الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
التَّسْلِيمَ عَلَى الْبَائِعِ ، فَسَلَّمَهُ ، فَلَا يَخْلُو الْمُشْتَرِي مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوسِرًا ، أَوْ مُعَسِّرًا ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا وَالثَّمَنُ مَعَهُ ، أُجْبِرَ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا قَرِيبًا فِي بَيْتِهِ أَوْ بَلَدِهِ ، حُجِرَ عَلَيْهِ فِي الْمَبِيعِ وَسَائِرِ مَالِهِ ، حَتَّى يُسَلِّمَ الثَّمَنَ ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِالْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْبَلَدِ فِي مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، فَالْبَائِعُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يُوجَدَ ، وَبَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ ، فَهُوَ كَالْمُفْلِسِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي ، لَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاضِرِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُعْسِرًا ، فَلِلْبَائِعِ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ ، وَالرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ ، حَتَّى يُحْضِرَ الثَّمَنَ ، وَيَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ تَسْلِيمِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا رَضِيَ بِبَذْلِ الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ قَبْلَ حُصُولِ عِوَضِهِ ، وَلِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سَوَاءٌ فِي الْمُعَاوَضَةِ ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي التَّسْلِيمِ ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّرْجِيحِ فِي تَقْدِيمِ التَّسْلِيمِ مَعَ حُضُورِ الْعِوَضِ الْآخَرِ ؛ لِعَدَمِ الضَّرَرِ فِيهِ ، وَأَمَّا مَعَ الْخَطَرِ الْمُحْوِجِ إلَى الْحَجْرِ ، أَوْ الْمَحْجُوزِ لِلْفَسْخِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ .
وَلِأَنَّ شَرْعَ الْحَجْرِ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ .
وَلِأَنَّهُ يَقِفُ عَلَى الْحَاكِمِ ، وَيَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ .
وَلِأَنَّ مَا أَثْبَتَ الْحَجْرَ وَالْفَسْخَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ ، فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ التَّسْلِيمَ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ ، وَالْمَنْعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَسْهَلُ مِنْ الْمَنْعِ بَعْدَهُ ، وَلِذَلِكَ مَلَكَتْ الْمَرْأَةُ
مَنْعَ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِ صَدَاقِهَا ، قَبْلَ تَسْلِيمِ نَفْسِهَا ، وَلَمْ تَمْلِكْهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ .
وَلِأَنَّ لِلْبَائِعِ مَنْعَ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ ، أَوْ كَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ ؛ لِإِمْكَانِ تَقْبِيضِهِ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : لَهُ الْفَسْخُ .
فَلَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ لِلْإِعْسَارِ بِثَمَنِهِ ، فَمَلَكَهُ الْبَائِعُ ، كَالْفَسْخِ فِي عَيْنِ مَالِهِ إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : يُحْجَرُ عَلَيْهِ .
فَذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَجْرِ إلَيْهِ .
( 3077 ) فَصْلٌ : فَإِنْ هَرَبَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ وَزْنِ الثَّمَنِ ، وَهُوَ مُعْسِرٌ ، فَلِلْبَائِعِ الْفَسْخُ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْفَسْخَ مَعَ حُضُورِهِ ، فَمَعَ هَرَبِهِ أَوْلَى .
وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أَثْبَتَ الْبَائِعُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، ثُمَّ إنْ وَجَدَ الْحَاكِمُ لَهُ مَالًا قَضَاهُ ، وَإِلَّا بَاعَ الْمَبِيعَ ، وَقَضَى ثَمَنَهُ مِنْهُ ، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنْ أَعُوز فَفِي ذِمَّتِهِ .
وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّ لِلْبَائِعِ الْفَسْخَ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّنَا أَبَحْنَا لَهُ الْفَسْخَ مَعَ حُضُورِهِ ، إذَا كَانَ الثَّمَنُ بَعِيدًا عَنْ الْبَلَدِ ، لِمَا عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ التَّأْخِيرِ ، فَهَاهُنَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الِاسْتِيفَاءِ بِكُلِّ حَالٍ أَوْلَى .
وَلَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِرَفْعِ الْأَمْرِ إلَى الْحَاكِمِ ؛ لِعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْبَيْعُ فِي مَكَان لَا حَاكِمَ فِيهِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَحْضُرُهُ مَنْ يَقْبَلُ الْحَاكِمُ شَهَادَتَهُ ، فَإِحَالَتُهُ عَلَى هَذَا تَضْيِيعٌ لِمَالِهِ .
وَهَذِهِ الْفُرُوعُ تُقَوِّي مَا ذَكَرْتُهُ ، مِنْ أَنَّ لِلْبَائِعِ مَنْعَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِ الْمَبِيعِ قَبْلَ إحْضَارِ ثَمَنِهِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ .
( 3078 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ الِامْتِنَاعُ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ الِاسْتِبْرَاءِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقَبِيحَةِ .
وَقَالَ فِي الْجَمِيلَةِ : يَضَعُهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُهُ فِيهَا ، فَمُنِعَ مِنْهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ لَا خِيَارَ فِيهَا ، قَدْ قَبَضَ ثَمَنَهَا ، فَوَجَبَ تَسْلِيمُهَا ، كَسَائِرِ الْمَبِيعَاتِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التُّهْمَةِ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ التَّسَلُّطِ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ قَبْضِ مَمْلُوكَتِهِ ، كَالْقَبِيحَةِ .
وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ بَيْعِهَا ، فَاحْتِمَالُ وُجُودِ الْحَمْلِ فِيهَا بَعِيدٌ نَادِرٌ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا ، فَهُوَ تَرَكَ التَّحَفُّظَ لِنَفْسِهِ .
وَلَوْ طَالَبَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِكَفِيلٍ ، لِئَلَّا تَظْهَرَ حَامِلًا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّحَفُّظَ لِنَفْسِهِ حَالَ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ كَفِيلٌ ، كَمَا لَوْ طَلَبَ كَفِيلًا بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ .
( 3079 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ .
وَجُمْلَتُهُ ؛ أَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ الْآبِقِ لَا يَصِحُّ ، سَوَاءٌ عَلِمَ مَكَانَهُ ، أَوْ جَهِلَهُ .
وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْجَمَلِ الشَّارِدِ ، وَالْفَرَسِ الْعَائِرِ ، وَشِبْهِهِمَا .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ بَعْضِ وَلَدِهِ بَعِيرًا شَارِدًا .
وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْآبِقِ ، إذَا كَانَ عِلْمُهُمَا فِيهِ وَاحِدًا .
وَعَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُهُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَهَذَا بَيْعُ غَرَرٍ .
وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ ، فَإِنْ حَصَلَ فِي يَدِ إنْسَانٍ ، جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِإِمْكَانِ تَسْلِيمِهِ .
( 3080 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا الطَّائِرِ قَبْلَ أَنْ يُصَادَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ؛ أَنَّهُ إذَا بَاعَ طَائِرًا فِي الْهَوَاءِ ، لَمْ يَصِحَّ ، مَمْلُوكًا أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ ؛ أَمَّا الْمَمْلُوكُ ؛ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ ، وَغَيْرُ الْمَمْلُوكِ ، لَا يَجُوزُ لِعِلَّتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، الْعَجْزُ عَنْ تَسْلِيمِهِ ، وَالثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا { نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ .
} وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ : هُوَ بَيْعُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّائِرِ يَأْلَفُ الرُّجُوعَ ، أَوْ لَا يَأْلَفُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ الْآنَ ، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا عَادَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْغَائِبُ فِي مَكَان بَعِيدٍ ، لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فِي الْحَالِ ، قُلْنَا : الْغَائِبُ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِحْضَارِهِ ، وَالطَّيْرُ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُهُ عَلَى رَدِّهِ ، إلَّا أَنْ يَرْجِعَ هُوَ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَسْتَقِلُّ مَالِكُهُ بِرَدِّهِ ، فَيَكُونُ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِيمِهِ ، لِعَجْزِهِ عَنْ الْوَاسِطَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا تَسْلِيمُهُ ، بِخِلَافِ الْغَائِبِ .
وَإِنْ بَاعَهُ الطَّيْرَ فِي الْبُرْجِ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ الْبُرْجُ مَفْتُوحًا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ إذَا قَدَرَ عَلَى الطَّيَرَانِ لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ ، فَإِنْ كَانَ مُغْلَقًا وَيُمْكِنُ أَخْذُهُ ، جَازَ بَيْعُهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ لَمْ يُمْكِنْ أَخْذُهُ إلَّا بِتَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ؛ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ مُلْغَى بِالْبَعِيدِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إحْضَارُهُ إلَّا بِتَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ .
وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا ، بِأَنَّ الْبَعِيدَ تُعْلَمُ الْكُلْفَةُ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي إحْضَارِهِ بِالْعَادَةِ ، وَتَأْخِيرُ التَّسْلِيمِ مُدَّتُهُ مَعْلُومَةٌ ، وَلَا كَذَلِكَ فِي إمْسَاكِ الطَّائِرِ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، أَنْ تَفَاوُتَ الْمُدَّةِ فِي إحْضَارِ
الْبَعِيدِ ، وَاخْتِلَافَ الْمَشَقَّةِ أَكْثَرُ مِنْ التَّفَاوُتِ وَالِاخْتِلَافِ فِي إمْسَاكِ طَائِرٍ مِنْ الْبُرْجِ ، وَالْعَادَةُ تَكُونُ فِي هَذَا ، كَالْعَادَةِ فِي ذَاكَ ، فَإِذَا صَحَّ فِي الْبَعِيدِ مَعَ كَثْرَةِ التَّفَاوُتِ ، وَشِدَّةِ اخْتِلَافِ الْمَشَقَّةِ ، فَهَذَا أَوْلَى .
( 3081 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَلَا السَّمَكِ فِي الْآجَامِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ ، قَالَ : إنَّهُ غَرَرٌ .
وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَلَا نَعْلَمُ لَهُمْ مُخَالِفًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ .
وَالْمَعْنَى لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي الْمَاءِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ رَقِيقًا ، لَا يَمْنَعُ مُشَاهَدَتَهُ وَمَعْرِفَتَهُ .
الثَّالِثُ ، أَنْ يُمْكِنَ اصْطِيَادُهُ وَإِمْسَاكُهُ .
فَإِنْ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ ، جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَعْلُومٌ مَقْدُورٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ ؛ فَجَازَ بَيْعُهُ ، كَالْمَوْضُوعِ فِي الطَّسْتِ .
وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِمَّا ذَكَرْنَا ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ؛ لِذَلِكَ .
وَإِنْ اخْتَلَّتْ الثَّلَاثَةُ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ؛ لِثَلَاثِ عِلَلٍ .
وَإِنْ اخْتَلَّ اثْنَانِ مِنْهَا ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ؛ لِعِلَّتَيْنِ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي مَنْ لَهُ أَجَمَةٌ يَحْبِسُ السَّمَكَ فِيهَا ، يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ظَاهِرًا ، أَشْبَهَ مَا يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ فِي كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ وَنَقْلِهِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَالَا : لَا تَشْتَرُوا السَّمَكَ فِي الْمَاءِ ، فَإِنَّهُ غَرَرٌ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } ، وَهَذَا مِنْهُ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا بَعْدَ اصْطِيَادِهِ ، أَشْبَهَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ ، وَالْعَبْدَ الْآبِقَ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ ، كَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ ، وَيُفَارِقُ مَا ذَكَرُوهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُؤْنَةِ الْقَبْضِ ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ لِيُمْكِنَ قَبْضُهُ ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ لَهُ بِرْكَةٌ فِيهَا سَمَكٌ لَهُ يُمْكِنُ اصْطِيَادُهُ بِغَيْرِ كُلْفَةٍ ، وَالْمَاءُ رَقِيقٌ
لَا يَمْنَعُ مُشَاهَدَتَهُ ، صَحَّ بَيْعُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِمَشَقَّةٍ ، وَكُلْفَةٍ يَسِيرَةٍ ، بِمَنْزِلَةِ كُلْفَةِ اصْطِيَادِهِ الطَّائِرِ مِنْ الْبُرْجِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي بَيْعِ الطَّائِرِ فِي الْبُرْجِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ .
وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً ، وَتَتَطَاوَلُ الْمُدَّةُ فِيهِ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ؛ لِلْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِهِ ، وَالْجَهْلِ لِوَقْتِ إمْكَانِ التَّسْلِيمِ .
( 3082 ) فَصْلٌ : إذَا أَعَدَّ بِرْكَةً ، أَوْ مِصْفَاةً ؛ لِيَصْطَادَ فِيهَا السَّمَكَ ، فَحَصَلَ فِيهَا سَمَكٌ مَلَكَهُ ؛ لِأَنَّهُ آلَةٌ مُعَدَّةٌ لِلِاصْطِيَادِ ، فَأَشْبَهَ الشَّبَكَةَ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْبِرْكَةَ ، أَوْ الشَّبَكَةَ ، أَوْ اسْتَعَارَهُمَا لِلِاصْطِيَادِ ، جَازَ ، وَمَا حَصَلَ فِيهِمَا مَلَكَهُ .
وَإِنْ كَانَتْ الْبِرْكَةُ غَيْرَ مُعَدَّةٍ لِلِاصْطِيَادِ ، لَمْ يَمْلِكْ مَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ السَّمَكِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعَدَّةٍ لَهُ ، فَأَشْبَهَتْ أَرْضَهُ إذَا دَخَلَ فِيهَا صَيْدٌ ، أَوْ حَصَلَ فِيهَا سَمَكٌ .
وَمَتَى نَصَبَ شَبَكَةً ، أَوْ شَرَكًا ، أَوْ فَخًّا ، أَوْ أُحْبُولَةً ، مَلَكَ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ يَدِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ نَصَبَ الْمَنَاجِلَ لِلصَّيْدِ ، وَسَمَّى فَقَتَلَتْ صَيْدًا حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ ، وَكَانَ كَذَبْحِهِ .
وَلَوْ وَقَعَ فِي شَبَكَتِهِ أَوْ شِبْهِهَا شَيْءٌ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ ، أَنَّهُ كَيَدِهِ .
وَلَوْ أَعَدَّ لِمِيَاهِ الْأَمْطَارِ مَصَانِعَ ، أَوْ بِرَكًا ، أَوْ أَوَانِيَ ؛ لِيَحْصُلَ فِيهَا الْمَاءُ ، مَلَكَهُ بِحُصُولِهِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا فِي بَابِ الْإِعْدَادِ ، كَالشِّبَاكِ لِلِاصْطِيَادِ .
وَلَوْ أَعَدَّ سَفِينَةً لِلِاصْطِيَادِ ، كَاَلَّتِي يُجْعَلُ فِيهَا الضَّوْءُ وَيُضْرَبُ صَوَانِي الصُّفْرِ ؛ لِيَثِبَ السَّمَكُ فِيهَا ، كَانَ حُصُولُهُ فِيهَا كَحُصُولِهِ فِي شَبَكَتِهِ ؛ لِكَوْنِهَا صَارَتْ مِنْ الْآلَاتِ الْمُعَدَّةِ لَهُ ، وَلَوْ لَمْ يُعِدَّهَا لِذَلِكَ ، لَمْ يَمْلِكْ مَا وَقَعَ فِيهَا .
وَمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَلَكَهُ ، كَالْأَرْضِ الَّتِي لَمْ تُعَدَّ لِلِاصْطِيَادِ ، مِثْلُ أَرْضِ الزَّرْعِ إذَا دَخَلَهَا مَاءٌ فِيهِ سَمَكٌ ، ثُمَّ نَضَبَ عَنْهُ ، أَوْ دَخَلَ فِيهَا ظَبْيٌ ، أَوْ عَشَّشَ فِيهَا طَائِرٌ ، أَوْ سَقَطَ فِيهَا جَرَادٌ ، أَوْ حَصَلَ فِيهَا مِلْحٌ ، لَمْ يَمْلِكْهُ صَاحِبُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَمَاءِ الْأَرْضِ ، وَلَا مِمَّا هِيَ مُعَدَّةٌ لَهُ ، لَكِنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ ، إذْ لَيْسَ لِغَيْرِهِ التَّخَطِّي فِي أَرْضِهِ ، وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا ، فَإِنْ تَخَطَّى وَأَخَذَهُ ، أَخْطَأَ
وَمَلَكَهُ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي وَرَشَانَ عَلَى نَخْلَةِ قَوْمٍ ، صَادَهُ إنْسَانٌ : هُوَ لِلصَّائِدِ .
وَقَالَ فِي طَيْرَةٍ لِقَوْمٍ أَفْرَخَتْ فِي دَارِ جِيرَانِهِمْ : إنَّ الْفَرْخَ يَتْبَعُ الْأُمَّ ، يُرَدُّ فِرَاخُهَا عَلَى أَصْحَابِ الطَّيْرَةِ .
وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْ أَمْلَاكِ النَّاسِ ، مِنْ صَيْدٍ وَكَلَأٍ وَشِبْهِهِ ، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِأَخْذِهِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، فَلَمْ يَفِدْ الْمِلْكَ ، كَالْبَيْعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، إذْ السَّبَبُ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ كَوْنِهِ بَيْعًا ، أَوْ غَيْرَهُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا ، فَهُوَ رَدٌّ .
} وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّبَبَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، فَإِنَّ السَّبَبَ الْأَخْذُ ، وَلَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ ، إنَّمَا نُهِيَ عَنْ الدُّخُولِ ، وَهُوَ غَيْرُ السَّبَبِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ هَاهُنَا لِحَقِّ آدَمِيٍّ ، فَلَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ ، كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ ، وَالْمَعِيبِ ، وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ ، وَالنَّجْشِ ، وَبَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ .
وَلَوْ أَعَدَّ أَرْضَهُ لِلْمِلْحِ ، فَجَعَلَهَا مَلَّاحَةً ؛ لِيَحْصُلَ فِيهَا الْمَاءُ ، فَيَصِيرَ مِلْحًا ، كَالْأَرْضِ الَّتِي عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ ، يَجْعَلُ إلَيْهَا طَرِيقًا لِلْمَاءِ ، فَإِذَا امْتَلَأَتْ قَطَعَهُ عَنْهَا ، أَوْ تَكُونُ أَرْضُهُ سَبْخَةً ، يَفْتَحُ إلَيْهَا الْمَاءَ مِنْ عَيْنٍ ، أَوْ يَجْمَعُ فِيهَا مَاءَ الْمَطَرِ ، فَيَصِيرُ مِلْحًا ، مَلَكَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لَهُ ، فَأَشْبَهَتْ الْبِرْكَةَ الْمُعَدَّةَ لِلصَّيْدِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَعَدَّهَا لِذَلِكَ ، لَمْ يَمْلِكْ مَا حَصَلَ فِيهَا ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي مِثْلِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي إنْسَانٍ رَمَى طَيْرًا بِبُنْدُقٍ ، فَوَقَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ ، فَهُوَ لَهُمْ دُونَهُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَلَكُوهُ بِحُصُولِهِ فِي دَارِهِمْ .
قُلْنَا : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ مُمْتَنِعًا ، فَصَادَهُ أَهْلُ الدَّارِ ، فَمَلَكُوهُ بِاصْطِيَادِهِمْ .
كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ
وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَمْلِكُوا مَا حَصَلَ فِي دَارِهِمْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَمَا حَصَلَ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ أَوْلَى .
وَلِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الدَّارِ بَعْدَ الضَّرْبَةِ الْمُثْبِتَةِ لَهُ ، الَّتِي يُمْلَكُ بِهَا الصَّيْدُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ ثَوْبَ إنْسَانِ ، فَأَلْقَتْهُ فِي دَارِهِمْ .
وَلَوْ كَانَتْ آلَةُ الصَّيْدِ ، كَالشَّبَكَةِ وَالشَّرَكِ ، وَالْمَنَاجِلِ ، غَيْرَ مَنْصُوبَةٍ لِلصَّيْدِ ، وَلَا قُصِدَ بِهَا الِاصْطِيَادُ ، فَتَعَلَّقَ بِهَا صَيْدٌ لَمْ يَمْلِكْهُ صَاحِبُهَا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعَدَّةٍ لِلصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، فَأَشْبَهَتْ الْأَرْضَ الَّتِي لَيْسَتْ مُعَدَّةً لَهُ .
( 3083 ) فَصْلٌ : وَمَا حَصَلَ مِنْ الصَّيْدِ فِي كَلْبِ إنْسَانٍ أَوْ صَقْرِهِ أَوْ فَهْدِهِ ، وَكَانَ اسْتَرْسَلَ بِإِرْسَالِ صَاحِبِهِ ، فَهُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ آكَدُ مِنْ الشَّبَكَةِ ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَحْصُلُ بِفِعْلِهِ ، وَقَصْدِهِ ، وَإِرْسَالِ صَاحِبِهِ ، فَهُوَ كَسَهْمِهِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ .
} وَإِنْ اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّيْدِ الْحَاصِلِ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ ، فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ ، وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ ، فَإِنْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ مَلَكَهُ ، كَالْكَلَأِ .
وَكَذَلِكَ مَا يَحْصُلُ فِي بَهِيمَةِ إنْسَانٍ مِنْ الْحَشِيشِ فِي الْمَرْعَى .
( 3084 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَالْوَكِيلُ إذَا خَالَفَ فَهُوَ ضَامِنٌ ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْآمِرُ ، فَيَلْزَمُهُ .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا خَالَفَ مُوَكِّلَهُ ، فَاشْتَرَى غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِشِرَائِهِ ، أَوْ بَاعَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي بَيْعِهِ ، أَوْ اشْتَرَى غَيْرَ مَا عُيِّنَ لَهُ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا فَوَّتَ عَلَى الْمَالِكِ ، أَوْ تَلِفَ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَالِ الْأَمَانَةِ ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : إلَّا أَنْ يَرْضَى الْآمِرُ ، فَيَلْزَمُهُ .
يَعْنِي إذَا اشْتَرَى غَيْرَ مَا أُمِرَ بِشِرَائِهِ ، بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِنَّ الشِّرَاءَ صَحِيحٌ ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ ، فَإِنْ أَجَازَهُ لَزِمَهُ ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ ، لَزِمَ الْوَكِيلَ ، وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
فَقَالَ : إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ ، فَيَبْطُلُ الشِّرَاءُ .
وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ أَيْضًا ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ حَمْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا قُلْنَا .
وَإِنَّمَا صَحَّ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي ذِمَّتِهِ ، لَا فِي مَالِ غَيْرِهِ ، وَسَوَاءٌ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ ، أَمْ لَا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ هُوَ الَّذِي فِي الذِّمَّةِ ، وَاَلَّذِي نَقَدَهُ عِوَضُهُ ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّهُ إذَا اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ ، وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ بَعْدَ ذَلِكَ ، كَانَ لَهُ الْبَدَلُ .
وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوبًا ، لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ ، وَإِنَّمَا وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الشِّرَاءَ لَهُ ، فَإِنْ أَجَازَهُ لَزِمَهُ ، وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ ، لَزِمَ مَنْ اشْتَرَاهُ .
( 3085 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِ الْآمِرِ أَوْ بَاعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، أَوْ اشْتَرَى لِغَيْرِ مُوَكِّلَهُ شَيْئًا بِعَيْنِ مَالِهِ ، أَوْ بَاعَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا ، الْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَيَجِبُ رَدُّهُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَالثَّانِيَةُ ، الْبَيْعُ
وَالشِّرَاءُ صَحِيحَانِ ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ ، فَإِنْ أَجَازَهُ نَفَذَ ، وَلَزِمَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ ، بَطَلَ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَإِسْحَاقَ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْبَيْعِ ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ ، فَعِنْدَهُ يَقَعُ لِلْمُشْتَرِي بِكُلِّ حَالٍ .
وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، مَا رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ دِينَارًا لِيَشْتَرِيَ بِهِ شَاةً ، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ ، ثُمَّ بَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ فِي الطَّرِيقِ ، قَالَ : فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّينَارِ وَالشَّاةِ ، فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : بَارَكَ اللَّهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِكَ .
} رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ ، كَالْوَصِيَّةِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ : { لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
يَعْنِي مَا لَا تَمْلِكُ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ جَوَابًا لَهُ حِينَ سَأَلَهُ ، أَنَّهُ يَبِيعُ الشَّيْءَ ، ثُمَّ يَمْضِي فَيَشْتَرِيهِ وَيُسَلِّمُهُ .
وَلِاتِّفَاقِنَا عَلَى صِحَّةِ بَيْعِ مَالِهِ الْغَائِبِ ، وَلِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، فَأَشْبَهَ الطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ ، وَالْوَصِيَّةُ يَتَأَخَّرُ فِيهَا الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ لَهَا مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِ الْعَقْدِ ، وَيَجُوزُ فِيهَا مِنْ الْغَرَرِ ، مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُرْوَةَ فَنَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّ وَكَالَتَهُ كَانَتْ مُطْلَقَةً ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ سَلَّمَ وَتَسَلَّمَ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْمَالِكِ بِاتِّفَاقِنَا .
( 3086 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا لَا يَمْلِكُهَا ، لِيَمْضِيَ وَيَشْتَرِيهَا ، وَيُسَلِّمُهَا ، رِوَايَةً وَاحِدَةً .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ؛ { لِأَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ قَالَ لِلنَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الرَّجُلَ يَأْتِينِي ، فَيَلْتَمِسُ مِنْ الْبَيْعِ مَا عِنْدِي ، فَأَمْضِي إلَى السُّوقِ فَأَشْتَرِيهِ ، ثُمَّ أَبِيعُهُ مِنْهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ } .
( 3087 ) فَصْلٌ : وَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً ، وَصَاحِبُهَا حَاضِرٌ سَاكِتٌ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ بَاعَهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ : أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى سُكُوتُهُ إقْرَارٌ ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الرِّضَى ، فَأَشْبَهَ سُكُوتَ الْبِكْرِ فِي الْإِذْنِ فِي نِكَاحِهَا .
وَلَنَا أَنَّ السُّكُوتَ مُحْتَمِلٌ ، فَلَمْ يَكُنْ إذْنًا ، كَسُكُوتِ الثَّيِّبِ ، وَفَارَقَ سُكُوتَ الْبِكْرِ ؛ لِوُجُودِ الْحَيَاءِ الْمَانِعِ مِنْ الْكَلَامِ فِي حَقِّهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ هَاهُنَا .
( 3088 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ فِي بَيْعِ سِلْعَتِهِ ، فَبَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّلْعَةَ مِنْ رَجُلٍ ، بِثَمَنٍ مُسَمًّى ، فَالْبَيْعُ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمَا ، رُوِيَ هَذَا عَنْ شُرَيْحٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَحُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهُمَا قَالَا : هِيَ لِلَّذِي بَدَأَ بِالْقَبْضِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ : { إذَا بَاعَ الْمُجِيزَانِ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ زَالَتْ وَكَالَتُهُ بِانْتِقَالِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ عَنْ السِّلْعَةِ ، فَصَارَ بَائِعًا مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ قَبَضَ الْأَوَّلُ ، أَوْ كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ بَعْدَ الْأَوَّلِ .
( 3089 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَبَيْعُ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ غَيْرُ جَائِزٍ .
لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي فَسَادِ هَذَيْنِ الْبَيْعَيْنِ ، وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ .
} ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالْمُلَامَسَةُ ، أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا ، وَلَا يُشَاهِدُهُ ، عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمَسَهُ وَقَعَ الْبَيْعُ .
وَالْمُنَابَذَةُ ، أَنْ يَقُولَ : أَيُّ ثَوْبٍ نَبَذْتَهُ إلَيَّ فَقَدْ اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ وَنَحْوُهُ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَفِيمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْمُنَابَذَةِ ، } وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إلَى الرَّجُلِ ، قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ أَوْ يَنْظُرَ إلَيْهِ ، وَنَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ ، لَمْسِ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ ، فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي تَفْسِيرِهَا قَالَ : هُوَ لَمْسُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَوْبَ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ تَأَمُّلٍ .
وَالْمُنَابَذَةُ ، أَنْ يَنْبِذَ كُلُّ وَاحِدٍ ثَوْبَهُ ، وَلَمْ يَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى ثَوْبِ صَاحِبِهِ .
وَعَلَى مَا فَسَّرْنَاهُ بِهِ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ فِيهِمَا ؛ لِعِلَّتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، الْجَهَالَةُ .
وَالثَّانِيَةُ ، كَوْنُهُ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ ، وَهُوَ نَبْذُ الثَّوْبِ إلَيْهِ ، أَوْ لَمْسُهُ لَهُ .
وَإِنْ عَقَدَ الْبَيْعَ قَبْلَ نَبْذِهِ ، فَقَالَ : بِعْتُكَ مَا تَلْمِسُهُ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ .
أَوْ مَا أَنْبِذُهُ إلَيْك .
فَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا مَوْصُوفٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ : بِعْتُكَ وَاحِدًا مِنْهَا .
( 3090 ) فَصْلٌ : وَمِنْ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ، بَيْعُ الْحَصَاةِ فَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِ ، فَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَقُولَ : ارْمِ هَذِهِ الْحَصَاةَ ، فَعَلَى أَيِّ ثَوْبٍ وَقَعَتْ فَهُوَ لَك بِدِرْهَمٍ .
وَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُكَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ مِقْدَارَ مَا تَبْلُغُ هَذِهِ الْحَصَاةُ ، إذَا رَمَيْتَهَا ، بِكَذَا .
وَقِيلَ : هُوَ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُكَ هَذَا بِكَذَا ، عَلَى أَنِّي مَتَى رَمَيْتُ هَذِهِ الْحَصَاةَ ، وَجَبَ الْبَيْعُ .
وَكُلُّ هَذِهِ الْبُيُوعِ فَاسِدَةٌ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْغَرَرِ وَالْجَهْلِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
( 3091 ) فَصْلٌ : وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُحَاقَلَةِ ، وَالْمُخَاضَرَةِ وَالْمُلَامَسَةِ ، وَالْمُنَابَذَةِ .
} أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَالْمُخَاضَرَةُ ، بَيْعُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ ، وَالثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ، بِغَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ .
وَالْمُحَاقَلَةُ ، بَيْعُ الزَّرْعِ بِحَبٍّ مِنْ جِنْسِهِ .
قَالَ جَابِرٌ الْمُحَاقَلَةُ ، أَنْ يَبِيعَ الزَّرْعَ بِمِائَةِ فَرْقٍ حِنْطَةً .
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ الْحَقْلُ ، الْقَرَاحُ الْمَزْرُوعُ ، وَالْحَوَاقِلُ الْمَزَارِعُ .
وَفَسَّرَ أَبُو سَعِيدٍ الْمُحَاقَلَةَ ، بِاسْتِكْرَاءِ الْأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ .
( 3092 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : وَكَذَا بَيْعُ الْحَمْلِ غَيْرَ أُمِّهِ ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ .
مَعْنَاهُ ، بَيْعُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ ، دُونَ الْأُمِّ .
وَلَا خِلَافَ فِي فَسَادِهِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ ؛ لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، جَهَالَتُهُ ، فَإِنَّهُ لَا تُعْلَمُ صِفَتُهُ وَلَا حَيَّاتُهُ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، بِخِلَافِ الْغَائِبِ ، فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الشُّرُوعِ فِي تَسْلِيمِهِ .
وَقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ ، وَالْمَلَاقِيحِ .
} قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْمَلَاقِيحُ ، مَا فِي الْبُطُونِ ، وَهِيَ الْأَجِنَّةُ .
وَالْمَضَامِينُ ، مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ .
فَكَانُوا يَبِيعُونَ الْجَنِينَ فِي بَطْنِ النَّاقَةِ ، وَمَا يَضْرِبُهُ الْفَحْلُ فِي عَامِهِ ، أَوْ فِي أَعْوَامٍ .
وَأَنْشَدَ : إنَّ الْمَضَامِينَ الَّتِي فِي الصُّلْبِ مَاءُ الْفُحُولِ فِي الظُّهُورِ الْحُدْبِ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَجْرِ } .
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ : الْمَجْرُ مَا فِي بَطْنِ النَّاقَةِ .
وَالْمَجْرُ الرِّبَا .
وَالْمَجْرُ الْقِمَارُ .
وَالْمَجْرُ الْمُحَاقَلَةُ وَالْمُزَابَنَةُ .
( 3093 ) فَصْلٌ : وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
مَعْنَاهُ نِتَاجُ النِّتَاجِ .
قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لَحْمَ الْجَزُورِ إلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ .
وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ، ثُمَّ تَحْمِلُ الَّتِي نُتِجَتْ ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَكِلَا الْبَيْعَيْنِ فَاسِدٌ ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ بَيْعٌ مَعْدُومٌ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْحَمْلِ ، فَبَيْعُ حَمْلِهِ أَوْلَى .
وَأَمَّا الثَّانِي ، فَلِأَنَّهُ بَيْعٌ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ .
( 3094 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَنَهَى عَنْهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ .
وَكَرِهَهُ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيَّامًا مَعْلُومَةً ، إذَا عَرَفَا حِلَابَهَا ، لِسَقْيِ الصَّبِيِّ ، كَلَبَنِ الظِّئْرِ .
وَأَجَازَهُ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُبَاعَ صُوفٌ عَلَى ظَهْرٍ ، أَوْ لَبَنٌ فِي ضَرْعٍ } رَوَاهُ الْخَلَّالُ بِإِسْنَادِهِ وَلِأَنَّهُ مَجْهُولُ الصِّفَةِ وَالْمِقْدَارِ ، فَأَشْبَهَ الْحَمْلَ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ عَيْنٍ لَمْ تُخْلَقْ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَبَيْعِ مَا تَحْمِلُ النَّاقَةُ ، وَالْعَادَةُ فِي ذَلِكَ تَخْتَلِفُ .
