بَيَانٌ لِلْغَسْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ ، فَإِنَّ " إلَى " تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى مَعَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ } .
أَيْ مَعَ قُوَّتِكُمْ ، { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ } ، وَ { مَنْ أَنْصَارِي إلَى اللَّهِ } .
فَكَانَ فِعْلُهُ مُبَيِّنًا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ " إلَى " لِلْغَايَةِ .
قُلْنَا : وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى مَعَ ، قَالَ الْمُبَرِّدُ : إذَا كَانَ الْحَدُّ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَلَ فِيهِ ، كَقَوْلِهِمْ : بِعْت هَذَا الثَّوْبَ مِنْ هَذَا الطَّرَفِ إلَى هَذَا الطَّرَفِ .
( 161 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خُلِقَ لَهُ إصْبَعٌ زَائِدَةٌ ، أَوْ يَدٌ زَائِدَةٌ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ ، وَجَبَ غَسْلُهَا مَعَ الْأَصْلِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا نَابِتَةٌ فِيهِ ، أَشْبَهَتْ الثُّؤْلُولَ ، وَإِنْ كَانَتْ نَابِتَةً فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ كَالْعَضُدِ أَوْ الْمَنْكِبِ ، لَمْ يَجِبْ غَسْلُهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَصِيرَةً أَوْ طَوِيلَةً ؛ لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ ، فَأَشْبَهَتْ شَعْرَ الرَّأْسِ إذَا نَزَلَ عَنْ الْوَجْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ بَعْضُهَا يُحَاذِي مَحَلَّ الْفَرْضِ غَسَلَ مَا يُحَاذِيهِ مِنْهَا .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ فِي ذَلِكَ ، كَنَحْوٍ مِمَّا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْأَصْلِيَّةَ مِنْهُمَا وَجَبَ غَسْلُهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ غَسْلَ إحْدَاهُمَا وَاجِبٌ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ يَقِينًا إلَّا بِغَسْلِهِمَا ، فَوَجَبَ غَسْلُهُمَا ، كَمَا لَوْ تَنَجَّسَتْ إحْدَى يَدَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ عَيْنَهَا .
( 162 ) فَصْلٌ : وَإِنْ انْقَلَعَتْ جِلْدَةٌ مِنْ غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ ، حَتَّى تَدَلَّتْ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ ، وَجَبَ غَسْلُهَا ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ ، فَأَشْبَهَتْ الْإِصْبَعَ الزَّائِدَةَ ، وَإِنْ تَقَلَّعَتْ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ حَتَّى صَارَتْ مُتَدَلِّيَةً مِنْ غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ ، لَمْ يَجِبْ غَسْلُهَا ؛ قَصِيرَةً كَانَتْ أَوْ طَوِيلَةً بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ مِنْ أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ ، فَالْتَحَمَ رَأْسُهَا فِي الْآخَرِ ، وَبَقِيَ وَسَطُهَا مُتَجَافِيًا ، صَارَتْ كَالنَّابِتَةِ فِي الْمَحَلَّيْنِ ، يَجِبُ غَسْلُ مَا حَاذَى مَحَلَّ الْفَرْضِ مِنْهَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا ، وَغَسْلُ مَا تَحْتَهَا مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ .
( 163 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قُطِعَتْ يَدُهُ مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ ، غَسَلَ مَا بَقِيَ مِنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ .
وَإِنْ قُطِعَتْ مِنْ الْمِرْفَقِ غَسَلَ الْعَظْمَ الَّذِي هُوَ طَرَفُ الْعَضُدِ ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الْعَظْمَيْنِ الْمُتَلَاقِيَيْنِ مِنْ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَاجِبٌ ، فَإِذَا زَالَ أَحَدُهُمَا غَسَلَ الْآخَرَ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقَيْنِ سَقَطَ الْغَسْلُ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ .
فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ فَوَجَدَ مَنْ يُوَضِّئُهُ مُتَبَرِّعًا لَزِمَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُهُ إلَّا بِأَجْرٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، لَزِمَهُ أَيْضًا كَمَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الْمَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ، كَمَا لَوْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْجَارُ مَنْ يُقِيمُهُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْأَجْرِ ، أَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ ، صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ ، كَعَادِمِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ .
وَإِنْ وَجَدَ مَنْ يُيَمِّمُهُ ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُوَضِّئُهُ ، لَزِمَهُ التَّيَمُّمُ ، كَعَادِمِ الْمَاءِ إذَا وَجَدَ التُّرَابَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
( 164 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ تَحْتَ أَظْفَارِهِ وَسَخٌ يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ إلَى مَا تَحْتَهُ ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَا تَصِحُّ طَهَارَتُهُ حَتَّى يُزِيلَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مِنْ الْيَدِ اسْتَتَرَ بِمَا لَيْسَ مِنْ خِلْقَةِ الْأَصْلِ سَتْرًا مَنَعَ إيصَالَ الْمَاءِ إلَيْهِ ، مَعَ إمْكَانِ إيصَالِهِ وَعَدَمِ الضَّرَرِ بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ شَمْعٌ أَوْ غَيْرُهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا يَسْتُرُ عَادَةً ، فَلَوْ كَانَ غَسْلُهُ وَاجِبًا لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَقَدْ عَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ كَوْنَهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِ قُلْحًا ، وَرَفَعَ أَحَدِهِمْ بَيْن أُنْمُلَتِهِ وَظُفْرِهِ .
يَعْنِي أَنَّ وَسَخَ أَرْفَاغِهِمْ تَحْت أَظْفَارِهِمْ يَصِلُ إلَيْهِ رَائِحَةُ نَتِنهَا ، فَعَابَ عَلَيْهِمْ نَتِن رِيحِهَا ، لَا بُطْلَانَ طَهَارَتهمْ ، وَلَوْ كَانَ مُبْطِلًا لِلطَّهَارَةِ كَانَ ذَلِكَ أَهَمَّ مِنْ نَتْنِ الرِّيحِ ، فَكَانَ أَحَقَّ بِالْبَيَانِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا يَسْتَتِرُ عَادَةً ، أَشْبَهَ مَا يَسْتُرُهُ الشَّعْرُ مِنْ الْوَجْهِ .
( 165 ) فَصْلٌ : وَمَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ مَاءٍ يَسِيرٍ يَغْتَرِفُ مِنْهُ بِيَدِهِ ، فَغَرَفَ مِنْهُ عِنْدَ غَسْلِ يَدَيْهِ ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِغَرْفِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ غَسْلِ الْيَدِ ، وَهُوَ نَاوٍ لِلْوُضُوءِ بِغُسْلِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ غَمَسَهَا فِي الْمَاءِ يَنْوِي غَسْلَهَا فِيهِ .
وَلَنَا أَنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ { فِي صِفَةِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ دَعَا بِمَاءٍ ، فَذَكَرَ وُضُوءَهُ - إلَى أَنْ قَالَ - وَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا ، وَغَسَلَ يَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، مَرَّتَيْنِ ، } وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ : { ثُمَّ غَرَفَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَصَبَّ عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُمْنَى ، فَغَسَلَهَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ غَرَفَ بِيَمِينِهِ فَغَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى .
} رَوَاهُمَا سَعِيدٌ .
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَغَيْرُهُ ، وَكُلُّ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْكِ أَنَّهُ تَحَرَّزَ مِنْ اغْتِرَافِ الْمَاءِ بِيَدِهِ فِي مَوْضِعِ غَسْلِهَا ، وَلَوْ كَانَ هَذَا يُفْسِدُ الْمَاءَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقَّ بِمَعْرِفَتِهِ ، وَلَوَجَبَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، إذْ كَانَ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِدُونِ الْبَيَانِ ، وَلَا يَتَوَقَّاهُ إلَّا مُتَحَذْلِقٌ ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمُغْتَرِفَ لَمْ يَقْصِدْ بِغَمْسِ يَدِهِ إلَّا الِاغْتِرَافَ دُونَ غَسْلِهَا ، فَأَشْبَهَ مَنْ يَغُوصُ فِي الْبِئْرِ لِتَرْقِيَةِ الدَّلْوِ وَعَلَيْهِ جَنَابَةٌ لَا يَقْصِدُ غَيْرَ تَرْقِيَتِهِ ، وَنِيَّةُ الِاغْتِرَافِ عَارَضَتْ نِيَّةَ الطَّهَارَةِ فَصَرَفَتْهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 166 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَسْحُ الرَّأْسِ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ مَسْحِ الرَّأْسِ ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ { فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } .
وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ ؛ فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ وُجُوبُ مَسْحِ جَمِيعِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ يُجْزِئُ مَسْحُ بَعْضِهِ .
قَالَ أَبُو الْحَارِثِ قُلْت لِأَحْمَدَ فَإِنْ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ ؟ قَالَ : يُجْزِئُهُ .
ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى الرَّأْسِ كُلِّهِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ ، وَابْنُ عُمَرَ مَسَحَ الْيَافُوخَ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِمَسْحِ الْبَعْضِ الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي حَقِّ الرَّجُلِ ، وُجُوبُ الِاسْتِيعَابِ ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ يُجْزِئُهَا مَسْحُ مُقَدَّمِ رَأْسِهَا .
قَالَ الْخَلَّالُ الْعَمَلُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهَا إنْ مَسَحَتْ مُقَدَّمَ رَأْسِهَا أَجْزَأَهَا .
وَقَالَ مُهَنَّا : قَالَ أَحْمَدُ : أَرْجُو أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَسْهَلَ .
قُلْت لَهُ : وَلِمَ ؟ قَالَ : كَانَتْ عَائِشَةُ تَمْسَحُ مُقَدَّمَ رَأْسِهَا .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ مَسْحَ الْبَعْضِ بِأَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ، رَوَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعِمَامَتِهِ .
} { وَإِنَّ عُثْمَانَ مَسَحَ مُقَدَّمَ رَأْسِهِ بِيَدِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ لَهُ مَاءً جَدِيدًا ، حِينَ حَكَى وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} رَوَاهُ سَعِيدٌ ؛ وَلِأَنَّ مَنْ مَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ يُقَالُ : مَسَحَ بِرَأْسِهِ ، كَمَا يُقَالُ : مَسَحَ بِرَأْسِ الْيَتِيمِ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ .
وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ يَنْصُرُ ذَلِكَ أَنَّ الْبَاءَ لِلتَّبْعِيضِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَامْسَحُوا بَعْضَ رُءُوسِكُمْ ، وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } ، وَالْبَاءُ
لِلْإِلْصَاقِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ .
فَيَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ .
كَمَا قَالَ فِي التَّيَمُّمِ { : وَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ } .
وَقَوْلُهُمْ : " الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ " غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَا يَعْرِفُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ ذَلِكَ ، قَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْبَاءَ تُفِيدُ التَّبْعِيضَ فَقَدْ جَاءَ أَهْلُ اللُّغَةِ بِمَا لَا يَعْرِفُونَهُ .
وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَوَضَّأَ مَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ ، وَهَذَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُبَيِّنًا لِلْمَسْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ اللَّفْظِ مَجَازٌ لَا يُعْدَلُ إلَيْهِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ .
( 167 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ مَسْحِ الْبَعْضِ ، فَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مَسَحَ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ رَأْسٌ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ عَنْ الرَّأْسِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَبَعٌ ، فَلَا يَجْتَزِئُ بِهِمَا عَنْ الْأَصْلِ ، وَالظَّاهِرُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَسْحُهُمَا ، وَإِنْ وَجَبَ الِاسْتِيعَابُ ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ عِنْدَ إطْلَاقِ لَفْظِهِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا عَلَيْهِ الشَّعْرُ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَدْرِ الْبَعْضِ الْمُجْزِئُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : قَدْرُ النَّاصِيَةِ ؛ لِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ .
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ نَاصِيَتَهُ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، عَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ إلَّا مَسْحُ أَكْثَرِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّيْءِ الْكَامِلِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِئُ مَسْحُ رُبُعِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُجْزِئُ مَسْحُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ .
وَحُكِيَ عَنْهُ : لَوْ مَسَحَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ ، وَحُكِيَ عَنْهُ : لَوْ مَسَحَ شَعْرَةً ، أَجْزَأَهُ ، لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهَا .
وَوَجْهُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي : إنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْلُحُ بَيَانًا لِمَا أَمَرَ بِهِ ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ .
( 168 ) فَصْلٌ : وَالْمُسْتَحَبُّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَنْ يَبُلَّ يَدَيْهِ ثُمَّ يَضَعَ طَرَفَ إحْدَى سَبَّابَتَيْهِ عَلَى طَرَفِ الْأُخْرَى وَيَضَعَهُمَا عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ ، وَيَضَعَ الْإِبْهَامَيْنِ عَلَى الصُّدْغَيْنِ ، ثُمَّ يُمِرَّ يَدَيْهِ إلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ يَرُدَّهُمَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ .
كَمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ { فِي وَصْفِ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَمَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ ، رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد .
فَإِنْ كَانَ ذَا شَعْرٍ يَخَافُ أَنْ يَنْتَفِشَ بِرَدِّ يَدَيْهِ لَمْ يَرُدَّهُمَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَإِنَّهُ قِيلَ لَهُ : مَنْ لَهُ شَعْرٌ إلَى مَنْكِبَيْهِ ، كَيْفَ يَمْسَحُ فِي الْوُضُوءِ ؟ فَأَقْبَلَ أَحْمَدُ بِيَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ مَرَّةً ، وَقَالَ : هَكَذَا كَرَاهِيَةَ أَنْ يَنْتَشِرَ شَعْرُهُ .
يَعْنِي أَنَّهُ يَمْسَحُ إلَى قَفَاهُ وَلَا يَرُدُّ يَدَيْهِ .
قَالَ أَحْمَدُ حَدِيثُ عَلِيٍّ هَكَذَا .
وَإِنْ شَاءَ مَسَحَ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ الرُّبَيِّعِ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ عِنْدَهَا ، فَمَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ مِنْ فَرْقِ الشَّعْرِ كُلَّ نَاحِيَةٍ لِمَصَبِّ الشَّعْرِ لَا يُحَرِّكُ الشَّعْرَ عَنْ هَيْئَتِهِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ كَيْفَ تَمْسَحُ الْمَرْأَةُ ؟ فَقَالَ : هَكَذَا .
وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ ، ثُمَّ جَرَّهَا إلَى مُقَدَّمِهِ ، ثُمَّ رَفَعَهَا فَوَضَعَهَا حَيْثُ مِنْهُ بَدَأَ ، ثُمَّ جَرَّهَا إلَى مُؤَخَّرِهِ .
وَكَيْفَ مَسَحَ بَعْدَ اسْتِيعَابِ قَدْرِ الْوَاجِبِ أَجْزَأَهُ .
( 169 ) فَصْلٌ : وَلَا يُسَنُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِهِ سَالِمٍ وَالنَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَطَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ وَالْحَكَمِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُسَنُّ تَكْرَارُهُ .
وَيَحْتَمِلُهُ كَلَامُ الْخِرَقِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ الثَّلَاثُ أَفْضَلُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : كُلُّهُمْ يَقُولُ : مَسْحُ الرَّأْسِ مَسْحَةً وَاحِدَةً .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ أَبَا دَاوُد رَوَى عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ ، قَالَ : { رَأَيْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا .
ثُمَّ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا .
} وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرَوَى عُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى ، وَأَبُو مَالِكٍ ، وَالرُّبَيِّعُ ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا .
} وَفِي حَدِيثِ أُبَيٍّ ، قَالَ : { هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْمُرْسَلِينَ قَبْلِي } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّ الرَّأْسَ أَصْلٌ فِي الطَّهَارَةِ ، فَسُنَّ تَكْرَارُهَا فِيهِ كَالْوَجْهِ .
وَلَنَا { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرُوِيَ عَنْ { عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَقَالَ : هَذَا وُضُوءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى طُهُورِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَنْظُرْ
إلَى هَذَا .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
{ وَكَذَلِكَ وَصَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ ، وَالرُّبَيِّعُ ، كُلُّهُمْ ، قَالُوا : وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً .
} وَحِكَايَتُهُمْ لِوُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخْبَارٌ عَنْ الدَّوَامِ ، وَلَا يُدَاوِمُ إلَّا عَلَى الْأَفْضَلِ الْأَكْمَلِ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حِكَايَةَ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّيْلِ حَالَ خَلْوَتِهِ ، وَلَا يَفْعَلُ فِي تِلْكَ الْحَالِ إلَّا الْأَفْضَلَ ؛ وَلِأَنَّهُ مَسْحٌ فِي طَهَارَةٍ ، فَلَمْ يُسَنَّ تَكْرَارُهُ ، كَالْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ ، وَالْمَسْحِ عَلَى الْجَبِيرَةِ ، وَسَائِرِ الْمَسْحِ ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ شَيْءٌ صَرِيحٌ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : أَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مَرَّةً ؛ فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، وَقَالُوا فِيهَا : وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ .
وَلَمْ يَذْكُرُوا عَدَدًا ، كَمَا ذَكَرُوا فِي غَيْرِهِ ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ : مَسَحَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا .
رَوَاهُ يَحْيَى بْنُ آدَمَ ، وَخَالَفَهُ وَكِيعٌ ، فَقَالَ : تَوَضَّأَ ثَلَاثًا .
فَقَطْ .
وَالصَّحِيحُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ { تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَدَدًا .
} هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَمَنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ سِوَى عُثْمَانَ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ رَوَوْا أَحَادِيثَنَا وَهِيَ صِحَاحٌ ، فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ضَعْفُ مَا خَالَفَهَا ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرُوا فِيهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا .
أَرَادُوا بِهَا مَا سِوَى الْمَسْحِ ؛ فَإِنَّ رُوَاتَهَا حِينَ فَصَّلُوا قَالُوا : وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً .
وَالتَّفْصِيلُ يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ ، وَيَكُونُ تَفْسِيرًا لَهُ ، وَلَا يُعَارَضُ بِهِ ، كَالْخَاصِّ مَعَ الْعَامِّ ، وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِالتَّيَمُّمِ .
فَإِنْ
قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَسَحَ مَرَّةً لِيُبَيِّنَ الْجَوَازَ ، وَمَسَحَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا لِيُبَيِّنَ الْأَفْضَلَ ، كَمَا فَعَلَ فِي الْغَسْلِ ، فَنُقِلَ الْأَمْرَانِ نَقْلًا صَحِيحًا مِنْ غَيْرِ تَعَارُضٍ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ .
قُلْنَا : قَوْلُ الرَّاوِي : هَذَا طُهُورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ طُهُورُهُ عَلَى الدَّوَامِ ؛ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، إنَّمَا ذَكَرُوا صِفَةَ وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَعْرِيفِ سَائِلِهِمْ وَمَنْ حَضَرَهُمْ كَيْفِيَّةُ وُضُوئِهِ فِي دَوَامِهِ ، فَلَوْ شَاهَدُوا وُضُوءَهُ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى لَمْ يُطْلِقُوا هَذَا الْإِطْلَاقَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَدْلِيسًا وَإِيهَامًا بِغَيْرِ الصَّوَابِ ، فَلَا يُظَنُّ ذَلِكَ بِهِمْ ، وَتَعَيَّنَ حَمْلُ حَالِ الرَّاوِي لِغَيْرِ الصَّحِيحِ عَلَى الْغَلَطِ لَا غَيْرُ ؛ وَلِأَنَّ الرُّوَاةَ إذَا رَوَوْا حَدِيثًا وَاحِدًا عَنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَاتَّفَقَ الْحُفَّاظُ مِنْهُمْ عَلَى صِفَةٍ ، وَخَالَفَهُمْ فِيهَا وَاحِدٌ ، حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالْغَلَطِ ، وَإِنْ كَانَ ثِقَةً حَافِظًا ، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ ،
( 170 ) فَصْلٌ : إذَا وَصَلَ الْمَاءُ إلَى بَشَرَةِ الرَّأْسِ ، وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى الشَّعْرِ ، لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ إلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ مَسْحُ غَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ أَوْصَلَ الْمَاءَ إلَى بَاطِنِ اللِّحْيَةِ وَلَمْ يَغْسِلْ ظَاهِرَهَا .
وَإِنْ نَزَلَ شَعْرُهُ عَنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ ، فَمَسَحَ عَلَى النَّازِلِ مِنْ مَنَابِتِهِ ، لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ مَا تَرَأَّسَ وَعَلَا ، وَلَوْ رَدَّ هَذَا النَّازِلَ وَعَقَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الرَّأْسِ ، وَإِنَّمَا هُوَ نَازِلٌ رَدَّهُ إلَى أَعْلَاهُ .
وَلَوْ نَزَلَ عَنْ مَنْبَتِهِ وَلَمْ يَنْزِلْ عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ فَمَسَحَ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ شَعْرٌ عَلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ ، فَأَشْبَهَ الْقَائِمَ عَلَى مَحَلِّهِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ ذِي شَعْرٍ .
وَلَوْ خَضَبَ رَأْسَهُ بِمَا يَسْتُرُهُ أَوْ طَيَّنَهُ ، لَمْ يُجْزِئْهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخِضَابِ وَالطِّينِ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْخِضَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْسَحْ عَلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَرَكَ عَلَى رَأْسِهِ خِرْقَةً فَمَسَحَ عَلَيْهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 171 ) فَصْلٌ : وَيَمْسَحُ رَأْسَهُ بِمَاءٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مَا فَضَلَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَجَوَّزَهُ الْحَسَنُ وَعُرْوَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ ، وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ إذَا قُلْنَا : إنَّ الْمُسْتَعْمَلَ لَا يَخْرُجُ عَنْ طُهُورِيَّتِهِ ، سِيَّمَا الْغَسْلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ .
وَلَنَا : مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ ، قَالَ : { مَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ .
} وَكَذَلِكَ حَكَى عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ رَوَاهُنَّ أَبُو دَاوُد ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ لِرَأْسِهِ مَاءً جَدِيدًا .
} وَلِأَنَّ الْبَلَلَ الْبَاقِيَ فِي يَدِهِ مُسْتَعْمَلٌ ، فَلَا يُجْزِئُ الْمَسْحُ بِهِ ، كَمَا لَوْ فَصَلَهُ فِي إنَاءٍ ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ .
( 172 ) فَصْلٌ : فَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ بَدَلَ مَسْحِهِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَسْحِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ وَأَمَرَ بِالْمَسْحِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الطَّهَارَةِ ، فَلَمْ يُجْزِئْ عَنْ النَّوْعِ الْآخَرِ ، كَالْمَسْحِ عَنْ الْغَسْلِ .
وَالثَّانِي يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جُنُبًا فَانْغَمَسَ فِي مَاءٍ يَنْوِي الطَّهَارَتَيْنِ ، أَجْزَأهُ مَعَ عَدَمِ الْمَسْحِ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ مُنْفَرِدًا ؛ وَلِأَنَّ فِي صِفَةِ غَسْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى رَأْسِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَسْحًا ؛ وَلِأَنَّ الْغَسْلَ أَبْلَغُ مِنْ الْمَسْحِ ، فَإِذَا أَتَى بِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُجْزِئَهُ ، كَمَا لَوْ اغْتَسَلَ يَنْوِي بِهِ الْوُضُوءَ ، وَهَذَا فِيمَا إذَا لَمْ يُمِرَّ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ .
فَأَمَّا إنْ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مَعَ الْغَسْلِ أَوْ بَعْدَهُ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِالْمَسْحِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { مُعَاوِيَةَ ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ لِلنَّاسِ كَمَا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ، فَلَمَّا بَلَغَ رَأْسَهُ غَرَفَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَتَلَقَّاهَا بِشِمَالِهِ ، حَتَّى وَضَعَهَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ حَتَّى قَطَرَ الْمَاءُ أَوْ كَادَ يَقْطُرُ ، ثُمَّ مَسَحَ مِنْ مُقَدَّمِهِ إلَى مُؤَخَّرِهِ ، وَمِنْ مُؤَخَّرِهِ إلَى مُقَدَّمِهِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَوْ حَصَلَ عَلَى رَأْسِهِ مَاءُ الْمَطَرِ ، أَوْ صَبَّ عَلَيْهِ إنْسَانٌ ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَيْهِ يَقْصِدُ بِذَلِكَ الطَّهَارَةَ ، أَوْ كَانَ قَدْ صَمَدَ لِلْمَطَرِ ، أَجْزَأَهُ .
وَإِنْ حَصَلَ الْمَاءُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْمَاءِ ، فَمَتَى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْبَلَلِ وَمَسَحَ بِهِ فَقَدْ مَسَحَ بِمَاءٍ غَيْرِ مُسْتَعْمَلٍ ، فَصَحَّتْ طَهَارَتُهُ ، كَمَا لَوْ حَصَلَ بِقَصْدِهِ .
فَإِنْ لَمْ يَمْسَحْ بِيَدِهِ ، وَقُلْنَا إنَّ الْغَسْلَ يَقُومُ
مَقَامَ الْمَسْحِ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ قَصَدَ حُصُولَ الْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ إذَا جَرَى الْمَاءُ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا لَمْ يُجْزِئْهُ .
وَإِنْ قُلْنَا لَمْ يُجْزِئْ الْغَسْلُ عَنْ الْمَسْحِ ، لَمْ يُجْزِئْهُ بِحَالٍ .
( 173 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَسَحَ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ مَبْلُولَةٍ ، أَوْ خَشَبَةٍ ، أَجْزَأَهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَسْحِ ، وَقَدْ فَعَلَهُ ، فَأَجْزَأْهُ ، كَمَا لَوْ مَسَحَ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ مَسْحَهُ بِيَدِهِ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَسَحَهُ بِيَدِ غَيْرِهِ .
وَالثَّانِي لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِيَدِهِ .
وَإِنْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ خِرْقَةً مَبْلُولَةً فَابْتَلَّ بِهَا رَأْسُهُ ، أَوْ وَضَعَ خِرْقَةً ثُمَّ بَلَّهَا حَتَّى ابْتَلَّ شَعْرُهُ ، لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَسْحٍ وَلَا غَسْلٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ ؛ لِأَنَّهُ بَلَّ شَعْرَهُ قَاصِدًا لِلْوُضُوءِ ، فَأَجْزَأْهُ ، كَمَا لَوْ غَسَلَهُ .
وَإِنْ مَسَحَ بِإِصْبَعٍ أَوْ إصْبَعَيْنِ أَجْزَأَهُ إذَا مَسَحَ بِهِمَا مَا يَجِبُ مَسْحُهُ كُلُّهُ .
وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِيعَابُ الرَّأْسِ بِإِصْبَعِهِ ، فَأَمَّا إنْ اسْتَوْعَبَهُ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَسَحَ بِبَعْضِ يَدِهِ ، أَشْبَهَ مَسْحَهُ بِكَفِّهِ .
( 174 ) فَصْلٌ : وَالْأُذُنَانِ مِنْ الرَّأْسِ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ مَسْحِهِمَا مَعَ مَسْحِهِ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ كُلُّهُمْ حَكَوْا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِيمَنْ تَرَكَ مَسْحَهُمَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا ، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا تَبَعٌ لِلرَّأْسِ ، لَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ الرَّأْسِ دُخُولُهُمَا فِيهِ ، وَلَا يُشْبِهَانِ بَقِيَّةَ أَجْزَاءِ الرَّأْسِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ مَسْحُهُمَا عَنْ مَسْحِهِ عِنْدَ مَنْ اجْتَزَأَ بِمَسْحِ بَعْضِهِ ، وَالْأَوْلَى مَسْحُهُمَا مَعَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَهُمَا مَعَ رَأْسِهِ ، فَرَوَتْ { الرُّبَيِّعُ ، أَنَّهَا رَأَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ ، مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ وَصُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً .
} وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا .
} وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ صَحِيحَانِ .
وَرَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ .
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ، وَأَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْخِلَ سَبَّابَتَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ ، وَيَمْسَحَ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ بِإِبْهَامَيْهِ .
وَلَا يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَتَرَ بِالْغَضَارِيفِ ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لَا يَجِبُ مَسْحُ مَا اسْتَتَرَ مِنْهُ بِالشَّعْرِ ، وَالْأُذُنُ أَوْلَى .
( 175 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ ، وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ وَاجِبٌ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ ، ثُمَّ صَلَّى .
وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إلَّا غَسْلَتَيْنِ وَمَسْحَتَيْنِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ الْحَجَّاجِ : اغْسِلُوا الْقَدَمَيْنِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا ، وَخَلِّلُوا مَا بَيْنَ الْأَصَابِعِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَقْرَبَ إلَى الْخُبْثِ مِنْ قَدَمَيْهِ .
فَقَالَ أَنَسٌ : صَدَقَ اللَّهُ ، وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ .
وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : الْوُضُوءُ مَغْسُولَانِ وَمَمْسُوحَانِ ، فَالْمَمْسُوحَانِ يَسْقُطَانِ فِي التَّيَمُّمِ .
وَلَمْ نَعْلَمْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ غَيْرَ مَنْ ذَكَرْنَا ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ ، وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَبِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مَرَّةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ ، فَصَبَّ عَلَى وَجْهِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَصَبَّ عَلَى يَدَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ أَخَذَ مِلْءَ كَفٍّ مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُوَ مُنْتَعِلٌ .
} رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَقَالَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَوْسُ بْنُ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ ، أَنَّهُ
رَأَى { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى كِظَامَةَ قَوْمٍ بِالطَّائِفِ ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى قَدَمَيْهِ .
قَالَ هُشَيْمٌ : كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ .
} وَلَنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ ، وَعُثْمَانَ ، حَكَيَا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَا : فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ .
وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ : { ثُمَّ غَسَلَ كِلْتَا رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا ، } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : { ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ .
} وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ { حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا .
} وَكَذَلِكَ قَالَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ ، وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ .
رَوَاهُنَّ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { ، أَنَّ رَجُلًا تَوَضَّأَ ، فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفْرٍ مِنْ قَدَمِهِ ، فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ .
فَرَجَعَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَفِي لَفْظٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي ، وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ .
قُلْت لَهُ : إسْنَادٌ جَيِّدٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى قَوْمًا يَتَوَضَّئُونَ وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ ، فَقَالَ : وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ .
} وَعَنْ عَائِشَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ .
} رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِتَخْلِيلِ الْأَصَابِعِ ، وَأَنَّهُ كَانَ يَعْرُكُ أَصَابِعَهُ بِخِنْصَرِهِ بَعْضَ الْعَرْكِ ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْغَسْلِ ، فَإِنَّ الْمَمْسُوحَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِيعَابِ وَالْعَرْكِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ ، فَقَدْ رَوَى عِكْرِمَةُ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ { وَأَرْجُلَكُمْ } .
قَالَ : عَادَ إلَى الْغَسْلِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالشَّعْبِيِّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَهَا كَذَلِكَ وَرَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ سَعِيدٌ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْقُرَّاءِ ، مِنْهُمْ ابْنُ عَامِرٍ ، فَتَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْيَدَيْنِ فِي الْغَسْلِ .
وَمَنْ قَرَأَهَا بِالْجَرِّ فَلِلْمُجَاوَرَةِ ، كَمَا قَالَ وَأَنْشَدُوا : كَأَنَّ ثَبِيرًا فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ وَأَنْشَدَ : وَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ جَرَّ قَدِيرًا ، مَعَ الْعَطْفِ لِلْمُجَاوَرَةِ .
وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } .
جَرَّ أَلِيمًا ، وَهُوَ صِفَةُ الْعَذَابِ الْمَنْصُوبِ ، لِمُجَاوَرَتِهِ الْمَجْرُورَ ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ : جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ .
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِيهَا مُحْتَمَلًا وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى بَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ : { ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } .
فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَ بِالْغَسْلِ لَا بِالْمَسْحِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَسْحِ الْغَسْلَ الْخَفِيفَ .
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ : الْعَرَبُ تُسَمِّي خَفِيفَ الْغَسْلِ مَسْحًا ، فَيَقُولُونَ : تَمَسَّحْت لِلصَّلَاةِ .
أَيْ تَوَضَّأْت .
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ ، وَتَحْدِيدُهُ بِالْكَعْبَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْغَسْلَ ، فَإِنَّ الْمَسْحَ لَيْسَ بِمَحْدُودٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَطْفُهُ عَلَى الرَّأْسِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ
حَقِيقَةَ الْمَسْحِ .
قُلْنَا : قَدْ افْتَرَقَا مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّ الْمَمْسُوحَ فِي الرَّأْسِ شَعْرٌ يَشُقُّ غَسْلُهُ ، وَالرِّجْلَانِ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَهُمَا أَشْبَهُ بِالْمَغْسُولَاتِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُمَا مَحْدُودَانِ بِحَدٍّ يَنْتَهِي إلَيْهِ ، فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمَا مُعَرِّضَتَانِ لِلْخُبْثِ لِكَوْنِهِمَا يُوطَأُ بِهِمَا عَلَى الْأَرْضِ ، بِخِلَافِ الرَّأْسِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَوْسٍ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى قَدَمَيْهِ .
فَإِنَّمَا أَرَادَ الْغَسْلَ الْخَفِيفَ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلِذَلِكَ قَالَ : أَخَذَ مِلْءَ كَفٍّ مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ عَلَى قَدَمَيْهِ .
وَالْمَسْحُ يَكُونُ بِالْبَلَلِ لَا بِرَشِّ الْمَاءِ .
فَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ : وَهُمَا الْعَظْمَانِ النَّاتِئَانِ .
فَأَرَادَ أَنَّ الْكَعْبَيْنِ .
هُمَا اللَّذَانِ فِي أَسْفَلِ السَّاقِ مِنْ جَانِبَيْ الْقَدَمِ .
وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ : هُمَا فِي مُشْطِ الْقَدَمِ ، وَهُوَ مَعْقِدُ الشِّرَاكِ مِنْ الرِّجْلِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ : { إلَى الْكَعْبَيْنِ } .
فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الرِّجْلَيْنِ كَعْبَيْنِ لَا غَيْرُ ، وَلَوْ أَرَادَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ كَانَتْ كِعَابُ الرِّجْلَيْنِ أَرْبَعَةً ، فَإِنَّ لِكُلِّ قَدَمٍ كَعْبَيْنِ .
وَلَنَا : أَنَّ الْكِعَابَ الْمَشْهُورَةَ فِي الْعُرْفِ هِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْكَعْبُ الَّذِي فِي أَصْلِ الْقَدَمِ مُنْتَهَى السَّاقِ إلَيْهِ ، بِمَنْزِلَةِ كِعَابِ الْقَنَا ، كُلُّ عَقْدٍ مِنْهَا يُسَمَّى كَعْبًا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو الْقَاسِمِ الْجَدَلِيُّ ، عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : كَانَ أَحَدُنَا يَلْزَقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ فِي الصَّلَاةِ ، وَمَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ .
رَوَاهُ الْخَلَّالُ وَقَالَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرُوِيَ { أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَرْمِي كَعْبَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَائِهِ حَتَّى تُدْمِيَهُمَا .
} وَمُشْطُ الْقَدَمِ أَمَامَهُ .
وقَوْله تَعَالَى : إلَى الْكَعْبَيْنِ حُجَّةٌ لَنَا ؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ أَنَّ كُلَّ
رِجْلٍ تُغْسَلُ إلَى الْكَعْبَيْنِ ، إذْ لَوْ أَرَادَ كِعَابَ جَمِيعِ الْأَرْجُلِ لَقَالَ : الْكِعَابَ ، كَمَا قَالَ : { وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } .
( 176 ) فَصْلٌ : وَيَلْزَمُهُ إدْخَالُ الْكَعْبَيْنِ فِي الْغَسْلِ ، كَقَوْلِنَا فِي الْمَرَافِقِ فِيمَا مَضَى .
( 177 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَيَأْتِي بِالطَّهَارَةِ عُضْوًا بَعْدَ عُضْوٍ ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَجُمْلَةُ ذَلِكَ : أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ وَاجِبٌ عِنْدَ أَحْمَدَ لَمْ أَرَ عَنْهُ فِيهِ اخْتِلَافًا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَمَكْحُولٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ فِيمَنْ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ ، فَرَأَى فِي لِحْيَتِهِ بَلَلًا : يَمْسَحُ رَأْسَهُ بِهِ ، وَلَمْ يَأْمُرُوهُ بِإِعَادَةِ غَسْلِ رِجْلَيْهِ .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ ، وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِوَاوِ الْجَمْعِ ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ ، فَكَيْفَمَا غَسَلَ كَانَ مُمْتَثِلًا .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ : مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْت .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَا بَأْسَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلَيْك قَبْلَ يَدَيْك فِي الْوُضُوءِ .
وَلَنَا أَنَّ فِي الْآيَةِ قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا التَّرْتِيبُ ؛ فَإِنَّهُ أَدْخَلَ مَمْسُوحًا بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ ، وَالْعَرَبُ لَا تَقْطَعُ النَّظِيرَ عَنْ نَظِيرِهِ إلَّا لِفَائِدَةٍ ، وَالْفَائِدَةُ هَاهُنَا التَّرْتِيبُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَائِدَتُهُ اسْتِحْبَابُ التَّرْتِيبِ .
قُلْنَا : الْآيَةُ مَا سِيقَتْ إلَّا لِبَيَانِ الْوَاجِبِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ السُّنَنِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَتَى اقْتَضَى اللَّفْظُ التَّرْتِيبَ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَاهُ مُرَتَّبًا ، وَهُوَ مُفَسِّرٌ لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَوَضَّأَ مُرَتِّبًا ، وَقَالَ : { هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ } .
أَيْ بِمِثْلِهِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ أَحْمَدُ : إنَّمَا عَنَيَا بِهِ الْيُسْرَى قَبْلَ الْيُمْنَى ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَهُمَا مِنْ الْكِتَابِ وَاحِدٌ .
ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ قَابُوسَ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ عَلِيًّا سُئِلَ ، فَقِيلَ لَهُ : أَحَدُنَا يَسْتَعْجِلُ ، فَيَغْسِلُ شَيْئًا قَبْلَ شَيْءٍ ؟ قَالَ : لَا .
حَتَّى يَكُونَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ .
( 178 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَهُمَا فِي الْكِتَابِ وَاحِدٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ .
} وَالْفُقَهَاءُ يَعُدُّونَ الْيَدَيْنِ عُضْوًا ، وَالرِّجْلَيْنِ عُضْوًا ، وَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ .
( 179 ) فَصْلٌ : وَإِذَا نَكَسَ وُضُوءَهُ ، فَبَدَأَ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ قَبْلَ وَجْهِهِ ، لَمْ يُحْتَسَبْ بِمَا غَسَلَهُ قَبْلَ وَجْهِهِ ، فَإِذَا غَسَلَ وَجْهَهُ مَعَ بَقَاءِ نِيَّتِهِ أَوْ بَعْدَهَا بِزَمَنٍ يَسِيرٍ اُحْتُسِبَ لَهُ بِهِ ، ثُمَّ يُرَتِّبُ الْأَعْضَاءَ الثَّلَاثَةَ .
وَإِنْ غَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ، أَعَادَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَغَسْلَ رِجْلَيْهِ .
وَإِنْ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ، صَحَّ وُضُوءُهُ إلَّا غَسْلَ رِجْلَيْهِ .
وَإِنْ نَكَسَ وُضُوءَهُ جَمِيعَهُ ، لَمْ يَصِحَّ لَهُ إلَّا غَسْلُ وَجْهِهِ .
وَإِنْ تَوَضَّأَ مُنَكِّسًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، صَحَّ وُضُوءُهُ ، يَحْصُلُ لَهُ مِنْ كُلِّ مَرَّةٍ غَسْلُ عُضْوٍ إذَا كَانَ مُتَقَارِبًا .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ غَسَلَ أَعْضَاءَهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يَصِحَّ لَهُ إلَّا غَسْلُ وَجْهِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَتِّبْ .
وَإِنْ انْغَمَسَ فِي مَاءٍ جَارٍ فَلَمْ يَمُرَّ عَلَى أَعْضَائِهِ إلَّا جِرْيَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَذَلِكَ .
وَإِنْ مَرَّ عَلَيْهِ أَرْبَعُ جِرْيَاتٍ ، وَقُلْنَا : الْغَسْلُ يُجْزِئُ عَنْ الْمَسْحِ .
أَجْزَأَهُ ، كَمَا لَوْ تَوَضَّأَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ .
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ رَاكِدًا ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : إذَا أَخْرَجَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْمَاءِ ، أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ إنَّمَا يَرْتَفِعُ بِانْفِصَالِ الْمَاءِ عَنْ الْعُضْوِ ، وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ أَرَادَ الْوُضُوءَ فَانْغَمَسَ فِي الْمَاءِ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْمَاءِ ، فَعَلَيْهِ مَسْحُ رَأْسِهِ وَغَسْلُ رِجْلَيْهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا كَانَ جَارِيًا فَمَرَّتْ عَلَيْهِ جِرْيَةٌ وَاحِدَةٌ ، أَنَّهُ يُجْزِئُهُ مَسْحُ رَأْسِهِ وَغَسْلُ رِجْلَيْهِ .
وَإِنْ اجْتَمَعَ الْحَدَثَانِ ، سَقَطَ التَّرْتِيبُ وَالْمُوَالَاةُ .
عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 180 ) فَصْلٌ : وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِرَقِيِّ الْمُوَالَاةَ ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ .
وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ قَالَ الْقَاضِي : وَنَقَلَ حَنْبَلُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِظَاهِرِ الْآيَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ ، فَكَيْفَمَا غَسَلَ جَازَ ؛ وَلِأَنَّهَا إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ ، فَلَمْ تَجِبْ الْمُوَالَاةُ فِيهَا كَالْغُسْلِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ تَعَمَّدَ التَّفْرِيقَ بَطَلَ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَفِي ظَهْرِ قَدَمِهِ لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرْهَمِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ .
} وَلَوْ لَمْ تَجِبْ الْمُوَالَاةُ لَأَجْزَأَهُ غَسْلُ اللُّمْعَةِ ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْحَدَثُ ، فَاشْتُرِطَتْ لَهَا الْمُوَالَاةُ كَالصَّلَاةِ ، وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْغَسْلِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ كَيْفِيَّتَهُ ، وَفَسَّرَ مُجْمَلَهُ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ إلَّا مُتَوَالِيًا ، وَأَمَرَ تَارِكَ الْمُوَالَاةِ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ ، وَغُسْلُ الْجَنَابَةِ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ عُضْوٍ وَاحِدٍ ، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ .
( 181 ) فَصْلٌ : وَالْمُوَالَاةُ الْوَاجِبَةُ أَنْ لَا يَتْرُكَ غَسْلَ عُضْوٍ حَتَّى يَمْضِيَ زَمَنٌ يَجِفُّ فِيهِ الْعُضْوُ الَّذِي قَبْلَهُ فِي الزَّمَانِ الْمُعْتَدِلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُسْرِعُ جَفَافُ الْعُضْوِ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ دُونَ بَعْضٍ ؛ وَلِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ طَرَفَيْ الطَّهَارَةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ، إنَّ حَدَّ التَّفْرِيقِ الْمُبْطِلَ مَا يَفْحُشُ فِي الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحَدَّ فِي الشَّرْعِ ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعَادَةِ ، كَالْإِحْرَازِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْبَيْعِ .
( 182 ) فَصْلٌ : وَإِنْ نَشِفَتْ أَعْضَاؤُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِوَاجِبٍ فِي الطَّهَارَةِ أَوْ مَسْنُونٍ ، لَمْ يُعَدَّ تَفْرِيقًا ، كَمَا لَوْ طَوَّلَ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ .
قَالَ أَحْمَدُ إذَا كَانَ فِي عِلَاجِ الْوُضُوءِ فَلَا بَأْسَ ، وَإِنْ كَانَ لِوَسْوَسَةٍ تَلْحَقُهُ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي عِلَاجِ الْوُضُوءِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِعَبَثٍ أَوْ شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى الْمَسْنُونِ وَأَشْبَاهِهِ ، عُدَّ تَفْرِيقًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْوَسْوَسَةُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ وَلَا مَسْنُونٍ .
( 183 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالْوُضُوءُ مَرَّةً مَرَّةً يُجْزِئُ ، وَالثَّلَاثُ أَفْضَلُ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا لَمْ يُوَقِّتْ مَرَّةً وَلَا ثَلَاثًا ، قَالَ : إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : الْوُضُوءُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إلَّا غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ ، فَإِنَّهُ يُنَقِّيهِمَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً مَرَّةً } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثُ عَلِيٍّ أَحْسَنُ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَصَحُّ .
وَقَالَ سَعِيدٌ : حَدَّثَنَا سَلَّامٌ الطَّوِيلُ ، عَنْ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا بِمَاءٍ ، فَتَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا وَظِيفَةُ الْوُضُوءِ ، وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ ، ثُمَّ تَحَدَّثَ سَاعَةً ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ ، مَرَّتَيْنِ ، فَقَالَ : هَذَا وُضُوءٌ مَنْ تَوَضَّأَهُ ضَاعَفَ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ تَحَدَّثَ سَاعَةً ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ ، فَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، فَقَالَ : هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ النَّبِيِّينَ مِنْ قَبْلِي } .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا ، وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ، { أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ وَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ
، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ : هَذَا الْوُضُوءُ أَسْبَغُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ أَحَدٌ لِلصَّلَاةِ .
( 184 ) فَصْلٌ : وَإِنْ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ مَرَّةً وَبَعْضَهَا أَكْثَرَ ، جَازَ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الْكُلِّ جَازَ فِي الْبَعْضِ ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا ، وَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ إلَّا رَجُلٌ مُبْتَلًى .
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ لَا آمَنُ مَنْ ازْدَادَ عَلَى الثَّلَاثِ أَنْ يَأْثَمَ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ تَشْدِيدُ الْوُضُوءِ مِنْ الشَّيْطَانِ ، لَوْ كَانَ هَذَا فَضْلًا لَأُوثِرَ بِهِ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ { : جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الْوُضُوءِ ، فَأَرَاهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا الْوُضُوءُ ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
( 186 ) فَصْلٌ : وَإِذَا فَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَرْفَعَ نَظَرَهُ إلَى السَّمَاءِ ، ثُمَّ يَقُولَ .
مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ - أَوْ فَيُسْبِغُ - الْوُضُوءَ ، ثُمَّ يَقُولُ :
أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، إلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ ، يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ } .
وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ ، وَفِيهِ : { مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ رَفَعَ نَظَرَهُ إلَى السَّمَاءِ وَفِيهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ ، وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ .
}
( 187 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْوُضُوءِ ؛ لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، أَنَّهُ { أَفْرَغَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وُضُوئِهِ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَرُوِيَ عَنْ صَفْوَانِ بْنِ عَسَّالٍ ، قَالَ : { صَبَبْت عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ } وَعَنْ أُمِّ عَيَّاشٍ ، وَكَانَتْ أَمَةً لِرُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : { كُنْت أُوَضِّئُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا قَائِمَةٌ وَهُوَ قَاعِدٌ .
} رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : مَا أُحِبُّ أَنْ يُعِينَنِي عَلَى وُضُوئِي أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ .
( 188 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِتَنْشِيفِ أَعْضَائِهِ بِالْمِنْدِيلِ مِنْ بَلَلِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ، قَالَ الْخَلَّالُ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّنْشِيفِ بَعْدَ الْوُضُوءِ .
وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَخْذُ الْمِنْدِيلِ بَعْدَ الْوُضُوءِ عُثْمَانُ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَنَسٌ ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَنَهَى عَنْهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَكَرِهَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ مَيْمُونَةَ رَوَتْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ فَأَتَيْته بِالْمِنْدِيلِ ، فَلَمْ يُرِدْهَا ، وَجَعَلَ يَنْفُضُ الْمَاءَ بِيَدِهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ ، وَتَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ يَتْرُكُ الْمُبَاحَ كَمَا يَفْعَلُهُ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : { كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِرْقَةٌ يَتَنَشَّفُ بِهَا بَعْدَ الْوُضُوءِ .
} وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ : مُنْكَرٌ مُنْكَرٌ .
وَرُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ ، ثُمَّ أَتَيْنَاهُ بِمِلْحَفَةٍ وَرْسِيَّةٍ ، فَالْتَحَفَ بِهَا .
} إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ : لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ .
وَلَا يُكْرَهُ نَفْضُ الْمَاءِ عَنْ بَدَنِهِ بِيَدَيْهِ ؛ لِحَدِيثِ مَيْمُونَةَ .
( 189 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا تَوَضَّأَ لِنَافِلَةٍ صَلَّى فَرِيضَةً لَا أَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّافِلَةَ تَفْتَقِرُ إلَى رَفْعِ الْحَدَثِ كَالْفَرِيضَةِ ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الْحَدَثُ تَحَقَّقَ شَرْطُ الصَّلَاةِ وَارْتَفَعَ الْمَانِعُ ، فَأُبِيحَ لَهُ الْفَرْضُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَفْتَقِرُ إلَى الطَّهَارَةِ ، كَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَالطَّوَافِ ، إذَا تَوَضَّأَ لَهُ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ ، وَصَحَّتْ طَهَارَتُهُ ، وَأُبِيحَ لَهُ سَائِرُ مَا يَحْتَاجُ إلَى الطَّهَارَةِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى .
( 190 ) فَصْل يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْوُضُوءِ مَا لَمْ يُحْدِثْ ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ صَلَّى أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : مَا بَأْسٌ بِهَذَا إذَا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ ، مَا ظَنَنْت أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ هَذَا .
وَقَالَ : { صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ .
} وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ قُلْت : وَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ ، قَالَ : يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد .
وَفِي مُسْلِمٍ ، عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ : { صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : إنِّي رَأَيْتُك صَنَعْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ ، قَالَ : عَمْدًا صَنَعْته .
}
( 191 ) فَصْلٌ : وَتَجْدِيدُ الْوُضُوءِ مُسْتَحَبٌّ ، نَصَّ أَحْمَدُ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عِيسَى ، وَنَقَلَ حَنْبَلُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهُ ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ ، وَعَنْ غُطَيْفٍ الْهُذَلِيِّ ، قَالَ : { رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَوْمًا تَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، فَقُلْت : أَصْلَحَك اللَّهُ ، أَفَرِيضَةٌ أَمْ سُنَّةٌ ، الْوُضُوءُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ ؟ فَقَالَ : لَا ، لَوْ تَوَضَّأْت لِصَلَاةِ الصُّبْحِ لَصَلَّيْت بِهِ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا مَا لَمْ أُحْدِثْ ، وَلَكِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ تَوَضَّأَ عَلَى طُهْرٍ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ .
وَإِنَّمَا رَغِبْت فِي الْحَسَنَاتِ .
} أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
وَقَدْ نَقَلَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ : لَا فَضْلَ فِيهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
( 192 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالْوُضُوءِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا لَمْ يُؤْذِ أَحَدًا بِوُضُوئِهِ ، وَلَمْ يَبُلَّ مَوْضِعَ الصَّلَاةِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَبَاحَ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ ، مِنْهُمْ : ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ حَزْمٍ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَعَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ ، قَالَ : وَبِهِ نَقُولُ ، إلَّا أَنْ يَبُلَّ مَكَانًا يَجْتَازُ النَّاسُ فِيهِ ، فَإِنِّي أَكْرَهُهُ ، إلَّا أَنْ يَفْحَصَ الْحَصَى عَنْ الْبَطْحَاءِ ، كَمَا فُعِلَ لِعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ فَإِذَا تَوَضَّأَ رَدَّ الْحَصَى عَلَيْهِ ، فَإِنِّي لَا أَكْرَهُهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَكْرَهُهُ ؛ صِيَانَةً لِلْمَسْجِدِ عَنْ الْبُصَاقِ وَالْمُخَاطِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْ فَضَلَاتِ الْوُضُوءِ .
( 193 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَلَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ جُنُبٌ وَلَا حَائِضٌ وَلَا نُفَسَاءُ رُوِيت الْكَرَاهِيَةُ لِذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا يَقْرَأُ إلَّا آيَةَ الرُّكُوبِ وَالنُّزُولِ : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا } ، { وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا .
} وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ وِرْدَهُ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ، أَلَيْسَ هُوَ فِي جَوْفِهِ ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ لِلْحَائِضِ الْقِرَاءَةُ دُونَ الْجُنُبِ ؛ لِأَنَّ أَيَّامَهَا تَطُولُ ، فَإِنْ مَنَعْنَاهَا مِنْ الْقِرَاءَةِ نَسِيَتْ .
وَلَنَا : مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ ، أَوْ قَالَ : يَحْجِزُهُ ، عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ ، لَيْسَ الْجَنَابَةُ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ نَافِعٍ ، وَقَدْ ضَعَّفَ ، الْبُخَارِيُّ رِوَايَتَهُ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَقَالَ : إنَّمَا رِوَايَتُهُ عَنْ أَهْلِ الشَّامِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْجُنُبِ فَفِي الْحَائِضِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَدَثَهَا آكَدُ ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْوَطْءَ ، وَمَنَعَ الصِّيَامَ ، وَأَسْقَطَ الصَّلَاةَ ، وَسَاوَاهَا فِي سَائِرِ أَحْكَامِهَا .
( 194 ) فَصْلٌ : وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ قِرَاءَةُ آيَةٍ .
فَأَمَّا بَعْضُ آيَةٍ ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ عَنْ غَيْرِهِ كَالتَّسْمِيَةِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَسَائِرِ الذِّكْرِ ، فَإِنْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْقُرْآنُ ، فَلَا بَأْسَ ؛ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ لَهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَيَحْتَاجُونَ إلَى التَّسْمِيَةِ عِنْدَ اغْتِسَالِهِمْ ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ التَّحَرُّزُ
مِنْ هَذَا .
وَإِنْ قَصَدُوا بِهِ الْقِرَاءَةَ أَوْ كَانَ مَا قَرَءُوهُ شَيْئًا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْقُرْآنُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يَجُوزُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْجُنُبِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ ؟ فَقَالَ : لَا ، وَلَا حَرْفًا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي النَّهْيِ ؛ وَلِأَنَّهُ قُرْآنٌ ، فَمُنِعَ مِنْ قِرَاءَتِهِ ، كَالْآيَةِ .
وَالثَّانِيَةُ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِعْجَازُ ، وَلَا يُجْزِئُ فِي الْخُطْبَةِ ، وَيَجُوزُ إذَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْقُرْآنُ ، وَكَذَلِكَ إذَا قُصِدَ .
( 195 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لَهُمْ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا .
} وَرَوَتْ عَائِشَةُ ، قَالَتْ : { جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُيُوتُ أَصْحَابِهِ شَارِعَةٌ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : وَجِّهُوا هَذِهِ الْبُيُوتَ عَنْ الْمَسْجِدِ ؛ فَإِنِّي لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَيُبَاحُ الْعُبُورُ لِلْحَاجَةِ ، مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ ، أَوْ تَرْكِهِ ، أَوْ كَوْنِ الطَّرِيقِ فِيهِ ، فَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ .
وَمِمَّنْ نُقِلَتْ عَنْهُ الرُّخْصَةُ فِي الْعُبُورِ : ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ لَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ بُدًّا ، فَيَتَيَمَّمَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِحَائِضٍ وَلَا جُنُبٍ .
} وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ( إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ ) ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إبَاحَةٌ .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
قَالَتْ : إنِّي حَائِضٌ ، قَالَ إنَّ حَيْضَتَك لَيْسَتْ فِي يَدِك } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : كُنَّا نَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ وَنَحْنُ جُنُبٌ .
رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمْ جُنُبٌ رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا .
وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِهِمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا .
( 196 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ ، فَلَهُمْ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْعُبُورُ إذَا أَمِنُوا تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ { امْرَأَةً مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَتْ مَعَهُ وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ ، فَكَانَتْ تَرَى
الْحُمْرَةَ وَالصُّفْرَةَ ، وَرُبَّمَا وَضَعَتْ الطَّسْتَ تَحْتَهَا وَهِيَ تُصَلِّي .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلِأَنَّهُ حَدَثٌ لَا يَمْنَعُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَمْنَعْ اللُّبْثَ ، كَخُرُوجِ الدَّمِ الْيَسِيرِ مِنْ أَنْفِهِ .
فَإِنْ خَافَ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ فَلَيْسَ لَهُ الْعُبُورُ ؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُصَانُ عَنْ هَذَا ، كَمَا يُصَانُ عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ .
وَلَوْ خَشِيَتْ الْحَائِضُ تَلْوِيثَ الْمَسْجِدِ بِالْعُبُورِ فِيهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ .
( 197 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَافَ الْجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ ، أَوْ لَمْ يَجِدْ مَكَانًا غَيْرَهُ ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ الْغُسْلُ وَلَا الْوُضُوءُ ، تَيَمَّمَ ، ثُمَّ أَقَامَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَنَّاق فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } .
يَعْنِي مُسَافِرِينَ لَا يَجِدُونَ مَاءً ، فَيَتَيَمَّمُونَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَلْبَثُ بِغَيْرِ تَيَمُّمٍ ؛ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ .
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلَ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ فَوَجَبَ التَّيَمُّمُ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا ، كَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ مَا يُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ .
وَقَوْلُهُمْ : لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ .
قُلْنَا : إلَّا أَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ مَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ ، فِي إبَاحَةِ مَا يُسْتَبَاحُ بِهِ .
( 198 ) فَصْلٌ : إذَا تَوَضَّأَ الْجُنُبُ فَلَهُ اللُّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا وَإِسْحَاقَ وَقَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا يَجُوزُ ؛ لِلْآيَةِ وَالْخَبَرِ .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ جُنُبًا فَيَتَوَضَّأُ ، ثُمَّ يَدْخُلُ ، فَيَتَحَدَّثُ .
وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِهِمْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا يُخَصُّ بِهِ الْعُمُومُ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا تَوَضَّأَ خَفَّ حُكْمُ الْحَدَثِ ، فَأَشْبَهَ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ، وَدَلِيلُ خِفَّتِهِ أَمْرُ النَّبِيِّ الْجُنُبَ بِهِ إذَا أَرَادَ النَّوْمَ ، وَاسْتِحْبَابُهُ لِمَنْ أَرَادَ الْأَكْلَ وَمُعَاوَدَةَ الْوَطْءِ .
فَأَمَّا الْحَائِضُ إذَا تَوَضَّأَتْ فَلَا يُبَاحُ لَهَا اللُّبْثُ ؛ لِأَنَّ وُضُوءَهَا لَا يَصِحُّ .
( 199 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَلَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إلَّا طَاهِرٌ يَعْنِي طَاهِرًا مِنْ الْحَدَثَيْنِ جَمِيعًا .
رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَلَا نَعْلَمُ مُخَالِفًا لَهُمْ إلَّا دَاوُد فَإِنَّهُ أَبَاحَ مَسَّهُ .
وَاحْتَجَّ بِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ آيَةً إلَى قَيْصَرَ .
} وَأَبَاحَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ مَسَّهُ بِظَاهِرِ الْكَفِّ ؛ لِأَنَّ آلَةَ الْمَسِّ بَاطِنُ الْيَدِ ، فَيَنْصَرِفُ النَّهْيُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى : { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } .
وَفِي { كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ .
} وَهُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ ، رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ ، وَرَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، فَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي كَتَبَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا قَصَدَ بِهَا الْمُرَاسَلَةَ ، وَالْآيَةُ فِي الرِّسَالَةِ أَوْ كِتَابِ فِقْهٍ أَوْ نَحْوِهِ لَا تَمْنَعُ مَسَّهُ ، وَلَا يَصِيرُ الْكِتَابُ بِهَا مُصْحَفًا ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ حُرْمَتُهُ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ مَسُّهُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَسَدِهِ ، فَأَشْبَهَ يَدَهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْمَسَّ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِبَاطِنِ الْيَدِ ؛ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَاقَى شَيْئًا فَقَدْ مَسَّهُ .
( 200 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ حَمْلُهُ بِعِلَاقَتِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ وَأَبِي وَائِلٍ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَمَنَعَ مِنْهُ الْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْت أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ الْمُصْحَفَ بِعَلَّاقَتِهِ وَلَا فِي غِلَافِهِ إلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ ؛ وَلِيس ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُدَنِّسُهُ ، وَلَكِنْ تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْدِثٌ قَاصِدٌ لِحَمْلِ
الْمُصْحَفِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ حَمَلَهُ مَعَ مَسِّهِ .
وَلَنَا : أَنَّهُ غَيْرُ مَاسٍّ لَهُ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ حَمَلَهُ فِي رَحْلِهِ ؛ وَلِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمَسَّ ، وَالْحَمْلُ لَيْسَ بِمَسٍّ ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّهْيُ ، وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مَسُّهُ ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْفَرْعِ ، وَالْحَمْلُ لَا أَثَرَ لَهُ ، فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ حَمَلَهُ بِعَلَّاقَةٍ أَوْ بِحَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مِمَّا لَا يَتْبَعُهُ فِي الْبَيْعِ ، جَازَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ .
وَوَجْهُ الْمَذْهَبَيْنِ مَا تَقَدَّمَ .
وَيَجُوزُ تَقْلِيبُهُ بِعُودٍ وَمَسُّهُ بِهِ ، وَكَتْبُ الْمُصْحَفِ بِيَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّهُ ، وَفِي تَصَفُّحِهِ بِكُمِّهِ رِوَايَتَانِ .
وَخَرَّجَ الْقَاضِي فِي مَسِّ غِلَافِهِ وَحَمْلِهِ بِعَلَّاقَتِهِ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ بِنَاءً عَلَى مَسِّهِ بِكُمِّهِ .
وَالصَّحِيحُ : جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَسَّهُ ، وَالْحَمْلُ لَيس بِمَسٍّ .
( 201 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِهَا ، وَالرَّسَائِلِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا آيَاتٌ مِنْ الْقُرْآنِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى قَيْصَرَ كِتَابًا فِيهِ آيَةٌ ؛ وَلِأَنَّهَا لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ مُصْحَفٍ ، وَلَا تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ .
وَفِي مَسِّ صِبْيَانِ الْكَتَاتِيبِ أَلْوَاحَهُمْ الَّتِي فِيهَا الْقُرْآنُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ ، فَلَوْ اشْتَرَطْنَا الطَّهَارَةَ أَدَّى إلَى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ حِفْظِهِ .
وَالثَّانِي الْمَنْعُ ؛ لِدُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ الْآيَةِ .
وَفِي الدَّرَاهِمِ الْمَكْتُوبِ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا الْمَنْعُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَرِهَهُ عَطَاءٌ وَالْقَاسِمُ وَالشَّعْبِيُّ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا ، فَأَشْبَهَتْ الْوَرَقَ .
وَالثَّانِي الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ ، فَأَشْبَهَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ ؛
وَلِأَنَّ فِي الِاحْتِرَازِ مِنْهَا مَشَقَّةٌ ، أَشْبَهْت أَلْوَاحَ الصِّبْيَانِ .
( 202 ) فَصْلٌ : وَإِنْ احْتَاجَ الْمُحْدِثُ إلَى مَسِّ الْمُصْحَفِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ، تَيَمَّمَ ، وَجَازَ مَسُّهُ .
وَلَوْ غَسَلَ الْمُحْدِثُ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ مَسُّهُ بِهِ قَبْلَ إتْمَامِ وُضُوئِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَطَهِّرًا إلَّا بِغَسْلِ الْجَمِيعِ .
( 203 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ الْمُسَافَرَةُ بِالْمُصْحَفِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ؛ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ .
}
بَابُ الِاسْتِطَابَةِ وَالْحَدَثِ الِاسْتِطَابَةُ : هِيَ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْمَاءِ أَوْ بِالْأَحْجَارِ ، يُقَالُ اسْتَطَابَ ، وَأَطَابَ : إذَا اسْتَنْجَى ؛ سُمِّيَ اسْتِطَابَةً لِأَنَّهُ يُطَيِّبُ جَسَدَهُ بِإِزَالَةِ الْخُبْثِ عَنْهُ ، قَالَ الشَّاعِرُ يَهْجُو رَجُلًا : يَا رَخَمًا قَاظَ عَلَى عُرْقُوبِ يُعْجِلُ كَفَّ الْخَارِئِ الْمُطِيبِ وَالِاسْتِنْجَاءُ : اسْتِفْعَالٌ مِنْ نَجَوْت الشَّجَرَةَ أَيْ : قَطَعْتهَا ، فَكَأَنَّهُ قَطَعَ الْأَذَى عَنْهُ ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّجْوَةِ ، وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ اسْتَتَرَ بِهَا .
وَالِاسْتِجْمَارُ : اسْتِفْعَالٌ مِنْ الْجِمَارِ ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهَا فِي اسْتِجْمَارِهِ .
( 204 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَلَيْسَ عَلَى مَنْ نَامَ أَوْ خَرَجَتْ مِنْهُ رِيحٌ اسْتِنْجَاءٌ وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ فِي الرِّيحِ اسْتِنْجَاءٌ ؛ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ ، إنَّمَا عَلَيْهِ الْوُضُوءُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ اسْتَنْجَى مِنْ رِيحٍ فَلَيْسَ مِنَّا .
} رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الصَّغِيرِ ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْله تَعَالَى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } .
إذَا قُمْتُمْ مِنْ النَّوْمِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِغَيْرِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَرِدْ بِالِاسْتِنْجَاءِ هُنَا نَصٌّ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ إنَّمَا شُرِعَ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، وَلَا نَجَاسَةَ هَاهُنَا .
( 205 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالِاسْتِنْجَاءُ لِمَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ هَذَا فِيهِ إضْمَارٌ ، وَتَقْدِيرُهُ : وَالِاسْتِنْجَاءُ وَاجِبٌ ، فَحَذَفَ خَبَرَ الْمُبْتَدَإِ اخْتِصَارًا ، وَأَرَادَ مَا خَرَجَ غَيْرَ الرِّيحِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَهَا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَارِجُ مُعْتَادًا ، كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ ، أَوْ نَادِرًا ، كَالْحَصَى وَالدُّودِ وَالشَّعْرِ ، رَطْبًا أَوْ يَابِسًا .
وَلَوْ احْتَقَنَ فَرَجَعَتْ أَجْزَاءٌ خَرَجَتْ مِنْ الْفَرْجِ ، أَوْ وَطِئَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ دُونَ الْفَرْجِ فَدَبَّ مَاؤُهُ إلَى فَرْجِهَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ ، فَعَلَيْهِمَا الِاسْتِنْجَاءُ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ .
وَلَوْ أَدْخَلَ الْمِيلَ فِي ذَكَرِهِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ ، لَزِمَهُ الِاسْتِنْجَاءُ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ ، فَأَشْبَهَ الْغَائِطَ الْمُسْتَحْجِرَ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ مِنْ نَاشِفٍ لَا يُنَجِّسُ الْمَحَلَّ ، لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الرِّيحِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي الطَّاهِرِ ، وَهُوَ الْمَنِيُّ إذَا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهِ .
وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ الِاسْتِنْجَاءِ فِي الْجُمْلَةِ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ فِيمَنْ صَلَّى بِقَوْمٍ وَلَمْ يَسْتَنْجِ : لَا أَعْلَمُ بِهِ بَأْسًا .
وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِيمَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الِاسْتِنْجَاءُ ، كَمَنْ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ لِنَوْمٍ أَوْ خُرُوجِ رِيحٍ ، أَوْ مَنْ تَرَكَ الِاسْتِنْجَاءَ نَاسِيًا ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَرَ وُجُوبَ الِاسْتِنْجَاءِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ؛ وَلِأَنَّهَا نَجَاسَةٌ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْمَسْحِ ، فَلَمْ تَجِبْ إزَالَتُهَا كَيَسِيرِ الدَّمِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ، فَإِنَّهَا
تُجْزِئُ عَنْهُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَقَالَ : { لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : { لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ .
} فَأَمَرَ ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
وَقَالَ : فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ .
وَالْإِجْزَاءُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاجِبِ ، وَنَهَى عَنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، وَإِذَا حَرُمَ تَرْكُ بَعْضِ النَّجَاسَةِ فَتَرْكُ جَمِيعِهَا أَوْلَى .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ دُونَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ .
} وَأَمَرَ بِالْعَدَدِ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ ، وَقَوْلُهُ : ( لَا حَرَجَ ) يَعْنِي فِي تَرْكِ الْوِتْرِ ، لَا فِي تَرْكِ الِاسْتِجْمَارِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْخَبَرِ الْوِتْرُ ، فَيَعُودُ نَفْيُ الْحَرَجِ إلَيْهِ ، وَأَمَّا الِاجْتِزَاءُ بِالْمَسْحِ فِيهِ فَلِمَشَقَّةِ الْغَسْلِ ، لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ .
( 206 ) فَصْلٌ : وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ أَوْ الْأَحْجَارِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا أَنْكَرَا الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَهَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا النِّسَاءُ ، وَقَالَ عَطَاءٌ غَسْلُ الدُّبُرُ مُحْدَثٌ .
وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ .
وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا .
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ لَا يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ ثُمَّ فَعَلَهُ ، وَقَالَ لِنَافِعٍ : جَرَّبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ صَالِحًا .
وَهُوَ مَذْهَبُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ ، قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ الْخَلَاءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً ، فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّهَا قَالَتْ : مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ ؛ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } قَالَ : كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّهُ يُطَهِّرُ الْمَحَلَّ ، وَيُزِيلُ النَّجَاسَةَ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى مَحَلٍّ آخَرَ .
وَإِنْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَالْمَاءُ أَفْضَلُ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ ؛ وَلِأَنَّهُ يُطَهِّرُ الْمَحَلَّ ، وَيُزِيلُ الْعَيْنَ وَالْأَثَرَ ، وَهُوَ أَبْلُغُ فِي التَّنْظِيفِ .
وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْحَجَرِ أَجْزَأَهُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ ؛ وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَجْمِرَ بِالْحَجَرِ ، ثُمَّ يُتْبِعَهُ
الْمَاءَ .