وَأَمَّا لَبَنُ الظِّئْرِ فَإِنَّمَا جَازَ لِلْحَضَانَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ .
( 3095 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ ؛ فَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْحَيَوَانِ ، فَلَمْ يَجُزْ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ ، كَأَعْضَائِهِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ بِشَرْطِ جَزِّهِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ ، فَجَازَ بَيْعُهُ ، كَالرَّطْبَةِ .
وَفَارَقَ الْأَعْضَاءَ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا مَعَ سَلَامَةِ الْحَيَوَانِ .
وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ ، فَتَرَكَهُ حَتَّى طَالَ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الرَّطْبَةِ إذَا اشْتَرَاهَا ، فَتَرَكَهَا حَتَّى طَالَتْ .
( 3096 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا تَجْهَلُ صِفَتَهُ كَالْمِسْكِ فِي الْفَأْرِ ، وَهُوَ الْوِعَاءُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ .
قَالَ الشَّاعِرُ إذَا التَّاجِرُ الْهِنْدِيُّ جَاءَ بِفَأْرَةٍ مِنْ الْمِسْكِ رَاحَتْ فِي مَفَارِقِهِمْ تَجْرِي فَإِنْ فَتَحَ وَشَاهَدَ مَا فِيهِ ، جَازَ بَيْعُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ؛ لِلْجَهَالَةِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : يَجُوزُ لِأَنَّ بَقَاءَهُ فِي فَأْرِهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ ، فَإِنَّهُ يَحْفَظُ رُطُوبَتَهُ وَذَكَاءَ رَائِحَتِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَبْقَى خَارِجَ وِعَائِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَتَبْقَى رَائِحَتُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مَسْتُورًا ، كَالدُّرِّ فِي الصَّدَفِ وَأَمَّا مَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ ، فَإِخْرَاجُهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِهِ .
وَالتَّفْصِيلُ فِي بَيْعِهِ مَعَ وِعَائِهِ ، كَالتَّفْصِيلِ فِي بَيْعِ السَّمْنِ فِي ظَرْفِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ الْبَيْضُ فِي الدَّجَاجِ ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا ؛ لِلْجَهْلِ بِهِمَا .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا نَذْكُرُهُ .
( 3097 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ مَعْرِفَةُ الْمَبِيعِ ، بِالذَّوْقِ إنْ كَانَ مَطْعُومًا ، أَوْ بِالشَّمِّ إنْ كَانَ مَشْمُومًا ، صَحَّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ .
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ، جَازَ بَيْعُهُ ، كَالْبَصِيرِ ، وَلَهُ خِيَارُ الْخَلْفِ فِي الصِّفَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَثْبَتَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهُ الْخِيَارَ ، إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْمَبِيعِ ، إمَّا بِحِسِّهِ أَوْ ذَوْقِهِ أَوْ وَصْفِهِ ، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ شِرَاؤُهُ جَائِزٌ ، وَإِذَا أَمَرَ إنْسَانًا بِالنَّظَرِ إلَيْهِ ، لَزِمَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ بَيْعُ الْمَجْهُولِ ، أَوْ يَكُونُ قَدْ رَآهُ بَصِيرًا ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ قَبْلَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَتَغَيَّرُ الْمَبِيعُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَاقِدِ ، فَلَمْ يَصِحَّ كَبَيْعِ الْبَيْضِ فِي الدَّجَاجِ ، وَالنَّوَى فِي التَّمْرِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْمَقْصُودِ وَمَعْرِفَتُهُ ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْبَصِيرِ ، وَلِأَنَّ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ تَقُومُ مَقَامَ نُطْقِهِ ، فَكَذَلِكَ شَمُّ الْأَعْمَى وَذَوْقُهُ ، وَأَمَّا الْبَيْضُ وَالنَّوَى ، فَلَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ ، وَلَا وَصْفُهُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
( 3098 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ ( وَبَيْعُ عَسْبِ الْفَحْلِ غَيْرُ جَائِزٍ ) .
عَسْبُ الْفَحْلِ ضِرَابُهُ .
وَبَيْعُهُ أَخْذُ عِوَضُهُ وَتُسَمَّى الْأُجْرَةُ عَسْبُ الْفَحْلِ مَجَازًا .
وَإِجَارَةُ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ حَرَامٌ ، وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُهُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي الْجَوَازَ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعِ الْفَحْلِ وَنَزْوِهِ ، وَهَذِهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَالْمَاءُ تَابِعُ ، وَالْغَالِبُ حُصُولُهُ عَقِيبَ نَزْوِهِ ، فَيَكُونُ كَالْعَقْدِ عَلَى الظِّئْرِ ؛ لِيَحْصُلَ اللَّبَنُ فِي بَطْنِ الصَّبِيِّ .
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ عَسْبِ الْفَحْلِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ ضِرَابِ الْجَمَلِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، فَأَشْبَهَ إجَارَةَ الْآبِقِ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِ الْفَحْلِ وَشَهْوَتِهِ .
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَاءُ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ .
وَإِجَارَةُ الظِّئْرِ خُولِفَ فِيهِ الْأَصْلُ لِمَصْلَحَةِ بَقَاءِ الْآدَمِيِّ ، فَلَا يُقَاسَ عَلَيْهِ مَا لَيْسَ مِثْلَهُ .
فَعَلَى هَذَا إذَا أَعْطَى أُجْرَةً لِعَسْبِ الْفَحْلِ ، فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُعْطِي لِأَنَّهُ بَذَلَ مَالَهُ لِتَحْصِيلِ مُبَاحٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَلَا تَمْتَنِعُ هَذَا كَمَا فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ ، فَإِنَّهُ خَبِيثٌ ، وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي حَجَمَهُ .
وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْكَسْحِ وَالصَّحَابَةُ أَبَاحُوا شِرَاءَ الْمَصَاحِفِ ، وَكَرِهُوا بَيْعَهَا .
وَإِنْ أَعْطَى صَاحِبَ الْفَحْلِ هَدِيَّةً ، أَوْ أَكْرَمَهُ مِنْ غَيْرِ إجَارَةٍ ، جَازَ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا كَانَ إكْرَامًا فَلَا بَأْسَ } وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ
مُبَاحٌ ، فَجَازَ أَخْذُ الْهَدِيَّةِ عَلَيْهِ ، كَالْحِجَامَةِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا يَأْخُذُ .
فَقِيلَ لَهُ : أَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْحَجَّامِ يُعْطَى ، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ ؟ فَقَالَ : لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى فِي مِثْلِ هَذَا شَيْئًا كَمَا بَلَغَنَا فِي الْحَجَّامِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ مَا مَنَعَ أَخْذَ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ مَنَعَ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ ، كَمَهْرِ الْبَغِيِّ ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مُقْتَضَى النَّظَرِ ، لَكِنْ تُرِكَ مُقْتَضَاهُ فِي الْحَجَّامِ ، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ .
وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ ، وَأَوْفَقُ لِلْقِيَاسِ ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ يُحْمَلُ عَلَى الْوَرَعِ ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ .
( 3099 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ ( وَالنَّجْشُ مَنْهِيُّ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ ، وَلَيْسَ هُوَ مُشْتَرِيًا لَهَا ) النَّجْشُ : أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ مَنْ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا ، لِيَقْتَدِيَ بِهِ الْمُسْتَامُ ، فَيَظُنَّ أَنَّهُ لَمْ يَزِدْ فِيهَا هَذَا الْقَدْرَ إلَّا وَهِيَ تُسَاوِيهِ ، فَيَغْتَرَّ بِذَلِكَ ، فَهَذَا حَرَامٌ وَخِدَاعٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ النَّاجِشُ آكِلُ رِبًا خَائِنٌ ، وَهُوَ خِدَاعٌ بَاطِلٌ لَا يَحِلُّ .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ النَّجْشِ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَغْرِيرًا بِالْمُشْتَرِي ، وَخَدِيعَةً لَهُ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ } فَإِنْ اشْتَرَى مَعَ النَّجْشِ ، فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ .
اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّهْيَ عَادَ إلَى النَّاجِشِ ، لَا إلَى الْعَاقِدِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْبَيْعِ .
وَلِأَنَّ النَّهْيَ لِحَقِّ الْآدَمِيِّ ، فَلَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدُ ، كَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ ، وَبَيْعِ الْمَعِيبِ ، وَالْمُدَلِّسِ ، وَفَارَقَ مَا كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ يُمْكِنُ جَبْرُهُ بِالْخِيَارِ ، أَوْ زِيَادَةٍ فِي الثَّمَنِ ، لَكِنْ إنْ كَانَ فِي الْبَيْعِ غَبْنٌ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِمِثْلِهِ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ ، كَمَا فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ ، وَإِنْ كَانَ يُتَغَابَنُ بِمِثْلِهِ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ .
وَسَوَاءٌ كَانَ النَّجْشُ بِمُوَاطَأَةٍ مِنْ الْبَائِعِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُوَاطَأَةِ الْبَائِعِ وَعِلْمِهِ ، فَلَا
خِيَارَ لَهُ .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ بِمُوَاطَأَةِ مِنْهُ .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ مِنْهُ ، حَيْثُ اشْتَرَى مَا لَا يَعْرِفُ قِيمَتَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَغْرِيرٌ بِالْعَاقِدِ ، فَإِذَا كَانَ مَغْبُونًا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ ، كَمَا فِي تَلَقِّي الرُّكْبَانِ ، وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ بِتَلَقِّي الرُّكْبَانِ .
( 3100 ) فَصْلٌ وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ أُعْطِيتُ بِهَذِهِ السِّلْعَةِ كَذَا وَكَذَا .
فَصَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي وَاشْتَرَاهَا بِذَلِكَ ، ثُمَّ بَانَ كَاذِبًا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّجْشِ .
( 3101 ) فَصْلٌ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ .
} مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا تَبَايَعَا ، فَجَاءَ آخَرُ إلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَقَالَ : أَنَا أَبِيعُك مِثْلَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِدُونِ هَذَا الثَّمَنِ ، أَوْ أَبِيعُك خَيْرًا مِنْهَا بِثَمَنِهَا ، أَوْ دُونَهُ أَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ سِلْعَةً رَغِبَ فِيهَا الْمُشْتَرِي ، فَفَسَخَ الْبَيْعَ ، وَاشْتَرَى هَذِهِ ، فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ ؛ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِ ، وَالْإِفْسَادِ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ ، وَهُوَ أَنْ يَجِيءَ إلَى الْبَائِعِ قَبْلَ لُزُومِ الْعَقْدِ ، فَيَدْفَعَ فِي الْمَبِيعِ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اُشْتُرِيَ بِهِ ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يُسَمَّى بَيْعًا ، فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ .
وَهُوَ فِي مَعْنَى الْخَاطِبِ .
فَإِنْ خَالَفَ وَعَقَدَ ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ عَرْضُ سِلْعَتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، أَوْ قَوْلُهُ الَّذِي فَسَخَ الْبَيْعَ مِنْ أَجْلِهِ ، وَذَلِكَ سَابِقٌ عَلَى الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا صَحَّ الْفَسْخُ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الضَّرَرُ ، فَالْبَيْعُ الْمُحَصِّلُ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ النَّجْشِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
( 3102 ) فَصْلٌ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَسُمْ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ } وَلَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدِهَا ، أَنْ يُوجَدَ مِنْ الْبَائِعِ تَصْرِيحٌ بِالرِّضَا بِالْبَيْعِ ، فَهَذَا يُحَرِّمُ السَّوْمَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي ، وَهُوَ الَّذِي تَنَاوَلَهُ النَّهْيُ .
الثَّانِي ، أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرِّضَا فَلَا يَحْرُمُ السَّوْمُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ فِي مَنْ يَزِيدُ فَرَوَى أَنَسٌ : { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ شَكَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّدَّةَ وَالْجَهْدَ ، فَقَالَ لَهُ : أَمَا بَقِيَ لَك شَيْءٌ ؟ فَقَالَ بَلَى ، قَدَحٌ وَحِلْسٌ ، قَالَ : فَأْتِنِي بِهِمَا فَأَتَاهُ بِهِمَا ، فَقَالَ مَنْ يَبْتَاعُهُمَا ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : أَخَذْتُهُمَا بِدِرْهَمٍ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ ؟ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ ؟ فَأَعْطَاهُ رَجُلٌ دِرْهَمَيْنِ ، فَبَاعَهُمَا مِنْهُ .
} .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَهَذَا أَيْضًا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ ، يَبِيعُونَ فِي أَسْوَاقِهِمْ بِالْمُزَايَدَةِ .
الثَّالِثُ ، أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَلَا عَلَى عَدَمِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ السَّوْمُ أَيْضًا ، وَلَا الزِّيَادَةُ ؛ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ { فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ ، حِينَ ذَكَرَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَاهَا ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْكِحَ أُسَامَةَ وَقَدْ نَهَى عَنْ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ ، كَمَا نَهَى عَنْ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ ، } فَمَا أُبِيحَ فِي أَحَدِهِمَا أُبِيحَ فِي الْآخَرِ .
الرَّابِعُ ، أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا تَحْرُمُ الْمُسَاوَمَةُ .
وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْخِطْبَةِ ، اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ .
وَلِأَنَّ الْأَصْلَ إبَاحَةُ السَّوْمِ وَالْخِطْبَةِ ، فَحَرُمَ مَنْعُ مَا
وُجِدَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِالرِّضَا ، وَمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .
وَلَوْ قِيلَ بِالتَّحْرِيمِ هَاهُنَا ، لَكَانَ وَجْهًا حَسَنًا ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَامٌ خَرَجَتْ مِنْهُ الصُّوَرُ الْمَخْصُوصَةُ بِأَدِلَّتِهَا ، فَتَبْقَى هَذِهِ الصُّورَةُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ .
وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا ، أَشْبَهَ مَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ ، وَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الدَّلِيلِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ مُسْتَشِيرَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا ، فَكَيْفَ تَرْضَى وَقَدْ نَهَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { لَا تُفَوِّتِينَا بِنَفْسِك .
} فَلَمْ تَكُنْ تَفْعَلُ شَيْئًا قَبْلَ مُرَاجَعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحُكْمُ فِي الْفَسَادِ كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ، فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَكَمْنَا بِالتَّحْرِيمِ فِيهِ .
.
( 3103 ) فَصْلٌ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ بَاطِلٌ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : هُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ ، خَالِيًا عَنْ مُقَارَنَةِ مُفْسِدٍ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَا عَلَى شَرْطٍ فَاسِدٍ ، ثُمَّ عَقَدَا الْبَيْعَ بِغَيْرِ شَرْطٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا مَا قَصَدَا الْبَيْعَ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُمَا كَالْهَازِلَيْنِ ، وَمَعْنَى بَيْعِ التَّلْجِئَةِ ، أَنْ يَخَافَ أَنْ يَأْخُذَ السُّلْطَانُ أَوْ غَيْرُهُ مِلْكَهُ فَيُوَاطِئَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يُظْهِرَا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ، لِيَحْتَمِيَ بِذَلِكَ ، وَلَا يُرِيدَانِ بَيْعًا حَقِيقِيًّا .
( 3104 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ بَاعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ) وَهُوَ أَنْ يَخْرُجَ الْحَضَرِيُّ إلَى الْبَادِي ، وَقَدْ جَلَبَ السِّلْعَةَ ، فَيُعَرِّفَهُ السِّعْرَ ، وَيَقُولَ : أَنَا أَبِيعُ لَك .
فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : { دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقْ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } وَالْبَادِي هَاهُنَا ، مَنْ يَدْخُلُ الْبَلْدَةَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ، سَوَاءٌ كَانَ بَدَوِيًّا ، أَوْ مِنْ قَرْيَةٍ ، أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَاضِرَ أَنْ يَبِيعَ لَهُ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ ، وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ ، قَالَ فَقُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَوْلُهُ حَاضِرٌ لِبَادٍ ؟ قَالَ : لَا يَكُونُ لَهُ سِمْسَارًا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقْ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٌ وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ ، أَنَّهُ مَتَى تُرِكَ الْبَدَوِيُّ يَبِيعُ سِلْعَتَهُ ، اشْتَرَاهَا النَّاسُ بِرُخْصٍ ، وَيُوَسِّعُ عَلَيْهِمْ السِّعْرَ ، فَإِذَا تَوَلَّى الْحَاضِرُ بَيْعَهَا ، وَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا ، إلَّا بِسِعْرِ الْبَلَدِ .
ضَاقَ عَلَى أَهْلِ الْبَلَدِ .
وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْلِيلِهِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى .
وَمِمَّنْ كَرِهَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَنَسٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَنَقَلَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا فِي جُمْلَةِ سَمَاعَاتِهِ ، أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الْمِصْرِيَّ سَأَلَ أَحْمَدَ عَنْ بَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ ، فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ .
فَقَالَ لَهُ : فَالْخَبَرُ الَّذِي جَاءَ بِالنَّهْيِ .
قَالَ : كَانَ ذَلِكَ مَرَّةً .
فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ الْبَيْعِ ، وَأَنَّ النَّهْيَ اخْتَصَّ بِأَوَّلِ الْإِسْلَامِ ؛
لِمَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الضِّيقِ فِي ذَلِكَ .
وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابِهِ .
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِعُمُومِ النَّهْيِ ، وَمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ يَثْبُتُ فِي حَقِّنَا ، مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ بِهِ دَلِيلٌ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَحْرُمُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ ؛ أَحَدِهَا ، أَنْ يَكُونَ الْحَاضِرُ قَصَدَ الْبَادِيَ ؛ لِيَتَوَلَّى الْبَيْعَ لَهُ .
وَالثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ الْبَادِي جَاهِلًا بِالسِّعْرِ ؛ لِقَوْلِهِ : " فَيُعَرِّفَهُ السِّعْرَ " ، وَلَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ ، إلَّا لِجَاهِلٍ ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ : إذَا كَانَ الْبَادِي عَارِفًا بِالسِّعْرِ ، لَمْ يَحْرُمْ .
وَالثَّالِثُ ، أَنْ يَكُونَ قَدْ جَلَبَ السِّلَعَ لِلْبَيْعِ ؛ لِقَوْلِهِ : " وَقَدْ جَلَبَ السِّلَعَ " .
وَالْجَالِبُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالسِّلَعِ لِيَبِيعَهَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ ؛ أَحَدَهُمَا ، أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِبَيْعِهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا .
وَالثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ بِالنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى مَتَاعِهِ ، وَضِيقٌ فِي تَأْخِيرِ بَيْعِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا يَحْرُمُ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ ؛ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا إلَّا حَاجَةَ النَّاسِ إلَى مَتَاعِهِ ، فَمَتَى اخْتَلَّ مِنْهَا شَرْطٌ ، لَمْ يَحْرُمْ الْبَيْعُ ، وَإِنْ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ ، فَالْبَيْعُ حَرَامٌ ، وَقَدْ صَرَّحَ الْخِرَقِيِّ بِبُطْلَانِهِ .
وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ الرَّجُلِ الْحَضَرِيِّ يَبِيعُ لِلْبَدَوِيِّ ؟ فَقَالَ : أَكْرَهُ ذَلِكَ ، وَأَرُدُّ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِكَوْنِ النَّهْيِ لِمَعْنَى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
( 3105 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الشِّرَاءُ لَهُمْ ، فَيَصِحُّ عِنْدَ أَحْمَدَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ .
وَكَرِهَتْ طَائِفَةٌ الشِّرَاءَ لَهُمْ ، كَمَا كَرِهَتْ الْبَيْعَ .
يُرْوَى عَنْ أَنَسٍ قَالَ ، كَانَ يُقَالُ : هِيَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ ، يَقُولُ : لَا تَبِيعَنَّ لَهُ شَيْئًا ، وَلَا تَبْتَاعَنَّ لَهُ شَيْئًا .
وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ ؛ وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، أَنَّ النَّهْي غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلشِّرَاءِ بِلَفْظِهِ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ الْبَيْعِ لِلرِّفْقِ بِأَهْلِ الْحَضَرِ ، لِيَتَّسِعَ عَلَيْهِمْ السِّعْرُ ، وَيَزُولَ عَنْهُمْ الضَّرَرُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ لَهُمْ ، إذْ لَا يَتَضَرَّرُونَ ، لِعَدَمِ الْغَبْنِ لِلْبَادِينَ ، بَلْ هُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُمْ ، وَالْخَلْقُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ عَلَى السَّوَاءِ ، فَكَمَا شَرَعَ مَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ أَهْلِ الْحَضَرِ ، لَا يَلْزَمُ أَنْ يَلْزَمَ أَهْلَ الْبَدْوِ الضَّرَرُ .
وَأَمَّا إنْ أَشَارَ الْحَاضِرُ عَلَى الْبَادِي مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَاشِرَ الْبَيْعَ لَهُ ، فَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ ، مَا لَمْ يَثْبُتْ خِلَافُهُ .
( 3106 ) فَصْلٌ : قَالَ ابْنُ حَامِدٍ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ ، بَلْ يَبِيعُ النَّاسُ ، أَمْوَالَهُمْ عَلَى مَا يَخْتَارُونَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ : يُقَالُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ أَقَلَّ مِمَّا يَبِيعُ النَّاسُ بِهِ : بِعْ كَمَا يَبِيعُ النَّاسُ ، وَإِلَّا فَاخْرُجْ عَنَّا وَاحْتَجَّ لَهُ بِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، عَنْ دَاوُد بْنِ صَالِحٍ التَّمَّارِ ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبٍ فِي سُوقِ الْمُصَلَّى ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ غِرَارَتَانِ فِيهِمَا زَبِيبٌ ، فَسَأَلَهُ عَنْ سِعْرِهِمَا ، فَسَعَّرَ لَهُ مَدَّيْنِ بِكُلِّ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : قَدْ حُدِّثْت بِعِيرٍ مُقْبِلَةٍ مِنْ الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا ، وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِسِعْرِكِ ، فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِي السِّعْرِ ، وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَك فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْت وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ إضْرَارًا بِالنَّاسِ إذَا زَادَ تَبِعَهُ أَصْحَابُ الْمَتَاعِ ، وَإِذَا نَقَصَ أَضَرَّ بِأَصْحَابِ الْمَتَاعِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ أَنَسٌ قَالَ : { غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، غَلَا السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا .
فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ ، إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَيْسَ أَحَدٌ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ .
فَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، أَنَّهُ لَمْ يُسَعِّرْ ، وَقَدْ سَأَلُوهُ ذَلِكَ ، وَلَوْ جَازَ لَأَجَابَهُمْ إلَيْهِ .
الثَّانِي ، أَنَّهُ عَلَّلَ بِكَوْنِهِ مَظْلَمَةٌ ، وَالظُّلْمُ حَرَامٌ ، وَلِأَنَّهُ مَالُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِنْ بَيْعِهِ بِمَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْمُتَبَايِعَانِ ، كَمَا اتَّفَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَيْهِ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : التَّسْعِيرُ سَبَبُ الْغَلَاءِ ، لِأَنَّ الْجَالِبِينَ إذَا بَلَغَهُمْ
ذَلِكَ ، لَمْ يَقْدَمُوا بِسِلَعِهِمْ بَلَدًا يُكْرَهُونَ عَلَى بَيْعِهَا فِيهِ بِغَيْرِ مَا يُرِيدُونَ ، وَمَنْ عِنْدَهُ الْبِضَاعَةُ يَمْتَنِعُ مِنْ بَيْعِهَا ، وَيَكْتُمُهَا ، وَيَطْلُبُهَا أَهْلُ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، فَلَا يَجِدُونَهَا إلَّا قَلِيلًا ، فَيَرْفَعُونَ فِي ثَمَنِهَا لِيَصِلُوا إلَيْهَا ، فَتَغْلُوا الْأَسْعَارُ ، وَيَحْصُلُ الْإِضْرَارُ بِالْجَانِبَيْنِ ، جَانِبِ الْمُلَّاكِ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ بَيْعِ أَمْلَاكِهِمْ ، وَجَانِبِ الْمُشْتَرِي فِي مَنْعِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى غَرَضِهِ ، فَيَكُونُ حَرَامًا .
فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ ، فَقَدْ رَوَى فِيهِ سَعِيدٌ وَالشَّافِعِيُّ ، أَنَّ عُمَرَ لَمَّا رَجَعَ حَاسَبَ نَفْسَهُ ، ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي دَارِهِ ، فَقَالَ : إنَّ الَّذِي قُلْت لَك لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ مِنِّي وَلَا قَضَاءٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْت بِهِ الْخَيْرَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ ، فَحَيْثُ شِئْت فَبِعْ كَيْفَ شِئْت .
وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى مَا قُلْنَا .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الضَّرَرِ مَوْجُودٌ فِيمَا إذَا بَاعَ فِي بَيْتِهِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ .
( 3107 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ ( وَنُهِيَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ ) فَإِنْ تُلُقُّوا ، وَاشْتُرِيَ مِنْهُمْ ، فَهُمْ بِالْخِيَارِ إذَا دَخَلُوا السُّوقَ ، وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ قَدْ غُبِنُوا إنْ أَحَبُّوا أَنْ يَفْسَخُوا الْبَيْعَ فَسَخُوا .
رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الْأَجْلَابَ ، فَيَشْتَرُونَ مِنْهُمْ الْأَمْتِعَةَ قَبْلَ أَنْ تَهْبِطَ الْأَسْوَاقَ ، فَرُبَّمَا غَبَنُوهُمْ غَبْنًا بَيِّنًا ، فَيَضُرُّونَهُمْ ، وَرُبَّمَا أَضَرُّوا بِأَهْلِ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّ الرُّكْبَانَ إذَا وَصَلُوا بَاعُوا أَمْتِعَتَهُمْ ، وَاَلَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَهُمْ لَا يَبِيعُونَهَا سَرِيعًا ، وَيَتَرَبَّصُونَ بِهَا السِّعْرَ ، فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي ، فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ .
وَرَوَى طَاوُسٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ ، وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ } وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا ، وَكَرِهَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا .
وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ .
فَإِنْ خَالَفَ ، وَتَلَقَّى الرَّكْبَانِ ، وَاشْتَرَى مِنْهُمْ ، فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ .
وَقَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ لِظَاهِرِ النَّهْيِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَلَقَّوْا الْجَلَبَ ، فَمَنْ تَلَقَّاهُ ، وَاشْتَرَى مِنْهُ ، فَإِذَا أَتَى السُّوقَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ } ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَالْخِيَارُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ لَا لِمَعْنَى فِي الْبَيْعِ ، بَلْ يَعُودُ إلَى ضَرْبٍ مِنْ الْخَدِيعَةِ يُمْكِنْ اسْتِدْرَاكُهَا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْمُصَرَّاةِ ،
وَفَارَقَ بَيْعَ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُهُ بِالْخِيَارِ ، إذْ لَيْسَ الضَّرَرُ عَلَيْهِ ، إنَّمَا هُوَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَلِلْبَائِعِ الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ غِبْنَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا خِيَارَ لَهُ .
وَقَدْ رَوَيْنَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا ، وَلَا قَوْلَ لَأَحَدٍ مَعَ قَوْلِهِ .
وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لَهُ إلَّا مَعَ الْغَبْنِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَ لِأَجْلِ الْخَدِيعَةِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَلَا ضَرَرَ مَعَ عَدَمِ الْغَبْنِ .
وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَيُحْمَلُ إطْلَاقُ الْحَدِيثِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ عَلَى هَذَا ؛ لِعِلْمِنَا بِمَعْنَاهُ وَمُرَادِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى يَتَعَلَّقُ الْخِيَارُ بِمِثْلِهِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لَهُ الْخِيَارَ إذَا أَتَى السُّوقَ ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ أَشَارَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالْغَبْنِ فِي السُّوقِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ .
وَلَمْ يُقَدِّرْ الْخِرَقِيِّ الْغَبْنَ الْمُثْبِتَ لِلْخِيَارِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِمَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَنْضَبِطُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ : إنَّمَا نُهِيَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِمَا يَفُوتُ بِهِ مِنْ الرِّفْقُ لِأَهْلِ السُّوقِ ، لِئَلَّا يُقْطَعَ عَنْهُمْ مَا لَهُ جَلَسُوا مِنْ ابْتِغَاءِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَإِنْ تَلَقَّاهَا مُتَلَقٍّ ، فَاشْتَرَاهَا ، عُرِضَتْ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ ، فَيَشْتَرِكُونَ فِيهَا .
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : تُبَاعُ فِي السُّوقِ .
وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ الْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ إذَا دَخَلَ السُّوقَ ، وَلَمْ يَجْعَلُوا لَهُ خِيَارًا ، وَجَعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخِيَارَ لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ لِحَقِّهِ ، لَا لِحَقِّ غَيْرِهِ .
وَلِأَنَّ الْجَالِسَ فِي السُّوقِ كَالْمُتَلَقِّي
، فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْتَغٍ لِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ فَسْخُ عَقْدِ أَحَدِهِمَا ، وَإِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ ، دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ مِثْلِهِ ، وَلَيْسَ رِعَايَةُ حَقِّ الْجَالِسِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ الْمُتَلَقِّي وَلَا يُمْكِنُ اشْتِرَاكُ أَهْلِ السُّوقِ كُلِّهِمْ فِي سِلْعَتِهِ ، فَلَا يُعَرَّجُ عَلَى مِثْلِ هَذَا .
وَاَللَّه أَعْلَمُ .
( 3108 ) فَصْلٌ : فَإِنْ تَلَقَّى الرُّكْبَانَ ، فَبَاعَهُمْ شَيْئًا ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ ، وَلَهُمْ الْخِيَارُ إذَا غَبَنَهُمْ غَبْنَا يَخْرُجُ عَنْ الْعَادَةِ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالُوا فِي الْآخَرِ : النَّهْيُ عَنْ الشِّرَاءِ دُونَ الْبَيْعِ ، فَلَا يَدْخُلُ الْبَيْعُ فِيهِ .
وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا عَنْهُمْ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ لَهُمْ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ .
} وَالْبَائِعُ دَاخِلٌ فِي هَذَا .
وَلِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خَدِيعَتِهِمْ وَغَبَنِهِمْ ، وَهَذَا فِي الْبَيْعِ كَهُوَ فِي الشِّرَاءِ ، وَالْحَدِيثُ قَدْ جَاءَ مُطْلَقًا ، وَلَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالشِّرَاءِ لَأُلْحِقَ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ .
( 3109 ) فَصْلٌ : فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ قَصْدِ التَّلَقِّي ، فَلَقِيَ رَكْبًا ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ لَهُ الِابْتِيَاعُ مِنْهُمْ ، وَلَا الشِّرَاءُ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ التَّلَقِّي ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّهْيُ وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ التَّلَقِّي دَفْعًا لِلْخَدِيعَةِ وَالْغَبْنِ عَنْهُمْ ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ ، سَوَاءٌ قَصَدَ التَّلَقِّي ، أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ ، فَوَجَبَ الْمَنْعُ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ قَصَدَ .
( 3110 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَلَقَّى الْجَلَبَ فِي أَعْلَى الْأَسْوَاقِ ، فَلَا بَأْسَ فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُتَلَقَّى السِّلَعُ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا الْأَسْوَاقُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَلِأَنَّهُ إذَا صَارَ فِي السُّوقِ ، فَقَدْ صَارَ فِي مَحَلِّ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ ، كَاَلَّذِي وَصَلَ إلَى وَسَطِهَا .
( 3111 ) فَصْلٌ : وَالِاحْتِكَارُ حَرَامٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ الْأَثْرَمِ ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، قَالَ { : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ } وَرُوِيَ أَيْضًا ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ } .
وَرُوِيَ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ ، فَرَأَى طَعَامًا كَثِيرًا قَدْ أُلْقِيَ عَلَى بَابِ مَكَّةَ ، فَقَالَ : مَا هَذَا الطَّعَامُ ؟ فَقَالُوا : جُلِبَ إلَيْنَا .
فَقَالَ : بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ ، وَفِي مَنْ جَلَبَهُ .
فَقِيلَ لَهُ : فَأَنَّهُ قَدْ اُحْتُكِرَ .
قَالَ : وَمَنْ احْتَكَرَهُ ؟ قَالُوا : فُلَانٌ مَوْلَى عُثْمَانَ ، وَفُلَانٌ مَوْلَاك .
فَأَرْسَلَ إلَيْهِمَا .
فَقَالَ : مَا حَمَلَكُمَا عَلَى احْتِكَارِ طَعَامِ الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَا : نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ .
قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ، لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَضْرِبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ أَوْ الْإِفْلَاسِ } قَالَ الرَّاوِي : فَأَمَّا مَوْلَى عُثْمَانَ فَبَاعَهُ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَحْتَكِرُهُ أَبَدًا وَأَمَّا مَوْلَى عُمَرَ فَلَمْ يَبِعْهُ ، فَرَأَيْته مَجْذُومًا .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ .
}
فَصْلٌ : وَالِاحْتِكَارُ الْمُحَرَّمُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يَشْتَرِيَ ، فَلَوْ جَلَبَ شَيْئًا ، أَوْ أَدْخَلَ مِنْ غَلَّتِهِ شَيْئًا ، فَادَّخَرَهُ ، لَمْ يَكُنْ مُحْتَكِرًا .
رُوِيَ [ عَنْ ] الْحَسَنِ وَمَالِكٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ الْجَالِبُ لَيْسَ بِمُحْتَكَرِ ؛ لِقَوْلِهِ { : الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ } وَلِأَنَّ الْجَالِبَ لَا يُضَيِّقُ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَضُرُّ بِهِ ، بَلْ يَنْفَعُ ، فَإِنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا عِنْدَهُ طَعَامًا مُعَدًّا لِلْبَيْعِ ، كَانَ ذَلِكَ أَطْيَبُ لَقُلُوبِهِمْ مِنْ عَدَمِهِ .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى قُوتًا .
فَأَمَّا الْإِدَامُ ، وَالْحَلْوَاءُ ، وَالْعَسَلُ ، وَالزَّيْتُ ، وَأَعْلَافُ الْبَهَائِمِ ، فَلَيْسَ فِيهَا احْتِكَارٌ مُحَرَّمٌ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ ، عَنْ أَيِّ شَيْءٍ الِاحْتِكَارُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ مِنْ قُوتِ النَّاسِ فَهُوَ الَّذِي يُكْرَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو .
وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَهُوَ رَاوِي حَدِيثِ الِاحْتِكَارِ - يَحْتَكِرُ الزَّيْتَ .
قَالَ أَبُو دَاوُد : كَانَ يَحْتَكِرُ النَّوَى ، وَالْخَيْطَ ، وَالْبِزْرَ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا تَعُمُّ الْحَاجَةُ إلَيْهَا ، فَأَشْبَهَتْ الثِّيَابَ ، وَالْحَيَوَانَاتِ .
الثَّالِثُ ، أَنْ يُضَيِّقَ عَلَى النَّاسِ بِشِرَائِهِ .
وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِأَمْرَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، يَكُونُ فِي بَلَدٍ يُضَيِّقُ بِأَهْلِهِ الِاحْتِكَارُ ، كَالْحَرَمَيْنِ ، وَالثُّغُورِ .
قَالَ أَحْمَدُ : الِاحْتِكَارُ فِي مِثْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ، وَالثُّغُورِ .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْبِلَادَ الْوَاسِعَةَ الْكَثِيرَةَ الْمَرَافِقِ وَالْجَلَبِ كَبَغْدَادَ ، وَالْبَصْرَةِ وَمِصْرَ ، لَا يَحْرُمُ فِيهَا الِاحْتِكَارُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا غَالِبًا .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ فِي حَالِ الضَّيِّقِ ، بِأَنْ يَدْخُلَ الْبَلَدَ قَافِلَةٌ فَيَتَبَادَرُ ذَوُو الْأَمْوَالِ فَيَشْتَرُونَهَا ، وَيُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ .
فَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهُ فِي حَالِ الِاتِّسَاعِ وَالرُّخْصِ ، عَلَى وَجْهٍ لَا يُضَيِّقُ
عَلَى أَحَدٍ فَلَيْسَ بِمُحَرَّمٍ .
( 3113 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَبَيْعُ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا بَاطِلٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ؛ أَنَّ بَيْعَ الْعَصِيرِ لِمَنْ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا مُحَرَّمٌ .
وَكَرِهَهُ الشَّافِعِيُّ ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْبَائِعَ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَعْصِرُهَا خَمْرًا ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ ، وَأَنَّمَا يُكْرَهُ إذَا شَكَّ فِيهِ .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ التَّمْرِ لِمَنْ يَتَّخِذُهُ مُسْكِرًا .
قَالَ الثَّوْرِيُّ بِعْ الْحَلَالَ مِمَّنْ شِئْت .
وَاحْتَجَّ لَهُمْ بُقُولِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وَهَذَا نَهْيٌ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً .
فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْخَمْرَ ، وَعَاصِرَهَا ، وَمُعْتَصِرَهَا ، وَحَامِلَهَا ، وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ ، وَشَارِبَهَا وَبَائِعَهَا ، وَمُبْتَاعَهَا ، وَسَاقِيَهَا } .
وَأَشَارَ إلَى كُلِّ مُعَاوِنٍ عَلَيْهَا ، وَمُسَاعِدٍ فِيهَا أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ التِّرْمِذِيُّ ، مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَقَالَ : قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ فِي تَحْرِيمِ النَّبِيذِ ، بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ قَيِّمًا كَانَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي أَرْضٍ لَهُ ، فَأَخْبَرَهُ عَنْ عِنَبٍ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ زَبِيبًا ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُبَاعَ إلَّا لِمَنْ يَعْصِرُهُ ، فَأَمَرَ بِقَلْعِهِ ، وَقَالَ : بِئْسَ الشَّيْخُ أَنَا إنْ بِعْت الْخَمْرَ وَلِأَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَيْهَا لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهَا لِلْمَعْصِيَةِ ، فَأَشْبَهَ إجَارَةَ أَمَتِهِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَأْجِرُهَا لِيَزْنِيَ بِهَا .
وَالْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِصُوَرٍ
كَثِيرَةٍ ، فَيُخَصُّ مِنْهَا مَحَلُّ النِّزَاعِ بِدَلِيلِنَا .
وَقَوْلُهُمْ : تَمَّ الْبَيْعُ بِشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ .
قُلْنَا : لَكِنْ وُجِدَ الْمَانِعُ مِنْهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ ، إذَا عَلِمَ الْبَائِعُ قَصْدَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ ، إمَّا بِقَوْلِهِ ، وَإِمَّا بِقَرَائِنَ مُخْتَصَّةٍ بِهِ ، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْأَمْرُ مُحْتَمِلًا ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مَنْ لَا يَعْلَمُ ، أَوْ مَنْ يَعْمَلُ الْخَلَّ وَالْخَمْرَ مَعًا ، وَلَمْ يَلْفِظْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْخَمْرِ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ .
وَإِذَا ثَبَتَ التَّحْرِيمُ ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي ذَلِكَ اعْتِقَادُهُ بِالْعَقْدِ دُونَهُ ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْعَقْدِ ، كَمَا لَوْ دَلَّسَ الْعَيْبَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقَدَ عَلَى عَيْنٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ بِهَا ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَإِجَارَةِ الْأَمَةِ لِلزِّنَى وَالْغِنَاءِ .
وَأَمَّا التَّدْلِيسُ ، فَهُوَ الْمُحَرَّمُ ، دُونَ الْعَقْدِ .
وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ هَاهُنَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ ، وَيُفَارِقُ التَّدْلِيسَ ، فَإِنَّهُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ .
( 3114 ) فَصْلٌ : وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْحَرَامُ ، كَبَيْعِ السِّلَاحِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ ، أَوْ لِقُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، أَوْ فِي الْفِتْنَةِ ، وَبَيْعِ الْأَمَةِ لِلْغِنَاءِ ، أَوْ إجَارَتِهَا كَذَلِكَ ، أَوْ إجَارَةِ دَارِهِ لِبَيْعِ الْخَمْرِ فِيهَا ، أَوْ لِتُتَّخَذَ كَنِيسَةً ، أَوْ بَيْتَ نَارٍ ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ .
فَهَذَا حَرَامٌ ، وَالْعَقْدُ بَاطِلٌ ؛ لِمَا قَدَّمْنَا .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَسَائِلَ ، نَبَّهَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ فِي الْقَصَّابِ وَالْخَبَّازِ : إذَا عَلِمَ أَنَّ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ ، يَدْعُو عَلَيْهِ مَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ ، لَا يَبِيعُهُ ، وَمَنْ يَخْتَرِطُ الْأَقْدَاحَ لَا يَبِيعُهَا مِمَّنْ يَشْرَبُ فِيهَا .
وَنَهَى عَنْ بَيْعَ الدِّيبَاجِ لِلرِّجَالِ ، وَلَا بَأْسَ بَيْعِهِ لِلنِّسَاءِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ ؛ لَا يَبِيعُ الْجَوْزَ مِنْ الصِّبْيَانِ لِلْقِمَارِ .
وَعَلَى قِيَاسِهِ الْبَيْضُ ، فَيَكُونُ بَيْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ بَاطِلًا .
( 3115 ) فَصْلٌ : قِيلَ لِأَحْمَدَ : رَجُلٌ مَاتَ ، وَخَلَّفَ جَارِيَةً مُغَنِّيَةً ، وَوَلَدًا يَتِيمًا ، وَقَدْ احْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا قَالَ : يَبِيعُهَا عَلَى أَنَّهَا سَاذِجَةٌ .
فَقِيلَ لَهُ : فَإِنَّهَا تُسَاوِي ثَلَاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا بِيعَتْ سَاذَجَةٌ تُسَاوِي عِشْرِينَ دِينَارًا .
قَالَ : لَا تُبَاعُ إلَّا عَلَى أَنَّهَا سَاذِجَةٌ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ ، وَلَا أَثْمَانُهُنَّ ، وَلَا كَسْبُهُنَّ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى بَيْعِهِنَّ لِأَجْلِ الْغِنَاءِ ، فَأَمَّا مَالِيَّتُهُنَّ الْحَاصِلَةُ بِغَيْرِ الْغِنَاءِ فَلَا تَبْطُلُ ، كَمَا أَنَّ الْعَصِيرَ لَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ لِغَيْرِ الْخَمْرِ ، لِصَلَاحِيَّتِهِ لِلْخَمْرِ .
( 3116 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ ، وَلَا التَّوْكِيلُ فِي بَيْعِهِ ، وَلَا شِرَاؤُهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوَكِّلَ ذِمِّيًّا فِي بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا .
وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { حُرِّمَتْ .
التِّجَارَةُ فِي الْخَمْرِ } .
وَعَنْ جَابِرٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ ، وَهُوَ بِمَكَّةَ ، يَقُولُ { إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت شُحُومَ الْمَيْتَةِ ، فَإِنَّهُ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ ، وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ ؟ فَقَالَ : لَا ، هُوَ حَرَامٌ .
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا ، فَجَمَلُوهُ ، ثُمَّ بَاعُوهُ ، وَأَكَلُوا ثَمَنَهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَمَنْ وُكِّلَ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ ، وَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، فَقَدْ أَشْبَهَهُمْ فِي ذَلِكَ .
وَلِأَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، يَحْرُمُ بَيْعُهَا ، وَالتَّوْكِيلُ فِي بَيْعِهَا ، كَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَلِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ ، فَحَرُمَ عَلَيْهِ التَّوْكِيلُ فِي بَيْعِهِ ، كَالْخِنْزِيرِ .
مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطَانِ ، وَلَا يُبْطِلُهُ شَرْطٌ وَاحِدٌ ) ثَبَتَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّهُ قَالَ : الشَّرْطُ الْوَاحِدُ لَا بَأْسَ بِهِ ، إنَّمَا نُهِيَ عَنْ الشَّرْطَيْنِ فِي الْبَيْعِ ، ذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ ، وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ ، وَلَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك } أَخْرُجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ قَالَ الْأَثْرَمُ : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إنَّ هَؤُلَاءِ يَكْرَهُونَ الشَّرْطَ فِي الْبَيْعِ .
فَنَفَضَ يَدَهُ ، وَقَالَ : الشَّرْطُ الْوَاحِدُ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْبَيْعِ ، إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرْطَيْنِ فِي الْبَيْعِ .
وَحَدِيثُ جَابِرٍ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الشَّرْطِ حِينَ بَاعَهُ جَمَلَهُ ، وَشَرَطَ ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ الشَّرْطَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ؛ أَنَّهُمَا شَرْطَانِ صَحِيحَانِ ، لَيْسَا مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ .
فَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ ، وَعَنْ إِسْحَاقَ فِي مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا ، وَاشْتَرَطَ عَلَى الْبَائِعِ خِيَاطَتَهُ وَقِصَارَتَهُ ، أَوْ طَعَامًا ، وَاشْتَرَطَ طَحْنَهُ وَحَمْلَهُ : إنْ اشْتَرَطَ أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَإِنْ اشْتَرَطَ شَرْطَيْنِ ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ .
وَكَذَلِكَ فَسَّرَ الْقَاضِي فِي " شَرْحِهِ " الشَّرْطَيْنِ الْمُبْطِلَيْنِ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ تَفْسِيرَ الشَّرْطَيْنِ ؛ أَنْ يَشْتَرِيَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَبِيعُهَا مِنْ أَحَدٍ ، وَأَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا .
فَفَسَّرَهُ بِشَرْطَيْنِ فَاسِدَيْنِ .
وَرَوَى عَنْهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ فِي الشَّرْطَيْنِ فِي الْبَيْعِ ، أَنْ يَقُولَ : إذَا بِعْتُكهَا فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا بِالثَّمَنِ ، وَأَنْ تَخْدِمَنِي سَنَةً .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ الشَّرْطَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا مَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ .
فَأَمَّا إنْ شَرَطَ
شَرْطَيْنِ ، أَوْ أَكْثَرَ ، مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، أَوْ مَصْلَحَتِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَبِيعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، وَالتَّأْجِيلِ ، وَالرَّهْنِ ، وَالضَّمِينِ ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الْمَبِيعَ أَوْ الثَّمَنَ .
فَهَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ وَإِنْ كَثُرَ .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ مَتَى شَرَطَ فِي الْعَقْدِ شَرْطَيْنِ ، بَطَلَ ، سَوَاءٌ كَانَا صَحِيحَيْنِ ، أَوْ فَاسِدَيْنِ ، لِمَصْلَحَةِ الْعَقْدِ ، أَوْ لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهِ .
أَخْذًا مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، وَعَمَلًا بِعُمُومِهِ .
وَلَمْ يُفَرِّقْ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ ، وَرَوَوْا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } .
وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَثُرَ ، وَالْفَاسِدُ يُؤَثِّرُ فِيهِ وَإِنْ اتَّحَدَ .
وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ .
وَلِأَنَّ الْغَرَرَ الْيَسِيرَ إذَا اُحْتُمِلَ فِي الْعَقْدِ ، لَا يَلْزَمُ مِنْهُ احْتِمَالُ الْكَثِيرِ .
وَحَدِيثُهُمْ لَمْ يَصِحَّ وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَحْمَدُ ، وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْوِيًّا فِي مُسْنَدٍ ، وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُ الْقَاضِي : إنَّ النَّهْيَ يُبْقِي عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ شَرْطَيْنِ .
بَعِيدٌ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ شَرْطَ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَشَرْطَ مَا هُوَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ ، كَالْأَجَلِ ، وَالْخِيَارِ ، وَالرَّهْنِ ، وَالضَّمِينِ ، وَشَرْطَ صِفَةٍ فِي الْمَبِيعِ ، كَالْكِتَابَةِ ، وَالصِّنَاعَةِ ، فِيهِ مَصْلَحَةُ الْعَقْدِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَثِّرَ أَيْضًا فِي بُطْلَانِهِ ، قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ .
وَلَمْ يَذْكُرْ أَحْمَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ لَهُ .
( 3118 ) فَصْلٌ : وَالشُّرُوطُ تَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدِهَا ، مَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، كَاشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ وَخِيَارِ الْمَجْلِسِ ، وَالتَّقَابُضِ فِي الْحَالِ .
فَهَذَا وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، لَا يُفِيدُ حُكْمًا ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ .
الثَّانِي ، تَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الْعَاقِدَيْنِ ، كَالْأَجَلِ ، وَالْخِيَارِ ، وَالرَّهْنِ ، وَالضَّمِينِ ، وَالشَّهَادَةِ ، أَوْ اشْتِرَاطِ صِفَةٍ مَقْصُودَةٍ فِي الْمَبِيعِ ، كَالصِّنَاعَةِ وَالْكِتَابَةِ ، وَنَحْوِهَا .
فَهَذَا شَرْطٌ جَائِزٌ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي صِحَّةِ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ خِلَافًا .
الثَّالِثُ ، مَا لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَاهُ ، وَلَا مِنْ مَصْلَحَتِهِ ، وَلَا يُنَافِي مُقْتَضَاهُ ، وَهُوَ نَوْعَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، اشْتِرَاطُ مَنْفَعَةِ الْبَائِعِ فِي الْمَبِيعِ ، فَهَذَا قَدْ مَضَى ذِكْرُهُ .
الثَّانِي ، أَنْ يَشْتَرِطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ ، نَحْوَ أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهُ شَيْئًا آخَرَ ، أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ ، أَوْ يُؤْجِرَهُ ، أَوْ يُزَوِّجَهُ ، أَوْ يُسَلِّفَهُ ، أَوْ يَصْرِفَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ غَيْرَهُ ، فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ يَفْسُدُ بِهِ الْبَيْعُ ، سَوَاءٌ اشْتَرَطَهُ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي ، وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الرَّابِعُ ، اشْتِرَاطُ مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْبَيْعِ ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، اشْتِرَاطُ مَا بُنِيَ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ ، مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي عِتْقَ الْعَبْدِ ، فَهَلْ يَصِحُّ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَصِحُّ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ { لِأَنَّ عَائِشَةَ .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَشَرَطَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا عِتْقَهَا وَوَلَاءَهَا ، فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرْطَ الْوَلَاءِ ، دُونَ الْعِتْقِ } وَالثَّانِيَةُ ، الشَّرْطُ فَاسِدٌ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، أَشْبَهَ إذَا شَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَهُ لِأَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ إزَالَةَ مِلْكِهِ عَنْهُ ،
أَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَبِيعَهُ .
وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا شَرَطَتْ لَهُمْ الْعِتْقَ ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَتْهُمْ بِإِرَادَتِهَا لِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَاشْتَرَطُوا الْوَلَاءَ ، فَإِذَا حَكَمْنَا بِفَسَادِهِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا .
وَإِنْ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ ، فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ، فَقَدْ وَفَّى بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُجْبَرُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ إذَا صَحَّ ، تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ ، فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ نَذَرَ عِتْقَهُ .
وَالثَّانِي ، لَا يُحْبَرُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يُوجِبُ فِعْلَ الْمَشْرُوطِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ شَرَطَ الرَّهْنَ ، وَالضَّمِينَ ، فَعَلَى هَذَا يَثْبُتُ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا شَرَطَهُ لَهُ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ رَهْنًا .
وَإِنْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ ، أَوْ كَانَ أَمَةً ، فَأَحْبَلَهَا ، أَعْتَقَهُ ، وَأَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ بَاقٍ فِيهِ .
وَإِنْ اسْتَغَلَّهُ ، أَوْ أَخَذَ مِنْ كَسْبِهِ شَيْئًا ، فَهُوَ لَهُ .
وَإِنْ مَاتَ الْمَبِيعُ ، رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا نَقَصَهُ شَرْطُ الْعِتْقِ ، فَيُقَالُ : كَمْ قِيمَتُهُ لَوْ بِيعَ مُطْلَقًا ؟ وَكَمْ يُسَاوِي إذَا بِيعَ بِشَرْطِ الْعِتْقِ ؟ فَيَرْجِعُ بِقِسْطِ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِهِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَفِي الْآخَرِ يَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي ، أَنْ يَشْتَرِطَ غَيْرَ الْعِتْقِ ؛ مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ لَا يَبِيعَ ، وَلَا يَهَبَ ، وَلَا يَعْتِقَ ، وَلَا يَطَأَ .
أَوْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ ، أَوْ يَقِفَهُ ، أَوْ مَتَى نَفَقَ الْمَبِيعُ وَإِلَّا رَدَّهُ ، أَوْ إنْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ فَالْوَلَاءُ لَهُ .
فَهَذِهِ وَمَا أَشْبَهَهَا شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ .
وَهَلْ يَفْسُدُ بِهَا الْبَيْعُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ قَالَ الْقَاضِي : الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ،
وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَكَمِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَالثَّانِيَةُ ، الْبَيْعُ فَاسِدٌ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ ، فَأَفْسَدَ الْبَيْعَ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ فِيهِ عَقْدًا آخَرَ .
وَلِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا فَسَدَ ، وَجَبَ الرُّجُوعُ بِمَا نَقَصَهُ الشَّرْطُ مِنْ الثَّمَنِ ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا .
وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ الْمَبِيعِ بِشَرْطِهِ ، وَالْمُشْتَرِي كَذَلِكَ إذَا كَانَ الشَّرْطُ لَهُ ، فَلَوْ صَحَّ الْبَيْعُ بِدُونِهِ ، لَزَالَ مِلْكُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَالْبَيْعُ مِنْ شَرْطِهِ التَّرَاضِي .
وَلَنَا ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، قَالَتْ : { جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ ، فَقَالَتْ : كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ ، فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ ، فَأَعِينِينِي .
فَقُلْت : إنْ أَحَبَّ أَهْلُك أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عِدَّةً وَاحِدَةً ، وَيَكُونَ لِي وَلَاؤُك فَعَلْت .
فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إلَى أَهْلِهَا ، فَقَالَتْ لَهُمْ ، فَأَبَوْا عَلَيْهَا ، فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ ، فَقَالَتْ : إنِّي عَرَضْت عَلَيْهِمْ ، فَأَبَوْا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ .
فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : خُذِيهَا ، وَاشْتَرِطِي الْوَلَاءَ ، فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ ، مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ ، قَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ ، وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَأَبْطَلَ الشَّرْطَ ، وَلَمْ يُبْطِلْ الْعَقْدَ .
قَالَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ : خَبَرُ بَرِيرَةَ ثَابِتٌ .
وَلَا نَعْلَمُ خَبَرًا يُعَارِضُهُ ، فَالْقَوْلُ بِهِ يَجِبُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : " اشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ " .
أَيْ عَلَيْهِمْ .
بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِهِ ، وَلَا يَأْمُرُهَا بِفَاسِدٍ .
قُلْنَا : لَا يَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ بِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ الْوَلَاءَ لَهَا بِإِعْتَاقِهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِهِ .
الثَّانِي ، أَنَّهُمْ أَبَوْا الْبَيْعَ ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْوَلَاءَ لَهُمْ ، فَكَيْفَ يَأْمُرُهَا بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَهُ مِنْهَا ؟ وَأَمَّا أَمْرُهُ بِذَلِكَ فَلَيْسَ هُوَ أَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ صِيغَةُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الِاشْتِرَاطِ وَتَرْكِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى { : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وَقَوْلِهِ { : فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا } وَالتَّقْدِيرُ : وَاشْتَرِطِي لَهُمْ الْوَلَاءَ ، أَوْ لَا تَشْتَرِطِي .
وَلِهَذَا قَالَ عَقِيبَهُ : { فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } .
وَحَدِيثُهُمْ لَا أَصِلَ لَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ .
( 3119 ) فَصْلٌ : فَإِنْ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ ، فَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ بِمَا نَقَصَهُ الشَّرْطُ مِنْ الثَّمَنِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِطَ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا سَمَحَ بِبَيْعِهَا بِهَذَا الثَّمَنِ ، لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْغَرَضِ بِالشَّرْطِ ، وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا سَمَحَ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ مِنْ أَجَلِ شَرْطِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ ، يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ بِمَا سَمَحَ بِهِ ، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ مَعِيبًا .
( 3120 ) فَصْلٌ : فَإِنْ حَكَمْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ ، لَمْ يَحْصُلْ بِهِ مِلْكٌ ، سَوَاءٌ اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ ، أَوْ لَمْ يَتَّصِلْ .
وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِبَيْعِ ، وَلَا هِبَةٍ ، وَلَا عِتْقٍ ، وَلَا غَيْرِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ
الْقَبْضُ ، وَلِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِيهِ ، فَيَأْخُذُهُ مَعَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ ، إلَّا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيهِ ، فَيَأْخُذَ قِيمَتَهُ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ بَرِيرَةَ ؛ فَإِنَّ عَائِشَةَ اشْتَرَتْهَا بِشَرْطِ الْوَلَاءِ ، فَأَعْتَقَتْهَا ، فَأَجَازَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِتْقَ ، وَالْبَيْعُ فَاسِدٌ .
وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَلَى صِفَةٍ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ ابْتِدَاءً بِعَقْدٍ ، وَقَدْ حَصَلَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ لِلْبَدَلِ عَنْ عَقْدٍ فِيهِ تَسْلِيطٌ ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ الثَّمَنُ مَيْتَةً ، أَوْ دَمًا فَأَمَّا حَدِيثُ بَرِيرَةَ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ ، لَا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ .
وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَائِشَةَ اشْتَرَتْهَا بِهَذَا الشَّرْطِ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ أَهْلَ بَرِيرَةَ حِينَ بَلَغَهُمْ إنْكَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الشَّرْطَ تَرَكُوهُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الشَّرْطَ كَانَ سَابِقًا لِلْعَقْدِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ .
( 3121 ) فَصْلٌ : وَعَلَيْهِ رَدُّ الْمَبِيعِ ، مَعَ نَمَائِهِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ ، وَأُجْرَةِ مِثْلِهِ مُدَّةَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ نَقْصَهُ ؛ لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مَضْمُونَةٌ ، فَأَجْزَاؤُهَا تَكُونُ مَضْمُونَةً أَيْضًا .
فَإِنْ تَلِفَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ التَّلَفِ .
قَالَهُ الْقَاضِي .
وَلِأَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْغَصْبِ ، وَلِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ مَالِكِهِ ، فَأَشْبَهَ الْعَارِيَّةَ ، وَذَكَرَ الْخِرَقِيِّ فِي الْغَصْبِ ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ ، فَيَخْرُجُ هَاهُنَا كَذَلِكَ ، وَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فِي حَالِ زِيَادَتِهَا ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِهَا مَعَ زِيَادَتِهَا ، فَكَذَلِكَ فِي حَالِ تَلَفِهَا ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا بِالْجِنَايَةِ ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
( 3122 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ أَمَةً ، فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا مِلْكُهُ ، وَلِأَنَّ فِي الْمِلْكِ اخْتِلَافًا .
وَعَلَيْهِ مَهْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ إذَا سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ ، وَجَبَ الْمَهْرُ .
وَلِأَنَّ الْوَطْءَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ يُوجِبُ الْمَهْرَ .
وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْبَكَارَةِ ، إنْ كَانَتْ بِكْرًا .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً تَرْوِيجًا فَاسِدًا ، فَوَطِئَهَا ، فَأَزَالَ بَكَارَتَهَا ، لَا يَضْمَنُ الْبَكَارَةَ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ النِّكَاحَ تَضَمَّنَ الْإِذْنَ فِي الْوَطْءِ الْمُذْهِبِ لِلْبَكَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَى الْوَطْءِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْبَيْعُ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَى الْوَطْءِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ شِرَاءُ مَنْ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا ، وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا أَوْجَبْتُمْ مَهْرَ بِكْرٍ ، فَكَيْفَ تُوجِبُونَ ضَمَانَ الْبَكَارَةِ ، وَقَدْ دَخَلَ ضَمَانُهَا فِي الْمَهْرِ ؟ وَإِذَا أَوْجَبْتُمْ ضَمَانَ الْبَكَارَةِ ، فَكَيْفَ تُوجِبُونَ مَهْرَ بِكْرٍ ، وَقَدْ أَدَّى عِوَضَ الْبَكَارَةِ بِضَمَانِهِ لَهَا ، فَجَرَى مَجْرَى مَنْ أَزَالَ بَكَارَتَهَا بِأُصْبُعِهِ ، ثُمَّ وَطِئَهَا ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ مَهْرَ الْبِكْرِ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ ، وَأَرْشُ الْبَكَارَةِ ضَمَانُ جُزْءٍ ، فَلِذَلِكَ اجْتَمَعَا ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِنَّهُ إذَا وَطِئَهَا بِكْرًا ، فَقَدْ اسْتَوْفَى نَفْعَ هَذَا الْجُزْءِ ، فَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ بِمَا اسْتَوْفَى مِنْ نَفْعِهِ ، فَإِذَا أَتْلَفَهُ وَجَبَ ضَمَانُ عَيْنِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُضْمَنَ الْعَيْنُ ، وَيَسْقُطَ ضَمَانُ الْمَنْفَعَةِ ، كَمَا لَوْ غَصَبَ عَيْنًا ذَاتَ مَنْفَعَةٍ ، فَاسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهَا ، ثُمَّ أَتْلَفَهَا ، أَوْ غَصَبَ ثَوْبًا ، فَلَبِسَهُ حَتَّى أَبْلَاهُ وَأَتْلَفَهُ ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْقِيمَةَ وَالْمَنْفَعَةَ كَذَا هَاهُنَا .
( 3123 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَلَدَتْ كَانَ وَلَدُهَا حُرًّا ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ .
وَيَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ لِذَلِكَ ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ وَعَلَى الْوَاطِئِ قِيمَتُهُ يَوْمَ وَضْعِهِ
؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ ، فَإِنْ سَقَطَ مَيْتًا ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُهُ حِينَ وَضَعَهُ ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ حِينَئِذٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، وَجَبَ ضَمَانُهُ .
قُلْنَا : الضَّارِبُ يَجِبُ عَلَيْهِ غُرَّةٌ ، وَهَاهُنَا يَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ ، وَلِأَنَّ الْجَانِيَ أَتْلَفَهُ ، وَقَطَعَ نَمَاءَهُ ، وَهَاهُنَا يَضْمَنُهُ بِالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ ، وَوَقْتُ الْحَيْلُولَةِ وَقْتُ السُّقُوطِ ، وَكَانَ مَيِّتًا ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ نَقْصِ الْوِلَادَةِ .
وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَهَا أَجْنَبِيُّ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَعَلَى الضَّارِبِ غُرَّةٌ ، عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لِلسَّيِّدِ مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَرْشِ الْجَنِينِ ، أَوْ قِيمَتِهِ يَوْمَ سَقَطَ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الضَّارِبِ لَهُ قَامَ مَقَامَ خُرُوجِهِ حَيًّا ، وَلِذَلِكَ ضَمِنَهُ الْبَائِعُ .
وَإِنَّمَا كَانَ لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ إنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ ، فَالْبَاقِي مِنْهَا لِوَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِالْحُرِّيَّةِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّيِّدُ مِنْهَا شَيْئًا .
وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ ، لَمْ يَكُنْ عَلَى الضَّارِبِ أَكْثَرُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ضَمِنَ .
وَإِنْ ضَرَبَ الْوَاطِئُ بَطْنَهَا ، فَأَلْقَتْ الْجَنِينَ مَيِّتًا ، فَعَلَيْهِ الْغُرَّةُ أَيْضًا ، وَلَا يَرِثُ مِنْهَا شَيْئًا ، وَلِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ سَلَّمَ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ إلَى الْبَائِعِ حَامِلًا ، فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ ، ضَمِنَ نَقْصَ الْوِلَادَةِ ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِذَلِكَ ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّ تَلَفَهَا بِسَبَبِ مِنْهُ .
وَإِنْ مَلَكَهَا الْوَاطِئُ ، لَمْ تَصِرْ بِذَلِكَ أُمَّ وَلَدٍ ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، فَأَشْبَهَ الزَّوْجَةَ .
وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ حَبِلَتْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَلَا تَصِيرُ لَهُ أُمَّ وَلَدٍ بِهَذَا .
( 3124 ) فَصْلٌ : إذَا بَاعَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ الْفَاسِدَ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّهُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ ، وَلِبَائِعِهِ أَخْذُهُ حَيْثُ وُجِدَ ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالثَّمَنِ عَلَى الَّذِي بَاعَهُ ، وَيَرْجِعُ الْأَوَّلُ عَلَى بَائِعِهِ ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الثَّانِي ، فَلِلْبَائِعِ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ ضَامِنٌ ، وَالثَّانِيَ قَبَضَهُ مِنْ يَدِ ضَامِنِهِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ ، فَكَانَ ضَامِنًا .
فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَضَمِنَ الثَّانِي ، لَمْ يَرْجِعْ بِالْفَضْلِ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ فِي يَدِهِ ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ ، رَجَعَ بِالْفَضْلِ عَلَى الثَّانِي .
( 3125 ) فَصْلٌ : وَإِنْ زَادَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، بِسِمَنٍ ، أَوْ نَحْوِهِ ، ثُمَّ نَقَصَ حَتَّى عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، أَوْ وَلَدَتْ الْأَمَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ مَاتَ وَلَدُهَا ، احْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي عَيْنٍ مَضْمُونَةٍ ، أَشْبَهَتْ الزِّيَادَةَ فِي الْمَغْصُوبِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَضْمَنَهَا ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ عِوَضٌ ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ ، فَإِنْ تَلِفَتْ بِتَفْرِيطِهِ ، أَوْ عُدْوَانِهِ ، ضَمِنَهَا ، وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ تَلْفِتْ الْعَيْنُ بَعْدَ زِيَادَتِهَا أَسْقَطَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ الْقِيمَةِ ، وَضَمِنَهَا بِمَا بَقِيَ مِنْ الْقِيمَةِ ، حِينَ التَّلَفِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ .
( 3126 ) فَصْلٌ : إذَا بَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا وَتَقَابَضَا ثُمَّ أَتْلَفَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ ثُمَّ أَفْلَسَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ وَلِلْمُشْتَرِي أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُشْتَرِي أَحَقُّ بِالْمَبِيعِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَكَانَ أَحَقَّ بِهِ كَالْمُرْتَهِنِ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهُ وَثِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ أَحَقَّ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ بِخِلَافِ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى أَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِحَقِّهِ .
( 3127 ) فَصْلٌ : إذَا قَالَ : بِعْ عَبْدَك مِنْ فُلَانٍ عَلَى أَنَّ عَلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ فَبَاعَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَإِذَا شَرَطَ كَوْنَ بَعْضِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَنْعَ ، وَالثَّمَنُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا لَوْ قَالَ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ ، أَوْ طَلِّقْ امْرَأَتَكَ وَعَلَيَّ خَمْسُمِائَةٍ لِكَوْنِ هَذَا عِوَضًا فِي مُقَابَلَةِ فَكِّ الزَّوْجِيَّةِ وَرَقَبَةِ الْعَبْدِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي النِّكَاحِ أَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فِي مُقَابَلَةِ نَقْلِ الْمِلْكِ ، فَلَا يَثْبُتُ لِمَنْ الْعِوَضُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ صَحَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ الضَّمَانُ .