قَالَ أَحْمَدُ : إنْ جَمَعَهُمَا فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : { مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ يُتْبِعْنَ الْحِجَارَةَ الْمَاءَ مِنْ أَثَرِ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ ؛ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ ، كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ .
} احْتَجَّ بِهِ أَحْمَدُ وَرَوَاهُ سَعِيدٌ ؛ وَلِأَنَّ الْحَجَرَ يُزِيلُ عَيْنَ النَّجَاسَةِ فَلَا تُصِيبُهَا يَدُهُ ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْمَاءِ فَيُطَهِّرُ الْمَحَلَّ ، فَيَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّنْظِيفِ وَأَحْسَنَ .
( 207 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَعْدُوَا مَخْرَجَهُمَا أَجْزَأَهُ أَحْجَارٌ إذَا أَنْقَى بِهِنَّ ، فَإِنْ أَنْقَى بِدُونِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يُجْزِهِ ، حَتَّى يَأْتِيَ بِالْعَدَدِ ، وَإِنْ لَمْ يُنْقِ بِالثَّلَاثَةِ زَادَ حَتَّى يُنْقِيَ قَوْلُهُ : يَعْدُوَا مَخْرَجَهُمَا يَعْنِي الْخَارِجَيْنِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ إذَا لَمْ يَتَجَاوَزَا مَخْرَجَهُمَا .
يُقَالُ : عَدَاك الشَّرُّ أَيْ : تَجَاوَزَك .
وَالْمُرَاد ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، إذَا لَمْ يَتَجَاوَزْ الْمَخْرَجَ بِمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ ، فَإِنَّ الْيَسِيرَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ مُنْقِيَةٍ .
وَمَعْنَى الْإِنْقَاءِ إزَالَةُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَبَلَّتِهَا ، بِحَيْثُ يَخْرُجُ الْحَجَرُ نَقِيًّا وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرٌ إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا .
وَيُشْتَرَطُ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا ؛ الْإِنْقَاءُ ، وَإِكْمَالُ الثَّلَاثَةِ ، أَيُّهُمَا وُجِدَ دُونَ صَاحِبِهِ لَمْ يَكْفِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُد : الْوَاجِبُ الْإِنْقَاءُ دُونَ الْعَدَدِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ } .
وَلَنَا : قَوْلُ سَلْمَانَ : { لَقَدْ نَهَانَا - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ } .
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ ، وَحَدِيثُهُمْ قَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا مَضَى .
( 208 ) فَصْلٌ : وَإِذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ لَا يَقْطَعَ إلَّا عَلَى وِتْرٍ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَيَسْتَجْمِرُ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا أَوْ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى شَفْعٍ مُنْقِيَةٍ ، فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ جَازَ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ } .
( 209 ) فَصْلٌ : وَكَيْفَمَا حَصَلَ الْإِنْقَاءِ فِي الِاسْتِجْمَارِ أَجْزَأَهُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُمِرَّ الْحَجَرَ الْأَوَّلَ مِنْ مُقَدَّمِ صَفْحَتِهِ الْيُمْنَى إلَى مُؤَخَّرِهَا ، ثُمَّ يُدِيرَهُ عَلَى الْيُسْرَى ، ثُمَّ يَرْجِعَ بِهِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ؛ ثُمَّ يُمِرَّ الثَّانِيَ مِنْ مُقَدَّمِ صَفْحَتِهِ الْيُسْرَى كَذَلِكَ ؛ ثُمَّ يُمِرَّ الثَّالِثَ عَلَى الْمَسْرُبَةِ وَالصَّفْحَتَيْنِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَوَ لَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ حَجَرَيْنِ لِلصَّفْحَتَيْنِ وَحَجَرًا لِلْمَسْرُبَةِ ، } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَقَالَ : إسْنَادُهُ حَسَنٌ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ الْمَحَلَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْجَارِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعُمَّ بِهِ كَانَ ذَلِكَ تَلْفِيقًا ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَسْحَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا يَكُونُ تَكْرَارًا .
ذَكَرَ هَذَا الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَابْنُ عَقِيلٍ وَقَالَا : مَعْنَى الْحَدِيثِ الْبِدَايَةُ بِهَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ لِكُلِّ جِهَةٍ مَسْحَةٌ ، لِظَاهِرِ الْخَبَرِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 210 ) فَصْلٌ : وَيُجْزِئُهُ الِاسْتِجْمَارُ فِي النَّادِرِ ، كَمَا يُجْزِئُ فِي الْمُعْتَادِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهٌ ، أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي النَّادِرِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ مَالِكٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِغَسْلِ الذَّكَرِ مِنْ الْمَذْيِ ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْآثَارَ كُلَّهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا وَأَسَانِيدِهَا لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ اسْتِنْجَاءٍ ، إنَّمَا هُوَ الْغَسْلُ ؛ وَلِأَنَّ النَّادِرَ لَا يَتَكَرَّرُ ، فَلَا يَبْقَى اعْتِبَارُ الْمَاءِ فِيهِ ، فَوَجَبَ ، كَغَسْلِ غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ .
وَلَنَا أَنَّ الْخَبَرَ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ ؛ وَأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ فِي النَّادِرِ إنَّمَا وَجَبَ مَا صَحِبَهُ مِنْ بِلَّةِ الْمُعْتَادِ ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَشُقَّ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الْمَشَقَّةِ ، فَتُعْتَبَرُ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا ، كَمَا جَازَ الِاسْتِجْمَارُ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ ، وَأَمَّا الْمَذْيُ فَمُعْتَادٌ كَثِيرٌ ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي بَعْضِ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ الْبَوْلِ ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { كُنْت رَجُلًا مَذَّاءً ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَاكَ مَاءُ الْفَحْلِ ، وَلِكُلِّ فَحْلٍ مَاءٌ .
} وَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ : كُنْت رَجُلًا مَذَّاءً فَكُنْت أُكْثِرُ مِنْهُ الِاغْتِسَالَ ؛ وَلِهَذَا أَوْجَبَ مَالِكٌ مِنْهُ الْوُضُوءَ ، وَهُوَ لَا يُوجِبُهُ مِنْ النَّادِرِ ، فَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا ، وَيَجِبُ غَسْلُ الذَّكَرِ مِنْهُ وَالْأُنْثَيَيْنِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تَعَبُّدًا .
وَالْأُخْرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ ، وَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَسْلِهِ لِلِاسْتِحْبَابِ ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ مَا يَخْرُجُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 211 ) فَصْلٌ : وَلَا يَسْتَجْمِرُ بِيَمِينِهِ ، لِقَوْلِ سَلْمَانَ فِي حَدِيثِهِ : { إنَّهُ لَيَنْهَانَا أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِيَمِينِهِ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَرَوَى أَبُو قَتَادَةَ ، رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ ، وَلَا يَتَمَسَّحْ مِنْ الْخَلَاءِ بِيَمِينِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَإِنْ كَانَ يَسْتَنْجِي مِنْ غَائِطٍ أَخَذَ الْحَجَرَ بِشِمَالِهِ فَمَسَحَ بِهِ .
وَإِنْ كَانَ يَسْتَنْجِي مِنْ الْبَوْلِ ، وَكَانَ الْحَجَرُ كَبِيرًا ، أَخَذَ ذَكَرَهُ بِشِمَالِهِ فَمَسَحَ بِهِ .
وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَأَمْكَنَهُ أَنْ يَضَعَهُ بَيْنَ عَقِبَيْهِ ، أَوْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ، وَيَمْسَحُ ذَكَرَهُ عَلَيْهِ فَعَلَ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ، أَمْسَكَهُ بِيَمِينِهِ ، وَمَسَحَ بِيَسَارِهِ ؛ لِمَوْضِعِ الْحَاجَةِ .
وَقِيلَ : يُمْسِكُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ ، وَيَمْسَحُ بِشِمَالِهِ ؛ لِيَكُونَ الْمَسْحُ بِغَيْرِ الْيَمِينِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُمْسِكَنَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ } .
وَإِذَا أَمْسَكَ الْحَجَرَ بِالْيَمِينِ ، وَمَسَحَ الذَّكَرَ عَلَيْهِ ، لَمْ يَكُنْ مَاسِحًا بِالْيَمِينِ ، وَلَا مُمْسِكًا لِلذَّكَرِ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيُسْرَى ، أَوْ بِهَا مَرَضٌ ، اسْتَجْمَرَ بِيَمِينِهِ ؛ لِلْحَاجَةِ .
وَلَا يُكْرَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِهَا فِي الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ .
وَإِنْ اسْتَجْمَرَ بِيَمِينِهِ مَعَ الْغِنَى عَنْهُ ، أَجْزَأَهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، فَلَمْ يُفِدْ مَقْصُودَهُ ، كَمَا لَوْ اسْتَنْجَى بِالرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ ، فَإِنَّ النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الرَّوْثَ آلَةُ الِاسْتِجْمَارِ الْمُبَاشِرَةُ لِلْمَحَلِّ وَشَرْطُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِعْمَالُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيهَا ، وَالْيَدُ لَيْسَتْ الْمُبَاشِرَةَ لِلْمَحَلِّ وَلَا شَرْطًا فِيهِ ، إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بِهَا الْحَجَرَ الْمُلَاقِي لِلْمَحَلِّ ، فَصَارَ النَّهْيُ
عَنْهَا نَهْيَ تَأْدِيبٍ ، لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ .
( 212 ) فَصْلٌ : وَيَبْدَأُ الرَّجُلُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِالْقُبُلِ ؛ لِئَلَّا تَتَلَوَّثَ يَدُهُ إذَا شَرَعَ فِي الدُّبُرِ ؛ لِأَنَّ قُبُلَهُ بَارِزٌ تُصِيبُهُ الْيَدُ إذَا مَدَّهَا إلَى الدُّبُرِ ، وَالْمَرْأَةُ مُخَيَّرَةٌ فِي الْبِدَايَةِ بِأَيِّهِمَا شَاءَتْ ، لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهَا .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْكُثَ بَعْدَ الْبَوْلِ قَلِيلًا ، وَيَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَصْلِ الذَّكَرِ مِنْ تَحْتِ الْأُنْثَيَيْنِ ، ثُمَّ يَسْلِتَهُ إلَى رَأْسِهِ فَيَنْتُرُ ذَكَرَهُ ثَلَاثًا بِرِفْقٍ .
قَالَ أَحْمَدُ إذَا تَوَضَّأْت فَضَعْ يَدَك فِي سِفْلَتِك ، ثُمَّ اسْلِتْ مَا ثَمَّ حَتَّى يَنْزِلَ ، وَلَا تَجْعَلْ ذَلِكَ مِنْ هَمِّك ، وَلَا تَلْتَفِت إلَى ظَنِّك .
وَقَدْ رَوَى يَزْدَادُ الْيَمَانِيُّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
وَإِذَا اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ ثُمَّ فَرَغَ ، اُسْتُحِبَّ لَهُ دَلْكُ يَدِهِ بِالْأَرْضِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ { مَيْمُونَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى حَاجَتَهُ ، ثُمَّ اسْتَنْجَى مِنْ تَوْرٍ ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ .
} أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَإِنْ اسْتَنْجَى عَقِيبَ انْقِطَاعِ الْبَوْلِ ، جَازَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ انْقِطَاعُهُ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمَاءَ يَقْطَعُ الْبَوْلَ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الِاسْتِنْجَاءُ انْتِقَاصَ الْمَاءِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْضَحَ عَلَى فَرْجِهِ وَسَرَاوِيلِهِ ؛ لِيُزِيلَ الْوَسْوَاسَ عَنْهُ .
قَالَ حَنْبَلُ : سَأَلْت أَحْمَدَ قُلْت : أَتَوَضَّأُ وَأَسْتَبْرِئُ ، وَأَجِدُ فِي نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَحْدَثْت بَعْدُ ، قَالَ : إذَا تَوَضَّأْت فَاسْتَبْرِئْ ، وَخُذْ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَرُشَّهُ عَلَى فَرْجِك ، وَلَا تَلْتَفِت إلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : جَاءَنِي جِبْرِيلُ ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إذَا تَوَضَّأْت فَانْتَضِحْ } .
وَهُوَ
حَدِيثٌ غَرِيبٌ .
( 213 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالْخَشَبُ وَالْخِرَقُ وَكُلُّ مَا أُنْقِي بِهِ فَهُوَ كَالْأَحْجَارِ هَذَا الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَا يُجْزِئُ إلَّا الْأَحْجَارُ .
اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْأَحْجَارِ ، وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ؛ وَلِأَنَّهُ مَوْضِعُ رُخْصَةٍ وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهَا بِآلَةٍ مَخْصُوصَةٍ ، فَوَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا ، كَالتُّرَابِ فِي التَّيَمُّمِ .
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ خُزَيْمَةَ ، قَالَ : { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاسْتِطَابَةِ ، فَقَالَ : بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ .
} فَلَوْلَا أَنَّهُ أَرَادَ الْحَجَرَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهَا الرَّجِيعَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الرَّجِيعِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى .
وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ لَيَنْهَانَا أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ، وَأَنْ نَسْتَجْمِرَ بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَتَخْصِيصُ هَذَيْنِ بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْحِجَارَةَ ، وَمَا قَامَ مَقَامَهَا .
وَرَوَى طَاوُسٌ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْبَرَازَ فَلْيُنَزِّهْ قِبْلَةَ اللَّهِ ، وَلَا يَسْتَقْبِلْهَا وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا ، وَلْيَسْتَطِبْ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ، أَوْ ثَلَاثَةِ أَعْوَادٍ ، أَوْ ثَلَاثِ حَثَيَاتٍ مِنْ تُرَابٍ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ، وَقَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ وَرَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ مَوْقُوفًا عَلَى طَاوُسٍ .
وَلِأَنَّهُ مَتَى وَرَدَ النَّصُّ بِشَيْءٍ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ ، وَجَبَ تَعْدِيَتُهُ إلَى مَا وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَى ، وَالْمَعْنَى هَاهُنَا إزَالَةُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِغَيْرِ الْأَحْجَارِ ، كَحُصُولِهِ بِهَا ، وَبِهَذَا يَخْرُجُ
التَّيَمُّمُ ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا يُسْتَجْمَرُ بِهِ مُنَقِّيًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْقَاءَ مُشْتَرَطٌ فِي الِاسْتِجْمَارِ ، فَأَمَّا الزَّلِجُ كَالزُّجَاجِ وَالْفَحْمِ الرِّخْوِ وَشِبْهِهِمَا مِمَّا لَا يُنَقِّي ، فَلَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ .
وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ طَاهِرًا ، فَإِنْ كَانَ نَجِسًا لَمْ يُجْزِهِ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُجَفِّفُ كَالطَّاهِرِ .
وَلَنَا { أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ يَسْتَجْمِرُ بِهَا ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ ، وَقَالَ : هَذِهِ رِكْسٌ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، قَالَ : إنَّهَا رِكْسٌ .
يَعْنِي نَجَسًا ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ إزَالَةُ نَجَاسَةٍ ، فَلَا يَحْصُلُ بِالنَّجَاسَةِ كَالْغَسْلِ ، فَإِنْ اسْتَنْجَى بِنَجِسٍ احْتَمَلَ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ الِاسْتِجْمَارُ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ تَنَجَّسَ بِنَجَاسَةٍ مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجِ ، فَلَمْ يُجْزِئْ فِيهَا غَيْرُ الْمَاءِ ، كَمَا لَوْ تَنَجَّسَ ابْتِدَاءً ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ تَابِعَةٌ لِنَجَاسَةِ الْمَحَلِّ ، فَزَالَتْ بِزَوَالِهَا .
( 214 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : إلَّا الرَّوْثَ وَالْعِظَامَ وَالطَّعَامَ ، وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِجْمَارُ بِالرَّوْثِ وَلَا الْعِظَامِ ، وَلَا يُجْزِئُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ الِاسْتِنْجَاءَ بِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يُجَفِّفَانِ النَّجَاسَةَ ، وَيُنَقِّيَانِ الْمَحَلَّ ، فَهُمَا كَالْحَجَرِ .
وَأَبَاحَ مَالِكٌ الِاسْتِنْجَاءَ بِالطَّاهِرِ مِنْهُمَا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا نَهْيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا ، وَرَوَى مُسْلِمٌ ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَسْتَنْجُوا بِالرَّوْثِ وَلَا بِالْعِظَامِ ؛ فَإِنَّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنِّ } .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَوْثٍ أَوْ عَظْمٍ وَقَالَ : إنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ } .
وَقَالَ : إسْنَادٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ، أَنَّهُ قَالَ لِرُوَيْفِعِ بْنِ ثَابِتٍ ، أَبِي بَكْرَةَ : أَخْبِرْ النَّاسَ أَنَّهُ مَنْ اسْتَنْجَى بِرَجِيعٍ أَوْ عَظْمٍ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ .
} وَهَذَا عَامٌّ فِي الطَّاهِرِ مِنْهَا .
وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَعَدَمَ الْإِجْزَاءِ فَأَمَّا الطَّعَامُ فَتَحْرِيمُهُ مِنْ طَرِيقِ التَّنْبِيهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ النَّهْيَ عَنْ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ ، فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، بِكَوْنِهِمَا زَادَ إخْوَانِنَا مِنْ الْجِنِّ ، فَزَادُنَا مَعَ عِظَمِ حُرْمَتِهِ أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ نَهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ ، كَنَهْيِهِ هَاهُنَا ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْإِجْزَاءَ ثَمَّ ، كَذَا هَاهُنَا .
قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّهْيَ هُنَا لِمَعْنًى فِي شَرْطِ الْفِعْلِ ، فَمَنَعَ صِحَّتَهُ ، كَالنَّهْيِ عَنْ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ النَّجِسِ ، وَثَمَّ لِمَعْنًى فِي آلَةِ الشَّرْطِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ كَالْوُضُوءِ مِنْ
إنَاءٍ مُحَرَّمٍ .
( 215 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِنْجَاءُ بِمَا لَهُ حُرْمَةٌ كَشَيْءٍ كُتِبَ فِيهِ فِقْهٌ أَوْ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ الشَّرِيعَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِحُرْمَتِهَا ، فَهُوَ فِي الْحُرْمَةِ أَعْظَمُ مِنْ الرَّوْثِ وَالرِّمَّةِ .
وَلَا يَجُوزُ بِمُتَّصِلٍ بِحَيَوَانٍ كَيَدِهِ وَعَقِبِهِ وَذَنَبِ بَهِيمَةٍ وَصُوفِهَا الْمُتَّصِلِ بِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْمَعُ الْمُسْتَجْمِرُ بِهِ سِتَّ خِصَالٍ أَنْ يَكُونَ طَاهِرًا جَامِدًا مُنَقِّيًا غَيْرَ مَطْعُومٍ وَلَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا مُتَّصِلٍ بِحَيَوَانٍ .
( 216 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالْحَجَرُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَهُ ثَلَاثُ شُعَبٍ يَقُومُ مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ .
وَلَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ دُونَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ } وَلِأَنَّهُ إذَا اسْتَجْمَرَ بِحَجَرٍ تَنَجَّسَ ؛ فَلَا يَجُوزُ الِاسْتِجْمَارُ بِهِ ثَانِيًا كَالصَّغِيرِ .
وَلَنَا : أَنَّهُ إنْ اسْتَجْمَرَ ثَلَاثًا مُنَقِّيَةً بِمَا وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ الِاسْتِجْمَارِ ، أَجْزَأَهُ ، كَمَا لَوْ فَصَلَهُ ثَلَاثَةً صِغَارًا وَاسْتَجْمَرَ بِهَا ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إلَّا فَصْلُهُ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِي التَّطْهِيرِ ، وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي ثَلَاثَ مَسَحَاتٍ بِحَجَرٍ دُونَ عَيْنِ الْأَحْجَارِ كَمَا يُقَالُ ضَرَبْته ثَلَاثَةَ أَسْوَاطٍ أَيْ ثَلَاثَ ضَرَبَاتٍ بِسَوْطٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَعْقُولٌ وَمُرَادَهُ مَعْلُومٌ ، وَلِذَلِكَ لَمْ نَقْتَصِرْ عَلَى لَفْظِهِ فِي غَيْرِ الْأَحْجَارِ ، بَلْ أَجَزْنَا الْخَشَبَ وَالْخِرَقَ وَالْمَدَرَ وَالْمَعْنَى مِنْ ثَلَاثَةٍ حَاصِلٌ مِنْ ثَلَاثِ شُعَبٍ أَوْ مَسْحِهِ ذَكَرَهُ فِي صَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ ، بِثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا أَوْ فِي حَائِطٍ أَوْ أَرْضٍ فَلَا مَعْنَى لِلْجُمُودِ عَلَى اللَّفْظِ مَعَ وُجُودِ مَا يُسَاوِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَقَوْلُهُمْ : تَنَجَّسَ قُلْنَا : إنَّمَا تَنَجَّسَ مَا أَصَابَ النَّجَاسَةَ ، وَالِاسْتِجْمَارُ .
حَاصِلٌ بِغَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَنَجَّسَ جَانِبُهُ بِغَيْرِ الِاسْتِجْمَارِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَجْمَرَ بِهِ ثَلَاثَةٌ لَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَسْحَةٌ وَقَامَ مَقَامَ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَجْمَرَ بِهِ الْوَاحِدُ ، وَلَوْ اسْتَجْمَرَ ثَلَاثَةٌ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لِكُلِّ حَجَرٍ مِنْهَا ثَلَاثُ شُعَبٍ ، فَاسْتَجْمَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ كُلِّ حَجَرٍ بِشُعْبَةٍ ، أَجْزَأَهُمْ وَيَحْتَمِلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ لَا
يُجْزِئَهُمْ .
( 217 ) فَصْلٌ : وَلَوْ اسْتَجْمَرَ بِحَجَرٍ ، ثُمَّ غَسَلَهُ أَوْ كَسَرَ مَا تَنَجَّسَ مِنْهُ وَاسْتَجْمَرَ بِهِ ثَانِيًا ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ وَاسْتَجْمَرَ بِهِ ثَالِثًا أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَجَرٌ يُجْزِئُ غَيْرَهُ الِاسْتِجْمَارُ بِهِ فَأَجْزَأَهُ كَغَيْرِهِ ، وَيَحْتَمِلُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ أَنْ لَا يُجْزِئَهُ ؛ مُحَافَظَةً عَلَى صُورَةِ اللَّفْظِ وَهُوَ بَعِيدٌ .
( 218 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَا عَدَا الْمَخْرَجِ فَلَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الْمَاءُ .
وَبِهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ يَعْنِي إذَا تَجَاوَزَ الْمَحَلَّ بِمَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ مِثْلُ أَنْ يَنْتَشِرَ إلَى الصَّفْحَتَيْنِ وَامْتَدَّ فِي الْحَشَفَةِ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْمَاءُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِجْمَارَ فِي الْمَحَلِّ الْمُعْتَادِ رُخْصَةٌ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ فِي غَسْلِهِ لِتَكَرُّرِ النَّجَاسَةِ فِيهِ فَمَا لَا تَتَكَرَّرُ النَّجَاسَةُ فِيهِ لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا الْغَسْلُ كَسَاقِهِ وَفَخِذِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّكُمْ كُنْتُمْ تَبْعَرُونَ بَعْرًا ، وَأَنْتُمْ الْيَوْمَ تَثْلِطُونَ ثَلْطًا فَأَتْبِعُوا الْمَاءَ الْأَحْجَارَ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { يَكْفِي أَحَدَكُمْ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ } أَرَادَ مَا لَمْ يَتَجَاوَزْ مَحَلَّ الْعَادَةِ لِمَا ذَكَرْنَا .