( 3128 ) فَصْلٌ وَالْعُرْبُونُ فِي الْبَيْعِ هُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ فَيَدْفَعَ إلَى الْبَائِعِ دِرْهَمًا أَوْ غَيْرَهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ أَخَذَ السِّلْعَةَ احْتَسَبَ بِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فَذَلِكَ لِلْبَائِعِ يُقَالُ عُرْبُونٌ وَأُرْبُونٌ وَعُرْبَانٌ وَأُرْبَانٌ ، قَالَ أَحْمَدْ لَا بَأْسَ بِهِ وَفَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَجَازَهُ ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ سِيرِينَ لَا بَأْسَ إذَا كَرِهَ السِّلْعَةَ أَنْ يَرُدَّهَا يَرُدُّ مَعَهَا شَيْئًا وَقَالَ أَحْمَدُ هَذَا فِي مَعْنَاهُ ، وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعُرْبُونِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ لِلْبَائِعِ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ شَرَطَهُ لِأَجْنَبِيٍّ وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ الْمَجْهُولِ فَإِنَّهُ اشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ رَدَّ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ مُدَّةٍ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ قَالَ وَلِي الْخِيَارُ مَتَى شِئْتُ رَدَدْت السِّلْعَةَ وَمَعَهَا دِرْهَمًا ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَإِنَّمَا صَارَ أَحْمَدُ فِيهِ إلَى مَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ نَافِعِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ أَنَّهُ اشْتَرَى لِعُمَرَ دَارَ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ فَإِنْ رَضِيَ عُمَرُ وَإِلَّا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا .
قَالَ الْأَثْرَمُ قُلْت لِأَحْمَدَ تَذْهَبُ إلَيْهِ ؟ قَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَقُلْ ؟ هَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَضَعَّفَ الْحَدِيثَ الْمَرْوِيَّ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ ، فَأَمَّا إنْ دَفَعَ إلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ دِرْهَمًا وَقَالَ لَا تَبِعْ هَذِهِ السِّلَعَ لِغَيْرِي وَإِنْ لَمْ أَشْتَرِهَا مِنْك فَهَذَا الدِّرْهَمُ لَك .
ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ مُبْتَدِئٍ وَحَسَبَ الدِّرْهَمَ مِنْ الثَّمَنِ صَحَّ لِأَنَّ الْبَيْعَ خَلَا عِنْدَ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الشِّرَاءَ
الَّذِي اُشْتُرِيَ لِعُمَرَ كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَيُحْتَمَلُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَبَيْنَ الْخَبَرِ وَمُوَافَقَةِ الْقِيَاسِ وَالْأَئِمَّةِ الْقَائِلِينَ بِفَسَادِ الْعُرْبُونِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِ السِّلْعَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ الدِّرْهَمَ لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلِصَاحِبِهِ الرُّجُوعُ فِيهِ وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ عِوَضًا عَنْ انْتِظَارِهِ وَتَأْخُذُ بَيْعَهُ مِنْ أَجْلِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ لَمَا جَازَ جَعْلُهُ مِنْ الثَّمَنِ فِي حَالِ الشِّرَاءِ ، وَلِأَنَّ الِانْتِظَارَ بِالْبَيْعِ لَا تَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهُ وَلَوْ جَازَتْ تُوجِبُ أَنْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ .
( 3129 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ وَإِذَا قَالَ بِعْتُك بِكَذَا عَلَى أَنْ آخُذَ مِنْك الدِّينَارَ بِكَذَا لَمْ يَنْعَقِدْ الْبَيْعُ وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ بِذَهَبٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ دَرَاهِمَ بِصَرْفٍ ذَكَرَاهُ .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنْ يُصَارِفَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ بِهِ ، وَالْمُصَارَفَةُ عَقْدُ بَيْعٍ فَيَكُونُ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ قَالَ أَحْمَدُ هَذَا مَعْنَاهُ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ } ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَكَذَا كُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى هَذَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك دَارِي هَذِهِ عَلَى أَنْ أَبِيعَكَ دَارِي الْأُخْرَى بِكَذَا أَوْ عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي دَارَك أَوْ عَلَى أَنْ أُؤَجِّرَكَ أَوْ عَلَى أَنْ تُؤْجِرَنِي كَذَا أَوْ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَك أَوْ عَلَى أَنْ أُزَوِّجَكَ ابْنَتِي وَنَحْوَ هَذَا فَهَذَا كُلُّهُ لَا يَصِحُّ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الصَّفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ رِبًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَقَالَ لَا أَلْتَفِتُ إلَى اللَّفْظِ الْفَاسِدِ إذَا كَانَ مَعْلُومًا حَلَالًا فَكَأَنَّهُ بَاعَ السِّلْعَةَ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِالدَّنَانِيرِ .
وَلَنَا الْخَبَرُ وَأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْفَسَادَ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَجِبُ بِالشَّرْطِ لِكَوْنِهِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ فَيَسْقُطُ فَيُفْسِدُ الْعَقْدَ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ بِهِ إلَّا بِذَلِكَ الشَّرْطِ فَإِذَا فَاتَ فَاتَ الرِّضَا بِهِ ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ .
لَمْ يَصِحَّ كَنِكَاحِ الشِّغَارِ ، وَقَوْلُهُ لَا أَلْتَفِتُ إلَى اللَّفْظِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْبَيْعَ هُوَ اللَّفْظُ فَإِذَا كَانَ فَاسِدًا فَكَيْفَ يَكُنْ صَحِيحًا ؟ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَصِحَّ الْبَيْعُ وَيَفْسُدَ الشَّرْطُ بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ شَرَطَ مَا
يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 3130 ) فَصْلٌ وَقَدْ رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ بِعَشَرَةٍ نَقْدًا أَوْ بِخَمْسَةَ عَشَرَ نَسِيئَةً أَوْ بِعَشَرَةٍ مُكَسَّرَةٍ ، أَوْ تِسْعَةً صِحَاحًا .
هَكَذَا فَسَّرَهُ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَإِسْحَاقُ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ لَهُ بِبَيْعٍ وَاحِدٍ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذَا أَوْ هَذَا ، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ فَلَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ بِالرَّقْمِ الْمَجْهُولِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا مَعْلُومٍ فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُك أَحَدَ عَبِيدِي وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ أَبِعْك بِالنَّقْدِ بِكَذَا وَبِالنَّسِيئَةِ بِكَذَا فَيَذْهَبُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ جَرَى بَيْنَهُمَا بَعْدَمَا يَجْرِي فِي الْعَقْدِ فَكَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَالَ أَنَا آخُذُهُ بِالنَّسِيئَةِ بِكَذَا فَقَالَ : خُذْهُ أَوْ قَدْ رَضِيتُ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَكُونُ عَقْدًا كَافِيًا وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْإِيجَابِ أَوْ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إيجَابًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ قَالَ وَإِنْ خِطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُ يَصِحُّ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ هَذَا الْبَيْعُ فَيَخْرُجُ وَجْهًا فِي الصِّحَّةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْدَ ثَمَّ يُمْكِنُ أَنْ يَصِحَّ لِكَوْنِهِ جَعَالَةً يَحْتَمِلُ فِيهَا الْجَهَالَةَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
وَلِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْأُجْرَةَ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ إلَّا عَلَى إحْدَى الصَّفْقَتَيْنِ ، فَتَتَعَيَّنُ الْأُجْرَةُ الْمُسَمَّاةُ عِوَضًا لَهُ فَلَا يُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ .
( 3131 ) فَصْلٌ : وَلَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَوْ بِقَرْضِهِ ، أَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : إنْ تَرَكَ مُشْتَرِطُ السَّلَفِ السَّلَفَ صَحَّ الْبَيْعُ وَلَنَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ ، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضْ ، وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ ، وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَفِي لَفْظٍ { لَا يَحِلُّ بَيْعٌ وَسَلَفٌ } وَلِأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ كَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ ، وَلِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَطَ الْقَرْضَ زَادَ فِي الثَّمَنِ لِأَجْلِهِ فَتَصِيرُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ .
عِوَضًا عَنْ الْقَرْضِ وَرِيحًا لَهُ وَذَلِكَ رِبًا مُحَرَّمٌ فَفَسَدَ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ .
وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ ، فَلَا يَعُودُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ، ثُمَّ تَرَكَ أَحَدَهُمَا .
( 3132 ) فَصْلٌ وَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْقِيمَةِ بِعِوَضٍ وَاحِدٍ كَالصَّرْفِ وَبَيْعِ مَا يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ أَوْ الْإِجَارَةِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَا الدِّينَارَ وَهَذَا الثَّوْبَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ بِعْتُك هَذِهِ الدَّارَ وَأَجَّرْتُك الْأُخْرَى بِأَلْفِ .
أَوْ بَاعَهُ سَيْفًا مُحَلَّى بِالذَّهَبِ بِفِضَّةٍ أَوْ زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي وَبِعْتُك عَبْدَهَا بِأَلْفٍ صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا عَيْنَانِ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةٍ فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُمَا مُجْتَمِعَتَيْنِ كَالْعَبْدَيْنِ ، وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : فِي ذَلِكَ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ .
وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا مُخْتَلِفٌ فَإِنَّ الْمَبِيعَ يُضْمَنُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ بِخِلَافِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا بَاعَ شِقْصًا وَسَيْفًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ اخْتِلَافِ حُكْمِهِمَا بِوُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَأَمَّا إنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ فَقَالَ كَاتَبْتُكَ وَبِعْتُك عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِائَةٌ .
لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَبْلَ تَمَامِ الْكِتَابَةِ عَبْدُ قِنٍّ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ سَيِّدِهِ شَيْئًا وَلَا يَثْبُتُ لِسَيِّدِهِ فِي ذِمَّتِهِ ثَمَنٌ ، وَإِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ فَهَلْ يَصِحَّ فِي الْكِتَابَةِ بِقِسْطِهَا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ نَذْكُرُهُمَا فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَسَوَّى أَبُو الْخَطَّابِ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وَبَيْنَ الصُّوَرِ الَّتِي قَبْلَهَا فَقَالَ : فِي الْكُلِّ وَجْهَانِ وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلَى .
( 3133 ) فَصْلٌ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
وَمَعْنَاهُ أَنْ يَبِيعَ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَمَا لَا يَجُوزُ ، صَفْقَةً وَاحِدَةً ، بِثَمَنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ؛ أَحَدِهَا أَنْ يَبِيعَ مَعْلُومًا وَمَجْهُولًا كَقَوْلِ بِعْتُك هَذِهِ الْفَرَسَ ، وَمَا فِي بَطْنِ هَذِهِ الْفَرَسِ الْأُخْرَى بِأَلْفٍ .
فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا أَعْلَمُ فِي بُطْلَانِهِ خِلَافًا لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ لِجَهَالَتِهِ وَالْمَعْلُومُ مَجْهُولُ الثَّمَنِ وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ إنَّمَا تَكُونُ بِتَقْسِيطِ الثَّمَنِ عَلَيْهِمَا وَالْمَجْهُولُ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُ فَيَتَعَذَّرُ التَّقْسِيطُ .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُنْ الْمَبِيعَانِ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْأَجْزَاءِ كَعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بَاعَهُ كُلَّهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ وَكَقَفِيزَيْنِ مِنْ صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَهُمَا مَنْ لَا يَمْلِكُ إلَّا بَعْضَهُمَا فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَصِحُّ فِي مِلْكِهِ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَيَفْسُدُ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ .
وَالثَّانِي ، لَا يَصِحُّ فِيهِمَا ، وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ فِيمَنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا يَفْسُدُ فِيهِمَا وَالثَّانِيَةُ يَصِحُّ فِي الْحُرَّةِ ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِيمَا يَمْلِكُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَا يَصِحُّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ جَمَعَتْ حَلَالًا وَحَرَامًا فَغَلَبَ التَّحْرِيمُ وَلِأَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ تَصْحِيحُهَا فِي جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَطَلَتْ فِي الْكُلِّ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ حُكْمٌ لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُهُ ، كَمَا لَوْ بَاعَ شِقْصًا وَسَيْفًا ، وَلِأَنَّ مَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ قَدْ صَدَرَ فِيهِ الْبَيْعُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ بِشَرْطِهِ فَصَحَّ كَمَا لَوْ
انْفَرَدَ ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ سَبَبٌ اقْتَضَى الْحُكْمَ فِي مَحِلَّيْنِ وَامْتَنَعَ حُكْمُهُ فِي أَحَدِ الْمَحِلَّيْنِ لِنُبُوَّتِهِ عَنْ قَبُولٍ فَيَصِحُّ فِي الْآخَرِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِآدَمِيٍّ وَبَهِيمَةٍ ، وَأَمَّا الدِّرْهَمَانِ وَالْأُخْتَانِ ، فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَوْلَى بِالْفَسَادِ مِنْ الْآخَرِ فَلِذَلِكَ فَسَدَ فِيهِمَا ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ .
الْقَسَمِ الثَّالِثِ ، أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعَانِ مَعْلُومَيْنِ ، مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا الثَّمَنُ بِالْأَجْزَاءِ كَعَبْدٍ وَحُرٍّ ، وَخَلٍّ وَخَمْرٍ ، [ وَعَبْدِهِ ] وَعَبْدِ غَيْرِهِ وَعَبْدٍ حَاضِرٍ وَآبِقٍ ، فَهَذَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِيمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَفِي الْآخَرِ رِوَايَتَانِ ، نَقَلَ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ فِي مَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا حُرًّا رَجَعَ بِقِيمَتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَنَقَلَ عَنْهُ مُهَنَّا فِي مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا حُرًّا ، فَلَهَا قِيمَةُ الْعَبْدَيْنِ فَأَبْطَلَ الصَّدَاقَ فِيهِمَا جَمِيعًا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ وَأَبْطَلَ مَالِكٌ الْعَقْدَ فِيهِمَا إلَّا أَنْ يَبِيعَ مِلْكَهُ وَمِلْكَ غَيْرِهِ فَيَصِحُّ فِي مِلْكِهِ وَيَقِفُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ عَلَى الْإِجَازَةِ ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ كَالْحُرِّ وَالْخَمْرِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ فِيهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ كَمِلْكِهِ وَمِلْكِ غَيْرِهِ صَحَّ فِيمَا يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ يُمْكِنُ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ الْإِجَازَةِ ، بِحُكْمِ حَاكِمٍ ، بِصِحَّةِ بَيْعِهِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِالتَّقْسِيطِ لِلثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَةِ ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ فِي الْحَالِ ، فَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ بِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْتُك هَذِهِ السِّلْعَةَ بِرَقْمِهَا ، أَوْ بِحِصَّةٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِهِ ، فَقَالَ بِعْتُك هَذَا بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ لَمْ
يَصِحَّ .
فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُصَرِّحْ .
وَقَالَ مَنْ نَصَرَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى إنَّهُ مَتَى سَمَّى ثَمَنًا فِي مَبِيعٍ يَسْقُطُ بَعْضُهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ جَهَالَةً تَمْنَعُ الصِّحَّةَ ، كَمَا لَوْ وَجَدَ بَعْضَ الْمَبِيعِ مَعِيبًا فَأَخَذَ أَرْشَهُ ، وَالْقَوْلُ بِالْفَسَادِ فِي هَذَا الْقِسْمِ أَظْهَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَالْحُكْمُ فِي الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ إذَا جَمَعَتْ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ كَالْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ فِيهَا الصِّحَّةُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عُقُودَ مُعَاوَضَةٍ ، فَلَا تُوجَدُ جَهَالَةُ الْعِوَضِ فِيهَا .
( 3134 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى مَكِيلٍ ، أَوْ مَوْزُونٍ ، فَتَلِفَ بَعْضُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي .
رِوَايَةً وَاحِدَةً .
يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا فَذَهَابُ بَعْضِهِ لَا يَفْسَخُهُ ، كَمَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَكَمَا لَوْ وَجَدَ أَحَدَ الْمَبِيعَيْنِ مَعِيبًا فَرَدَّهُ أَوْ أَقَالَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ الْآخَرَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَبْدَانِ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ عَبْدٌ فَبَاعَاهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً بِثَمَنٍ وَاحِدٍ أَوْ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَبَاعَهُمَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا يَصِحُّ فِيهِمَا ، وَيَتَقَسَّطُ الْعِوَضُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ مَعْلُومَةٌ فَصَحَّ كَمَا لَوْ كَانَا لَرَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَكَمَا لَوْ بَاعَا عَبْدًا وَاحِدًا لَهُمَا ، أَوْ قَفِيزَيْنِ مِنْ صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثَّانِي لَا يَصِحُّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ، وَفَارَقَ مَا إذَا كَانَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ جُمْلَةَ الْبَيْعِ مُقَابَلَةٌ بِجُمْلَةِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ تَقْسِيطٍ وَالْعَبْدُ الْمُشْتَرَكُ وَالْقَفِيزَانِ يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِالْأَجْزَاءِ ، فَلَا جَهَالَةَ فِيهِ .
( 3136 ) فَصْلٌ : وَمَتَى حَكَمْنَا
بِالصِّحَّةِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَكَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِالْحَالِ فَلَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِثْلُ إنْ اشْتَرَى عَبْدًا يَظُنُّهُ كُلَّهُ لِلْبَائِعِ فَبَانَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا نِصْفَهُ أَوْ عَبْدَيْنِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا أَحَدَهُمَا ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالْإِمْسَاكِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَبَعَّضَتْ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْبَائِعُ فَلَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِقِسْطِهِ وَلَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى شَيْئَيْنِ يُفْتَقَرُ إلَى الْقَبْضِ فِيهِمَا ، فَتَلِفَ أَحَدُهَا قَبْلَ قَبْضِهِ فَقَالَ الْقَاضِي لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ إمْسَاكِ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ وَبَيْنَ الْفَسْخِ لِأَنَّ حُكْمَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ فِي كَوْنِ الْمَبِيعِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ حُكْمُ مَا قَبْلَ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَعَيَّبَ قَبْلَ قَبْضِهِ لَمَلَكَ الْمُشْتَرِي الْفَسْخَ بِهِ .
( 3137 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ وَيَتَّجِرُ الْوَصِيُّ بِمَالِ الْيَتِيمِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْيَتِيمِ فَإِنْ أَعْطَاهُ لِمَنْ يُضَارِبُ لَهُ بِهِ فَلِلْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ مَا وَافَقَهُ الْوَصِيُّ عَلَيْهِ .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يُضَارِبَ بِمَالِهِ وَأَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مَنْ يُضَارِبُ لَهُ بِهِ ، وَيَجْعَلُ لَهُ نَصِيبًا مِنْ الرِّبْحِ ، أَيًّا كَانَ ، أَوْ وَصِيًّا ، أَوْ حَاكِمًا ، أَوْ أَمِينَ حَاكِمٍ ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ .
وَمِمَّنْ رَأَى ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ يُرْوَى إبَاحَةُ التِّجَارَةِ بِهِ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَالضَّحَّاكِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا كَرِهَهُ إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ اجْتِنَابَ الْمُخَاطَرَةِ بِهِ ، وَلِأَنَّ خَزْنَهُ أَحْفَظُ لَهُ ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَوْلَى لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ } وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْمَرْفُوعِ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحَظُّ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ لِتَكُونَ نَفَقَتُهُ مِنْ فَاضِلِهِ وَرِبْحِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْبَالِغُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَّجِرُ إلَّا فِي الْمَوَاضِعِ الْآمِنَةِ ، وَلَا يَدْفَعُهُ إلَّا لِأُمَّيْنِ وَلَا يُغَرِّرُ بِمَالِهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَبْضَعَتْ مَالَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْبَحْرِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعٍ مَأْمُونٍ قَرِيبٍ مِنْ السَّاحِلِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا جَعَلَتْهُ مِنْ ضَمَانِهِ عَلَيْهَا إنْ هَلَكَ غَرِمَتْهُ فَمَتَى اتَّجَرَ فِي الْمَالِ بِنَفْسِهِ فَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْيَتِيمِ وَأَجَازَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَإِسْحَاقُ أَنْ يَأْخُذَهُ الْوَصِيُّ مُضَارَبَةً لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ جَازَ أَنْ
يَدْفَعَهُ بِذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ فَجَازَ أَنْ يَأْخُذ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ مَالِ الْيَتِيمِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ إلَّا بِعَقْدٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَ الْوَلِيُّ الْمُضَارَبَةَ مَعَ نَفْسِهِ ، فَأَمَّا إنْ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ فَلِلْمُضَارِبِ مَا جَعَلَهُ لَهُ الْوَلِيُّ وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ ، أَيْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْوَصِيَّ نَائِبٌ عَنْ الْيَتِيمِ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ ، وَهَذَا فِيهِ مَصْلَحَتُهُ فَصَارَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ كَتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِي مَالِهِ .
( 3138 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ إبْضَاعُ مَالِهِ وَمَعْنَاهُ ؛ دَفْعُهُ إلَى مَنْ يَتَّجِرُ بِهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْيَتِيمِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَبْضَعَتْ مَالَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ دَفْعُهُ بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ فَدَفْعُهُ إلَى مَنْ يُوَفِّرُ الرِّبْحَ أَوْلَى وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ الْعَقَارَ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ يُحَصِّلُ مِنْهُ الْفَضْلَ وَيَبْقَى الْأَصْلُ وَالْغَرَرُ فِيهِ أَقَلَّ مِنْ التِّجَارَةِ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَحْفُوظٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَبْنِي لَهُ عَقَارًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشِّرَاءِ إلَّا أَنْ يَكُنْ الشِّرَاءُ أَحَظَّ وَهُوَ مُمْكِنٌ فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُهُ وَإِذَا أَرَادَ الْبِنَاءَ بَنَاهُ بِمَا يَرَى الْحَظَّ فِي الْبِنَاءِ بِهِ ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا يَبْنِيهِ بِالْآجُرِّ وَالطِّينِ وَلَا يَبْنِي بِاللَّبِنِ لِأَنَّهُ إذَا هُدِمَ لَا مَرْجُوعَ لَهُ وَلَا بِجِصٍّ لِأَنَّهُ يَلْتَصِقُ بِالْآجِرِ فَلَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ ، فَإِذَا هُدِمَ فَسَدَ الْآجِرُ لِأَنَّ تَخْلِيصَهُ مِنْهُ يُفْضِي إلَى كَسْرِهِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْحَظُّ لَهُ فِي الْبِنَاءِ بِغَيْرِهِ فَتَرَكَهُ ضَيَّعَ حَظَّهُ وَمَالَهُ وَلَا يَجُوزُ تَضْيِيعُ الْحَظِّ الْعَاجِلِ وَتَحَمُّلُ الضَّرَرِ النَّاجِزِ الْمُتَيَقَّنِ لِتَوَهُّمِ مَصْلَحَةِ بَقَاءِ الْآجِرِ عِنْدَ هَدْمِ الْبِنَاءِ وَلَعَلَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي حَيَّاتِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَعَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْبُلْدَانِ لَا يُوجَدُ فِيهَا الْآجِرُ وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَمْ تَجْرِ عَادَتْهُمْ بِالْبِنَاءِ بِهِ ، فَلَوْ كُلِّفُوا الْبِنَاءَ بِهِ لَاحْتَاجُوا إلَى غَرَامَةٍ كَثِيرَةٍ لَا يَحْصُلُ مِنْهَا طَائِلٌ وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا يَخْتَصُّ مَنْ عَادَتْهُمْ الْبِنَاءُ بِالْآجِرِ كَالْعِرَاقِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ .
( 3139 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ عَقَارِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ؛ لِأَنَّنَا نَأْمُرُهُ بِالشِّرَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَظِّ ، فَيَكُونُ بَيْعُهُ تَفْوِيتًا لِلْحَظِّ فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى بَيْعِهِ جَازَ ، نَقَلَ أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ بَيْعُ الدُّورِ عَلَى الصِّغَارِ ، إذَا كَانَ نَظَرًا لَهُمْ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَإِسْحَاقُ قَالُوا يَبِيعُ إذَا رَأَى الصَّلَاحَ قَالَ الْقَاضِي لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ بِهِ ضَرُورَةٌ إلَى كِسْوَةٍ ، أَوْ نَفَقَةٍ ، أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ ، أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَلَيْسَ لَهُ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ ، الثَّانِي أَنْ يَكُونَ فِي بَيْعِهِ غِبْطَةٌ ؛ وَهُوَ أَنْ يَدْفَعَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ ، قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ كَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِ أَوْ يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ بِغَرَقٍ أَوْ خَرَابٍ أَوْ نَحْوِهِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْبَيْعِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ نَظَرًا لَهُمْ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمَا ذَكَرُوهُ .
وَقَدْ يَرَى الْوَلِيُّ الْحَظَّ فِي غَيْرِ هَذَا ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَان لَا يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ نَفْعُهُ قَلِيلٌ ، فَيَبِيعُهُ وَيَشْتَرِي لَهُ فِي مَكَان يَكْثُرُ نَفْعُهُ ، أَوْ يَرَى شَيْئًا فِي شِرَائِهِ غِبْطَةٌ وَلَا يُمْكِنُهُ شِرَاؤُهُ إلَّا بِبَيْعِ عَقَارِهِ .
وَقَدْ تَكُونُ دَارُهُ فِي مَكَان يَتَضَرَّرُ الْغُلَامُ بِالْمُقَامِ فِيهَا ، لِسُوءِ الْجِوَارِ أَوْ غَيْرِهِ فَيَبِيعُهَا وَيَشْتَرِي لَهُ بِثَمَنِهَا دَارًا يَصْلُحُ لَهُ الْمُقَامُ بِهَا ، وَأَشْبَاهُ هَذَا مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ .
وَقَدْ لَا يَكُونُ لَهُ حَظٌّ فِي بَيْعِ عَقَارِهِ وَإِنْ دَفَعَ فِيهِ مِثْلَا ثَمَنِهِ إمَّا لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ صَرْفُ ثَمَنِهِ فِي مِثْلِهِ فَيَضِيعُ الثَّمَنُ وَلَا يُبَارَكُ فِيهِ .
فَقَدْ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَاعَ دَارًا أَوْ عَقَارًا ، وَلَمْ يَصْرِفْ ثَمَنَهُ فِي مِثْلِهِ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ } فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا فَلَا
مَعْنَى لِتَقْيِيدِهِ بِمَا ذَكَرُوهُ فِي الْجَوَازِ ، وَلَا فِي الْمَنْعِ ، بَلْ مَتَى كَانَ بَيْعُهُ أَحْظَ لَهُ جَازَ بَيْعُهُ وَإِلَّا فَلَا .
( 3140 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ كِتَابَةُ رَقِيقِ الْيَتِيمِ وَإِعْتَاقُهُ عَلَى مَالٍ ، إذَا كَانَ الْحَظُّ فِيهِ ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ أَلْفًا ، فَيُكَاتِبَهُ بِأَلْفَيْنِ أَوْ يُعْتِقَهُ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَظُّ ، لَمْ يَصِحَّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِمَالٍ تَعْلِيقٌ لَهُ عَلَى شَرْطٍ ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ ، كَالتَّعْلِيقِ عَلَى دُخُولِ الدَّارِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ كِتَابَتُهُ ، وَلَا إعْتَاقُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا الْعِتْقُ ، دُونَ الْمُعَاوَضَةِ ، فَلَمْ تَجُزْ ، كَالْإِعْتَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَلَنَا ، إنَّهَا مُعَاوَضَةٌ لِلْيَتِيمِ فِيهَا حَظُّ ، فَمَلَكَهَا وَلِيُّهُ ، كَبَيْعِهِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِنَفْعِ الْعَقْدِ ، وَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُهُ تَعْلِيقًا ، فَإِنَّهُ إذَا حَصَلَ الْحَظُّ لِلْيَتِيمِ ، لَا يَضُرُّهُ نَفْعُ غَيْرِهِ ، وَلَا كَوْنُ الْعِتْقِ حَصَلَ بِالتَّعْلِيقِ ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ ، فَمُنِعَ مِنْهُ ، لِعَدَمِ الْحَظِّ وَانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي ، لَا لِمَا ذَكَرُوهُ .
وَلَوْ قُدِّرَ أَنْ يَكُونُ فِي الْعِتْقِ بِغَيْرِ مَالٍ نَفْعٌ ، كَانَ نَادِرًا .
وَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَصِحَّ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَتَوَجَّهُ الْعِتْقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لِلْحَظِّ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِلْيَتِيمِ جَارِيَةٌ وَابْنَتُهَا ، يُسَاوَيَانِ مِائَةً مُجْتَمَعَتَيْنِ ، وَلَوْ أُفْرِدَتْ إحْدَاهُمَا سَاوَتْ مِائَتَيْنِ ، وَلَا يُمْكِنُ إفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ ، فَيُعْتِقُ الْأُخْرَى ، لِتَكْثُرَ قِيمَةُ الْبَاقِيَةِ ، فَتَصِيرُ ضِعْفَ قِيمَتِهَا .
( 3141 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْيَتِيمِ أُضْحِيَّةً ، إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ .
يَعْنِي مَالًا كَثِيرًا لَا يَتَضَرَّرُ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ ، وَعَلَى وَجْهِ التَّوْسِعَةِ فِي النَّفَقَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، الَّذِي هُوَ عِيدٌ ، وَيَوْمُ فَرَحٍ ، وَفِيهِ جَبْرُ قَلْبِهِ وَتَطْيِيبُهُ ، وَإِلْحَاقُهُ بِمَنْ لَهُ أَبٌ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ وَشِرَاءِ اللَّحْمِ ، سِيَّمَا مَعَ اسْتِحْبَابِ التَّوْسِعَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، وَجَرْيِ الْعَادَةِ بِهَا بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ ، وَشُرْبٍ ، وَذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } رَوَاهُ مُسْلِمُ وَمَتَى كَانَ خَلْطُ مَالِ الْيَتِيمِ أَرْفَقَ بِهِ ، وَأَلْيَنَ فِي الْخُبْزِ ، وَأَمْكَنَ فِي حُصُولِ الْأُدْمِ ، فَهُوَ أَوْلَى .
وَإِنْ كَانَ إفْرَادُهُ أَرْفَقَ بِهِ أَفْرَدَهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاَللَّه يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
أَيْ ضَيَّقَ عَلَيْكُمْ وَشَدَّدَ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : أَعْنَتَ فُلَانٌ فُلَانًا إذَا ضَيَّقَ عَلَيْهِ وَشَدَّدَ .
وَعَنَتَتْ الرَّجُلَ ، إذَا ظَلَعَتْ ، وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ تَرْكُ الصَّبِيِّ فِي الْمَكْتَبِ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ .
وَحُكِيَ لِأَحْمَدَ قَوْلُ سُفْيَانَ : لَا يُسَلِّمُ الْوَصِيُّ الصَّبِيَّ إلَّا بِإِذْنِ .
الْحَاكِمِ .
فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَكْتَبَ مِنْ مَصَالِحِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى نَفَقَتِهِ ، وَلِمَأْكُولِهِ ، وَمَشْرُوبِهِ ، وَمَلْبُوسِهِ .
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ إسْلَامُهُ فِي صِنَاعَةٍ ، إذَا كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
( 3142 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ مُوسِرًا ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا إذَا لَمْ يَكُنْ أَبًا ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا ، فَلَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ ؛ مِنْ أُجْرَتِهِ ، أَوْ قَدْرِ كِفَايَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَمَلِ وَالْحَاجَةِ جَمِيعًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا مَا وُجِدَا فِيهِ .
فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرَ ، ثُمَّ أَيْسَرَ ؛ فَإِنْ كَانَ أَبًا لَمْ يَلْزَمْهُ عِوَضُهُ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْأَبِ ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ عِوَضُ ذَلِكَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَلْزَمُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْأَكْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ عِوَضٍ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ مَا أَمَرَ بِأَكْلِهِ ، وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ مِنْ عَمَلِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُهُ ، كَالْأَجِيرِ وَالْمُضَارِبِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَلْزَمُهُ عِوَضُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ لِأَنَّهُ اسْتَبَاحَهُ بِالْحَاجَةِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ ، فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهُ ، كَالْمُضْطَرِّ إلَى طَعَامِ غَيْرِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرِ ، لَكَانَ وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ قَبْلَ الْيَسَارِ ، فَإِنَّ الْيَسَارَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْوُجُوبِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ بِالسَّبَبِ ، الَّذِي هُوَ الْأَكْلُ ، لَمْ يَجِبْ بَعْدَهُ .
وَفَارَقَ الْمُضْطَرَّ ؛ فَإِنَّ الْعِوَضَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْهُ عِوَضًا عَنْ شَيْءٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ .
( 3143 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا قَرْضُ مَالِ الْيَتِيمِ ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ لَهُ ، لَمْ يَجُزْ قَرْضُهُ ، فَمَتَى أَمْكَنَ الْوَلِيُّ التِّجَارَةَ بِهِ ، أَوْ تَحْصِيلَ عَقَارٍ لَهُ فِيهِ الْحَظُّ ، لَمْ يُقْرِضْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الْحَظَّ عَلَى الْيَتِيمِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ ، وَكَانَ قَرْضُهُ حَظًّا لِلْيَتِيمِ ، جَازَ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُقْرِضُ مَالَ الْيَتِيمِ لَأَحَدٍ يُرِيدُ مُكَافَأَتَهُ ، وَمَوَدَّتَهُ ، وَيُقْرِضُ عَلَى النَّظَرِ ، وَالشَّفَقَةِ ، كَمَا صَنَعَ ابْنُ عُمَرَ .
وَقِيلَ لِأَحْمَدَ : إنَّ عُمَرَ اسْتَقْرَضَ مَالَ الْيَتِيمِ .
قَالَ : إنَّمَا اسْتَقْرَضَ نَظَرًا لِلْيَتِيمِ ، وَاحْتِيَاطًا ، إنْ أَصَابَهُ بِشَيْءٍ غَرِمَهُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَمَعْنَى الْحَظِّ أَنْ يَكُونَ لِلْيَتِيمِ مَالٌ فِي بَلَدِهِ ، فَيُرِيدُ نَقْلَهُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ ، فَيُقْرِضُهُ مِنْ رَجُلٍ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ، لِيَقْضِيَهُ بَدَلَهُ فِي بَلَدِهِ ، يَقْصِدُ بِذَلِكَ حِفْظَهُ مِنْ الْغَرَرِ فِي نَقْلِهِ ، أَوْ يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ مِنْ نَهْبٍ ، أَوْ غَرَقٍ ، أَوْ نَحْوِهِمَا ، أَوْ يَكُونُ مِمَّا يَتْلَفُ بِتَطَاوُلِ مُدَّتِهِ ، أَوْ حَدِيثُهُ خَيْرٌ مِنْ قَدِيمِهِ ، كَالْحِنْطَةِ وَنَحْوِهَا ، فَيُقْرِضُهُ خَوْفًا أَنْ يُسَوِّسَ ، أَوْ تَنْقُصَ قِيمَتُهُ ، وَأَشْبَاهِ هَذَا ، فَيَجُوزُ الْقَرْضُ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لِلْيَتِيمِ فِيهِ حَظٌّ فَجَازَ ، كَالتِّجَارَةِ بِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَظٌّ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إرْفَاقَ الْمُقْتَرِضِ ، وَقَضَاءَ حَاجَتِهِ ، فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالِ الْيَتِيمِ ، فَلَمْ يَحُزْ كَهِبَتِهِ .
وَإِنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ السَّفَرَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُسَافَرَةُ بِمَالِهِ ، وَقَرْضُهُ لِثِقَةٍ أَمِينٍ أَوْلَى مِنْ إيدَاعِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ لَا تُضْمَنُ إذَا تَلِفَتْ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَقْرِضُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ، فَلَهُ إيدَاعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ .
وَلَوْ أَوْدَعَهُ مَعَ إمْكَانِ قَرْضِهِ ، جَازَ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا رَأَى الْإِيدَاعَ أَحْظَ لَهُ مِنْ الْقَرْضِ ، فَلَا يَكُونُ مُفَرِّطًا .
وَكُلُّ
مَوْضِعٍ قُلْنَا : لَهُ قَرْضُهُ .
فَلَا يَجُوزُ إلَّا لِمَلِيءٍ أَمِينٍ ، لِيَأْمَنَ جُحُودَهُ ، وَتَعَذُّرَ الْإِيفَاءِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا إنْ أَمْكَنَهُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَخْذُ الرَّهْنِ ، جَازَ تَرْكُهُ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّنْ يَسْتَقْرِضُهُ مِنْ أَجَلِ حَظِّ الْيَتِيمِ ، أَنَّهُ لَا يَبْذُلُ رَهْنًا ، فَاشْتِرَاطُ الرَّهْنِ يُفَوِّتُ هَذَا الْحَظَّ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يُقْرِضُهُ إذَا أَخَذَ بِالْقَرْضِ رَهْنًا .
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُقْرِضُهُ إلَّا بِرَهْنٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ احْتِيَاطًا لِلْمَالِ ، وَحِفْظًا لَهُ عَنْ الْجَحْدِ ، وَالْمَطْلِ .
وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُ الرَّهْنِ ، فَالْأَوْلَى لَهُ أَخْذُهُ ، احْتِيَاطًا عَلَى الْمَالِ ، وَحِفْظًا لَهُ ، فَإِنْ تَرَكَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَ إنْ ضَاعَ الْمَالُ ؛ لِتَقْرِيطِهِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَضْمَنَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ سَلَامَتُهُ .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَذْكُرْ الرَّهْنَ .
( 3144 ) فَصْلٌ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَلْ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيمَا يَتَوَلَّى مِثْلَهُ بِنَفْسِهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ فِي مَالِ غَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْوَصِيِّ ، وَفِي الْوَكِيلِ رِوَايَتَانِ .
وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْوَكِيلَ يُمْكِنُهُ الِاسْتِئْذَانُ ، وَالْوَصِيُّ بِخِلَافِهِ .
( 3145 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الصَّبِيِّ ، أَوْ عَلَى مَالِهِ ، أَوْ عَقَارِهِ ، بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِهِ ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَ عَقَارَهُ لِحَظِّهِ ، أَوْ بِنَاءً لِمَصْلَحَتِهِ ، أَوْ أَنَّهُ تَلِفَ ، قُبِلَ قَوْلُهُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يُمْضِي الْحَاكِمُ بَيْعَ الْأَمِينِ وَالْوَصِيِّ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ الْحَظُّ بِبَيِّنَةٍ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا فِي ذَلِكَ ، وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْأَبِ وَالْجَدِّ .
وَلَنَا أَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ بَيْعُ الْعَقَارِ ، وَشِرَاؤُهُ لِلْيَتِيمِ ، يَجِبُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي الْحَظِّ ، كَالْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَلِأَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ التَّفْرِيطِ فِيمَا تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْعَقَارِ ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْعَقَارِ ، كَالْأَبِ .
وَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ ، فَادَّعَى أَنَّهُ لَاحَظَ لَهُ فِي الْبَيْعِ ، لَمْ يُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ .
وَإِنْ قَالَ الْوَلِيُّ : أَنْفَقْت عَلَيْك مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ .
وَقَالَ الْغُلَامُ : مَا مَاتَ أَبِي إلَّا مُنْذُ سَنَتَيْنِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُلَامِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ حَيَاةُ وَالِدِهِ ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي أَمْرٍ لَيْسَ الْوَصِيُّ أَمِينًا فِيهِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الْأَصْلَ .
( 3146 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ الْبَيْعُ عَلَى الْغَائِبِ الْبَالِغِ ، إذَا كَانَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ الْبَيْعُ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ ، إذَا كَانَتْ حُقُوقُهُمْ مُشْتَرَكَةً فِي عَقَارٍ فِي قَسْمِهِ إضْرَارٌ ، وَبِالصِّغَارِ حَاجَةٌ إلَى الْبَيْعِ ، إمَّا لِقَضَاءِ دَيْنٍ ، أَوْ مُؤْنَةٍ لَهُمْ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَجُوزُ الْبَيْعُ ، عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ .
وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا هَذِهِ الصُّورَةَ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَظَرًا لِلصِّغَارِ ، وَاحْتِيَاطًا لِلْمَيِّتِ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ عَلَى الْكِبَارِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ وِكَالَةٍ ، وَلَا وِلَايَةٍ ، فَلَمْ يَصِحُّ ، كَبَيْعِ مَالِهِ الْمُفْرَدِ ، أَوْ مَا لَا تَضُرُّ قِسْمَتُهُ .
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَا أَصِلَ لَهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ ، وَيُعَارِضُهُ أَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى الْكِبَارِ ، بِبَيْعِ مَا لَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُ غَيْرِ الْعَقَارِ ، فَلَمْ يَحُزْ لَهُ بَيْعُ غَيْرِ الْعَقَارِ ، كَالْأَجْنَبِيِّ .
( 3147 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فِيمَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِيهِ .
فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَصِحُّ حَتَّى يَبْلُغَ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، أَشْبَهَ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ .
وَلِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ مِنْهُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي يَصْلُحُ بِهِ التَّصَرُّفُ ؛ لِخَفَائِهِ ، وَتَزَايُدِهِ تَزَايُدًا خَفِيَّ التَّدْرِيجِ ، فَجَعَلَ الشَّارِعُ لَهُ ضَابِطًا ، وَهُوَ الْبُلُوغُ ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَظِنَّةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } .
وَمَعْنَاهُ ؛ اخْتَبِرُوهُمْ لِتَعْلَمُوا رُشْدَهُمْ .
وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ اخْتِيَارُهُمْ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إلَيْهِمْ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ؛ لِيُعْلَمَ هَلْ يُغْبَنَّ أَوْ لَا .
وَلِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ ، مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، كَالْعَبْدِ .
وَفَارَقَ غَيْرَ الْمُمَيِّزِ ، فَإِنَّهُ لَا تَحْصُلُ الْمَصْلَحَةُ بِتَصَرُّفِهِ ؛ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِ وَمَعْرِفَتِهِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اخْتِيَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ حَالُهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْعَقْلَ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : يُعْلَمُ ذَلِكَ بِآثَارِ وَجَرَيَانِ تَصَرُّفَاتِهِ عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ ، كَمَا يُعْلَمُ فِي حَقِّ الْبَالِغِ ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ رُشْدِهِ ، شَرْطُ دَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ ، وَصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ ، كَذَا هَاهُنَا .
فَأَمَّا إنْ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ ، لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ ، وَيَقِفَ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَمَبْنَى ذَلِكَ عَلَى مَا إذَا تَصَرَّفَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِيمَا مَضَى .
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُمَيِّزِ ، فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِيهِ ، إلَّا فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ ،
كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ صَبِيٍّ عُصْفُورًا ، فَأَرْسَلَهُ .
ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى .
( 3148 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَا اسْتَدَانَ الْعَبْدُ ، فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ يَفْدِيهِ سَيِّدُهُ ، أَوْ يُسَلِّمُهُ ، فَإِنْ جَاوَزَ مَا اسْتَدَانَ قِيمَتَهُ ، لَمْ يَكُنْ عَلَى سَيِّدِهِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، فَيَلْزَمُ مَوْلَاهُ جَمِيعُ مَا اسْتَدَانَ ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةُ فُصُولٍ : ( 3149 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ ، فِي اسْتِدَانَةِ الْعَبْدِ ، يَعْنِي أَخْذَهُ بِالدَّيْنِ ، يُقَالُ : أَدَانَ وَاسْتَدَانَ وَتَدَيَّنَ .
قَالَ الشَّاعِرُ : يُؤَنِّبُنِي فِي الدَّيْنِ قَوْمِي وَإِنَّمَا تَدَيَّنْتُ فِيمَا سَوْفَ يُكْسِبُهُمْ حَمْدَا وَالْعَبِيدُ قِسْمَانِ ، مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، فَمَا لَزِمَهُ مِنْ الدَّيْنِ بِغَيْرِ رِضَا سَيِّدِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَقْتَرِضَ ، أَوْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ .
اخْتَارَهَا الْخِرَقِيِّ ، وَأَبُو بَكْرٍ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَزِمَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، فَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ ، كَأَرْشِ جِنَايَتِهِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ يَتْبَعُهُ الْغَرِيمُ بِهِ إذَا أَعْتَقَ وَأَيْسَرِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ .
فَتَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ، كَعِوَضِ الْخُلْعِ مِنْ الْأَمَةِ ، وَكَالْحُرِّ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ ، أَوْ فِي الِاسْتِدَانَةِ ، فَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدَّيْنِ هَلْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ السَّيِّدِ ، أَوْ بِرَقَبَتِهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : إنْ كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ ، قُضِيَتْ دُيُونُهُ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ ، تَعَلَّقَ بِذِمَّتِهِ ، يُتْبَعُ بِهِ إذَا عَتَقَ وَأَيْسَرَ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَبَتَ بِرِضَى مَنْ لَهُ الدَّيْنُ ، أَشْبَهَ غَيْرَ الْمَأْذُونِ لَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ ، كَمَا لَوْ اسْتَقْرَضَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُبَاعُ إذَا طَالَبَ الْغُرَمَاءُ بَيْعَهُ .
وَهَذَا مَعْنَاهُ ، أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَبَتَ بِرِضَى
مَنْ لَهُ الدَّيْنُ ، فَيُبَاعُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ رَهَنَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، فَقَدْ أَغْرَى النَّاسَ بِمُعَامَلَتِهِ ، وَأَذِنَ فِيهَا ، فَصَارَ ضَامِنًا ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُمْ : دَايِنُوهُ ، أَوْ أَذِنَ فِي اسْتِدَانَةٍ ، تَزِيدُ عَلَى قِيمَتِهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الدَّيْنِ الَّذِي لَزِمَهُ فِي التِّجَارَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا ، أَوْ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ ، مِثْلُ إنْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي الْبُرِّ ، فَاتَّجَرَ فِي غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ التَّغْرِيرِ ، إذْ يَظُنُّ النَّاسُ أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا .
( 3150 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ الدَّيْنِ مِنْ أُرُوشِ جِنَايَاتِهِ ، أَوْ قِيَمِ مُتْلَفَاتِهِ ، فَهَذَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ، عَلَى كُلِّ حَالٍ ، مَأْذُونًا ، أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ .
وَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ فَإِنَّ السَّيِّدَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ تَسْلِيمِهِ لِلْبَيْعِ وَبَيْنَ فِدَائِهِ ، فَإِنْ سَلَّمَهُ فَبِيعَ ، وَكَانَ ثَمَنُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ، فَلَيْسَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إلَّا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْجَانِي ، فَلَا يَجِبُ عَلَى غَيْرِهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَكْثَرَ ، فَالْفَضْلُ لِسَيِّدِهِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّ السَّيِّدَ لَا يَرْجِعُ بِالْفَضْلِ .
وَلَعَلَّهُ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ ، فَلَمْ يَبْقَ لِسَيِّدِهِ فِيهِ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ مَلَّكَهُ إيَّاهُ عِوَضًا عَنْ الْجِنَايَةِ .
وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ .
فَإِنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ حُرٌّ ، وَالْجَانِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ جِنَايَتِهِ ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ ، فَكَانَ الْفَضْلُ مِنْ ثَمَنِهِ لِسَيِّدِهِ ، كَالرَّهْنِ .
وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ : إنَّهُ دَفَعَهُ عِوَضًا .
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِوَضًا .
لَمَلَكَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُبَعْ فِي الْجِنَايَةِ ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ لِيُبَاعَ ، فَيُؤْخَذَ مِنْهُ عِوَضُ الْجِنَايَةِ ، وَيُرَدَّ إلَيْهِ الْبَاقِي ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ دِرْهَمًا ، لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ سَيِّدِهِ مِنْهُ بِذَلِكَ ؛ لِعَجْزِهِ عَنْ أَدَاءِ الدِّرْهَمِ مِنْ غَيْرِ ثَمَنِهِ .
وَإِنْ اخْتَارَ السَّيِّدُ فِدَاءَهُ لَزِمَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ ؛ مِنْ قِيمَتِهِ ، أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ إنْ كَانَ أَكْثَرَ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِ الْعَبْدِ الْجَانِي ؛ لِعَدَمِ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ قِيمَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ ، فَلَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ إلَّا
هُوَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ جِنَايَتِهِ ، بَالِغًا مَا بَلَغَ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْغَبَ فِيهِ رَاغِبٌ ، فَيَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَإِذَا مَنَعَ بَيْعَهُ لَزِمَهُ جَمِيعُ الْأَرْشِ ؛ لِتَفْوِيتِهِ ذَلِكَ .
وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ ، كَالرِّوَايَتَيْنِ .
( 3151 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، فِي تَصَرُّفَاتِهِ ؛ أَمَّا غَيْرُ الْمَأْذُونِ ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَلَا شِرَاؤُهُ بِعَيْنِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمَحْجُورِ فِيمَا حُجِرَ عَلَيْهِ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ الْمُفْلِسَ .
وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَهُوَ كَتَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَصِحَّ وَيَقِفَ عَلَى إجَازَةِ السَّيِّدِ كَذَلِكَ .
وَأَمَّا شِرَاؤُهُ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ وَاقْتِرَاضُهُ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، أَشْبَهَ السَّفِيهَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لِحَقِّ غَيْرِهِ ، أَشْبَهَ الْمُفْلِسَ وَالْمَرِيضَ .
وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، أَنَّ التَّصَرُّفَ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا ، فَلِلْبَائِعِ وَالْمُقْرِضِ أَخْذُ مَالِهِ ، إنْ كَانَ بَاقِيًا ، سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِ الْعَبْدِ أَوْ السَّيِّدِ ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا ، فَلَهُ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ ، إنْ كَانَ مِثْلِيًّا ، فَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ تَلِفَ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ شَاءَ كَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ ، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِ الْعَبْدِ ، فَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ .
وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، أَوْ ذِمَّتِهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَإِنْ قُلْنَا : التَّصَرُّفُ صَحِيحٌ .
وَالْمَبِيعُ فِي يَدِ الْعَبْدِ ، فَلِلْبَائِعِ فَسْخُ الْبَيْعِ ، وَلِلْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِيمَا أَقْرَضَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ إعْسَارُ الْمُشْتَرِي وَالْمُقْتَرِضِ ، فَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ .
وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ قَدْ انْتَزَعَهُ مِنْ يَدِ الْعَبْدِ ، مَلَكَهُ بِذَلِكَ ، وَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ عَبْدِهِ مَالًا فِي يَدِهِ ، بِحَقٍّ ، فَهُوَ كَالصَّيْدِ .
فَإِذَا مَلَكَهُ السَّيِّدُ ، كَانَ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْعَبْدِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ وَالْمُقْرِضُ انْتِزَاعَهُ مِنْ السَّيِّدِ ، بِحَالٍ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ تَلِفَ ، اسْتَقَرَّ ثَمَنُهُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ ، سَوَاءٌ تَلِفَ فِي يَدِ الْعَبْدِ أَوْ
السَّيِّدِ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ ، فَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، وَلَا يَصِحُّ فِيمَا زَادَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ ، انْفَكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ ، وَجَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَا يَتَجَزَّأُ ، فَإِذَا زَالَ بَعْضُهُ ، زَالَ كُلُّهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ ، فَاخْتَصَّ تَصَرُّفُهُ بِمَحَلِّ الْإِذْنِ ، كَالْوَكِيلِ ، وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْحَجْرَ لَا يَتَجَزَّأُ .
لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي بَيْعِ عَيْنٍ ، وَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ أُخْرَى ، صَحَّ .
وَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ ، كَالْوَكِيلِ .
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي ضَمَانٍ ، أَوْ كَفَالَةٍ ، فَفَعَلَ ، صَحَّ .
وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ السَّيِّدِ ، أَوْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَإِنْ رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَتَّجِرُ ، فَلَمْ يَنْهَهُ ، لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مَأْذُونًا لَهُ .
( 3152 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ ، فِي تَصَرُّفَاتِهِ ، إنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، قُبِلَ إقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِيمَا زَادَ .
وَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُ غَيْرِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالْمَالِ .
فَإِنْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ أَوْ دَيْنٍ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، لَمْ يُقْبَلْ عَلَى سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِحَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّ سَيِّدَهُ بَاعَهُ ، وَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِجِنَايَتِهِ ، اسْتَوَى فِي ذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ وَغَيْرُهُ .
وَيَنْقَسِمُ ذَلِكَ أَقْسَامًا أَرْبَعَةً ؛ أَحَدُهَا ، جِنَايَةٌ مُوجِبُهَا الْمَالُ ، كَإِتْلَافِهِ ، أَوْ جِنَايَةُ خَطَأٍ ، أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ ، أَوْ جِنَايَةُ عَمْدٍ فِيمَا لَا قِصَاصَ فِيهِ ، كَالْجَائِفَةِ ، وَنَحْوِهَا ، فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْمَالِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، جِنَايَةٌ مُوجِبُهَا حَدٌّ سِوَى السَّرِقَةِ ، أَوْ قِصَاصٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ لَهُ زُفَرُ ، وَدَاوُد ، وَالْمُزَنِيُّ ، وَجَرِيرٌ : لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ السَّيِّدِ ، فَلَا يُقْبَلُ ، كَالْإِقْرَارِ بِجِنَايَةِ الْخَطَإِ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ بِإِقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ ، وَجَلَدَ عَبْدًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا نِصْفَ الْحَدِّ .
وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّ مَا لَا يُقْبَلُ إقْرَارُ السَّيِّدِ فِيهِ عَلَى الْعَبْدِ ، يُقْبَلُ فِيهِ إقْرَارُ الْعَبْدِ ، كَالطَّلَاقِ .
وَلِأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ بِهِ أَخَصُّ ، وَهُوَ بِأَلَمِهِ أَمَسُّ ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ بِهِ الزَّوْجَةُ .
وَخُرِّجَ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ جِنَايَةُ الْخَطَإِ ؛ فَإِنَّ إقْرَارَ السَّيِّدِ بِهَا مَقْبُولٌ ، وَلَا يَتَضَرَّرُ الْعَبْدُ بِهَا
.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، إقْرَارُهُ بِالسَّرِقَةِ ، يُقْبَلُ فِي الْحَدِّ ، فَيُقْطَعُ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَالِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَيْنُ تَالِفَةً ، أَوْ بَاقِيَةً فِي يَدِ السَّيِّدِ ، أَوْ فِي يَدِ الْعَبْدِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْطَعَ إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ مَوْجُودَةٍ فِي يَدِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَحْكُومٌ بِهَا لِسَيِّدِهِ ، فَلَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ لِسَيِّدِهِ ، وَلِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَسْرُوقِ شَرْطٌ فِي الْقَطْعِ ، وَهَذِهِ لَا يَمْلِكُ غَيْرُ السَّيِّدِ الْمُطَالَبَةَ بِهَا ، وَلِأَنَّ هَذَا شُبْهَةٌ ، وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَلَنَا ، خَبَرُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ تَبْلُغُ نِصَابًا ، فَوَجَبَ قَطْعُهُ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ حُرٌّ بِسَرِقَةِ عَيْنٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ ، وَإِنَّمَا لَمْ تُرَدَّ الْعَيْنُ إلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِحَقِّ السَّيِّدِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْعَبْدِ ، فَقَدْ يَثْبُتُ لِلْمُقِرِّ لَهُ ، وَلِهَذَا لَوْ عَتَقَ وَعَادَتْ الْعَيْنُ إلَى يَدِهِ ، لَزِمَهُ رَدُّهَا إلَى الْمُقِرِّ لَهُ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ ، الْإِقْرَارُ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ .
فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ .
وَعُمُومُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، إنْ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا ، أَوْ قِصَاصًا ، أَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ، لَزِمَهُ ذَلِكَ .
يَقْتَضِي قَبُولَ إقْرَارِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ قِصَاصًا ، فَقُبِلَ ، كَإِقْرَارِهِ بِقَطْعِ الْيَدِ ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ بِهِ ، كَالْآخَرِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُ سَيِّدِهِ عَلَيْهِ بِهِ .
فَقُبِلَ إقْرَارُهُ بِهِ ، كَالْحَدِّ .
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا ، بِأَنَّ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُقْبَلَ إقْرَارُهُ بِالْقِصَاصِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ ، إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُوَاطَأَةٍ
بَيْنَهُمَا ، لِيَعْفُوَ عَلَى مَالٍ ، فَيَسْتَحِقَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَحْمِلْ الْعَاقِلَةُ اعْتِرَافًا ، فَتَرَكْنَا مُوجِبَ الْقِيَاسِ ؛ لِخَبَرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى مُوجَبِ الْقِيَاسِ .
وَيُفَارِقُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ التَّخَلُّصَ مِنْ سَيِّدِهِ ، وَلَوْ بِفَوَاتِ نَفْسِهِ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا بِقَبُولِ إقْرَارِهِ بِالْقِصَاصِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ ، فَلِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْعَفْوُ ، وَالِاسْتِيفَاءُ ، وَالْعَفْوُ عَلَى مَالٍ ، فَإِنْ عَفَا ، تَعَلَّقَ الْأَرْشُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ، عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْعَفْوَ عَلَى مَالٍ ؛ لِئَلَّا يَتَّخِذَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى الْإِقْرَارِ بِمَالِ .
( 3153 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَبَيْعُ الْكَلْبِ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّمًا ) لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ بَيْعَ الْكَلْبِ بَاطِلٌ ، أَيَّ كَلْبٍ كَانَ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَحَمَّادٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَدَاوُد .
وَكَرِهَ أَبُو هُرَيْرَةَ ثَمَنَ الْكَلْبِ .
وَرَخَّصَ فِي ثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ خَاصَّةً جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَطَاءٌ ، وَالنَّخَعِيُّ .
وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْعَ الْكِلَابِ كُلِّهَا ، وَأَخْذَ ثَمَنِهَا ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَلْبُ الْمَأْذُونُ فِي إمْسَاكِهِ ، يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَيُكْرَهُ .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ بَيْعَهُ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ ، إلَّا كَلْبَ الصَّيْدِ } .
وَلِأَنَّهُ يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَيَصِحُّ نَقْلُ الْيَدِ فِيهِ ، وَالْوَصِيَّةُ بِهِ ، فَصَحَّ بَيْعُهُ ، كَالْحِمَارِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ ، فَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُهُ فَامْلَئُوا كَفَّهُ تُرَابًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نُهِيَ عَنْ اقْتِنَائِهِ فِي غَيْرِ حَالِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، أَشْبَهَ الْخِنْزِيرَ ، أَوْ حَيَوَانٌ نَجِسُ الْعَيْنِ ، أَشْبَهَ الْخِنْزِيرَ .
فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : هَذَا مِنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ : الصَّحِيحُ
أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى جَابِرٍ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَا يَصِحُّ إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ ، وَلَا كَلْبَ صَيْدٍ ، وَقَدْ جَاءَتْ اللُّغَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، قَالَ الشَّاعِرُ : وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ لَعَمْرُ أَبِيكَ إلَّا الْفَرْقَدَانِ أَيْ وَالْفَرْقَدَانِ .
ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى مِنْ أَبَاحَ بَيْعَ غَيْرِ كَلْبِ الصَّيْدِ .
( 3154 ) فَصْلٌ : وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ ، فَجَازَتْ الْمُعَاوَضَةُ عَنْهَا ، كَنَفْعِ الْحَمِيرِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَيَوَانٌ مُحَرَّمٌ بَيْعُهُ ؛ لِخُبْثِهِ ، فَحَرُمَتْ إجَارَتُهُ ، كَالْخِنْزِيرِ .
وَقِيَاسُهُمْ يَنْتَقِضُ بِضِرَابِ الْفَحْلِ ، فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ مُبَاحَةٌ ، وَلَا يَجُوزُ إجَارَتُهَا ، وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ لَمْ تُبِحْ بَيْعَهُ ، فَكَذَلِكَ إجَارَتُهُ ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لَا تُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ ، فَإِنَّهُ لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ مُدَّةً ، لَمْ يَلْزَمْهُ لِذَلِكَ عِوَضٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا فِي الْإِجَارَةِ ، كَنَفْعِ الْخِنْزِيرِ .
( 3155 ) فَصْلٌ : وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِالْكَلْبِ الَّذِي يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهَا نَقْلٌ لِلْيَدِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ .
وَتَصِحُّ هِبَتُهُ ؛ لِذَلِكَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ ، أَشْبَهَتْ الْبَيْعَ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ عِوَضُهُ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَهَذَيْنِ .
( 3156 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ قَتَلَهُ وَهُوَ مُعَلَّمٌ ، فَقَدْ أَسَاءَ ، وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ ) أَمَّا قَتْلُ الْمُعَلَّمِ فَحَرَامٌ ، وَفَاعِلُهُ مُسِيءٌ ظَالِمٌ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ كَلْبٍ مُبَاحٍ إمْسَاكُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مُنْتَفَعٌ بِهِ يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ ، فَحُرِّمَ إتْلَافُهُ ، كَالشَّاةِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَلَا غُرْمَ عَلَى قَاتِلِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَعَطَاءٌ : عَلَيْهِ الْغُرْمُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي تَحْرِيمِ إتْلَافِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَحَلٌّ يَحْرُمُ أَخْذُ عِوَضِهِ لِخُبْثِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ غُرْمُهُ بِإِتْلَافِهِ ، كَالْخِنْزِيرِ ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ إتْلَافُهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ .
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الضَّرَرِ وَالْإِضْرَارِ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا قَتْلُ مَا لَا يُبَاحُ إمْسَاكُهُ ، فَإِنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ يُبَاحُ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ شَيْطَانٌ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّامِتِ : سَأَلْت أَبَا ذَرٍّ فَقُلْت : { مَا بَالُ الْأَسْوَدِ مِنْ الْأَحْمَرِ مِنْ الْأَبْيَضِ ؟ فَقَالَ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَأَلْتنِي ، فَقَالَ : الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ لَأَمَرْت بِقَتْلِهَا ، فَاقْتُلُوا مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدَ بَهِيمٍ } .
وَيُبَاحُ قَتْلُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خَمْسٌ مِنْ الدَّوَابِّ كُلُّهُنَّ فَاسِقٌ ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ ؛ الْغُرَابُ ، وَالْحِدَأَةُ ، وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَيُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّمًا ؛ لِلْخَبَرَيْنِ .
وَعَلَى قِيَاسِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ ، كُلُّ مَا آذَى النَّاسَ ، وَضَرَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ .
وَأَمْوَالِهِمْ ، يُبَاحُ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِلَا نَفْعٍ ، أَشْبَهَ الذِّئْبَ ، وَمَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ ، لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخَبَرِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ، حَتَّى إنَّ الْمَرْأَةَ تَقْدُمُ مِنْ الْبَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَتَقْتُلُهُ ، ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِهَا ، وَقَالَ : عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي الطُّفْيَتَيْنِ ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
( 3158 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ ، إلَّا كَلْبَ الصَّيْدِ ، أَوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ ، أَوْ حَرْثٍ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ اتَّخَذَ كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ } .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ } .
قَالَ سَالِمٌ : وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ : أَوْ كَلْبَ حَرْثٍ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ اقْتَنَاهُ لِحِفْظِ الْبُيُوتِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِلْخَبَرِ .
وَيَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الثَّلَاثَةِ ، فَيُقَاسُ عَلَيْهَا .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ عَلَيْهَا ، يُبِيحُ مَا يَتَنَاوَلُ الْخَبَرُ تَحْرِيمَهُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَاهَا ، فَقَدْ يَحْتَالُ اللِّصُّ لِإِخْرَاجِهِ بِشَيْءِ يُطْعِمُهُ إيَّاهُ ، ثُمَّ يَسْرِقُ الْمَتَاعَ .
وَأَمَّا الذِّئْبُ ، فَلَا يَحْتَمِلُ هَذَا فِي حَقِّهِ ، وَلِأَنَّ اقْتِنَاءَهُ فِي الْبُيُوتِ يُؤْذِي الْمَارَّةَ ، بِخِلَافِ الصَّحْرَاءِ .
( 3159 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا تَرْبِيَةُ الْجَرْوِ الصَّغِيرِ لِأَحَدِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ ، فَيَجُوزُ فِي أَقْوَى الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَهُ لِذَلِكَ ، فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ .
كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ ، وَالْجَحْشِ الصَّغِيرِ ، الَّذِي لَا نَفْعَ فِيهِ فِي الْحَالِ ؛ لِمَالِهِ إلَى الِانْتِفَاعِ .
وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَّخِذْ الصَّغِيرَ ، مَا أَمْكَنَ جَعْلُ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ ، إذَا لَا يَصِيرُ مُعَلَّمًا إلَّا بِالتَّعْلِيمِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ إلَّا بِتَرْبِيَتِهِ ، وَاقْتِنَائِهِ مُدَّةً يُعَلِّمُهُ فِيهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ } .
وَلَا يُوجَدُ كَلْبٌ مُعَلَّمٌ بِغَيْرِ تَعْلِيمٍ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الثَّلَاثَةِ .
( 3160 ) فَصْلٌ : وَمَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لِلصَّيْدِ ، ثُمَّ تَرَكَ الصَّيْدَ مُدَّةً ، وَهُوَ يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَيْهِ ، لَمْ يَحْرُمُ اقْتِنَاؤُهُ فِي مُدَّةِ تَرْكِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ حَصَدَ صَاحِبُ الزَّرْعِ زَرْعَهُ ، أُبِيحَ لَهُ إمْسَاكُ الْكَلْبِ ، إلَى أَنْ يَزْرَعَ زَرْعًا آخَرَ .
وَلَوْ هَلَكَتْ مَاشِيَتُهُ ، فَأَرَادَ شِرَاءَ غَيْرِهَا ، فَلَهُ إمْسَاكُ كَلْبِهَا ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فِي الَّتِي يَشْتَرِيهَا .
فَأَمَّا إنْ اقْتَنَى كَلْبَ الصَّيْدِ مَنْ لَا يَصِيدُ بِهِ ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى كَلْبَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا .
وَاحْتَمَلَ الْمَنْعَ ؛ لِأَنَّهُ اقْتَنَاهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، أَشْبَهَ غَيْرَهُ مِنْ الْكِلَابِ .
وَمَعْنَى كَلْبِ الصَّيْدِ ، أَيُّ كَلْبٍ يَصِيدُ بِهِ .
وَهَكَذَا الِاحْتِمَالُ ؛ لِأَنَّ فِي مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا ؛ لِيَحْفَظَ لَهُ حَرْثًا ، أَوْ مَاشِيَةً ، إنْ حَصَلَتْ ، أَوْ يَصِيدَ بِهِ إنْ احْتَاجَ إلَى الصَّيْدِ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْحَالِ حَرْثٌ ، وَلَا مَاشِيَةٌ ، يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ ؛ لِقَصْدِهِ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ حَصَدَ الزَّرْعَ ، وَأَرَادَ أَنْ يَزْرَعَ غَيْرَهُ .
( 3161 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخِنْزِيرِ ، وَلَا الْمَيْتَةِ ، وَلَا الدَّمِ .
.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ .
وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ ، وَعَلَى أَنَّ بَيْعَ الْخِنْزِيرِ ، وَشِرَاءَهُ ، حَرَامٌ ؛ وَذَلِكَ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَا بَيْعَ الْخَمْرِ ، وَالْمَيْتَةِ ، وَالْخِنْزِيرِ ، وَالْأَصْنَامِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ ، كَالْحَشَرَاتِ كُلِّهَا ، وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلِاصْطِيَادِ ، كَالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ وَلَا يُصَادُ بِهِ مِنْ الطَّيْرِ ، كَالرَّخَمِ ، وَالْحِدَأَةِ ، وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ ، وَغُرَابِ الْبَيْنِ وَبَيْضِهَا ، فَكُلُّ هَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ ، فَأَخْذُ ثَمَنِهِ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ .
( 3162 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْجِينِ النَّجِسِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ يَتَبَايَعُونَهُ لِزُرُوعِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ ؛ فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، كَالْمَيْتَةِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعِ ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَلِأَنَّهُ رَجِيعٌ نَجِسٌ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، كَرَجِيعِ الْآدَمِيِّ .
( 3163 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحُرِّ ، وَلَا مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكِ ، كَالْمُبَاحَاتِ قَبْلَ حِيَازَتِهَا وَمِلْكِهَا .
وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ رَجُلٌ أُعْطِيَ بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا ، فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا ، فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
( 3164 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَبَيْعُ الْفَهْدِ ، وَالصَّقْرِ الْمُعَلَّمِ ، جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْهِرِّ ، وَكُلِّ مَا فِيهِ الْمَنْفَعَة ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ كُلَّ مَمْلُوكٍ أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، يَجُوزُ بَيْعُهُ ، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ ، مِنْ الْكَلْبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَالْوَقْفِ .
وَفِي الْمُدَبَّرِ ، وَالْمُكَاتَبِ ، وَالزَّيْتِ النَّجِسِ اخْتِلَافٌ ، نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ سَبَبٌ لِإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ ، وَالْمَنْفَعَةُ الْمُبَاحَةُ يُبَاحُ لَهُ اسْتِيفَاؤُهَا ، فَجَازَ لَهُ أَخْذُ عِوَضِهَا ، وَأُبِيحَ لِغَيْرِهِ بَذْلُ مَالِهِ فِيهَا ، تَوَصُّلًا إلَيْهَا ، وَدَفْعًا لِحَاجَتِهِ بِهَا ، كَسَائِرِ مَا أُبِيحَ بَيْعُهُ ، وَسَوَاءٌ فِي هَذَا مَا كَانَ طَاهِرًا ، كَالثِّيَابِ ، وَالْعَقَارِ ، وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ، وَالْخَيْلِ ، وَالصَّيُودِ ، أَوْ مُخْتَلَفًا فِي نَجَاسَتِهِ ، كَالْبَغْلِ ، وَالْحِمَارِ ، وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ ، وَجَوَارِحِ الطَّيْرِ ، الَّتِي تَصْلُحُ لِلصَّيْدِ ، الَّتِي كَالْفَهْدِ ، وَالصَّقْرِ ، وَالْبَازِي ، وَالشَّاهَيْنِ ، وَالْعُقَابِ ، وَالطَّيْرِ الْمَقْصُودِ صَوْتُهُ ، كَالْهَزَّازِ ، وَالْبُلْبُلِ ، وَالْبَبْغَاءِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، فَكُلُّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى : لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفَهْدِ ، وَالصَّقْرِ ، وَنَحْوِهِمَا ؛ لِأَنَّهَا نَجِسَةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا ، كَالْكَلْبِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَيَوَانٌ أُبِيحَ اقْتِنَاؤُهُ ، وَفِيهِ نَفْعٌ مُبَاحٌ ، مِنْ غَيْرِ وَعِيدٍ فِي حَبْسِهِ ، فَأُبِيحَ بَيْعُهُ كَالْبَغْلِ ، وَمَا ذَكَرَاهُ يَبْطُلُ بِالْبَغْلِ ، وَالْحِمَارِ ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي إبَاحَةِ بَيْعِهِمَا ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَالنَّجَاسَةِ وَإِبَاحَةِ الِاقْتِنَاءِ ، وَالِانْتِفَاعِ .
وَأَمَّا الْكَلْبُ فَإِنَّ الشَّرْعَ تَوَعَّدَ عَلَى اقْتِنَائِهِ وَحَرَّمَهُ ، إلَّا فِي حَالِ الْحَاجَةِ ، فَصَارَتْ إبَاحَتُهُ ثَابِتَةً ، بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ
الْأَصْلَ الْإِبَاحَةُ ؛ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } .
وَلَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى خَرَجَ مِنْهُ مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ ؛ لِمَعَانٍ غَيْرِ مَوْجُودَةٍ فِي هَذَا ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ .
وَأَمَّا الْهِرُّ ، فَقَالَ الْخِرَقِيِّ : يَجُوزُ بَيْعُهَا .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَرِهَ ثَمَنَهَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَطَاوُسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ ؛ لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ ، أَنَّهُ { سُئِلَ عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ ، فَقَالَ : زَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ } .
وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ .
} قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَفِي إسْنَادِهِ اضْطِرَابٌ .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَا فِيمَا يُصَادُ بِهِ مِنْ السِّبَاعِ ، وَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى غَيْرِ الْمَمْلُوكِ مِنْهَا ، أَوْ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ مِنْهَا ؛ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ شُرِعَ طَرِيقًا لِلتَّوَصُّلِ إلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ ، وَاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْمُبَاحَةِ ؛ لِيَصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى الِانْتِفَاعِ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، مِمَّا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرَعَ ذَلِكَ فِيهِ ؛ لِيَصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى الِانْتِفَاعِ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، فَمَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ .
( 3165 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْفَهْدُ وَالصَّقْرُ وَنَحْوُهُمَا ، مِمَّا لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ ، وَلَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ؛ لِعَدَمِ النَّفْعِ بِهِ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَعْلِيمُهُ ، جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ مَآلَهُ إلَى الِانْتِفَاعِ ، فَأَشْبَهَ الْجَحْشَ الصَّغِيرَ .
( 3166 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يُصَادُ عَلَيْهِ ، كَالْبُومَةِ الَّتِي يَجْعَلُهَا شِبَاكًا ،
لِتَجْمَعَ الطَّيْرَ إلَيْهَا ، فَيَصِيدُهُ الصَّيَّادُ ، فَيُحْتَمَلُ جَوَازُ بَيْعِهَا ، لِلنَّفْعِ الْحَاصِلِ مِنْهَا ، وَيُحْتَمَلُ الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ .
وَكَذَلِكَ اللَّقْلَقُ وَنَحْوُهُ .
( 3167 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْضُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الطَّيْرِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا نَفْعَ فِيهِ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، طَاهِرًا كَانَ أَوْ نَجِسًا .
وَإِنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ ، بِأَنْ يَصِيرَ فَرْخًا ، وَكَانَ طَاهِرًا ، جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ ؛ أَشْبَهَ أَصْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا ، كَبِيضِ الْبَازِي ، وَالصَّقْرِ ، وَنَحْوِهِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ فَرْخِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَجِسٌ ، لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْحَالِ .
وَهَذَا مُلْغَى بِفَرْخِهِ ، وَبِالْجَحْشِ الصَّغِيرِ .
( 3168 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : أَكْرَهُ بَيْعَ الْقِرْدِ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِهِ لِلْإِطَافَةِ بِهِ ، وَاللَّعِبِ ، فَأَمَّا بَيْعُهُ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ ، كَحِفْظِ الْمَتَاعِ وَالدُّكَّانِ وَنَحْوِهِ ، فَيَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ كَالصَّقْرِ وَالْبَازِي .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِهِ مُطْلَقًا .
( 3169 ) فَصْلٌ : وَفِي بَيْعِ الْعَلَقِ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهَا ، مِثْلُ الَّتِي تُعَلَّقُ عَلَى وَجْهِ صَاحِبِ الْكَلَفِ ، فَتَمُصُّ الدَّمَ ، وَالدِّيدَانَ الَّتِي تُتْرَكُ فِي الشِّصِّ ، فَيُصَادُ بِهَا السَّمَكُ ، وَجْهَانِ ؛ أَصَحُّهُمَا جَوَازُ بَيْعِهَا ؛ لِحُصُولِ نَفْعِهَا ، فَهِيَ كَالسَّمَكِ وَالثَّانِي ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا لَا يُنْتَفَعُ بِهَا ، إلَّا نَادِرًا ، فَأَشْبَهَتْ مَا لَا نَفْعَ فِيهِ .
( 3170 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ بَيْعُ دُودِ الْقَزِّ ، وَبِزْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : إنْ كَانَ مَعَ دُودِ الْقَزِّ قَزٌّ ، جَازَ بَيْعُهُ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ ، فَهُوَ كَالْحَشَرَاتِ .
وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ بَيْعُ بِزْرِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الدُّودَ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ ؛ لِتَمَلُّكِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ ، أَشْبَهَ الْبَهَائِمَ ، وَلِأَنَّ الدُّودَ وَبِزْرُهُ طَاهِرٌ ، مُنْتَفَعٌ بِهِ ، فَجَازَ بَيْعُهُ ، كَالثَّوْبِ .
وَقَوْلُهُ : لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ ، يَبْطُلُ بِالْبَهَائِمِ الَّتِي لَا يَحْصُل مِنْهَا نَفْعٌ ، سِوَى النِّتَاجِ ، وَيُفَارِقُ الْحَشَرَاتِ ، الَّتِي لَا نَفْعَ فِيهَا أَصْلًا ، فَإِنَّ نَفْعَ هَذِهِ كَثِيرٌ ؛ لِأَنَّ الْحَرِيرَ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ مَلَابِسِ الدُّنْيَا ، إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْهَا .
( 3171 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ إذَا شَاهَدَهَا مَحْبُوسَةً ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَمْتَنِعَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُنْفَرِدَةً ؛ لِمَا ذَكَرَ فِي دُودِ الْقَزِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَيَوَانٌ طَاهِرٌ ، يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ فِيهِ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، فَجَازَ بَيْعُهُ ، كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيْعِهَا فِي كِوَارَاتِهَا ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مُشَاهَدَةُ جَمِيعِهَا ، وَلِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ عَسَلٍ يَكُونُ مَبِيعًا مَعَهَا ، وَهُوَ مَجْهُولٌ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي كِوَارَاتِهَا ، وَمُنْفَرِدَةً عَنْهَا ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ مُشَاهَدَتُهَا فِي كِوَارَاتِهَا إذَا فُتِحَ رَأْسُهَا ، وَيُعْرَفُ كَثْرَتُهُ مِنْ قِلَّتِهِ ، وَخَفَاءُ بَعْضِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ ، بَيْعِهِ ، كَالصُّبْرَةِ ، وَكَمَا لَوْ كَانَ فِي وِعَاءٍ ، فَإِنَّ بَعْضَهُ يَكُونُ عَلَى بَعْضٍ ، فَلَا يُشَاهَدُ إلَّا ظَاهِرُهُ ، وَالْعَسَلُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا ، فَلَا تَضُرُّ جَهَالَتُهُ ، كَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ .
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ مُشَاهَدَةُ النَّحْلِ ؛ لِكَوْنِهِ مَسْتُورًا بِأَقْرَاصِهِ ، وَلَمْ يُعْرَفْ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ لِجَهَالَتِهِ .
( 3172 ) فَصْلٌ : ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ التِّرْيَاقَ لَا يُؤْكَلُ لِأَنَّهُ يَقَعُ فِيهِ لُحُومُ الْحَيَّاتِ ، فَعَلَى هَذَا ، لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْأَكْلِ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ ، فَخَلَا مِنْ نَفْعٍ مُبَاحٍ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، كَالْمَيْتَةِ ، وَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِهِ ، وَلَا بِسُمِّ الْأَفَاعِي .
فَأَمَّا السُّمُّ مِنْ الْحَشَائِشِ وَالنَّبَاتِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ كَانَ يَقْتُلُ قَلِيلُهُ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ؛ لِعَدَمِ نَفْعِهِ ، وَإِنْ اُنْتُفِعَ بِهِ ، وَأَمْكَنَ التَّدَاوِي بِيَسِيرِهِ ، كَالسَّقَمُونْيَا ، جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ ، فَأَشْبَهَ بَقِيَّةَ الْمَأْكُولَاتِ .
( 3173 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ جِلْدِ الْمَيْتَةِ ، قَبْلَ الدَّبْغِ ، قَوْلًا وَاحِدًا ، قَالَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَفِي بَيْعِهِ بَعْدَ الدَّبْغِ عَنْهُ خِلَافٌ .
وَقَدْ رَوَى حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ } .
وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ ، نَحْوُ رِيشِ الطَّيْرِ الَّتِي لَهَا مِخْلَبٌ ، أَوْ بَعْضِ جُلُودِ السِّبَاعِ الَّتِي لَهَا أَنْيَابٌ ، فَإِنَّ بَيْعَهَا أَسْهَلُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِهَا .
وَالصَّحِيحُ عَنْهُ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْحُكْمِ بِنَجَاسَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ ، وَأَنَّهَا لَا تَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي بَابِهِ .
.
فَصْلٌ : فَأَمَّا بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّاتِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : أَكْرَهُهُ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ .
فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ جَوَازُهُ ؛ لِقَوْلِهِ : " وَكُلُّ مَا فِيهِ الْمَنْفَعَةُ " .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ مَائِعٌ خَارِجٌ مِنْ آدَمِيَّةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، كَالْعَرَقِ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ آدَمِيٍّ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ أَجْزَائِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَبَنٌ طَاهِرٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ ، فَجَازَ بَيْعُهُ ، كَلَبَنِ الشَّاهِ ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي إجَارَةِ الظِّئْرِ فَأَشْبَهَ الْمَنَافِعَ ، وَيُفَارِقُ الْعَرَقَ ، فَإِنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ ، وَلِذَلِكَ لَا يُبَاعُ عَرَقُ الشَّاةِ ، وَيُبَاعُ لَبَنُهَا .
وَسَائِرُ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ يَجُوزُ بَيْعُهَا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْعَبْدِ ، وَالْأَمَةِ ، وَإِنَّمَا حَرُمَ بَيْعُ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ ، وَحَرُمَ بَيْعُ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ .
( 3175 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي بَيْعِ رُبَاعِ مَكَّةَ وَإِجَارَةِ دُورِهَا ، فَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ .
وَكَرِهَ إِسْحَاقُ ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي مَكَّةَ : لَا تُبَاعُ رُبَاعُهَا ، وَلَا تُكْرَى بُيُوتُهَا } .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : مَكَّةُ حَرَامٌ بَيْعُ رُبَاعِهَا ، حَرَامٌ إجَارَتُهَا .
} وَهَذَا نَصٌّ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، فِي " سُنَنِهِ " .
وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تُدْعَى السَّوَائِبَ ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ مُسَدَّدٌ فِي " مُسْنَدِهِ " ، وَلِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَلَمْ تُقَسَّمْ ، فَكَانَتْ مَوْقُوفَةً ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا ، كَسَائِرِ الْأَرْضِ الَّتِي فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً ، وَلَمْ يُقَسِّمُوهَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً ، قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَأَنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لَأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَتْ أُمُّ هَانِئٍ قَالَتْ { : أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي ، فَأَرَادَ عَلِيٌّ أَخِي قَتْلَهُمَا ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي ، فَزَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيٌّ أَنَّهُ قَاتِلُهُمَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت ، أَوْ أَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْت يَا أُمَّ هَانِئٍ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِقَتْلِ أَرْبَعَةٍ فَقُتِلَ مِنْهُمْ ابْنُ خَطَلٍ ، وَمَقِيسُ بْنُ صَبَابَةَ } ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ رُبَاعِهَا ، وَإِجَارَةُ بُيُوتِهَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ طَاوُسٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْحُجَّةِ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قِيلَ لَهُ : أَيْنَ نَنْزِلُ غَدًا ؟ قَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رُبَاعٍ ؟ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
يَعْنِي أَنَّ عَقِيلًا بَاعَ رُبَاعَ أَبِي طَالِبٍ ؛ لِأَنَّهُ وَرِثَهُ دُونَ إخْوَتِهِ ؛ لِكَوْنِهِ كَانَ عَلَى دِينِهِ دُونَهُمَا ، فَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ ، لَمَا أَثَّرَ بَيْعُ عَقِيلٍ ، شَيْئًا ، وَلِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُمْ دُورٌ بِمَكَّةَ لِأَبِي بَكْرٍ وَالزُّبَيْرِ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَأَبِي سُفْيَانَ ، وَسَائِرِ أَهْلِ مَكَّةَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ بَاعَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ دَارِهِ ، فَهِيَ فِي يَدِ أَعْقَابِهِمْ .
وَقَدْ بَاعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ دَارَ النَّدْوَةِ ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : بِعْت مَكْرُمَةَ قُرَيْشٍ .
فَقَالَ : يَا ابْنَ أَخِي ، ذَهَبَتْ الْمَكَارِمُ إلَّا التَّقْوَى .
أَوْ كَمَا قَالَ .
وَاشْتَرَى مُعَاوِيَةُ دَارَيْنِ .
وَاشْتَرَى عُمَرُ دَارَ السِّجْنِ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ .
وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ مَكَّةَ يَتَصَرَّفُونَ فِي دُورِهِمْ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ ، بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَقَدْ قَرَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِسْبَةِ دُورِهِمْ إلَيْهِمْ ، فَقَالَ { : مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ } .
وَأَقَرَّهُمْ فِي دُورِهِمْ وَرُبَاعَهُمْ ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدًا عَنْ دَارِهِ ، وَلَا وَجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى زَوَالِ أَمْلَاكِهِمْ ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ ، حَتَّى إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ شِدَّتِهِ فِي الْحَقِّ ، لَمَّا احْتَاجَ إلَى دَارِ السِّجْنِ ، لَمْ يَأْخُذْهَا إلَّا بِالْبَيْعِ .
وَلِأَنَّهَا أَرْضٌ حَيَّةٌ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ ؛ فَجَازَ
بَيْعُهَا كَسَائِرِ الْأَرْضِ ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي خِلَافِ هَذَا ، فَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَأَمَّا كَوْنُهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً ، فَهُوَ الصَّحِيحُ ، الَّذِي لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ ، إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ أَهْلَهَا فِيهَا عَلَى أَمْلَاكِهِمْ وَرُبَاعِهِمْ ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهَا لَهُمْ ، كَمَا تَرَكَ لِهَوَازِنَ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ .
وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، مَنْ كَانَ سَاكِنَ دَارٍ أَوْ مَنْزِلٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، يَسْكُنُهُ وَيُسْكِنُهُ ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ ، وَلَا أَخْذُ أُجْرَتِهِ ، وَمَنْ احْتَاجَ إلَى مَسْكَنٍ ، فَلَهُ بَذْلُ الْأُجْرَةِ فِيهِ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الشِّرَاءِ فَلَهُ ذَلِكَ ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إذَا سَكَنَ أَعْطَاهُمْ أُجْرَتَهَا .
فَإِنْ سَكَنَ بِأُجْرَةٍ فَأَمْكَنَهُ أَنْ لَا يَدْفَعَ إلَيْهِمْ الْأُجْرَةَ ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَهَا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سُفْيَانَ سَكَنَ فِي بَعْضِ رُبَاعِ مَكَّةَ ، وَهَرَبَ ، وَلَمْ يُعْطِهِمْ أُجْرَةً ، فَأَدْرَكُوهُ ، فَأَخَذُوهَا مِنْهُ .
وَذُكِرَ لِأَحْمَدَ فِعْلُ سُفْيَانَ ، فَتَبَسَّمَ ، فَظَاهِرُ هَذَا ، أَنَّهُ أَعْجَبَهُ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ ، أَمَّا بِقَاعُ الْمَنَاسِكِ كَمَوْضِعِ السَّعْيِ وَالرَّمْيِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسَاجِدِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
( 3176 ) فَصْلٌ : وَمَنْ بَنَى بِنَاءً بِمَكَّةَ ، بِآلَةٍ مَجْلُوبَةٍ مِنْ غَيْرِ أَرْضِ مَكَّةَ ، جَازَ بَيْعُهَا ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ أَبْنِيَةِ الْوُقُوفِ وَأَنْقَاضِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ وَحِجَارَتِهِ ، انْبَنَى جَوَازُ بَيْعِهَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي بَيْعِ رُبَاعِ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِمَكَّةَ ، وَهَكَذَا تُرَابُ كُلِّ وَقْفٍ وَأَنْقَاضُهُ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَأَمَّا الْبِنَاءُ بِمَكَّةَ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ .
قَالَ إِسْحَاقُ : الْبِنَاءُ بِمَكَّةَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْلَاصِ لِنَفْسِهِ ، لَا يَحِلُّ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قِيلَ لَهُ : أَلَا تَبْنِي لَك بِمِنًى بَيْتًا ؟ قَالَ : مِنًى مَنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ } .
( 3177 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : لَا أَعْلَمُ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ رُخْصَةً .
وَرَخَّصَ فِي شِرَائِهَا .
وَقَالَ : الشِّرَاءُ أَهْوَنُ .
وَكَرِهَ بَيْعَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو مُوسَى ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَإِسْحَاقُ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : وَدِدْت أَنَّ الْأَيْدِي تُقْطَعُ فِي بَيْعِهَا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَجُوزُ بَيْعُ الْمُصْحَفِ ، مَعَ الْكَرَاهَةِ .
وَهَلْ يُكْرَهُ شِرَاؤُهُ وَإِبْدَالُهُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَرَخَّصَ فِي بَيْعِهَا الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى الْجِلْدِ ، وَالْوَرَقِ ، وَبَيْعُ ذَلِكَ مُبَاحٌ .
وَلَنَا ، قَوْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ مُخَالِفًا فِي عَصْرِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْبَيْعِ وَالِابْتِذَالِ ، وَأَمَّا الشِّرَاءُ فَهُوَ أَسْهَلُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِنْقَاذٌ لِلْمُصْحَفِ وَبَذْلٌ لِمَالِهِ فِيهِ ، فَجَازَ ، كَمَا أَجَازَ شِرَاءَ رُبَاعِ مَكَّةَ ، وَاسْتِئْجَارَ دُورِهَا ، مَنْ لَا يَرَى بَيْعَهَا ، وَلَا أَخْذَ أُجْرَتِهَا .
وَكَذَلِكَ أَرْضُ السَّوَادِ وَنَحْوُهَا .
وَكَذَلِكَ دَفْعُ الْأُجْرَةِ إلَى الْحَجَّامِ ، لَا يُكْرَهُ ، مَعَ كَرَاهَةِ كَسْبِهِ .
وَإِنْ اشْتَرَى الْكَافِرُ مُصْحَفًا ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ .
بِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَجَازَهُ أَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَقَالُوا : يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلشِّرَاءِ ، وَالْمُصْحَفُ مَحَلٌّ لَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ ، فَمُنِعَ مِنْ ابْتِدَائِهِ ، كَسَائِرِ مَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ، مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ .
فَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُمْ مِنْ التَّوَصُّلِ إلَى نَيْلِ أَيْدِيهِمْ إيَّاهُ .
فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ شِرَاءُ الْكَافِرِ مُسْلِمًا .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ وَيُجْبَرُ عَلَى إزَالَةِ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُسْلِمَ بِالْإِرْثِ ، وَيَبْقَى مِلْكُهُ عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمَ فِي يَدِهِ ، فَصَحَّ شِرَاؤُهُ لَهُ ، كَالْمُسْلِمِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يُمْنَعُ اسْتِدَامَةَ مِلْكِهِ عَلَيْهِ ، فَمُنِعَ ابْتِدَاءَهُ ، كَالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يُثْبِتُ الْمِلْكَ عَلَى الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَالنِّكَاحِ ، وَالْمِلْكِ بِالْإِرْثِ .
الِاسْتِدَامَةُ أَقْوَى مِنْ ابْتِدَاءِ الْمِلْكِ بِالْفِعْلِ وَالِاخْتِيَارِ ، بِدَلِيلِ ثُبُوتِهِ بِهِمَا لِلْمُحْرِمِ فِي الصَّيْدِ ، مَعَ مَنْعِهِ مِنْ ابْتِدَائِهِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَقْوَى ثُبُوتُ مَا دُونَهُ ، مَعَ أَنَّنَا نَقْطَعُ الِاسْتِدَامَةَ عَلَيْهِ بِمَنْعِهِ مِنْهَا ، وَإِجْبَارِهِ عَلَى إزَالَتِهَا .
( 3179 ) فَصْلٌ : وَلَوْ وَكَّلَ كَافِرٌ مُسْلِمًا فِي شِرَاءِ مُسْلِمٍ ، لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ ، وَلِأَنَّ الْمُوَكَّلَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِشِرَائِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ .
وَإِنْ وَكَّلَ الْمُسْلِمُ كَافِرًا يَشْتَرِي لَهُ مُسْلِمًا ، فَاشْتَرَاهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَصِحُّ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ إنَّمَا كَانَ لِمَا فِيهِ مِنْ ثُبُوتِ مِلْكِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ هَاهُنَا ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَانِعُ .
وَالثَّانِي ، لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ شِرَائِهِ مُنِعَ التَّوْكِيلُ فِيهِ ، كَالْمُحْرِمِ فِي شِرَاءِ الصَّيْدِ ، وَالْكَافِرِ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لِذِمِّيِّ فِي شِرَاءِ خَمْرٍ .
( 3180 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى الْكَافِرُ مُسْلِمًا يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ ، كَأَبِيهِ وَأَخِيهِ ، صَحَّ الشِّرَاءُ ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ ، فِي قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا .
وَحَكَى فِيهِ أَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَصِحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْأَصْحَابِ ؛ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمَ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَاَلَّذِي لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ مَا مُنِعَ مِنْ شِرَائِهِ ، لَمْ يُبَحْ لَهُ شِرَاؤُهُ وَإِنْ زَالَ مِلْكُهُ عَقِيبَ الشِّرَاءِ ، كَشِرَاءِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ .
وَالثَّانِيَةُ يَصِحُّ شِرَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا ثَبَتَ لِمَا فِيهِ مِنْ إهَانَةِ الْمُسْلِمِ بِمِلْكِ الْكَافِرِ لَهُ ، وَالْمِلْكُ هَاهُنَا يَزُولُ عَقِيبَ الشِّرَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَيَحْصُلُ مِنْ نَفْعِ الْحُرِّيَّةِ أَضْعَافُ مَا حَصَلَ مِنْ الْإِهَانَةِ بِالْمِلْكِ فِي لَحْظَةٍ يَسِيرَةٍ .
وَيُفَارِقُ مَنْ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ إلَّا بِإِزَالَتِهِ ، وَكَذَلِكَ شِرَاءُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ ، فَإِنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ ، لَثَبَتَ مِلْكُهُ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَزُلْ .
وَلَوْ قَالَ كَافِرٌ لَمُسْلِمٍ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي ، وَعَلَيَّ ثَمَنَهُ .
فَفَعَلَ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ إبْطَالٌ لِلرِّقِّ فِيهِ ، وَإِنَّمَا حَصَلَ الْمِلْكُ فِيهِ حُكْمًا ، فَجَازَ ، كَمَا يَمْلِكُهُ بِالْإِرْثِ حُكْمًا .
وَلِأَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ النَّفْعِ يَنْغَمِرُ فِيهِ مَا يَحْصُلُ مِنْ الضَّرَرِ بِالْمِلْكِ ، فَيَصِيرُ كَالْمَعْدُومِ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ؛ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ بِنَاءً عَلَى شِرَاءِ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ .
( 3181 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَجَّرَ مُسْلِمٌ نَفْسَهُ لِذِمِّيِّ ، لَعَمَلٍ فِي ذِمَّتِهِ ، صَحَّ ؛ { لِأَنَّ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ ، يَسْتَقِي لَهُ كُلَّ دَلْوٍ بِتَمْرَةٍ ، وَأَتَى بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَهُ .
} وَفَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ .
وَلِأَنَّهُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ .
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ فِي مُدَّةٍ ، كَيَوْمٍ ، أَوْ شَهْرٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِيلَاءً عَلَيْهِ ، وَصَغَارًا ، أَشْبَهَ الشِّرَاءَ .
وَالثَّانِي ، يَصِحُّ .
وَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَمَلٌ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ ، أَشْبَهَ الْعَمَلَ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا يُشْبِهُ الْمِلْكَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقْتَضِي سُلْطَانًا ، وَاسْتِدَامَةً ، وَتَصَرُّفًا بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ فِي رَقَبَتِهِ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ .
( 3182 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ إلَّا بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا ، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَقَالَ : { لَا تُوَلَّهُ وَالِدَةٌ عَنْ وَلَدِهَا } .
فَخَصَّهَا بِذَلِكَ ، فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ فِيمَا سِوَاهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَحْرُمُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَإِنْ سَفَلُوا ، وَلَا يَحْرُمُ بَيْنَ مَنْ عَدَاهُمْ ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمْ لَا تَمْنَعُ الْقِصَاصَ ، وَلَا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ لَبَعْضٍ ، فَلَمْ تَمْنَعْ التَّفْرِيقَ فِي الْبَيْعِ ، كَابْنَيْ الْعَمِّ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ ، عَنْ الْحَكَمِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَبِيعَ غُلَامَيْنِ أَخَوَيْنِ ، فَبِعْتُهُمَا ، فَفَرَّقْت بَيْنَهُمَا ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَدْرِكْهُمَا فَارْتَجِعْهُمَا ، وَلَا تَبِعْهُمَا إلَّا جَمِيعًا } .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا ، وَالْأَخِ وَأَخِيهِ } .
وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا رَحِمًا مَحْرَمًا ، فَلَمْ يَجُزْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا ، كَالْوَلَدِ مَعَ أُمِّهِ .
وَيُفَارِقُ ابْنَيْ الْعَمِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا رَحِمٌ مَحْرَمٌ .
( 3183 ) فَصْلٌ : فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْبُلُوغِ ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا دُونَ السَّبْعِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْبَيْعُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ ، لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ ، وَهُوَ الضَّرَرُ اللَّاحِقُ
بِالتَّفْرِيقِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ الْبَيْعِ ، كَالْبَيْعِ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ .
وَلَنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِرَدِّهِمَا ، وَلَوْ لَزِمَ الْبَيْعُ لَمَا أَمْكَنَ رَدُّهُمَا .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي " سُنَنِهِ " ، { أَنَّ عَلِيًّا فَرَّقَ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا ، فَنَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّ الْمَبِيعَ } .
وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ مُحَرَّمٌ ، لِمَعْنًى فِيهِ ، فَفَسَدَ ، كَبَيْعِ الْخَمْرِ .
وَلَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ ؛ فَإِنَّ ضَرَرَ التَّفْرِيقِ حَاصِلٌ بِالْبَيْعِ ، فَكَانَ لِمَعْنًى فِيهِ .
فَأَمَّا تَحْدِيدُهُ بِالسَّبْعِ ؛ فَإِنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَمْنَعُ ذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، وَإِنْ كَانَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ جَازَ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَجُوزُ ؛ لِعُمُومِ النَّهْيِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَجُوزُ .
وَهِيَ الصَّحِيحَةُ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ أَتَى أَبَا بَكْرٍ بِامْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا ، فَنَفَلَهُ أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا ، فَاسْتَوْهَبَهَا مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَهَبَهَا لَهُ .
وَأُهْدِيَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَارِيَةُ ، وَأُخْتُهَا سِيرِينَ ، فَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِيرِينَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ ، وَتَرَكَ مَارِيَةَ لَهُ .
} وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ يَصِيرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ ، وَالْعَادَةُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُزَوِّجُ ابْنَتَهَا ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَوَلَدِهَا إذَا افْتَرَقَ الْأَبَوَانِ .
( 3184 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى مِمَّنْ فِي مَالِهِ حَرَامٌ وَحَلَالٌ ، كَالسُّلْطَانِ الظَّالِمِ ، وَالْمُرَابِي ؛ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَبِيعَ مِنْ حَلَالِ مَالِهِ ، فَهُوَ حَلَالٌ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ حَرَامٌ ، فَهُوَ حَرَامٌ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا فِي يَدِ الْإِنْسَانِ مِلْكُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيِّهِمَا هُوَ ، كَرِهْنَاهُ لِاحْتِمَالِ التَّحْرِيمِ فِيهِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ ؛ لِإِمْكَانِ الْحَلَالِ ، قَلَّ الْحَرَامُ أَوْ كَثُرَ .
وَهَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ ، وَبِقَدْرِ قِلَّةِ الْحَرَامِ وَكَثْرَتِهِ ، تَكُونُ كَثْرَةُ الشُّبْهَةِ وَقِلَّتُهَا .
قَالَ أَحْمَدُ : لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ ؛ لِمَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى ، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ .
أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ .
وَفِي لَفْظِ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ : { فَمَنْ تَرَكَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ ، وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْمَأْثَمِ ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ .
} وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك .
} وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
فَصْلٌ : وَالْمَشْكُوكُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ ؛ الْأَوَّلُ ، مَا أَصْلُهُ الْحَظْرُ ، كَالذَّبِيحَةِ فِي بَلَدٍ فِيهَا مَجُوسٌ وَعَبَدَةُ أَوْثَانٍ يَذْبَحُونَ ، فَلَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَابِحُهَا مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ التَّحْرِيمُ ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِيَقِينٍ أَوْ ظَاهِرٍ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِيهَا أَخْلَاطٌ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمَجُوس ، لَمْ يَجُزْ شِرَاؤُهَا لِذَلِكَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك ، فَخَالَطَ كَلْبًا لَمْ يُسَمَّ عَلَيْهَا ، فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهَا قَتَلَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَلَدِ الْإِسْلَامِ ، فَالظَّاهِرُ إبَاحَتُهَا لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُقِرُّونَ فِي بَلَدِهِمْ بَيْعَ مَا لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ ظَاهِرًا .