( 219 ) فَصْلٌ : وَالْمَرْأَةُ الْبِكْرُ كَالرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ عُذْرَتَهَا تَمْنَعُ انْتِشَارَ الْبَوْلِ .
فَأَمَّا الثَّيِّبُ فَإِنْ خَرَجَ الْبَوْلُ بِحِدَةٍ فَلَمْ يَنْتَشِرْ فَكَذَلِكَ .
وَإِنْ تَعَدَّى إلَى مَخْرَجِ الْحَيْضِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَجِبُ غَسْلُهُ لِأَنَّ مَخْرَجَ الْحَيْضِ وَالْوَلَدِ غَيْرُ مَخْرَجِ الْبَوْلِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ ؛ لِأَنَّ هَذَا عَادَةٌ فِي حَقِّهَا فَكَفَى فِيهِ الِاسْتِجْمَارُ كَالْمُعْتَادِ فِي غَيْرِهَا ؛ وَلِأَنَّ الْغَسْلَ لَوْ لَزِمَهَا مَعَ اعْتِيَادِهِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَزْوَاجِهِ لِكَوْنِهِ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَإِنْ شَكَّ فِي انْتِشَارِ الْخَارِجِ إلَى مَا يُوجِبُ الْغَسْلَ ، لَمْ يَجِبْ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ وَالْمُسْتَحَبُّ الْغَسْلُ احْتِيَاطًا .
( 220 ) فَصْلٌ : وَالْأَقْلَفُ إنْ كَانَ مُرْتَتِقًا لَا تَخْرُجُ بَشَرَتُهُ مِنْ قُلْفَتِهِ فَهُوَ كَالْمُخْتَتِنِ ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُهُ كَشْفُهَا كَشَفَهَا فَإِذَا بَالَ وَاسْتَجْمَرَ أَعَادَهَا فَإِنْ تَنَجَّسَتْ بِالْبَوْلِ لَزِمَهُ غَسْلُهَا كَمَا لَوْ انْتَشَرَ إلَى الْحَشَفَةِ .
( 221 ) فَصْلٌ : وَإِنْ انْسَدَّ الْمَخْرَجُ الْمُعْتَادُ وَانْفَتَحَ
آخَرُ ، لَمْ يُجْزِهِ الِاسْتِجْمَارُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَادًا .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ النَّاسِ فَلَمْ تَثْبُتْ فِيهِ أَحْكَامُ الْفَرْجِ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَسُّهُ ، وَلَا يَجِبُ بِالْإِيلَاجِ فِيهِ حَدٌّ وَلَا مَهْرٌ وَلَا غُسْلٌ ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْبَدَنِ .
( 222 ) فَصْلٌ : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِجْمَارِ بَعْدَ الْإِنْقَاءِ طَاهِرٌ ، فَإِنَّ أَحْمَدَ بْنَ الْحُسَيْنِ ، قَالَ سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَبُولُ فَيَسْتَبْرِئُ وَيَسْتَجْمِرُ يَعْرَقُ فِي سَرَاوِيلِهِ ؟ قَالَ إذَا اسْتَجْمَرَ ثَلَاثًا فَلَا بَأْسَ .
وَسَأَلَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ إذَا اسْتَنْجَيْت مِنْ الْغَائِطِ يُصِيبُ ذَلِكَ الْمَاءُ مَوْضِعًا مِنِّي آخَرَ ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ : قَدْ جَاءَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ ، فَاسْتَنْجِ أَنْتَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ ثُمَّ لَا تُبَالِي مَا أَصَابَك مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ .
قَالَ : وَسَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَشِّ الْمَاءِ عَلَى الْخُفِّ إذَا لَمْ يَسْتَجْمِرْ الرَّجُلُ ؟ قَالَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَغْسِلَهُ ثَلَاثًا .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ نَجِسٌ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَلَوْ قَعَدَ الْمُسْتَجْمِرُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ نَجَّسَهُ وَلَوْ عَرِقَ كَانَ عَرَقُهُ نَجِسًا ؛ لِأَنَّهُ مَسْحٌ لِلنَّجَاسَةِ ، فَلَمْ يَطْهُرْ بِهِ مَحَلُّهَا كَسَائِرِ الْمَسْحِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَسْتَنْجُوا بِرَوْثٍ وَلَا عَظْمٍ ، فَإِنَّهُمَا لَا يُطَهِّرَانِ } فَمَفْهُومُهُ أَنَّ غَيْرَهُمَا يُطَهِّرُ ؛ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الِاسْتِجْمَارُ ، حَتَّى إنَّ جَمَاعَةً مِنْهُمْ أَنْكَرُوا الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ ، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ بِدْعَةً وَبِلَادُهُمْ حَارَّةٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَسْلَمُونَ مِنْ الْعَرَقِ ، فَلَمْ
يُنْقَلْ عَنْهُمْ تَوَقِّي ذَلِكَ ، وَلَا الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَلَا ذِكْرُ ذَلِكَ أَصْلًا وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ بَالَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَنَضَحَ فَرْجَهُ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ ، وَلَوْلَا أَنَّهُمَا اعْتَقَدَا طَهَارَتَهُ مَا فَعَلَا ذَلِكَ .
( 223 ) فَصْلٌ : إذَا اسْتَنْجَى بِالْمَاءِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تُرَابٍ قَالَ أَحْمَدُ يُجْزِئُهُ الْمَاءُ وَحْدَهُ .
وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ التُّرَابَ مَعَ الْمَاءِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَلَا أَمَرَ بِهِ ، فَأَمَّا عَدَدُ الْغَسَلَاتِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا ؛ فَقَالَ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِهِ صَالِحٍ أَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ مِنْ الْمَاءِ سَبْعُ مَرَّاتٍ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ : وَلَكِنْ الْمَقْعَدَةُ يُجْزِئُ أَنْ تُمْسَحَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ أَوْ يَغْسِلُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَلَا يُجْزِئُ عِنْدِي إذَا كَانَ فِي الْجَسَدِ أَنْ يَغْسِلَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَذَلِكَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْسِلُ مَقْعَدَتَهُ ثَلَاثًا } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ أَبُو دَاوُد سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ حَدِّ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ ؟ فَقَالَ يُنَقِّي .
وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا عَدَدَ فِيهِ إنَّمَا الْوَاجِبُ الْإِنْقَاءُ ، وَهَذَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ عَدَدٌ ، وَلَا أَمَرَ بِهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنْقَاءِ عَلَى الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا ، وَهُوَ أَنْ تَذْهَبَ لُزُوجَةُ النَّجَاسَةِ وَآثَارُهَا .
فُصُولٌ فِي أَدَبِ التَّخَلِّي لَا يَجُوزُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي الْفَضَاءِ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو أَيُّوبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ : فَقَدِمْنَا الشَّامَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ نَحْوَ الْكَعْبَةِ ، فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِمُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ فَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا } وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَدَاوُد : يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا وَاسْتِدْبَارُهَا لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ ، فَرَأَيْته قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلُهَا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى النَّسْخِ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ .
وَلَنَا أَحَادِيثُ النَّهْيِ ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ .
وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْبُنْيَانِ ، أَوْ مُسْتَتِرًا بِشَيْءٍ وَلَا يَثْبُتُ النَّسْخُ بِالِاحْتِمَالِ وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِلْأَحَادِيثِ الَّتِي نَذْكُرُهَا ، فَأَمَّا فِي الْبُنْيَانِ ، أَوْ إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ .
وَالثَّانِيَةُ يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهَا وَاسْتِدْبَارُهَا فِي الْبُنْيَانِ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْعَبَّاسِ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ : وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَقَدْ حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْبُنْيَانِ ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ قَوْمًا يَكْرَهُونَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بِفُرُوجِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَ قَدْ فَعَلُوهَا اسْتَقْبِلُوا بِمَقْعَدَتِي الْقِبْلَةَ } رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الْمَسَانِيدِ ، مِنْهُمْ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ ، رَوَاهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ الصَّلْتِ ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ عَائِشَةَ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : أَحْسَنُ مَا رُوِيَ فِي الرُّخْصَةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَإِنَّ مَخْرَجَهُ حَسَنٌ .
قَالَ أَحْمَدُ : عِرَاكُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ .
فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ مُرْسَلًا .
وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْبُنْيَانِ ، وَهُوَ خَاصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ .
وَعَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْأَصْفَرِ قَالَ : رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ جَلَسَ يَبُولُ إلَيْهَا .
فَقُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَلَيْسَ قَدْ نُهِيَ عَنْ هَذَا ؟ قَالَ : بَلَى إنَّمَا نُهِيَ عَنْ هَذَا فِي الْفَضَاءِ ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَك وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ شَيْءٌ يَسْتُرُك فَلَا بَأْسَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَامِّ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِدْبَارُ الْكَعْبَةِ فِي الْبُنْيَانِ وَالْفَضَاءِ جَمِيعًا ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ : { رَقِيت يَوْمًا عَلَى بَيْتِ حَفْصَةَ ، فَرَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَاجَتِهِ ، مُسْتَقْبِلَ الشَّامِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
( 225 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ بِفَرْجِهِ ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنْ نُورِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَإِنْ اسْتَتَرَ عَنْهُمَا بِشَيْءٍ فَلَا بَأْسَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَتَرَ عَنْ الْقِبْلَةِ جَازَ فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الرِّيحَ ؛ لِئَلَّا تَرُدَّ عَلَيْهِ رَشَاشَ الْبَوْلِ ، فَيُنَجِّسَهُ .
( 226 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَتِرَ عَنْ النَّاسِ ، فَإِنْ وَجَدَ حَائِطًا أَوْ كَثِيبًا
أَوْ شَجَرَةً أَوْ بَعِيرًا اسْتَتَرَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَبْعَدَ حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَتَى الْغَائِطَ فَلْيَسْتَتِرْ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَنْ يَجْمَعَ كَثِيبًا مِنْ الرَّمْلِ فَلْيَسْتَدْبِرْهُ } وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّهُ خَرَجَ وَمَعَهُ دَرَقَةٌ ، ثُمَّ اسْتَتَرَ بِهَا ، ثُمَّ بَالَ } .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ { : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ الْبَرَازَ انْطَلَقَ حَتَّى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ .
} وَالْبَرَازُ : الْمَوْضِعُ الْبَارِزُ ، سُمِّيَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ بِهِ ؛ لِأَنَّهَا تُقْضَى فِيهِ .
وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، قَالَ { : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ذَهَبَ أَبْعَدَ } ، رَوَى أَحَادِيثَ هَذَا الْفَصْلِ كُلَّهَا أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ { : كَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
( 227 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْتَادَ لِبَوْلِهِ مَوْضِعًا رَخْوًا ؛ لِئَلَّا يَتَرَشَّشَ عَلَيْهِ ، { قَالَ أَبُو مُوسَى كُنْت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَبَوَّلَ ، فَأَتَى دَمِثًا فِي أَصْلِ حَائِطٍ ، فَبَالَ ثُمَّ قَالَ إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَبَوَّلَ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبُولَ قَاعِدًا ؛ لِئَلَّا يَتَرَشَّشَ عَلَيْهِ ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ الْجَفَاءِ أَنْ تَبُولَ وَأَنْتَ قَائِمٌ .
وَكَانَ سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ لَا يُجِيزُ شَهَادَةَ مَنْ بَالَ قَائِمًا ، { قَالَتْ عَائِشَةُ : مَنْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبُولُ قَائِمًا فَلَا تُصَدِّقُوهُ ، مَا كَانَ يَبُولُ إلَّا قَاعِدًا .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ وَقَدْ رُوِيت الرُّخْصَةُ فِيهِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعُرْوَةَ .
وَرَوَى حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ ، فَبَالَ قَائِمًا .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَغَيْرُهُ .
وَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ ذَلِكَ لِتَبْيِينِ الْجَوَازِ ، وَلَمْ يَفْعَلْهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجُلُوسِ فِيهِ .
وَقِيلَ : فَعَلَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ كَانَتْ بِمَأْبِضِهِ .
وَالْمَأْبِضُ مَا تَحْتِ الرُّكْبَةِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ .
( 228 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَرْفَعَ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنْ الْأَرْضِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { كَانَ إذَا أَرَادَ الْحَاجَةَ لَا يَرْفَعُ ثَوْبَهُ حَتَّى يَدْنُوَ مِنْ الْأَرْضِ } ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهُ فَيَكُونُ أَوْلَى .
( 229 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبُولَ فِي طَرِيقِ النَّاسِ ، وَلَا مَوْرِدِ مَاءٍ ، وَلَا ظِلٍّ يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ - الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، وَالظِّلِّ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ .
قَالُوا : وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ فِي ظِلِّهِمْ " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالْمَوْرِدُ طَرِيقٌ .
وَلَا يَبُولُ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ ، فِي حَالِ كَوْنِ الثَّمَرَةِ عَلَيْهَا لِئَلَّا تَسْقُطَ عَلَيْهِ الثَّمَرَةُ فَتَتَنَجَّسَ بِهِ .
فَأَمَّا فِي غَيْرِ حَالِ الثَّمَرَةِ فَلَا بَأْسَ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ إلَيْهِ لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ .
وَلَا يَبُولُ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَاءَ إنْ كَانَ قَلِيلًا تَنَجَّسَ بِهِ
وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا ، فَرُبَّمَا تَغَيَّرَ بِتَكْرَارِ الْبَوْلِ فِيهِ ، فَأَمَّا الْجَارِي فَلَا يَجُوزُ التَّغَوُّطُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي مَنْ يَمُرُّ بِهِ ، وَإِنْ بَالَ فِيهِ وَهُوَ كَثِيرٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْبَوْلُ ، فَلَا بَأْسَ ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاكِدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَارِيَ بِخِلَافِهِ ، وَلَا يَبُولُ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْ الِاسْتِجْمَارِ بِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَبْلُغُ مِنْ الِاسْتِجْمَارِ بِهِ فَالنَّهْيُ ثَمَّ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْبَوْلِ عَلَيْهِ .
وَيُكْرَهُ عَلَى أَنْ يَبُولَ فِي شَقٍّ أَوْ ثَقْبٍ ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُبَالَ فِي الْجُحْرِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُغَفَّلِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ } وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَيَوَانٌ يَلْسَعُهُ أَوْ يَكُونَ مَسْكَنًا لِلْجِنِّ فَيَتَأَذَّى بِهِمْ ، فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بَالَ فِي جُحْرٍ بِالشَّامِ ثُمَّ اسْتَلْقَى مَيِّتًا فَسُمِعَتْ الْجِنُّ تَقُولُ : نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ نُخْطِئْ فُؤَادَهْ وَلَا يَبُولُ فِي مُسْتَحِمِّهِ فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ : سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيَّ يَقُولُ : إنَّمَا هَذَا فِي الْحَفِيرَةِ ؛ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمُغْتَسَلَاتُهُمْ الْجِصُّ وَالصَّارُوجُ وَالْقِيرُ فَإِذَا بَالَ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْبُصَاقَ عَلَى الْبَوْلِ يُورِثُ الْوَسْوَاسَ ، وَإِنَّ الْبَوْلَ عَلَى النَّارِ يُورِثُ السَّقَمَ ، وَتَوَقِّي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْلَى .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ عَلَى مَوْضِعِ بَوْلِهِ ، أَوْ يَسْتَنْجِيَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَنَجَّسَ بِهِ .
( 230 ) فَصْلٌ : وَيَعْتَمِدُ فِي حَالِ جُلُوسِهِ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى ، لِمَا رَوَى
سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَوَكَّأَ عَلَى الْيُسْرَى وَأَنْ نَنْصِبَ الْيُمْنَى } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَسْهَلُ لِخُرُوجِ الْخَارِجِ ، وَلَا يُطِيلُ الْمُقَامَ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّهُ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُورِثُ الْبَاسُورَ وَقِيلَ : إنَّهُ يُدْمِي الْكَبِدَ ، وَرُبَّمَا آذَى مَنْ يَنْتَظِرُهُ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ، أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّهُ حَالَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَيَسْتَحْيِي فِيهَا .
وَيَلْبَسُ حِذَاءَهُ ؛ لِئَلَّا تَتَنَجَّسَ رِجْلَاهُ .
وَلَا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى حَاجَتِهِ إلَّا بِقَلْبِهِ وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَحْمُودٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَلَنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرُدَّ السَّلَامَ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، فَذِكْرُ اللَّهِ أَوْلَى .
فَإِذَا عَطَسَ حَمِدَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، إنَّهُ يَحْمَدُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَرُدَّ السَّلَامَ الْوَاجِبَ ، فَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَوْلَى .
وَلَا يُسَلِّمُ وَلَا يَرُدُّ عَلَى مُسَلِّمٍ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُولُ ، فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ جَابِرٍ ، { أَنَّ رَجُلًا مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبُولُ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَأَيْتَنِي عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا تُسَلِّمْ عَلَيَّ ؛ فَإِنَّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ لَمْ أَرُدَّ عَلَيْك } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَلَا يَتَكَلَّمُ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ ، سَمِعْت
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يَخْرُجُ الرَّجُلَانِ يَضْرِبَانِ الْغَائِطَ كَاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَتَيْهِمَا يَتَحَدَّثَانِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى ذَلِكَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
( 231 ) فَصْلٌ : إذَا أَرَادَ دُخُولَ الْخَلَاءِ وَمَعَهُ شَيْءٌ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى اُسْتُحِبَّ وَضْعُهُ .
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ وَضَعَ خَاتَمَهُ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَقِيلَ : إنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضَعُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ " ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ ، فَإِنْ احْتَفَظَ بِمَا مَعَهُ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاحْتَرَزَ عَلَيْهِ مِنْ السُّقُوطِ ، أَوْ أَدَارَ فَصَّ الْخَاتَمِ إلَى بَاطِنِ كَفِّهِ فَلَا بَأْسَ .
قَالَ أَحْمَدُ .
الْخَاتَمُ إذَا كَانَ فِيهِ اسْمُ اللَّهِ يَجْعَلُهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِ ، وَيَدْخُلُ الْخَلَاءَ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : اقْلِبْهُ هَكَذَا فِي بَاطِنِ كَفِّك فَاقْبِضْ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ ، وَرَخَّصَ فِيهِ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يَدْخُلُ الْخَلَاءَ وَمَعَهُ الدَّرَاهِمُ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .
( 232 ) فَصْلٌ : وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فِي الدُّخُولِ ، وَالْيُمْنَى فِي الْخُرُوجِ وَيَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ بِسْمِ اللَّهِ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ ، وَمِنْ الرِّجْسِ النَّجِسِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
قَالَ أَحْمَدُ يَقُولُ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ ، وَمَا دَخَلْت قَطُّ الْمُتَوَضَّأَ وَلَمْ أَقُلْهَا إلَّا أَصَابَنِي مَا أَكْرَهُ ، وَعَنْ أَنَسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سِتْرُ مَا بَيْنَ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إذَا
دَخَلَ الْكَنِيفَ أَنْ يَقُولَ : بِسْمِ اللَّهِ } وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ : قَالَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَعْجِزُ أَحَدُكُمْ إذَا دَخَلَ مِرْفَقَهُ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الرِّجْسِ النَّجِسِ الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } .
رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْخُبْثُ بِسُكُونِ الْبَاءِ الشَّرُّ وَالْخَبَائِثُ الشَّيَاطِينُ .
وَقِيلَ الْخُبْثُ ، بِضَمِّ الْبَاءِ وَالْخَبَائِثُ : ذُكْرَانُ الشَّيَاطِينِ وَإِنَاثُهُمْ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ قَالَ غُفْرَانَك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي .
وَرَوَى أَنَسٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ قَالَ غُفْرَانَك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنِّي الْأَذَى وَعَافَانِي } أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ قَالَ غُفْرَانَك } قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
( 233 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَبُولَ فِي الْإِنَاءِ قَالَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ رُقَيْقَةَ { : كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَحٌ مِنْ عَيْدَانٍ يَبُولُ فِيهِ ، وَيَضَعُهُ تَحْتَ السَّرِيرِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ .
بَابُ مَا يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ ( 234 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : وَاَلَّذِي يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ مَا خَرَجَ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُعْتَادٍ كَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالْمَنِيِّ وَالْمَذْيِ وَالْوَدْيِ وَالرِّيحِ ، فَهَذَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إجْمَاعًا قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ خُرُوجَ الْغَائِطِ مِنْ الدُّبُرِ وَخُرُوجَ الْبَوْلِ مِنْ ذَكَرِ الرَّجُلِ وَقُبُلِ الْمَرْأَةِ وَخُرُوجَ الْمَذْيِ ، وَخُرُوجَ الرِّيحِ مِنْ الدُّبُرِ أَحْدَاثٌ يَنْقُضُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا الطَّهَارَةَ ، وَيُوجِبُ الْوُضُوءَ ، وَدَمُ الِاسْتِحَاضَةِ يَنْقُضُ الطَّهَارَةَ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا فِي قَوْلِ رَبِيعَةَ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : نَادِرٌ كَالدَّمِ وَالدُّودِ وَالْحَصَا وَالشَّعْرِ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَيْضًا ، وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَكَانَ عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، يَرَوْنَ الْوُضُوءَ مِنْ الدُّودِ يَخْرُجُ مِنْ الدُّبُرِ ، وَلَمْ يُوجِبْ مَالِكٌ الْوُضُوءَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ لِأَنَّهُ نَادِرٌ ، أَشْبَهَ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ .
وَلَنَا أَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ أَشْبَهَ الْمَذْيَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ بِلَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ ، فَيَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِهَا ، وَقَدْ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَحَاضَةَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَدَمُهَا نَادِرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ .
}
( 235 ) فَصْلٌ : وَقَدْ نَقَلَ صَالِحٌ ، عَنْ أَبِيهِ " فِي الْمَرْأَةِ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِهَا الرِّيحُ : مَا خَرَجَ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَفِيهِ الْوُضُوءُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : خُرُوجُ الرِّيحِ مِنْ الذَّكَرِ وَقُبُلِ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ .
وَقَالَ ابْنُ عُقَيْلٍ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِنَا فِي الرِّيحِ يَخْرُجُ مِنْ الذَّكَرِ أَنْ لَا يَنْقُضَ ؛ لِأَنَّ الْمَثَانَةَ لَيْسَ لَهَا مَنْفَذٌ إلَى الْجَوْفِ ، وَلَا جَعَلَهَا أَصْحَابُنَا جَوْفًا ، وَلَمْ يُبْطِلُوا الصَّوْمَ بِالْحُقْنَةِ فِيهِ ، وَلَا نَعْلَمُ لِهَذَا وُجُودًا ، وَلَا نَعْلَمُ وُجُودَهُ فِي حَقِّ أَحَدٍ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُعْلَمُ وُجُودُهُ بِأَنْ يُحِسَّ الْإِنْسَانُ فِي ذَكَرِهِ دَبِيبًا .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ وَالطَّهَارَةُ لَا تَنْتَقِضُ بِالشَّكِّ .
فَإِنْ قُدِّرَ وُجُودُ ذَلِكَ يَقِينًا نَقَضَ الطَّهَارَةَ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ ، فَنَقَضَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْخَوَارِجِ .
( 236 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَّرَ فِي إحْلِيلِهِ دُهْنًا ، ثُمَّ عَادَ فَخَرَجَ نَقَضَ الْوُضُوءَ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ ، وَلَا يَخْلُو مِنْ بِلَّةٍ نَجِسَةٍ تَصْحَبُهُ فَيَنْتَقِضُ بِهَا الْوُضُوءُ ، كَمَا لَوْ خَرَجَتْ مُنْفَرِدَةً .
وَلَوْ احْتَشَى قُطْنًا فِي ذَكَرِهِ ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَيْهِ بَلَلٌ ، نَقَضَ الْوُضُوءَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مُنْفَرِدًا لَنَقَضَ ، فَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ مَعَ غَيْرِهِ .
فَإِنْ خَرَجَ نَاشِفًا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ، يَنْقُضُ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْخَوَارِجِ .
وَالثَّانِي لَا يَنْقُضُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْمَثَانَةِ وَالْجَوْفِ مَنْفَذٌ ، فَلَا يَكُونُ خَارِجًا مِنْ الْجَوْفِ .
وَلَوْ احْتَقَنَ فِي دُبُرِهِ ، فَرَجَعَتْ أَجْزَاءٌ خَرَجَتْ مِنْ الْفَرْجِ ، نَقَضَتْ الْوُضُوءَ .
وَهَكَذَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَتَهُ دُونَ الْفَرْجِ فَدَبَّ مَاؤُهُ ، فَدَخَلَ الْفَرْجَ ، ثُمَّ خَرَجَ نَقَضَ الْوُضُوءَ ، وَعَلَيْهِمَا الِاسْتِنْجَاءُ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ لَا يَخْلُو مِنْ بِلَّةٍ تَصْحَبُهُ مِنْ الْفَرْجِ .
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا خُرُوجَ شَيْءٍ مِنْهُ ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، النَّقْضُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْخُرُوجِ ، فَنَقَضَ كَالنَّوْمِ .
وَالثَّانِي لَا يَنْقُضُ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مُتَيَقَّنَةٌ ، فَلَا تَزُولُ عَنْهَا بِالشَّكِّ لَكِنْ إنْ كَانَ الْمُحْتَقِنُ قَدْ أَدْخَلَ رَأْسَ الزَّرَّاقَةِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ ، نَقَضَ الْوُضُوءَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدْخَلَ فِيهِ مِيلًا أَوْ غَيْرَهُ ، ثُمَّ أَخْرَجَ نَقَضَ الْوُضُوءَ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ السَّبِيلِ ، فَنَقَضَ ، كَسَائِرِ الْخَارِجِ .
( 237 ) فَصْلٌ : قَالَ أَبُو الْحَارِثِ سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ بِهِ عِلَّةٌ رُبَّمَا ظَهَرَتْ مَقْعَدَتُهُ ؟ قَالَ : إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَظْهَرُ مَعَهَا نَدًى تَوَضَّأَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَرَادَ نَدًى يَنْفَصِلُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْفَرْجِ مُتَّصِلٌ فَنَقَضَ كَالْخَارِجِ عَلَى الْحَصَى ، فَأَمَّا الرُّطُوبَةُ اللَّازِمَةُ لَهَا فَلَا تَنْقُضُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ رُطُوبَةٍ ، فَلَوْ نَقَضَتْ لَنَقَضَ خُرُوجُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ وَلِأَنَّهُ شَيْءٌ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهَا ، فَلَمْ يَنْقُضْ كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا ، وَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ لِسَانَهُ وَعَلَيْهِ بَلَلٌ ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ وَابْتَلَعَ ذَلِكَ الْبَلَلَ : أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الِانْفِصَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 238 ) فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَذْيَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ زَلِجًا مُتَسَبْسِبًا عِنْدَ الشَّهْوَةِ ، فَيَكُونُ عَلَى رَأْسِ الذَّكَرِ .
وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ فِي حُكْمِهِ فَرُوِيَ أَنَّهُ يُوجِبُ الْوُضُوءَ وَغَسْلَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنْت رَجُلًا مَذَّاءً ، فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ ، فَأَمَرْت الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ ، وَيَتَوَضَّأُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَفِي لَفْظٍ : " يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ تَوَضَّأْ وَانْضَحْ فَرْجَك " وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ؛ وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ ، فَأَوْجَبَ غَسْلًا زَائِدًا عَلَى مُوجِبِ الْبَوْلِ كَالْمَنِيِّ ، فَعَلَى هَذَا يُجْزِئُهُ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ غَسْلٌ مُطْلَقٌ فَيُوجِبُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْغَسْلِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي قَوْلِهِ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ : " وَانْضَحْ فَرْجَك وَسَوَاءٌ غَسَلَهُ قَبْلَ الْوُضُوءِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ غَسْلٌ غَيْرُ مُرْتَبِطٍ بِالْوُضُوءِ ، فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ ، كَغُسْلِ النَّجَاسَةِ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ وَالْوُضُوءِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِمَا رَوَى سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ ، قَالَ { كُنْت أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً ، فَكُنْت أُكْثِرُ مِنْهُ الِاغْتِسَالَ ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّمَا يُجْزِئُك مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ لَا يُوجِبُ الِاغْتِسَالَ ، فَأَشْبَهَ الْوَدْيَ ، وَالْأَمْرُ بِالنَّضْحِ وَغَسْلِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ .
وَقَوْلُهُ " إنَّمَا يُجْزِئُك مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ " .
صَرِيحٌ فِي حُصُولِ الْإِجْزَاءِ بِالْوُضُوءِ ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ .
فَأَمَّا الْوَدْيُ ، فَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ ثَخِينٌ ، يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ كَدِرًا ، فَلَيْسَ فِيهِ وَفِي بَقِيَّةِ الْخَوَارِجِ إلَّا الْوُضُوءُ .
رُوِيَ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : الْمَنِيُّ وَالْوَدْيُ وَالْمَذْيُ أَمَّا الْمَنِيُّ فَفِيهِ الْغُسْلُ ، وَأَمَّا الْمَذْيُ وَالْوَدْيُ فَفِيهِمَا إسْبَاغُ الطُّهُورِ .
( 239 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ وَخُرُوجُ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ مِنْ غَيْرِ مَخْرَجِهِمَا لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ أَنَّ الْغَائِطَ وَالْبَوْلَ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِخُرُوجِهِمَا مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَمِنْ غَيْرِهِمَا ، وَيَسْتَوِي قَلِيلُهُمَا وَكَثِيرُهُمَا ، سَوَاءٌ كَانَ السَّبِيلَانِ مُنْسَدَّيْنِ أَوْ مَفْتُوحَيْنِ مِنْ فَوْقِ الْمَعِدَةِ أَوْ مِنْ تَحْتِهَا وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ انْسَدَّ الْمَخْرَجُ ، وَانْفَتَحَ آخَرُ دُونَ الْمَعِدَةِ ، لَزِمَ الْوُضُوءُ بِالْخَارِجِ مِنْهُ قَوْلًا وَاحِدًا .
وَإِنْ انْفَتَحَ فَوْقَ الْمَعِدَةِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَالثَّانِي لَا يَنْقُضُهُ .
وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَادُ بَاقِيًا ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِالْخَارِجِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا يَنْقُضُ .
وَلَنَا عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } وَقَوْلُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كُنَّا مُسَافِرِينَ ، أَوْ سَفْرًا ، أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ ، لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَحَقِيقَةُ الْغَائِطِ : الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ ، سُمِّيَ الْخَارِجُ بِهِ لِمُجَاوَرَتِهِ إيَّاهُ .
فَإِنَّ الْمُتَبَرِّزَ يَتَحَرَّاهُ لِحَاجَتِهِ ، كَمَا سُمِّيَ عَذِرَةً ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ فِنَاءُ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُطْرَحُ بِالْأَفْنِيَةِ ، فَسُمِّيَ بِهَا لِلْمُجَاوَرَةِ .
وَهَذَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ الَّتِي صَارَ الْمَجَازُ فِيهَا أَشْهَرَ مِنْ الْحَقِيقَةِ ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَجَازُ وَيُحْمَلُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ لِشُهْرَتِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْخَارِجَ غَائِطٌ وَبَوْلٌ ، فَنَقَضَ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مِنْ السَّبِيلِ .
( 240 ) مَسْأَلَةٌ : ( قَالَ : وَزَوَالُ الْعَقْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِنَوْمٍ يَسِيرٍ جَالِسًا أَوْ قَائِمًا ) زَوَالُ الْعَقْلِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : نَوْمٍ ، وَغَيْرِهِ فَأَمَّا غَيْرُ النَّوْمِ ، وَهُوَ الْجُنُونُ وَالْإِغْمَاء وَالسُّكْرُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْعَقْلِ ، فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَسِيرُهُ وَكَثِيرُهُ إجْمَاعًا ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ حِسُّهُمْ أَبْعَدُ مِنْ حِسِّ النَّائِمِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَبِهُونَ بِالِانْتِبَاهِ ، فَفِي إيجَابِ الْوُضُوءِ عَلَى النَّائِمِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِهِ بِمَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : النَّوْمُ ، وَهُوَ نَاقِضٌ لِلْوُضُوءِ فِي الْجُمْلَةِ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي مِجْلَزٍ وَحُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ ، أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ مِرَارًا مُضْطَجِعًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ ، ثُمَّ يُصَلِّي وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ .
وَلَعَلَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ ، وَالْحَدَثُ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَا يَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ .
وَلَنَا : قَوْلُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ : " لَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ " وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ وَرَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ؛ وَلِأَنَّ النَّوْمَ مَظِنَّةُ الْحَدَثِ ، فَأُقِمْ مَقَامَهُ ، كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ أُقِيمَ مَقَامَ الْإِنْزَالِ .
( 241 ) فَصْلٌ : وَالنَّوْمُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ نَوْمُ الْمُضْطَجِعِ ، فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ يَسِيرُهُ وَكَثِيرُهُ ، فِي قَوْلِ كُلِّ مَنْ يَقُولُ بِنَقْضِهِ بِالنَّوْمِ .
الثَّانِي نَوْمُ الْقَاعِدِ ، إنْ كَانَ كَثِيرًا نَقَضَ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَمْ يَنْقُضْ .
وَهَذَا قَوْلُ حَمَّادٍ وَالْحَكَمِ
وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَنْقُضُ وَإِنْ كَثُرَ إذَا كَانَ الْقَاعِدُ مُتَّكِئًا مُفْضِيًا بِمَحَلِّ الْحَدَثِ إلَى الْأَرْضِ ، لِمَا رَوَى أَنَسٌ ، قَالَ : { كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
يَنَامُونَ ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ ، وَلَا يَتَوَضَّئُونَ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَفِي لَفْظٍ قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حَتَّى تَخْفِقَ رُءُوسُهُمْ ، ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِهِمْ وَبِهِ يَتَخَصَّصُ عُمُومُ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ .
وَلِأَنَّهُ مُتَحَفِّظٌ عَنْ خُرُوجِ الْحَدَثِ ، فَلَمْ يَنْقُضْ وُضُوءَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ نَوْمُهُ يَسِيرًا .
وَلَنَا : عُمُومُ الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ، وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهُمَا فِي الْيَسِيرِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ كَثْرَةٍ وَلَا قِلَّةٍ فَإِنَّ النَّائِمَ يَخْفِقُ رَأْسُهُ مِنْ يَسِيرِ النَّوْمِ ، فَهُوَ يَقِينٌ فِي الْيَسِيرِ ، فَيُعْمَلُ بِهِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ لَا يُتْرَكُ لَهُ الْعُمُومُ الْمُتَيَقَّنُ ؛ وَلِأَنَّ نَقْضَ الْوُضُوءِ بِالنَّوْمِ يُعَلَّلُ بِإِفْضَائِهِ إلَى الْحَدَثِ وَمَعَ الْكَثْرَةِ وَالْغَلَبَةِ يُفْضِي إلَيْهِ ، وَلَا يُحِسُّ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْيَسِيرِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْكَثِيرِ عَلَى الْيَسِيرِ ، لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْحَدَثِ .
الثَّالِثُ مَا عَدَا هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَهُوَ نَوْمُ الْقَائِمِ وَالرَّاكِعِ وَالسَّاجِدِ ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا يَنْقُضُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي تَخْصِيصِهِ مِنْ عُمُومِ أَحَادِيثِ النَّقْضِ نَصٌّ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ، لِكَوْنِ الْقَاعِدِ مُتَحَفِّظًا ، لِاعْتِمَادِهِ بِمَحَلِّ الْحَدَثِ إلَى الْأَرْضِ ، وَالرَّاكِعُ وَالسَّاجِدُ يَنْفَرِجُ مَحَلُّ الْحَدَثِ مِنْهُمَا .
وَالثَّانِيَةُ لَا يَنْقُضُ إلَّا إذَا كَثُرَ .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى
أَنَّ النَّوْمَ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ لَا يَنْقُضُ وَإِنْ كَثُرَ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْجُدُ وَيَنَامُ وَيَنْفُخُ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي ، فَقُلْت لَهُ : صَلَّيْت وَلَمْ تَتَوَضَّأْ وَقَدْ نِمْت ، فَقَالَ : إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا ؛ فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ؛ وَلِأَنَّهُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ .
فَأَشْبَهَتْ حَالَ الْجُلُوسِ ، وَالظَّاهِرُ عَنْ أَحْمَدَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْتَبِهَانِ فِي الِانْخِفَاضِ وَاجْتِمَاعِ الْمَخْرَجِ ، وَرُبَّمَا كَانَ الْقَائِمُ أَبْعَدَ مِنْ الْحَدَثِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِثْقَالِ فِي النَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَثْقَلَ لَسَقَطَ .
وَالظَّاهِرُ عَنْهُ فِي السَّاجِدِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُضْطَجِعِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَرِجُ مَحَلُّ الْحَدَثِ ، وَيَعْتَمِدُ بِأَعْضَائِهِ عَلَى الْأَرْضِ ، وَيَتَهَيَّأُ لِخُرُوجِ الْخَارِجِ فَأَشْبَهَ الْمُضْطَجِعَ .
وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مُنْكَرٌ .
قَالَهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يَثْبُتُ ، وَهُوَ مُرْسَلٌ يَرْوِيهِ قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ .
قَالَ شُعْبَةُ : لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا .
( 242 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفْت الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْقَاعِدِ الْمُسْتَنِدِ وَالْمُحْتَبِي .
فَعَنْهُ : لَا يَنْقُضُ يَسِيرُهُ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت أَحْمَدَ قِيلَ لَهُ : الْوُضُوءُ مِنْ النَّوْمِ ؟ قَالَ إذَا طَالَ .
قِيلَ : فَالْمُحْتَبِي ؟ قَالَ : يَتَوَضَّأُ .
قِيلَ : فَالْمُتَّكِئُ ؟ قَالَ .
الِاتِّكَاءُ شَدِيدٌ ، وَالْمُتَسَانِدُ كَأَنَّهُ أَشَدُّ .
يَعْنِي مِنْ الِاحْتِبَاءِ .
وَرَأَى مِنْهَا كُلِّهَا الْوُضُوءَ ، إلَّا أَنْ يَغْفُوَ .
يَعْنِي قَلِيلًا .
وَعَنْهُ : يَنْقُضُ .
يَعْنِي بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَمِدٌ عَلَى شَيْءٍ ، فَهُوَ كَالْمُضْطَجِعِ .
وَالْأَوْلَى أَنَّهُ مَتَى كَانَ مُعْتَمِدًا بِمَحَلِّ الْحَدَثِ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ لَا يَنْقُضَ مِنْهُ إلَّا
الْكَثِيرُ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ انْتِفَاءِ النَّقْضِ فِي الْقَاعِدِ لَا تَفْرِيقَ فِيهِ فَيُسَوِّي بَيْنَ أَحْوَالِهِ .
( 243 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَحْدِيدِ الْكَثِيرِ مِنْ النَّوْمِ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ لِلْقَلِيلِ حَدٌّ يُرْجَعُ إلَيْهِ ، وَهُوَ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ .
وَقِيلَ : حَدُّ الْكَثِيرِ مَا يَتَغَيَّرُ بِهِ النَّائِمُ عَنْ هَيْئَتِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَسْقُطَ عَلَى الْأَرْضِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَرَى حُلْمًا .
وَالصَّحِيحُ : أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ إنَّمَا يُعْلَمُ بِتَوْقِيفٍ ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي هَذَا ، فَمَتَى وَجَدْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ ، مِثْلُ سُقُوطِ الْمُتَمَكِّنِ وَغَيْرِهِ ، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ .
وَإِنْ شَكَّ فِي كَثْرَتِهِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مُتَيَقِّنَةٌ ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ .
( 244 ) فَصْلٌ : وَمَنْ لَمْ يُغْلَبْ عَلَى عَقْلِهِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ الْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي قَوْله تَعَالَى : { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } السِّنَةُ : ابْتِدَاءُ النُّعَاسِ فِي الرَّأْسِ ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْقَلْبِ صَارَ نَوْمًا قَالَ الشَّاعِرُ : وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ فِي عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ وَلِأَنَّ النَّاقِضَ زَوَالُ الْعَقْلِ ، وَمَتَى كَانَ الْعَقْلُ ثَابِتًا وَحِسُّهُ غَيْرَ زَائِلٍ مِثْلُ مَنْ يَسْمَعُ مَا يُقَالُ عِنْدَهُ وَيَفْهَمُهُ ، فَلَمْ يُوجَدْ سَبَبُ النَّقْضِ فِي حَقِّهِ .
وَإِنْ شَكَّ هَلْ نَامَ أَمْ لَا ، أَوْ خَطِرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا يَدْرِي أَرُؤْيَا أَوْ حَدِيثُ نَفْسٍ ، فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ .
( 245 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَالِارْتِدَادُ عَنْ الْإِسْلَامِ .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّدَّةَ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَتُبْطِلُ التَّيَمُّمَ .
وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِمَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ إمَّا نُطْقًا ، أَوْ اعْتِقَادًا ، أَوْ شَكًّا يَنْقُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَمَتَى عَاوَدَ إسْلَامَهُ وَرَجَعَ إلَى دِينِ الْحَقِّ ، فَلَيْسَ لَهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَضِّئًا قَبْلَ رِدَّتِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَبْطُلُ الْوُضُوءُ بِذَلِكَ ، وَلِلشَّافِعِيِّ فِي بُطْلَانِ التَّيَمُّمِ بِهِ قَوْلَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } فَشَرَطَ الْمَوْتَ ؛ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ فَلَا تَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ ، كَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ .
وَلَنَا : قَوْله تَعَالَى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } وَالطَّهَارَةُ عَمَلٌ ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ حُكْمًا تَبْطُلُ بِمُبْطِلَاتِهَا فَيَجِبُ أَنْ تَحْبَطَ بِالشِّرْكِ ؛ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يُفْسِدُهَا الْحَدَثُ فَأَفْسَدَهَا الشِّرْكُ ، كَالصَّلَاةِ وَالتَّيَمُّمِ ؛ وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ حَدَثٌ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَدَثُ حَدَثَانِ ؛ حَدَثُ اللِّسَانِ ، وَحَدَثُ الْفَرْجِ ، وَأَشَدُّهُمَا حَدَثُ اللِّسَانِ .
وَإِذَا أَحْدَثَ لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ بِغَيْرِ وُضُوءٍ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمَا ذَكَرُوهُ تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ ، وَالْمَنْطُوقُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ شَرَطَ الْمَوْتَ لِجَمِيعِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ ، وَهُوَ حُبُوطُ الْعَمَلِ وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ ، وَأَمَّا غُسْلُ الْجَنَابَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِبْطَالُ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْغُسْلُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ يُوجِبُهُ ، وَهُنَا يَجِبُ الْغُسْلُ أَيْضًا عِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ الْغُسْلَ .
( 246 ) فَصْلٌ : وَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مَا عَدَا الرِّدَّةَ مِنْ الْكَلَامِ مِنْ الْكَذِبِ ، وَالْغِيبَةِ ، وَالرَّفَثِ وَالْقَذْفِ وَغَيْرِهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ مَنْ نَحْفَظُ قَوْلَهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ ، وَقَوْلَ الزُّورِ ، وَالْكَذِبَ ، وَالْغِيبَةَ لَا تُوجِبُ طَهَارَةً ، وَلَا تَنْقُضُ وُضُوءًا ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوَائِلِ أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِالْوُضُوءِ مِنْ الْكَلَامِ الْخَبِيثِ ، وَذَلِكَ اسْتِحْبَابٌ عِنْدَنَا مِمَّنْ أَمَرَ بِهِ ، وَلَا نَعْلَمُ حُجَّةً تُوجِبُ وُضُوءًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكَلَامِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ بِاَللَّاتِي وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَلَمْ يَأْمُرْ فِي ذَلِكَ بِوُضُوءِ .
فَصْلٌ : وَلَيْسَ فِي الْقَهْقَهَةِ وُضُوءٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُرْوَةَ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ الْقَهْقَهَةِ دَاخِلَ الصَّلَاةِ دُونَ خَارِجِهَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي ، فَجَاءَ ضَرِيرٌ فَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَضَحِكَ طَوَائِفُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ ضَحِكُوا أَنْ يُعِيدُوا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ .
} وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ بِأَسَانِيدَ ضِعَافٍ ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى أَبِي الْعَالِيَةِ ، كَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالدَّارَقُطْنِيّ .
وَلَنَا : أَنَّهُ مَعْنًى لَا يُبْطِلُ الْوُضُوءَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يُبْطِلْهُ دَاخِلَهَا كَالْكَلَامِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدَثٍ وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ .
فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَا لَا يُبْطِلُ ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّارِعِ ، وَلَمْ يُنَصَّ عَنْ الشَّارِعِ فِي هَذَا إيجَابُ الْوُضُوءِ ، وَلَا فِي شَيْءٍ يُقَاسُ هَذَا عَلَيْهِ ، وَمَا رَوَوْهُ مُرْسَلٌ لَا يَثْبُتُ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : لَا تَأْخُذُوا بِمَرَاسِيلِ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ فَإِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ عَمَّنْ أَخَذَا .
وَالْمُخَالِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَرُدُّ الْأَخْبَارَ الصَّحِيحَةَ لِمُخَالَفَتِهَا الْأُصُولَ ، فَكَيْفَ يُخَالِفُهَا هَاهُنَا بِهَذَا الْخَبَرِ الضَّعِيفِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ .
( 248 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَسُّ الْفَرْجِ .
الْفَرْجُ اسْمٌ لِمَخْرَجِ الْحَدَثِ ، وَيَتَنَاوَلُ الذَّكَرَ وَالدُّبُرَ وَقُبُلَ الْمَرْأَةِ ، وَفِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ ؛ فَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُفَصَّلًا : وَنَبْدَأُ بِالْكَلَامِ فِي مَسِّ الذَّكَرِ ، فَإِنَّهُ آكَدُهَا .
فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يَنْقُضُ الْوُضُوءَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُرْوَةَ وَسُلَيْمَانِ بْنِ يَسَارٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ سِيرِينَ وَأَبِي الْعَالِيَةِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا وُضُوءَ فِيهِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَمَّارٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ وَعِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ لِمَا رَوَى قَيْسُ بْنُ طَلْقٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : { قَدِمْنَا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَجُلٌ كَأَنَّهُ بَدَوِيٌّ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَى فِي مَسِّ الرَّجُلِ ذَكَرَهُ بَعْدَمَا يَتَوَضَّأُ ؟ فَقَالَ وَهَلْ هُوَ إلَّا بِضْعَةٌ مِنْك أَوْ مُضْغَةٌ مِنْك } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ؛ وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ مِنْهُ ، فَكَانَ كَسَائِرِهِ ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى مَا رَوَتْ بُسْرَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ } وَعَنْ جَابِرٍ مِثْلُ ذَلِكَ وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ ، وَأَبِي أَيُّوبَ قَالَا : سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ } وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُنَّ ابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ أَحْمَدُ حَدِيثُ بُسْرَةَ وَحَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ صَحِيحَانِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ بُسْرَةَ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ : أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ بُسْرَةَ وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ حَدِيثُ أُمِّ حَبِيبَةَ أَيْضًا صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
فَأَمَّا خَبَرُ قَيْسٍ فَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ ، وَأَبُو حَاتِمٍ : قَيْسٌ مِمَّنْ لَا تَقُومُ بِرِوَايَتِهِ حُجَّةٌ ثُمَّ إنَّ حَدِيثَنَا مُتَأَخِّرٌ ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ رَوَاهُ ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ ، صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ سِنِينَ ، وَكَانَ قُدُومُ طَلْقٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يُؤَسِّسُونَ الْمَسْجِدَ أَوَّلَ زَمَنِ الْهِجْرَةِ ، فَيَكُونُ حَدِيثُنَا نَاسِخًا لَهُ .
وَقِيَاسُ الذَّكَرِ عَلَى سَائِرِ الْبَدَنِ لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّهُ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ يَنْفَرِدُ بِهَا ؛ مِنْ وُجُوبِ الْغُسْلِ بِإِيلَاجِهِ وَالْحَدِّ وَالْمَهْرِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
( 249 ) فَصْلٌ : فَعَلَى رِوَايَةِ النَّقْضِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَامِدِ وَغَيْرِهِ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو أَيُّوبَ وَأَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَعَنْ أَحْمَدَ : لَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ إلَّا بِمَسِّهِ قَاصِدًا مَسَّهُ .
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ : قِيلَ لِأَحْمَدَ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ : فَقَالَ : هَكَذَا - وَقَبَضَ عَلَى يَدِهِ - يَعْنِي إذَا قَبَضَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ مَكْحُولٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَحُمَيْدٍ الطَّوِيلِ قَالُوا : إنْ مَسَّهُ يُرِيدُ وُضُوءًا وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْسٌ ، فَلَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ كَلَمْسِ النِّسَاءِ .
( 250 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ بَطْنِ الْكَفِّ وَظَهْرِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ : لَا يَنْقُضُ مَسُّهُ إلَّا بِبَاطِنِ كَفِّهِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْكَفِّ لَيْسَ بِآلَةٍ لِلْمَسِّ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ مَسَّهُ بِفَخِذِهِ .
وَاحْتَجَّ أَحْمَدُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إلَى فَرْجِهِ
لَيْسَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ فَلْيَتَوَضَّأْ } وَفِي لَفْظٍ : { إذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ إلَى ذَكَرِهِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ } رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَظَاهِرُ كَفِّهِ مِنْ يَدِهِ ، وَالْإِفْضَاءُ : اللَّمْسُ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ ؛ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ يَدِهِ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمُعَلَّقَةُ عَلَى مُطْلَقِ الْيَدِ ، فَأَشْبَهَ بَاطِنَ الْكَفِّ .
( 251 ) فَصْلٌ : وَلَا يَنْقُضُ مَسُّهُ بِذِرَاعِهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَنْقُضُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ يَدِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ عَلَى مُطْلَقِ الْيَدِ فِي الشَّرْعِ لَا يَتَجَاوَزُ الْكُوعَ ، بِدَلِيلِ قَطْعِ السَّارِقِ ، وَغَسْلِ الْيَدِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ ، وَالْمَسْحِ فِي التَّيَمُّمِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُهُ فِي الْوُضُوءِ ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالْمَرَافِقِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِآلَةٍ لِلْمَسِّ ، أَشْبَهَ الْعَضُدَ ، وَكَوْنُهُ مِنْ يَدِهِ يَبْطُلُ بِالْعَضُدِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ .
( 252 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِهِ وَذَكَرِ غَيْرِهِ ، وَقَالَ دَاوُد : لَا يَنْقُضُ مَسُّ ذَكَرِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ وَالْأَخْبَارُ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي ذَكَرِ نَفْسِهِ ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ .
وَلَنَا أَنَّ مَسَّ ذَكَرِ غَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ ، وَأَدْعَى إلَى الشَّهْوَةِ ، وَخُرُوجُ الْخَارِجِ ، وَحَاجَةُ الْإِنْسَانِ تَدْعُو إلَى مَسِّ ذَكَرِ نَفْسِهِ ، فَإِذَا انْتَقَضَ بِمَسِّ ذَكَرِ نَفْسِهِ فَبِمَسِّ ذَكَرِ غَيْرِهِ أَوْلَى ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ يُقَدَّمُ عَلَى الدَّلِيلِ ، وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ خَبَرِ بُسْرَةَ : " مَنْ مَسَّ الذَّكَرَ فَلْيَتَوَضَّأْ " .
( 253 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَكَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ : لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ مَسَّ ذَكَرَ الصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ مَسُّهُ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَبَّلَ زُبَيْبَةَ الْحَسَنِ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَّ زُبَيْبَةَ الْحَسَنِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ .
} وَلَنَا عُمُومُ قَوْلِهِ : " مَنْ مَسَّ الذَّكَرَ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَلِأَنَّهُ ذَكَرٌ آدَمِيٌّ مُتَّصِلٌ بِهِ ، أَشْبَهَ الْكَبِيرَ ، وَالْخَبَرُ لَيْسَ بِثَابِتٍ .
ثُمَّ إنَّ نَقْضَ اللَّمْسِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْقُبْلَةِ نَاقِضَةً .
ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي مَجْلِسِهِ ، وَجَوَازُ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ يَبْطُلُ بِذَكَرِ نَفْسِهِ .
( 254 ) فَصْلٌ : وَفَرْجُ الْمَيِّتِ كَفَرْجِ الْحَيِّ لِبَقَاءِ الِاسْمِ وَالْحُرْمَةِ ، لِاتِّصَالِهِ بِجُمْلَةِ الْآدَمِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ .
وَفِي الذَّكَرِ الْمَقْطُوعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَنْقُضُ ؛ لِبَقَاءِ اسْمِ الذَّكَرِ .
وَالْآخَرُ لَا يَنْقُضُ ؛ لِذَهَابِ الْحُرْمَةِ ، وَعَدَمِ الشَّهْوَةِ بِمَسِّهِ ، فَأَشْبَهَ ثِيلَ الْجَمَلِ .
وَلَوْ مَسَّ الْقُلْفَةَ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الْخِتَانِ قَبْلَ قَطْعِهَا ، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِلْدَةِ الذَّكَرِ .
وَإِنْ مَسَّهَا بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ ؛ لِزَوَالِ الِاسْمِ وَالْحُرْمَةِ .
( 255 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَسُّ حَلْقَةِ الدُّبُرِ ، فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ أَيْضًا : إحْدَاهُمَا لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ .
قَالَ الْخَلَّالُ : الْعَمَلُ وَالْأَشْيَعُ فِي قَوْلِهِ وَحُجَّتِهِ ، أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الدُّبُرِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ الْحَدِيثِ : " مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ مَسَّهُ ، وَلَا يُفْضِي إلَى خُرُوجِ خَارِجٍ .
وَالثَّانِيَةُ يَنْقُضُ .
نَقَلَهَا أَبُو دَاوُد .
وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْفَرْجَيْنِ ، أَشْبَهَ الذَّكَرَ .
( 256 ) فَصْلٌ : وَفِي مَسِّ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا أَيْضًا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا يَنْقُضُ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : " مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ،
عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ } وَلِأَنَّهَا آدَمِيٌّ مَسَّ فَرْجَهُ ، فَانْتَقَضَ وُضُوءُهُ كَالرَّجُلِ .
وَالْأُخْرَى لَا يَنْتَقِضُ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، فَالْجَارِيَةُ إذَا مَسَّتْ فَرْجَهَا أَعَلَيْهَا وُضُوءٌ ؟ قَالَ : لَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا بِشَيْءٍ .
قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَسَّتْ فَرْجَهَا فَلْتَتَوَضَّأْ " فَتَبَسَّمَ ، وَقَالَ : هَذَا حَدِيثُ الزُّبَيْدِيِّ ، وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَاكَ ؛ وَلِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ فِي مَسِّ الذَّكَرِ ، وَلَيْسَ مَسُّ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا فِي مَعْنَاهُ ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَدْعُو إلَى خُرُوجِ خَارِجٍ ، فَلَمْ يَنْقُضْ .
( 257 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا لَمْسُ فَرْجِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّمْسُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ اللَّمْسُ مِنْهُ فَلَمَسَ أَحَدَ فَرْجَيْهِ ، لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَلْمُوسُ خِلْقَةً زَائِدَةً .
وَإِنْ لَمَسَهُمَا جَمِيعًا ، وَقُلْنَا : لَا يَنْقُضُ وُضُوءَ الْمَرْأَةِ مَسُّ فَرْجِهَا .
لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً مَسَّتْ فَرْجَهَا ، أَوْ خِلْقَةً زَائِدَةً ، وَإِنْ قُلْنَا : يَنْقُضُ .
انْتَقَضَ وُضُوءُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فَرْجًا ، وَإِنْ كَانَ اللَّامِسُ رَجُلًا ، فَمَسَّ الذَّكَرَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ .
وَإِنْ مَسَّهُ لِشَهْوَةِ ، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا فَقَدْ مَسَّهُ وَإِنْ كَانَ أُنْثَى فَقَدْ مَسَّهَا لِشَهْوَةِ .
وَإِنْ مَسَّ قُبُلَ الْمَرْأَةِ لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خِلْقَةً زَائِدَةً مِنْ رَجُلٍ .
وَإِنْ مَسَّهُمَا جَمِيعًا لِشَهْوَةِ ، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الذَّكَرِ .
وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ فِي الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ
يَكُونَ مَسَّ ذَكَرَ رَجُلٍ أَوْ فَرْجَ امْرَأَةٍ .
وَإِنْ كَانَ اللَّامِسُ امْرَأَةً ، فَلَمَسَتْ أَحَدَهُمَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهَا .
وَإِنْ لَمَسَتْ الذَّكَرَ لِشَهْوَةٍ ، لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهَا ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خِلْقَةً زَائِدَةً مِنْ امْرَأَةٍ .
فَإِنْ مَسَّتْ فَرْجَ الْمَرْأَةِ لِشَهْوَةٍ ، انْبَنَى عَلَى مَسِّ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ لِشَهْوَةٍ ، فَإِنْ قُلْنَا يَنْقُضُ .
انْتَقَضَ وُضُوءُهَا هَاهُنَا لِذَلِكَ .
وَإِلَّا لَمْ يَنْتَقِضْ .
وَإِنْ مَسَّتْهُمَا جَمِيعًا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، وَقُلْنَا : إنَّ مَسَّ فَرْجِ الْمَرْأَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ .
انْتَقَضَ وُضُوءُهَا هَاهُنَا ، وَإِلَّا فَلَا .
وَإِنْ كَانَ اللَّامِسُ خُنْثَى مُشْكِلًا لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ ، إلَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْفَرْجَيْنِ فِي اللَّمْسِ .
وَلَوْ مَسَّ أَحَدُ الْخُنْثَيَيْنِ ذَكَرَ الْآخَرِ ، وَمَسَّ الْآخَرُ فَرْجَهُ ، وَكَانَ اللَّمْسُ مِنْهُمَا لِشَهْوَةٍ ، أَوْ لِغَيْرِهَا فَلَا وُضُوءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ يَقِينُ الطَّهَارَةِ بَاقٍ فِي حَقِّهِ ، وَالْحَدَثُ مَشْكُوكٌ فِيهِ .
فَلَا نَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا امْرَأَتَيْنِ ، فَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ لَامِسِ الذَّكَرِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ ، فَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ لَامِسِ الْفَرْجِ .
وَإِنْ مَسَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَكَرَ الْآخَرِ ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَا امْرَأَتَيْنِ ، وَقَدْ مَسَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِلْقَةً زَائِدَةً مِنْ الْآخَرِ .
وَإِنْ مَسَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُبُلَ الْآخَرِ ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ .
( 258 ) فَصْلٌ : وَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ مَا عَدَا الْفَرْجَيْنِ مِنْ سَائِرِ الْبَدَنِ ، كَالرَّفْغِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالْإِبْطِ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ : مَنْ مَسَّ أُنْثَيَيْهِ فَلْيَتَوَضَّأْ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : مَنْ مَسَّ مَا بَيْنَ الْفَرْجَيْنِ فَلْيَتَوَضَّأْ .
وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي هَذَا وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ ، وَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي اللَّامِسِ .
وَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِمَسِّ فَرْجِ بَهِيمَةٍ ، وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : عَلَيْهِ الْوُضُوءُ ، وَقَالَ عَطَاءٌ : مَنْ مَسَّ قُنْبَ ( 1 ) حِمَارٍ ، عَلَيْهِ الْوُضُوءُ ، وَمَنْ مَسَّ ثِيلَ جَمَلٍ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ .
وَمَا قُلْنَاهُ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى النَّقْضِ بِهِ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِهِ .
( 259 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : الْقَيْءُ الْفَاحِشُ ، وَالدَّمُ الْفَاحِشُ وَالدُّودُ الْفَاحِشُ يَخْرُجُ مِنْ الْجُرُوحِ .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْخَارِجَ مِنْ الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ : طَاهِرًا وَنَجِسًا ؛ فَالطَّاهِرُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَلَى حَالٍ مَا ، وَالنَّجِسُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فِي الْجُمْلَةِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَلْقَمَةَ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَكَانَ مَالِكٌ وَرَبِيعَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، لَا يُوجِبُونَ مِنْهُ وُضُوءًا ، وَقَالَ مَكْحُولٌ : لَا وُضُوءَ إلَّا فِيمَا خَرَجَ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مِنْ غَيْرِ الْمَخْرَجِ ، مَعَ بَقَاءِ الْمَخْرَجِ ، فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ نَقْضُ الطَّهَارَةِ ، كَالْبُصَاقِ وَلِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى مَحَلِّ النَّصِّ ، وَهُوَ الْخَارِجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ ، لِكَوْنِ الْحُكْمِ فِيهِ غَيْرَ مُعَلَّلٍ وَلِأَنَّهُ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، وَطَاهِرِهِ وَنَجِسِهِ ؛ وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ ، فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ .
وَلَنَا : مَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَتَوَضَّأَ ، فَلَقِيت ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ ثَوْبَانُ : صَدَقَ ، أَنَا صَبَبْت لَهُ وَضُوءَهُ .
} رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هَذَا أَصَحُّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْبَابِ قِيلَ لِأَحْمَدَ : حَدِيثُ ثَوْبَانَ ثَبَتَ عِنْدَك ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إذَا قَلَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ " قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ ، فَيَكُونُ
إجْمَاعًا ؛ وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ يَلْحَقُهُ حُكْمُ التَّطْهِيرِ ، فَنَقَضَ الْوُضُوءَ كَالْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلِ .
وَقِيَاسُهُمْ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا انْفَتَحَ مَخْرَجٌ دُونَ الْمَعِدَةِ .
( 260 ) فَصْلٌ : وَإِنَّمَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِالْكَثِيرِ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْيَسِيرِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الْيَسِيرَ يَنْقُضُ .
وَلَا نَعْرِفُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْخَلَّالُ فِي " جَامِعِهِ " إلَّا فِي الْقَلْسِ ، وَاطَّرَحَهَا وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَنْقُضُ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الدَّمِ : إذَا كَانَ فَاحِشًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ .
وَابْنُ أَبِي أَوْفَى بَزَقَ دَمًا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى .
وَابْنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ دَمٌ ، وَصَلَّى ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : عِدَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ تَكَلَّمُوا فِيهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ كَانَ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِي أَنْفِهِ ، وَابْنُ عُمَرَ عَصَرَ بَثْرَةً وَابْنُ أَبِي أَوْفَى عَصَرَ دُمَّلًا وَابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا كَانَ فَاحِشًا .
وَجَابِرٌ أَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِي أَنْفِهِ ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ أَدْخُلَ أَصَابِعَهُ الْعَشَرَةَ فِي أَنْفِهِ ، وَأَخْرَجَهَا مُتَلَطِّخَةً بِالدَّمِ .
يَعْنِي : وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا سَالَ الدَّمُ فَفِيهِ الْوُضُوءُ ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ ، لَمْ يَجِبْ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ .
} وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهُمْ مُخَالِفًا .
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ الْوُضُوءُ مِنْ الْقَطْرَةِ وَالْقَطْرَتَيْنِ } وَحَدِيثُهُمْ لَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ ، وَقَدْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إذَا كَانَ دُونَ مِلْءِ الْفَمِ ، لَمْ يَجِبْ الْوُضُوءُ مِنْهُ .
( 261 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ أَنَّ
الْكَثِيرَ الَّذِي يَنْقُضُ الْوُضُوءَ لَا حَدَّ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ يَكُونَ فَاحِشًا وَقِيلَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، مَا قَدْرُ الْفَاحِشِ ؟ قَالَ : مَا فَحُشَ فِي قَلْبِك وَقِيلَ لَهُ : مِثْلُ أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ الْفَاحِشُ ؟ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا فَحُشَ فِي قَلْبِك وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ : كَمْ الْكَثِيرُ ؟ فَقَالَ : شِبْرٌ فِي شِبْرٍ وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ : قَدْرُ الْكَفِّ فَاحِشٌ .
وَفِي مَوْضِعٍ قَالَ : الَّذِي يُوجِبُ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ مِقْدَارَ مَا يَرْفَعُهُ الْإِنْسَانُ بِأَصَابِعِهِ الْخَمْسِ مِنْ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ .
فَقِيلَ لَهُ : إنْ كَانَ مِقْدَارَ عَشْرَةِ أَصَابِعَ ؟ فَرَآهُ كَثِيرًا .
قَالَ الْخَلَّالُ : وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْفَاحِشِ ، أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَفْحِشُهُ كُلُّ إنْسَانٍ فِي نَفْسِهِ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا يَفْحُشُ فِي نُفُوسِ أَوْسَاطِ النَّاسِ ، لَا الْمُتَبَذِّلِينَ ، وَلَا الْمُوَسْوِسِينَ ، كَمَا رَجَعْنَا فِي يَسِيرِ اللُّقَطَةِ الَّذِي لَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ إلَى مَا لَا تَتْبَعُهُ نُفُوسُ أَوْسَاطِ النَّاسِ .
وَنَصُّ أَحْمَدَ فِي هَذَا كَمَا حَكَيْنَاهُ ، وَذَهَبَ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( 262 ) فَصْلٌ : وَالْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ كَالدَّمِ فِيمَا ذَكَرْنَا ، وَأَسْهَلُ وَأَخَفُّ مِنْهُ حُكْمًا عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا الْقَيْحَ وَالصَّدِيدَ كَالدَّمِ .
وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ فِي الصَّدِيدِ : لَا شَيْءَ ، إنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ الدَّمَ الْمَسْفُوحَ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي قُرْحَةٍ سَالَ مِنْهَا كَغُسَالَةِ اللَّحْمِ : لَا وُضُوءَ فِيهِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : كُلُّ مَا سِوَى الدَّمِ لَا يُوجِبُ وُضُوءًا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَعُرْوَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ وَاللَّيْثُ : الْقَيْحُ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ .
فَلِذَلِكَ خَفَّ حُكْمُهُ عِنْدَهُ ، وَاخْتِيَارُهُ مَعَ ذَلِكَ إلْحَاقُهُ بِالدَّمِ وَإِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِهِ
فِيهِ ، وَلَكِنْ الَّذِي يَفْحُشُ مِنْهُ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي يَفْحُشُ مِنْ الدَّمِ .
( 263 ) فَصْلٌ : وَالْقَلْسُ كَالدَّمِ ، يَنْقُضُ الْوُضُوءَ مِنْهُ مَا فَحُشَ .
قَالَ الْخَلَّالُ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْهُ ، أَنَّهُ إذَا كَانَ فَاحِشًا أَعَادَ الْوُضُوءَ مِنْهُ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ فِيهِ الْوُضُوءُ إذَا مَلَأَ الْفَمَ .
وَقِيلَ عَنْهُ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْفَمِ لَا يَتَوَضَّأُ .
وَالْأَوَّلُ الْمَذْهَبُ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الدُّودِ الْخَارِجِ مِنْ الْجَسَدِ ، إذَا كَانَ كَثِيرًا نَقَضَ الْوُضُوءَ ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا ، لَمْ يَنْقُضْ ، وَالْكَثِيرُ مَا فَحُشَ فِي النَّفْسِ .
( 264 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْجُشَاءُ فَلَا وُضُوءَ فِيهِ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا قَالَ مُهَنَّا : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ الرِّيحُ مِثْلُ الْجُشَاءِ الْكَثِيرِ ؟ قَالَ .
لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ النُّخَاعَةُ لَا وُضُوءَ فِيهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الرَّأْسِ أَوْ الصَّدْرِ ؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ ، أَشْبَهَتْ الْبُصَاقَ .
( 265 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَأَكْلُ لَحْمِ الْجَزُورِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْإِبِلِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ حَالٍ نِيئًا وَمَطْبُوخًا ، عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا .
وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو خَيْثَمَةَ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : ذَهَبَ إلَى هَذَا عَامَّةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ لَا مِمَّا يَدْخُلُ } وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ مَأْكُولٌ أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَأْكُولَاتِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : فِي الَّذِي يَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ : إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ قَدْ عَلِمَ وَسَمِعَ ، فَهَذَا عَلَيْهِ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ ، فَلَيْسَ هُوَ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَدْرِي .
قَالَ الْخَلَّالُ : وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَلَنَا : مَا رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ، فَقَالَ : تَوَضَّئُوا مِنْهَا وَسُئِلَ عَنْ لُحُومِ الْغَنَمِ ، فَقَالَ : لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ ، وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ .
} وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ ، قَالَ أَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ وَابْنُ رَاهْوَيْهِ : فِيهِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ حَدِيثُ الْبَرَاءِ وَحَدِيثُ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ .
وَحَدِيثُهُمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ ، وَلَوْ صَحَّ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ حَدِيثِنَا عَلَيْهِ ؛ لِكَوْنِهِ أَصَحَّ مِنْهُ وَأَخَصَّ وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ لَا يُعَارِضُ حَدِيثَنَا أَيْضًا ؛ لِصِحَّتِهِ وَخُصُوصِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَحَدِيثُ جَابِرٍ مُتَأَخِّرٌ ، فَيَكُونُ نَاسِخًا .
قُلْنَا : لَا يَصِحُّ النَّسْخُ بِهِ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ نَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ ، أَوْ مُقَارِنٌ لَهُ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ ، وَهِيَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ حَصَلَ بِهَذَا النَّهْيِ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ قَبْلَهُ ؛ فَإِنْ كَانَ بِهِ ، فَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ مُقَارِنٌ لِنَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِهِ ؟ وَمِنْ شُرُوطِ النَّسْخِ تَأَخُّرُ النَّاسِخِ ، وَإِنْ كَانَ النَّسْخُ قَبْلَهُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُنْسَخَ بِمَا قَبْلَهُ .