وَالثَّانِي ، مَا أَصْلُهُ الْإِبَاحَةُ ، كَالْمَاءِ يَجِدُهُ مُتَغَيِّرًا ، لَا يَعْلَمُ أَبِنَجَاسَةٍ تَغَيَّرَ أَمْ بِغَيْرِهَا ؟ فَهُوَ طَاهِرٌ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ ، فَلَا نَزُولُ عَنْهَا إلَّا بِيَقِينٍ أَوْ ظَاهِرٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : { شُكِيَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ ، قَالَ : لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالثَّالِثُ ، مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ ، كَرَجُلٍ فِي مَالِهِ حَلَالٌ وَحَرَامٌ ، فَهَذَا هُوَ الشُّبْهَةُ ، الَّتِي الْأَوْلَى تَرْكُهَا ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَعَمَلًا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ وَجَدَ تَمْرَةً سَاقِطَةً ، فَقَالَ : لَوْلَا أَنِّي أَخْشَى أَنَّهَا مِنْ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا } .
وَهُوَ مِنْ بَابِ الْوَرَعِ .
( 3186 ) فَصْلٌ : وَكَانَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لَا يَقْبَلُ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ ، وَيُنْكِرُ عَلَى وَلَدِهِ وَعَمِّهِ قَبُولَهَا ، وَيُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ ، وَمِمَّنْ كَانَ لَا يَقْبَلُهَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْقَاسِمُ ، وَبِشْرُ بْنُ سَعِيدٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَالتَّوَقِّي ، لَا عَلَى أَنَّهَا حَرَامٌ ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ : جَوَائِزُ السُّلْطَانِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصَّدَقَةِ .
وَقَالَ : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا وَلَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَاهِمِ نَصِيبٌ فَكَيْفَ أَقُولُ : إنَّهَا سُحْتٌ ؟ وَمِمَّنْ كَانَ يَقْبَلُ جَوَائِزَهُمْ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ ، مِثْلُ الْحَسَنِ ، وَالْحُسَيْنِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ .
وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَكْحُولٌ ، وَالزُّهْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ .
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا ، وَمَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَهُ } .
{ وَأَجَابَ يَهُودِيًّا دَعَاهُ ، وَأَكَلَ مِنْ طَعَامِهِ .
} وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِجَوَائِزِ السُّلْطَانِ ، فَإِنَّ مَا يُعْطِيكُمْ مِنْ الْحَلَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطِيكُمْ مِنْ الْحَرَامِ .
وَقَالَ : لَا تَسْأَلْ السُّلْطَانَ شَيْئًا ، وَإِنْ أَعْطَى فَخُذْ ، فَإِنَّ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْحَلَالِ أَكْثَرُ مِمَّا فِيهِ مِنْ الْحَرَامِ .
فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي مَنْ مَعَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ حَرَامٌ : يَتَصَدَّقُ بِالثَّلَاثَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، فِيهَا عَشْرَةٌ حَرَامٌ ، يَتَصَدَّقُ بِالْعَشَرَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كَثِيرٌ ، وَذَاكَ قَلِيلٌ .
فَقِيلَ لَهُ : قَالَ سُفْيَانُ : مَا كَانَ دُونَ الْعَشَرَةِ يَتَصَدَّقُ بِهِ ، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ يَخْرُجُ .
قَالَ : نَعَمْ ، لَا يُجْحَفُ بِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَيْسَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَثُرَ الْحَلَالُ بَعُدَ تَنَاوُلِ الْحَرَامِ ، وَشَقَّ التَّوَرُّعُ عَنْ الْجَمِيعِ ، بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ يَسْهُلُ إخْرَاجُ الْكُلِّ .
وَالْوَاجِبُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إخْرَاجُ قَدْرِ الْحَرَامِ ، وَالْبَاقِي مُبَاحٌ لَهُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِ عَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا حَرُمَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ غَيْرِهِ بِهِ ، فَإِذَا أَخْرَجَ عِوَضَهُ زَالَ التَّحْرِيمُ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا فَرَضِيَ بِعِوَضِهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا .
وَالْوَرَعُ إخْرَاجُ مَا يُتَيَقَّنُ بِهِ إخْرَاجُ عَيْنِ الْحَرَامِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْجَمِيعِ ، لَكِنْ لَمَّا شَقَّ ذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ ، تُرِكَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ ، وَاقْتُصِرَ عَلَى الْوَاجِبِ .
ثُمَّ يَخْتَلِفُ هَذَا بِاخْتِلَافِ النَّاسِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ لَهُ إلَّا الدَّرَاهِمُ الْيَسِيرَةِ ، فَيَشُقُّ إخْرَاجُهَا ؛ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ ، فَيَسْتَغْنِي عَنْهَا ، فَيَسْهُلُ إخْرَاجُهَا .
( 3187 ) فَصْلٌ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْمَذْهَبِ ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ مَاءٍ عَدَّ كَمِيَاهِ الْعُيُونِ ، وَنَقْعِ الْبِئْرِ فِي أَمَاكِنِهِ قَبْلَ إحْرَازِهِ فِي إنَائِهِ ، وَلَا الْكَلَأِ فِي مَوَاضِعِهِ قَبْلَ حِيَازَتِهِ .
فَعَلَى هَذَا ؛ مَتَى بَاعَ الْأَرْضَ وَفِيهَا كَلَأٌ أَوْ مَاءٌ ، فَلَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِيهِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةً أُخْرَى ؛ أَنَّ ذَلِكَ مَمْلُوكٌ وَأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، إنْ بَاعَ الْأَرْضَ ، فَذَكَرَ الْمَاءَ وَالْكَلَأَ فِي الْبَيْعِ ، دَخَلَ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، كَانَ الْمَاءُ الْمَوْجُودُ وَالْكَلَأُ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ .
وَالْمَاءُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ ، فَهُوَ كَالطَّعَامِ فِي الدَّارِ ، فَمَا يَتَجَدَّدُ بَعْدَ الْبَيْعِ ، فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي .
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، إذَا بَاعَ مِنْ هَذَا الْمَاءِ آصُعًا مَعْلُومَةً ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ كَالصُّبْرَةِ ، وَإِنْ بَاعَ كُلَّ مَاءِ الْبِئْرِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ .
وَلَوْ بَاعَ مِنْ النَّهْرِ الْجَارِي آصُعًا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ يَذْهَبُ ، وَيَأْتِي غَيْرُهُ .
( 3188 ) فَصْلٌ : وَعَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ ؛ مَتَى كَانَ الْمَاءُ النَّابِعُ فِي مِلْكِهِ ، أَوْ الْكَلَأُ أَوْ الْمَعَادِنُ ، وَفْقَ كِفَايَتِهِ ، لِشُرْبِهِ ، وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ ، لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَذْلُهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِهِ ، فَإِذَا تَسَاوَى هُوَ وَغَيْرُهُ فِي الْحَاجَةِ ، كَانَ أَحَقَّ بِهِ ، كَالطَّعَامِ ، وَإِنَّمَا تَوَعَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ ، وَلَا فَضْلَ فِي هَذَا .
وَلِأَنَّ عَلَيْهِ فِي بَذْلِهِ ضَرَرًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ نَفْعُ غَيْرِهِ بِمَضَرَّةِ نَفْسِهِ .
وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَنْ شُرْبِهِ ، وَشُرْبِ مَاشِيَتِهِ وَزَرْعِهِ ، وَاحْتَاجَتْ إلَيْهِ مَاشِيَةُ غَيْرِهِ ، لَزِمَهُ بَذْلُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْمَاءِ وَيَشْرَبَ ، وَيَسْقِيَ مَاشِيَتَهُ ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِمَا رَوَى إيَاسُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ ، لِيَمْنَعَ بِهِ فَضْلَ الْكَلَأِ ، مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا وَنَهَى أَنْ يُمْنَعَ الْمَاءُ مَخَافَةَ أَنْ يُرْعَى الْكَلَأُ .
} يَعْنِي إذَا كَانَ فِي مَكَان كَلَأٌ ، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ الْإِقَامَةُ لِرَعْيِهِ إلَّا بِالسَّقْيِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ فَيَمْنَعُهُمْ السَّقْيَ ، لِيَتَوَفَّرَ الْكَلَأُ عَلَيْهِ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَالَ : ابْنُ السَّبِيلِ أَحَقُّ بِالْمَاءِ مِنْ الْبَانِي عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : ابْنُ السَّبِيلِ أَوَّلُ شَارِبٍ .
وَعَنْ بُهَيْسَةَ ، قَالَتْ { : قَالَ أَبِي : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : الْمَاءُ .
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : الْمِلْحُ } .
وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَذْلُ آلَةِ الْبِئْرِ مِنْ الْحَبْلِ ، وَالدَّلْوِ ، وَالْبَكَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْلُقُ وَلَا يَسْتَخْلِفُ غَيْرَهُ ، بِخِلَافِ الْمَاءِ .
وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْبُنْيَانِ وَالصَّحَارِي .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا هَذَا فِي الصَّحَارِي وَالْبَرِّيَّةِ ، دُونَ الْبُنْيَانِ .
يَعْنِي أَنَّ الْبُنْيَانَ إذَا كَانَ فِيهِ الْمَاءُ فَلَيْسَ لَأَحَدٍ الدُّخُولُ إلَيْهِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ .
( 3189 ) فَصْلٌ : وَهَلْ يَلْزَمُهُ بَذْلُ فَضْلِ مَائِهِ لِزَرْعِ غَيْرِهِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَلْزَمُهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ سَقْيُهُ ، بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ .
وَالثَّانِيَةُ يَلْزَمُهُ بَذْلُهُ لِذَلِكَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، { أَنَّ قَيِّمَ أَرْضِهِ بِالْوَهْطِ كَتَبَ إلَيْهِ ، يُخْبِرُهُ أَنَّهُ قَدْ سَقَى أَرْضَهُ ، وَفَضَلَ لَهُ مِنْ الْمَاءِ فَضْلٌ يُطْلَبُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا .
فَكَتَبَ إلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو ؛ أَقِمْ قِلْدَكَ ، ثُمَّ اسْقِ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى ، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ } .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْقِلْدُ يَوْمُ الشُّرْبِ .
وَفِي " الْمُسْنَدِ " ، حَدَّثَنَا حَسَنٌ ، قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ } .
وَرَوَى إيَاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمْنَعَ فَضْلُ الْمَاءِ .
} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَفِي لَفْظٍ : { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَاءِ .
} وَلِأَنَّ فِي مَنْعِهِ فَضْلَ الْمَاءِ إهْلَاكَهُ ، فَحَرُمَ مَنْعُهُ كَالْمَاشِيَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : لَا حُرْمَةَ لَهُ .
قُلْنَا : فَلِصَاحِبِهِ حُرْمَةٌ ، فَلَا يَجُوزُ التَّسَبُّبُ إلَى إهْلَاكِ مَالِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُمْنَعَ نَفْيُ الْحُرْمَةِ عَنْهُ ، فَإِنَّ إضَاعَةَ الْمَالِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا ، وَإِتْلَافَهُ مُحَرَّمٌ ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حُرْمَتِهِ .
( 3190 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةٍ فَقَضَاهَا عَنْهُ غَيْرُهُ ، صَحَّ ، سَوَاءٌ قَضَاهُ بِأَمْرِهِ أَوْ غَيْرِ أَمْرِهِ .
فَإِنْ بَانَ الْعَبْدُ مُسْتَحِقًّا ، لَزِمَ رَدُّ الْمِائَةِ إلَى دَافِعِهَا ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ قَبْضٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ، فَكَأَنَّ الْمِائَةَ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ يَدِ دَافِعِهَا .
وَإِنْ بَانَ الْعَبْدُ مَعِيبًا ، فَرَدَّهُ بِالْعَيْبِ ، أَوْ بِإِقَالَةِ ، أَوْ أَصْدَقَ امْرَأَةَ إنْسَانٍ شَيْئًا ، فَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا ، أَوْ ارْتَدَّتْ ، فَهَلْ يَلْزَمُ رَدُّ الْمِائَةِ إلَى دَافِعِهَا أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي وَالزَّوْجِ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، عَلَى الدَّافِعِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ مِنْهُ ، فَالرَّدُّ عَلَيْهِ ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا .
وَالثَّانِي ، عَلَى الزَّوْجِ وَالْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ لَهُمَا ، بِدَلِيلِ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهَا مِنْهُ ، وَالْهِبَةُ الْمَقْبُوضَةُ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيهَا .
وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي وَالزَّوْجِ ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَضَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، إذَا كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ عَلَيْهِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ رَدُّهُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْمُشْتَرِي ، إذَا كَانَ عَقْدُهُمَا صَحِيحًا بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ إذْنَهُمَا فِي تَسْلِيمِهِ إلَى مَنْ لَهُ الدَّيْنُ عَلَيْهِمَا إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ ، جَرَى مَجْرَى قَبُولِهِ وَقَبْضِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَأْذَنْ وَإِنْ أَذِنَا فِي دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُمَا قَرْضًا ، فَإِنَّ الرَّدَّ يَكُونُ عَلَيْهِمَا ، وَالْمُقْرِضُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِعِوَضِهِ .
( 3191 ) فَصْلٌ إذَا قَالَ الْعَبْدُ لَرَجُلٍ : ابْتَعْنِي مِنْ سَيِّدِي .
فَفَعَلَ ، فَبَانَ الْعَبْدُ مُعْتَقًا ، فَالضَّمَانُ عَلَى السَّيِّدِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ السَّيِّدُ حَاضِرًا حِينَ غَرَّهُ الْعَبْدُ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْغَرُورَ مِنْهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ السَّيِّدَ قَبَضَ الثَّمَنَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ، وَضَمِنَ الْعُهْدَةَ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا .
وَإِنْ بَانَ الْعَبْدُ مَغْصُوبًا ، أَوْ بِهِ عَيْبٌ ، فَرَدَّهُ ، فَالضَّمَانُ عَلَى السَّيِّدِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
( 3192 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى اثْنَانِ عَبْدًا ، فَغَابَ أَحَدُهُمَا ، وَجَاءَ الْآخَرُ يَطْلُبُ نَصِيبَهُ مِنْهُ ، فَلَهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِتَسْلِيمِ نَصِيبِ الْغَائِبِ ، وَلَيْسَ لَهُ تَسْلِيمُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ طَلَبَ حِصَّتَهُ ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ .
وَإِنْ قَالَ الْحَاضِرُ : أَنَا أَدْفَعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ ، وَيَدْفَعُ إلَى جَمِيعَ الْعَبْدِ .
لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَهُ ذَلِكَ .
وَلَنَا ، أَنَّ شَرِيكَهُ لَمْ يَأْذَنْ لِلْحَاضِرِ فِي قَبْضِ نَصِيبِهِ ، وَلَا لِلْبَائِعِ فِي دَفْعِهِ إلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ .
فَإِنْ سُلِّمَ إلَيْهِ ، فَتَلِفَ الْعَبْدُ ، فَلِلْغَائِبِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ فَرَّطَ بِدَفْعِ مَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَالشَّرِيكَ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ ضَمِنَ الشَّرِيكُ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِهِ ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ ضَمِنَ الدَّافِعُ رَجَعَ عَلَى الْقَابِضِ لِذَلِكَ .
وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُ نَصِيبِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ إلَيْهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّسْلِيمُ إلَيْهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا .
( 3193 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ الْإِشْهَادُ فِي الْبَيْعِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ .
} وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ .
وَلِأَنَّهُ أَقْطَعُ لِلنِّزَاعِ ، وَأَبْعَدُ مِنْ التَّجَاحُدِ ، فَكَانَ أَوْلَى ، وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا لَهُ خَطَرٌ ، فَأَمَّا الْأَشْيَاءُ الْقَلِيلَةُ الْخَطَرِ ، كَحَوَائِجِ الْبَقَّالِ ، وَالْعَطَّارِ ، وَشَبَهِهِمَا ، فَلَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ فِيهَا تَكْثُرُ ، فَيَشُقُّ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا ، وَتَقْبُحُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا ، وَالتَّرَافُعُ إلَى الْحَاكِمِ مِنْ أَجْلِهَا ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ .
وَلَيْسَ الْإِشْهَادُ بِوَاجِبٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَا شَرْطًا لَهُ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي أَيُّوبَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : ذَلِكَ فَرْضٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَمِمَّنْ رَأَى الْإِشْهَادَ عَلَى الْبَيْعِ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ؛ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : صَارَ الْأَمْرُ إلَى الْأَمَانَةِ .
وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ ، } { وَاشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ سَرَاوِيلَ } ، { وَمِنْ أَعْرَابِيٍّ فَرَسًا ، فَجَحَدَهُ الْأَعْرَابِيُّ حَتَّى شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، } وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَشْهَدَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَبَايَعُونَ فِي عَصْرِهِ فِي الْأَسْوَاقِ ، فَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِشْهَادِ ، وَلَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِعْلُهُ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ كَانُوا يُشْهَدُونَ فِي كُلِّ بِيَاعَاتِهِمْ لَمَا أُخِلَّ بِنَقْلِهِ .
{ وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ أُضْحِيَّةً .
وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِشْهَادِ ، وَأَخْبَرَهُ عُرْوَةُ أَنَّهُ اشْتَرَى شَاتَيْنِ فَبَاعَ إحْدَاهُمَا ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ تَرْكَ الْإِشْهَادِ .
} وَلِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَغَيْرِهَا ، فَلَوْ وَجَبَ الْإِشْهَادُ فِي كُلِّ مَا يَتَبَايَعُونَهُ ، أَفْضَى إلَى الْحَرَجِ الْمَحْطُوطِ عَنَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } .
وَالْآيَةُ الْمُرَادُ بِهَا الْإِرْشَادُ إلَى حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالتَّعْلِيمِ ، كَمَا أَمَرَ بِالرَّهْنِ وَالْكَاتِبِ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ .
( 3194 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ .
وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقُولُوا : لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ ، فَقُولُوا : لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك } .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا .
وَرَأَى عِمْرَانُ الْقَصِيرُ رَجُلًا يَبِيعُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : هَذِهِ سُوقُ الْآخِرَةِ ، فَإِنْ أَرَدْت التِّجَارَةَ فَاخْرُجْ إلَى سُوقِ الدُّنْيَا .
فَإِنْ بَاعَ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِأَرْكَانِهِ ، وَشُرُوطِهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ وُجُودُ مُفْسِدٍ لَهُ ، وَكَرَاهَةُ ذَلِكَ لَا تُوجِبُ الْفَسَادَ ، كَالْغِشِّ فِي الْبَيْعِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ .
وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قُولُوا : لَا أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ " .
مِنْ غَيْرِ إخْبَارٍ بِفَسَادِ الْبَيْعِ ، دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ السَّلَمِ وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ عِوَضًا حَاضِرًا ، فِي عِوَضٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ ، وَيُسَمَّى سَلَمًا ، وَسَلَفًا .
يُقَالُ : أَسْلَمَ ، وَأَسْلَفَ ، وَسَلَّفَ .
وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ ، يَنْعَقِدُ بِمَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ ، وَبِلَفْظِ السَّلَمِ وَالسَّلَفِ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ ، وَهُوَ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } ، وَرَوَى سَعِيدٌ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَأَذِنَ فِيهِ ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ .
وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِلسَّلَمِ .
وَيَشْمَلُهُ بِعُمُومِهِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ ، فَقَالَ : مَنْ أَسَلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمُجَالِدِ ، قَالَ : { أَرْسَلَنِي أَبُو بُرْدَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ، فَسَأَلْتُهُمَا عَنْ السَّلَفِ ، فَقَالَا : كُنَّا نُصِيبُ الْمَغَانِمَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يَأْتِينَا أَنْبَاطٌ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ ، فَنُسَلِّفُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ .
فَقُلْت : أَكَانَ لَهُمْ زَرْعٌ أَمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ زَرْعٌ ؟ قَالَ : مَا كُنَّا نَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ .
} وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ ، وَلِأَنَّ الْمُثَمَّنَ فِي الْبَيْعِ أَحَدُ عِوَضَيْ الْعَقْدِ ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الذِّمَّةِ ،
كَالثَّمَنِ ، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالتِّجَارَاتِ يَحْتَاجُونَ إلَى النَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهَا ؛ لِتَكْمُلَ ، وَقَدْ تُعْوِزُهُمْ النَّفَقَةُ ، فَجَوَّزَ لَهُمْ السَّلَمَ ؛ لِيَرْتَفِقُوا ، وَيَرْتَفِقُ الْمُسْلِمُ بِالِاسْتِرْخَاصِ .
( 3195 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَكُلُّ مَا ضُبِطَ بِصِفَةٍ ، فَالسَّلَمُ فِيهِ جَائِزٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ السَّلَمَ ، لَا يَصِحُّ إلَّا بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلَافِهَا ظَاهِرًا ، فَيَصِحُّ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ ، وَالدَّقِيقِ ، وَالثِّيَابِ ، وَالْإِبْرَيْسَمِ ، وَالْقُطْنِ ، وَالْكَتَّانِ ، وَالصُّوفِ ، وَالشَّعْرِ ، وَالْكَاغَدِ ، وَالْحَدِيدِ ، وَالرَّصَاصِ ، وَالصُّفْرِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَالْأَدْوِيَةِ ، وَالطِّيبِ ، وَالْخُلُولِ ، وَالْأَدْهَانِ ، وَالشُّحُومِ ، وَالْأَلْبَانِ ، وَالزِّئْبَقِ ، وَالشَّبِّ ، وَالْكِبْرِيتِ ، وَالْكُحْلِ ، وَكُلِّ مَكِيلٍ ، أَوْ مَوْزُونٍ ، أَوْ مَزْرُوعٍ ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ فِي الثِّمَارِ ، وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فِي الْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرِ ، وَالزَّبِيبِ ، وَالزَّيْتِ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ فِي الطَّعَامِ جَائِزٌ ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ فِي الثِّيَابِ .
وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيمَا لَا يَنْضَبِطُ بِالصِّفَةِ ، كَالْجَوْهَرِ مِنْ اللُّؤْلُؤ ، وَالْيَاقُوتِ ، وَالْفَيْرُوزَجِ ، وَالزَّبَرْجَدِ ، وَالْعَقِيقِ ، وَالْبَلُّورِ ؛ لِأَنَّ أَثْمَانَهَا تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا بِالصِّغَرِ ، وَالْكِبَرِ ، وَحُسْنِ التَّدْوِيرِ ، وَزِيَادَةِ ضَوْئِهَا ، وَصَفَائِهَا ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا بِبَيْضِ الْعُصْفُورِ ، وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ ؛ وَلَا بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَتْلَفُ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ صِحَّةُ السَّلَمِ فِيهَا ، إذَا اشْتَرَطَ مِنْهَا شَيْئًا مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ وَزْنًا ، فَبِوَزْنٍ مَعْرُوفٍ .
وَاَلَّذِي قُلْنَاهُ أَوْلَى ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَا يَصِحُّ فِيمَا يَجْمَعُ أَخْلَاطًا مَقْصُودَةً غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ ، كَالْغَالِيَةِ ، وَالنِّدِّ ، وَالْمَعَاجِينِ الَّتِي يُتَدَاوَى بِهَا ؛ لِلْجَهْلِ بِهَا ، وَلَا فِي الْحَوَامِلِ مِنْ الْحَيَوَانِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَجْهُولٌ
غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ ، وَلَا فِي الْأَوَانِي الْمُخْتَلِفَةِ الرُّءُوسِ وَالْأَوْسَاطِ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَأْتِي عَلَيْهِ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ إذَا ضُبِطَ بِارْتِفَاعِ حَائِطِهِ ، وَدُورِ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي ذَلِكَ يَسِيرٌ ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْقِسِيِّ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْخَشَبِ ، وَالْقَرْنِ ، وَالْعَضَبِ ، والتوز ، إذْ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ مَقَادِيرِ ذَلِكَ ، وَتَمْيِيزُ مَا فِيهِ مِنْهَا .
وَقِيلَ : يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا ، وَالْأَوْلَى مَا ذَكَرْنَا .
قَالَ الْقَاضِي : وَاَلَّذِي يَجْمَعُ أَخْلَاطًا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ ؛ أَحَدُهَا ، مُخْتَلِطٌ مَقْصُودٌ مُتَمَيِّزٌ ، كَالثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ ، أَوْ قُطْنٍ وَإِبْرَيْسَمٍ ، فَيَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا ، لِأَنَّ ضَبْطَهَا مُمْكِنٌ الثَّانِي ، مَا خَلْطُهُ لِمَصْلَحَتِهِ ، وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ ، كَالْإِنْفَحَةِ فِي الْجُبْنِ ، وَالْمِلْحِ فِي الْعَجِينِ وَالْخُبْزِ ، وَالْمَاءِ فِي خَلِّ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ ، فَيَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ لِمَصْلَحَتِهِ .
الثَّالِثُ ، أَخْلَاطٌ مَقْصُودَةٌ غَيْرُ مُتَمَيِّزَةٍ ، كَالْغَالِيَةِ وَالنِّدِّ وَالْمَعَاجِينِ ، فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَا تَأْتِي عَلَيْهَا .
الرَّابِعُ ، مَا خَلْطُهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهِ كَاللَّبَنِ الْمَشُوبِ بِالْمَاءِ ، فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ .
( 3196 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ ، وَاللِّبَأِ ، وَمَا أَمْكَنَ ضَبْطُهُ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي كُلِّ مَعْمُولٍ بِالنَّارِ ؛ لِأَنَّ النَّارَ تَخْتَلِفُ ، وَيَخْتَلِفُ ، عَمَلُهَا ، وَيَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِذَلِكَ .
وَلَنَا : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ .
} فَظَاهِرُ هَذَا إبَاحَةُ السَّلَمِ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَمَعْدُودٍ ، وَلِأَنَّ عَمَلَ النَّارِ فِيهِ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ ، مُمْكِنٌ ضَبْطُهُ بِالنَّشَّافَةِ ، وَالرُّطُوبَةِ ، فَصَحَّ السَّلَمُ فِيهِ ، كَالْمُجَفَّفِ بِالشَّمْسِ .
فَأَمَّا اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ ، وَالشِّوَاءُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَفَاوَتُ كَثِيرًا ، وَعَادَاتُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ ، فَلَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْخُبْزِ وَاللِّبَأِ .
( 3197 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِي النُّشَّابِ وَالنَّبْلِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِمَا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ أَخْلَاطًا مِنْ خَشَبٍ ، وَعَقِبٍ وَرِيشٍ ، وَنَصْلٍ ، فَجَرَى مَجْرَى أَخْلَاطِ الصَّيَادِلَةِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ رِيشًا نَجِسًا ؛ لِأَنَّ رِيشَهُ مِنْ جَوَارِحِ الطَّيْرِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، وَيُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَتَفَاوَتُ الثَّمَنُ مَعَهَا غَالِبًا ، فَصَحَّ السَّلَمُ فِيهِ ، كَالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ ، وَمَا فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ مُتَمَيِّزٌ ، يُمْكِنُ ضَبْطُهُ وَالْإِحَاطَةُ بِهِ ، وَلَا يَتَفَاوَتُ كَثِيرًا ، فَلَا يُمْنَعُ ، كَالثِّيَابِ الْمَنْسُوجَةِ مِنْ جِنْسَيْنِ ، وَقَدْ يَكُونُ الرِّيشُ طَاهِرًا ، وَإِنْ كَانَ نَجِسًا لَكِنْ يَصِحُّ بَيْعُهُ ، فَلَمْ يُمْنَعْ السَّلَمُ فِيهِ ، كَنَجَاسَةِ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ .
( 3198 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ فَرُوِيَ ، لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالْجُوزَجَانِيِّ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى ، وَإِنَّ مِنْهَا السَّلَمَ فِي السِّنِّ .
وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا ، فَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ .
وَإِنْ اسْتَقْصَى صِفَاتِهِ الَّتِي يَخْتَلِفُ بِهَا الثَّمَنُ ، مِثْلُ : أَزَجُّ الْحَاجِبَيْنِ ، أَكْحَلُ الْعَيْنَيْنِ ، أَقْنَى الْأَنْفِ ، أَشَمُّ الْعِرْنِينِ ، أَهْدَبُ الْأَشْفَارِ ، أَلْمَى الشَّفَةِ ، بَدِيعُ الصِّفَةِ .
تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ ؛ لِنُدْرَةِ وُجُودِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ .
وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ، صِحَّةُ السَّلَمِ فِيهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ ، فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَمِمَّنْ رَوَيْنَا عَنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَحَكَاهُ الْجُوزَجَانِيُّ عَنْ عَطَاءٍ ، وَالْحَكَمِ .
لِأَنَّ أَبَا رَافِعٍ قَالَ : { اسْتَسْلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : { أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَبْتَعَ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ وَبِالْأَبْعِرَةِ إلَى مَجِيءِ الصَّدَقَةِ } .
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ الرِّبَا .
وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا ، فَثَبَتَ فِي السَّلَمِ كَالثِّيَابِ ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ ، فَلَمْ يَذْكُرْهُ أَصْحَابُ الِاخْتِلَافِ ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ مِنْ ضِرَابِ فَحْلِ بَنِي فُلَانٍ .
قَالَ الشَّعْبِيُّ : إنَّمَا كَرِهَ ابْنُ
مَسْعُودٍ السَّلَفَ فِي الْحَيَوَانِ ؛ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا نِتَاجَ فَحْلٍ مَعْلُومٍ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ؛ أَنَّهُ بَاعَ جَمَلًا لَهُ يُدْعَى عُصَيْفِيرَ ، بِعِشْرِينَ بَعِيرًا ، إلَى أَجَلٍ .
وَلَوْ ثَبَتَ قَوْلُ عُمَرَ فِي تَحْرِيمِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ، فَقَدْ عَارَضَهُ قَوْلُ مَنْ سَمَّيْنَا مِمَّنْ وَافَقَنَا .
( 3199 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي السَّلَمِ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ ، مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ وَلَا يُزْرَعُ ، فَنَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا أَرَى السَّلَمَ إلَّا فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُوقَفُ عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : مَعْنَاهُ يُوقَفُ عَلَيْهِ بِحَدٍّ مَعْلُومٍ لَا يَخْتَلِفُ ، كَالزَّرْعِ ، فَأَمَّا الرُّمَّانُ وَالْبَيْضُ ، فَلَا أَرَى السَّلَمَ فِيهِ .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ وَعَنْ إِسْحَاقَ ، أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الرُّمَّانِ ، وَالسَّفَرْجَلِ ، وَالْبِطِّيخِ ، وَالْقِثَّاءِ ، وَالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ ، وَمِنْهُ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي كُلِّ مَعْدُودٍ مُخْتَلِفٍ ، كَاَلَّذِي سَمَّيْنَاهُ ، وَكَالْبُقُولِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْبَقْلِ بِالْحَزْمِ ؛ لِأَنَّ الْحَزْمَ يُمْكِنُ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، فَلَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِيهِ ، كَالْجَوَاهِرِ .
وَنَقَلَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ وَابْنُ مَنْصُورٍ ، جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْفَوَاكِهِ ، وَالسَّفَرْجَلِ ، وَالرُّمَّانِ ، وَالْمَوْزِ ، وَالْخَضْرَاوَاتِ ، وَنَحْوِهَا ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَارَبُ وَيَنْضَبِطُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، وَمَا لَا يَتَقَارَبُ يَنْضَبِطُ بِالْوَزْنِ ، كَالْبُقُولِ وَنَحْوهَا ، فَصَحَّ السَّلَمُ فِيهِ ، كَالْمَزْرُوعِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعَ مِنْ السَّلَمِ فِي الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ .
وَلَعَلَّ هَذَا قَوْلٌ آخَرُ ، فَيَكُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ .
( 3200 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا السَّلَمُ فِي الرُّءُوسِ وَالْأَطْرَافِ ، فَيَخْرُجُ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ فِيهَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ أَيْضًا ، كَالرِّوَايَتَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ فِيهِ عَظْمٌ يَجُوزُ شِرَاؤُهُ ، فَجَازَ السَّلَمُ فِيهِ ، كَبَقِيَّةِ اللَّحْمِ .
وَالْآخَرُ ، لَا يَجُوزُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَهُ الْعِظَامُ وَالْمَشَافِرُ ، وَاللَّحْمُ فِيهِ قَلِيلٌ ، وَلَيْسَ بِمَوْزُونٍ ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ .
فَإِنْ كَانَ مَطْبُوخًا ، أَوْ مَشْوِيًّا ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ .
وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاثَرُ وَيَخْتَلِفُ .
وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِ الْقَاضِي مِنْ أَصْحَابِنَا ، حُكْمُ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ غَيْرِهِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَالْعَقْدُ يَقْتَضِيه سَلِيمًا مِنْ التَّأَثُّرِ ، وَالْعَادَةُ فِي طَبْخِهِ تَتَفَاوَتُ ، فَأَشْبَهَ غَيْرَهُ .
( 3201 ) فَصْلٌ : وَفِي الْجُلُودِ مِنْ الْخِلَافِ مِثْلُ مَا فِي الرُّءُوسِ وَالْأَطْرَافِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ ، فَالْوَرِكُ ثَخِينٌ قَوِيٌّ ، وَالصَّدْرُ ثَخِينٌ رِخْوٌ ، وَالْبَطْنُ رَقِيقٌ ضَعِيفٌ ، وَالظَّهْرُ أَقْوَى ، فَيَحْتَاجُ إلَى وَصْفِ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ ، وَلَا يُمْكِنُ ذَرْعُهُ ؛ لِاخْتِلَافِ أَطْرَافِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي ذَلِكَ مَعْلُومٌ ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ السَّلَمِ فِيهِ ، كَالْحَيَوَانِ ؛ فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْجِلْدِ وَالْأَطْرَافِ وَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ وَمَا فِي الْبَطْنِ ، وَكَذَلِكَ الرَّأْسُ يَشْتَمِلُ عَلَى لَحْمِ الْخَدَّيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ السَّلَمِ فِيهِ ، كَذَا هَاهُنَا .
( 3202 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ } .
وَظَاهِرُهُ إبَاحَةُ السَّلَمِ فِي كُلِّ مَوْزُونٍ .
وَلِأَنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ، فَاللَّحْمُ أَوْلَى .
الشَّرْطُ الثَّانِي ، أَنْ يَضْبِطَهُ بِصِفَاتِهِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهَا ظَاهِرًا فَإِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ عِوَضٌ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ كَالثَّمَنِ ، وَلِأَنَّ الْعِلْمَ شَرْطٌ فِي الْمَبِيعِ ، وَطَرِيقُهُ إمَّا الرُّؤْيَةُ وَإِمَّا الْوَصْفُ .
وَالرُّؤْيَةُ مُمْتَنِعَةٌ هَاهُنَا ، فَتَعَيَّنَ الْوَصْفُ .
وَالْأَوْصَافُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : مُتَّفَقٌ عَلَى اشْتِرَاطِهَا ، وَمُخْتَلَفٌ فِيهَا فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَوْصَافٍ ؛ الْجِنْسُ ، وَالنَّوْعُ ، وَالْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ .
فَهَذِهِ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلّ مُسْلَمٍ فِيهِ .
وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي اشْتِرَاطِهَا .
وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
الضَّرْبُ الثَّانِي ، مَا يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِاخْتِلَافِهِ مِمَّا عَدَا هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَوْصَافِ ، وَهَذِهِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَنَذْكُرُهَا عِنْدَ ذِكْرِهِ .
وَذِكْرُهَا شَرْطٌ فِي السَّلَمِ عِنْدَ إمَامِنَا وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَكْفِي ذِكْرُ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ الصِّفَاتِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَبْقَى مِنْ الْأَوْصَافِ ، مِنْ اللَّوْنِ وَالْبَلَدِ وَنَحْوِهِمَا ، مَا يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ وَالْغَرَضُ لِأَجْلِهِ ، فَوَجَبَ ، ذِكْرُهُ ، كَالنَّوْعِ .
وَلَا يَجِبُ اسْتِقْصَاءُ كُلِّ الصِّفَاتِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ ، وَقَدْ يَنْتَهِي الْحَالُ فِيهَا إلَى أَمْرٍ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، إذْ يَبْعُدُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحِلِّ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ كُلِّهَا ، فَيَجِبُ الِاكْتِفَاءُ بِالْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَخْتَلِفُ الثَّمَنُ بِهَا ظَاهِرًا .
وَلَوْ اسْتَقْصَى الصِّفَاتِ حَتَّى انْتَهَى إلَى حَالَ يَنْدُرُ وُجُودُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ ، بَطَلَ السَّلَمُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَامَ الْوُجُودِ عِنْدَ الْمَحِلِّ ، وَاسْتِقْصَاءُ الصِّفَاتِ يَمْنَعُ مِنْهُ .
وَلَوْ شَرَطَ الْأَجْوَدَ ، لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ
عَلَى الْأَجْوَدِ .
وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ نَادِرًا .
وَإِنْ شَرَطَ الْأَرْدَأَ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ لِذَلِكَ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ لَا يُسْلِمُ شَيْئًا إلَّا كَانَ خَيْرًا مِمَّا شَرَطَهُ ، فَلَا يَعْجِزُ إذًا عَنْ تَسْلِيمِ مَا يَجِبُ قَبُولُهُ ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَلَوْ أَسْلَمَ فِي جَارِيَةٍ وَابْنَتِهَا ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَضْبِطَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِصِفَاتٍ ، وَيَتَعَذَّرُ وُجُودُ تِلْكَ الصِّفَاتِ فِي جَارِيَةٍ وَابْنَتِهَا .
وَكَذَلِكَ إنْ أَسْلَمَ فِي جَارِيَةٍ وَأُخْتِهَا أَوْ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا أَوْ ابْنَةِ عَمِّهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ عَلَى صِفَةِ خِرْقَةٍ أَحْضَرَهَا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِجَوَازِ أَنْ تَهْلِكَ الْخِرْقَةُ ، وَهَذَا غَرَرٌ ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، فَمَنَعَ الصِّحَّةَ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ مِكْيَالًا بِعَيْنِهِ ، أَوْ صَنْجَةً بِعَيْنِهَا .
( 3203 ) فَصْلٌ : وَالْجِنْسُ ، وَالْجَوْدَةُ ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا ، شَرْطَانِ فِي كُلّ مُسْلَمٍ فِيهِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى تَكْرِيرِ ذِكْرِهِمَا فِي كُلّ مُسْلَمٍ فِيهِ ، وَيَذْكُرُ مَا سِوَاهُمَا ، فَيَصِفُ التَّمْرَ بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ ؛ النَّوْعُ ، بَرْنِيُّ أَوْ مَعْقِلِيٌّ ، وَالْبَلَدُ ، إنْ كَانَ يَخْتَلِفُ ، فَيَقُولُ بَغْدَادِيٌّ ، أَوْ بَصْرِيٌّ ؛ فَإِنَّ الْبَغْدَادِيَّ أَحْلَى وَأَقَلُّ بَقَاءً لِعُذُوبَةِ الْمَاءِ ، وَالْبَصْرِيُّ بِخِلَافِ ذَلِكَ .
وَالْقَدْرُ ، كِبَارٌ أَوْ صِغَارٌ ، وَحَدِيثٌ أَوْ عَتِيقٌ .
فَإِنْ أَطْلَقَ الْعَتِيقَ ، فَأَيَّ عَتِيقٍ أَعْطَى جَازَ ، مَا لَمْ يَكُنْ مَسُوسًا وَلَا حَشَفًا وَلَا مُتَغَيِّرًا .
وَإِنْ قَالَ : عَتِيقُ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ فَهُوَ عَلَى مَا قَالَ .
فَأَمَّا اللَّوْنُ ، فَإِنْ كَانَ النَّوْعُ الْوَاحِدُ مُخْتَلِفًا ، كالطبرز يَكُونُ أَحْمَرَ ، وَيَكُونُ أَسْوَدَ .
ذَكَرَهُ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَالرُّطَبُ كَالتَّمْرِ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ ، إلَّا الْحَدِيثَ وَالْعَتِيقَ ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ الرُّطَبِ إلَّا مَا أُرْطِبَ كُلُّهُ .
وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ مُشَدَّخًا ، وَلَا قَدِيمًا قَارَبَ أَنْ يُتْمِرَ .
وَهَكَذَا مَا جَرَى مَجْرَاهُ ، مِنْ الْعِنَبِ وَالْفَوَاكِهِ .
( 3204 ) فَصْلٌ : وَيَصِفُ الْبُرَّ بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ ؛ النَّوْعُ ، فَيَقُولُ : سَبِيلَةٌ أَوْ سَلْمُونِيٌّ .
وَالْبَلَدُ ، فَيَقُولُ : حُورَانِيٌّ أَوْ بَلْقَاوِيٌّ أَوْ سِمَالِيٌّ .
وَصِغَارُ الْحَبِّ أَوْ كِبَارُهُ ، وَحَدِيثٌ أَوْ عَتِيقٌ .
وَإِنْ كَانَ النَّوْعُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ لَوْنُهُ .
ذَكَرَهُ ، وَلَا يَسْلَمُ فِيهِ إلَّا مُصَفًّى ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الشَّعِيرِ وَالْقُطْنِيَّاتِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ .
( 3205 ) فَصْلٌ : وَيَصِفُ الْعَسَلَ بِثَلَاثَةِ أَوْصَافٍ الْبَلَدِيُّ ، فِيجِيٌّ أَوْ نَحْوُهُ .
وَيُجْزِئُ ذَلِكَ عَنْ النَّوْعِ .
وَالزَّمَانِ ؛ رَبِيعِيٌّ أَوْ خَرِيفِيٌّ ، أَوْ صَيْفِيٌّ .
وَاللَّوْنُ ؛ أَبْيَضُ أَوْ أَحْمَرُ ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا مُصَفًّى مِنْ الشَّمْعِ .
( 3206 ) فَصْلٌ : وَلَا بُدَّ فِي الْحَيَوَانِ كُلِّهِ مِنْ ذِكْرِ النَّوْعِ ، وَالسِّنِّ ، وَالذُّكُورِيَّةِ ، وَالْأُنُوثِيَّةِ ، وَيُذْكَرُ اللَّوْنُ إذَا كَانَ النَّوْعُ الْوَاحِدُ يَخْتَلِفُ ، وَيَرْجِعُ فِي سِنِّ الْغُلَامِ إلَيْهِ إنْ كَانَ بَالِغًا ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ سَيِّدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ رَجَعَ فِي قَوْلِهِ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ ، عَلَى مَا يَغْلِبُ عَلَى ظُنُونِهِمْ تَقْرِيبًا .
وَإِذَا ذَكَرَ النَّوْعَ فِي الرَّقِيقِ وَكَانَ مُخْتَلِفًا ، مِثْلَ التُّرْكِيِّ ؛ مِنْهُمْ الْجِكِلِيُّ وَالْخَزَرِيُّ ، فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ ، أَوْ يَكْفِي ذِكْرُ النَّوْعِ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ .
وَلَا يَحْتَاجُ فِي الْجَارِيَةِ إلَى ذِكْرِ الْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ وَلَا الْجُعُودَةِ وَالسُّبُوطَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ اخْتِلَافًا بَيِّنًا ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُرَاعَى ، كَمَا فِي صِفَاتِ الْحُسْنِ وَالْمَلَاحَةِ ، فَإِنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، لَزِمَهُ .
وَيَذْكُرُ الثُّيُوبَةَ وَالْبَكَارَةَ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَرَضُ .
وَيَذْكُرُ الْقَدَّ ؛ خُمَاسِيٌّ أَوْ سُدَاسِيٌّ ، يَعْنِي خَمْسَةَ أَشْبَارٍ أَوْ سِتَّةَ أَشْبَارٍ .
قَالَ أَحْمَدُ ، يَقُولُ : خُمَاسِيٌّ سُدَاسِيٌّ ، أَسْوَدُ أَبْيَضُ ، أَعْجَمِيٌّ أَوْ فَصِيحٌ .
فَأَمَّا الْإِبِلُ فَيَضْبِطُهَا بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ ، فَيَقُولُ : مِنْ نِتَاجِ بَنِي فُلَانٍ .
وَالسِّنُّ ، بِنْتُ مَخَاضٍ أَوْ بِنْتُ لَبُونٍ .
وَاللَّوْنُ ، بَيْضَاءُ أَوْ حَمْرَاءُ أَوْ وَرْقَاءُ ، وَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى ، فَإِنْ كَانَ نِتَاجٌ يَخْتَلِفُ فِيهِ مَهْرِيَّةٌ وَأَرْحَبِيَّةٌ ، فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى ضَبْطِ ذَلِكَ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ؛ وَمَا زَادَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى ذِكْرِهِ ، وَإِنْ ذَكَرَ بَعْضَهُ كَانَ تَأْكِيدًا وَلَزِمَهُ .
وَأَوْصَافُ الْخَيْلِ ، كَأَوْصَافِ الْإِبِلِ .
وَأَمَّا الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ ، فَلَا نِتَاجَ لَهَا ، فَيَجْعَلُ مَكَانَ ذَلِكَ نِسْبَتَهَا إلَى بَلَدِهَا .
وَأَمَّا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ، فَإِنْ عُرِفَ لَهَا نِتَاجٌ ، فَهِيَ كَالْإِبِلِ ، وَإِلَّا فَهِيَ
كَالْحُمُرِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّوْعِ فِي هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ ، فَيَقُولُ فِي الْإِبِلِ : بُخْتِيَّةٌ أَوْ عَرَبِيَّةٌ ، وَفِي الْخَيْلِ ، عَرَبِيَّةٌ أَوْ هَجِينٌ أَوْ بِرْذَوْنٌ .
وَفِي الْغَنَمِ ، ضَأْنٌ أَوْ مَعْزٌ ، إلَّا الْحُمُرَ وَالْبِغَالَ ، فَلَا نَوْعَ فِيهِمَا .
( 3207 ) فَصْلٌ : وَيَذْكُرُ فِي اللَّحْمِ السِّنَّ ، وَالذُّكُورِيَّةَ ، وَالْأُنُوثِيَّةَ ، وَالسِّمَنَ ، وَالْهُزَالَ ، وَرَاعِيًا أَوْ مَعْلُوفًا ، وَنَوْعَ الْحَيَوَانِ ، وَمَوْضِعَ اللَّحْمِ مِنْهُ .
وَيَزِيدُ فِي الذَّكَرِ ، فَحْلًا أَوْ خَصِيًّا .
وَإِنْ كَانَ مِنْ صَيْدٍ ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ الْعَلَفِ وَالْخِصَاءِ .
وَيَذْكُرُ الْآلَةَ الَّتِي يُصَادُ بِهَا ، مِنْ جَارِحَةٍ أَوْ أُحْبُولَةٍ .
وَفِي الْجَارِحَةِ يَذْكُرُ صَيْدَ فَهْدٍ ، أَوْ كَلْبٍ ، أَوْ صَقْرٍ ، فَإِنَّ الْأُحْبُولَةَ يُؤْخَذُ الصَّيْدُ مِنْهَا سَلِيمًا .
وَصَيْدُ الْكَلْبِ خَيْرٌ مِنْ صَيْدِ الْفَهْدِ ؛ لِكَوْنِ الْكَلْبِ أَطْيَبَ الْحَيَوَانِ نَكْهَةً .
قِيلَ : هُوَ أَطْيَبُ الْحَيَوَانِ نَكْهَةً ؛ لِكَوْنِهِ مَفْتُوحَ الْفَمِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ ، وَالصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهِ يَسِيرٌ ، وَلَا يَكَادُ الثَّمَنُ يَتَبَايَنُ بِاخْتِلَافِهِ ، وَلَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ .
وَإِذَا لَمْ يَحْتَجْ فِي الرَّقِيقِ إلَى ذِكْرِ الْبَكَارَةِ وَالثُّيُوبَةِ ، وَالسِّمَنِ ، وَالْهُزَالِ ، وَأَشْبَاهِهَا مِمَّا يَتَبَايَنُ بِهَا الثَّمَنُ وَتَخْتَلِفُ الرَّغَبَاتُ بِهَا ، وَيَعْرِفُهَا النَّاسُ ، فَهَذَا أُولَى .
وَيَلْزَمُ قَبُولُ اللَّحْمِ بِعِظَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ هَكَذَا يُقْطَعُ ، فَهُوَ كَالنَّوَى فِي التَّمْرِ ، وَإِنْ كَانَ السَّلَمُ فِي لَحْمِ طَيْرٍ ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ الذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ ، إلَّا أَنْ يَخْتَلِفَ بِذَلِكَ ، كَلَحْمِ الدَّجَاجِ ، وَلَا إلَى ذِكْرِ مَوْضِعِ اللَّحْمِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا يَأْخُذُ مِنْهُ بَعْضَهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الرَّأْسِ وَالسَّاقَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا لَحْمَ عَلَيْهَا .
وَفِي السَّمَكِ يَذْكُرُ النَّوْعَ ؛ بَرَدِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ ، وَالْكِبَرَ وَالصِّغَرَ ، وَالسِّمَنَ وَالْهُزَالَ ، وَالطَّرِيَّ وَالْمِلْحَ ، وَلَا يَقْبَلُ الرَّأْسَ وَالذَّنَبَ ، وَلَهُ مَا بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا يَأْخُذُ بَعْضَهُ ، ذَكَرَ مَوْضِعَ اللَّحْمِ مِنْهُ .
( 3208 ) فَصْلٌ : وَيَضْبِطُ السَّمْنَ بِالنَّوْعِ مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ أَوْ بَقَرٍ ، وَاللَّوْنِ ، أَبْيَضَ أَوْ أَصْفَرَ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيَذْكُرُ الْمَرْعِيَّ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ حَدِيثٍ أَوْ عَتِيقٍ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ يَقْتَضِي الْحَدِيثَ ، وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِي عَتِيقِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ ، وَلَا يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يُضْبَطُ بِهِ .
وَيَصِفُ الزُّبْدَ بِأَوْصَافِ السَّمْنِ ، وَيَزِيدُ ، زُبْدُ يَوْمِهِ أَوْ أَمْسِهِ .
وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ مُتَغَيِّرٍ فِي السَّمْنِ أَوْ الزُّبْدِ ، وَلَا رَقِيقٍ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ رِقَّتُهُ لِلْحَرِّ .
وَيَصِفُ اللَّبَنَ بِالنَّوْعِ وَالْمَرْعَى ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اللَّوْنِ ، وَلَا حَلْبَةِ يَوْمِهِ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ مُتَغَيِّرٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَيَصِحُّ السَّلَمَ فِي الْمَخِيضِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ السَّلَمَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ ، وَهُوَ الْمَاءُ ، فَصَارَ الْمَقْصُودُ مَجْهُولًا .
وَلَنَا أَنَّ الْمَاءَ يَسِيرٌ ، يُتْرَكُ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ ، جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ السَّلَمَ فِيهِ ، كَالْمَاءِ فِي الشَّيْرَجِ ، وَالْمِلْحِ وَالْإِنْفَحَة فِي الْجُبْنِ ، وَالْمَاءِ فِي خَلِّ التَّمْرِ ، وَيَصِفُ الْجُبْنَ بِالنَّوْعِ وَالْمَرْعَى ، وَرَطْبٍ أَوْ يَابِسٍ ، وَيَصِفُ اللِّبَأَ بِصِفَاتِ اللَّبَنِ ، وَيَزِيدُ اللَّوْنَ ، وَيَذْكُرُ الطَّبْخَ أَوْ لَيْسَ بِمَطْبُوخٍ .
( 3209 ) فَصْلٌ : وَتُضْبَطُ الثِّيَابُ بِسِتَّةِ أَوْصَافٍ ؛ النَّوْعُ ، كَتَّانٌ أَوْ قُطْنٌ .
وَالْبَلَدُ .
وَالطُّولُ .
وَالْعَرْضُ .
وَالصَّفَاقَةُ وَالرِّقَّةُ .
وَالْغِلَظُ وَالدِّقَّةُ .
وَالنُّعُومَةُ وَالْخُشُونَةُ .
وَلَا يَذْكُرُ الْوَزْنَ ، فَإِنْ ذَكَرَهُ ، لَمْ يَصِحَّ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَاتِهِ الْمُشْتَرَطَةِ ، وَكَوْنِهِ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ ، فَيَكُونُ فِيهِ تَغْرِيرٌ ؛ لِتَعَذُّرِ اتِّفَاقِهِ .
وَإِنْ ذَكَرَ خَامًا أَوْ مَقْصُورًا ، فَلَهُ مَا شَرَطَ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، جَازَ ، وَلَهُ خَامٌ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ .
وَإِنْ ذَكَرَ مَغْسُولًا أَوْ لَبِيسًا .
لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ ، وَلَا يَنْضَبِطُ .
فَإِنْ أَسْلَمَ فِي مَصْبُوغٍ ، وَكَانَ مِمَّا يُصْبَغُ غَزْلُهُ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ الثَّوْبِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُصْبَغُ بَعْدَ نَسْجِهِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ صَبْغَ الثَّوْبِ يَمْنَعُ الْوُقُوفَ عَلَى نُعُومَتِهِ وَخُشُونَتِهِ ، وَلِأَنَّ الصِّبْغَ غَيْرَ مَعْلُومٍ .
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ مُخْتَلِفِ الْغُزُولِ ؛ كَقُطْنِ وَإِبْرَيْسَمَ ، أَوْ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ ، أَوْ صُوفٍ ، وَكَانَتْ الْغُزُولُ مَضْبُوطَةً بِأَنْ يَقُولَ : السُّدَى إبْرَيْسَمُ ، وَاللُّحْمَةُ كَتَّانٌ أَوْ نَحْوُهُ ، جَازَ .
وَلِهَذَا جَازَ السَّلَمُ فِي الْخَزِّ ، وَهُوَ مِنْ غَزْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ .
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي ثَوْبٍ مَوْشِيٍّ ، وَكَانَ الْوَشْيُ مِنْ تَمَامِ نَسْجِهِ ، جَازَ .
وَإِنْ كَانَ زِيَادَةً ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْضَبِطُ .
( 3210 ) فَصْلٌ : وَيَصِفُ غَزْلَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ ، بِالْبَلَدِ وَاللَّوْنِ ، وَالْغِلَظِ وَالدِّقَّةِ ، وَالنُّعُومَةِ وَالْخُشُونَةِ وَيَصِفُ الْقُطْنَ بِذَلِكَ ، وَيَجْعَلُ مَكَانَ الْغِلَظِ وَالدِّقَّةِ الطُّولَ وَالْقِصَرَ .
وَإِنْ شَرَطَ فِي الْقُطْنِ مَنْزُوعَ الْحَبِّ ، جَازَ .
وَإِنْ أَطْلَقَ كَانَ لَهُ بِحَبِّهِ ، كَالتَّمْرِ بِنَوَاهُ .
يَصِفُ الْإِبْرَيْسَمَ بِالْبَلَدِ وَاللَّوْنِ ، وَالْغِلَظِ وَالدِّقَّةِ ، يَصِفُ الصُّوفَ بِالْبَلَدِ وَاللَّوْنِ ، وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ ، وَالزَّمَانِ ، خَرِيفِيٍّ أَوْ رَبِيعِيٍّ ؛ لِأَنَّ صُوفَ الْخَرِيفِ أَنْظَفُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيَصِفُهُ بِالذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ ؛ لِأَنَّ صُوفَ الْإِنَاثِ أَنْعَمُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي هَذَا يَسِيرٌ .
وَعَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ نَقِيًّا مِنْ الشَّوْكِ وَالْبَعْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ .
وَإِنْ اشْتَرَطَهُ ، جَازَ ، وَكَانَ تَأْكِيدًا .
وَالشَّعْرُ وَالْوَبَرُ ، كَالصُّوفِ .
وَيَصِحُّ السَّلَمُ فِي الْكَاغَدِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ ، وَيَصِفُهُ بِالطُّولِ وَالْعَرْضِ ، وَالدِّقَّةِ وَالْغِلَظِ ، وَاسْتِوَاءِ الصَّنْعَةِ ، وَمَا يَخْتَلِفُ بِهِ الثَّمَنُ .
( 3211 ) فَصْلٌ : وَيَضْبِطُ النُّحَاسُ ، وَالرَّصَاصُ ، وَالْحَدِيدُ بِالنَّوْعِ ، فَيَقُولُ فِي الرَّصَاصِ : قَلْعِيٌّ أَوْ أُسْرُبٌ .
وَالنُّعُومَةُ وَالْخُشُونَةُ ، وَاللَّوْنُ إنْ كَانَ يَخْتَلِفُ .
وَيَزِيدُ فِي الْحَدِيدِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، فَإِنَّ الذَّكَرَ أَحَدُّ وَأَمْضَى .
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي الْأَوَانِي الَّتِي يُمْكِنُ ضَبْطُ قَدْرِهَا وَطُولِهَا وَسُمْكِهَا وَدُورِهَا ، كَالْأَسْطَالِ الْقَائِمَةِ الْحِيطَانِ ، وَالطُّسُوتِ ، جَازَ .
وَيَضْبِطُهَا بِذَلِكَ كُلِّهِ .
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي قِصَاعٍ وَأَقْدَاحٍ مِنْ الْخَشَبِ ، جَازَ ، وَيَذْكُرُ نَوْعَ خَشَبِهَا مِنْ جَوْزٍ ، أَوْ تُوتٍ ، وَقَدْرَهَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، وَالْعُمْقِ وَالضِّيقِ ، وَالثَّخَانَةِ وَالرِّقَّةِ وَأَيِّ عَمَلٍ .
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي سَيْفٍ ، ضَبَطَهُ بِنَوْعِ حَدِيدِهِ ، وَطُولِهِ وَعَرْضِهِ ، وَرِقَّتِهِ وَغِلَظِهِ ، وَبَلَدِهِ ، وَقَدِيمِ الطَّبْعِ أَوْ مُحْدَثٍ ، مَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَيَصِفُ قَبْضَتَهُ وَجَفْنَهُ .
( 3212 ) فَصْلٌ : وَالْخَشَبُ عَلَى أَضْرُبٍ ؛ مِنْهُ مَا يُرَادُ لِلْبِنَاءِ ، فَيَذْكُرُ نَوْعَهُ ، وَيُبْسَهُ وَرُطُوبَتَهُ ، وَطُولَهُ ، وَدُورَهُ ، أَوْ سُمْكَهُ ، وَعَرْضَهُ .
وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مِنْ طَرَفِهِ إلَى طَرَفِهِ بِذَلِكَ الْعَرْضِ وَالدَّوْرِ .
فَإِنْ كَانَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ أَغْلَظَ مِمَّا وَصَفَ ، فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا ، وَإِنْ كَانَ أَدَقَّ ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ .
وَإِنْ ذَكَرَ الْوَزْنَ أَوْ سَمْحًا ، جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، جَازَ ، وَلَهُ سَمْحٌ خَالٍ مِنْ الْعُقَدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ، عَيْبٌ .
وَإِنْ كَانَ لِلْقِسِيِّ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ ، وَزَادَ سَهْلِيًّا ، أَوْ جَبَلِيًّا ، أَوْ خُوطًا أَوْ فِلْقَةً ؛ فَإِنَّ الْجَبَلِيَّ أَقْوَى مِنْ السَّهْلِيِّ ؛ وَالْخُوطَ أَقْوَى مِنْ الْفِلْقَةِ .
وَيَذْكُرُ فِيمَا لِلْوَقُودِ الْغِلْظَةَ ، وَالْيُبْسَ ، وَالرُّطُوبَةَ ، وَالْوَزْنَ وَيَذْكُرُ فِيمَا لِلنَّصْبِ النَّوْعَ ، وَالْغِلَظَ ، وَسَائِرَ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَيُخْرِجُهُ مِنْ الْجَهَالَةِ .
وَإِنْ أَسْلَمَ فِي النُّشَّابِ وَالنَّبْلِ ، ضَبَطَهُ بِنَوْعِ جِنْسِهِ ، وَطُولِهِ وَقِصَرِهِ ، وَدِقَّتِهِ وَغِلَظِهِ ، وَلَوْنِهِ ، وَنَصْلِهِ ، وَرِيشِهِ .
( 3213 ) فَصْلٌ : وَالْحِجَارَةُ مِنْهَا مَا هُوَ لِلْأَرْحِيَةِ ، فَيَضْبِطُهَا بِالدَّوْرِ ، وَالثَّخَانَةِ ، وَالْبَلَدِ ، وَالنَّوْعِ إنْ كَانَ يَخْتَلِفُ .
وَمِنْهَا مَا هُوَ لِلْبِنَاءِ ، فَيَذْكُرُ النَّوْعَ ، وَاللَّوْنَ ، وَالْقَدْرَ وَالْوَزْنَ .
وَيَذْكُرُ فِي حِجَارَةِ الْآنِيَةِ اللَّوْنَ ، وَالنَّوْعَ ، وَالْقَدْرَ ، وَاللِّينَ ، وَالْوَزْنَ .
وَيَصِفُ الْبَلُّورَ بِأَوْصَافِهِ .
يَصِفُ الْآجُرَّ وَاللَّبِنَ بِمَوْضِعِ التُّرْبَةِ ، وَاللَّوْنِ ، وَالدَّوْرِ ، وَالثَّخَانَةِ ، وَإِنْ أَسْلَمَ فِي الْجِصِّ ، وَالنُّورَةِ ، ذَكَرَ اللَّوْنَ ، وَالْوَزْنَ .
وَلَا يَقْبَلُ مَا أَصَابَهُ الْمَاءُ فَجَفَّ ، وَلَا مَا قَدُمَ قِدَمًا يُؤَثِّرُ فِيهِ .
وَيَضْبِطُ التُّرَابَ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَيَقْبَلُ الطِّينَ الَّذِي قَدْ جَفَّ إذَا كَانَ لَا يَتَأَثَّرُ بِذَلِكَ .
( 3214 ) فَصْلٌ : وَيَضْبِطُ الْعَنْبَرَ بِلَوْنِهِ وَالْبَلَدِ ، وَإِنْ شَرَطَ قِطْعَةً أَوْ قِطْعَتَيْنِ ، جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ، فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ صِغَارًا أَوْ كِبَارًا ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْعَنْبَرَ نَبَاتٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَنْبَاتِ الْبَحْرِ .
وَيَضْبِطُ الْعُودَ الْهِنْدِيَّ بِبَلَدِهِ ، وَمَا يُعْرَفُ بِهِ .
وَيَضْبِطُ الْمَصْطَكَى ، وَاللُّبَانَ ، وَالْغِرَاءَ الْعَرَبِيَّ ، وَصَمْغَ الشَّجَرِ ، وَالْمِسْكَ ، وَسَائِرُ مَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ، بِمَا يَخْتَلِفُ بِهِ .
( 3215 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( إذَا كَانَ بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ ، أَوْ عَدَدٍ مَعْلُومٍ ) هَذَا الشَّرْطُ الثَّالِثُ .
وَهُوَ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكَيْلِ إنْ كَانَ مَكِيلًا ، وَبِالْوَزْنِ إنْ كَانَ مَوْزُونًا ، وَبِالْعَدَدِ إنْ كَانَ مَعْدُودًا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } .
وَلِأَنَّهُ عِوَضٌ غَيْرُ مُشَاهَدٍ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، فَاشْتُرِطَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ ، كَالثَّمَنِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي اعْتِبَارِ مَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ خِلَافًا .
وَيَجِبُ أَنْ يُقَدِّرَهُ بِمِكْيَالِ ، أَوْ أَرْطَالٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ الْعَامَّةِ .
فَإِنْ قَدَّرَهُ بِإِنَاءٍ مَعْلُومٍ ، أَوْ صَنْجَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، غَيْرِ مَعْلُومَةٍ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ ، فَيَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَهَذَا غَرَرٌ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَقْدُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلَمَ فِي الطَّعَامِ لَا يَجُوزُ بِقَفِيزٍ لَا يُعْلَمُ عِيَارُهُ ، وَلَا فِي ثَوْبٍ بِذَرْعِ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ الْمِعْيَارَ لَوْ تَلِفَ ، أَوْ مَاتَ فُلَانٌ ، بَطَلَ السَّلَمُ .
مِنْهُمْ ؛ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَإِنْ عَيَّنَ مِكْيَالَ رَجُلٍ أَوْ مِيزَانَهُ ، وَكَانَا مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ ، جَازَ .
وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِمَا .
وَإِنْ لَمْ يُعْرَفَا ، لَمْ يَجُزْ .
( 3216 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَسْلَمَ فِيمَا يُكَالُ وَزْنًا ، أَوْ فِيمَا يُوزَنُ كَيْلًا ، فَنَقَلَ الْأَثْرَمُ ، أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَدَ عَنْ السَّلَمِ فِي التَّمْرِ وَزْنًا ؟ فَقَالَ : لَا إلَّا كَيْلًا .
قُلْت : إنَّ النَّاسَ هَاهُنَا لَا يَعْرِفُونَ الْكَيْلَ .
قَالَ : وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الْكَيْلَ .
فَيَحْتَمِلُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْمَكِيلِ إلَّا كَيْلًا ، وَلَا فِي الْمَوْزُونِ إلَّا وَزْنًا .
وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي ، وَابْنُ أَبِي مُوسَى ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ يُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ فِي الْأَصْلِ ، كَبَيْعِ الرُّطُوبَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ .
وَلِأَنَّهُ قَدَّرَ الْمُسْلَمَ بِغَيْرِ مَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ فِي الْأَصْلِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي الْمَذْرُوعِ وَزْنًا .
وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي اللَّبَنِ إذَا كَانَ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ السَّلَمِ فِي الْمَكِيلِ وَزْنًا ، وَفِي الْمَوْزُونِ كَيْلًا ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، وَقَدْ أَجَازَ السَّلَمَ فِيهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ مَالِكٌ : ذَلِكَ جَائِزٌ إذَا كَانَ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ التَّمْرَ وَزْنًا .
وَهَذَا أَصَحُّ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ ، وَخُرُوجُهُ مِنْ الْجَهَالَةِ ، وَإِمْكَانُ تَسْلِيمِهِ مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ ، فَبِأَيِّ قَدْرٍ قَدَّرَهُ جَازَ .
وَيُفَارِقُ بَيْعَ الرِّبَوِيَّاتِ ؛ فَإِنَّ التَّمَاثُلَ فِيهَا فِي الْمَكِيلِ كَيْلًا وَفِي الْمَوْزُونِ وَزْنًا شَرْطٌ ، وَلَا نَعْلَمُ هَذَا الشَّرْطَ إذَا قَدَّرَهَا بِغَيْرِ مِقْدَارِهَا الْأَصْلِيِّ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْحُبُوبَ كُلَّهَا مَكِيلَةٌ ، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْفُسْتُقُ وَالْبُنْدُقُ وَالْمِلْحُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَكَذَلِكَ الْأَدْهَانُ .
وَقَالَ فِي السَّمْنِ وَاللَّبَنِ وَالزُّبْدِ : يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا كَيْلًا وَوَزْنًا .
وَلَا يُسْلِمُ فِي اللِّبَأِ إلَّا وَزْنًا ؛ لِأَنَّهُ