الثَّانِي ، أَنَّ أَكْلَ لُحُومِ الْإِبِلِ إنَّمَا نَقَضَ ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ ، لَا لِكَوْنِهِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ ، وَلِهَذَا يَنْقُضُ وَإِنْ كَانَ نِيئًا ، فَنَسْخُ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ بِهِ نَسْخُ الْجِهَةِ الْأُخْرَى ، كَمَا لَوْ حَرَّمَتْ الْمَرْأَةُ لِلرَّضَاعِ ، وَلِكَوْنِهَا رَبِيبَةً ، فَنَسْخُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ الرَّبِيبَةِ .
الثَّالِثُ ، أَنَّ خَبَرَهُمْ عَامٌّ وَخَبَرَنَا خَاصٌّ ، وَالْعَامُّ لَا يُنْسَخُ بِهِ الْخَاصُّ ؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ النَّسْخِ تَعَذُّرَ الْجَمْعِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ
الْخَاصِّ وَالْعَامِّ مُمْكِنٌ بِتَنْزِيلِ الْعَامِّ عَلَى مَا عَدَا مَحَلِّ التَّخْصِيصِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ خَبَرَنَا صَحِيحٌ مُسْتَفِيضٌ ، ثَبَتَتْ لَهُ قُوَّةُ الصِّحَّةِ وَالِاسْتِفَاضَةِ وَالْخُصُوصِ ، وَخَبَرَهُمْ ضَعِيفٌ ؛ لِعَدَمِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ فِي خَبَرِكُمْ يَحْتَمِلُ الِاسْتِحْبَابَ ، فَنَحْمِلُهُ عَلَيْهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ غَسْلَ الْيَدَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ إذَا أُضِيفَ إلَى الطَّعَامِ ، اقْتَضَى غَسْلَ الْيَدِ ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْمُرُ بِالْوُضُوءِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ ، وَخُصَّ ذَلِكَ بِلَحْمِ الْإِبِلِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مِنْ الْحَرَارَةِ وَالزُّهُومَةِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهِ .
قُلْنَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْوُجُوبُ .
الثَّانِي ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ حُكْمِ هَذَا اللَّحْمِ ، فَأَجَابَ بِالْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَلْبِيسًا عَلَى السَّائِلِ ، لَا جَوَابًا .
الثَّالِثُ ، أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَنَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ ، وَالْمُرَادُ بِالنَّهْيِ هَاهُنَا نَفْيُ الْإِيجَابِ لَا التَّحْرِيمِ ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيجَابِ ، لِيَحْصُلَ الْفَرْقُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَا يَصِحُّ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، فَإِنَّ غَسْلَ الْيَدِ بِمُفْرَدِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْوُضُوءَ إذَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ الشَّارِعِ ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَوْضُوعِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُ ، أَنَّهُ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِمَوْضُوعَاتِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا لِسُؤَالِ السَّائِلِ عَنْ حُكْمِ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِهَا ، وَالصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِهَا فَلَا يُفْهَمُ مِنْ
ذَلِكَ سِوَى الْوُضُوءِ الْمُرَادِ لِلصَّلَاةِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ غَسْلَ الْيَدِ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ ؛ فَإِنَّ غَسْلَ الْيَدِ مِنْهُمَا مُسْتَحَبٌّ وَلِهَذَا قَالَ : " مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ رِيحُ غَمَرٍ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ ، فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ " .
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ زِيَادَةِ الزُّهُومَةِ فَأَمْرٌ يَسِيرٌ ، لَا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ نَصْرِفُ بِهِ اللَّفْظَ عَنْ ظَاهِرِهِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ لَهُ مِنْ الْقُوَّةِ بِقَدْرِ قُوَّةِ الظَّوَاهِرِ الْمَتْرُوكَةِ ، وَأَقْوَى مِنْهَا ، وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ ، وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّهُ طَرْدِيٌّ لَا مَعْنَى فِيهِ ، وَانْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْمَأْكُولَاتِ لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي ، لَا لِكَوْنِهِ مَأْكُولًا ، فَلَا أَثَرَ لِكَوْنِهِ مَأْكُولًا ، وَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ مُخَالِفِينَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، أَوْجَبُوا الْوُضُوءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ تُخَالِفُ الْأُصُولَ ؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ أَوْجَبَهُ بِالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ دُونَ خَارِجِهَا ، بِحَدِيثٍ مِنْ مَرَاسِيلِ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَوْجَبَاهُ بِمَسِّ الذَّكَرِ ، بِحَدِيثٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، مُعَارَضٍ بِمِثْلِهِ دُونَ مَسِّ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ ، وَتَرَكُوا هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا مُعَارِضَ لَهُ ، مَعَ بُعْدِهِ عَنْ التَّأْوِيلِ ، وَقُوَّةِ الدَّلَالَةِ فِيهِ ، لِمُخَالَفَتِهِ لِقِيَاسٍ طَرْدِيٍّ .
( 266 ) فَصْلٌ : وَفِي شُرْبِ لَبَنِ الْإِبِلِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ؛ لِمَا رَوَى أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَفِي لَفْظٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَلْبَانِ الْإِبِلِ ، فَقَالَ : تَوَضَّئُوا مِنْ أَلْبَانِهَا " وَسُئِلَ عَنْ أَلْبَانِ الْغَنَمِ ، فَقَالَ : " لَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ أَلْبَانِهَا " .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا وُضُوءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ إنَّمَا وَرَدَ فِي اللَّحْمِ .
وَقَوْلُهُمْ : فِيهِ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا صَحِيحَ فِيهِ سِوَاهُمَا ، وَالْحُكْمُ هَاهُنَا غَيْرُ مَعْقُولٍ ، فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ فِيهِ .
وَفِيمَا سِوَى اللَّحْمِ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَعِيرِ ، مِنْ كَبِدِهِ ، وَطِحَالِهِ وَسَنَامِهِ ، وَدُهْنِهِ ، وَمَرَقِهِ ، وَكَرِشِهِ ، وَمُصْرَانِهِ ، وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا يَنْقُضُ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ ، وَالثَّانِي يَنْقُضُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْجَزُورِ .
وَإِطْلَاقُ اللَّحْمِ فِي الْحَيَوَانِ يُرَادُ بِهِ جُمْلَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا فِيهِ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى لَحْمَ الْخِنْزِيرِ ، كَانَ تَحْرِيمًا لِجُمْلَتِهِ ، كَذَا هَاهُنَا .
( 267 ) فَصْلٌ : وَمَا عَدَا لَحْمَ الْجَزُورِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَا وُضُوءَ فِيهِ ، سَوَاءٌ مَسَّتْهُ النَّارُ أَوْ لَمْ تَمَسَّهُ .
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ، الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي أُمَامَةَ ، وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ، وَلَا نَعْلَمُ الْيَوْمَ فِيهِ خِلَافًا .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ إلَى إيجَابِ الْوُضُوءِ مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو طَلْحَةَ وَأَبُو مُوسَى وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو مِجْلَزٍ وَأَبُو قِلَابَةَ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَزَيْدٌ ، وَعَائِشَةُ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } وَفِي لَفْظٍ { إنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } رَوَاهُنَّ مُسْلِمٌ .
وَلَنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ } وَقَوْلُ جَابِرٍ { كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .
( 268 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَغَسْلُ الْمَيِّتِ .
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ ؛ فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ بِوُجُوبِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَغْسُولُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيِّ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَأْمُرَانِ غَاسِلَ الْمَيِّتِ بِالْوُضُوءِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : أَقَلُّ مَا فِيهِ الْوُضُوءُ .
وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ .
وَلِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَنْ تَقَعَ يَدُهُ عَلَى فَرْجِ الْمَيِّتِ ، فَكَانَ مَظِنَّةُ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ حَقِيقَتِهِ ، كَمَا أُقِيمَ النَّوْمُ مَقَامَ الْحَدَثِ .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ : لَا وُضُوءَ فِيهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ .
وَلَمْ يَرِدْ فِي هَذَا نَصٌّ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ .
وَلِأَنَّهُ غَسْلُ آدَمِيٍّ .
فَأَشْبَهَ غَسْلَ الْحَيِّ .
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا يُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْوُجُوبِ ، فَإِنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ } وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ .
فَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الْغَسْلَ بِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَنْ لَا يُوجِبَ الْوُضُوءَ بِقَوْلِهِ ، مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ ، أَوْلَى وَأَحْرَى .
( 269 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمُلَاقَاةُ جِسْمِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ لِشَهْوَةٍ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّ لَمْسَ النِّسَاءِ لِشَهْوَةٍ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَلَا يَنْقُضُهُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ .
وَهَذَا قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالشَّعْبِيِّ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ قَبَّلَ لِشَهْوَةٍ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ قَبَّلَ لِرَحْمَةٍ .
وَمِمَّنْ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ فِي الْقُبْلَةِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالزُّهْرِيُّ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَمَكْحُولٌ وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّافِعِيُّ قَالَ أَحْمَدُ : الْمَدَنِيُّونَ وَالْكُوفِيُّونَ مَا زَالُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْقُبْلَةَ مِنْ اللَّمْسِ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، حَتَّى كَانَ بِآخِرَةٍ وَصَارَ فِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ ، فَقَالُوا : لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ .
وَيَأْخُذُونَ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ ، وَنَرَى أَنَّهُ غَلَطٌ .
وَعَنْ أَحْمَدَ .
رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ ، لَا يَنْقُضُ اللَّمْسُ بِحَالٍ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إلَّا أَنْ يَطَأَهَا دُونَ الْفَرْجِ فَيَنْتَشِرَ فِيهَا لِمَا رَوَى حَبِيبٌ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ، وَخَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَغَيْرُهُمَا .
وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْ الشَّرْعِ ، وَلَمْ يَرِدْ بِهَذَا شَرْعٌ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ ، وَقَوْلُهُ : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } أَرَادَ بِهِ الْجِمَاعَ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَسَّ أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ فَكَذَلِكَ اللَّمْسُ ؛ وَلِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُفَاعَلَةِ ، وَالْمُفَاعَلَةُ لَا تَكُونُ مِنْ أَقَلِّ مِنْ اثْنَيْنِ ، وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ أَنَّ
اللَّمْسَ يَنْقُضُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } وَحَقِيقَةُ اللَّمْسِ مُلَاقَاةُ الْبَشَرَتَيْنِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ الْجِنِّ أَنَّهُمْ قَالُوا : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ } وَقَالَ الشَّاعِرُ : لَمَسْت بِكَفِّي كَفَّهُ أَطْلُبُ الْغِنَى وَقَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ : { أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ } وَأَمَّا حَدِيثُ الْقُبْلَةِ فَكُلُّ طُرُقِهِ مَعْلُولَةٌ ، قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : احْكِ عَنِّي أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ شِبْهُ لَا شَيْءَ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : نَرَى أَنَّهُ غَلَّطَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا - يَعْنِي حَدِيثَ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ وَحَدِيثَ عُرْوَةَ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيَّ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ مِنْ عَائِشَةَ ، وَعُرْوَةُ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا عُرْوَةُ الْمُزَنِيّ ، وَلَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ ، كَذَلِكَ قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ : مَا حَدَّثَنَا حَبِيبٌ إلَّا عَنْ عُرْوَةَ الْمُزَنِيّ لَيْسَ هُوَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : لَا تَظُنُّوا أَنَّ حَبِيبًا لَقِيَ عُرْوَةَ .
وَقَالَ : وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ بِرًّا بِهَا ، وَإِكْرَامًا لَهَا ، وَرَحْمَةً ، أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَقَبَّلَ فَاطِمَةَ .
فَالْقُبْلَةُ تَكُونُ لِشَهْوَةٍ وَلِغَيْرِ شَهْوَةٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَبَّلَهَا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ ، وَاللَّمْسُ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا يَنْقُضُ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمَسُّ زَوْجَتَهُ فِي الصَّلَاةِ وَتَمَسُّهُ .
وَلَوْ كَانَ نَاقِضًا لِلْوُضُوءِ لَمْ يَفْعَلْهُ .
{ قَالَتْ عَائِشَةُ .
إنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُصَلِّي وَإِنِّي لَمُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ اعْتِرَاضَ الْجِنَازَةِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْت رِجْلِي .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ مَسَّنِي بِرِجْلِهِ وَرَوَى الْحَسَنُ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي مَسْجِدِهِ فِي الصَّلَاةِ فَقَبَضَ عَلَى قَدَمِ عَائِشَةَ غَيْرَ مُتَلَذِّذٍ } رَوَاهُ إِسْحَاقُ بِإِسْنَادِهِ ، وَالنَّسَائِيُّ .
وَعَنْ عَائِشَةَ { قَالَتْ فَقَدْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَجَعَلْت أَطْلُبُهُ ، فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى قَدَمَيْهِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ ، وَهُوَ سَاجِدٌ ، وَهُوَ يَقُولُ : أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك ، وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك } رَوَاهُمَا النَّسَائِيّ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ { وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلًا أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ ، إذَا سَجَدَ وَضَعَهَا ، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ مَسِّهَا ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْسٌ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَمْ يَنْقُضْ ، كَلَمْسِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ .
يُحَقِّقُهُ أَنَّ اللَّمْسَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا نَقَضَ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى خُرُوجِ الْمَذْيِ أَوْ الْمَنِيِّ ، فَاعْتُبِرَتْ الْحَالَةُ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْحَدَثِ فِيهَا ، وَهِيَ حَالَةُ الشَّهْوَةِ .
( 270 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَاتِ الْمَحْرَمِ ، وَالْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَنْقُضُ لَمْسُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ، وَلَا الصَّغِيرَةِ ، فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ لَمْسَهُمَا لَا يُفْضِي إلَى خُرُوجِ خَارِجٍ ، أَشْبَهَ لَمْسَ الرَّجُلِ الرَّجُلَ .
وَلَنَا ، عُمُومُ النَّصِّ ، وَاللَّمْسُ النَّاقِضُ تُعْتَبَرُ فِيهِ الشَّهْوَةُ ، وَمَتَى وُجِدَتْ الشَّهْوَةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَمِيعِ .
فَأَمَّا لَمْسُ الْمَيِّتَةِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَنْقُضُ لِعُمُومِ الْآيَةِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَنْقُضُ .
اخْتَارَهُ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ ، فَهِيَ كَالرَّجُلِ .
( 271 ) فَصْلٌ : وَلَا يَخْتَصُّ اللَّمْسُ النَّاقِضُ بِالْيَدِ ، بَلْ أَيُّ شَيْءٍ مِنْهُ لَاقَى شَيْئًا مِنْ بَشَرَتِهَا مَعَ الشَّهْوَةِ ، انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ عُضْوًا أَصْلِيًّا ، أَوْ زَائِدًا .
وَحُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ : لَا يَنْقُضُ
اللَّمْسُ إلَّا بِأَحَدِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ النَّصِّ ، وَالتَّخْصِيصُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ تَحَكُّمٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ .
وَلَا يَنْقُضُ مَسُّ شَعْرِ الْمَرْأَةِ ، وَلَا ظُفْرِهَا ، وَلَا سِنِّهَا ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا يَنْقُضُ لَمْسُهَا بِشَعْرِهِ وَلَا سِنِّهِ وَلَا ظُفْرِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الْمَرْأَةِ بِتَطْلِيقِهِ وَلَا الظِّهَارُ .
وَلَا يَنْجُسُ الشَّعْرُ بِمَوْتِ الْحَيَوَانِ ، وَلَا بِقَطْعِهِ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ .
( 272 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَمَسَهَا مِنْ وَرَاءُ حَائِلٍ ، لَمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ يَنْقُضُ إنْ كَانَ ثَوْبًا رَقِيقًا .
وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ : إذَا غَمَزَهَا مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ رَقِيقٍ لِشَهْوَةٍ ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ مَوْجُودَةٌ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ غَيْرَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ .
لَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَلْمَسْ جِسْمَ الْمَرْأَةِ ؛ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمَسَ ثِيَابَهَا ، وَالشَّهْوَةُ بِمُجَرَّدِهَا لَا تَكْفِي ، كَمَا لَوْ مَسَّ رَجُلًا بِشَهْوَةٍ ، أَوْ وُجِدَتْ الشَّهْوَةُ مِنْ غَيْرِ لَمْسٍ .
( 273 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَمَسَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا ، وَوُجِدَتْ الشَّهْوَةُ مِنْهُمَا ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ نَقْضُ وُضُوئِهِمَا ، بِمُلَاقَاةِ بَشَرَتِهِمَا .
وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الْمَرْأَةِ إذَا مَسَّتْ زَوْجَهَا ؟ قَالَ : مَا سَمِعْت فِيهِ شَيْئًا ، وَلَكِنْ هِيَ شَقِيقَةُ الرَّجُلِ .
يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَوَضَّأَ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ أَحَدُ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي اللَّمْسِ ، فَهِيَ كَالرَّجُلِ .
وَيَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ إذَا وُجِدَتْ مِنْهُ الشَّهْوَةُ ؛ لِأَنَّ مَا يَنْتَقِضُ بِالْتِقَاءِ الْبَشَرَتَيْنِ ، لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ اللَّامِسِ وَالْمَلْمُوسِ ، كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ .
وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى : لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُ الْمَرْأَةِ ، وَلَا وُضُوءُ الْمَلْمُوسِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ .
وَوَجْهُ عَدَمِ النَّقْضِ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا وَرَدَ بِالنَّقْضِ بِمُلَامَسَةِ النِّسَاءِ ،
فَيَتَنَاوَلُ اللَّامِسَ مِنْ الرِّجَالِ ، فَيَخْتَصُّ بِهِ النَّقْضُ ، كَلَمْسِ الْفَرْجِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْمَلْمُوسَ لَا نَصَّ فِيهِ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ؛ لِأَنَّ اللَّمْسَ مِنْ الرَّجُلِ مَعَ الشَّهْوَةِ مَظِنَّةٌ لِخُرُوجِ الْمَذْيِ النَّاقِضِ ، فَأُقِيمَ مَقَامَهُ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ، وَالشَّهْوَةُ مِنْ اللَّامِسِ أَشَدُّ مِنْهَا فِي الْمَلْمُوسِ ، وَأَدْعَى إلَى الْخُرُوجِ ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِمَا ، وَإِذَا امْتَنَعَ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ لَمْ يَثْبُتْ الدَّلِيلُ .
( 274 ) فَصْلٌ : وَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِلَمْسِ عُضْوٍ مَقْطُوعٍ مِنْ الْمَرْأَةِ ؛ لِزَوَالِ الِاسْمِ ، وَخُرُوجِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلشَّهْوَةِ وَلَا بِمَسِّ رَجُلٍ وَلَا صَبِيٍّ ، وَلَا بِمَسِّ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْآيَةِ ؛ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا فِي الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلٌّ لِشَهْوَةِ الرَّجُلِ شَرْعًا وَطَبْعًا ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ .
وَلَا بِمَسِّ الْبَهِيمَةِ ؛ لِذَلِكَ .
وَلَا بِمَسِّ خُنْثَى مُشْكِلٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً .
وَلَا بِمَسِّ الْخُنْثَى لِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ؛ لِذَلِكَ ، وَالْأَصْلُ الطَّهَارَةُ ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا كُلِّهِ خِلَافًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمْ .
( 275 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَمَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ ، أَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ ، فَهُوَ عَلَى مَا تَيَقَّنَ مِنْهُمَا يَعْنِي : إذَا عَلِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ، وَشَكَّ هَلْ أَحْدَثَ ، أَوْ لَا ، بَنَى عَلَى أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ .
وَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَشَكَّ ؛ هَلْ تَوَضَّأَ ، أَوْ لَا ، فَهُوَ مُحْدِثٌ .
يَبْنِي فِي الْحَالَتَيْنِ عَلَى مَا عَلِمَهُ قَبْلَ الشَّكِّ ، وَيُلْغِي الشَّكَّ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِيمَا عَلِمْنَا إلَّا الْحَسَنَ وَمَالِكًا ، فَإِنَّ الْحَسَنَ قَالَ : إنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ ، مَضَى فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا ، تَوَضَّأَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ إنْ كَانَ يَلْحَقُهُ كَثِيرًا ، فَهُوَ عَلَى وُضُوئِهِ .
وَإِنْ كَانَ لَا يَلْحَقُهُ كَثِيرًا ، تَوَضَّأَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الشَّكِّ .
وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ قَالَ : { شُكِيَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ ، قَالَ : لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ ، أَخَرَجَ مِنْهُ أَمْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَا يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا } ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا شَكَّ تَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ ، فَيَجِبُ سُقُوطُهُمَا ، كَالْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا ، وَيَرْجِعُ إلَى التَّيَقُّنِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُهُمَا ، أَوْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ إذَا لَمْ تَكُنْ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ شَرْعِيٍّ ، لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا ، كَمَا لَا يَلْتَفِتُ الْحَاكِمُ إلَى قَوْلِ أَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ
( 276 ) فَصْلٌ : إذَا تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَالْحَدَثَ مَعًا ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْآخِرَ مِنْهُمَا ، مِثْلُ مَنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ مُتَطَهِّرًا مَرَّةً وَمُحْدِثًا أُخْرَى ، وَلَا يَعْلَمُ أَيَّهُمَا كَانَ بَعْدَ صَاحِبِهِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى حَالِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ ؛ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا فَهُوَ الْآنَ مُتَطَهِّرٌ ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ قَدْ انْتَقَلَ عَنْ هَذَا الْحَدَثِ إلَى الطَّهَارَةِ ، وَلَمْ يَتَيَقَّنْ زَوَالَهَا ، وَالْحَدَثُ الْمُتَيَقَّنُ بَعْدَ الزَّوَالِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الطَّهَارَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا ، فَوُجُودُهُ بَعْدَهَا مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَا يَزُولُ عَنْ طَهَارَةٍ مُتَيَقَّنَةٍ بِشَكٍّ ، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لِرَجُلٍ أَنَّهُ وَفَّى زَيْدًا حَقَّهُ وَهُوَ مِائَةٌ ، فَأَقَامَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِإِقْرَارِ خَصْمِهِ لَهُ بِمِائَةٍ ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِهَا حَقٌّ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ مُتَطَهِّرًا فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ .
( 277 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ نَقَضَ طَهَارَتَهُ وَتَوَضَّأَ عَنْ حَدَثٍ ، وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا ، نَظَرَ ؛ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ مُتَطَهِّرًا ، فَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ نَقَضَ تِلْكَ الطَّهَارَةَ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَضَّأَ عَنْ حَدَثٍ مَعَ بَقَاءِ تِلْكَ الطَّهَارَةِ ، وَنَقْضُ هَذِهِ الطَّهَارَةِ الثَّانِيَةِ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَا يَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الزَّوَالِ مُحْدِثًا ، فَهُوَ الْآنَ مُحْدِثٌ ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْهُ إلَى الطَّهَارَةِ ثُمَّ نَقَضَهَا ، وَالطَّهَارَةُ بَعْدَ نَقْضِهَا مَشْكُوكٌ فِيهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَهَذَا جَمِيعُ نَوَاقِضِ الطَّهَارَةِ وَلَا تَنْتَقِضُ بِغَيْرِ ذَلِكَ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ : فِي قَصِّ الشَّارِبِ ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ ، وَنَتْفِ الْإِبْطِ ، الْوُضُوءُ .
وَقَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بِخِلَافِهِمْ ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ فِيمَا يَقُولُونَ حُجَّةً ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .