الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ تَجْفِيفُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَحْظَ لِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَتَكَرَّرُ ، وَالْحَيَوَانُ يَتَكَرَّرُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ ، فَرُبَّمَا اسْتَغْرَقَ قِيمَتَهُ ، فَكَانَ بَيْعُهُ أَوْ أَكْلُهُ أَحْظَ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَسِبْ الْمُنْفِقُ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ .
الثَّالِثُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَحْفَظَ ثَمَنَهَا لِصَاحِبِهَا ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يَبِيعُهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ .
وَلَنَا أَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ أَكْلُهَا بِغَيْرِ إذْنٍ ، فَبَيْعُهَا أَوْلَى .
وَلَمْ يَذْكُرْ أَصْحَابُنَا لَهَا تَعْرِيفًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خُذْهَا ، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ } .
وَلَمْ يَأْمُرْ بِتَعْرِيفِهَا ، كَمَا أَمَرَ فِي لُقَطَةِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ .
وَلَنَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ لَهَا خَطَرٌ ، فَوَجَبَ تَعْرِيفُهَا ، كَالْمَطْعُومِ الْكَثِيرِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَ ذِكْرَ تَعْرِيفِهَا لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بَعْدَ بَيَانِهِ التَّعْرِيفَ فِيمَا سِوَاهَا ، فَاسْتُغْنِيَ بِذَلِكَ عَنْ ذِكْرِهِ فِيهَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهَا فِي الْحَوْلِ سُقُوطُ التَّعْرِيفِ ، كَالْمَطْعُومِ .
( 4544 ) فَصْلٌ : إذَا أَكَلَهَا ثَبَتَتْ قِيمَتُهَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ عَزْلُهَا ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ مِنْ الذِّمَّةِ إلَى الْمَالِ الْمَعْزُولِ .
وَلَوْ عَزَلَ شَيْئًا ثُمَّ أَفْلَسَ ، كَانَ صَاحِبُ اللَّقَطِ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ ، وَلَمْ يَخْتَصَّ بِالْمَالِ الْمَعْزُولِ .
وَإِنْ بَاعَهَا ، وَحَفِظَ ثَمَنَهَا ، وَجَاءَ صَاحِبُهَا ، أَخَذَهُ ، وَلَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالِهِ ، لَا شَيْءَ لِلْمُفْلِسِ فِيهِ .
( 4545 ) فَصْلٌ : وَإِذَا الْتَقَطَ مَا لَا يَبْقَى عَامًا ، فَذَلِكَ نَوْعَانِ ؛ أَحَدُهُمَا مَا لَا يَبْقَى بِعِلَاجٍ وَلَا غَيْرِهِ ، كَالطَّبِيخِ ، وَالْبِطِّيخِ ، وَالْفَاكِهَةِ الَّتِي لَا تُجَفَّفُ ، وَالْخَضْرَاوَاتِ .
فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَكْلِهِ ، وَبَيْعِهِ وَحِفْظِ ثَمَنِهِ ، وَلَا يَجُوزُ إبْقَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتْلَفُ .
فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى تَلِفَ ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ ، كَالْوَدِيعَةِ .
فَإِنْ أَكَلَهُ ثَبَتَتْ الْقِيمَةُ فِي ذِمَّتِهِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي لُقَطَةِ الْغَنَمِ .
وَإِنْ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ ، جَازَ وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَلَهُ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ لَهُ بَيْعَ الْيَسِيرِ ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا دَفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ ، جَازَ الْبَيْعُ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ ، فَأَمَّا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِئْذَانِهِ ، فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ ، لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِ الْحَاكِمِ بَيْعُهُ ، كَغَيْرِ اللُّقَطَةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ أُبِيحَ لِلْمُلْتَقِطِ أَكْلُهُ ، فَأُبِيحَ لَهُ بَيْعُهُ ، كَمَالِهِ ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ أُبِيحَ لَهُ بَيْعُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْحَاكِمِ ، فَجَازَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، كَمَالِهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَكْلَهُ أَوْ بَيْعَهُ ، حَفِظَ صِفَاتِهِ ، ثُمَّ عَرَّفَهُ عَامًا ، فَإِذَا جَاءَ صَاحِبُهُ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ بَاعَهُ وَحَفِظَ ثَمَنَهُ ، دَفَعَهُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَكَلَهُ أَوْ أَكَلَ ثَمَنَهُ ، غَرِمَهُ لَهُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ أَكَلَهُ .
وَإِنْ تَلِفَ الثَّمَنُ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ قَبْلَ تَمَلُّكِهِ ، أَوْ نَقَصَ أَوْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ ، أَوْ نَقَصَتْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ .
وَإِنْ تَلِفَتْ أَوْ نَقَصَتْ أَوْ نَقَصَ الثَّمَنُ لِتَفْرِيطِهِ ، فَعَلَى الْمُلْتَقِطِ ضَمَانُهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَلِفَ الثَّمَنُ بَعْدَ
تَمَلُّكِهِ ، أَوْ نَقَصَ ، ضَمِنَهُ .
النَّوْعُ الثَّانِي مَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ بِالْعِلَاجِ ، كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ ، فَيَنْظُرُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ .
فَإِنْ كَانَ فِي التَّجْفِيفِ جَفَّفَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ غَيْرِهِ ، فَلَزِمَهُ مَا فِيهِ الْحَظُّ لِصَاحِبِهِ ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ ، وَإِنْ احْتَاجَ فِي التَّجْفِيفِ إلَى غَرَامَةٍ ، بَاعَ بَعْضَهُ فِي ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي بَيْعِهِ ، بَاعَهُ ، وَحَفِظَ ثَمَنَهُ ، كَالطَّعَامِ وَالرُّطَبِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ بَيْعُهُ ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَجْفِيفُهُ ، تَعَيَّنَ أَكْلُهُ ، كَالْبِطِّيخِ .
وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُ أَنْفَعَ لِصَاحِبِهِ .
فَلَهُ أَكْلُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْحَظَّ فِيهِ .
وَيَقْتَضِي قَوْلُ أَصْحَابِنَا : إنَّ الْعُرُوضَ لَا تُمْلَكُ بِالتَّعْرِيفِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ ، لَكِنْ يُخَيَّرُ بَيْنَ الصَّدَقَةِ بِهِ وَبَيْنَ بَيْعِهِ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْ يَجِدُ فِي مَنْزِلِهِ طَعَامًا لَا يَعْرِفُهُ : يُعَرِّفُهُ مَا لَمْ يَخْشَ فَسَادَهُ ، فَإِنْ خَشِيَ فَسَادَهُ ، تَصَدَّقَ بِهِ ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ غَرِمَهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ .
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، فِي لُقَطَةِ مَا لَا يَبْقَى سَنَةً : يَتَصَدَّقُ بِهِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : يَبِيعُهُ ، وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ .
وَلَنَا عَلَى جَوَازِ أَكْلِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ : { خُذْهَا ، فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ ، أَوْ لِأَخِيكَ ، أَوْ لِلذِّئْبِ } وَهَذَا تَجْوِيزٌ لِلْأَكْلِ ، فَإِذَا جَازَ فِيمَا هُوَ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ ، فَفِيمَا يَفْسُدُ بِبَقَائِهِ أَوْلَى .
( 4546 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَلَا يَتَعَرَّضُ لِبَعِيرٍ ، وَلَا لِمَا فِيهِ قُوَّةٌ يَمْنَعُ عَنْ نَفْسِهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ يَقْوَى عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ ، وَوُرُودِ الْمَاءِ ، لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ ، وَلَا التَّعَرُّضُ لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ لِكِبَرِ جُثَّتِهِ ، كَالْإِبِلِ ، وَالْخَيْلِ ، وَالْبَقَرِ ، أَوْ لِطَيَرَانِهِ كَالطُّيُورِ كُلِّهَا ، أَوْ لِسُرْعَتِهِ ، كَالظِّبَاءِ وَالصَّيُودِ ، أَوْ بِنَابِهِ كَالْكِلَابِ وَالْفُهُودِ .
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ أَخَذَ ضَالَّةً ، فَهُوَ ضَالٌّ .
أَيْ مُخْطِئٌ وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، فِي ضَالَّةِ الْإِبِلِ : مَنْ وَجَدَهَا فِي الْقُرَى عَرَّفَهَا ، وَمَنْ وَجَدَهَا فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَقْرَبُهَا .
وَرَوَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
وَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ : مَنْ وَجَدَ بَدَنَةً فَلْيُعَرِّفْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَاحِبَهَا فَلْيَنْحَرْهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : فِي لَفْظٍ يُبَاحُ الْتِقَاطُهَا ؛ لِأَنَّهَا لُقَطَةٌ أَشْبَهَتْ الْغَنَمَ .
وَلَنَا { قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْهَا : مَا لَك وَلَهَا ؟ مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا ، تَرِدُ الْمَاءَ ، وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ ، حَتَّى يَجِدَهَا رَبُّهَا .
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّا نُصِيبُ هَوَامَّ الْإِبِلِ .
قَالَ : ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرَقُ النَّارِ } .
وَرُوِيَ عَنْ { جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُ أَمَرَ بِطَرْدِ بَقَرَةٍ لَحِقَتْ بِبَقَرِهِ حَتَّى تَوَارَتْ ، وَقَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يُؤْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِمَعْنَاهُ .
وَقِيَاسُهُمْ يُعَارِضُ صَرِيحَ النَّصِّ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ تَرْكُ نَصَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَرِيحِ قَوْلِهِ بِقِيَاسِ نَصِّهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرِ ، عَلَى أَنَّ الْإِبِلَ تُفَارِقُ الْغَنَمَ ،
لِضَعْفِهَا ، وَقِلَّةِ صَبْرِهَا عَنْ الْمَاءِ .
( 4547 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ الصَّيُودُ مُسْتَوْحِشَةً ، إذَا تُرِكَتْ رَجَعَتْ إلَى الصَّحْرَاءِ ، وَعَجَزَ عَنْهَا صَاحِبُهَا ، جَازَ الْتِقَاطُهَا ؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا أَضْيَعُ لَهَا مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَالْمَقْصُودُ حِفْظُهَا لِصَاحِبِهَا ، لَا حِفْظُهَا فِي نَفْسِهَا ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ حِفْظَهَا فِي أَنْفُسِهَا لَمَا جَازَ الْتِقَاطُ الْأَثْمَانِ ، فَإِنَّ الدِّينَارَ دِينَارٌ حَيْثُمَا كَانَ .
( 4548 ) فَصْلٌ : وَالْبَقَرَةُ كَالْإِبِلِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْبَقَرَةَ كَالشَّاةِ وَلَنَا ، خَبَرُ جَرِيرٍ فَإِنَّهُ طَرَدَ الْبَقَرَةَ وَلَمْ يَأْخُذْهَا ، وَلِأَنَّهَا تَمْتَنِعُ عَنْ صِغَارِ السِّبَاعِ ، وَتُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ عَنْ سَبْعَةٍ ، فَأَشْبَهَتْ الْإِبِلَ .
وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ .
فَأَمَّا الْحُمُرُ ، فَجَعَلَهَا أَصْحَابُنَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْتِقَاطُهُ ؛ لِأَنَّ لَهَا أَجْسَامًا عَظِيمَةً ، فَأَشْبَهَتْ الْبِغَالَ وَالْخَيْلَ ، وَلِأَنَّهَا مِنْ الدَّوَابِّ ، فَأَشْبَهَتْ الْبِغَالَ .
وَالْأَوْلَى إلْحَاقُهَا بِالشَّاةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ الْإِبِلَ بِأَنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا .
يُرِيدُ شِدَّةَ صَبْرِهَا عَنْ الْمَاءِ ؛ لِكَثْرَةِ مَا تُوعِي فِي بُطُونِهَا مِنْهُ ، وَقُوَّتِهَا عَلَى وُرُودِهِ .
وَفِي إبَاحَةِ ضَالَّةِ الْغَنَمِ بِأَنَّهَا مُعَرَّضَةٌ لِأَخْذِ الذِّئْبِ إيَّاهَا ، بِقَوْلِهِ : " هِيَ لَكَ ، أَوْ لِأَخِيكَ ، أَوْ لِلذِّئْبِ " .
وَالْحُمُرُ مُسَاوِيَةٌ لِلشَّاةِ فِي عِلَّتِهَا ، فَإِنَّهَا لَا تَمْتَنِعُ مِنْ الذِّئْبِ ، وَمُفَارِقَةٌ لِلْإِبِلِ فِي عِلَّتِهَا ، فَإِنَّهَا لَا صَبْرَ لَهَا عَنْ الْمَاءِ ، وَلِهَذَا يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِقِلَّةِ صَبْرِهَا عَنْهُ ، فَيُقَالُ : مَا بَقِيَ مِنْ مُدَّتِهِ إلَّا ظَمَأُ حِمَارٍ .
وَإِلْحَاقُ الشَّيْءِ بِمَا سَاوَاهُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ وَفَارَقَهُ فِي الصُّورَةِ ، أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِمَا قَارَبَهُ فِي الصُّورَةِ وَفَارَقَهُ فِي الْعِلَّةِ .
فَأَمَّا غَيْرُ الْحَيَوَانِ ، فَمَا كَانَ مِنْهُ يَنْحَفِظُ بِنَفْسِهِ ، كَأَحْجَارِ الطَّوَاحِينِ ، وَالْكَبِيرِ مِنْ الْخَشَبِ ، وَقُدُورِ النُّحَاسِ ، فَهُوَ كَالْإِبِلِ فِي تَحْرِيمِ أَخْذِهِ ، بَلْ أَوْلَى مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَتَعَرَّضُ فِي الْجُمْلَةِ لِلتَّلَفِ .
إمَّا بِالْأَسَدِ ، وَإِمَّا بِالْجُوعِ أَوْ الْعَطَشِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ لَا تَكَادُ تَضِيعُ عَنْ صَاحِبِهَا وَلَا
تَبْرَحُ مِنْ مَكَانِهَا بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ ، فَإِذَا حُرِّمَ أَخْذُ الْحَيَوَانِ ، فَهَذِهِ أَوْلَى .
( 4549 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَخَذَ هَذَا الْحَيَوَانَ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِقَاطِ ، ضَمِنَهُ ، إمَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَلَا أَذِنَ الشَّارِعُ لَهُ ، فَهُوَ كَالْغَاصِبِ .
فَإِنْ رَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ ، لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَرْسِلْهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَبْته فِيهِ .
وَجَرِيرٌ طَرَدَ الْبَقَرَةَ الَّتِي لَحِقَتْ بِبَقَرِهِ وَلَنَا أَنَّ مَا لَزِمَهُ ضَمَانُهُ لَا يَزُولُ عَنْهُ إلَّا بِرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ نَائِبِهِ ، كَالْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ جَرِيرٍ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ الْبَقَرَةَ ، وَلَا أَخَذَهَا رَاعِيهِ ، إنَّمَا لَحِقَتْ بِالْبَقَرِ ، فَطَرَدَهَا عَنْهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ دَخَلَتْ دَارِهِ فَأَخْرَجَهَا .
فَعَلَى هَذَا ، مَتَى لَمْ يَأْخُذْهَا بِحَيْثُ ثَبَتَتْ يَدُهُ عَلَيْهَا ، لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا ، سَوَاءٌ طَرَدَهَا أَوْ لَمْ يَطْرُدْهَا .
وَإِنْ أَخَذَهَا فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا ، فَدَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ ، زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ لَهُ نَظَرًا فِي ضَوَالِّ النَّاسِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَخْذَهَا ، فَكَانَ نَائِبًا عَنْ أَصْحَابِهَا فِيهَا .
( 4550 ) فَصْلٌ : وَلِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَخْذُ الضَّالَّةِ عَلَى وَجْهِ الْحِفْظِ لِصَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَى مَوْضِعًا يُقَالُ لَهُ النَّقِيعُ لِخَيْلِ الْمُجَاهِدِينَ وَالضَّوَالِّ ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ نَظَرًا فِي حِفْظِ مَالِ الْغَائِبِ ، وَفِي أَخْذِ هَذِهِ حِفْظٌ لَهَا عَنْ الْهَلَاكِ .
وَلَا يَلْزَمُهُ تَعْرِيفُهَا ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ يُعَرِّفُ الضَّوَالَّ .
وَلِأَنَّهُ إذَا عُرِفَ ذَلِكَ ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ ضَالَّةٌ فَإِنَّهُ يَجِيءُ إلَى مَوْضِعِ الضَّوَالِّ ، فَإِذَا عَرَفَ ضَالَّتَهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا وَأَخَذَهَا ، وَلَا يَكْتَفِي فِيهَا بِالصِّفَةِ ؛ لِأَنَّهَا ظَاهِرَةٌ بَيْنَ النَّاسِ ، فَيَعْرِفُ صِفَاتِهَا مَنْ رَآهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ، فَلَا تَكُونُ الصِّفَةُ لَهَا دَلِيلًا عَلَى مِلْكِهِ لَهَا وَلِأَنَّ الضَّالَّةَ قَدْ كَانَتْ ظَاهِرَةً بَيْن النَّاسِ حِينَ كَانَتْ فِي يَدِ مَالِكِهَا ، فَلَا يَخْتَصُّ هُوَ بِمَعْرِفَةِ صِفَاتهَا دُونَ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا ، وَيُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا لِظُهُورِهَا لِلنَّاسِ ، وَمَعْرِفَةِ خُلَطَائِهِ وَجِيرَانِهِ بِمِلْكِهِ إيَّاهَا .
( 4551 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَخَذَهَا غَيْرُ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ لِيَحْفَظهَا لِصَاحِبِهَا ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهَا .
وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَلِأَصْحَابِهِ وَجْهٌ ، أَنَّ لَهُ أَخْذَهَا لِحِفْظِهَا ، قِيَاسًا عَلَى الْإِمَامِ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ أَخْذَهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ بَيْنَ قَاصِدِ الْحِفْظِ وَقَاصِدِ الِالْتِقَاطِ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً ، وَهَذَا لَا وِلَايَةَ لَهُ .
وَإِنْ وَجَدَهَا فِي مَوْضِعٍ يَخَافُ عَلَيْهَا بِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَجِدَهَا بِأَرْضِ مَسْبَعَةٍ ، يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْأَسَدَ يَفْتَرِسُهَا إنْ تُرِكَتْ بِهِ ، أَوْ فَرَسًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ، يَخَافُ عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِهَا ، أَوْ بِمَوْضِعٍ يَسْتَحِلُّ أَهْلُهُ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ ، كَوَادِي التَّيْمِ ، أَوْ فِي بَرِّيَّةٍ لَا مَاءَ بِهَا وَلَا مَرْعًى ، فَالْأَوْلَى جَوَازُ أَخْذِهَا لِلْحِفْظِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى آخِذِهَا ؛ لِأَنَّ فِيهِ إنْقَاذَهَا مِنْ الْهَلَاكِ ، فَأَشْبَهَ تَخْلِيصَهَا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرِيقٍ فَإِذَا حَصَلَتْ فِي يَدِهِ ، سَلَّمَهَا إلَى نَائِبِ الْإِمَامِ ، وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهَا ، وَلَا يَمْلِكُهَا بِالتَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ فِيهَا .
( 4552 ) فَصْلٌ : وَمَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْإِمَامِ مِنْ الضَّوَالِّ ، فَإِنَّهُ يُشْهِدُ عَلَيْهَا ، وَيَسِمُهَا بِأَنَّهَا ضَالَّةٌ ، ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُ حِمًى تَرْعَى فِيهِ ، تَرَكَهَا فِيهِ ، إنْ رَأَى ذَلِكَ ، وَإِنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي بَيْعِهَا وَحِفْظِ ثَمَنِهَا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حِمًى ، بَاعَهَا بَعْدَ أَنْ يُحَلِّيَهَا ، وَيَحْفَظَ صِفَاتِهَا ، وَيَحْفَظَ ثَمَنَهَا لِصَاحِبِهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لَهَا ؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا يُفْضِي إلَى أَنْ تَأْكُلَ جَمِيعَ ثَمَنِهَا .
( 4553 ) فَصْلٌ : وَمَنْ تَرَكَ دَابَّةً بِمَهْلَكَةٍ ، فَأَخَذَهَا إنْسَانٌ ، فَأَطْعَمَهَا وَسَقَاهَا وَخَلَّصَهَا ، مَلَكَهَا .
وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ ، وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ ، وَإِسْحَاقُ .
إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَهَا لِيَرْجِعَ إلَيْهَا ، أَوْ ضَلَّتْ مِنْهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : هِيَ لِمَالِكِهَا الْأَوَّلِ ، وَيَغْرَمُ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : هِيَ لِمَالِكِهَا ، وَالْآخَرُ مُتَبَرِّعٌ بِالنَّفَقَةِ ، لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ مَهْلَكَةٍ ، وَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ، كَمَا لَوْ بَنَى دَارِهِ وَلَنَا مَا رَوَى الشَّعْبِيُّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ وَجَدَ دَابَّةً قَدْ عَجَزَ عَنْهَا أَهْلُهَا ، فَسَيَّبُوهَا ، فَأَخَذَهَا ، فَأَحْيَاهَا ، فَهِيَ لَهُ } .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : فَقُلْت - يَعْنِي لِلشَّعْبِيِّ - : مَنْ حَدَّثَك بِهَذَا ؟ قَالَ : غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ .
وَفِي لَفْظٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَرَكَ دَابَّةً بِمَهْلَكَةٍ ، فَأَحْيَاهَا رَجُلٌ ، فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا } وَلِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِمِلْكِهَا إحْيَاءَهَا وَإِنْقَاذَهَا مِنْ الْهَلَاكِ ، وَحِفْظًا لِلْمَالِ عَنْ الضَّيَاعِ ، وَمُحَافَظَةً عَلَى حُرْمَةِ الْحَيَوَانِ ، وَفِي الْقَوْلِ بِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ تَضْيِيعٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ ، مِنْ غَيْرِ مَصْلَحَةٍ تَحْصُلُ ، وَلِأَنَّهُ نُبِذَ رَغْبَةً عَنْهُ وَعَجْزًا عَنْ أَخْذِهِ ، فَمَلَكَهُ آخِذُهُ ، كَالسَّاقِطِ مِنْ السُّنْبُلِ ، وَسَائِرِ مَا يَنْبِذُهُ النَّاسُ رَغْبَةً عَنْهُ .
( 4554 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَرَكَ مَتَاعًا ، فَخَلَّصَهُ إنْسَانٌ ، لَمْ يَمْلِكْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ ، وَلَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ ، كَالْخَشْيَةِ عَلَى الْحَيَوَانِ ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ يَمُوتُ إذَا لَمْ يُطْعَمْ وَيُسْقَى ، وَتَأْكُلُهُ السِّبَاعُ ، وَالْمَتَاعُ يَبْقَى حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ صَاحِبُهُ .
وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ عَبْدًا ، لَمْ يُمْلَكْ بِأَخْذِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي الْعَادَةِ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ إلَى الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا ، بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ .
وَلَهُ أَخْذُ الْعَبْدِ وَالْمَتَاعِ لِيُخَلِّصَهُ لِصَاحِبِهِ ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَخْلِيصِ الْمَتَاعِ .
نَصَّ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ عَلَى قِيَاسِهِ قَالَ الْقَاضِي : يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فِي وُجُوبِ الْأَجْرِ ، عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ ذَلِكَ أَوْ أَمَرَهُ بِهِ ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ شَيْئًا ، فَلَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ جُعْلٍ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ، كَالْمُلْتَقِطِ .
وَهَذَا خِلَافُ ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ جَعَلَ لَهُ جُعْلًا لَاسْتَحَقَّهُ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَجْرَ الْمِثْلِ ، وَيُفَارِقُ هَذَا الْمُلْتَقِطَ ، فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ لَمْ يُخَلِّصْ اللُّقَطَةَ مِنْ الْهَلَاكِ ، وَلَوْ تَرَكَهَا أَمْكَنَ أَنْ يَرْجِعَ صَاحِبُهَا فَيَطْلُبَهَا مِنْ مَكَانِهَا فَيَجِدَهَا ، وَهَا هُنَا إنْ لَمْ يُخْرِجْهُ هَذَا ضَاعَ وَهَلَكَ ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ صَاحِبُهُ ، فَفِي جَعْلِ الْأَجْرِ فِيهِ حِفْظٌ لِلْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ ، فَجَازَ ذَلِكَ كَالْجُعْلِ فِي الْآبِقِ .
وَلِأَنَّ اللُّقَطَةَ جَعَلَ فِيهَا الشَّارِعُ مَا يَحُثُّ عَلَى أَخْذِهَا ، وَهُوَ مِلْكُهَا إنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا ، فَاكْتُفِيَ بِهِ عَنْ الْأَجْرِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْرَعَ فِي هَذَا مَا يَحُثُّ عَلَى تَخْلِيصِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَلَيْسَ إلَّا الْأَجْرُ .
فَأَمَّا مَا أَلْقَاهُ رُكَّابُ الْبَحْرِ فِيهِ ، خَوْفًا مِنْ الْغَرَقِ ، فَلَمْ أَعْلَمْ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ قَوْلًا ، سِوَى عُمُومِ قَوْلِهِمْ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ
هَذَا مَنْ أَخَذَهُ .
وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، فِي مَنْ أَخْرَجَهُ ، قَالَ : وَمَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ فَهُوَ لِأَهْلِهِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : يَرُدُّهُ عَلَى أَصْحَابِهِ ، وَلَا جُعَلَ لَهُ .
وَيَقْتَضِيه قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّ لِمَنْ أَنْقَذَهُ أَجْرَ مِثْلِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا وَوَجْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ أَنَّ هَذَا مَالٌ أَلْقَاهُ صَاحِبُهُ فِيمَا يَتْلَفُ بِتَرْكِهِ فِيهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ ، فَمَلَكَهُ مَنْ أَخَذَهُ ، كَاَلَّذِي أَلْقَوْهُ رَغْبَةً عَنْهُ ، وَلِأَنَّ فِيمَا ذَكَرُوهُ تَحْقِيقًا لِإِتْلَافِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمُبَاشَرَتِهِ بِالْإِتْلَافِ .
فَأَمَّا إنْ انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ ، فَأَخْرَجَهُ قَوْمٌ ، فَقَالَ مَالِكٌ : يَأْخُذُ أَصْحَابُ الْمَتَاعِ مَتَاعَهُمْ ، وَلَا شَيْءَ لِلَّذِي أَصَابُوهُ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَالْقَاضِي .
وَعَلَى قِيَاسِ نَصِّ أَحْمَدَ يَكُونُ لِمُسْتَخْرِجِهِ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى تَخْلِيصِهِ ، وَحِفْظِهِ لِصَاحِبِهِ ، وَصِيَانَتِهِ عَنْ الْغَرَقِ .
فَإِنَّ الْغَوَّاصَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ الْأَجْرُ ، بَادَرَ إلَى التَّخْلِيصِ لِيُخَلِّصَهُ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، لَمْ يُخَاطِرْ بِنَفْسِهِ فِي اسْتِخْرَاجِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالْأَجْرِ ، كَجُعْلِ رَدِّ الْآبِقِ .
( 4555 ) فَصْلٌ : ذَكَرَ الْقَاضِي فِيمَا إذَا الْتَقَطَ عَبْدًا صَغِيرًا ، أَوْ جَارِيَةً ، أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُمْلَكُ بِالتَّعْرِيفِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُمْلَكُ الْعَبْدُ دُونَ الْجَارِيَةِ ، لِأَنَّ التَّمَلُّكَ بِالتَّعْرِيفِ عِنْدَهُ اقْتِرَاضٌ ، وَالْجَارِيَةُ عِنْدَهُ لَا تُمْلَكُ بِالْقَرْضِ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ اللَّقِيطَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَأَقَرَّ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ الطِّفْلَ لَا قَوْلَ لَهُ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ، لَاعْتُبِرَ فِي تَعْرِيفِهِ سَيِّدَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ اللَّقِيطِ وَهُوَ الطِّفْلُ الْمَنْبُوذُ .
وَاللَّقِيطُ بِمَعْنَى الْمَلْقُوطِ ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، كَقَوْلِهِمْ : قَتِيلٌ وَجَرِيحٌ وَطَرِيحٌ .
وَالْتِقَاطُهُ وَاجِبٌ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } .
وَلِأَنَّ فِيهِ إحْيَاءَ نَفْسِهِ ، فَكَانَ وَاجِبًا ، كَإِطْعَامِهِ إذَا اُضْطُرَّ ، وَإِنْجَائِهِ مِنْ الْغَرَقِ .
وَوُجُوبُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ ، إذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْجَمَاعَةُ ، أَثِمُوا كُلُّهُمْ ، إذَا عَلِمُوا فَتَرَكُوهُ مَعَ إمْكَانِ أَخْذِهِ وَرُوِيَ عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ ، قَالَ : وَجَدْت مَلْفُوفًا ، فَأَتَيْت بِهِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عَرِيفِي : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ .
فَقَالَ عُمَرُ : أَكَذَلِكَ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ فَاذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ ، وَلَك وَلَاؤُهُ ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، سَمِعَ سُنَيْنًا أَبَا جَمِيلَةَ بِهَذَا ، وَقَالَ : عَلَيْنَا رَضَاعُهُ .
( 4556 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَاللَّقِيطُ حُرٌّ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إلَّا النَّخَعِيّ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ .
رُوِينَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالشَّعْبِيُّ وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : إنْ الْتَقَطَهُ لِلْحِسْبَةِ ، فَهُوَ حُرٌّ ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِقَّهُ ، فَذَلِكَ لَهُ .
وَذَلِكَ قَوْلٌ شَذَّ فِيهِ عَنْ الْخُلَفَاءِ وَالْعُلَمَاءِ ، وَلَا يَصِحُّ فِي النَّظَرِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْآدَمِيِّينَ الْحُرِّيَّةُ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ أَحْرَارًا ، وَإِنَّمَا الرِّقُّ لِعَارِضٍ ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ الْعَارِضُ ، فَلَهُ حُكْمُ الْأَصْلِ .
( 4557 ) فَصْلٌ : وَلَا يَخْلُو اللَّقِيطُ مِنْ أَنْ يُوجَدَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ فِي دَارِ الْكُفْرِ ، فَأَمَّا دَارُ الْإِسْلَامِ فَضَرْبَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، دَارٌ اخْتَطَّهَا الْمُسْلِمُونَ ، كَبَغْدَادَ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ ، فَلَقِيطُ هَذِهِ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ وَلِظَاهِرِ الدَّارِ ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ .
الثَّانِي دَارٌ فَتَحَهَا الْمُسْلِمُونَ ، كَمَدَائِنِ الشَّامِ ، فَهَذِهِ إنْ كَانَ فِيهَا مُسْلِمٌ وَاحِدٌ حُكِمَ بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الْمُسْلِمِ ، تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ ، بَلْ كُلُّ أَهْلِهَا ذِمَّةٌ حُكِمَ بِكُفْرِهِ ؛ لِأَنَّ تَغْلِيبَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الِاحْتِمَالِ .
وَأَمَّا بَلَدُ الْكُفَّارِ فَضَرْبَانِ أَيْضًا أَحَدُهُمَا بَلَدٌ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَغَلَبَ الْكُفَّارُ عَلَيْهِ ، كَالسَّاحِلِ ، فَهَذَا كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ ، إنْ كَانَ فِيهِ مُسْلِمٌ وَاحِدٌ حُكِمَ بِإِسْلَامِ لَقِيطِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْلِمٌ فَهُوَ كَافِرٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُؤْمِنٌ يَكْتُمُ إيمَانَهُ ، بِخِلَافِ الَّذِي قَبْلَهُ ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى كَتْمِ إيمَانِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، وَأَقَرُّوا فِيهِ أَهْلَهُ بِالْجِزْيَةِ ، فَهَذَا كَالْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ .
الثَّانِي دَارٌ لَمْ تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ أَصْلًا .
كَبِلَادِ الْهِنْدِ وَالرُّومِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُسْلِمٌ ، فَلَقِيطُهَا كَافِرٌ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ لَهُمْ وَأَهْلُهَا مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُسْلِمُونَ كَالتُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ ، احْتَمَلَ أَنْ يُحْكَمَ بِإِسْلَامِهِ ، تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُحْكَمَ بِكُفْرِهِ ، تَغْلِيبًا لِلدَّارِ وَالْأَكْثَرِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ كُلُّهُ مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الطِّفْلَ إذَا وُجِدَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ، مَيِّتًا فِي أَيِّ مَكَان وُجِدَ ، أَنَّ غُسْلَهُ وَدَفْنَهُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ ، وَقَدْ مَنَعُوا أَنْ يُدْفَنَ أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ : وَإِذَا وُجِدَ لَقِيطٌ فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا إلَّا مُشْرِكٌ ، فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِ مَا حَكَمُوا بِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ .
هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
( 4558 ) فَصْلٌ : وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ ، إنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ ظَاهِرًا لَا يَقِينًا ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدَ كَافِرٍ ، فَلَوْ أَقَامَ كَافِرٌ بَيِّنَةً أَنَّهُ وَلَدُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ، حَكَمْنَا لَهُ بِهِ .
وَإِذَا بَلَغَ اللَّقِيطُ حَدًّا يَصِحُّ فِيهِ إسْلَامُهُ وَرِدَّتُهُ ، فَوَصَفَ الْإِسْلَامَ فَهُوَ مُسْلِمٌ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ أَوْ كُفْرِهِ .
وَإِنْ وَصَفَ الْكُفْرَ ، وَهُوَ مِمَّنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، فَهُوَ مُرْتَدٌّ لَا يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا ، أَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى كُفْرِهِ .
وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَقْوَى مِنْ ظَاهِرِ الدَّارِ .
وَهَذَا وَجْهٌ مُظْلِمٌ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْإِسْلَامِ وُجِدَ عَرِيًّا عَنْ الْمُعَارِضِ ، وَثَبَتَ حُكْمُهُ ، وَاسْتَقَرَّ ، فَلَمْ يَجُزْ إزَالَةُ حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ ابْنَ مُسْلِمٍ .
وَقَوْلُهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْحَالِ مَنْ كَانَ أَبُوهُ .
وَلَا مَا كَانَ دِينُهُ ، وَإِنَّمَا يَقُولُ هَذَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ ، فَعَلَى هَذَا إذَا بَلَغَ اُسْتُتِيبَ ثَلَاثًا ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ .
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمْ .
فَقَالَ الْقَاضِي : إنْ وَصَفَ كُفْرًا ، يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ بِالْجِزْيَةِ ، عُقِدَتْ لَهُ الذِّمَّةُ ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْتِزَامِهَا ، أَوْ وَصَفَ كُفْرًا لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ ، أُلْحِقَ بِمَأْمَنِهِ .
وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ هَذَا اللَّقِيطَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ابْن وَثَنِيٍّ حَرْبِيٍّ ، فَهُوَ حَاصِلٌ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ عُهْدَةٍ وَلَا عَقْدٍ ، فَيَكُونُ لِوَاجِدِهِ ، وَيَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ سَابِيه ، أَوْ يَكُونَ ابْنَ ذِمِّيَّيْنِ ، أَوْ أَحَدُهُمَا ذِمِّيٌّ ، فَلَا يُقَرُّ عَلَى الِانْتِقَالِ إلَى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، أَوْ يَكُونَ ابْنَ مُسْلِمٍ أَوْ ابْنَ مُسْلِمَيْنِ ، فَيَكُونَ مُسْلِمًا .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي أَمَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ ، وَلَدَتْ مِنْ فُجُورٍ : وَلَدُهَا مُسْلِمٌ ؛ لِأَنَّ أَبَوَيْهِ
يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ مَعَهُ إلَّا أُمُّهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْوَلَدِ حَالٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَرَّ فِيهَا عَلَى دِينٍ لَا يُقَرُّ أَهْلُهُ عَلَيْهِ ، فَكَيْفَ يُرَدُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ .
( 4559 ) فَصْلٌ : إذَا جَنَى اللَّقِيطُ جِنَايَةً تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ ، فَالْعَقْلُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مِيرَاثَهُ لَهُ ، وَنَفَقَتَهُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً لَا تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ ، فَحُكْمُهُ فِيهَا غَيْرُ حُكْمِ اللَّقِيطِ ؛ إنْ كَانَتْ تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَهُوَ بَالِغٌ عَاقِلٌ ، اُقْتُصَّ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ وَلَهُ مَالٌ ، اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ ، وَإِلَّا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يُوسِرَ .
وَإِنْ جُنِيَ عَلَيْهِ فِي النَّفْسِ جِنَايَةً تُوجِبُ الدِّيَةَ ، فَهِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ وَارِثُهُ وَإِنْ كَانَ عَمْدًا مَحْضًا ، فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ إنْ رَآهُ أَحْظَ لِلْمَلَاقِيطِ ، وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، إلَّا أَنَّهُ يُخَيِّرُهُ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالْمُصَالَحَةِ ؛ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } .
وَإِنْ جُنِيَ عَلَيْهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ جِنَايَةً تُوجِبُ الْأَرْشَ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، فَلِوَلِيِّهِ أَخْذُ الْأَرْشِ .
وَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ ، وَلِلَّقِيطِ مَالٌ يَكْفِيه ، وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى بُلُوغِهِ لِيَقْتَصَّ أَوْ يَعْفُوَ ، سَوَاءٌ كَانَ عَاقِلًا أَوْ مَعْتُوهًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ، وَكَانَ عَاقِلًا ، اُنْتُظِرَ بُلُوغُهُ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ مَعْتُوهًا فَلِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْتُوهَ لَيْسَ لَهُ حَالٌ مَعْلُومَةٌ مُنْتَظَرَةٌ ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَدُومُ بِهِ ، وَالْعَاقِلُ لَهُ حَالٌ مُنْتَظَرَةٌ ، فَافْتَرَقَا .
وَفِي الْحَالِ الَّتِي يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ ، فَإِنَّ الْجَانِيَ يُحْبَسُ حَتَّى يَبْلُغَ اللَّقِيطُ ، فَيَسْتَوْفِيَ لِنَفْسِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ لِلْإِمَامِ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ لَهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ فَكَانَ لِلْإِمَامِ اسْتِيفَاؤُهُ عَنْ اللَّقِيطِ ، كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ .
وَلَنَا أَنَّهُ قِصَاصٌ لَمْ يَتَحَتَّمْ اسْتِيفَاؤُهُ ، فَوَقَفَ عَلَى قَوْلِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ بَالِغًا غَائِبًا ، وَفَارَقَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ ، فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ هُوَ لَهُ ، إنَّمَا هُوَ لِوَارِثِهِ ، وَالْإِمَامُ الْمُتَوَلِّي لَهُ .
( 4560 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَذَفَ اللَّقِيطُ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُحْصَنًا ، حُدَّ ثَمَانِينَ ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ .
وَإِنْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ ، وَهُوَ مُحْصَنٌ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ .
فَإِنْ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّهُ عَبْدٌ ، فَصَدَّقَهُ اللَّقِيطُ ، سَقَطَ الْحَدُّ ؛ لِإِقْرَارِ الْمُسْتَحِقِّ بِسُقُوطِ الْحَدِّ ، وَيَجِبُ التَّعْزِيرُ ؛ لِقَذْفِهِ مَنْ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ .
وَإِنْ كَذَّبَهُ اللَّقِيطُ ، وَقَالَ : إنِّي حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ ، فَقَوْلُهُ مُوَافِقٌ لِلظَّاهِرِ ، وَلِذَلِكَ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ حَدَّ الْحُرِّ إذَا كَانَ قَاذِفًا ، وَأَوْجَبْنَا لَهُ الْقِصَاصَ ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي حُرًّا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَاذِفِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ صِحَّةَ مَا قَالَهُ ، بِأَنْ يَكُونَ ابْنَ أَمَةٍ ، فَيَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً ، وَالْحَدُّ يَنْدَرِئ بِالشُّبُهَاتِ .
وَفَارَقَ الْقِصَاصَ لَهُ إذَا ادَّعَى الْجَانِي عَلَيْهِ أَنَّهُ عَبْدٌ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِحَدٍّ ، وَإِنَّمَا : وَجَبَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ ، وَلِذَلِكَ جَازَتْ الْمُصَالَحَةُ عَنْهُ ، وَأَخْذُ بَدَلِهِ ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ .
وَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّقِيطَ إذَا كَانَ قَاذِفًا ، فَادَّعَى أَنَّهُ عَبْدٌ لِيَجِب عَلَيْهِ حَدُّ الْعَبْدِ ، قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِذَلِكَ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مِنْ كَانَ مَحْكُومًا بِحُرِّيَّتِهِ ، لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ قَاذِفِهِ بِاحْتِمَالِ رِقِّهِ ، بِدَلِيلِ مَجْهُولِ النَّسَبِ ، وَلَوْ سَقَطَ الْحَدُّ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ ، لَسَقَطَ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْقَاذِفُ رِقَّهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ .
( 4561 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ شَيْءٌ يُنْفَقُ عَلَيْهِ ) .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ اللَّقِيطَ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ شَيْءٌ ، لَمْ يُلْزَمْ الْمُلْتَقِطُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ اللَّقِيطِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْمُلْتَقِطِ ، كَوُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ ، مِنْ الْقَرَابَةِ ، وَالزَّوْجِيَّةِ ، وَالْمِلْكِ ، وَالْوَلَاءِ ، مُنْتَفِيَةٌ ، وَالِالْتِقَاطُ إنَّمَا هُوَ تَخْلِيصٌ لَهُ مِنْ الْهَلَاكِ ، وَتَبَرُّعٌ بِحِفْظِهِ ، فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ النَّفَقَةَ ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ اللَّقِيطِ .
وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي جَمِيلَةَ : اذْهَبْ فَهُوَ حُرٌّ ، وَلَك وَلَاؤُهُ ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ .
وَفِي رِوَايَةٍ : مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ وَلِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ وَارِثُهُ ، وَمَالُهُ مَصْرُوفٌ إلَيْهِ ، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ، كَقَرَابَتِهِ وَمَوْلَاهُ فَإِنْ تَعَذَّرَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، لِكَوْنِهِ لَا مَالَ فِيهِ ، أَوْ كَانَ فِي مَكَان لَا إمَامَ فِيهِ ، أَوْ لَمْ يُعْطَ شَيْئًا ، فَعَلَى مَنْ عَلِمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } .
وَلِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ هَلَاكَهُ ، وَحِفْظُهُ عَنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ ، كَإِنْقَاذِهِ مِنْ الْغَرَقِ .
وَهَذَا فَرْضُ كِفَايَةٍ ، إذَا قَامَ بِهِ قَوْمٌ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، فَإِنْ تَرَكَهُ الْكُلُّ أَثِمُوا .
وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مُتَبَرِّعًا ، فَلَا شَيْءَ لَهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُلْتَقِطَ أَوْ غَيْرَهُ .
وَإِنْ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ الْمُلْتَقِطُ أَوْ غَيْرُهُ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ ، لَزِمَ اللَّقِيطَ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ النَّفَقَةُ قَصْدًا بِالْمَعْرُوفِ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْحَاكِمِ ، مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : تُؤَدَّى النَّفَقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَقَالَ شُرَيْحٌ ، وَالنَّخَعِيُّ : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ إذَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : يَحْلِفُ مَا أَنْفَقَ احْتِسَابًا ، فَإِنْ حَلَفَ اُسْتُسْعِيَ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : هُوَ مُتَبَرِّعٌ بِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَدَّى مَا وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى مَنْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ ، كَالضَّامِنِ إذَا قَضَى عَنْ الْمَضْمُونِ عَنْهُ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوْضِعِهِ .
( 4562 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا إنْ وُجِدَ مَعَ اللَّقِيطِ شَيْءٌ ، فَهُوَ لَهُ ، وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الطِّفْلَ يَمْلِكُ ، وَلَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرِثُ وَيُورَثُ ، وَيَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ وَلِيُّهُ وَيَبِيعَ ، وَمَنْ لَهُ مِلْكٌ صَحِيحٌ فَلَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ ، كَالْبَالِغِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَكُلُّ مَا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ ، أَوْ مُتَعَلِّقًا بِمَنْفَعَتِهِ ، فَهُوَ تَحْتَ يَدِهِ ، وَيَثْبُتُ بِذَلِكَ مِلْكًا لَهُ فِي الظَّاهِرِ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ لَابِسًا لَهُ ، أَوْ مَشْدُودًا فِي مَلْبُوسِهِ ، أَوْ فِي يَدَيْهِ ، أَوْ مَجْعُولًا فِيهِ ، كَالسَّرِيرِ وَالسَّفَطِ ، وَمَا فِيهِ مِنْ فَرْشٍ أَوْ دَرَاهِمَ ، وَالثِّيَابُ الَّتِي تَحْتَهُ وَاَلَّتِي عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَشْدُودًا عَلَى دَابَّةٍ ، أَوْ كَانَتْ مَشْدُودَةً فِي ثِيَابِهِ ، أَوْ كَانَ فِي خَيْمَةٍ ، أَوْ فِي دَارٍ ، فَهِيَ لَهُ .
وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنْهُ ، فَلَيْسَ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ ، كَثَوْبٍ مَوْضُوعٍ إلَى جَانِبِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا ، لَيْسَ هُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ ، فَهُوَ كَالْبَعِيدِ .
وَالثَّانِي ، هُوَ لَهُ .
وَهُوَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ تُرِكَ لَهُ ، فَهُوَ لَهُ ، بِمَنْزِلَةِ مَا هُوَ تَحْتَهُ ، وَلِأَنَّ الْقَرِيبَ مِنْ الْبَالِغِ يَكُونُ فِي يَدِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقْعُدُ فِي السُّوقِ وَمَتَاعُهُ بِقُرْبِهِ ، وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ فِي يَدِهِ ، وَالْحَمَّالُ إذَا جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ ، تَرَكَ حِمْلَهُ قَرِيبًا مِنْهُ فَأَمَّا الْمَدْفُونُ تَحْتَهُ ، فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : إنْ كَانَ الْحَفْرُ طَرِيًّا ، فَهُوَ لَهُ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ طَرِيًّا فَوَاضِعُ اللَّقِيطِ حَفَرَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيًّا ، كَانَ مَدْفُونًا قَبْلَ وَضْعِهِ ، وَقِيلَ : لَيْسَ هُوَ لَهُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّهُ بِمَوْضِعٍ لَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَفْرُ طَرِيًّا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ إذَا كَانَ الْحَفْرُ طَرِيًّا ، كَالْبَعِيدِ مِنْهُ ،
وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ، لَشَدَّهُ وَاضِعُهُ فِي ثِيَابِهِ ، لِيُعْلَمَ بِهِ ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ فِي مَكَان لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ ، وَكُلُّ مَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ اللُّقَطَةِ ، وَمَا هُوَ لَهُ أُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ كِفَايَتُهُ ، لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ ذُو مَالٍ ، فَأَشْبَهَ غَيْرَهُ مِنْ النَّاسِ إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ لِمُلْتَقِطِهِ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ .
ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّهُ وَلِيٌّ لَهُ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ إذْنُ الْحَاكِمِ ، كَوَصِيِّ الْيَتِيمِ ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ ، كَتَبْدِيدِ الْخَمْرِ .
وَرَوَى أَبُو الْحَارِثِ ، عَنْ أَحْمَدَ ، فِي رَجُلٍ أَوْدَعَ رَجُلًا مَالًا ، وَغَابَ ، وَطَالَتْ غَيْبَتُهُ ، وَلَهُ وَلَدٌ وَلَا نَفَقَةَ لَهُ ، هَلْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْمُسْتَوْدَعُ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ ؟ فَقَالَ : تَقُومُ امْرَأَتُهُ إلَى الْحَاكِمِ ، حَتَّى يَأْمُرَهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ .
فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : هَذَا مِثْلُهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى اللَّقِيطِ ، وَعَلَى مَالِهِ ؛ فَإِنَّ لَهُ وِلَايَةَ أَخْذِهِ وَحِفْظِهِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَى اللَّقِيطِ مِنْ مَالِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ مَالِ أَبِيهِ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ الصَّبِيِّ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ ، لِعَدَمِ مَالِهِ ، وَعَدَمِ نَفَقَةٍ تَرَكَهَا أَبُوهُ بِرَسْمِهِ ، وَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُودَعِ ، فَاحْتِيجَ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ .
وَلَا كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ ثَمَّ وُجُوبُهُ فِي اللَّقِيطِ .
وَمَتَى لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا ، فَلَهُ الْإِنْفَاقُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ .
وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَاكِمِ فِي مَوْضِعٍ يَجِدُ حَاكِمًا ، وَإِنْ أَنْفَقَ ضَمِنَ ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ لِأَبِي الصَّغِيرِ وَدَائِعُ عِنْدَ إنْسَانٍ ، فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مَالِهِ ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الْحَضَانَةِ .
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا ، فَفِي جَوَازِ الْإِنْفَاقِ وَجْهَانِ ؛ وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ ابْتِدَاءً ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مَالٍ .
فَإِنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ أَخْذَهُ وَحِفْظَهُ ، وَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ ، وَذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ اللَّقِيطِ وَبَيْنَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَأْذِنَ الْحَاكِمَ فِي مَوْضِعٍ يَجِدُ حَاكِمًا ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ ، وَأَقْطَعُ لِلظِّنَّةِ ، وَفِيهِ خُرُوجٌ بِهِ مِنْ الْخِلَافِ ، وَحِفْظٌ لِمَالِهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي وَلِيِّ الْيَتِيمِ ، فَإِذَا بَلَغَ اللَّقِيطُ ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا أَنْفَقَ ، وَفِي التَّفْرِيطِ فِي الْإِنْفَاقِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْفِقِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ .
( 4563 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَوَلَاؤُهُ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ) يَعْنِي مِيرَاثَهُ لَهُمْ ، فَإِنَّ اللَّقِيطَ حُرُّ الْأَصْلِ ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ خُوِّلُوا كُلَّ مَالٍ لَا مَالِك لَهُ ، وَلِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَالَ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَ اللَّقِيطِ ، فَكَذَلِكَ اللَّقِيطُ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " وَوَلَاؤُهُ لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ " .
تَجَوُّزٌ فِي اللَّفْظِ ، لِاشْتِرَاكِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَهُ الْوَلَاءُ فِي أَخْذِ الْمِيرَاثِ ، وَحِيَازَتِهِ كُلِّهِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ .
هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ شُرَيْحٌ ، وَإِسْحَاقُ : عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِمُلْتَقِطِهِ ؛ لِمَا رَوَى وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمَرْأَةُ تَحُوزُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ ؛ عَتِيقَهَا ، وَلَقِيطَهَا ، وَوَلَدَهَا الَّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي جَمِيلَةَ فِي لُقَطَتِهِ : هُوَ حُرٌّ ، وَلَك وَلَاؤُهُ ، وَعَلَيْنَا نَفَقَتُهُ .
وَلَنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ رِقٌّ ، وَلَا عَلَى آبَائِهِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ ، كَالْمَعْرُوفِ نَسَبُهُ ، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ ابْنَ حُرَّيْنِ ، فَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ ابْنَ مُعْتَقَيْنِ ، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ لِغَيْرِ مُعْتِقِهِمَا .
وَحَدِيثُ وَاثِلَةَ لَا يَثْبُتُ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَخَبَرُ عُمَرَ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَبُو جَمِيلَةَ رَجُلٌ مَجْهُولٌ ، لَا تَقُومُ بِحَدِيثِهِ حُجَّةٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنَى بِقَوْلِهِ : وَلَك وَلَاؤُهُ .
أَيْ لَك وِلَايَتُهُ ، وَالْقِيَامُ بِهِ وَحِفْظُهُ .
لِذَلِكَ ذَكَرَهُ عَقِيبَ قَوْلِ عَرِيفِهِ : إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ .
وَهَذَا يَقْتَضِي تَفْوِيضَ الْوِلَايَةِ إلَيْهِ ، لِكَوْنِهِ مَأْمُونًا عَلَيْهِ دُونَ
الْمِيرَاثِ إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّقِيطِ فِي الْمِيرَاثِ حُكْمُ مِنْ عُرِفَ نَسَبُهُ ، وَانْقَرَضَ أَهْلُهُ ، يُدْفَعُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ .
فَإِنْ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ فَلَهَا الرُّبْعُ ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ .
وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً لَهَا زَوْجٌ ، فَلَهُ النِّصْفُ ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ .
وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ ، أَوْ ذُو رَحِمٍ ، كَبِنْتِ بِنْتٍ ، أَخَذَتْ جَمِيعَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ وَذَا الرَّحِمِ مُقَدَّمٌ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ وَجَدَ اللَّقِيطَ أَمِينًا ، مُنِعَ مِنْ السَّفَرِ بِهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إنْ كَانَ أَمِينًا أُقِرَّ اللَّقِيطُ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَقَرَّ اللَّقِيطَ فِي يَدِ أَبِي جَمِيلَةَ ، حِينَ قَالَ لَهُ عَرِيفُهُ : إنَّهُ رَجُلٌ صَالِحٌ .
وَلِأَنَّهُ سَبَقَ إلَيْهِ ، فَكَانَ أَوْلَى بِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
وَهَلْ يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يَجِبُ ، كَمَا لَا يَجِبُ الْإِشْهَادُ فِي اللُّقَطَةِ وَالثَّانِي يَجِبُ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْإِشْهَادِ حِفْظُ النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَاخْتُصَّ بِوُجُوبِ الشَّهَادَةِ ، كَالنِّكَاحِ ، وَفَارَقَ اللُّقَطَةَ ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا حِفْظُ الْمَالِ ، فَلَمْ يَجِبْ الْإِشْهَادُ فِيهَا ، كَالْبَيْعِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ ، وَيُمْنَعُ مِنْ السَّفَرِ بِهِ ، لِئَلَّا يَدَّعِيَ رِقَّهُ وَيَبِيعَهُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ ، وَيُضَمَّ إلَيْهِ مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّنَا إذَا ضَمَمْنَا إلَيْهِ فِي اللُّقَطَةِ مَنْ يُشْرِفُ عَلَيْهِ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَقَالَ الْقَاضِي : الْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُنْزَعُ مِنْ يَدَيْهِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حِفْظِ اللَّقِيطِ إلَّا الْوِلَايَةُ ، وَلَا وِلَايَةَ لِفَاسِقٍ .
وَفَارَقَ اللُّقَطَةَ مِنْ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّ فِي اللُّقَطَةِ مَعْنَى الْكَسْبِ ، وَلَيْسَ هَا هُنَا إلَّا الْوِلَايَةُ .
وَالثَّانِي أَنَّ اللُّقَطَةَ لَوْ انْتَزَعْنَاهَا مِنْهُ رَدَدْنَاهَا إلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ ، فَاحْتَطْنَا عَلَيْهَا مَعَ بَقَائِهَا فِي يَدَيْهِ ، وَهَا هُنَا لَا تُرَدُّ إلَيْهِ بَعْدَ الِانْتِزَاعِ مِنْهُ بِحَالٍ ، فَكَانَ الِانْتِزَاعُ أَحْوَطَ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَقْصُودَ ثَمَّ حِفْظُ الْمَالِ ، وَيُمْكِنُ الِاحْتِيَاطُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَسْتَظْهِرَ عَلَيْهِ فِي التَّعْرِيفِ ، أَوْ يَنْصِبَ الْحَاكِمُ مَنْ
يُعَرِّفُهَا ، وَهَا هُنَا الْمَقْصُودُ حِفْظُ الْحُرِّيَّةِ وَالنَّسَبِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدَّعِي رِقَّهُ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ ، أَوْ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ ، وَلِأَنَّ اللُّقَطَةَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى حِفْظِهَا وَالِاحْتِيَاطِ عَلَيْهَا عَامًا وَاحِدًا ، وَهَذَا يُحْتَاجُ إلَى الِاحْتِيَاطِ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ زَمَانِهِ وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، فَلَا يُنْزَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ بِالْتِقَاطِهِ إيَّاهُ ، وَسَبْقِهِ إلَيْهِ ، وَأَمْكَنَ حِفْظُ اللَّقِيطِ فِي يَدَيْهِ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ ، وَضَمِّ أَمِينٍ يُشَارِفُهُ إلَيْهِ ، وَيُشِيعُ أَمْرَهُ ، فَيُعْرَفُ أَنَّهُ لَقِيطٌ ، فَيُحْفَظُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ زَوَالِ وِلَايَتِهِ .
جَمْعًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ ، كَمَا فِي اللُّقَطَةِ ، وَكَمَا لَوْ كَانَ الْوَصِيُّ خَائِنًا .
وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّرْجِيحِ لِلُّقَطَةِ فَيُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ بِأَنَّ اللَّقِيطَ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ لَا تَخْفَى الْخِيَانَةُ فِيهِ ، وَاللُّقَطَةُ مَسْتُورَةٌ خَفِيَّةٌ تَتَطَرَّقُ إلَيْهَا الْخِيَانَةُ ، وَلَا يُعْلَمُ بِهَا ، وَلِأَنَّ اللُّقَطَةَ يُمْكِنُ أَخْذُ بَعْضِهَا وَتَنْقِيصُهَا وَإِبْدَالُهَا ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فِي اللَّقِيطِ وَلِأَنَّ الْمَالَ مَحَلُّ الْخِيَانَةِ ، وَالنُّفُوسُ إلَى تَنَاوُلِهِ وَأَخْذِهِ دَاعِيَةٌ ، بِخِلَافِ اللَّقِيطِ .
فَعَلَى هَذَا ، مَتَى أَرَادَ الْمُلْتَقِطُ السَّفَرَ بِاللَّقِيطِ مُنِعَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُبْعِدُهُ مِمَّنْ عَرَفَ ؛ فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَدَّعِيَ رِقَّهُ وَيَبِيعَهُ .
( 4565 ) فَصْلٌ : وَإِذَا الْتَقَطَ اللَّقِيطَ مَنْ هُوَ مَسْتُورُ الْحَالِ ، لَمْ تُعْرَفُ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْعَدَالَةِ وَلَا الْخِيَانَةِ ، أُقِرَّ اللَّقِيطُ فِي يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَدْلِ فِي لُقَطَةِ الْمَالِ وَالْوِلَايَةِ فِي النِّكَاحِ وَالشَّهَادَةِ فِيهِ ، وَفِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمُسْلِمِ الْعَدَالَةُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ .
فَإِنْ أَرَادَ السَّفَرَ بِلُقَطَتِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ أَمَانَتَهُ ، فَلَمْ تُؤْمَنْ الْخِيَانَةُ مِنْهُ وَالثَّانِي يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ مُشْرِفٍ يُضَمُّ إلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ الْعَدْلَ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ السَّتْرُ وَالصِّيَانَةُ .
فَأَمَّا مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ ، وَظَهَرَتْ أَمَانَتُهُ ، فَيُقَرُّ اللَّقِيطُ فِي يَدِهِ فِي سَفَرِهِ وَحَضَرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُونٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَ سَفَرُهُ لِغَيْرِ النَّقْلَةِ .
( 4566 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ سَفَرُ الْأَمِينِ بِاللَّقِيطِ إلَى مَكَان يُقِيمُ بِهِ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ الْتَقَطَهُ مِنْ الْحَضَرِ ، فَأَرَادَ النَّقْلَةَ بِهِ إلَى الْبَادِيَةِ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ مُقَامَهُ فِي الْحَضَرِ أَصْلَحُ لَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَأَرْفَهُ لَهُ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا وُجِدَ فِي الْحَضَرِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وُلِدَ فِيهِ ، فَبَقَاؤُهُ فِيهِ أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ وَظُهُورِ أَهْلِهِ ، وَاعْتِرَافِهِمْ بِهِ .
وَإِنْ أَرَادَ النَّقْلَةَ بِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ مِنْ الْحَضَرِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا لَا يُقَرُّ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ فِي بَلَدِهِ أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ ، فَلَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ الْمُنْتَقِلُ عَنْهُ ، قِيَاسًا عَلَى الْمُنْتَقِلِ بِهِ إلَى الْبَادِيَةِ .
وَالثَّانِي ، يُقَرُّ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ ، وَالْبَلَدُ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ فِي الرَّفَاهِيَةِ ، فَيُقَرُّ فِي يَدِهِ ، كَمَا لَوْ انْتَقَلَ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْ الْبَلَدِ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَفَارَقَ الْمُنْتَقِلَ بِهِ إلَى الْبَادِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِهِ بِتَفْوِيتِ الرَّفَاهِيَةِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ الْتَقَطَهُ مِنْ الْبَادِيَةِ فَلَهُ نَقْلُهُ إلَى الْحَضَرِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُلُهُ مِنْ أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالشَّقَاءِ إلَى الرَّفَاهِيَةِ وَالدَّعَةِ وَالدِّينِ .
وَإِنْ أَقَامَ بِهِ فِي حِلَّةٍ يَسْتَوْطِنُهَا ، فَلَهُ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ يَنْتَقِلُ بِهِ فِي الْمَوَاضِعِ ، احْتَمَلَ أَنْ يُقَرَّ فِي يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ ابْنُ بَدَوِيَّيْنِ ، وَإِقْرَارُهُ فِي يَدَيْ مُلْتَقِطِهِ أَرْجَى لِكَشْفِ نَسَبِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ ، فَيُدْفَعَ إلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَهُ لَهُ ، وَأَخَفُّ عَلَيْهِ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : يُنْزَعُ مِنْ مُلْتَقِطِهِ .
فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا وُجِدَ مَنْ يُدْفَعُ إلَيْهِ ، مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ .
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَقُومُ بِهِ ، أُقِرَّ فِي يَدَيْ مُلْتَقِطِهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي يَدَيْهِ مَعَ قُصُورِهِ ، أَوْلَى مِنْ إهْلَاكِهِ .
وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا
مِثْلُ مُلْتَقِطِهِ ، فَمُلْتَقِطُهُ أَوْلَى بِهِ ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِي نَزْعِهِ مِنْ يَدِهِ ، وَدَفْعِهِ إلَى مِثْلِهِ .
( 4567 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ الْتِقَاطُ الطِّفْلِ الْمَنْبُوذِ ، إذَا وُجِدَ مَنْ يَلْتَقِطُهُ سِوَاهُ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لِسَيِّدِهِ ؛ فَلَا يُذْهِبُهَا فِي غَيْرِ نَفْعِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَلَى اللَّقِيطِ إلَّا الْوِلَايَةُ ، وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ .
فَإِنْ الْتَقَطَهُ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ السَّيِّدُ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ ، أُقِرَّ فِي يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ فِي ذَلِكَ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ الْتَقَطَهُ بِيَدِهِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : إنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ الْتَقَطَهُ .
وَالْحُكْمُ فِي الْأَمَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمُكَاتَبِ .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَلْتَقِطُهُ سِوَاهُ ، وَجَبَ الْتِقَاطُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَخْلِيصٌ لَهُ مِنْ الْهَلَاكِ ، فَأَشْبَهَ تَخْلِيصَهُ مِنْ الْغَرَقِ وَالْمُدَبَّرُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ ، وَالْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ ، كَالْقِنِّ ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّبَرُّعُ بِمَالِهِ ، وَلَا بِمَنَافِعِهِ ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي ذَلِكَ .
( 4568 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْكَافِرِ الْتِقَاطُ مُسْلِمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَفْتِنَهُ وَيُعَلِّمَهُ الْكُفْرَ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرَبِّيه عَلَى دِينِهِ ، وَيَنْشَأُ عَلَى ذَلِكَ ، كَوَلَدِهِ .
فَإِنْ الْتَقَطَهُ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ .
وَإِنْ كَانَ الطِّفْلُ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ ، فَلَهُ الْتِقَاطُهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ .
( 4569 ) فَصْلٌ : وَإِنْ الْتَقَطَهُ اثْنَانِ ، وَتَنَاوَلَاهُ تَنَاوُلًا وَاحِدًا ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ ، كَالْمُسْلِمِ الْعَدْلِ الْحُرِّ ، وَالْآخَرُ مِمَّنْ لَا يُقَرُّ فِي يَدَيْهِ ، كَالْكَافِرِ إذَا كَانَ اللَّقِيطُ مُسْلِمًا ، وَالْفَاسِقِ ، وَالْعَبْدِ إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ ، وَالْمُكَاتَبِ ، فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ إلَى مَنْ يُقَرُّ فِي يَدِهِ ، وَتَكُونُ مُشَارَكَةُ هَؤُلَاءِ لَهُ كَعَدَمِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ الْتَقَطَهُ وَحْدَهُ لَمْ يُقَرَّ فِي يَدِهِ ، فَإِذَا شَارَكَهُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِقَاطِ أَوْلَى .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَا جَمِيعًا مِمَّنْ لَا يُقَرُّ فِي يَدَيْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنَّهُ يُنْزَعُ مِنْهُمَا ، وَيُسَلَّمُ إلَى غَيْرِهِمَا .
الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّنْ يُقَرُّ فِي يَدِهِ لَوْ انْفَرَدَ ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَحْظُ لِلَّقِيطِ مِنْ الْآخَرِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا ، فَالْمُوسِرُ أَحَقُّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْظُ لِلطِّفْلِ ، وَإِنْ الْتَقَطَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ طِفْلًا مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ ، فَالْمُسْلِمُ أَحَقُّ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : هُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ لِلْكَافِرِ وِلَايَةً عَلَى الْكَافِرِ ، وَيُقَرُّ فِي يَدِهِ إذَا انْفَرَدَ بِالْتِقَاطِهِ ، فَسَاوَى الْمُسْلِمَ فِي ذَلِكَ وَلَنَا أَنَّ دَفْعَهُ إلَى الْمُسْلِمِ أَحْظُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا ، فَيَسْعَدُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَيَنْجُو مِنْ النَّارِ ، وَيَتَخَلَّصُ مِنْ الْجِزْيَةِ وَالصَّغَارِ ، فَالتَّرْجِيحُ بِهَذَا أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْيَسَارِ الَّذِي إنَّمَا يُتَعَلَّقُ بِهِ تَوْسِعَةً عَلَيْهِ فِي الْإِنْفَاقِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُوسِرُ بَخِيلًا ، فَلَا تَحْصُلُ التَّوْسِعَةُ .
فَإِنْ تَعَارَضَ التَّرْجِيحَانِ ، فَكَانَ الْمُسْلِمُ فَقِيرًا وَالْكَافِرُ مُوسِرًا ، فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ النَّفْعَ الْحَاصِلَ لَهُ بِإِسْلَامِهِ أَعْظَمُ مِنْ النَّفْعِ الْحَاصِلِ بِيَسَارِهِ مَعَ كُفْرِهِ .
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمْ فِي تَقْدِيمِ
الْمُوسِرِ ، يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ الْجَوَادُ عَلَى الْبَخِيلِ ؛ لِأَنَّ حَظَّ الطِّفْلِ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي يَحْصُلُ لَهُ الْحَظُّ فِيهَا بِالْيَسَارِ ، وَرُبَّمَا تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِهِ ، وَتَعَلَّمَ مِنْ جُودِهِ .
الرَّابِعُ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِمَا مُسْلِمَيْنِ عَدْلَيْنِ حُرَّيْنِ مُقِيمَيْنِ ، فَهُمَا سَوَاءٌ فِيهِ ، فَإِنْ رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ ، وَتَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْإِيثَارِ بِهِ .
وَإِنْ تَشَاحَّا ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } .
وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمَا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَإِنْ تَهَايَآهُ ، فَجُعِلَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، أَضَرَّ بِالطِّفْلِ ؛ لِأَنَّهُ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَغْذِيَةُ وَالْأُنْسُ وَالْإِلْفُ .
وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا مُتَسَاوٍ ، فَتَعْيِينُ أَحَدِهِمَا بِالتَّحَكُّمِ لَا يَجُوزُ ، فَتَعَيَّنَ الْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا يُقْرَعُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي تَعْيِينِ السِّهَامِ فِي الْقِسْمَةِ ، وَبَيْنَ النِّسَاءِ فِي الْبِدَايَةِ بِالْقِسْمَةِ ، وَبَيْنَ الْعَبِيدِ فِي الْإِعْتَاقِ .
وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ سَوَاءٌ ، وَلَا تُرَجَّحُ الْمَرْأَةُ هَا هُنَا ، كَمَا تُرَجَّحُ فِي حَضَانَةِ وَلَدِهَا عَلَى أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهَا رُجِّحَتْ ثَمَّ لِشَفَقَتِهَا عَلَى وَلَدِهَا ، وَتَوَلِّيهَا لِحَضَانَتِهِ بِنَفْسِهَا ، وَالْأَبُ يَحْضُنُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ ، فَكَانَتْ أُمُّهُ أَحْظَ لَهُ وَأَرْفَقَ بِهِ ، أَمَّا هَا هُنَا ، فَإِنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ اللَّقِيطِ ، وَالرَّجُلُ يَحْضُنُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَاسْتَوَيَا .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ جَمِيعِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَسْتُورَ الْحَالِ ، وَالْآخَرُ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ ، احْتَمَلَ أَنْ يُرَجَّحَ الْعَدْلُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الِالْتِقَاطِ
مُنْتَفٍ فِي حَقِّهِ بِغَيْرِ شَكٍّ ، وَالْأَمْرُ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَيَكُونُ الْحَظُّ لِلطِّفْلِ فِي تَسْلِيمِهِ إلَيْهِ أَتَمَّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَسَاوَيَا ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ وُجُودِ الْمَانِعِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ ، فَلَا يُؤَثِّرُ التَّرْجِيحُ .
( 4570 ) فَصْلٌ : وَإِنْ رَأَيَاهُ جَمِيعًا ، فَسَبَقَ أَحَدُهُمَا فَأَخَذَهُ ، أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ سَبَقَ إلَى مَا لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ مُسْلِمٌ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } .
وَإِنْ رَآهُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ ، فَسَبَقَ إلَى أَخْذِهِ الْآخَرُ ، فَالسَّابِقُ إلَى أَخْذِهِ أَحَقُّ ؛ لِأَنَّ الِالْتِقَاطَ هُوَ الْأَخْذُ لَا الرُّؤْيَةَ .
وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : نَاوِلْنِيهِ .
فَأَخَذَهُ الْآخَرُ ، نَظَرْنَا إلَى نِيَّتِهِ ، فَإِنْ نَوَى أَخْذَهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ أَحَقُّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ الْآخَرُ بِمُنَاوَلَتِهِ إيَّاهُ ، وَإِنْ نَوَى مُنَاوَلَتَهُ فَهُوَ لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِنِيَّةِ النِّيَابَةِ عَنْهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَكَّلَ لَهُ فِي تَحْصِيلِ مُبَاحٍ .
( 4571 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَنَا الْتَقَطْته .
وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا ، وَكَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ الْتَقَطَهُ .
ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ ، كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ ، لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ ؛ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
فَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا ، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ ، حَلَفَ وَسُلِّمَ إلَيْهِ .
وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي : لَا تُشْرَعُ الْيَمِينُ هَا هُنَا ، وَيُسَلَّمُ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ وُقُوعِ الْقُرْعَةِ لَهُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : يُسَلِّمُهُ الْحَاكِمُ إلَى مَنْ يَرَى مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمَا .
وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا تَنَازَعَا حَقًّا فِي يَدِ غَيْرِهِمَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَنَازَعَا وَدِيعَةً عِنْدَ غَيْرِهِمَا .
فَإِنْ وَصَفَهُ أَحَدُهُمَا ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : فِي ظَهْرِهِ شَامَةٌ ، أَوْ بِجَسَدِهِ عَلَامَةٌ .
وَذَكَرَ شَيْئًا فِي جَسَدِهِ مَسْتُورًا ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يُقَدَّمُ بِالصِّفَةِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُقَدَّمُ بِالصِّفَةِ ، كَمَا لَوْ وَصَفَ الْمُدَّعِي ، فَإِنَّهُ لَا تُقَدَّمُ بِهِ دَعْوَاهُ .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ اللُّقَطَةِ ، فَقُدِّمَ بِوَصْفِهَا ، كَلُقَطَةِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ يَدِهِ ، فَكَانَ مُقَدَّمًا بِهَا .
وَقِيَاسُ اللَّقِيطِ عَلَى اللُّقَطَةِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّقِيطَ لُقَطَةٌ أَيْضًا .
وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ ، قُدِّمَ بِهَا .
وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ ، قُدِّمَ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا ؛ لِأَنَّ
الثَّانِيَ إنَّمَا أَخَذَ مِمَّنْ قَدْ ثَبَتَ الْحَقُّ فِيهِ لِغَيْرِهِ .
وَإِنْ اسْتَوَى تَارِيخُهُمَا ، أَوْ أُطْلِقَتَا مَعًا ، أَوْ أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى ، فَقَدْ تَعَارَضَتَا .
وَهَلْ يَسْقُطَانِ أَوْ يُسْتَعْمَلَانِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَسْقُطَانِ ، فَيَصِيرَانِ كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا .
وَالثَّانِي ، يُسْتَعْمَلَانِ ، وَيُقْرَعُ بَيْنَهُمَا ، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ كَانَ أَوْلَى .
وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، فَهَلْ تُقَدَّمُ بَيِّنَتُهُ عَلَى بَيِّنَةِ الْآخَرِ ، أَوْ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي دَعْوَى الْمَالِ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ مِمَّنْ لَا تُقَرُّ يَدُهُ عَلَى اللَّقِيطِ ، أُقِرَّ فِي يَدِ الْآخَرِ ، وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى دَعْوَى مِنْ لَا يُقَرُّ فِي يَدِهِ بِحَالٍ .
( 4572 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِذَا ادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ ، أُرِيَ الْقَافَةَ ، فَبِأَيِّهِمَا أَلْحَقُوهُ لَحِقَ ) يَعْنِي إذَا اُدُّعِيَ نَسَبُهُ ، فَلَا تَخْلُو دَعْوَى نَسَبِ اللَّقِيطِ مِنْ قِسْمَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدَّعِيَهُ وَاحِدٌ يَنْفَرِدُ بِدَعْوَاهُ ، فَيُنْظَرُ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي رَجُلًا مُسْلِمًا حُرًّا ، لَحِقَ نَسَبُهُ بِهِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَحْضُ نَفْعٍ لِلطِّفْلِ لِاتِّصَالِ نَسَبِهِ ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ ، فَقُبِلَ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُقِرُّ بِهِ مُلْتَقِطَهُ ، أُقِرَّ فِي يَدِهِ .
وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ أَبُوهُ ، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِوَلَدِهِ ، كَمَا لَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ .
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي لَهُ عَبْدًا ، لَحِقَ بِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ لِمَائِهِ حُرْمَةً ، فَلَحِقَ بِهِ نَسَبُهُ كَالْحُرِّ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ لَهُ حَضَانَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ ، وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ ، وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ الطِّفْلَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ ، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي ذِمِّيًّا ، لَحِقَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى مِنْ الْعَبْدِ فِي ثُبُوتِ الْفِرَاشِ ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ بِالنِّكَاحِ وَالْوَطْءِ فِي الْمِلْكِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا يَلْحَقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَجْهُولِ النَّسَبِ ، يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ ، وَلَيْسَ فِي إقْرَارِهِ إضْرَارٌ بِغَيْرِهِ ، فَيَثْبُتُ إقْرَارُهُ ، كَالْمُسْلِمِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ مِنْ النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي حَضَانَتِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يَتْبَعُهُ فِي دِينِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا لَحِقَهُ فِي نَسَبِهِ يَلْحَقُ بِهِ فِي دِينِهِ ، كَالْبَيِّنَةِ ، إلَّا أَنَّهُ يُحَالُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ ، وَلَنَا أَنَّ هَذَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الذِّمِّيِّ فِي كُفْرِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ ؛ وَلِأَنَّهَا دَعْوَى تُخَالِفُ الظَّاهِرَ ، فَلَمْ تُقْبَلْ بِمُجَرَّدِهَا ، كَدَعْوَى رِقِّهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَبِعَهُ فِي دِينِهِ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِنَسَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ إضْرَارًا بِهِ ، فَلَمْ تُقْبَلْ ، كَدَعْوَى الرِّقِّ .
أَمَّا مُجَرَّدُ النَّسَبِ بِدُونِ اتِّبَاعِهِ فِي الدِّينِ ، فَمَصْلَحَةٌ عَارِيَّةٌ عَنْ الضَّرَرِ ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ .
وَلَا يَجُوزُ قَبُولُهُ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ الضَّرَرِ وَالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي امْرَأَةً ، فَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَرُوِيَ أَنَّ دَعْوَاهَا تُقْبَلُ ، وَيَلْحَقُهَا نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّهَا أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ ، فَيَثْبُتُ النَّسَبُ بِدَعْوَاهَا ، كَالْأَبِ ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا ، كَمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلَدَ الرَّجُلِ ، بَلْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهَا تَأْتِي بِهِ مِنْ زَوْجٍ ، وَوَطْءٍ بِشُبْهَةٍ ، وَيَلْحَقُهَا وَلَدُهَا مِنْ الزِّنَى دُونَ الرَّجُلِ ، وَلِأَنَّ فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، حِينَ تَحَاكَمَ إلَيْهِمَا امْرَأَتَانِ كَانَ لَهُمَا ابْنَانِ ، فَذَهَبَ الذِّئْبُ بِأَحَدِهِمَا ، فَادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْبَاقِيَ ابْنُهَا ، وَأَنَّ الَّذِي أَخَذَهُ الذِّئْبُ ابْنُ الْأُخْرَى ، فَحَكَمَ بِهِ دَاوُد لِلْكُبْرَى ، وَحَكَمَ بِهِ سُلَيْمَانُ لِلْأُخْرَى ، بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْهُمَا .
وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، يَلْحَقُ بِهَا دُونَ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ نَسَبُ وَلَدٍ لَمْ يُقِرَّ بِهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الرَّجُلُ نَسَبَهُ ، لَمْ يَلْحَقْ بِزَوْجَتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الرَّجُلُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى ، أَوْ مِنْ أَمَتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ لَا يَحِلُّ لَهَا نِكَاحُ غَيْرِ زَوْجِهَا ، وَلَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا لِغَيْرِهِ .
قُلْنَا : يُمْكِنُ أَنْ تَلِدَ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ غَيْرِهِ .
وَإِنْ
كَانَ الْوَلَدُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا هَذَا الزَّوْجُ ، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا قُبِلَ الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، بِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الصَّبِيِّ ، وَصِيَانَتِهِ عَنْ النِّسْبَةِ إلَى كَوْنِهِ وَلَدَ زِنًا ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِإِلْحَاقِ نَسَبِهِ بِالْمَرْأَةِ ، بَلْ إلْحَاقُهُ بِهَا دُونَ زَوْجِهَا تَطَرُّقٌ لِلْعَارِ إلَيْهِ وَإِلَيْهَا .
قُلْنَا : بَلْ قَبِلْنَا دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي حَقًّا لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ ، وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى أَحَدٍ فِيهِ ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ ، كَدَعْوَى الْمَالِ ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ فِي دَعْوَى الْمَرْأَةِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّهَا إنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ ، لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِدَعْوَاهَا ، لِإِفْضَائِهِ إلَى إلْحَاقِ النَّسَبِ بِزَوْجِهَا بِغَيْرِ إقْرَارِهِ وَلَا رِضَاهُ ، أَوْ إلَى أَنَّ امْرَأَتَهُ وُطِئَتْ بِزِنًا أَوْ شُبْهَةٍ ، وَفِي ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَيْهِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِيمَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ ، قُبِلَتْ دَعْوَاهَا لِعَدَمِ هَذَا الضَّرَرِ .
وَهَذَا أَيْضًا وَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ ، نَقَلَهَا الْكَوْسَجُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي امْرَأَةٍ ادَّعَتْ وَلَدًا : إنْ كَانَ لَهَا إخْوَةٌ أَوْ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ ، لَا تُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا دَافِعٌ ، لَمْ يُحَلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهَا أَهْلٌ وَنَسَبٌ مَعْرُوفٌ ، لَمْ تُخْفِ وِلَادَتَهَا عَلَيْهِمْ ، وَيَتَضَرَّرُونَ بِإِلْحَاقِ النَّسَبِ بِهَا ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْيِيرِهِمْ بِوِلَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَهْلٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ بِدَعْوَاهَا بِحَالٍ .
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِدَعْوَى الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا
يُمْكِنُهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بِمُجَرَّدِهِ ، كَمَا لَوْ عَلَّقَ زَوْجُهَا طَلَاقَهَا بِوِلَادَتِهَا .
وَلَنَا أَنَّهَا أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ ، فَأَشْبَهَتْ الْأَبَ ، وَإِمْكَانُ الْبَيِّنَةِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْقَوْلِ ، كَالرَّجُلِ ، فَإِنَّهُ تُمْكِنُهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَمَةً ، فَهِيَ كَالْحُرَّةِ ، إلَّا أَنَّنَا إذَا قَبِلْنَا دَعْوَاهَا فِي نَسَبِهِ ، لَمْ نَقْبَلْ قَوْلَهَا فِي رِقِّهِ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَقْبَلُ الدَّعْوَى فِيمَا يَضُرُّهُ ، كَمَا لَمْ نَقْبَلْ الدَّعْوَى فِي كُفْرِهِ إذَا ادَّعَى نَسَبَهُ كَافِرٌ .
( 4573 ) الْقِسْمُ الثَّانِي ، أَنْ يَدَّعِيَ نَسَبَهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فِي فُصُولٍ : أَحَدُهَا أَنَّهُ إذَا ادَّعَاهُ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ ، أَوْ حُرٌّ وَعَبْدٌ ، فَهُمَا سَوَاءٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنْ الذِّمِّيِّ ، وَالْحُرُّ أَوْلَى مِنْ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ عَلَى اللَّقِيطِ ضَرَرًا فِي إلْحَاقِهِ بِالْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ ، فَكَانَ إلْحَاقُهُ بِالْحُرِّ الْمُسْلِمِ أَوْلَى ، كَمَا لَوْ تَنَازَعُوا فِي الْحَضَانَةِ .
وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إذَا انْفَرَدَ صَحَّتْ دَعْوَاهُ ، فَإِذَا تَنَازَعُوا ، تَسَاوَوْا فِي الدَّعْوَى ، كَالْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الضَّرَرِ لَا يَتَحَقَّقُ ، فَإِنَّنَا لَا نَحْكُمُ بِرِقِّهِ وَلَا كُفْرِهِ .
وَلَا يُشْبِهُ النَّسَبُ الْحَضَانَةَ ، بِدَلِيلِ أَنَّنَا نُقَدِّمُ فِي الْحَضَانَةِ الْمُوسِرَ وَالْحَضَرِيَّ ، وَلَا نُقَدِّمُهُمَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إذَا كَانَ عَبْدٌ ، امْرَأَتُهُ أَمَةٌ ، فِي أَيْدِيهِمَا صَبِيٌّ ، فَادَّعَى رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ امْرَأَتُهُ عَرَبِيَّةٌ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ ، فَأَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ ابْنُهُ ، فَهُوَ ابْنُهُ فِي قَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُقْضَى بِهِ لِلْعَرَبِيِّ ، لِلْعِتْقِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي مِنْ الْمَوَالِي عَبْدَهُمْ .
وَقَوْلُهُمْ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ وَغَيْرَهُمْ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ بِهِمْ سَوَاءٌ .
( 4574 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا ادَّعَاهُ اثْنَانِ ، فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا بِهِ بَيِّنَةٌ ، فَهُوَ ابْنُهُ .
وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ ، تَعَارَضَتَا ، وَسَقَطَتَا ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُمَا هَا هُنَا ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُمَا فِي الْمَالِ إمَّا بِقِسْمَتِهِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ هَا هُنَا ، وَإِمَّا بِالْإِقْرَاعِ بَيْنَهُمَا ، وَالْقُرْعَةُ لَا يَثْبُتُ بِهَا النَّسَبُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّ ثُبُوتَهُ هَا هُنَا يَكُونُ بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالْقُرْعَةِ ، وَإِنَّمَا الْقُرْعَةُ مُرَجَّحَةٌ .
قُلْنَا : فَيَلْزَمُ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ، يُقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، وَيَكُونُ لُحُوقُهُ بِالْوَطْءِ لَا بِالْقُرْعَةِ .
( 4575 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ بِهِ بَيِّنَةٌ ، أَوْ تَعَارَضَتْ بِهِ بَيِّنَتَانِ ، وَسَقَطَتَا ، فَإِنَّا نُرِيهِ الْقَافَةَ مَعَهُمَا ، أَوْ مَعَ عَصَبَتِهِمَا عِنْدَ فَقْدِهِمَا ، فَنُلْحِقُهُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ مِنْهُمَا .
هَذَا قَوْلُ أَنَسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَاللَّيْثِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا حُكْمَ لِلْقَافَةِ ، وَيُلْحَقُ بِالْمُدَّعِيَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ تَعْوِيلٌ عَلَى مُجَرَّدِ الشَّبَهِ وَالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ ، فَإِنَّ الشَّبَهَ يُوجَدُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ ، وَيَنْتَفِي بَيْنَ الْأَقَارِبِ ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ ، فَقَالَ : هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَمَا أَلْوَانُهَا ؟ .
قَالَ : حُمْرٌ .
قَالَ : فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : أَنَّى أَتَاهَا ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ .
قَالَ : وَهَذَا لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
قَالُوا : وَلَوْ كَانَ الشَّبَهُ كَافِيًا لَاكْتُفِيَ بِهِ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ ، وَفِيمَا إذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِأَخٍ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا مَسْرُورًا ، تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ ، فَقَالَ : أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ نَظَرَ آنِفًا إلَى زَيْدٍ وَأُسَامَةَ ، وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا ، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا ، فَقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ؟ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَلَوْلَا جَوَازُ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْقَافَةِ لَمَا سُرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى بِهِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ ، فَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ : { اُنْظُرُوهَا ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ حَمْشَ السَّاقَيْنِ كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ فَلَا أَرَاهُ إلَّا قَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ ، جَعْدًا ، جُمَالِيًّا ، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ ، فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ .
فَأَتَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } .
فَقَدْ حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَشْبَهَهُ مِنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ : { لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْعَمَلِ بِالشَّبَهِ إلَّا الْأَيْمَانُ ، فَإِذَا انْتَفَى الْمَانِعُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ لِوُجُودِ مُقْتَضِيه .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ ، حِينَ رَأَى بِهِ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ : { احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ } .
فَعَمِلَ بِالشَّبَهِ فِي حَجْبِ سَوْدَةَ عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْحَدِيثَانِ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ ، إذْ لَمْ يَحْكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّبَهِ فِيهِمَا ، بَلْ أَلْحَقَ الْوَلَدَ بِزَمْعَةَ ، { وَقَالَ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ : هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } .
وَلَمْ يَعْمَلْ بِشَبَهِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا ، لِشَبَهِهِ بِالْمَقْذُوفِ .
قُلْنَا : إنَّمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ فِي ابْنِ أَمَةِ زَمَعَةَ ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ أَقْوَى ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا ، لَا يُوجِبُ الْإِعْرَاضَ عَنْهَا إذَا خَلَتْ عَنْ الْمُعَارِضِ .
وَكَذَلِكَ تَرْكُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ أَيْمَانِهَا ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ .
} عَلَى أَنَّ ضَعْفَ الشَّبَهِ عَنْ إقَامَةِ الْحَدِّ لَا يُوجِبُ ضَعْفَهُ عَنْ إلْحَاقِ النَّسَبِ ، فَإِنَّ الْحَدَّ فِي الزِّنَى لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَقْوَى
الْبَيِّنَاتِ ، وَأَكْثَرِهَا عَدَدًا ، وَأَقْوَى الْإِقْرَارِ ، حَتَّى يُعْتَبَرَ فِيهِ تَكْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، وَيُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الْوِلَادَةِ ، وَيَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ، وَيَثْبُتُ مَعَ ظُهُورِ انْتِفَائِهِ ، حَتَّى لَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ بِوَلَدٍ وَزَوْجُهَا غَائِبٌ عَنْهَا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً ، لَحِقَهُ وَلَدُهَا ، فَكَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَى نَفْيِهِ بِعَدَمِ إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ بِظَنٍّ غَالِبٍ ، وَرَأْيٍ رَاجِحٍ ، مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ ، فَجَازَ ، كَقَوْلِ الْمُقَوِّمِينَ ، وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الشَّبَهَ يَجُوزُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ .
قُلْنَا : الظَّاهِرُ وُجُودُهُ ، وَلِهَذَا { قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : أَوَ تَرَى ذَلِكَ الْمَرْأَةُ ؟ قَالَ : فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ ؟ } .
وَالْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الرَّجُلِ وَلَدَهُ لِمُخَالَفَةِ لَوْنِهِ ، وَعَزْمِهِ عَلَى نَفْيِهِ لِذَلِكَ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ خِلَافُهُ ، وَأَنَّ فِي طِبَاعِ النَّاسِ إنْكَارَهُ ، وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُوجَدُ نَادِرًا ، وَإِنَّمَا أَلْحَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ لِوُجُودِ الْفِرَاشِ ، وَتَجُوزُ مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ لِدَلِيلٍ ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَلِأَنَّ ضَعْفَ الشَّبَهِ عَنْ نَفْيِ النَّسَبِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ ضَعْفُهُ عَنْ إثْبَاتِهِ ، فَإِنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ ، وَيَثْبُتُ بِأَدْنَى دَلِيلٍ ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّشْدِيدُ فِي نَفْيِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِأَقْوَى الْأَدِلَّةِ ، كَمَا أَنَّ الْحَدَّ لَمَّا انْتَفَى بِالشَّبَهِ ، لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِأَقْوَى دَلِيلٍ ، فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ نَفْيِهِ بِالشَّبَهِ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ ، أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ النَّسَبُ فِي مَسْأَلَتِنَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَاهُنَا إنْ عَمِلْتُمْ بِالْقَافَةِ فَقَدْ نَفَيْتُمْ النَّسَبَ عَمَّنْ لَمْ تُلْحِقْهُ الْقَافَةُ بِهِ .
قُلْنَا :
إنَّمَا انْتَفَى النَّسَبُ هَا هُنَا لِعَدَمِ دَلِيلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إلَّا مُجَرَّدُ الدَّعْوَى ، وَقَدْ عَارَضَهَا مِثْلُهَا ، فَسَقَطَ حُكْمُهَا ، وَكَانَ الشَّبَهُ مُرَجِّحًا لِأَحَدِهِمَا ، فَانْتَفَتْ دَلَالَةٌ أُخْرَى ، فَلَزِمَ انْتِفَاءُ النَّسَبِ لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ ، وَتَقْدِيمُ اللِّعَانِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ ، كَالْيَدِ تُقَدَّمُ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ ، وَيُعْمَلُ بِهَا .
( 4576 ) فَصْلٌ : وَالْقَافَةُ قَوْمٌ يَعْرِفُونَ الْإِنْسَانَ بِالشَّبَهِ ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِقَبِيلَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، بَلْ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ ، وَتَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْإِصَابَةُ ، فَهُوَ قَائِفٌ .
وَقِيلَ : أَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي بَنِي مُدْلِجٍ رَهْطِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِي الَّذِي رَأَى أُسَامَةَ وَأَبَاهُ زَيْدًا قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا ، وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا ، فَقَالَ : " إنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ " .
وَكَانَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيّ قَائِفًا ، وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي شُرَيْحٍ .
وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَائِفِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا ، عَدْلًا ، مُجَرَّبًا فِي الْإِصَابَةِ ، حُرًّا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ حُكْمٌ ، وَالْحَكَمُ تُعْتَبَرُ لَهُ هَذِهِ الشُّرُوطُ .
قَالَ الْقَاضِي : وَتُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْقَائِفِ بِالتَّجْرِبَةِ ، وَهُوَ أَنْ يُتْرَكَ الصَّبِيُّ مَعَ عَشَرَةٍ مِنْ الرِّجَالِ غَيْرِ مَنْ يَدَّعِيه ، وَيُرَى إيَّاهُمْ ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ سَقَطَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّا نَتَبَيَّنُ خَطَأَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُلْحِقْهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ، أَرَيْنَاهُ إيَّاهُ مَعَ عِشْرِينَ فِيهِمْ مُدَّعِيه ، فَإِنْ أَلْحَقَهُ بِهِ لَحِقَ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ بِأَنْ يَرَى صَبِيًّا مَعْرُوفَ النَّسَبِ مَعَ قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُوهُ أَوْ أَخُوهُ ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِقَرِيبِهِ ، عُلِمَتْ إصَابَتُهُ ، وَإِنْ أَلْحَقَهُ بِغَيْرِهِ سَقَطَ قَوْلُهُ ، جَازَ .
وَهَذِهِ التَّجْرِبَةُ عِنْدَ عَرْضِهِ عَلَى الْقَائِفِ لِلِاحْتِيَاطِ فِي مَعْرِفَةِ إصَابَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تُجَرِّبْهُ فِي الْحَالِ ، بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالْإِصَابَةِ وَصِحَّةِ الْمَعْرِفَةِ فِي مَرَّاتٍ كَبِيرَةٍ ، جَازَ .
وَقَدْ رَوَيْنَا أَنْ رَجُلًا شَرِيفًا شَكَّ فِي وَلَدٍ لَهُ مِنْ جَارِيَتِهِ ، وَأَبَى أَنْ يَسْتَلْحِقَهُ ، فَمَرَّ بِهِ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي الْمَكْتَبِ ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ ، فَقَالَ : اُدْعُ لِي أَبَاك .
فَقَالَ لَهُ الْمُعَلِّمُ : وَمَنْ أَبُو هَذَا ؟ قَالَ : فُلَانٌ .
قَالَ : مِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنَّهُ أَبُوهُ ؟ قَالَ : هُوَ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ .
فَقَامَ الْمُعَلِّمُ
مَسْرُورًا إلَى أَبِيهِ ، فَأَعْلَمَهُ بُقُولِ إيَاسٍ ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ وَسَأَلَ إيَاسًا ، فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ عَلِمْت أَنَّ هَذَا وَلَدِي ؟ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَهَلْ يَخْفَى وَلَدُك عَلَى أَحَدٍ ، إنَّهُ لَأَشْبَهُ بِك مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ .
فَسُرَّ الرَّجُلُ ، وَاسْتَلْحَقَ وَلَدَهُ .
وَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ ، أَوْ لَا يُقْبَلُ إلَّا قَوْلُ اثْنَيْنِ ؟ فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا قَوْلُ اثْنَيْنِ ، فَإِنَّ الْأَثْرَمَ رَوَى عَنْهُ ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إذَا قَالَ أَحَدُ الْقَافَةِ : هُوَ لِهَذَا .
وَقَالَ الْآخَرُ : هُوَ لِهَذَا ؟ قَالَ : لَا يُقْبَلُ وَاحِدٌ حَتَّى يَجْتَمِعَ اثْنَانِ ، فَيَكُونَانِ شَاهِدَيْنِ .
فَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ الْقَافَةِ أَنَّهُ لِهَذَا ، فَهُوَ لِهَذَا ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ ، فَأَشْبَهَ الشَّهَادَةَ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ ، وَيُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ قَوْلُ وَاحِدٍ .
وَحُمِلَ كَلَامُ أَحْمَدَ عَلَى مَا إذَا تَعَارَضَ قَوْلُ الْقَائِفِينَ ، فَقَالَ : إذَا خَالَفَ الْقَائِفُ غَيْرَهُ ، تَعَارَضَا وَسَقَطَا .
وَإِنْ قَالَ اثْنَانِ قَوْلًا ، وَخَالَفَهُمَا وَاحِدٌ ، فَقَوْلُهُمَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُمَا شَاهِدَانِ ، فَقَوْلُهُمَا أَقْوَى مِنْ قَوْلِ وَاحِدٍ .
وَإِنْ عَارَضَ قَوْلُ اثْنَيْنِ قَوْلَ اثْنَيْنِ ، سَقَطَ قَوْلُ الْجَمِيعِ .
وَإِنْ عَارَضَ قَوْلُ الِاثْنَيْنِ ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ ، لَمْ يُرَجَّحْ ، وَسَقَطَ الْجَمِيعُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ اثْنَيْنِ ، وَالْأُخْرَى ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ .
فَأَمَّا إنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِوَاحِدٍ ، ثُمَّ جَاءَتْ قَافَةٌ أُخْرَى فَأَلْحَقَتْهُ بِآخَرَ ، كَانَ لَاحِقًا بِالْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْقَائِفَ جَرَى مَجْرَى حُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَمَتَى حَكَمَ الْحَاكِمُ حُكْمًا لَمْ يَنْتَقِضْ بِمُخَالَفَةِ غَيْرِهِ لَهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَلْحَقَتْهُ بِوَاحِدٍ ، ثُمَّ عَادَتْ فَأَلْحَقَتْهُ بِغَيْرِهِ ؛ لِذَلِكَ .
فَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ بَيِّنَةً أَنَّهُ وَلَدُهُ .
حُكِمَ لَهُ بِهِ ، وَسَقَطَ قَوْلُ الْقَائِفِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ ، فَيَسْقُطُ
بِوُجُودِ الْأَصْلِ ، كَالتَّيَمُّمِ مَعَ الْمَاءِ .
( 4577 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِكَافِرٍ أَوْ رَقِيقٍ ، لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ وَلَا رِقِّهِ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ ثَبَتَا لَهُ بِظَاهِرِ الدَّارِ ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الشَّبَهِ وَالظَّنِّ ، كَمَا لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ الْمُنْفَرِدِ .
وَإِنَّمَا قَبِلْنَا قَوْلَ الْقَائِفِ فِي النَّسَبِ ، لِلْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِهِ ، وَلِكَوْنِهِ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ ، وَلِهَذَا اكْتَفَيْنَا فِيهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ الْمُنْفَرِدِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ رِقِّهِ وَكُفْرِهِ ، وَإِثْبَاتُهُمَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ .
وَلَوْ ادَّعَى نَسَبَ اللَّقِيطِ إنْسَانٌ ، فَأُلْحِقَ نَسَبُهُ بِهِ ، لِانْفِرَادِهِ بِالدَّعْوَى ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَادَّعَاهُ ، لَمْ يَزُلْ نَسَبُهُ عَنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ حُكِمَ لَهُ بِهِ ، فَلَا يَزُولُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى .
فَإِنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ الْقَافَةُ ، لَحِقَ بِهِ ، وَانْقَطَعَ عَنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي إلْحَاقِ النَّسَبِ ، وَيَزُولُ بِهَا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ، كَالشَّهَادَةِ .
( 4578 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَاهُ اثْنَانِ ، فَأَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا ، لَحِقَ بِهِمَا ، وَكَانَ ابْنَهُمَا ، يَرِثُهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ ، وَيَرِثَانِهِ جَمِيعًا مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ .
وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُلْحَقُ بِهِمَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَالِدٍ ، فَإِذَا أَلْحَقَتْهُ بِهِمَا سَقَطَ قَوْلُهُمَا ، وَلَمْ يُحْكَمْ لَهُمَا .
وَاحْتَجَّ بِرِوَايَةٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْقَافَةَ قَالَتْ : قَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ .
فَقَالَ عُمَرُ : وَالِ أَيَّهُمَا شِئْت .
وَلِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مِنْ رَجُلَيْنِ ، فَإِذَا أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا ، تَبَيَّنَّا كَذِبَهُمَا ، فَسَقَطَ قَوْلُهُمَا ، كَمَا لَوْ أَلْحَقَتْهُ بِأُمَّيْنِ ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَيْنِ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ ، لَمْ يَثْبُتْ ، وَلَوْ ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً ، سَقَطَتَا ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُلْحَقَ بِهِمَا ، لَثَبَتَ بِاتِّفَاقِهِمَا ، وَأُلْحِقَ بِهِمَا عِنْدَ تَعَارُضِ بَيِّنَتِهِمَا .
وَلَنَا مَا رَوَى سَعِيدٌ ، فِي " سُنَنِهِ " : ثنا سُفْيَانُ ، عَنْ يَحْيَى عَنْ سَعِيدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ عُمَرَ ، فِي امْرَأَةٍ وَطِئَهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ ، فَقَالَ الْقَائِفُ : قَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ جَمِيعًا .
فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا .
وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : وَعَلِيٌّ يَقُولُ : هُوَ ابْنُهُمَا ، وَهُمَا أَبَوَاهُ ، يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ .
وَرَوَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارَ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثُ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ عُمَرَ ، جَعَلَهُ بَيْنَهُمَا ، وَقَابُوسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ ، جَعَلَهُ بَيْنَهُمَا .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي طُهْرِ امْرَأَةٍ ، فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا يُشْبِهُهُمَا ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَعَا الْقَافَةَ فَنَظَرُوهُ ، فَقَالُوا :
نَرَاهُ يُشْبِهُهُمَا .
فَأَلْحَقَهُ بِهِمَا ، وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ .
قَالَ سَعِيدٌ : عَصَبَتُهُ الْبَاقِي مِنْهُمَا .
وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ عُمَرَ لَا نَعْلَمُ صِحَّتَهُ ، وَإِنْ صَحَّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَرَكَ قَوْلَ الْقَافَةِ لَأَمْرٍ آخَرَ ، إمَّا لِعَدَمِ ثِقَتِهِمَا ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِمَا وَاخْتِلَافِهِمَا مَا يُوجِبُ تَرَكَهُ ، فَلَا يَنْحَصِرُ الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِمَا فِي أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِيهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِمَا ، وَرِثَهُمَا وَوَرِثَاهُ ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ، فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ، وَنَسَبُهُ مِنْ الْأَوَّلِ قَائِمٌ ، لَا يُزِيلُهُ شَيْءٌ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : " هُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا " .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، أَنَّهُ يَرِثُهُ مِيرَاثَ أَبٍ كَامِلٍ ، كَمَا أَنَّ الْجَدَّةَ إذَا انْفَرَدَتْ أَخَذَتْ مَا يَأْخُذُهُ الْجَدَّاتُ ، وَالزَّوْجَةُ تَأْخُذُ وَحْدَهَا مَا يَأْخُذُهُ جَمِيعُ الزَّوْجَاتِ .
( 4579 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ مِنْ اثْنَيْنِ ، فَأَلْحَقَتْهُ بِهِمْ الْقَافَةُ ، فَنَصَّ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ، أَنَّهُ يُلْحَقُ بِثَلَاثَةٍ .
وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ يُلْحَقُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ وَإِنْ كَثُرُوا .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ : لَا يُلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّا صِرْنَا إلَى ذَلِكَ لِلْأَثَرِ ، فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا .
وَلَنَا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَحِقَ بِاثْنَيْنِ ، مَوْجُودٌ فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ ، فَيُقَاسُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يُلْحَقَ مِنْ اثْنَيْنِ ، جَازَ أَنْ يُلْحَقَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ إلْحَاقَهُ بِالِاثْنَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ ، لَكِنَّهُ ثَبَتَ لِمَعْنًى مَوْجُودٍ فِي غَيْرِهِ ، فَيَجِبُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِهِ ، كَمَا أَنَّ إبَاحَةَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ أُبِيحَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، لَا يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُقَاسَ عَلَى ذَلِكَ مَالُ غَيْرِهِ ، وَالصَّيْدُ الْحَرَمِيُّ ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، لِوُجُودِ الْمَعْنَى ، وَهُوَ إبْقَاءُ النَّفْسِ ، وَتَخْلِيصُهَا مِنْ الْهَلَاكِ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَجُوزُ إلْحَاقُهُ بِثَلَاثَةِ ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ ، فَتَحَكُّمٌ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، وَلَا عَدَّى الْحُكْمَ إلَى كُلِّ مَا وُجِدَ فِيهِ الْمَعْنَى ، وَلَا نَعْلَمُ فِي الثَّلَاثَةِ مَعْنًى خَاصًّا يَقْتَضِي إلْحَاقَ النَّسَبِ بِهِمْ ، فَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ بِالتَّحَكُّمِ .
( 4580 ) فَصْلٌ : وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ قَافَةٌ ، أَوْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا ، أَوْ تَعَارَضَتْ أَقْوَالُهَا ، أَوْ وُجِدَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِقَوْلِهِ ، لَمْ يُرَجَّحْ أَحَدُهُمَا بِذِكْرِ عَلَامَةٍ فِي جَسَدِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُرَجَّحُ بِهِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى ، سِوَى الِالْتِقَاطِ فِي الْمَالِ وَاللَّقِيطِ ، وَيَضِيعُ نَسَبُهُ .
هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ .
وَقَدْ أَوْمَأَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي رَجُلَيْنِ وَقَعَا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، إلَى أَنَّ الِابْنَ يُخَيَّرُ أَيَّهُمَا أَحَبَّ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ ، قَالَ : يُتْرَكُ حَتَّى يَبْلُغَ ، فَيَنْتَسِبُ إلَى مَنْ أَحَبَّ مِنْهُمَا .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ : حَتَّى يُمَيِّزَ ؛ لِقَوْلِ عُمَرَ : وَالِ أَيَّهمَا شِئْت .
وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمِيلُ بِطَبْعِهِ إلَى قَرِيبِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ نَسَبُهُ ، أَقَرَّ بِهِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ ، وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُلْحَقُ بِالْمُدَّعِيَيْنِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا ، وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا ، وَجَبَ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِمَالٍ .
وَلَنَا أَنَّ دَعْوَاهُمَا تَعَارَضَتَا ، وَلَا حُجَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَلَمْ تَثْبُتْ ، كَمَا لَوْ ادَّعَيَا رِقَّهُ .
وَقَوْلُهُمْ : يَمِيلُ بِطَبْعِهِ إلَى قَرَابَتِهِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَمِيلُ إلَى قَرَابَتِهِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّهَا قَرَابَتُهُ ، فَالْمَعْرِفَةُ بِذَلِكَ سَبَبُ الْمَيْلِ ، وَلَا سَبَبَ قَبْلَهُ ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَمِيلُ إلَى قَرَابَتِهِ ، لَكِنَّهُ قَدْ يَمِيلُ إلَى مَنْ أَحْسَنِ إلَيْهِ ، فَإِنْ الْقُلُوبَ جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنِ إلَيْهَا ، وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهَا ، وَقَدْ يَمِيلُ إلَيْهِ لِإِسَاءَةِ الْآخَرِ إلَيْهِ ، وَقَدْ يَمِيلُ إلَى أَحْسَنِهِمَا خُلُقًا أَوْ أَعْظَمِهِمَا قَدْرًا أَوْ جَاهًا أَوْ مَالًا ، فَلَا يَبْقَى لِلْمَيْلِ أَثَرٌ فِي الدَّلَالَةِ
عَلَى النَّسَبِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ صَدَّقَ الْمُقِرَّ بِنَسَبِهِ .
قُلْنَا : لَا يَحِلُّ لَهُ تَصْدِيقُهُ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ ، أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيه .
وَهَذَا لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَبُوهُ ، فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَلْعُونًا بِتَصْدِيقِهِ ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا انْفَرَدَ ، فَإِنَّ الْمُنْفَرِدَ يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ .
وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ : وَالِ مِنْ شِئْت .
فَلَمْ يَثْبُتْ ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْمُوَلَّاةِ ، لَا بِالِانْتِسَابِ .
وَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ لَهُ الِانْتِسَابَ إلَى أَحَدِهِمَا ، لَوْ انْتَسَبَ إلَى أَحَدِهِمَا ، ثُمَّ عَادَ وَانْتَسَبَ إلَى الْآخَرِ ، وَنَفَى نَسَبَهُ مِنْ الْأَوَّلِ ، أَوْ لَمْ يَنْتَسِبْ إلَى وَاحِدٍ ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ ، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى مُنْفَرِدٌ نَسَبَهُ ثُمَّ أَنْكَرَهُ ، وَيُفَارِقُ الصَّبِيَّ الَّذِي يُخَيَّرُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ ، فَيَخْتَارُ أَحَدَهُمَا ، ثُمَّ يَرُدُّ الْآخَرَ ، إذَا اخْتَارَهُ ، فَإِنَّهُ لَا حُكْمَ لِقَوْلِ الصَّبِيِّ ، وَإِنَّمَا تَبِعَ اخْتِيَارَهُ وَشَهْوَتَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَهَى طَعَامًا فِي يَوْمٍ ، ثُمَّ اشْتَهَى غَيْرَهُ فِي يَوْمٍ آخَر .
وَإِنْ قَامَتْ لِلْآخَرِ بِنَسَبِهِ بَيِّنَةٌ ، عُمِلَ بِهَا ، وَبَطَلَ انْتِسَابُهُ ؛ لِأَنَّهَا تُبْطِلُ قَوْلَ الْقَافَةِ ، الَّذِي هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِانْتِسَابِ ، فَلَأَنْ تُبْطِلَ الِانْتِسَابَ أَوْلَى .
وَإِنْ وُجِدَتْ قَافَةٌ بَعْدَ انْتِسَابِهِ ، فَأَلْحَقَتْهُ بِغَيْرِ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِ ، بَطَلَ انْتِسَابُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى ، فَبَطَلَ بِهِ الِانْتِسَابُ كَالْبَيِّنَةِ مَعَ قَوْلِ الْقَافَةِ .
( 4581 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ادَّعَتْ امْرَأَتَانِ نَسَبَ وَلَدٍ ، فَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَبُولِ دَعْوَاهُمَا ، فَإِنْ كَانَتَا مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُمَا ، لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُمَا .
وَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مِمَّنْ تُسْمَعُ دَعْوَاهَا دُونَ الْأُخْرَى ، فَهُوَ ابْنُهَا ، كَالْمُنْفَرِدَةِ بِهِ .
وَإِنْ كَانَتَا جَمِيعًا مِمَّنْ تُسْمَعُ دَعْوَتُهُمَا ، فَهُمَا فِي إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ كَوْنِهِ يَرَى الْقَافَةَ مَعَ عَدَمِهَا كَالرَّجُلَيْنِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، فِي يَهُودِيَّةٍ وَمُسْلِمَةٍ وَلَدَتَا ، فَادَّعَتْ الْيَهُودِيَّةُ وَلَدَ الْمُسْلِمَةِ ، فَتَوَقَّفَ ، فَقِيلَ : يُرَى الْقَافَة ؟ فَقَالَ : مَا أَحْسَنَهُ .
وَلِأَنَّ الشَّبَه يُوجَدُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ابْنِهَا ، كَوُجُودِهِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَابْنِهِ ، بَلْ أَكْثَرَ ، لِاخْتِصَاصِهَا بِحَمْلِهِ وَتَغْذِيَتِهِ ، وَالْكَافِرَةُ وَالْمُسْلِمَةُ ، وَالْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ ، فِي الدَّعْوَى وَاحِدَةٌ ، كَمَا قُلْنَا فِي الرَّجُلِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُونَ فِيهِ بِقَبُولِ دَعْوَاهَا .
وَإِنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأُمَّيْنِ ، لَمْ يُلْحَقْ بِهِمَا ، وَبَطَلَ قَوْلُ الْقَافَةِ ؛ لِأَنَّنَا نَعْلَمُ خَطَأَهُ يَقِينًا .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : يُلْحَقُ بِهِمَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ ، فَجَازَ أَنْ يُلْحَقَ بِاثْنَيْنِ ، كَالْآبَاءِ .
وَلَنَا أَنْ كَوْنَهُ مِنْهُمَا مُحَالٌ يَقِينًا .
فَلَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُمَا أَوْ مِثْلَهُمَا ، وَفَارَقَ الرَّجُلَيْنِ ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مِنْهُمَا مُمْكِنٌ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ اجْتِمَاعُ النُّطْفَتَيْنِ لِرَجُلَيْنِ فِي رَحِمِ امْرَأَةٍ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُخْلَقَ مِنْهُمَا وَلَدٌ ، كَمَا يُخْلَقُ مِنْ نُطْفَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الْقَائِفُ لِعُمَرَ : قَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ .
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إلْحَاقِهِ بِمَنْ يُتَصَوَّرُ كَوْنُهُ مِنْهُ ، إلْحَاقُهُ بِمَنْ يَسْتَحِيلُ كَوْنُهُ مِنْهُ ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إلْحَاقِهِ بِمَنْ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ
إلْحَاقُهُ بِأَصْغَرَ مِنْهُ .
فَصْلٌ : فَإِنْ ادَّعَى نَسَبَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ، فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا بِنِكَاحٍ كَانَ بَيْنَهُمَا ، أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ ، فَيُلْحَقَ بِهِمَا جَمِيعًا ، وَيَكُونَ ابْنَهُمَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُمَا ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّعْوَى .
وَإِنْ قَالَ الرَّجُلُ : هَذَا ابْنِي مِنْ زَوْجَتِي .
وَادَّعَتْ زَوْجَتُهُ ذَلِكَ ، وَادَّعَتْهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى ، فَهُوَ ابْنُ الرَّجُلِ ، وَهَلْ تُرَجَّحُ زَوْجَتُهُ عَلَى الْأُخْرَى ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا تُرَجَّحُ ؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا أَبُوهُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا أُمُّهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَسَاوَيَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَوْ انْفَرَدَتْ ، لَأُلْحِقَ بِهَا ، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا تَسَاوَتَا .
( 4583 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَلَدَتْ امْرَأَتَانِ ابْنًا وَبِنْتًا ، فَادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّ الِابْنَ وَلَدُهَا دُونَ الْبِنْتِ ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ تَرَى الْمَرْأَتَيْنِ الْقَافَةُ مَعَ الْوَلَدَيْنِ ، فَيُلْحَقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ بِهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ آخَرُ .
وَالثَّانِي أَنْ نَعْرِضَ لِبَنِيهِمَا عَلَى أَهْلِ الطِّبِّ وَالْمَعْرِفَةِ ، فَإِنَّ لَبَنَ الذَّكَرِ يُخَالِفُ لَبَنَ الْأُنْثَى فِي طَبْعِهِ وَزِنَتِهِ ، وَقَدْ قِيلَ : لَبَنُ الِابْنِ ثَقِيلٌ ، وَلَبَنُ الْبِنْتِ خَفِيفٌ ، فَيُعْتَبَرَانِ بِطَابَعِهِمَا وَوَزْنِهِمَا ، وَمَا يَخْتَلِفَانِ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ ، فَمَنْ كَانَ لَبَنُهَا لَبَنَ الِابْنِ ، فَهُوَ وَلَدُهَا ، وَالْبِنْتُ لِلْأُخْرَى .
فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَافَةٌ ، اعْتَبَرْنَا اللَّبَنَ خَاصَّةً .
وَإِنْ تَنَازَعَا أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ ، وَهُمَا جَمِيعًا ذَكَرَانِ أَوْ أُنْثَيَانِ ، عُرِضُوا عَلَى الْقَافَةِ .
كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ .
( 4584 ) فَصْلٌ : وَلَوْ ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلَانِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : هُوَ ابْنِي .
وَقَالَ الْآخَرُ : هُوَ ابْنَتِي .
نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ ابْنًا فَهُوَ لِمُدَّعِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتًا فَهِيَ لِمُدَّعِيهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَ مَا ادَّعَاهُ .
وَإِنْ كَانَ خُنْثَى مُشْكِلًا ، أُرِيَ الْقَافَةَ مَعَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ .
وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ ، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّعْوَى ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْكَاذِبِ مِنْهُمَا كَاذِبَةٌ ، وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا ، وَالْأُخْرَى صَادِقَةٌ ، فَيَتَعَيَّنُ الْحُكْمُ بِهَا .
( 4585 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَطِئَ رَجُلَانِ امْرَأَةً فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، وَطْئًا يَلْحَقُ النَّسَبُ بِمِثْلِهِ ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا ، مِثْلَ أَنْ يَطَآ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فِي طُهْرٍ ، أَوْ يَطَأَ رَجُلٌ امْرَأَةَ آخَرَ أَوْ أَمَتَهُ بِشُبْهَةٍ ، فِي الطُّهْرِ الَّذِي وَطِئَهَا زَوْجُهَا أَوْ سَيِّدُهَا فِيهِ ، بِأَنْ يَجِدَهَا عَلَى فِرَاشِهِ ، فَيَظُنَّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ ، أَوْ يَدْعُوَ زَوْجَتَهُ فِي ظُلْمَةٍ ، فَتُجِيبَهُ زَوْجَةُ آخَرَ أَوْ جَارِيَتُهُ ، أَوْ يَتَزَوَّجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَزْوِيجًا فَاسِدًا ، أَوْ يَكُونَ نِكَاحُ أَحَدِهِمَا صَحِيحًا وَالْآخَرُ فَاسِدًا ، مِثْلُ أَنْ يُطَلِّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ فَيَنْكِحَهَا آخَرُ فِي عِدَّتِهَا وَوَطِئَهَا ، أَوْ يَبِيعَ جَارِيَةً فَيَطَؤُهَا الْمُشْتَرِي قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا ، وَتَأْتِي بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا ، فَإِنَّهُ يُرَى الْقَافَةَ مَعَهُمَا ، فَبِأَيِّهِمَا أَلْحَقُوهُ لَحِقَ .
وَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِي اللَّقِيطِ .
( 4586 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَى رِقَّ اللَّقِيطِ مُدَّعٍ ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّهَا مُمْكِنَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِظَاهِرِ الدَّارِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى تُخَالِفُ الظَّاهِرَ ، وَيُفَارِقُ دَعْوَى النَّسَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ دَعْوَى النَّسَبِ لَا تُخَالِفُ الظَّاهِرَ ، وَدَعْوَى الرِّقِّ مُخَالِفَةٌ لَهُ .
وَالثَّانِي ، أَنْ دَعْوَى النَّسَبِ نُثْبِتُ بِهَا حَقًّا لِلَّقِيطِ ، وَدَعْوَى الرِّقِّ تُثْبِتُ حَقًّا عَلَيْهِ ، فَلَمْ تُقْبَلْ بِمُجَرَّدِهَا ، كَمَا لَوْ ادَّعَى رِقَّ غَيْرِ اللَّقِيطِ .
فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، سَقَطَتْ الدَّعْوَى .
وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، لَمْ تَخْلُ إمَّا أَنْ تَشْهَدَ بِالْيَدِ أَوْ بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْوِلَادَةِ ، فَإِنْ شَهِدَتْ بِالْمِلْكِ أَوْ بِالْيَدِ ، لَمْ تُقْبَلْ فِيهِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَإِنْ شَهِدَتْ بِالْوِلَادَةِ ، قُبِلَ فِيهِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ، ثُمَّ نَنْظُرُ ؛ فَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِالْيَدِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُلْتَقِطِ ، لَمْ يَثْبُتْ بِهَا مِلْكٌ ؛ لِأَنَّنَا عَرَفْنَا سَبَبَ يَدِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِأَجْنَبِيٍّ ، حُكِمَ لَهُ بِالْيَدِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي الْمِلْكِ ، وَإِنْ شَهِدَتْ بِالْمِلْكِ ، فَقَالَتْ : نَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مَمْلُوكُهُ .
حُكِمَ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَذْكُرْ سَبَبَ الْمِلْكِ ، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ بِمِلْكِ دَارٍ أَوْ ثَوْبٍ .
فَإِنْ شَهِدَتْ بِأَنَّ أَمَتَهُ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ ، حُكِمَ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ أَمَتَهُ لَا تَلِدُ فِي مِلْكِهِ إلَّا مُلْكَهُ .
وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ ابْنُ أَمَتِهِ ، أَوْ أَنَّ أَمَتَهُ وَلَدَتْهُ ، وَلَمْ تَقُلْ : فِي مِلْكِهِ .
احْتَمَلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ ، كَقَوْلِهَا فِي مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ أَمَتَهُ مِلْكُهُ ، فَنَمَاؤُهَا مِلْكُهُ ، كَسِمَنِهَا .
وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَلِدَهُ قَبْلَ مِلْكِهِ لَهَا ، فَلَا تَكُونُ لَهُ وَهُوَ
ابْنُ أَمَتِهِ .
( 4587 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ادَّعَى رِقَّ اللَّقِيطِ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُدَّعٍ ، كُلِّفَ إجَابَتَهُ ، فَإِنْ أَنْكَرَ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، حُكِمَ لَهُ بِهَا ، فَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ قَدْ تَصَرَّفَ قِبَلِ ذَلِكَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ ، نُقِضَتْ تَصَرُّفَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ بَانَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ ، فَأَقَرَّ بِالرِّقِّ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ اعْتَرَفَ لِنَفْسِهِ بِالْحُرِّيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ ، لَمْ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالرِّقِّ ، لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالْحُرِّيَّةِ ، وَهِيَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ فِي إبْطَالِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اعْتَرَفَ بِالْحُرِّيَّةِ ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُقْبَلُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْحَالِ ، أَقَرَّ بِالرِّقِّ ، فَيُقْبَلُ ، كَمَا لَوْ قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ بِالرِّقِّ .
وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِقِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ وَإِنْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ فَوَاتَ نَفْسِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحُرِّيَّةِ الْمَحْكُومِ بِهَا ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْحُرِّيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِالرِّقِّ ، كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ الطِّفْلَ الْمَنْبُوذَ لَا يَعْلَمُ رِقَّ نَفْسِهِ ، وَلَا حُرِّيَّتَهَا ، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ حَالٌ يَعْرِفُ بِهِ رِقَّ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِمَّنْ لَا يَعْقِلُ ، وَلَمْ يَتَجَدَّدْ لَهُ رِقٌّ بَعْدَ الْتِقَاطِهِ ، فَكَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا .
وَهَذَا قَوْلُ الْقَاسِمِ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَلِلشَّافِعِي وَجْهَانِ كَمَا ذَكَرْنَا .
فَإِنْ قُلْنَا : يُقْبَلُ إقْرَارُهُ .
صَارَتْ أَحْكَامُهُ أَحْكَامَ الْعَبِيدِ فِيمَا عَلَيْهِ دُونَ مَالَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْمُزَنِيُّ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَقًّا لَهُ
وَحَقًّا عَلَيْهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُثْبِتَ مَا عَلَيْهِ دُونَ مَا لَهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَلِي عِنْدَهُ رَهْنٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ إقْرَارُهُ فِي الْجَمِيعِ .
وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مَا عَلَيْهِ ، فَيَثْبُتُ مَا لَهُ ، كَالْبَيِّنَةِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ تَبَعٌ لِلرِّقِّ ، فَإِذَا ثَبَتَ الْأَصْلُ بِقَوْلِهِ ، ثَبَتَ التَّبَعُ ، كَمَا لَوْ شَهِدَتْ امْرَأَةٌ بِالْوِلَادَةِ ، تَثْبُتُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ تَبَعًا لَهَا .
وَأَمَّا إنْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ ابْتِدَاءً لِرَجُلٍ ، فَصَدَّقَهُ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ جَوَابًا .
وَإِنْ كَذَّبَهُ ؛ بَطَلَ إقْرَارُهُ .
ثُمَّ إنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِرَجُلٍ آخَرَ ، جَازَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : يَتَوَجَّهُ أَنْ لَا يُسْمَعَ إقْرَارُهُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ تَضَمَّنَ الِاعْتِرَافَ بِنَفْيِ مَالِكٍ لَهُ سِوَى هَذَا الْمُقِرِّ ، فَإِذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ بِرَدِّ الْمُقِرِّ لَهُ ، بَقِيَ الِاعْتِرَافُ بِنَفْيِ مَالِكٍ لَهُ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِمَا نَفَاهُ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالْحُرِّيَّةِ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِالرِّقِّ .
وَلَنَا أَنَّهُ إقْرَارٌ لَمْ يَقْبَلْهُ الْمُقِرُّ لَهُ ، فَلَمْ يَمْنَعْ إقْرَارَهُ ثَانِيًا ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِثَوْبٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِآخَرَ بَعْدَ رَدِّ الْأَوَّلِ .
وَفَارَقَ الْإِقْرَارَ بِالْحُرِّيَّةِ ، فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِهَا لَمْ يَبْطُلْ وَلَمْ يُرَدَّ .
( 4588 ) فَصْلٌ : إذَا قَبِلْنَا إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ بَعْدَ نِكَاحِهِ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَسَدَ نِكَاحُهُ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّهُ عَبْدٌ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، وَلَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِقَوْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَسَدَ نِكَاحُهُ أَيْضًا ، وَلَهَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ جَمِيعُهُ ، لِمَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ .
فَإِذَا أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ ، لَزِمَتْهُ ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ تَابِعٌ لِأُمِّهِ .
وَإِنْ كَانَ مُتَزَوِّجًا بِأَمَةٍ ، فَوَلَدُهُ لِسَيِّدِهَا ، وَيَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ بِرَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنَايَاتِهِ ، وَيَفْدِيه سَيِّدُهُ أَوْ يُسَلِّمُهُ .
وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ كَسْبٌ ، اسْتَوْفَى الْمَهْرَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إقْرَارُهُ بِهِ لِسَيِّدِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى امْرَأَتِهِ ، فَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّهَا مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ ؛ لِكَوْنِهِ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ، فَلَهَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ الْمُسَمَّى جَمِيعُهُ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَالْأُخْرَى خُمُسَاهُ .
وَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ أُنْثَى ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ .
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَا مَهْرَ لَهَا ؛ لِإِقْرَارِهَا بِفَسَادِ نِكَاحِهَا ، وَأَنَّهَا أَمَةٌ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ فِيهِ إلَّا بِالدُّخُولِ .
وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ، لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا ، وَلِسَيِّدِهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ مَهْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ أَقَلَّ ، فَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ مَهْرَ الْمِثْلِ ، فَهِيَ وَسَيِّدُهَا يُقِرَّانِ بِفَسَادِ النِّكَاحِ
، وَأَنَّ الْوَاجِبَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْهُ ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، فَيَجِبُ هَا هُنَا الْمُسَمَّى ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ ، لِاعْتِرَافِ الزَّوْجِ بِوُجُوبِهِ .
وَأَمَّا الْأَوْلَادُ ، فَأَحْرَارٌ ، وَلَا تَجِبُ قِيمَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ بِقَوْلِهَا ، وَلَا يَجِبُ بِقَوْلِهَا حَقٌّ عَلَى غَيْرِهَا ، وَلَا يَثْبُتُ الرِّقُّ فِي حَقِّ أَوْلَادِهَا بِإِقْرَارِهَا .
فَأَمَّا بَقَاءُ النِّكَاحِ ، فَيُقَالُ لِلزَّوْجِ : قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا أَمَةٌ ، وَلَدُهَا رَقِيقٌ لِسَيِّدِهَا ، فَإِنْ اخْتَرْت الْمُقَامَ عَلَى ذَلِكَ فَأَقِمْ ، وَإِنْ شِئْت فَفَارِقْهَا .
وَسَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّنَا لَوْ اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ ، وَأَفْسَدْنَا نِكَاحَهُ ، لَكَانَ إفْسَادًا لِلْعَقْدِ جَمِيعِهِ بِقَوْلِهَا ؛ لِأَنَّ شُرُوطَ نِكَاحِ الْأَمَةِ لَا تُعْتَبَرُ فِي اسْتِدَامَةِ الْعَقْدِ ، إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي ابْتِدَائِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَبِلْتُمْ قَوْلَهَا فِي أَنَّهَا أَمَةٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الزَّوْجِ .
قُلْنَا : لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا فِي إيجَابِ حَقٍّ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا الْحُكْمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَيُمْكِنُ إيفَاءُ حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الرِّقُّ عَلَيْهَا ، بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ، فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ ، أَوْ يُقِيمُ عَلَى نِكَاحِهَا ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ سَيِّدِهَا .
فَإِنْ طَلَّقَهَا اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْحُرَّةِ ؛ لِأَنَّ عِدَّةَ الطَّلَاقِ حَقٌّ لِلزَّوْجِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِالدُّخُولِ ، وَسَبَبُهَا النِّكَاحُ السَّابِقُ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي تَنْقِيصِهَا .
وَإِنْ مَاتَ ، اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهَا .
وَمَنْ قَالَ بِقَبُولِ قَوْلِهَا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، فَهَذِهِ أَمَةٌ قَدْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا ، فَنِكَاحُهَا فَاسِدٌ ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا .
وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَا مَهْرَ لَهَا .
وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ، وَجَبَ لَهَا مَهْرُ أَمَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَهَلْ ذَلِكَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، أَوْ الْمُسَمَّى ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَتَعْتَدُّ حَيْضَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، وَأَوْلَادُهُ أَحْرَارٌ ؛ لِاعْتِقَادِهِ حُرِّيَّتَهَا ، فَإِنَّهُ مَغْرُورٌ بِحُرِّيَّتِهَا ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ يَوْمَ الْوَضْعِ .
وَإِنْ مَاتَ عَنْهَا ، لَمْ تَجِبْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ .
( 4589 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ قَدْ تَصَرَّفَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ ، فَتَصَرُّفُهُ صَحِيحٌ ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْأَثْمَانِ يُؤَدَّى مِمَّا فِي يَدَيْهِ ، وَمَا فَضَلَ عَلَيْهِ فَفِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ مُعَامِلَهُ لَا يَعْتَرِفُ بِرِقِّهِ .
وَمَنْ قَالَ بِقَبُولِ إقْرَارِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ، قَالَ بِفَسَادِ عُقُودِهِ كُلِّهَا ، وَأَوْجَبَ رَدَّ الْأَعْيَانِ إلَى أَرْبَابِهَا إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً ، وَجَبَتْ قِيمَتُهَا فِي رَقَبَتِهِ ، إنْ قُلْنَا : إنَّ مَا اسْتَدَانَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ .
وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ اسْتِدَانَةَ الْعَبْدِ فِي ذِمَّتِهِ ، فَهَذَا كَذَلِكَ ، وَيَتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ رِضَى صَاحِبِهِ .
( 4590 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ قَدْ جَنَى جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ، حُرًّا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَوْ عَبْدًا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقَوَدِ عَلَيْهِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَبْدًا أَوْ حُرًّا ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً ، تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضِرٌّ بِهِ .
فَإِنْ كَانَ أَرْشُهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَكَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ ، اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ .
وَقِيلَ : تَجِبُ الزِّيَادَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِهِ .
وَإِنْ جُنِيَ عَلَيْهِ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْقَوَدِ ، وَكَانَ الْجَانِي حُرًّا ، سَقَطَ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقَادُ مِنْهُ لِلْعَبْدِ ، وَقَدْ أَقَرَّ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِمَا يُسْقِطُ الْقِصَاصَ .
وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِمَالٍ يَقِلُّ بِالرِّقِّ ، وَجَبَ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ .
وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْوَاجِبِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ ، وَجَبَ ، وَيَدْفَعُ الْوَاجِبَ إلَى سَيِّدِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ يَكْثُرُ لِكَوْنِ قِيمَتِهِ عَبْدًا أَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ حُرًّا ، لَمْ يَجِبْ إلَّا أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ .
وَمَنْ قَبِلَ قَوْلَهُ فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا ، أَوْجَبَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ .
وَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ إذَا كَانَ حُرًّا ، سَقَطَ عَنْ الْعَاقِلَةِ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْجَانِي ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ يَتَضَمَّنُ إقْرَارَهُ بِالسُّقُوطِ عَنْ الْعَاقِلَةِ ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي إيجَابِهِ عَلَى الْجَانِي ، فَسَقَطَ .
وَقِيلَ : لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ الْعَاقِلَةِ .
وَمَنْ قَالَ : لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي الْأَحْكَامِ كُلِّهَا .
أَوْجَبَ الْأَرْشَ عَلَى الْجَانِي .
كِتَابُ الْوَصَايَا الْوَصَايَا جَمْعُ وَصِيَّةٍ ، مِثْلُ الْعَطَايَا جَمْعُ عَطِيَّةٍ .
وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ هِيَ التَّبَرُّعُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَالْأَصْلُ فِيهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وَأَمَّا السُّنَّةُ فَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، قَالَ { : جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ ، مِنْ وَجَعٍ اشْتَدَّ بِي ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ بَلَغَ بِي مِنْ الْوَجَعِ مَا تَرَى ، وَأَنَا ذُو مَالٍ ، وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ ، أَفَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي ؟ قَالَ : لَا .
قُلْت : فَبِالشَّطْرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لَا .
قُلْت : فَبِالثُّلُثِ ؟ قَالَ : الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ، إنَّك أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } .
وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الدَّيْنَ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ .
( 4591 ) فَصْل : وَلَا تَجِبُ الْوَصِيَّةُ إلَّا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ ، أَوْ عَلَيْهِ وَاجِبٌ يُوصِي بِالْخُرُوجِ مِنْهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ ، وَطَرِيقُهُ فِي هَذَا الْبَابِ الْوَصِيَّةُ ، فَتَكُونُ مَفْرُوضَةً عَلَيْهِ ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ ، فَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ عَلَى أَحَدٍ ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، إلَّا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، وَأَمَانَةٌ بِغَيْرِ إشْهَادٍ ، إلَّا طَائِفَةً شَذَّتْ فَأَوْجَبَتْهَا .
رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : جَعَلَ اللَّهُ الْوَصِيَّةَ حَقًّا مِمَّا قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَقِيلَ لِأَبِي مِجْلَزٍ : عَلَى كُلِّ مَيِّتٍ وَصِيَّةٌ ؟ قَالَ : إنْ تَرَكَ خَيْرًا .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ : هِيَ وَاجِبَةٌ لِلْأَقْرَبِينَ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ .
وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَسْرُوقٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَإِيَاسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَابْنِ جَرِيرٍ .
وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ ، وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ ، وَقَالُوا : نَسَخَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الْوَارِثِينَ ، وَبَقِيَتْ فِيمَنْ لَا يَرِثُ مِنْ الْأَقْرَبِينَ .
وَلَنَا ، أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ وَصِيَّةٌ ، وَلَمْ يُنْقَلْ لِذَلِكَ نَكِيرٌ ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمْ يُخِلُّوا بِذَلِكَ ، وَلَنُقِلَ عَنْهُمْ نَقْلًا ظَاهِرًا ، وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ لَا تَجِبُ فِي الْحَيَاةِ ، فَلَا تَجِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَعَطِيَّةِ الْأَجَانِبِ .
فَأَمَّا الْآيَةُ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَسَخَهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { : لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } ( 4 ) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : نَسَخَتْهَا آيَةُ الْمِيرَاثِ .
وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ
يَرَى نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ ، إلَى أَنَّهَا نُسِخَتْ بُقُولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } .
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ وَاجِبٌ ، أَوْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ .
( 4592 ) فَصْلٌ : وَتُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ بِجُزْءٍ مِنْ الْمَالِ لِمَنْ تَرَكَ خَيْرًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ } .
فَنُسِخَ الْوُجُوبُ ، وَبَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَرِثُ وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَا ابْنَ آدَمَ ، جَعَلْت لَكَ نَصِيبًا مِنْ مَالِكِ حِينَ أَخَذْت بِكَظْمِك ، لِأُطَهِّركَ وَأُزَكِّيَكَ } .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ } .
رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : مَنْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ ، فَلَمْ يَجُرْ ، وَلَمْ يَحُفَّ ، كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ مَا لَوْ أَعْطَاهَا وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَأَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ وَرَثَةٌ مُحْتَاجُونَ ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ { : إنْ تَرَكَ خَيْرًا } { .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ : إنَّك أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } .
وَقَالَ { : ابْدَأْ بِنَفْسِك ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ } .
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَجُلٍ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ : إنَّك لَنْ تَدَعَ طَائِلًا ، إنَّمَا تَرَكْت شَيْئًا يَسِيرًا ، فَدَعْهُ لِوَرَثَتِكَ .
وَعَنْهُ : أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ لَيْسَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْ الْوَرَثَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهَا : لِي ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَأَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ ، أَفَأُوصِي ؟ فَقَالَتْ : اجْعَلْ الثَّلَاثَةَ لِلْأَرْبَعَةِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَنْ تَرَكَ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وَصِيَّةٌ .
وَقَالَ عُرْوَةُ : دَخَلَ عَلِيٌّ عَلَى صَدِيقٍ لَهُ يَعُودُهُ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ .
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { : إنْ تَرَكَ خَيْرًا } ، وَإِنَّك إنَّمَا تَدَعُ شَيْئًا يَسِيرًا ،
فَدَعْهُ لِوَرَثَتِكَ .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَا تُسْتَحَبُّ لِمَالِكِهِ ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ : إذَا تَرَكَ دُونَ الْأَلْفِ لَا تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ .
وَعَنْ عَلِيٍّ ، أَرْبَعمِائَةِ دِينَارٍ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا تَرَكَ الْمَيِّتُ سَبْعَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَلَا يُوصِي .
وَقَالَ : مَنْ تَرَكَ سِتِّينَ دِينَارًا ، مَا تَرَكَ خَيْرًا .
وَقَالَ طَاوُسٌ : الْخَيْرُ ثَمَانُونَ دِينَارًا .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْقَلِيلُ أَنْ يُصِيبَ أَقَلُّ الْوَرَثَةِ سَهْمًا خَمْسُونَ دِرْهَمًا .
وَاَلَّذِي يَقْوَى عِنْدِي ، أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمَتْرُوكُ لَا يَفْضُلُ عَنْ غِنَى الْوَرَثَةِ ، فَلَا تُسْتَحَبُّ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ { : أَنْ تَتْرُكَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً } .
وَلِأَنَّ إعْطَاءَ الْقَرِيبِ الْمُحْتَاجِ خَيْرٌ مِنْ إعْطَاءِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَمَتَى لَمْ يَبْلُغْ الْمِيرَاثُ غِنَاهُمْ ، كَانَ تَرْكُهُ لَهُمْ كَعَطِيَّتِهِمْ إيَّاهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ الْوَصِيَّةِ بِهِ لِغَيْرِهِمْ ، فَعِنْدَ هَذَا يَخْتَلِفُ الْحَالُ بِاخْتِلَافِ الْوَرَثَةِ فِي كَثْرَتِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ ، وَغِنَاهُمْ وَحَاجَتِهِمْ ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِقَدْرٍ مِنْ الْمَالِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيُّ : مَا مِنْ مَالٍ أَعْظَمُ أَجْرًا ، مِنْ مَالٍ يَتْرُكُهُ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ ، يُغْنِيهِمْ بِهِ عَنْ النَّاسِ .
( 4593 ) فَصْلٌ : وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَوْعِبَ الثُّلُثَ بِالْوَصِيَّةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { لَوْ أَنَّ النَّاسَ غَضُّوا مِنْ الثُّلُثِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الثُّلُثُ كَثِيرٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : إنْ كَانَ غَنِيًّا اُسْتُحِبَّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَعْدٍ { : وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } .
مَعَ إخْبَارِهِ إيَّاهُ بِكَثْرَةِ مَالِهِ ، وَقِلَّةِ عِيَالِهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ : " إنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا ، وَلَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَتِي " .
وَرَوَى سَعِيدٌ ثنا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، ثنا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : { مَرِضْت مَرَضًا ، فَعَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي : أَوْصَيْت ؟ .
فَقُلْت : نَعَمْ .
أَوْصَيْت بِمَالِي كُلِّهِ لِلْفُقَرَاءِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْصِ بِالْعُشْرِ .
فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ مَالِيَ كَثِيرٌ .
وَوَرَثَتِي أَغْنِيَاءُ .
فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاقِصُنِي وَأُنَاقِصُهُ ، حَتَّى قَالَ : أَوْصِ بِالثُّلُثِ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } .
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ : لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا يَبْلُغُ فِي وَصِيَّتِهِ الثُّلُثَ حَتَّى يَنْقُصَ مِنْهُ شَيْئًا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالْأَفْضَلُ لِلْغَنِيِّ الْوَصِيَّةُ بِالْخُمُسِ .
وَنَحْوَ هَذَا يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ السَّلَفِ ، وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ .
وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَهُ شَيْخٌ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَنَا شَيْخٌ
كَبِيرٌ ، وَمَالِي كَثِيرٌ ، وَيَرِثُنِي أَعْرَابٌ مَوَالِي كَلَالَةً ، مَنْزُوحٌ نَسَبُهُمْ ، أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَلَمْ يَزَلْ يَحُطُّ حَتَّى بَلَغَ الْعُشْرَ .
وَقَالَ إِسْحَاقُ : السُّنَّةُ الرُّبُعُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا يَعْرِفُ فِي مَالِهِ حُرْمَةَ شُبُهَاتٍ أَوْ غَيْرِهَا ، فَلَهُ اسْتِيعَابُ الثُّلُثِ .
وَلَنَا ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَى بِالْخُمُسِ .
وَقَالَ : رَضِيت بِمَا رَضِيَ اللَّهُ بِهِ لِنَفْسِهِ .
يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَوْصَيَا بِالْخُمُسِ .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الرُّبُعِ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ : كَانُوا يَقُولُونَ : صَاحِبُ الرُّبُعِ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِ الثُّلُثِ ، وَصَاحِبُ الْخُمْسِ أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِ الرُّبُعِ .
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : كَانَ الْخُمْسُ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ الثُّلُثِ ، فَهُوَ مُنْتَهَى الْجَامِحِ .
وَعَنْ الْعَلَاءِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ : أَوْصَى أَبِي أَنْ أَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ ، أَيُّ الْوَصِيَّةِ أَعْدَلُ ؟ فَمَا تَتَابَعُوا عَلَيْهِ فَهُوَ وَصِيَّتُهُ ، فَتَتَابَعُوا عَلَى الْخُمُسِ .
( 4594 ) فَصْلٌ : وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَجْعَلَ وَصِيَّتَهُ لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ ، إذَا كَانُوا فُقَرَاءَ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلِمْت فِي ذَلِكَ ، إذَا كَانُوا ذَوِي حَاجَةٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْوَارِثُونَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } .
وَبَقِيَ سَائِرُ الْأَقَارِبِ عَلَى الْوَصِيَّةِ لَهُمْ .
وَأَقَلُّ ذَلِكَ الِاسْتِحْبَابُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } .
وَقَالَ تَعَالَى { : وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } فَبَدَأَ بِهِمْ وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ أَفْضَلُ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ .
فَإِنْ أَوْصَى لَغَيْرِهِمْ وَتَرَكَهُمْ ، صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ ؛ سَالِمٌ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي .
وَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى ، أَنَّهُمْ قَالُوا : يُنْزَعُ عَنْهُمْ ، وَيُرَدُّ إلَى قَرَابَتِهِ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنِ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ : لِلَّذِي أَوْصَى لَهُ ثُلُثَ الثُّلُثِ ، وَالْبَاقِي يُرَدُّ إلَى قَرَابَةِ الْمُوصِي ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِمَالِهِ كُلِّهِ لَجَازَ مِنْهُ الثُّلُثُ ، وَالْبَاقِي رُدَّ عَلَى الْوَرَثَةِ ، وَأَقَارِبُهُ الَّذِينَ لَا يَرِثُونَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوَصِيَّةِ كَالْوَرَثَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ كُلِّهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ { ، أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ سِتَّةَ أَعْبُدٍ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُمْ ، فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً .
فَأَجَازَ } الْعِتْقَ فِي ثُلُثِهِ لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ ،
وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ ، فَجَازَتْ لِغَيْرِ قَرَابَتِهِ ، كَالْعَطِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ .
( 4595 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا وَصَّى لِوَارِثِهِ بِوَصِيَّةٍ ، فَلَمْ يُجِزْهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ ، لَمْ تَصِحَّ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا .
وَجَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ ، قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَعَ مِنْ عَطِيَّةِ بَعْضِ وَلَدِهِ ، وَتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي حَالِ الصِّحَّةِ ، وَقُوَّةِ الْمِلْكِ ، وَإِمْكَانِ تَلَافِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ بِإِعْطَاءِ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ ، لِمَا فِيهِ مِنْ إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ بَيْنَهُمْ ، فَفِي حَالِ مَوْتِهِ أَوْ مَرَضِهِ ، وَضَعْفِ مِلْكِهِ ، وَتَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِهِ ، وَتَعَذُّرِ تَلَافِي الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ ، أَوْلَى وَأَحْرَى .
وَإِنْ أَجَازَهَا ، جَازَتْ ، فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ أَجَازَهَا سَائِرُ الْوَرَثَةِ ، إلَّا أَنْ يُعْطُوهُ عَطِيَّةً مُبْتَدَأَةً .
أَخْذًا مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ { : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } .
وَهَذَا قَوْلُ الْمُزَنِيّ ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ .
وَهُوَ قَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ ، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا .
وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِأَجْنَبِيٍّ ، وَالْخَبَرُ قَدْ رُوِيَ فِيهِ { إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ } .
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ
النَّفْيِ إثْبَاتٌ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ ، وَلَوْ خَلَا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا وَصِيَّةَ نَافِذَةَ أَوْ لَازِمَةَ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا ، أَوْ يُقَدَّرُ فِيهِ : لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْوَرَثَةِ .
وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إذَا كَانَتْ صَحِيحَةً ، فَإِجَازَةُ الْوَرَثَةِ تَنْفِيذٌ وَإِجَازَةٌ مَحْضَةٌ ، يَكْفِي فِيهَا قَوْلُ الْوَارِثِ : أَجَزْت ، أَوْ أَمْضَيْت ، أَوْ نَفَّذْت .
فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ، لَزِمَتْ الْوَصِيَّةُ .
وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً ، كَانَتْ الْإِجَازَةُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً ، تَفْتَقِرُ إلَى شُرُوطِ الْهِبَةِ ، مِنْ اللَّفْظِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ ، كَالْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ .
وَلَوْ رَجَعَ الْمُجِيزُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَبْضُ ، صَحَّ رُجُوعُهُ .
( 4596 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَسْقَطَ عَنْ وَارِثِهِ دَيْنًا ، أَوْ أَوْصَى بِقَضَاءِ دَيْنِهِ ، أَوْ أَسْقَطَتْ الْمَرْأَةُ صَدَاقَهَا عَنْ زَوْجِهَا ، أَوْ عَفَا عَنْ جِنَايَةٍ مُوجِبُهَا الْمَالُ ، فَهُوَ كَالْوَصِيَّةِ .
وَإِنْ عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ ، وَقُلْنَا : الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ عَيْنًا .
سَقَطَ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ .
وَإِنْ قُلْنَا : الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ .
سَقَطَ الْقِصَاصُ ، وَوَجَبَ الْمَالُ .
وَإِنْ عَفَا عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ ، سَقَطَ مُطْلَقًا .
وَإِنْ وَصَّى لِغَرِيمِ وَارِثِهِ ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ .
وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَ لَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هُوَ وَصِيَّةٌ لِلْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ وَتُسْتَوْفَى دُيُونُهُ مِنْهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَصَّى لِأَجْنَبِيٍّ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِمَنْ عَادَتُهُ الْإِحْسَانُ إلَى وَارِثِهِ .
وَإِنْ وَصَّى لِوَلَدِ وَارِثِهِ ، صَحَّ ، فَإِنْ كَانَ يَقْصِدُ بِذَلِكَ نَفْعَ الْوَارِثِ ، لَمْ يَجُزْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ طَاوُسٌ ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { : فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا } قَالَ : أَنْ يُوصِيَ لِوَلَدِ ابْنَتِهِ ، وَهُوَ يُرِيدُ ابْنَتَهُ .
رَوَاهُ سَعِيدٌ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْجَنَفُ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِضْرَارُ فِيهَا مِنْ الْكَبَائِرِ .
فَصْلٌ ( 4597 ) : وَإِنْ وَصَّى لِكُلِّ وَارِثٍ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ ، كَرَجُلٍ خَلَّفَ ابْنًا وَبِنْتًا ، وَعَبْدًا قِيمَتُهُ مِائَةٌ ، وَجَارِيَةً قِيمَتُهَا خَمْسُونَ ، فَوَصَّى لِابْنِهِ بِعَبْدِهِ ، وَلِابْنَتِهِ بِأَمَتِهِ ، احْتَمَلَ أَنْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ فِي الْقَدْرِ لَا فِي الْعَيْنِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ عَاوَضَ الْمَرِيضُ بَعْضَ وَرَثَتِهِ أَوْ أَجْنَبِيًّا بِجَمِيعِ مَالِهِ ، صَحَّ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ تَضَمَّنَ فَوَاتَ عَيْنِ الْمَالِ .
وَاحْتَمَلَ أَنْ تَقِفَ عَلَى الْإِجَازَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْأَعْيَانِ غَرَضًا صَحِيحًا ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الْوَارِثِ فِي قَدْرِ حَقِّهِ ، لَا يَجُوزُ مِنْ عَيْنِهِ .
( 4598 ) فَصْلٌ : وَإِذَا مَلَكَ الْمَرِيضُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، عَتَقَ وَوَرِثَ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَحَكَاهُ الْخَبْرِيُّ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ فِي أَنَّهُ إذَا مَلَكَهُ بِالْمِيرَاثِ ، أَنَّهُ يَعْتِقُ وَيَرِثُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ حَمَّلَهُ الثُّلُثَ ، عَتَقَ وَوَرِثَ ، وَإِلَّا سَعَى فِيمَا بَقِيَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَرِثْ .
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُف ، وَمُحَمَّدٌ : يُحْتَسَبُ مِيرَاثُهُمْ مِنْ قِيمَتِهِمْ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَخَذَهُ ، وَإِنْ فَضَلَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ سَعَوْا فِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْمَرِيضَ لَمْ يَضَعْ فِيهِمْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ، وَإِنَّمَا تَعَاطَى سَبَبَ مِلْكِهِمْ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَسْتَقِرَّ ، وَزَالَ بِغَيْرِ إزَالَتِهِ ، فَلَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ مِنْ ثُلُثِهِ ، كَمَا لَوْ اتَّهَبَ شَيْئًا فَرَجَعَ الْوَاهِبُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فِيهِ غِبْطَةٌ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَفَسَخَ الْبَائِعُ ، أَوْ وَجَدَ بِالثَّمَنِ عَيْبًا فَفَسَخَ الْبَيْعَ ، أَوْ تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ فَطَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَإِذَا لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةٌ تُحْتَسَبُ عَلَيْهِ مِنْ الثُّلُثِ ، لَمْ يُمْنَعْ الْمِيرَاثُ ، كَمَا لَوْ مَلَكِهِ بِالْمِيرَاثِ عِنْدَ مَنْ سَلَّمَهُ ، أَوْ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ ، فَإِنْ مَلَكَهُ بِعِوَضٍ ، كَالشِّرَاءِ ، فَحَكَى الْخَبْرِيُّ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَعْتِقُ وَيَرِثُ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، فِي " الْمُجَرَّدِ " : إنْ مَلَكَهُ بِعِوَضٍ ، وَخَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ ، عَتَقَ وَوَرِثَ ، وَإِلَّا عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ الْخَبْرِيُّ : وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَحَكَى غَيْرَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ أَنْ يَمْلِكَهُ بِعِوَضٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَأَنَّهُ إنْ خَرَجَ مِنْ الثُّلُثِ عَتَقَ ، وَإِلَّا عَتَقَ مِنْهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ ، وَلَا يَرِثُ فِي الْحَالَيْنِ ؛
لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَكَانَ إعْتَاقُهُ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ ، فَيَبْطُلُ عِتْقُهُ ، وَيَبْطُلُ مِيرَاثُهُ ، لِبُطْلَانِ عِتْقِهِ ، فَيُؤَدِّي تَوْرِيثُهُ إلَى إبْطَالِ تَوْرِيثِهِ ، فَصَحَّحْنَا عِتْقَهُ وَلَمْ نُوَرِّثْهُ ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى ذَلِكَ .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فِي هَذَا ، كَمَذْهَبِهِمْ فِيمَا إذَا مَلَكَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَلَنَا ، عَلَى إعْتَاقِهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ ، فَهُوَ حُرٌّ } .
وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ وُجِدَ مَعَهُ مَا يُنَافِيهِ ، فَبَطَلَ ، كَمِلْكِ النِّكَاحِ مَعَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ ، أَعْنِي فِيمَا إذَا اشْتَرَى أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ .
وَإِذَا عَتَقَ وَرِثَ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْمِيرَاثِ عَرِيًّا عَنْ الْمَوَانِعَ ، فَوَرِثَ ، كَمَا لَوْ وَرِثَهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ عِتْقَهُ وَصِيَّةٌ .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِعْلُهُ ، وَالْعِتْقُ هَاهُنَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَلَا إرَادَتِهِ ، وَلِأَنَّ رَقَبَةَ الْمُعْتَقِ لَا تَحْصُلُ لَهُ ، وَإِنَّمَا تَتْلَفُ مَالِيَّتُهُ وَتَزُولُ ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ كَتَلَفِهِ بِقَتْلِ بَعْضِ رَقِيقِهِ ، أَوْ كَإِتْلَافِ بَعْضِ مَالِهِ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ ، مِثَالُ ذَلِكَ : مَرِيضٌ وُهِبَ لَهُ ابْنُهُ ، فَقَبِلَهُ وَقِيمَتُهُ مِائَةٌ ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ ، وَخَلَفَ ابْنًا آخَرِ وَمِائَتَيْنِ ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ ، وَيُقَاسِمُ أَخَاهُ الْمِائَتَيْنِ ، فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، فِيمَا حَكَى عَنْهُ غَيْرُ الْخَبْرِيِّ ، يَعْتِقُ وَلَا يَرِثُ شَيْئًا .
وَعِنْد صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ ، يُعْتَقُ وَلَهُ نِصْفُ التَّرِكَةِ ، فَيُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ وَيَبْقَى لَهُ خَمْسُونَ .
وَإِنْ كَانَ بَاقِي التَّرِكَةِ خَمْسِينَ ، فَعِنْدَنَا يُعْتَقُ ، وَلَهُ نِصْفُ الْخَمْسِينَ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، يُعْتَقُ نِصْفُهُ ، وَيَسْعَى فِي بَاقِيهِ ، وَالْخَمْسُونَ كُلُّهَا لِأَخِيهِ .
وَقَالَ صَاحِبَاهُ : يُعْتَقُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، فِي قَوْلِ غَيْرِ الْخَبْرِيِّ ، يُعْتَقُ نِصْفُهُ ، وَيُرَقُّ
نِصْفُهُ ، وَنِصْفُهُ الرَّقِيقُ وَالْخَمْسُونَ كُلُّهَا لِأَخِيهِ .
وَإِنْ كَانَ بَاقِي التَّرِكَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ ، فَعِنْدَنَا يُعْتَقُ وَلَهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، يُعْتَقُ وَلَا يَرِثُ شَيْئًا .
وَعِنْد صَاحِبَيْ أَبِي حَنِيفَةَ ، يُعْتَقُ وَلَهُ مِائَةٌ .
فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى ابْنَهُ بِمِائَةٍ ، وَمَاتَ ، وَخَلَّفَ ابْنًا آخَرَ وَمِائَةً أُخْرَى ، فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، يُعْتَقُ وَيُقَاسِمُ أَخَاهُ الْمِائَةَ الْبَاقِيَةَ .
وَعَلَى مَا حَكَاهُ الْقَاضِي ، يُعْتَقُ مِنْهُ ثُلُثَاهُ ، وَيَرِثُ أَرْبَعِينَ ، وَيُعْتَقُ بَاقِيهِ عَلَى أَخِيهِ ، وَلَا يَرِثُ بِذَلِكَ الْجُزْءِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُعْتَقُ ثُلُثَاهُ ، وَلَا يَرِثُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَعْتِقُ ثُلُثَاهُ ، وَيَسْعَى فِي بَاقِيهِ ، وَلَا يَرِثُ .
وَعِنْد صَاحِبَيْهِ ، يُعْتَقُ كُلُّهُ ، وَلَا يَرِثُ شَيْئًا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَصَدَّقَ قَبْلَ ذَلِكَ بِثُلُثِهِ ، أَوْ حَابَى بِهِ ، لَمْ يُعْتَقْ ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ قَدْ ذَهَبَ .
( 4599 ) فَصْلٌ : وَإِنْ مَلَكَ مِنْ وَرَثَتِهِ مَنْ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، كَبَنِي عَمِّهِ ، فَأَعْتَقَهُمْ فِي مَرَضِهِ ، فَعِتْقُهُمْ وَصِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ ، وَحُكْمُهُمْ فِي الْعِتْقِ حُكْمُ الْأَجَانِبِ ، إنْ خَرَجُوا مِنْ الثُّلُثِ عَتَقُوا ، وَإِلَّا عَتَقَ مِنْهُمْ بِقَدْرِ الثُّلُثِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقُوا وَلَا يَرِثُوا ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ وَرِثُوا لَكَانَتْ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ ، فَيَبْطُلُ عِتْقُهُمْ ، ثُمَّ يَبْطُلُ مِيرَاثُهُمْ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ ، فِي رَجُلٍ مَلَكَ ابْنَ عَمِّهِ ، فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ : عَتَقَ ، وَلَمْ يَرِثْ .
وَهَذَا فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَوَارِثٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، فَمَنَعْنَا مِيرَاثَهُ لِيُقْبَلَ إقْرَارُهُ لَهُ بِالْإِعْتَاقِ .
( 4600 ) فَصْلٌ : مَرِيضٌ اشْتَرَى أَبَاهُ بِأَلْفٍ ، لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ ، فَعَلَى رِوَايَةِ الْخَبْرِيِّ ، يُعْتَقُ كُلُّهُ .
وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُعْتَقُ ثُلُثُهُ عَلَى الْمُعْتِقِ ، وَيُعْتَقُ بَاقِيهِ عَلَى ابْنِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْتَقُ ثُلُثُهُ ، وَيَسْعَى لِلِابْنِ فِي ثُلُثَيْهِ .
وَعَلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ ، يُعْتَقُ سُدُسُهُ ، وَيَسْعَى فِي خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ .
وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ : يُفْسَخُ الشِّرَاءُ ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الِابْنُ عِتْقَهُ .
وَقِيلَ : يُعْتَقُ ثُلُثُهُ .
وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ فِي ثُلُثَيْهِ .
وَإِنْ خَلَّفَ أَلْفَيْنِ سِوَاهُ ، عَتَقَ ، وَوَرِثَ سُدُسَهُمَا .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَفِي قَوْلِ صَاحِبَيْهِ ، يُعْتَقُ نِصْفُهُ ، وَيَسْعَى فِي قِيمَةِ نِصْفِهِ .
( 4601 ) فَصْل : وَإِذَا وَهَبَ الْإِنْسَانَ أَبُوهُ ، أَوْ وَصَّى لَهُ بِهِ ، اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ ، وَلَمْ يَجِبْ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعْتَاقًا لِأَبِيهِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِ مَالٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ اسْتِجْلَابُ مِلْكٍ عَلَى الْأَبِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ ، كَمَا لَوْ بُذِلَ لَهُ بِعِوَضٍ ، أَوْ كَمَا لَوْ بَذَلَ لَهُ ابْنُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ ضَرَرٌ بِلُحُوقِ الْمِنَّةِ بِهِ ، وَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَكِسْوَتُهُ .
( 4602 ) فَصْلٌ : إذَا وَصَّى لِوَارِثِهِ وَأَجْنَبِيٍّ بِثُلُثِهِ ، فَأَجَازَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ وَصِيَّةَ الْوَارِثِ ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا .
وَإِنْ وَصَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُعَيَّنٍ قِيمَتُهُمَا الثُّلُثُ ، فَأَجَازَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ وَصِيَّةَ الْوَارِثِ ، جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا .
وَإِنْ رَدُّوا بَطَلَتْ وَصِيَّةُ الْوَارِثِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَلِلْأَجْنَبِيِّ السُّدُسُ فِي الْأُولَى ، وَالْمُعَيَّنُ الْمُوصَى لَهُ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّتَانِ بِثُلُثَيْ مَالِهِ ، فَأَجَازَ الْوَرَثَةُ لَهُمَا .
جَازَتْ لَهُمَا .
وَإِنْ عَيَّنُوا نَصِيبَ الْوَارِثِ بِالرَّدِّ وَحْدَهُ ، فَلِلْأَجْنَبِيِّ الثُّلُثُ كَامِلًا ؛ لِأَنَّهُمْ خَصُّوا الْوَارِثَ بِالْإِبْطَالِ ، فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ ، وَسَقَطَتْ وَصِيَّةُ الْوَارِثِ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُوصِ لَهُ .
وَإِنْ أَبْطَلُوا الزَّائِدَ عَنْ الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا ، فَالثُّلُثُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ .
هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَارِثَ يُزَاحِمُ الْأَجْنَبِيَّ ، إذَا أَجَازَ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّتَيْنِ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ ، فَإِذَا أَبْطَلُوا نِصْفَهُمَا بِالرَّدِّ ، كَانَ الْبُطْلَانُ رَاجِعًا إلَيْهِمَا ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُمَا بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَوْ تَلِفَ ذَلِكَ بِغَيْرِ الرَّدِّ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّ الثُّلُثَ جَمِيعَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ .
وَحُكِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى إبْطَالِ الثُّلُثِ فَمَا دُونَ إذَا كَانَ لِلْأَجْنَبِيِّ ، وَلَوْ جَعَلْنَا الْوَصِيَّةَ بَيْنَهُمَا لَمَلَكُوا إبْطَالَ مَا زَادَ عَلَى السُّدُسِ ، فَإِنْ صَرَّحَ الْوَرَثَةُ بِذَلِكَ ، فَقَالُوا : أَجَزْنَا الثُّلُثَ لَكُمَا ، وَرَدَدْنَا مَا زَادَ عَلَيْهِ فِي وَصِيَّتِكُمَا .
أَوْ قَالُوا : رَدَدْنَا مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا نِصْفَهَا ، وَبَقِينَا لَهُ
نِصْفَهَا .
كَانَ ذَلِكَ آكَدَ فِي جَعْلِ السُّدُسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِتَصْرِيحِهِمْ بِهِ ، وَإِنْ قَالُوا : أَجَزْنَا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ كُلَّهَا ، وَرَدَدْنَا نِصْفَ وَصِيَّةِ الْأَجْنَبِيِّ .
فَهُوَ عَلَى مَا قَالُوا ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا لَهُمَا وَيَرُدُّوا عَلَيْهِمَا ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا لِأَحَدِهِمَا وَيَرُدُّوا عَلَى الْآخَرِ .
وَإِنْ أَجَازُوا لِلْأَجْنَبِيِّ جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ ، وَرَدُّوا عَلَى الْوَارِثِ نِصْفَ وَصِيَّتِهِ جَازَ ، كَمَا قُلْنَا .
وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَنْقُصُوا الْأَجْنَبِيَّ عَنْ نِصْفِ وَصِيَّتِهِ ، لَمْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ ، سَوَاءٌ أَجَازُوا لِلْوَارِثِ أَوْ رَدُّوا عَلَيْهِ .
فَإِنْ رَدُّوا جَمِيعَ وَصِيَّةِ الْوَارِثِ ، وَنِصْفَ وَصِيَّةِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، لَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا الثُّلُثَ لَهُمَا ، فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ ، وَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ ، ثُمَّ إذَا رَجَعُوا فِيمَا لِلْوَارِثِ ، لَمْ يُرَدَّ الْأَجْنَبِيُّ عَلَى مَا كَانَ لَهُ فِي حَالَةِ الْإِجَازَةِ لِلْوَارِثِ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي الْخَطَّابِ ، يَتَوَفَّرُ الثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُنْتَقَصُ مِنْهُ بِمُزَاحَمَةِ الْوَارِثِ ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ ، وَجَبَ تَوْفِيرُ الثُّلُثِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَوْصَى لَهُ بِهِ .
وَلَوْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ ، وَوَصَّى لَهُمَا بِثُلُثَيْ مَالِهِ ، وَلِأَجْنَبِيٍّ بِالثُّلُثِ ، فَرَدَّا الْوَصِيَّةَ .
فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : عِنْدِي لِلْأَجْنَبِيِّ الثُّلُثُ كَامِلًا .
وَعِنْدَ الْقَاضِي ، لَهُ التُّسْعُ .
وَيَجِيءُ فِيهِ مِنْ الْفُرُوعِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
( 4603 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَصَّى بِثُلُثِهِ لَوَارِثٍ وَأَجْنَبِيٍّ ، وَقَالَ : إنْ رَدُّوا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ فَالثُّلُثُ كُلُّهُ لِلْأَجْنَبِيِّ .
، كَمَا وَصَّى .
وَإِنْ أَجَازُوا لِلْوَارِثِ ، فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ .
وَلَوْ قَالَ : أَوْصَيْت لَفُلَانٍ بِثُلُثِي ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلِي فَهُوَ لِفُلَانٍ .
صَحَّ .
وَإِنْ قَالَ : وَصَّيْت بِثُلُثِي لَفُلَانٍ ، فَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ الْغَائِبُ فَهُوَ لَهُ .
صَحَّ ، فَإِنْ قَدِمَ الْغَائِبُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، صَارَ هُوَ الْوَصِيَّ ، وَبَطَلَتْ وَصِيَّةُ الْأَوَّلِ ، سَوَاءٌ عَادَ إلَى الْغَيْبَةِ أَوْ لَمْ يَعُدْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ شَرْطُ انْتِقَالِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِ ، فَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَإِنْ مَاتَ الْمُوصِي قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ ، فَالْوَصِيَّةُ لِلْحَاضِرِ ، سَوَاءٌ قَدِمَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْدَمْ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ ثَبَتَتْ لِوُجُودِ شَرْطِهَا ، فَلَمْ تُنْقَلْ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَقْدُمْ .
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْغَائِبَ إنْ قَدِمَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لَهُ بِشَرْطِ قُدُومِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ .
( 4604 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَصَّى لَوَارِثٍ ، فَأَجَازَ بَعْضُ بَاقِي الْوَرَثَةِ الْوَصِيَّةَ دُونَ الْبَعْضِ ، نَفَذَ فِي نَصِيبِ مَنْ أَجَازَ ، دُونَ مَنْ لَمْ يُجِزْ .
وَإِنْ أَجَازُوا بَعْضَ الْوَصِيَّةِ دُونَ بَعْضٍ ، نَفَذَتْ فِيمَا أَجَازُوا دُونَ مَا لَمْ يُجِيزُوا .
فَإِنْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْوَصِيَّةِ ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ جَمِيعَهَا ، أَوْ رَدَّهَا ، فَهُوَ عَلَى مَا فَعَلُوا مِنْ ذَلِكَ .
فَلَوْ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ وَعَبْدًا ، لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ ، فَوَصَّى بِهِ لِأَحَدِهِمْ ، أَوْ وَهَبَهُ إيَّاهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ، وَأَجَازَهُ لَهُ أَخَوَاهُ ، فَهُوَ لَهُ ، وَإِنْ أَجَازَ لَهُ أَحَدُهُمَا وَحْدَهُ ، فَلَهُ ثُلُثَاهُ ، وَإِنْ أَجَازَا لَهُ نِصْفَ الْعَبْدِ ، فَلَهُ نِصْفُهُ ، وَلَهُمَا نِصْفُهُ ، وَإِنْ أَجَازَا أَحَدُهُمَا لَهُ نِصْفَ نَصِيبِهِ ، وَرَدَّ الْآخَرُ ، فَلَهُ النِّصْفُ كَامِلًا ؛ الثُّلُثُ نَصِيبُهُ ، وَالسُّدُسُ مِنْ نَصِيبِ الْمُجِيزِ ، وَإِنْ أَجَازَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ نِصْفَ نَصِيبِهِ ، كَمَّلَ لَهُ الثُّلُثَانِ ، وَإِنْ أَجَازَ لَهُ أَحَدُهُمَا نِصْفَ نَصِيبِهِ ، وَالْآخَرُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نَصِيبِهِ ، كَمَّلَ لَهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ .
وَإِنْ وَصَّى بِالْعَبْدِ لِاثْنَيْنِ مِنْهُمَا ، فَلِلثَّالِثِ أَنْ يُجِيزَ لَهُمَا ، أَوْ يَرُدَّ عَلَيْهِمَا ، أَوْ يُجِيزَ لَهُمَا بَعْضَ وَصِيَّتِهِمَا ، إنْ شَاءَ مُتَسَاوِيًا ، وَإِنْ شَاءَ مُتَفَاضِلًا ، أَوْ يَرُدَّ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَيُجِيزَ لِلْآخَرِ وَصِيَّتَهُ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا ، أَوْ يُجِيزَ لِأَحَدِهِمَا جَمِيعَ وَصِيَّتِهِ ، وَلِلْآخَرِ بَعْضَهَا ، فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ ، فَكَيْفَمَا شَاءَ فَعَلَ فِيهِ .
( 4605 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَمَنْ أَوْصَى لِغَيْرِ وَارِثٍ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ، فَأَجَازَ ذَلِكَ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يُجِيزُوا ، رُدَّ إلَى الثُّلُثِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِغَيْرِ الْوَارِثِ تَلْزَمُ فِي الثُّلُثِ مِنْ غَيْرِ إجَازَةٍ ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ يَقِفُ عَلَى إجَازَتِهِمْ ، فَإِنْ أَجَازُوهُ جَازَ ، وَإِنْ رَدُّوهُ بَطَلَ .
فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدٍ حِينَ قَالَ : أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ فَبِالثُّلُثَيْنِ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَبِالنِّصْفِ ؟ قَالَ : لَا .
قَالَ : فَبِالثُّلُثِ ؟ قَالَ : الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ مَمَاتِكُمْ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهِ .
وَحَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي الْمَمْلُوكِينَ الَّذِينَ أَعْتَقَهُمْ الْمَرِيضُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُمْ ، فَدَعَا بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ، وَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً ، وَقَالَ لَهُ قَوْلًا شَدِيدًا ، يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيمَا عَدَا الثُّلُثَ ، إذَا لَمْ يُجِزْ الْوَرَثَةُ ، وَيَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ .
وَالْقَوْلُ فِي بُطْلَانِ الْوَصِيَّةِ بِالزَّائِدِ عَنْ الثُّلُثِ ، كَالْقَوْلِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَهَلْ إجَازَتُهُمْ تَنْفِيذٌ أَوْ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ .
وَالْخِلَافُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِهِ ، أَوْ الْعَطِيَّةَ لَهُ ، فِي مَرَضِ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ ، صَحِيحَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِجَازَةِ ، أَوْ بَاطِلَةٌ ؟ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ ، وَأَنَّ الْإِجَازَةَ تَنْفِيذٌ مُجَرَّدٌ ، لَا يَكْفِي فِيهِ قَوْلُ الْمُجِيزِ : أَجَزْت ذَلِكَ .
أَوْ أَنْفَذْتُهُ .
أَوْ
نَحْوَهُ مِنْ الْكَلَامِ ، وَلَا يُفْتَقَرُ إلَى شُرُوطِ الْهِبَةِ .
وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا لَا مَالَ سِوَاهُ فِي مَرَضِهِ ، أَوْ وَصَّى بِإِعْتَاقِهِ ، فَأَعْتَقُوهُ بِوَصِيَّتِهِ ، فَقَدْ نَفَذَ الْعِتْقُ فِي ثُلُثِهِ وَوَقَفَ عِتْقُ بَاقِيهِ عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، فَإِنْ أَجَازُوهُ ، عَتَقَ جَمِيعُهُ ، وَاخْتَصَّ عُصُبَاتُ الْمَيِّتِ بِوَلَائِهِ كُلِّهِ ، إذَا قُلْنَا بِصِحَّةِ إعْتَاقِهِ وَوَصِيَّتِهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : هِيَ بَاطِلَةٌ ، وَالْإِجَازَةُ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ .
اخْتَصَّ عُصُبَاتُ الْمَيِّتِ بِثُلُثِ وَلَائِهِ ، وَكَانَ ثُلُثَاهُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوهُ بِالْإِعْتَاقِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ تَبَرَّعَ بِثُلُثِ مَالِهِ فِي مَرَضِهِ ، ثُمَّ أَعْتَقَ ، أَوْ وَصَّى بِالْإِعْتَاقِ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ أَوْصَى لِابْنِ وَارِثِهِ بَعْدَ تَبَرُّعِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ ، أَوْ أَعْطَاهُ عَطِيَّةً فِي مَرَضِهِ ، فَأَجَازَ أَبُوهُ وَصِيَّتَهُ وَعَطِيَّتَهُ ، ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِيمَا أَجَازَهُ ، فَلَهُ ذَلِكَ إنْ قُلْنَا : هِيَ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ .
وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا إجَازَةٌ مُجَرَّدَةٌ .
وَلَوْ تَزَوَّجَ رَجُلٌ ابْنَةَ عَمِّهِ ، فَأَوْصَتْ لَهُ بِوَصِيَّةٍ أَوْ عَطِيَّةٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهَا ، ثُمَّ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْهُ وَأَبَاهُ ، فَأَجَازَ أَبُوهُ وَصِيَّتَهُ وَعَطِيَّتَهُ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ عَلَى وَرَثَتِهِ ، فَأَجَازُوا الْوَقْفَ ، صَحَّ إنْ قُلْنَا : إجَازَتُهُمْ تَنْفِيذٌ .
وَلَمْ يَصِحَّ إنْ قُلْنَا : هِيَ عَطِيَّةٌ مُبْتَدَأَةٌ .
وَلِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ وَاقِفِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ .
وَلَا فَرْقَ فِي الْوَصِيَّةِ بَيْن الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ ، وَقَدْ رَوَى حَنْبَلٌ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : إنْ أَوْصَى فِي الْمَرَضِ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ بِمَا شَاءَ .
يَعْنِي بِهِ الْعَطِيَّةَ .
قَالَهُ الْقَاضِي .
أَمَّا الْوَصِيَّةُ فَإِنَّهَا عَطِيَّةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَجُوزُ مِنْهَا
إلَّا الثُّلُثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
( 4606 ) فَصْلٌ : وَلَا يُعْتَبَرُ الرَّدُّ وَالْإِجَازَةُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَلَوْ أَجَازُوا قَبْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ رَدُّوا ، أَوْ أَذِنُوا لِمَوْرُوثِهِمْ فِي حَيَاتِهِ بِالْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ ، أَوْ بِالْوَصِيَّةِ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ ، ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فَرَدُّوا بَعْدَ وَفَاتِهِ ، فَلَهُمْ الرَّدُّ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِجَازَةُ فِي صِحَّةِ الْمُوصِي أَوْ مَرَضِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَالْحَكَمِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَرَبِيعَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْوَرَثَةِ ، فَإِذَا رَضُوا بِتَرْكِهِ سَقَطَ حَقُّهُمْ ، كَمَا لَوْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ أَذِنُوا لَهُ فِي صِحَّتِهِ ، فَلَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ ، وَحِينَ يُحْجَبُ عَنْ مَالِهِ ، فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمْ أَسْقَطُوا حُقُوقَهُمْ فِيمَا لَمْ يَمْلِكُوهُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُمْ ، كَالْمَرْأَةِ إذَا أَسْقَطَتْ صَدَاقَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ ، أَوْ أَسْقَطَ الشَّفِيعُ حَقَّهُ مِنْ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا يَصِحُّ فِيهَا رَدُّهُمْ لِلْوَصِيَّةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ فِيهَا إجَازَتُهُمْ ، كَمَا قَبْلَ الْوَصِيَّةِ .
( 4607 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ، فَأَجَازَ الْوَارِثُ الْوَصِيَّةَ ، وَقَالَ : إنَّمَا أَجَزْتهَا ظَنًّا أَنَّ الْمَالَ قَلِيلٌ ، فَبَانَ كَثِيرًا .
فَإِنْ كَانَتْ لِلْمُوصِي بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِاعْتِرَافِهِ بِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الْمَالِ ، أَوْ كَانَ الْمَالُ ظَاهِرًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : الْإِجَازَةُ هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ .
فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ فِي مِثْلِهِ .
وَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ بَيِّنَةٌ بِاعْتِرَافِهِ بِذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلَةَ الْإِبْرَاءِ ، فَلَا يَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الْجَهْلِ بِهِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعِلْمِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ عَقْدًا لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِهِ ، فَبَطَلِ خِيَارُهُ ، كَمَا لَوْ أَجَازَ الْبَيْعَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي فَسْخِهِ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ .
وَإِنْ أَوْصَى بِمُعَيَّنٍ ، كَعَبْدٍ أَوْ فَرَسٍ يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ ، فَأَجَازَ الْوَصِيَّةَ بِهَا ، ثُمَّ قَالَ : ظَنَنْت الْمَالَ كَثِيرًا تَخْرُجُ الْوَصِيَّةُ مِنْ ثُلُثِهِ ، فَبَانَ قَلِيلًا ، أَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ أَعْلَمْهُ .
لَمْ تَبْطُلْ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فِيهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمْلِكَ الْفَسْخَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْمَحُ بِذَلِكَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَبْقَى لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ ، فَإِذَا بَانَ خِلَافُ ذَلِكَ ، لَحِقَهُ الضَّرَرُ فِي الْإِجَازَةِ فَمَلَكَ الرُّجُوعَ كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا .
( 4608 ) فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ .
فَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَسَفَهٍ ، فَلَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ بِالْمَالِ ، فَلَمْ تَصِحَّ مِنْهُمْ ، كَالْهِبَةِ .
وَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِفَلْسِ ، فَإِنْ قُلْنَا : الْإِجَازَةُ هِبَةٌ .
لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هِبَةُ مَالِهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : هِيَ تَنْفِيذٌ صَحَّتْ .
( 4609 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَمَنْ أُوصِيَ لَهُ ، وَهُوَ فِي الظَّاهِرِ وَارِثٌ ، فَلَمْ يَمُتْ الْمُوصِي حَتَّى صَارَ الْمُوصَى لَهُ غَيْرَ وَارِثٍ ، فَالْوَصِيَّةُ لَهُ ثَابِتَةٌ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فِي أَنَّ اعْتِبَارَ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ ، فَلَوْ أَوْصَى لِثَلَاثَةِ إخْوَةٍ لَهُ مُتَفَرِّقِينَ ، وَلَا وَلَدَ لَهُ ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ لَهُ وَلَدٌ ، لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ لِغَيْرِ الْأَخِ مِنْ الْأَبِ ، إلَّا بِالْإِجَازَةِ مِنْ الْوَرَثَةِ .
وَإِنْ وُلِدَ لَهُ ابْنٌ ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لَهُمْ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ إجَازَةٍ ، إذَا لَمْ تَتَجَاوَزْ الْوَصِيَّةُ الثُّلُثَ .
وَإِنْ وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ ، جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ وَأَخِيهِ مِنْ أُمِّهِ ، فَيَكُونُ لَهُمَا ثُلُثَا الْمُوصَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْأَخِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ وَارِثٌ .
وَبِهَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي ، وَغَيْرُهُمْ .
وَلَا نَعْلَمُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ .
وَلَوْ أَوْصَى لَهُمْ ، وَلَهُ ابْنٌ ، فَمَاتَ ابْنُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ ، لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِأَخِيهِ مِنْ أَبَوَيْهِ ، وَلَا لِأَخِيهِ مِنْ أُمِّهِ ، وَجَازَتْ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ .
فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ مِنْ الْأَبَوَيْنِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، لَمْ تَجُزْ الْوَصِيَّةُ لِلْأَخِ مِنْ الْأَبِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَارِثًا .
( 4610 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى لِامْرَأَةِ أَجْنَبِيَّةٍ ، أَوْ أَوْصَتْ لَهُ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ، لَمْ تَجُزْ وَصِيَّتُهُمَا إلَّا بِالْإِجَازَةِ مِنْ الْوَرَثَةِ .
وَإِنْ أَوْصَى أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ، جَازَتْ الْوَصِيَّةُ ، لِأَنَّهُ صَارَ غَيْرَ وَارِثٍ ، إلَّا أَنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا لَا تُعْطَى أَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي أَنَّهُ طَلَّقَهَا لِيُوصِلَ إلَيْهَا مَالَهُ بِالْوَصِيَّةِ ، فَلَمْ يُنَفَّذْ لَهَا ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ أَوْصَى لَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ تَرِثُ .
( 4611 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ فِي صِحَّتِهِ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي مَرَضِهِ ، صَحَّ ، وَوَرِثَتْهُ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ .
وَإِنْ أَعْتَقَهَا فِي مَرَضِهِ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ، وَكَانَتْ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ ، فَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهَا تُعْتَقُ وَتَرِثُ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَصْحَابِنَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهَا امْرَأَةٌ نِكَاحُهَا صَحِيحٌ ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهَا مَانِعٌ مِنْ مَوَانِعِ الْإِرْثِ ، وَهِيَ الرِّقُّ وَالْقَتْلُ وَاخْتِلَافُ الدِّينِ ، فَتَرِثُ ، كَمَا لَوْ كَانَ أَعْتَقَهَا فِي صِحَّتِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُعْتَقُ وَلَا تَرِثُ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَرِثَتْ لَكَانَ إعْتَاقُهَا وَصِيَّةً لِوَارِثٍ ، فَيُؤَدِّي تَوْرِيثُهَا إلَى إسْقَاطِ تَوْرِيثِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي إبْطَالَ عِتْقِهَا ، فَيَبْطُلُ نِكَاحُهَا ثُمَّ يَبْطُلُ إرْثُهَا ، فَكَانَ إبْطَالُ الْإِرْثِ وَحْدَهُ وَتَصْحِيحُ الْعِتْقِ وَالنِّكَاحِ أَوْلَى .
( 4612 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَعْتَقَ أَمَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ، فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ فِي الظَّاهِرِ .
فَإِنْ مَاتَ ، وَلَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا آخَرَ ، تَبَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَهَا بَاطِلٌ ، وَيَسْقُطُ مَهْرُهَا إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَيُعْتَقُ مِنْهَا ثُلُثُهَا ، وَيُرَقُّ ثُلُثَاهَا .
فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَمَهْرُهَا نِصْفُ قِيمَتِهَا ، عَتَقَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا ، وَيَرِقُّ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهَا .
وَحِسَابُ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ : عَتَقَ مِنْهَا شَيْءٌ ، وَلَهَا بِصَدَاقِهَا نِصْفُ شَيْءٍ ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ ، فَيُجْمَعُ ذَلِكَ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَنِصْفًا ، نَبْسُطُهَا فَتَكُونُ سَبْعَةً ، لَهَا مِنْهَا ثَلَاثَةٌ ، وَلَهُمْ أَرْبَعَةٌ ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهَا ، فَنَجْعَلُ لِنَفْسِهَا مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِهَا يَكُونُ حُرًّا وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ .
وَإِنْ أَحَبَّ الْوَرَثَةُ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهَا حِصَّتَهَا مِنْ مَهْرِهَا ، وَهُوَ سُبْعَاهُ ، وَيُعْتَقُ مِنْهَا سُبْعَاهَا وَيَسْتَرِقُّوا خَمْسَةَ أَسْبَاعِهَا ، فَلَهُمْ ذَلِكَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُحْسَبُ مَهْرُهَا مِنْ قِيمَتِهَا ، وَلَهَا ثُلُثُ الْبَاقِي ، وَتَسْعَى فِيمَا بَقِيَ وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَتِهَا .
فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مَعَ الْجَارِيَةِ قَدْرَ نِصْفِ قِيمَتِهَا ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، عَتَقَ مِنْهَا نِصْفُهَا ، وَرَقَّ نِصْفُهَا ؛ لِأَنَّ نِصْفَهَا هُوَ ثُلُثُ الْمَالِ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا ، عَتَقَ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ مَهْرِهَا ، وَإِنَّمَا قَلَّ الْعِتْقُ فِيهَا لِأَنَّهَا لَمَّا أَخَذَتْ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِ مَهْرِهَا ، نَقَصَ الْمَالُ بِهِ ، فَيُعْتَقُ مِنْهَا ثُلُثُ الْبَاقِي ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا .
وَحِسَابُهَا أَنْ تَقُولَ : عَتَقَ مِنْهَا شَيْءٌ ، وَلَهَا بِمَهْرِهَا نِصْفُ شَيْءٍ ، وَلِلْوَرَثَةِ شَيْئَانِ ، يَعْدِلُ ذَلِكَ الْجَارِيَةَ وَنِصْفَ قِيمَتِهَا ، فَالشَّيْءُ سُبْعَاهَا وَسُبْعَا نِصْفِ قِيمَتِهَا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ ، فَهُوَ الَّذِي عَتَقَ
مِنْهَا ، وَتَأْخُذْ نِصْفَ ذَلِكَ مِنْ الْمَالِ بِمَهْرِهَا ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهِ .
فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مَعَهَا مِثْلَ قِيمَتِهَا ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، عَتَقَ ثُلُثَاهَا ، وَرَقَّ ثُلُثُهَا ، وَبَطَلَ نِكَاحُهَا .
وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا عَتَقَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهَا ، وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ مَهْرِهَا ، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا وَخَمْسَةُ أَسْبَاعِ قِيمَتِهَا ، وَذَلِكَ يَعْدِلُ مِثْلَيْ مَا عَتَقَ مِنْهَا .
وَحِسَابُهَا أَنْ تَجْعَلَ السَّبْعَةَ الْأَشْيَاءِ مُعَادِلَةً لَهَا وَلِقِيمَتِهَا ، فَيُعْتَقَ مِنْهَا بِقَدْرِ سُبْعَيْ الْجَمِيعِ ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِهَا ، وَتَسْتَحِقُّ سُبُعَ الْجَمِيعِ بِمَهْرِهَا ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ مَهْرِهَا .
وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ مَعَهَا مِثْلَيْ قِيمَتِهَا ، عَتَقَتْ كُلُّهَا ، وَصَحَّ نِكَاحُهَا ؛ لِأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ إنْ أَسْقَطَتْ مَهْرَهَا ، وَإِنْ أَبَتْ أَنْ تُسْقِطَهُ ، لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهَا ، وَبَطَلَ نِكَاحُهَا ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِعِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا ، وَلَا مَهْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّ إيجَابَهُ يُفْضِي إلَى إسْقَاطِهِ وَإِسْقَاطِ عِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا ، فَإِسْقَاطُهُ وَحْدَهُ أَوْلَى .
وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، عَمِلْنَا فِيهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَيُعْتَقُ سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا ، وَلَهَا سِتَّةُ أَسْبَاعِ مَهْرِهَا ، وَيَبْطُلُ عِتْقُ سُبُعِهَا وَنِكَاحُهَا .
وَلَوْ أَعْتَقَهَا ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا ، وَوَطِئَهَا ، كَانَ الْعَمَلُ فِيهَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ الْأَخِيرَةِ ، مَا يَقْتَضِي صِحَّةَ عِتْقِهَا وَنِكَاحِهَا ، مَعَ وُجُوبِ مَهْرِهَا ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَنْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ أَمَةً قِيمَتُهَا مِائَةٌ ، وَأَصْدَقَهَا مِائَتَيْنِ ، لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا ، وَهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا : يَصِحُّ الْعِتْقُ وَالصَّدَاقُ وَالنِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ صَدَاقُ مِثْلِهَا ، وَتَزْوِيجُ الْمَرِيضِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ صَحِيحٌ نَافِذٌ .
وَهَذَا غَيْرُ
جَيِّدٍ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى نُفُوذِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَلَا أَعْلَمُ بِهِ قَائِلًا .
وَلَوْ أَنَّهُ أَتْلَفَ الْمِائَتَيْنِ ، أَوْ أَصْدَقَهُمَا لِامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ، وَمَاتَ ، وَلَمْ يَخْلُفْ شَيْئًا ، لَبَطَلَ عِتْقُ ثُلُثَيْ الْأَمَةِ ، فَإِذَا أَخَذَتْهُمَا هِيَ ، كَانَ أَوْلَى فِي بُطْلَانِهِ .
وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا تَرَكَ مِثْلَيْ قِيمَتِهَا ، وَكَانَ مَهْرُهَا نِصْفَ قِيمَتِهَا : تُعْطَى مَهْرَهَا وَثُلُثَ الْبَاقِي ، بِحَسَبِ ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهَا ، وَهُوَ نِصْفُهَا وَثُلُثُهَا ، فَيُعْتَقُ ذَلِكَ ، وَتَسْعَى فِي سُدُسِهَا الْبَاقِي ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُهَا .
فَأَمَّا إنْ خَلَفَ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِ قِيمَتِهَا ، صَحَّ عِتْقُهَا وَنِكَاحُهَا وَصَدَاقُهَا ، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَتَرِثُ مِنْ الْبَاقِي فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَرِثُ .
وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَرِثَتْ لَكَانَ عِتْقُهَا وَصِيَّةً لِوَارِثٍ ، وَاعْتِبَارُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَوْتِ .
( 4613 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مَرِيضَةً أَعْتَقَتْ عَبْدًا قِيمَتُهُ عَشْرَةٌ ، وَتَزَوَّجَهَا بِعَشْرَةٍ فِي ذِمَّتِهِ ، ثُمَّ مَاتَتْ ، وَخَلَفَتْ مِائَةً .
اقْتَضَى قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنْ تُضَمَّ الْعَشَرَةُ الَّتِي فِي ذِمَّتِهِ إلَى الْمِائَةِ ، فَيَكُونَ ذَلِكَ هُوَ التَّرِكَةُ ، وَيَرِثَ نِصْفَ ذَلِكَ وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ صَاحِبَاهُ : تُحْسَبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَيْضًا ، وَتُضَمُّ إلَى التَّرِكَةِ ، وَيَبْقَى لِلْوَرَثَةِ سِتُّونَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَرِثُ شَيْئًا ، وَعَلَيْهِ أَدَاءُ الْعَشَرَةِ الَّتِي فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِئَلَّا يَكُونَ إعْتَاقُهُ وَصِيَّةً لِوَارِثٍ .
وَهَذَا مُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 4614 ) فَصْلٌ : وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً صَدَاقُ مِثْلِهَا خَمْسَةٌ ، فَأَصْدَقَهَا عَشْرَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا ، ثُمَّ مَاتَ ، وَوَرِثَتْهُ ، بَطَلَتْ الْمُحَابَاةُ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ ، وَلَهَا صَدَاقُهَا وَرُبُعُ الْبَاقِي بِالْمِيرَاثِ .
وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ ، صَحَّتْ الْمُحَابَاةُ ، وَيَدْخُلُهَا الدَّوْرُ ، فَنَقُولُ : لَهَا مَهْرُهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ ، وَشَيْءٌ بِالْمُحَابَاةِ يَبْقَى لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ خَمْسَةُ الْأَشْيَاءِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِمْ نِصْفُ مَالِهَا ، وَهُوَ دِينَارَانِ ، وَنِصْفُ شَيْءٍ ، صَارَ لَهُمْ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ إلَّا نِصْفُ شَيْءٍ يَعْدِلُ شَيْئَيْنِ ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ ، يَتَبَيَّنْ أَنَّ الشَّيْءَ ثَلَاثَةٌ ، فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهَا أَرْبَعَةٌ ، وَلِوَرَثَتِهِ سِتَّةٌ .
وَإِنْ خَلَفَتْ مَعَ ذَلِكَ دِينَارَيْنِ ، عَادَ إلَى الزَّوْجِ مِنْ مِيرَاثِهَا ثَلَاثَةٌ وَنِصْفُ شَيْءٍ ، صَارَ لَهُ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ إلَّا نِصْفُ شَيْءٍ ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ ، يَخْرُجْ الشَّيْءُ ثَلَاثَةً وَخُمُسَيْنِ ، فَصَارَ لِوَرَثَتِهِ سِتَّةٌ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ ، وَلِوَرَثَتِهَا خَمْسَةٌ وَخُمُسٌ .
( 4615 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَوْصَى بِجَارِيَةٍ لِزَوْجِهَا الْحُرِّ ، فَقَبِلَهَا ، انْفَسَخَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ مِلْكِ الْيَمِينِ .
وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالْقَبُولِ ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ إذَا قَبِلَ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا مِنْ حِينِ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَتَبَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّ النِّكَاحَ انْفَسَخَ مِنْ حِينِ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ تَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ تَكُونَ حَامِلًا بِهِ حِينَ الْوَصِيَّةِ ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ أَوْصَى ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَكُونُ مُوصًى بِهِ مَعَهَا ؛ لِأَنَّ لِلْحَمْلِ حُكْمًا ، وَلِهَذَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ وَلَهُ ، وَإِذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ مُنْفَرِدًا ، صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ مَعَ أُمِّهِ ، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا فَأَوْصَى بِهِمَا جَمِيعًا .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، لَا حُكْمَ لِلْحَمْلِ ، فَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْحُكْمُ عِنْدَ انْفِصَالِهِ ، كَأَنَّهُ حَدَثَ حِينَئِذٍ .
فَعَلَى هَذَا إنْ انْفَصَلَ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي ، فَهُوَ لَهُ ، كَسَائِرِ كَسْبِهَا ، وَإِنْ انْفَصَلَ بَعْد مَوْتِهِ وَقَبْلَ الْقَبُولِ ، فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ ، عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ، وَإِنْ انْفَصَلَ بَعْدَهُ ، فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ .
الْحَالُ الثَّانِي ، أَنْ تَحْمِلَ بِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ تَضَعَهُ بَعْد سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ أَوْصَى ؛ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ لِمُدَّةِ الْحَمْلِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا حَمَلَتْهُ بَعْدَهَا فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ .
وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْحَمْلِ حَالَ الْوَصِيَّةِ ، فَلَا نُثْبِتُهُ بِالشَّكِّ ، فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمُوصِي إنْ وَلَدَتْهُ فِي حَيَاتِهِ .
وَإِنْ وَلَدَتْهُ بَعْدَهُ ، وَقُلْنَا : لِلْحَمْلِ حُكْمٌ .
فَكَذَلِكَ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا حُكْمَ لَهُ .
فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ إنْ وَلَدَتْهُ قَبْلَ الْقَبُولِ ، وَلَا بَيِّنَةَ إنْ
وَضَعَتْهُ بَعْدَهُ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الْوَلَدُ لِلْمُوصَى لَهُ ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ ابْنُهُ ، وَعَلَيْهِ وَلَاءٌ لِأَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ ، وَأُمُّهُ أَمَةٌ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِالْمِلْكِ ، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَعْلَقْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ .
الْحَالُ الثَّالِثُ ، أَنْ تَحْمِلَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ تَضَعَهُ لِأَكْثَرِ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ ، فَإِنْ وَضَعَتْهُ قَبْلَ الْقَبُولِ أَيْضًا ، فَهُوَ لِلْوَارِثِ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا ثَبَتَ لِلْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ .
وَإِنْ وَضَعَتْهُ بَعْدَ الْقَبُولِ ، فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ لِلْحَمْلِ حُكْمًا ، فَيَكُونُ حَادِثًا عَنْ مِلْكِ الْوَارِثِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ ، فَعَلَى هَذَا يَكُون حُرًّا لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ ، لِكَوْنِهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ ، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ الْقَبُولِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَرِيبٌ مِمَّا قُلْنَاهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا وَضَعَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَقِرُّ بِالْمَوْتِ وَتَلْزَمُ ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ ، كَالِاسْتِيلَادِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ حَادِثَةٌ بَعْدَ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ ، فَلَا تَدْخُلُ فِيهَا ، كَالْكَسْبِ ، وَإِذَا أَوْصَى بِعِتْقِ جَارِيَةٍ فَوَلَدَتْ .
وَتُفَارِقُ الِاسْتِيلَادَ ؛ لِأَنَّ لَهُ تَغْلِيبًا وَسِرَايَةً .
وَهَذَا التَّفْرِيعُ فِيمَا إذَا خَرَجَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ ، مَلَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ الثُّلُثِ ، وَانْفَسَخَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ بَعْضِهَا يَفْسَخُ النِّكَاحَ ، كَمِلْكِ جَمِيعهَا .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْوَلَدُ فِيهِ لِأَبِيهِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ مِنْهُ هَا هُنَا بِقَدْرِ مَا مَلَكَ مِنْ أُمِّهِ ،
وَيَسْرِي الْعِتْقُ إلَى بَاقِيهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا مَلَكَ وَحْدَهُ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ .
فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ هَا هُنَا .
سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا ، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، كَمَا إذَا اسْتَوْلَدَ الْأَمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ .
قَالَ الْقَاضِي : تَصِيرُ مِنْهَا أُمُّ وَلَدٍ بِقَدْرِ مَا مَلَكَ مِنْهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
( 4616 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَرَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : تَكُونُ لِوَلَدِ الْمُوصَى لَهُ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : إذَا عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ ، وَلَمْ يَحْدُثْ فِيمَا أَوْصَى بِهِ شَيْئًا ، فَهُوَ لِوَارِثِ الْمُوصَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ عَقْدِ الْوَصِيَّةِ ، فَيَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَهُ ، كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَقَبْلَ الْقَبُولِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا عَطِيَّةٌ صَادَفَتْ الْمُعْطِي مَيِّتًا ، فَلَمْ تَصِحَّ ، كَمَا لَوْ وَهَبَ مَيِّتًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَطِيَّةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ أَيْضًا .
وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّتَهَا ، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ صَادَفَتْ حَيًّا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
( 4617 ) فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لِمَيِّتٍ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَيِّتٌ ، فَهِيَ جَائِزَةٌ ، وَهِيَ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ قَضَاءِ دُيُونِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ نَفْعُهُ بِهَا ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ لَهُ النَّفْعُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ حَيًّا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَوْصَى لِمَنْ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ ، فَلَمْ تَصِحَّ إذَا عَلِمَ ، كَالْبَهِيمَةِ .
وَفَارَقَ الْحَيَّ ؛ فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ لَهُ فِي الْحَالَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ ، فَلَمْ يَصِحّ لِلْمَيِّتِ ، كَالْهِبَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ ، أَوْ بِمِائَةٍ لِاثْنَيْنِ حَيٍّ وَمَيِّتٍ ، فَلِلْحَيِّ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ ، سَوَاءٌ عَلِمَ مَوْتَ الْمَيِّتِ أَوْ جَهِلَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَالْبَصْرِيِّينَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : إذَا قَالَ : هَذِهِ الْمِائَةُ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ .
فَهِيَ لِلْحَيِّ مِنْهُمَا .
وَإِنْ قَالَ : بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ .
فَوَافَقْنَا الثَّوْرِيَّ فِي أَنَّ نِصْفَهَا لِلْحَيِّ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : عِنْدِي أَنَّهُ إذَا عَلِمَهُ مَيِّتًا ، فَالْجَمِيعُ لِلْحَيِّ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْهُ مَيِّتًا ، فَلِلْحَيِّ النِّصْفُ .
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ .
فَإِنَّهُ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ : إذَا أَوْصَى لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ بِمِائَةٍ ، فَبَانَ أَحَدُهُمَا مَيِّتًا ، فَلِلْحَيِّ خَمْسُونَ .
فَقِيلَ لَهُ : أَلَيْسَ إذَا قَالَ : ثُلُثِي لِفُلَانٍ وَلِلْحَائِطِ ، أَنَّ الثُّلُثَ كُلَّهُ لِفُلَانٍ ؟ فَقَالَ : وَأَيُّ شَيْءٍ يُشْبِهُ هَذَا ، الْحَائِطَ لَهُ مِلْكٌ ، فَعَلَى هَذَا إذَا شَرَكَ بَيْنَ مَنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ وَمَنْ لَا تَصِحُّ ، مِثْل أَنْ يُوصِيَ لِفُلَانٍ وَلِلْمِلْكِ وَلِلْحَائِطِ ، أَوْ لِفُلَانٍ الْمَيِّتِ ، فَالْمُوصَى بِهِ كُلُّهُ لِمَنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ ، إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَكَ
بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ عُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْوَصِيَّةِ كُلِّهَا مَنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْحَالَ ، فَلِمَنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ نِصْفُهَا ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إيصَالَ نِصْفِهَا إلَيْهِ ، وَإِلَى الْآخَرِ النِّصْفَ الْآخَرَ ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَهُ صَحِيحَةٌ ، فَإِذَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا ، صَحَّتْ فِي حَقِّ الْآخَرِ بِقِسْطِهِ ، كَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ جَعَلَ الْوَصِيَّةَ لِاثْنَيْنِ ، فَلَمْ يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا جَمِيعَهَا ، كَمَا لَوْ كَانَا مِمَّنْ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا ، أَوْ كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ الْحَالَ .
فَأَمَّا إنْ وَصَّى لِاثْنَيْنِ حَيَّيْنِ ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا ، فَلِلْآخَرِ نِصْفُ الْوَصِيَّةِ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا ؛ لِرَدِّهِ لَهَا .
أَوْ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا .
وَلَوْ قَالَ : أَوْصَيْت لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِنِصْفِ الثُّلُثِ ، أَوْ بِنِصْفِ الْمِائَةِ ، أَوْ بِخَمْسِينَ .
لَمْ يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْوَصِيَّةِ ، سَوَاءٌ كَانَ شَرِيكُهُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ وَصِيَّتَهُ فِي النِّصْفِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِيمَا سِوَاهُ .
( 4618 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : ( وَإِنْ رَدَّ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ) لَا يَخْلُو إذَا رَدَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يَرُدَّهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَلَا يَصِحُّ الرَّدُّ هَا هُنَا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تَقَعْ بَعْدُ ، فَأَشْبَهَ رَدَّ الْمَبِيعِ قَبْلَ إيجَابِ الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلْقَبُولِ ، فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلرَّدِّ ، كَمَا قَبْلَ الْوَصِيَّةِ .
وَالثَّانِيَةُ ، أَنْ يَرُدَّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَقَبْلَ الْقَبُولِ ، فَيَصِحُّ الرَّدُّ ، وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي حَالٍ يَمْلِكُ قَبُولَهُ وَأَخْذَهُ ، فَأَشْبَهَ عَفْوَ الشَّفِيعِ عَنْ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْبَيْعِ .
وَالثَّالِثَةُ ، أَنْ يَرُدَّ بَعْدَ الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ ، فَلَا يَصِحُّ الرَّدُّ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ رَدَّهُ لِسَائِرِ مِلْكِهِ ، إلَّا أَنْ يَرْضَى الْوَرَثَةُ بِذَلِكَ ، فَتَكُونَ هِبَةً مِنْهُ لَهُمْ تَفْتَقِرُ إلَى شُرُوطِ الْهِبَةِ .
وَالرَّابِعَةُ ، أَنْ يَرُدَّ بَعْدَ الْقَبُولِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ ، فَيُنْظَرُ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُوصَى بِهِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، صَحَّ الرَّدُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَأَشْبَهَ رَدَّهُ قَبْلَ الْقَبُولِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ ، لَمْ يَصِحَّ الرَّدُّ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ ، فَهُوَ كَالْمَقْبُوضِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ الرَّدُّ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَصِحُّ الرَّدُّ فِي الْجَمِيعِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَغَيْرِهِمَا .
وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا مَلَكُوا الرَّدَّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ ، مَلَكُوا الرَّدَّ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْوَصِيِّ لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَصَحَّ رَدُّهُ ، كَمَا قَبْلَ الْقَبُولِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَصِحُّ الرَّدُّ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ
بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ .
( 4619 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَوْضِعٍ صَحَّ الرَّدُّ فِيهِ ، فَإِنْ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ بِالرَّدِّ ، وَتَرْجِعُ إلَى التَّرِكَةِ ، فَتَكُونُ لِلْوُرَّاثِ جَمِيعِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا خَرَجَ بِالْوَصِيَّةِ ، فَإِذَا بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، رَجَعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، كَأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمْ تُوجَدْ .
وَلَوْ عَيَّنَ بِالرَّدِّ وَاحِدًا ، وَقَصَدَ تَخْصِيصَهُ بِالْمَرْدُودِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَكَانَ لِجَمِيعِهِمْ ؛ لِأَنَّ رَدَّهُ امْتِنَاعٌ مِنْ تَمَلُّكِهِ ، فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ دَفْعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ ، فَلَمْ يَمْلِكْ دَفْعَهُ إلَى وَارِثٍ يَخُصُّهُ بِهِ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ امْتَنَعَ الرَّدُّ لِاسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ ، فَلَهُ أَنْ يَخُصَّ بِهِ وَاحِدًا مِنْ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ هِبَةٍ ، وَيَمْلِكُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ ، فَمَلَكَ دَفْعَهُ إلَى وَارِثٍ .
فَلَوْ قَالَ : رَدَدْت هَذِهِ الْوَصِيَّةَ لِفُلَانٍ .
قِيلَ لَهُ : مَا أَرَدْت بِقَوْلِكَ لِفُلَانٍ ؟ فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت تَمْلِيكَهُ إيَّاهَا ، وَتَخْصِيصَهُ بِهَا .
فَقَبِلَهَا ، اخْتَصَّ بِهَا ، وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت رَدَّهَا إلَى جَمِيعِهِمْ ، لِيَرْضَى فُلَانٌ .
عَادَتْ إلَى جَمِيعِهِمْ إذَا قَبِلُوهَا ، فَإِنْ قَبِلَهَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ ، فَلِمَنْ قَبِلَ حِصَّتُهُ مِنْهَا .
( 4620 ) فَصْلٌ : وَيَحْصُلُ الرَّدُّ بِقَوْلِهِ : رَدَدْت الْوَصِيَّةَ .
وَقَوْلِهِ : لَا أَقْبَلُهَا .
وَمَا أَدَّى هَذَا الْمَعْنَى .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا قَالَ أَوْصَيْت لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ ، فَقَالَ : لَا أَقْبَلُهَا .
فَهِيَ لِوَرَثَتِهِ .
يَعْنِي لِوَرَثَةِ الْمُوصِي .
( 4621 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ أَوْ يَرُدَّ ، قَامَ وَارِثُهُ فِي ذَلِكَ مَقَامَهُ ، إذَا كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ) اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ ، بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَذَهَبَ الْخِرَقِيِّ إلَى أَنَّ وَارِثَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِلْمَوْرُوثِ فَثَبَتَ لِلْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : مَنْ تَرَكَ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ } .
وَكَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ إلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ ، فَإِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ الْقَبُولُ قَبْلَهُ ، بَطَلَ الْعَقْدُ ، كَالْهِبَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : هُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ لَا يُعْتَاضُ عَنْهُ ، فَبَطَلَ بِالْمَوْتِ ، كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ وَالشَّرْطِ وَخِيَارِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : تَلْزَمُ الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ ، وَتَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ حُكْمًا بِغَيْرِ قَبُولٍ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ لَزِمَتْ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي ، وَإِنَّمَا الْخِيَارُ لِلْمُوصَى لَهُ ، فَإِذَا مَاتَ ، بَطَلَ خِيَارُهُ ، وَدَخَلَ فِي مِلْكِهِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّ الْخِيَارَ لَهُ ، فَمَاتَ قَبْلَ انْقِضَائِهِ .
وَلَنَا ، عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوصَى لَهُ ، أَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ، فَلَمْ تَبْطُلْ بِمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ ، كَعَقْدِ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ إذَا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوجِبِ لَهُ ، فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْآخَرِ ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا .
وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ وَالْبَيْعَ قَبْلَ الْقَبُولِ ، مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا ، وَهُوَ أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ، وَيَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوجِبِ لَهُ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْخِيَارَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْطُلُ الْخِيَارُ ، وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ ، فَنَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا قَوْلُ
أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَلَنَا ، عَلَى إبْطَالِ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ عَقْدٌ يَفْتَقِرُ إلَى قَبُولِ الْمُتَمَلِّكِ ، فَلَمْ يَلْزَمْ قَبْلَ الْقَبُولِ ، كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوصَى لَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَقٍّ مَاتَ عَنْهُ الْمُسْتَحِقُّ فَلَمْ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، قَامَ الْوَارِثُ فِيهِ مَقَامَهُ .
فَعَلَى هَذَا ، إنْ رَدَّ الْوَارِثُ الْوَصِيَّةَ بَطَلَتْ ، وَإِنْ قَبِلَهَا صَحَّتْ ، وَثَبَتَ الْمِلْكُ بِهَا .
وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ جَمَاعَةً ، اُعْتُبِرَ الْقَبُولُ أَوْ الرَّدُّ مِنْ جَمِيعِهِمْ ، فَإِنْ رَدَّ بَعْضُهُمْ وَقَبِلَ بَعْضٌ ، ثَبَتَ لِلْقَابِلِ حِصَّتُهُ ، وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي حَقِّ مَنْ رَدَّ .
فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ ، قَامَ وَلِيُّهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ الْحَظُّ فِيهِ ، فَإِنْ فَعَلَ غَيْرَهُ لَمْ يَصِحَّ ، فَإِذَا كَانَ الْحَظُّ فِي قَبُولِهَا فَرَدَّهَا ، لَمْ يَصِحَّ رَدُّهُ ، وَكَانَ لَهُ قَبُولُهَا بَعْدَ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي رَدَّهَا فَقَبِلَهَا ، لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِغَيْرِ مَا لَهُ الْحَظُّ فِيهِ .
فَلَوْ أَوْصَى لِصَبِيٍّ بِذِي رَحِمٍ لَهُ يُعْتَقُ بِمِلْكِهِ لَهُ ، وَكَانَ عَلَى الصَّبِيِّ ضَرَرٌ فِي ذَلِكَ ، بِأَنْ تَلْزَمَهُ نَفَقَةُ الْمُوصَى بِهِ ، لِكَوْنِهِ فَقِيرًا لَا كَسْبَ لَهُ ، وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ مُوسِرٌ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ لِكَوْنِ الْمُوصَى بِهِ ذَا كَسْبٍ ، أَوْ كَوْنِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَقِيرًا لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ، تَعَيَّنَ قَبُولُ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَفْعًا لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، لِعِتْقِ قَرَابَتِهِ ، وَتَحْرِيرِهِ ، مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَعُودُ عَلَيْهِ ، فَتَعَيَّنَ ذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 4622 ) فَصْلٌ : وَلَا يَمْلِكُ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ إلَّا بِالْقَبُولِ ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ ، إذَا كَانَتْ لِمُعَيَّنٍ يُمْكِنُ الْقَبُولُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ مَالٍ لِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ مُتَعَيِّنٍ ، فَاعْتُبِرَ قَبُولُهُ ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ .
قَالَ أَحْمَدُ : الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَاحِدٌ ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَمَنْ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ ، كَبَنِي هَاشِمٍ وَتَمِيمٍ ، أَوْ عَلَى مَصْلَحَةٍ كَمَسْجِدٍ أَوْ حَجٍّ ، لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى قَبُولٍ ، وَلَزِمَتْ بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْقَبُولِ مِنْ جَمِيعِهِمْ مُتَعَذِّرٌ ، فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ ، كَالْوَقْفِ عَلَيْهِمْ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَيُكْتَفَى بِقَبُولِهِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مِنْ الْمُوصَى بِهِ ، مِثْلَ أَنْ يُوصِيَ بِعَبْدٍ لِلْفُقَرَاءِ وَأَبُوهُ فَقِيرٌ ، لَمْ يُعْتَقْ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْمُوصَى لَهُمْ ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسْأَلَةِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقَبْضِ ، فَيَقُومُ قَبْضُهُ مَقَامَ قَبُولِهِ .
أَمَّا الْآدَمِيُّ الْمُعَيَّنُ ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ ، فَيُعْتَبَرُ قَبُولُهُ ، لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الْقَبُولُ بِاللَّفْظِ ، بَلْ يُجْزِئُ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ الْأَخْذِ وَالْفِعْلِ الدَّالِ عَلَى الرِّضَى ، كَقَوْلِنَا فِي الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ .
وَيَجُوزُ الْقَبُولُ عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي .
وَلَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ رَدُّهُ .
فَإِذَا قَبِلَ ، ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ حِينِ الْقَبُولِ ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ .
وَرُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّهُ إذَا قَبِلَ ، تَبَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ حِينَ مَوْتِ الْمُوصِي .
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ انْتِقَالُهُ بِالْقَبُولِ ، وَجَبَ انْتِقَالُهُ مِنْ جِهَةِ
الْمُوجِبِ عِنْدَ الْإِيجَابِ ، كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِيهِ لِلْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } .
( 1 ) وَلِأَنَّ الْإِرْثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ ، وَلَا يَبْقَى لِلْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ ثَالِثٌ غَيْرُ مَشْهُورٍ ، أَنَّ الْوَصِيَّةَ تُمْلَكُ بِالْمَوْتِ ، وَيُحْكَمُ بِذَلِكَ قَبْلَ الْقَبُولِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَمَلُّكُ عَيْنٍ لِمُعَيَّنٍ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ ، فَلَمْ يَسْبِقْ الْمِلْكُ الْقَبُولَ ، كَسَائِرِ الْعُقُودِ ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ مِنْ تَمَامِ السَّبَبِ ، وَالْحُكْمُ لَا يَتَقَدَّمُ سَبَبَهُ ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا أَوْ جُزْءًا مِنْ السَّبَبِ ، وَالْحُكْمُ لَا يَتَقَدَّمُ سَبَبَهُ وَلَا شَرْطَهُ ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَاضِي لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ مَوْتِي بِشَهْرٍ .
ثُمَّ مَاتَ ، تَبَيَّنَّا وُقُوعَ الطَّلَاقِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ .
قُلْنَا : لَيْسَ هَذَا شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ بِهِ الْوَقْتُ الَّذِي يَقَع فِيهِ الطَّلَاقُ .
وَلَوْ قَالَ إذَا مِتُّ فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ بِشَهْرٍ .
لَمْ يَصِحَّ .
وَأَمَّا انْتِقَالُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُوجِبِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إلَّا بَعْدَ الْقَبُولِ ، فَهُوَ كَمَسْأَلَتِنَا ، غَيْرَ أَنَّ مَا بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ثَمَّ يَسِيرٌ ، لَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
قَوْلُهُمْ : إنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ .
مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إلَى الْوُرَّاثِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ .
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } .
قُلْنَا : الْمُرَادُ بِهِ وَصِيَّةٌ مَقْبُولَةٌ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْ لَكَانَ مِلْكًا لِلْوَارِثِ ، وَقَبْلَ قَبُولِهَا فَلَيْسَتْ مَقْبُولَةً .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ { : فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ } .
أَيْ لَكُمْ ذَلِكَ مُسْتَقِرٌّ .
فَلَا يَمْنَعُ هَذَا ثُبُوتَ الْمِلْكِ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ ، وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي التَّرِكَةِ ، وَهُوَ آكَدُ مِنْ الْوَصِيَّةِ .
وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ، فَإِنَّهُ يَبْقَى مِلْكًا لِلْمَيِّتِ ، كَمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ .
وَقَوْلُهُمْ : لَا يَبْقَى لَهُ مِلْكٌ .
مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّهُ يَبْقَى مِلْكُهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ تَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ ، وَقَضَاءِ دُيُونِهِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ مِلْكٌ فِي دَيْنِهِ إذَا قَبِلَ ، وَفِيمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ، بِحَيْثُ تُقْضَى دُيُونُهُ ، وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ ، وَيُجَهَّزُ إنْ كَانَ قَبْلَ تَجْهِيزِهِ ، فَهَذَا يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ ، لِتَعَذُّرِ انْتِقَالِهِ إلَى الْوَارِثِ مِنْ أَجْلِ الْوَصِيَّةِ ، وَامْتِنَاعِ انْتِقَالِهِ إلَى الْوَصِيِّ قَبْلَ تَمَامِ السَّبَبِ ، فَإِنْ رَدَّ الْمُوصَى لَهُ ، أَوْ قَبِلَ ، انْتَقَلَ حِينَئِذٍ .
فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ ، وَأَنَّهُ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفِيدُ إبَاحَةَ التَّصَرُّفِ ، كَثُبُوتِهِ فِي الْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ ، فَلَوْ بَاعَ الْمُوصَى بِهِ ، أَوْ رَهَنَهُ ، أَوْ أَعْتَقَهُ ، أَوْ تَصَرَّفَ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، لَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ ابْنًا لِلْمُوصَى بِهِ ، مِثْلَ أَنْ تَمْلِكَ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا الَّذِي لَهَا مِنْهُ ابْنٌ ، فَتُوصِي بِهِ لِأَجْنَبِيٍّ ، فَإِذَا مَاتَتْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهِ إلَى ابْنِهِ إلَى حِينِ الْقَبُولِ ، وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 4623 ) فَصْلٌ : فِيمَا يَخْتَلِفُ مِنْ الْفُرُوعِ بِاخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ ، مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَدَثَ لِلْمُوصَى بِهِ نَمَاءٌ مُنْفَصِلٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، وَقَبْلَ الْقَبُولِ ، كَالثَّمَرَةِ وَالنِّتَاجِ وَالْكَسْبِ ، فَهُوَ لِلْوَرَثَةِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ، يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ .
وَلَوْ أَوْصَى بِأَمَةٍ لِزَوْجِهَا ، فَأَوْلَدَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، وَقَبْلَ الْقَبُولِ ، فَوَلَدُهُ رَقِيقٌ لِلْوَارِثِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ، يَكُونُ حُرَّ الْأَصْلِ ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ ، وَأُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهَا عَلِقَتْ مِنْهُ بِحُرٍّ فِي مِلْكِهِ .
وَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ وَالرَّدِّ ، فَلِوَارِثِهِ قَبُولُهَا ، فَإِنْ قَبِلَهَا ، مَلَكَ الْجَارِيَةَ وَوَلَدَهَا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتِقُ الْوَلَدُ عَلَيْهِ عَتَقَ ، وَلَمْ يَرِثْ مِنْ ابْنِهِ شَيْئًا .
وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ، تَكُونُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ ، وَيَرِثُ الْوَلَدُ أَبَاهُ ، فَإِنْ كَانَ يَحْجُبُ الْوَارِثَ الْقَابِلَ حَجَبَهُ .
وَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : لَا يَرِثُ الْوَلَدُ هَا هُنَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّ تَوْرِيثَهُ يَمْنَعُ قَوْلَ الْقَابِلِ وَارِثًا ، فَيَبْطُلُ قَبُولُهُ ، فَيُفْضِي إلَى الدَّوْرِ ، وَإِلَى إبْطَالِ مِيرَاثِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَرَّ الْوَارِثُ بِمَنْ يَحْجُبُهُ عَنْ الْمِيرَاثِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْإِقْرَارِ مَا يَدْفَعُ هَذَا ، وَأَنَّ الْمُقِرَّ بِهِ يَرِثُ ، فَكَذَا هَا هُنَا .
وَيُعْتَبَرُ قَبُولُ مَنْ هُوَ وَارِثٌ فِي حَالِ اعْتِبَارِ الْقَبُولِ ، كَمَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِقْرَارِ إقْرَارُ مَنْ هُوَ وَارِثٌ حَالَ الْإِقْرَارِ .
وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَمِنْ ذَلِكَ ، لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَبِيهِ ، فَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ ، فَقَبِلَ ابْنُهُ ، صَحَّ ، وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْجَدُّ ، وَلَمْ يَرِثْ مِنْ ابْنِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ إنَّمَا حَدَثَتْ حِينَ الْقَبُولِ بَعْدَ أَنْ صَارَ الْمِيرَاثُ لِغَيْرِهِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ، تَثْبُتُ حُرِّيَّتُهُ مِنْ حِينِ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَيَرِثُ مِنْ ابْنِهِ السُّدُسَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ : لَا يَرِثُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَاعْتُبِرَ قَبُولُهُ ، وَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ قَبُولِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِحُرِّيَّتِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُهُ ، لَمْ يُعْتَقْ ، فَيُؤَدِّي تَوْرِيثُهُ إلَى إبْطَالِ تَوْرِيثِهِ .
وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ بِمُشَارِكٍ لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ ، ثَبَتَ نَسَبُهُ وَوَرِثَ ، مَعَ أَنَّهُ يَخْرُجُ الْمُقِرُّونَ بِهِ عَنْ كَوْنِهِمْ جَمِيعَ الْوَرَثَةِ .
وَمِنْ ذَلِكَ ، أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ ، فَقَبِلَ وَارِثُهُ ، لَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ الْقَابِلِ ابْتِدَاءً مِنْ جِهَةِ الْمُوصِيَةُ ، لَا مِنْ جِهَةِ مَوْرُوثِهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِلْمُوصَى لَهُ شَيْءٌ ، فَحِينَئِذٍ لَا تُقْضَى دُيُونُهُ ، وَلَا تَنْفُذُ وَصَايَاهُ ، وَلَا يُعْتَقُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُعْتَقُ عَلَى الْوَارِثِ ، عَتَقَ عَلَيْهِ ، وَكَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ دُونَ الْمُوصَى لَهُ .
وَعَلَى ، الْوَجْهِ الْآخَرِ ، يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوصَى لَهُ ، وَأَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى وَارِثِهِ ، فَتَنْعَكِسُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ ، فَتُقْضَى دُيُونُهُ ، وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ ، وَيُعْتَقُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَلَهُ وَلَاؤُهُ ، يَخْتَصُّ بِهِ الذُّكُورُ مِنْ وَرَثَتِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ ، أَنَّ الْمُوصَى بِهِ لَوْ كَانَ أَمَةً ، فَوَطِئَهَا الْوَارِثُ ، فَأَوْلَدَهَا ، صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَوَلَدُهَا حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا فِي مِلْكِهِ ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِلْمُوصَى لَهُ إذَا قَبِلَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ قَضَيْتُمْ بِعِتْقِهَا هَا هُنَا ، وَهِيَ لَا تُعْتَقُ بِإِعْتَاقِهَا ؟ قُلْنَا : الِاسْتِيلَادُ أَقْوَى ، وَلِذَلِكَ يَصِحُّ مِنْ الْمَجْنُونِ ، وَالرَّاهِنِ ، وَالْأَبِ ، وَالشَّرِيكِ الْمُعْسِرِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْفُذْ إعْتَاقُهُمْ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ، يَكُونُ وَلَدُهُ رَقِيقًا ، وَالْأَمَةُ بَاقِيَةً عَلَى الرِّقِّ .
وَإِنْ وَطِئَهَا الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ قَبُولِهَا ، كَانَ ذَلِكَ قَبُولًا لَهَا ، وَثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمِلْكِ ، فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ
دَلِيلٌ عَلَى اخْتِيَارِهِ الْمِلِكَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَطِئَ مَنْ لَهُ الرَّجْعَةُ الرَّجْعِيَّةَ ، أَوْ وَطِئَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَيْعِ الْأَمَةَ الْمَبِيعَةَ ، أَوْ وَطِئَ مَنْ لَهُ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ امْرَأَتَهُ .
( 4624 ) فَصْلٌ : وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مُطْلَقَةً وَمُقَيَّدَةً ، فَالْمُطْلَقَةُ أَنْ يَقُولَ : إنْ مِتّ فَثُلُثِي لِلْمَسَاكِينِ ، أَوْ لِزَيْدٍ .
وَالْمُقَيَّدَةُ أَنْ يَقُولَ : إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي هَذَا ، أَوْ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ ، أَوْ فِي سَفَرِي هَذَا ، فَثُلُثِي لِلْمَسَاكِينِ .
فَإِنْ بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ ، أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ ، أَوْ خَرَجَ مِنْ الْبَلْدَةِ ، ثُمَّ مَاتَ ، بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ الْمُقَيَّدَةُ ، وَبَقِيَتْ الْمُطْلَقَةُ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ وَصَّى وَصِيَّةً إنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ هَذَا أَوْ مِنْ سَفَرِهِ هَذَا ، وَلَمْ يُغَيِّرْ وَصِيَّتَهُ ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ : فَلَيْسَ لَهُ وَصِيَّةٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ قَالَ قَوْلًا ، وَلَمْ يَكْتُبْ كِتَابًا ، فَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَتَبَ كِتَابًا ، ثُمَّ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ ، وَأَقَرَّ الْكِتَابَ ، فَوَصِيَّتُهُ بِحَالِهَا ، مَا لَمْ يَنْقُضْهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِشَرْطٍ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهَا ، فَبَطَلَتْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكْتُبْ كِتَابًا ، أَوْ كَمَا لَوْ وَصَّى لِقَوْمٍ فَمَاتُوا قَبْلَهُ ، وَلِأَنَّهُ قَيَّدَ وَصِيَّتَهُ بِقَيْدٍ ، فَلَا يَتَعَدَّاهُ ، كَمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ قَالَ لِأَحَدِ عَبْدَيْهِ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي .
وَقَالَ لِلْآخَرِ : أَنْتَ حُرٌّ إنْ مِتّ فِي مَرَضِي هَذَا .
فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ ، فَالْعَبْدَانِ سَوَاءٌ فِي التَّدْبِيرِ .
وَإِنْ بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ ، بَطَلَ تَدْبِيرُ الْمُقَيَّدِ ، وَبَقِيَ تَدْبِيرُ الْمُطْلَقِ بِحَالِهِ .
وَلَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِثُلُثِهِ ، وَقَالَ : إنْ مِتّ قَبْلِي فَهُوَ لِعَمْرٍو .
صَحَّتْ وَصِيَّتُهُ عَلَى حَسَبِ مَا شَرَطَهُ لَهُ .
وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ .
}
( 4625 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ ، أُعْطِيَ السُّدُسَ ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، يُعْطَى سَهْمًا مِمَّا تَصِحُّ مِنْهُ الْفَرِيضَةُ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِيمَا لَوْ أَوْصَى بِسَهْمٍ ، فَرُوِيَ عَنْهُ ، أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ السُّدُسَ .
وَرَوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ يُعْطَى سَهْمًا مِمَّا تَصِحُّ مِنْهُ الْفَرِيضَةُ ، فَيُنْظَرُ ؛ كَمْ سَهْمًا صَحَّتْ مِنْهُ الْفَرِيضَةُ ، فَيُزَادُ عَلَيْهَا مِثْلُ سَهْمٍ مِنْ سِهَامِهَا لِلْمُوصَى لَهُ .
وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ قَالَ : تُرْفَعُ السِّهَامُ ، فَيَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى السُّدُسِ فَإِنْ زَادَ السَّهْمُ عَلَى السُّدُسِ ، فَلَهُ السُّدُسُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : سَهْمًا .
يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى سِهَامِ فَرِيضَتِهِ ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ مِنْهَا ، فَيَنْصَرِفُ السَّهْمُ إلَيْهَا ، فَكَانَ وَاحِدًا مِنْ سِهَامِهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ : فَرِيضَتِي كَذَا وَكَذَا سَهْمًا ، لَك مِنْهَا سَهْمٌ .
وَقَالَ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ : لَهُ أَقَلُّ سَهْمٍ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَالْأَثْرَمِ : إذَا أَوْصَى لَهُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ ، يُعْطَى سَهْمًا مِنْ الْفَرِيضَةِ .
قِيلَ : لَهُ نَصِيبُ رَجُلٍ ، أَوْ نَصِيبُ امْرَأَةٍ ؟ قَالَ : أَقَلُّ مَا يَكُونُ مِنْ السِّهَامِ .
قَالَ الْقَاضِي : مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى السُّدُسِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ صَاحِبَاهُ : إلَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ ، فَيَكُونَ لَهُ الثُّلُثُ .
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ، أَنَّ سِهَامَ الْوَرَثَةِ أَنْصِبَاؤُهُمْ ، فَيَكُونُ لَهُ أَقَلُّهَا ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ ، فَإِنْ زَادَ عَلَى السُّدُسِ دُفِعَ إلَيْهِ السُّدُسُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ سَهْمٍ يَرِثُهُ ذُو قَرَابَةٍ ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : يُعْطَى سَهْمًا مِنْ
أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ أُصُولِ الْفَرَائِضِ ، فَالسَّهْمُ مِنْهَا أَقَلُّ السِّهَامِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يُعْطِيهِ الْوَرَثَةَ مَا شَاءُوا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّهْمِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِجُزْءٍ أَوْ حَظٍّ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَعِكْرِمَةُ : لَا شَيْءَ لَهُ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ { ، أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسَهْمٍ مِنْ الْمَالِ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّدُسَ } .
وَلِأَنَّ السَّهْمَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ السُّدُسُ ، قَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ : السَّهْمُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ السُّدُسُ .
فَتَنْصَرِفُ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ لَفِظَ بِهِ .
وَلِأَنَّهُ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّ السُّدُسَ أَقَلُّ سَهْمٍ مَفْرُوضٍ يَرِثُهُ ذُو قَرَابَةٍ ، فَتَنْصَرِفُ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ السُّدُسَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْمُوصَى لَهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سُدُسٍ مَفْرُوضٍ .
فَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ كَامِلَةَ الْفُرُوضِ ، أُعِيلَتْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَائِلَةً ، زَادَ عَوْلُهَا بِهِ .
وَإِنْ كَانَ فِيهَا رَدٌّ أَوْ كَانُوا عَصَبَةً ، أُعْطِيَ سُدُسًا كَامِلًا .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ، وَحَرْبٍ : إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ ، يُعْطَى السُّدُسَ ، إلَّا أَنْ تَعُولَ الْفَرِيضَةُ ، فَيُعْطَى سَهْمًا مَعَ الْعَوْلِ .
فَكَأَنَّ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ ، أَوْصَيْت لَك بِسَهْمِ مَنْ يَرِثُ السُّدُسَ .
فَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِسَهْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ فِيهَا زَوْجٌ وَأُخْتٌ ، كَانَ لَهُ السَّبُعُ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُمَا جَدَّةٌ ، عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ أُمٌّ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ .
فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ زَوْجٌ ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ تِسْعَةٍ ، وَلِلْمُوصَى لَهُ الْعُشْرُ ، عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ .
وَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ ، فَلِلْمُوصَى لَهُ السُّدُسُ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ .
وَإِنْ كَانُوا
زَوْجًا وَأَبَوَيْنِ وَابْنَيْنِ ، فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَتَعُولُ بِسُدُسٍ آخَرَ ، فَتَصِيرُ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ .
وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْخَلَّالِ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ سُدُسٌ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، يَكُونُ لِلْوَصِيِّ سَهْمٌ وَاحِدٌ ، يُزَادُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ ، فَتَصِيرُ سِتَّةَ عَشَرَ .
وَإِنْ كَانُوا زَوْجَةً وَأَبَوَيْنِ وَابْنًا ، فَالْفَرِيضَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَتَعُولُ بِالسُّدُسِ الْمُوصَى بِهِ إلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ ، يُزَادُ عَلَيْهَا سَهْمٌ وَاحِدٌ لِلْمُوصَى لَهُ ، فَتَكُونُ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ .
وَعَلَى قَوْلِ الْخَلَّالِ : يُزَادُ عَلَيْهَا مِثْلُ سَهْمِ الزَّوْجَةِ ، فَتَكُونُ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ .
وَإِنْ كَانُوا خَمْسَةَ بَنِينَ فَلِلْوَصِيِّ السُّدُسُ كَامِلًا ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ .
فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ زَوْجَةٌ ، صَحَّتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ أَرْبَعِينَ ، فَتَزِيدُ عَلَيْهَا سَهْمًا لِلْوَصِيِّ ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَاتِ ، تَصِيرُ أَحَدًا وَأَرْبَعِينَ .
وَعَلَى قَوْلِ الْخَلَّالِ ، تَزِيدُ مِثْلَ نَصِيبِ الزَّوْجَةِ ، فَتَصِيرُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، نَزِيدُ عَلَيْهَا مِثْلُ سُدُسِهَا ، وَلَا سُدُسَ لَهَا ، فَنَضْرِبُهَا فِي سِتَّةٍ ، ثُمَّ نَزِيدُ عَلَيْهَا سُدُسَهَا ، تَكُونُ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ ، لِلْوَصِيِّ أَرْبَعُونَ ، وَلِلزَّوْجَةِ ثَلَاثُونَ ، وَلِكُلِّ ابْنٍ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ .
وَلَوْ خَلَّفَ أَبَوَيْنِ وَابْنَيْنِ ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُدُسِ مَالِهِ ، وَلِآخَرَ بِسَهْمٍ ، جَعَلْت ذَا السَّهْمِ كَالْأُمِّ ، وَأَعْطَيْت صَاحِبَ السُّدُسِ سُدُسًا كَامِلًا ، وَقَسَمْت الْبَاقِيَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ عَلَى سَبْعَةٍ فَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ، لِصَاحِبِ السُّدُسِ سَبْعَةٌ ، وَلِصَاحِبِ السَّهْمِ خَمْسَةٌ ، عَلَى الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْطَى ذُو السَّهْمِ السُّبُعَ كَامِلًا ، كَأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ أُخْرَى ، فَيَكُونُ لَهُ سِتَّةٌ وَيَبْقَى تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ
عَلَى سِتَّةٍ لَا تَنْقَسِمُ ، فَنَضْرِبُهَا فِي اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ، تَكُونُ مِائَتَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ .
( 4626 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَوْصَى بِجُزْءٍ أَوْ حَظٍّ أَوْ نَصِيبٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ ، أَعْطَاهُ الْوَرَثَةُ مَا شَاءُوا .
لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَغَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ جُزْءٌ وَنَصِيبٌ وَحَظٌّ وَشَيْءٌ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : أَعْطُوا فُلَانًا مِنْ مَالِي ، أَوْ اُرْزُقُوهُ .
لِأَنَّ ذَلِكَ لَا حَدَّ لَهُ فِي اللُّغَةِ ، وَلَا فِي الشَّرْعِ ، فَكَانَ عَلَى إطْلَاقِهِ .
( 4627 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ ، وَلَمْ يُسَمِّهِ ، كَانَ لَهُ مِثْلُ مَا لِأَقَلِّهِمْ نَصِيبًا كَأَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ .
وَهُمْ ابْنٌ وَأَرْبَعُ زَوْجَاتٍ ، فَتَكُونُ صَحِيحَةً مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ، لِلزَّوْجَاتِ الثُّمُنُ ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلِابْنِ ، فَزِدْ فِي سِهَامِ الْفَرِيضَةِ مِثْلَ حَظِّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ، فَتَصِيرُ الْفَرِيضَةُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ، لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ ، وَلِكُلِّ امْرَأَةٍ سَهْمٌ ، وَمَا بَقِيَ فَلِلِابْنِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ ، غَيْرَ مُسَمًّى ، فَإِنْ كَانَ الْوَرَثَةُ يَتَسَاوَوْنَ فِي الْمِيرَاثِ كَالْبَنِينَ ، فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، مُزَادًا عَلَى الْفَرِيضَةِ ، وَيُجْعَلُ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ زَادَ فِيهِمْ .
وَإِنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ ، كَمَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ ، فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِ أَقَلِّهِمْ مِيرَاثًا ، يُزَادُ عَلَى فَرِيضَتِهِمْ .
وَإِنْ أَوْصَى بِنَصِيبِ وَارِثٍ مُعَيَّنٍ ، فَلَهُ مِثْلُ نَصِيبِهِ مُزَادًا عَلَى الْفَرِيضَةِ .
هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَزُفَرُ ، وَدَاوُد : يُعْطَى مِثْلَ نَصِيبِ الْمُعَيَّنِ ، وَمِثْلَ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، إذَا كَانُوا يَتَسَاوَوْنَ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ ، غَيْرَ مَزِيدٍ ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْوَارِثِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ مِنْ أَصْلِ الْمَالِ فَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ ابْنٌ وَاحِدٌ ، فَالْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَانِ ، فَالْوَصِيَّةُ بِالنِّصْفِ .
وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً ، فَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ ، نُظِرَ إلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ ، فَأُعْطِيَ سَهْمًا مِنْ عَدَدِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ أَنْصِبَائِهِمْ لِتَفَاضُلٍ فَاعْتُبِرَ عَدَدُ رُءُوسِهِمْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ جَعَلَ وَارِثَهُ أَصْلًا وَقَاعِدَةً حَمَلَ عَلَيْهِ نَصِيبَ
الْمُوصَى لَهُ وَجَعَلَهُ مِثْلًا لَهُ .
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُزَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ .
وَمَتَى أَعْطَى مِنْ أَصْلِ الْمَالِ ، فَمَا أَعْطَى مِثْلَ نَصِيبِهِ وَلَا حَصَلَتْ التَّسْوِيَةُ ، وَالْعِبَارَةُ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ .
وَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ مِثْلَ أَقَلِّهِمْ نَصِيبًا ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ ، وَمَا زَادَ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ ، وَقَوْلُهُ : " يُعْطَى سَهْمًا مِنْ عَدَدِهِمْ " .
خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْمُوصِي ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِنَصِيبٍ لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ وَلَفْظُهُ إنَّمَا اقْتَضَى نَصِيبَ أَحَدِهِمْ وَتَفَاضُلُهُمْ لَا يَمْنَعُ كَوْنَ نَصِيبِ الْأَقَلِّ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ فَيَصْرِفُهُ إلَى الْوَصِيِّ ، لِقَوْلِ الْمُوصِي ، وَعَمَلًا بِمُقْتَضَى وَصِيَّتِهِ .
وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ اخْتِرَاعِ شَيْءٍ لَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُ الْمُوصِي أَصْلًا .
وَقَوْلُهُ : تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بُقُولِ الْمُوصِي .
غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ بِمَا قُلْنَاهُ ، ثُمَّ لَوْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ ، لَمَا جَازَ أَنْ يُوجِبَ فِي مَالِهِ حَقًّا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ .
وَقَدْ مَثَّلَ الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ تَمْثِيلِهَا .
وَلَوْ قَالَ : أَوْصَيْت بِمِثْلِ نَصِيبِ أَقَلِّهِمْ مِيرَاثًا .
كَانَ كَمَا لَوْ أَطْلَقَ ، وَكَانَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا وَإِنْ قَالَ : أَوْصَيْت بِمِثْلِ نَصِيبِ أَكْثَرِهِمْ مِيرَاثًا .
فَلَهُ ذَلِكَ مُضَافًا إلَى الْمَسْأَلَةِ ، فَيَكُونُ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِرَقِيِّ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ ، تُضَمُّ إلَى الْفَرِيضَةِ فَيَكُونُ الْجَمِيعُ سِتِّينَ سَهْمًا .
( 4628 ) فَصْلٌ وَإِنْ أَوْصَى بِنَصِيبِ وَارِثٍ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كَالْوَصِيَّةِ بِمِثْلِ نَصِيبِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَاللُّؤْلُؤِيِّ ، وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَزُفَرَ ، وَدَاوُد .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ .
وَهُوَ الَّذِي ذَكَرِهِ الْقَاضِي .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ
أَوْصَى بِمَا هُوَ حَقٌّ لِلِابْنِ ، فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ قَالَ : بِدَارِ ابْنِي ، أَوْ بِمَا يَأْخُذُهُ ابْنِي .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُ وَصِيَّتِهِ يُحْتَمَلُ لَفْظُهُ عَلَى مَجَازِهِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ ، أَوْ أَعْتَقَ .
وَبَيَانُ إمْكَانِ التَّصْحِيحِ ، أَنَّهُ أَمْكَنَ تَقْدِيرُ حَذْفِ الْمُضَافِ ، وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ مُقَامَهُ ، أَيْ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثِي .
وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ ، صَحَّ ، وَإِنْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ الْوَصِيَّةَ بِنَصِيبِ وُرَّاثِهِ كُلِّهِمْ .
( 4629 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَوْصَيْت لَك بِضِعْفِ نَصِيبِ ابْنِي .
فَلَهُ مِثْلَا نَصِيبِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ : الضِّعْفُ الْمِثْلُ .
وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } أَيْ مِثْلَيْنِ ، وَقَوْلِهِ : { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } .
أَيْ مِثْلَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ الضِّعْفَانِ مِثْلَيْنِ ، فَالْوَاحِدُ مِثْلٌ .
وَلَنَا ، أَنَّ الضِّعْفَ مِثْلَانِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ } .
وَقَالَ : { فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا } .
وَقَالَ : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ } .
وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ أَضْعَفَ الزَّكَاةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ، فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ عَشَرَةً .
وَقَالَ لِحُذَيْفَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ : لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ : لَوْ أَضْعَفْت عَلَيْهَا لَاحْتَمَلَتْ .
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : الضِّعْفُ الْمِثْلُ فَمَا فَوْقَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الضِّعْفَيْنِ الْمِثْلَانِ .
فَقَدْ رَوَى ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ مُعَاوِيَةَ النَّحْوِيِّ قَالَ : الْعَرَبُ تَتَكَلَّمُ بِالضِّعْفِ مُثَنَّى ، فَتَقُولُ : إنْ أَعْطَيْتنِي دِرْهَمًا فَلَكَ ضِعْفَاهُ .
أَيْ مِثْلَاهُ .
وَإِفْرَادُهُ لَا بَأْسَ بِهِ إلَّا أَنَّ التَّثْنِيَةَ أَحْسَنُ .
يَعْنِي أَنَّ الْمُفْرَدَ وَالْمُثَنَّى فِي هَذَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَكِلَاهُمَا يُرَادُ بِهِ الْمِثْلَانِ ، وَإِذَا اسْتَعْمَلُوهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُمْ فِيهِ وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّيْ : ضِعْفُ الشَّيْءِ هُوَ مِثْلُهُ ، وَضِعْفَاهُ هُوَ مِثْلَاهُ ، وَثَلَاثَةُ أَضْعَافِهِ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ ، وَعَلَى هَذَا .
( 4630 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَوْصَيْت لَك بِضِعْفَيْ نَصِيبِ ابْنِي .
فَلَهُ مِثْلَا نَصِيبِهِ .
وَإِنْ قَالَ ثَلَاثَةِ أَضْعَافِهِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهِ .
هَذَا الصَّحِيحُ عِنْدِي .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : إنْ أَوْصَى بِضِعْفَيْهِ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَمْثَالِهِ .
وَإِنْ أَوْصَى بِثَلَاثَةِ أَضْعَافِهِ ، فَلَهُ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ وَعَلَى هَذَا كُلَّمَا زَادَهُ ضِعْفًا زَادَ مَرَّةً .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَاحْتَجُّوا بُقُولِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : ضِعْفَاهُ أَرْبَعَةُ أَمْثَالِهِ ، وَثَلَاثَةُ أَضْعَافِهِ سِتَّةُ أَمْثَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ ضِعْفَ الشَّيْءِ مِثْلَاهُ ، فَتَثْنِيَتُهُ مِثْلَا مُفْرَدِهِ ، كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ } .
قَالَ عِكْرِمَةُ : تَحْمِلُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ عَطَاءٌ : أَثْمَرَتْ فِي سَنَةٍ مِثْلَ ثَمَرَةِ غَيْرِهَا سَنَتَيْنِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا عَلِمْت فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } .
أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَرَّتَيْنِ .
وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } .
وَمُحَالٌ أَنْ يَجْعَلَ أَجْرَهَا عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مَرَّتَيْنِ وَعَذَابَهَا عَلَى الْفَاحِشَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَإِنَّ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا يُرِيدُ تَضْعِيفَ الْحَسَنَاتِ عَلَى السَّيِّئَاتِ ، وَهَذَا الْمَعْهُودُ مِنْ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ فَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ ، وَأَنْكَرُوا قَوْلَهُ .
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ : لَا أُحِبُّ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي : { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } .
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } .
فَأَعْلَمَ أَنَّ لَهَا مِنْ هَذَا حَظَّيْنِ ، وَمِنْ هَذَا حَظَّيْنِ .
وَقَدْ نَقَلَ مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ النَّحْوِيُّ ، عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِالضِّعْفِ مُثَنًّى وَمُفْرَدًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
وَمُوَافَقَةُ الْعَرَبِ عَلَى لِسَانِهِمْ ، مَعَ
مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى الْعَزِيزِ وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ ، أَوْلَى مِنْ قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ الْمُخَالِفِ لِذَلِكَ كُلِّهِ ، مَعَ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ وَنِسْبَةُ الْخَطَأِ إلَيْهِ أَوْلَى مِنْ تَخْطِئَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ ، فَظَاهِرُ الْفَسَادِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَالْعَرَبِ وَأَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَلَا يَجُوزُ التَّمَسُّكُ بِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلنَّقْلِ ، فَقَدْ يَشِذُّ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ كَلِمَاتٌ تُؤْخَذُ نَقْلًا بِغَيْرِ قِيَاسٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ : وَإِنْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ مَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ ، مِثْلُ أَنْ يُوصِيَ بِنَصِيبِ ابْنِهِ ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يَرِثُ لِكَوْنِهِ رَقِيقًا أَوْ مُخَالِفًا لِدِينِهِ ، أَوْ بِنَصِيبِ أَخِيهِ وَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنْ مِيرَاثِهِ ، فَلَا شَيْءَ لِلْمُوصَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصِيبَ لَهُ ، فَمِثْلُهُ لَا شَيْءَ لَهُ .
( 4632 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثٍ ، وَلِآخَرَ بِرُبُعٍ ، وَلِآخَرَ بِخُمُسٍ ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ وَصِيَّةِ أَحَدِهِمْ ، فَلَهُ الْخُمُسُ .
وَإِنْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِعَشْرَةٍ وَلِآخَرَ بِسِتَّةٍ وَلِآخَرَ بِأَرْبَعَةٍ ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ وَصِيَّةِ أَحَدِهِمْ ، فَلَهُ أَرْبَعَةٌ ؛ لِأَنَّهَا الْيَقِينُ .
وَإِنْ قَالَ : فُلَانٌ شَرِيكُهُمْ .
فَلَهُ خُمُسُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ .
وَإِنْ وَصَّى لِأَحَدِهِمْ بِمِائَةٍ ، وَلِآخَرَ بِدَارٍ ، وَلِآخَرَ بِعَبْدٍ ، ثُمَّ قَالَ : فُلَانٌ شَرِيكُهُمْ .
فَلَهُ نِصْفُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ .
ذَكَرَهَا الْخَبْرِيُّ ؛ لِأَنَّهُ هَا هُنَا يُشَارِكُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنْفَرِدًا ، وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُ النِّصْفُ ، بِخِلَافِ الْأُولَيَيْنِ ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ مُشْتَرِكُونَ ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَهُ الرُّبُعُ فِي الْجَمِيعِ .
( 4633 ) فَصْلٌ وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ لَوْ كَانَ ، فَقَدِّرْ الْوَارِثَ مَوْجُودًا ، وَانْظُرْ مَا لِلْمُوصَى لَهُ مَعَ وُجُودِهِ ، فَهُوَ لَهُ مَعَ عَدَمِهِ .
فَإِنْ خَلَّفَ ابْنَيْنِ ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ثَالِثٍ ، فَلِلْمُوصَى لَهُ الرُّبْعُ .
وَلَوْ وَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ خَامِسٍ لَوْ كَانَ ، فَلِلْمُوصَى لَهُ السُّدُسُ .
وَعَلَى هَذَا أَبَدًا .
وَلَوْ خَلَّفَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا ، وَأَوْصَتْ بِمِثْلِ نَصِيبِ أُمٍّ لَوْ كَانَتْ .
فَلِلْمُوصَى لَهُ الْخُمُسُ ؛ لِأَنَّ لِلْأُمِّ الرُّبُعَ لَوْ كَانَتْ ، فَيَجْعَلُ لَهَا سَهْمًا مُضَافًا إلَى أَرْبَعَةٍ ، يَكُنْ خُمْسًا ، فَقِسْ عَلَى هَذَا .
( 4634 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ ، وَأَوْصَى لِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ الرُّبُعُ ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ ؛ الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِ ، لِلْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبَنِينَ .
وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ .
وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِهِ .
وَلَوْ خَلَّفَ ابْنًا وَاحِدًا ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهِ ، فَلِلْمُوصَى لَهُ النِّصْفُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ ، وَالثُّلُثُ فِي حَالِ الرَّدِّ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ ، لِلْمُوصَى لَهُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ جَمِيعُ الْمَالِ .
( 4635 ) فَصْلٌ : فَإِنْ خَلَّفَ بِنْتًا ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهَا ، فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ كَانَ ابْنًا عِنْدَ مَنْ يَرَى الرَّدَّ ؛ لِأَنَّهَا تَأْخُذُ الْمَالَ كُلَّهُ بِالْفَرْضِ وَالرَّدِّ ، وَمَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ يَقْتَضِي قَوْلُهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ الثُّلُثُ ، وَلَهَا نِصْفُ الْبَاقِي ، وَمَا بَقِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ .
وَيَقْتَضِي قَوْلُ مَالِكٍ أَنْ يَكُونَ لِلْمُوصَى لَهُ النِّصْفُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ وَلَهَا نِصْفُ الْبَاقِي ، وَمَا بَقِيَ لِبَيْتِ الْمَالِ .
فَإِنْ خَلَّفَ ابْنَتَيْنِ ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ إحْدَاهُمَا ، فَهِيَ مِنْ ثَلَاثَةٍ عِنْدَنَا .
وَيَقْتَضِي قَوْلُ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ أَنَّهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ لِبَيْتِ الْمَالِ الرُّبُعُ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبُعُهُ .
وَيَقْتَضِي قَوْلُ مَالِكٍ أَنَّ الثُّلُثَ لِلْمُوصَى لَهُ ، وَلِلْبِنْتَيْنِ ثُلُثَا مَا بَقِيَ ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ .
وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ .
فَإِنْ خَلَّفَ جَدَّةً وَحْدَهَا ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِهَا ، فَقِيَاسُ قَوْلِنَا أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
وَقِيَاسُ قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى الرَّدَّ أَنَّهَا مِنْ سَبْعَةٍ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّبُعُ ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ .
وَقِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ لِلْمُوصَى لَهُ السُّدُسَ ، وَلِلْجَدَّةِ سُدُسُ مَا بَقِيَ ، وَالْبَاقِي لِبَيْتِ الْمَالِ .
فَصْلٌ وَإِذَا خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ ، وَأَوْصَى لِثَلَاثَةٍ بِمِثْلِ أَنْصِبَائِهِمْ ، فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى سِتَّةٍ إنْ أَجَازُوا ، وَإِنْ رَدُّوا فَمِنْ تِسْعَةٍ ، لِلْمُوصَى لَهُمْ الثُّلُثُ ثَلَاثَةٌ ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْبَنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ .
فَإِنْ أَجَازُوا لَوَاحِدٍ وَرَدُّوا عَلَى اثْنَيْنِ ، فَلِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِمَا التُّسْعَانِ اللَّذَانِ كَانَا لَهُمَا فِي حَالِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ ، وَفِي الْمُجَازِ لَهُ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَهُ السُّدُسُ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ لِلْجَمِيعِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، وَابْنِ شُرَيْحٍ ، فَيَأْخُذُ السُّدُسَ وَالتُّسْعَيْنِ مِنْ مَخْرَجِهِمَا ، وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، يَبْقَى أَحَدَ عَشَرَ بَيْنَ الْبَنِينَ ، عَلَى ثَلَاثَةٍ لَا يَصِحُّ ، فَيُضْرَبُ عَدَدُهُمْ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ ، لِلْمُجَازِ لَهُ السُّدُسُ تِسْعَةٌ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ سِتَّةٌ ، وَلِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، أَنْ يُضَمَّ الْمُجَازُ لَهُ إلَى الْبَنِينَ ، وَيُقْسَمَ الْبَاقِي بَعْدَ التُّسْعَيْنِ عَلَيْهِمْ ، وَهُمْ أَرْبَعَةٌ ، لَا تَنْقَسِمُ ، فَتَضْرِبُ أَرْبَعَةً فِي تِسْعَةٍ ، تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ، فَإِنْ أَجَازَ الْوَرَثَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْآخَرِينَ ، أَتَمُّوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَمَامَ سُدُسِ الْمَالِ ، فَيَصِيرَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَضُمُّونَ مَا حَصَلَ لَهُمْ ، وَهُوَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ ، إلَى مَا حَصَلَ لَهُمَا وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ ، وَلَا يَصِحُّ ، فَتَضْرِبُ خَمْسَةً فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ ، تَكُنْ مِائَةً وَثَمَانِينَ ، وَمِنْهَا تَصِحُّ .
وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُ الْبَنِينَ لَهُمْ ، وَرَدَّ الْآخَرَانِ عَلَيْهِمْ ، فَلِلْمُجِيزِ السُّدُسُ ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، وَلِلَّذَيْنِ لَمْ يُجِيزَا أَرْبَعَةُ أَتْسَاعٍ ، ثَمَانِيَةٌ ، تَبْقَى سَبْعَةٌ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، اضْرِبْهَا فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، تَكُنْ أَرْبَعَةً
وَخَمْسِينَ .
وَإِنْ أَجَازَ وَاحِدٌ لَوَاحِدٍ ، دَفَعَ إلَيْهِ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْفَضْلِ ، وَهُوَ ثُلُثُ سَهْمٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، فَاضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ .
وَاَللَّه أَعْلَمُ .
( 4637 ) فَصْلٌ وَإِذَا وَصَّى لِرَجُلٍ بِجُزْءٍ مُقَدَّرٍ ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ مِنْ وَرَثَتِهِ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُعْطَى الْجُزْءُ لِصَاحِبِهِ ، وَيُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ ، كَأَنَّهُ ذَلِكَ الْوَارِثَ إنْ أَجَازُوا .
وَإِنْ رَدُّوا ، قَسَّمْت الثُّلُثَ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ لَهُمَا فِي حَالِ الْإِجَازَةِ ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، أَنْ يُعْطَى صَاحِبُ النَّصِيبِ مِثْلَ نَصِيبِ الْوَارِثِ ، كَأَنْ لَا وَصِيَّةَ سِوَاهَا .
وَهَذَا قَوْلُ يَحْيَى بْنِ آدَمَ مِثَالُهُ : رَجُلٌ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ الثُّلُثُ ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الْبَنِينَ وَالْوَصِيِّ عَلَى أَرْبَعَةٍ ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ ، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ سَهْمَانِ ، وَلِلْآخَرِ سَهْمٌ ، فَإِنْ رَدُّوا فَالثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، وَالثُّلُثَانِ بَيْنَ الْبَنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ ، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ الثُّلُثُ ، وَلِلْآخَرِ الرُّبْعُ إنْ أُجِيزَ لَهُمَا ، وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِمَا ، قَسَّمْت الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ ، وَالثُّلُثَانِ لِلْوَرَثَةِ ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَسِتِّينَ .
وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ ، مِثْلُ إنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِالنِّصْفِ ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيهِ ، فَفِيهَا وَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ لِصَاحِبِ النَّصِيبِ نَصِيبَهُ مِنْ الثُّلُثَيْنِ ، وَهُوَ رُبُعُهَا ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَيْنِ حَقُّ الْوَرَثَةِ ، لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمَا شَيْءٌ إلَّا بِإِجَازَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ ، فَيَكُونُ صَاحِبُ النَّصِيبِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ ، لَا تَنْقُصُ مِنْ السُّدُسِ شَيْئًا إلَّا بِإِجَازَتِهِ .
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، لِصَاحِبِ الْجُزْءِ النِّصْفُ ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْآخَرِ وَالْبَنِينَ عَلَى أَرْبَعَةٍ ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ إنْ أَجَازُوا ، وَإِنْ رَدُّوا قَسَّمْت الثُّلُثَ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ
عَلَى خَمْسَةٍ ، وَالثُّلُثَيْنِ بَيْنَ الْبَنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، وَتَصِحُّ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ النِّصْفُ ، وَلِلْآخَرِ الرُّبُعُ وَيَبْقَى الرُّبُعُ بَيْنَ الْبَنِينَ ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ ، وَإِنْ رَدُّوا فَالثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، وَتَصِحُّ مِنْ تِسْعَةٍ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ النِّصْفُ ، وَلِلْآخَرِ السُّدُسُ ، وَيَبْقَى الثُّلُثُ بَيْنَ الْبَنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، وَإِنْ رَدُّوا ، فَالثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى أَرْبَعَةٍ ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ .
وَإِنْ أَوْصَى لِصَاحِبِ الْجُزْءِ بِالثُّلُثَيْنِ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبُعُ الثُّلُثِ ، سَهْمٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرِ إنْ أَجَازُوا ، وَإِنْ رَدُّوا قَسَّمْت الثُّلُثَ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى تِسْعَةٍ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، يَكُونُ لَهُ الرُّبُعُ فِي حَالِ الْإِجَازَةِ ، وَفِي حَالِ الرَّدِّ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ ، يَكُونُ لَهُ السُّدُسُ فِي الْإِجَازَةِ ، وَفِي الرَّدِّ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَ الْوَصِيَّيْنِ عَلَى خَمْسَةٍ .
وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ وَرَثَتِهِ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، لَا يَصِحُّ لِلْوَصِيِّ الْآخَرِ شَيْءٌ فِي إجَازَةٍ وَلَا رَدٍّ .
وَعَلَى الثَّانِي ، يَقْسِمُ الْوَصِيَّانِ الْمَالَ بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ فِي الْإِجَازَةِ ، وَالثُّلُثَ عَلَى خَمْسَةٍ فِي الرَّدِّ .
وَعَلَى الثَّالِثِ ، يَقْتَسِمَانِ الْمَالَ عَلَى سَبْعَةٍ فِي الْإِجَازَةِ ، وَالثُّلُثَ عَلَى سَبْعَةٍ فِي الرَّدِّ .
( 4638 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ وَارِثٍ ، وَلَلْآخَرَ بِجُزْءٍ مِمَّا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فَفِيهَا أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ؛ أَحَدُهَا : أَنْ يُعْطَى صَاحِبُ النِّصْفِ مِثْلَ نَصِيبِ الْوَارِثِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَصِيَّةٌ أُخْرَى .
وَالثَّانِي أَنْ يُعْطَى مِثْلَ نَصِيبِهِ مِنْ ثُلُثَيْ الْمَالِ .
وَالثَّالِثُ ، أَنْ يُعْطَى مِثْلَ نَصِيبِهِ بَعْدَ أَخْذِ صَاحِبِ الْجُزْءِ وَصِيَّتَهُ .
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَدْخُلُهَا الدُّورُ ، وَعَلَيْهِ التَّفْرِيعُ .
وَمِثَالُهُ ، رَجُلٌ خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ ، وَوَصَّى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَلِآخَرَ بِنِصْفِ بَاقِي الْمَالِ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، لِصَاحِبِ النِّصْفِ الرُّبُعُ ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الْبَاقِي ، وَمَا بَقِيَ لِلْبَنِينَ ، وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةٍ .
وَعَلَى الثَّانِي لَهُ السُّدُسُ ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الْبَاقِي ، وَتَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ .
وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لِوُضُوحِهِمَا .
وَأَمَّا عَلَى الثَّالِثِ فَيَدْخُلُهَا الدُّورُ ، وَلِعَمَلِهَا طُرُقٌ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ تَأْخُذَ مَخْرَجَ النِّصْفِ ، فَتُسْقِطَ مِنْهُ سَهْمًا ، يَبْقَى سَهْمٌ ، فَهُوَ النَّصِيبُ ، ثُمَّ تَزِيدُ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ وَاحِدًا ، تَصِيرُ أَرْبَعَةً ، فَتَضْرِبُهَا فِي الْمَخْرَجِ ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً ، تَنْقُصُهَا سَهْمًا ، يَبْقَى سَبْعَةٌ ، فَهِيَ الْمَالُ ، لِلْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ سَهْمٌ ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ الْبَاقِي ، وَهُوَ ثَلَاثَةٌ ، وَلِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ .
طَرِيقٌ آخَرُ ، أَنْ تَزِيدَ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ نِصْفَ سَهْمٍ ، وَتَضْرِبَهَا فِي الْمَخْرَجِ ، تَكُنْ سَبْعَةً .
طَرِيقٌ ثَالِثٌ ، وَيُسَمَّى الْمَنْكُوسَ ، أَنْ تَأْخُذَ سِهَامَ الْبَنِينَ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ ، فَتَقُولُ : هَذِهِ بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ نِصْفُهُ ، فَإِذَا أَرَدْت تَكْمِيلَهُ فَزِدْ عَلَيْهِ مِثْلَهُ ، ثُمَّ زِدْ عَلَيْهَا مِثْلَ سَهْمِ ابْنٍ ، تَكُنْ سَبْعَةً .
طَرِيقٌ رَابِعٌ ، أَنْ تَجْعَلَ الْمَالَ سَهْمَيْنِ وَنَصِيبًا ، وَتَدْفَعَ النَّصِيبَ إلَى صَاحِبِهِ ، وَإِلَى الْآخَرِ سَهْمًا ، يَبْقَى سَهْمٌ لِلْبَنِينَ يَعْدِلُ ثُلُثَهُ ، فَالْمَالُ
كُلُّهُ سَبْعَةٌ .
وَبِالْجَبْرِ تَأْخُذُ مَالًا فَتُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا ، يَبْقَى مَالٌ إلَّا نَصِيبًا ، وَتَدْفَعُ نِصْفَ الْبَاقِي إلَى الْوَصِيِّ الْآخَرِ ، يَبْقَى نِصْفُ مَالٍ إلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ ، يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ ، فَاجْبُرْهُ بِنِصْفِ نَصِيبٍ ، وَزِدْهُ عَلَى الثَّلَاثَةِ ، يَبْقَى نِصْفًا كَامِلًا ، يَعْدِلُ ثَلَاثَةً وَنِصْفًا ، فَالْمَالُ كُلُّهُ سَبْعَةٌ .
( 4639 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ بِنِصْفِ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ ، أَخَذْت مَخْرَجَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ ، وَهُوَ سِتَّةٌ ، نَقَصْت مِنْهَا وَاحِدًا ، يَبْقَى خَمْسَةٌ ، فَهِيَ النَّصِيبُ ثُمَّ تَزِيدُ وَاحِدًا عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ ، وَتَضْرِبُهَا فِي الْمَخْرَجِ ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ تَنْقُصُهَا ثَلَاثَةً ، يَبْقَى أَحَدٌ وَعِشْرُونَ ، فَهُوَ الْمَالُ فَتَدْفَعُ إلَى صَاحِبِ النَّصِيبِ خَمْسَةً ، يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ اثْنَانِ ، تَدْفَعُ مِنْهُمَا سَهْمًا إلَى الْوَصِيِّ الْآخَرِ ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ ، لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ .
وَبِالطَّرِيقِ الثَّانِي ، تَزِيدُ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ نِصْفًا ، وَتَضْرِبُهَا فِي الْمَخْرَجِ ، تَكُنْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ .
وَبِالثَّالِثِ ، تَعْمَلُ كَمَا عَمِلْت فِي الْأُولَى ، فَإِذَا بَلَغَتْ سَبْعَةً ضَرَبْتهَا فِي ثَلَاثَةٍ ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ الثَّانِيَةَ بِنِصْفِ الثُّلُثِ .
وَبِالرَّابِعِ ، تَجْعَلُ الثُّلُثَ سَهْمَيْنِ وَنَصِيبًا ، تَدْفَعُ النَّصِيبَ إلَى صَاحِبِهِ ، وَإِلَى الْآخَرِ سَهْمًا ، يَبْقَى مِنْ الْمَالِ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَنَصِيبَانِ ، تَدْفَعُ نَصِيبَيْنِ إلَى ابْنَيْنِ ، يَبْقَى خَمْسَةٌ لِلثَّالِثِ ، فَهِيَ النَّصِيبُ ، فَإِذَا بَسَطْتهَا كَانَتْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ، وَبِالْجَبْرِ ، تَأْخُذُ مَالًا فَتُلْقِي مِنْهُ ثُلُثَهُ نَصِيبًا ، وَتَدْفَعُ إلَى الْآخَرِ نِصْفَ بَاقِي الثُّلُثِ ، يَبْقَى مِنْ الْمَالِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ إلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ ، اُجْبُرْهُ بِنِصْفِ نَصِيبٍ ، وَزِدْهُ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ ، يَصِيرُ ثَلَاثَةً وَنِصْفًا ، تَعْدِلُ خَمْسَةَ أَسْدَاسٍ ، أَقْلِبْ وَحَوِّلْ ، يَصِيرُ النَّصِيبُ خَمْسَةً ، وَكُلُّ سَهْمٍ سِتَّةً تَكُنْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ .
( 4640 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَوْصَى لِثَالِثٍ بِرُبُعِ الْمَالِ ، فَخُذْ الْمَخَارِجَ ، وَهِيَ اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ ، وَاضْرِبْ بَعْضَهَا فِي بَعْضٍ ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ ، وَزِدْ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ وَاحِدًا ، تَصِرْ أَرْبَعَةً ، وَاضْرِبْهَا فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، تَكُنْ سِتَّةً وَتِسْعِينَ ، اُنْقُصْ مِنْهَا ضَرْبَ نِصْفِ سَهْمٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ ، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ ، فَهِيَ الْمَالُ ، ثُمَّ اُنْظُرْ الْأَرْبَعَةَ وَعِشْرِينَ ، فَانْقُصْ مِنْهَا سُدُسَهَا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ ، وَرُبُعَهَا لِأَجْلِ الْوَصِيَّةِ الثَّالِثَةِ ، يَبْقَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ ، فَهِيَ النَّصِيبُ ، فَادْفَعْهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ بِالنَّصِيبِ ، ثُمَّ ادْفَعْ إلَى الثَّانِي نِصْفَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ ، وَهُوَ سَبْعَةٌ ، وَإِلَى الثَّالِثِ رُبُعَ الْمَالِ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ، يَبْقَى اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ ، لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ .
وَبِالطَّرِيقِ الثَّانِي ، تَزِيدُ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ نِصْفَ سَهْمٍ ، وَتَضْرِبُ ثَلَاثَةً وَنِصْفًا فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ .
وَبِالطَّرِيقِ الثَّالِثِ ، تَعْمَلُ فِي هَذِهِ كَمَا عَمِلْت فِي الَّتِي قَبْلَهَا ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ، ضَرَبْتهَا فِي أَرْبَعَةٍ مِنْ أَجْلِ الرُّبُعِ ، تَكُنْ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ .
وَبِطَرِيقِ النَّصِيبِ تَفْرِضُ الْمَالَ سِتَّةَ أَسْهُمٍ ، وَثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ ، تَدْفَعُ نَصِيبًا إلَى صَاحِبِ النَّصِيبِ ، وَإِلَى الْآخَرِ سَهْمًا ، وَإِلَى صَاحِبِ الرُّبُعِ سَهْمًا وَنِصْفًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ ، وَيَبْقَى مِنْ الْمَالِيَّةِ نَصِيبٌ وَرُبُعٌ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ لِلْوَرَثَةِ ، يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ ، فَأَسْقِطْ نَصِيبًا وَرُبْعًا بِمِثْلِهَا ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ ، يَعْدِلُ نَصِيبًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ ، فَالنَّصِيبُ إذًا سَهْمَانِ ، فَابْسُطْ الثَّلَاثَةَ الْأَنْصِبَاءَ ، تَكُنْ سِتَّةً ، فَصَارَ الْمَالُ اثْنَيْ عَشَرَ ، وَمِنْهَا يَصِحُّ ، لِصَاحِبِ النَّصِيبِ سَهْمَانِ ، وَلِلْآخَرِ نِصْفُ بَاقِي الثُّلُثِ
سَهْمٌ ، وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ ، تَبْقَى سِتَّةٌ ، لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمَانِ .
وَهَذَا أَخْصَرُ وَأَحْسَنُ .
وَبِالْجَبْرِ ، تَأْخُذُ مَالًا تَدْفَعُ مِنْهُ نَصِيبًا ، يَبْقَى مَالٌ إلَّا نَصِيبًا ، تَدْفَعُ نِصْفَ بَاقِي ثُلُثِهِ ، وَهُوَ سُدُسٌ إلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ ، يَبْقَى مِنْ الْمَالِ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ إلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ ، تَدْفَعُ مِنْهَا رُبُعَ الْمَالِ ، يَبْقَى ثُلُثُ الْمَالِ وَرُبُعُهُ إلَّا نِصْفَ نَصِيبٍ ، يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ وَقَلِّبْ وَحَوِّلْ ، يَكُنْ النَّصِيبُ سَبْعَةً ، وَالْمَالُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ، ثُمَّ تَضْرِبُهَا فِي اثْنَيْنِ ، لِيَزُولَ الْكَسْرُ ، يَرْجِعُ إلَى أَرْبَعَةٍ وَثَمَانِينَ .
( 4641 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ بِرُبُعِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، فَاعْمَلْهَا بِطَرِيقِ النَّصِيبِ ، كَمَا ذَكَرْنَا ، يَبْقَى مَعَك ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ تَعْدِلُ نَصِيبًا وَنِصْفًا ، اُبْسُطْهُمَا أَرْبَاعًا ، تَكُنْ السِّهَامُ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَالْأَنْصِبَاءُ سِتَّةً ، تُوَافِقُهُمَا وَتَرُدُّهُمَا إلَى وَفْقَيْهِمَا ، تَصِيرُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ ، تَعْدِلُ نَصِيبَيْنِ ، اقْلِبْ وَاجْعَلْ النَّصِيبَ خَمْسَةً وَالسَّهْمَ اثْنَيْنِ ، وَابْسُطْ مَا مَعَك ، يَصِرْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ، فَادْفَعْ خَمْسَةً إلَى صَاحِبِ النَّصِيبِ ، وَإِلَى الْآخَرِ نِصْفَ بَاقِي الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ ، وَإِلَى الْآخَرِ رُبُعَ الْبَاقِي خَمْسَةً ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ ، لِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ .
وَهَذَا الطَّرِيقُ أَخْصَرُ .
وَإِنْ عَمِلْت بِالطَّرِيقِ الثَّانِي ، أَخَذَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ ، فَنَقَصْت سُدُسَهَا وَرُبُعَ الْبَاقِي ، يَبْقَى خَمْسَةَ عَشَرَ ، فَهِيَ النَّصِيبُ ، ثُمَّ زِدْت عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَنَقَصْت نِصْفَهُ وَرُبُعَ الْبَاقِي مِنْهُ ، يَبْقَى ثَلَاثَةُ أَثْمَانٍ ، رُدَّهَا عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ ، تَكُنْ ثَلَاثَةً ، وَثَلَاثَةَ أَثْمَانِ ، تَضْرِبُهَا فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، تَكُنْ أَحَدًا وَثَمَانِينَ ، وَمِنْهَا تَصِحُّ ، وَبِالْجَبْرِ تُفْضِي إلَى ذَلِكَ أَيْضًا .
( 4642 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَلَّفَ أُمًّا وَأُخْتًا وَعَمًّا ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْعَمِّ ، وَسُدُسِ مَا يَبْقَى ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْأُمِّ وَرُبْعِ مَا يَبْقَى ، وَلِآخَرَ بِمِثْلِ نَصِيبِ الْأُخْتِ وَثُلُثِ مَا يَبْقَى ، فَاعْمَلْهَا بِالْمَنْكُوسِ ، وَقُلْ : أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ سِتَّةٌ ، فَابْدَأْ بِآخِرِ الْوَصَايَا ، فَقُلْ : هَذَا مَالٌ ذَهَبَ ثُلُثُهُ ، فَزِدْ عَلَيْهِ نِصْفَهُ ثَلَاثَةً ، وَمِثْلَ نَصِيبِ الْأُخْتِ ثَلَاثَةً ، صَارَتْ اثْنَيْ عَشَرَ ، ثُمَّ قُلْ : هَذَا بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ رُبُعُهُ ، فَزِدْ عَلَيْهِ ثُلُثَهُ ، وَمِثْلَ نَصِيبِ الْأُمِّ سِتَّةً ، صَارَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، ثُمَّ قُلْ : هَذَا بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ سُبُعُهُ ، فَزِدْ عَلَيْهِ سُدُسَهُ ، وَنَصِيبَ الْعَمِّ ، صَارَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ ، وَمِنْهُ تَصِحُّ .
( 4643 ) فَصْلٌ : فِي الِاسْتِثْنَاءِ ، إذَا خَلَّفَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ ، وَأَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إلَّا رُبُعَ الْمَالِ ، فَخُذْ مَخْرَجَ الْكَسْرِ أَرْبَعَةً ، وَزِدْ عَلَيْهَا سَهْمًا ، تَكُنْ خَمْسَةً ، فَهَذَا النَّصِيبُ ، وَزِدْ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ وَاحِدًا ، وَاضْرِبْهُ فِي مَخْرَجِ الْكَسْرِ ، تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ ، تَدْفَعُ إلَى الْوَصِيِّ خَمْسَةً ، وَتَسْتَثْنِي مِنْهُ أَرْبَعَةً يَبْقَى لَهُ سَهْمٌ ، وَلِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ .
وَإِنْ شِئْت خَصَصْت كُلَّ ابْنٍ بِرُبُعٍ ، وَقَسَمْت الرُّبُعَ الْبَاقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى أَرْبَعَةٍ .
فَإِنْ قَالَ : إلَّا رُبُعَ الْبَاقِي بَعْدَ النَّصِيبِ .
فَزِدْ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَرُبْعًا ، وَاضْرِبْهُ فِي أَرْبَعَةٍ ، تَكُنْ سَبْعَةَ عَشَرَ ، لِلْوَصِيِّ سَهْمَانِ ، وَلِكُلِّ ابْنٍ خَمْسَةٌ .
وَبِالْجَبْرِ ، تَأْخُذُ مَالًا ، وَتَدْفَعُ مِنْهُ نَصِيبًا إلَى الْمُوصَى لَهُ ، وَتَسْتَثْنِي مِنْهُ رُبْعَ الْبَاقِي ، وَهُوَ رُبْعُ مَالٍ إلَّا رُبْعَ نَصِيبٍ ، صَارَ مَعَك مَالٌ وَرُبْعٌ إلَّا نَصِيبًا وَرُبْعًا ، يَعْدِلُ أَنْصِبَاءَ الْبَنِينَ ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ ، يَخْرُجْ النَّصِيبُ خَمْسَةً ، وَالْمَالُ سَبْعَةَ عَشَرَ .
فَإِنْ قَالَ : إلَّا رُبُعَ الْبَاقِي بَعْدَ الْوَصِيَّةِ .
جَعَلْت الْمَخْرَجَ ثَلَاثَةً ، وَزِدْت عَلَيْهِ ثُلُثَهُ ، صَارَ أَرْبَعَةً ، فَهُوَ النَّصِيبُ ، وَتَزِيدُ عَلَى عَدَدِ الْبَنِينَ نَصِيبًا وَثُلُثًا ، وَتَضْرِبُهُ فِي ثَلَاثَةٍ ، تَكُنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ، فَهُوَ الْمَالُ .
وَإِنْ شِئْت قُلْت : الْمَالُ كُلُّهُ ثَلَاثَةُ أَنْصِبَاءَ وَوَصِيَّةٌ ، وَالْوَصِيَّةُ هِيَ نَصِيبٌ إلَّا رُبُعَ الْبَاقِي بَعْدَهَا ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ نَصِيبٍ ، فَيَبْقَى رُبُعُ نَصِيبٍ ، فَهُوَ الْوَصِيَّةُ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ ثَلَاثَةٌ وَرُبُعٌ ، اُبْسُطْهَا ، تَكُنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ .
وَلِهَذِهِ الْمَسَائِلِ طُرُقٌ سِوَى مَا ذَكَرْنَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 4644 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : أَوْصَيْت لَك بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِ بَنِيَّ إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ .
فَخُذْ مَخْرَجَ الْكَسْرِ ثُلُثَ الثُّلُثِ ، وَهُوَ تِسْعَةٌ وَزِدْ عَلَيْهَا سَهْمًا ، تَكُنْ عَشَرَةً ، فَهِيَ النَّصِيبُ ، وَزِدْ عَلَى أَنْصِبَاءِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَثُلُثًا ، وَاضْرِبْ ذَلِكَ فِي تِسْعَةٍ ، تَكُنْ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ ، ادْفَعْ عَشَرَةً إلَى الْوَصِيِّ ، وَاسْتَثْنِ مِنْهُ ثُلُثَ بَقِيَّةِ الثُّلُثِ سَهْمًا ، يَبْقَى لَهُ تِسْعَةٌ ، وَلِكُلِّ ابْنٍ عَشْرَةٌ .
وَإِنْ قَالَ إلَّا ثُلُثَ مَا يَبْقَى مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ .
جَعَلْت الْمَالَ سِتَّةً ، وَزِدْت عَلَيْهَا سَهْمًا ، صَارَتْ سَبْعَةً ، فَهَذَا هُوَ النَّصِيبُ ، وَزِدْت عَلَى أَنْصِبَاءِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَنِصْفًا ، وَضَرَبْته فِي سِتَّةٍ ، صَارَ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ ، وَدَفَعْت إلَى الْوَصِيِّ سَبْعَةً ، وَأَخَذْت مِنْهُ نِصْفَ بَقِيَّةِ الثُّلُثِ ، بَقِيَ مَعَهُ سِتَّةٌ ، وَبَقِيَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ ، لِكُلِّ ابْنٍ سَبْعَةٌ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الثُّلُثَ بَعْد الْوَصِيَّةِ هُوَ النِّصْفُ بَعْدَ النَّصِيبِ ، وَمَتَى أَطْلَقَ الِاسْتِثْنَاءَ ، فَلَمْ يَقُلْ : بَعْدَ النَّصِيبِ وَلَا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ .
فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ يُحْمَلُ عَلَى مَا بَعْدَ النَّصِيبِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالْبَصْرِيِّينَ يَكُونُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ .
( 4645 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : إلَّا خُمُسَ مَا يَبْقَى مِنْ الْمَالِ بَعْدَ النَّصِيبِ ، وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَا يَبْقَى مِنْ الْمَالِ بَعْدَ وَصِيَّةِ الْأَوَّلِ ، فَخُذْ الْجَمِيعَ خَمْسَةً ، وَزِدْ عَلَيْهَا خُمْسَهَا ، تَكُنْ سِتَّةً ، اُنْقُصْ ثُلُثَهَا مِنْ أَجْلِ الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ ، يَبْقَى أَرْبَعَةٌ ، فَهِيَ النَّصِيبُ ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا ، وَزِدْ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَانْقُصْ مِنْ ذَلِكَ ثُلُثَهُ ، يَبْقَى أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ ، زِدْهَا عَلَى أَنْصِبَاءِ الْبَنِينَ ، وَاضْرِبْهَا فِي خَمْسَةٍ ، تَصِرْ تِسْعَةَ عَشَرَ ، فَهِيَ الْمَالُ ، ادْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ أَرْبَعَةً ، وَاسْتَثْنِ مِنْهُ خُمُسَ الْبَاقِي ثَلَاثَةٌ ، يَبْقَ مَعَهُ سَهْمٌ ، فَادْفَعْ إلَى الْآخَرِ ثُلُثَ الْبَاقِي سِتَّةً ، يَبْقَ اثْنَا عَشَرَ ، لِكُلِّ ابْنٍ أَرْبَعَةٌ .
وَبِالْجَبْرِ خُذْ مَالًا ، وَأَلْقِ مِنْهُ نَصِيبًا ، وَاسْتَرْجِعْ مِنْهُ خُمُسَ الْبَاقِي ، يَصِرْ مَعَك مَالٌ وَخُمُسٌ إلَّا نَصِيبًا وَخُمُسًا ، أَلْقِ مِنْهُ ثُلُثَ ذَلِكَ ، يَبْقَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَالٍ إلَّا أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ نَصِيبٍ ، تَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ وَابْسُطْ ، يَكُنْ الْمَالُ تِسْعَةَ عَشَرَ ، وَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةً .
وَإِنْ شِئْت قُلْت : أَنْصِبَاءُ الْبَنِينَ ثَلَاثَةٌ ، وَهِيَ بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ ثُلُثُهُ ، فَزِدْ عَلَيْهِ نِصْفَهُ ، يَصِرْ أَرْبَعَةَ أَنْصِبَاءَ وَنِصْفًا وَوَصِيَّةً ، وَالْوَصِيَّةُ هِيَ نَصِيبٌ إلَّا خُمُسَ الْبَاقِي ، وَهُوَ نِصْفُ نَصِيبٍ وَخُمُسُ نَصِيبٍ ، وَخُمُسُ وَصِيَّةٍ ، أُسْقِطْهُ مِنْ النَّصِيبِ ، يَبْقَ خُمُسُ نَصِيبٍ وَعُشْرُ نَصِيبٍ إلَّا خُمُسَ وَصِيَّةٍ ، تَعْدِلُ وَصِيَّةً ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ وَابْسُطْ ، تَصِرْ ثَلَاثَةً مِنْ النَّصِيبِ ، تَعْدِلُ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ الْوَصِيَّةِ ، وَهِيَ تَتَّفِقُ بِالْأَثْلَاثِ ، فَرُدَّهَا عَلَى وَفْقِهَا ، تَصِرْ سَهْمًا ، يَعْدِلُ أَرْبَعَةً ، فَالْوَصِيَّةُ سَهْمٌ ، وَالنَّصِيبُ أَرْبَعَةٌ ، فَابْسُطْهَا ، تَكُنْ تِسْعَةَ عَشَرَ .
فَإِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ ، قُلْت : الْمَالُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفُ وَصِيَّةٍ ، وَهِيَ نَصِيبٌ إلَّا خُمُسَ
الْبَاقِي ، وَهُوَ تِسْعَةُ أَعْشَارِ نَصِيبٍ ، يَبْقَى عُشْرُ نَصِيبٍ ، فَهُوَ الْوَصِيَّةُ .
فَابْسُطْ الْكُلَّ أَعْشَارًا تَكُنْ الْأَنْصِبَاءُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ ، وَالْوَصِيَّةُ سَهْمٌ .
وَإِنْ كَانَ اسْتَثْنَى خُمُسَ الْمَالِ كُلَّهُ ، فَالْوَصِيَّةُ عُشْرُ نَصِيبٍ إلَّا خُمُسَ وَصِيَّةٍ ، اُجْبُرْ يَصِرْ الْعُشْرُ يَعْدِلُ وَصِيَّةً وَخُمْسًا ، اُبْسُطْ يَصِيرُ النَّصِيبُ سِتِّينَ ، وَالْوَصِيَّةُ خَمْسَةً ، وَالْمَالُ كُلُّهُ مِائَتَانِ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ ، أَلْقِ مِنْهَا سِتِّينَ ، وَاسْتَرْجِعْ مِنْهُ خُمُسَ الْمَالِ ، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ ، يَبْقَ لَهُ خَمْسَةٌ ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثَا الْبَاقِي تِسْعُونَ ، وَيَبْقَى مِائَةٌ وَثَمَانُونَ ، لِكُلِّ ابْنٍ سِتُّونَ ، وَتَرْجِعُ بِالِاخْتِصَارِ إلَى خُمُسِهَا ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ ، لِلْوَصِيِّ الْأَوَّلِ سَهْمٌ ، وَلِلثَّانِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، وَلِكُلِّ ابْنٍ اثْنَا عَشَرَ .
وَبِالْجَبْرِ ، تَأْخُذُ مَالًا تُلْقِي مِنْهُ نَصِيبًا ، وَتَزِيدُ عَلَى الْمَالِ خَمْسَةً ، يَصِرْ مَالًا وَخُمْسًا إلَّا نَصِيبًا ، أَلْقِ ثُلُثَ ذَلِكَ ، يَبْقَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ مَالٍ إلَّا ثُلُثَيْ نَصِيبٍ ، يَعْدِلُ ثَلَاثَةً ، اُجْبُرْ وَقَابِلْ وَابْسُطْ ، يَكُنْ الْمَالُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَثُلُثًا ، اضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ ، لِيَزُولَ الْكَسْرُ ، يَصِرْ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ .
وَإِنْ كَانَ اسْتَثْنَى الْخُمُسَ كُلَّهُ ، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ كُلِّهِ ، فَخُذْ مَخْرَجَ الْكَسْرَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَزِدْ عَلَيْهَا خُمُسَهَا ، ثُمَّ اُنْقُصْ ثُلُثَ الْمَالِ كُلَّهُ ، يَبْقَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ، فَهِيَ النَّصِيبُ ، وَزِدْ عَلَى أَنْصِبَاءِ الْبَنِينَ سَهْمًا ، وَاضْرِبْهُ فِي الْمَالِ ، يَكُنْ سِتِّينَ ، وَهُوَ الْمَالُ .
وَإِنْ كَانَ اسْتَثْنَى خُمُسَ الْبَاقِي ، وَأَوْصَى بِثُلُثِ الْمَالِ كُلِّهِ ، فَالْعَمَلُ كَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّك تَزِيدُ عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَخُمْسًا ، وَتَضْرِبُهَا ، تَكُنْ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ ، فَإِنْ كَانَ اسْتَثْنَى خُمُسَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ ، زِدْت عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَاحِدًا ، فَصَارَتْ سِتَّةَ عَشَرَ ، ثُمَّ نَقَصْت ثُلُثَ الْمَالِ
كُلَّهُ ، بَقِيَ أَحَدَ عَشَرَ ، فَهِيَ النَّصِيبُ ، ثُمَّ زِدْت عَلَى سِهَامِ الْبَنِينَ سَهْمًا وَخُمْسًا ، وَضَرَبْتهَا فِي خَمْسَةَ عَشَرَ ، تَكُنْ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ ، تَدْفَعُ إلَى الْوَصِيِّ الْأَوَّلِ أَحَدَ عَشَرَ ، وَتَسْتَثْنِي مِنْهُ خُمُسَ بَقِيَّةِ الثُّلُثِ سَهْمَيْنِ ، يَبْقَى مَعَهُ تِسْعَةٌ ، وَتَدْفَعُ إلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ إحْدَى وَعِشْرِينَ ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ ، لِكُلِّ ابْنٍ أَحَدَ عَشَرَ ، فَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ بِثُلُثِ بَاقِي الْمَالِ ، زِدْت عَلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَاحِدًا ثُمَّ نَقَصْت ثُلُثَ السِّتَّةَ عَشَرَ ، وَلَا ثُلُثَ لَهَا فَاضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ ، تَكُنْ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ ، اُنْقُصْ ثُلُثَهَا ، يَبْقَى اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ ، فَهِيَ النَّصِيبُ ، وَخُذْ سَهْمًا ، وَزِدْ عَلَيْهِ خَمْسَةً ، ثُمَّ اُنْقُصْ ثُلُثَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ الْبَاقِي ، يَبْقَى أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ ، زِدْهَا عَلَى سِهَامِ الْوَرَثَةِ ، وَاضْرِبْهَا فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ ، تَكُنْ مِائَةً وَإِحْدَى وَسَبْعِينَ .
وَمِنْهَا تَصِحُّ .
( 4646 ) فَصْلٌ : فَإِنْ خَلَّفَ أَرْبَعَةَ بَنِينَ ، وَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ إلَّا نَصِيبَ أَحَدِهِمْ ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِتَكْمِلَةِ الثُّلُثِ عَلَى نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، فَلَهُ التُّسْعُ .
وَحِسَابُهَا أَنْ تَدْفَعَ إلَى الْوَصِيِّ وَابْنٍ ثُلُثَ الْمَالِ ، يَبْقَى ثُلُثَاهُ لِثَلَاثَةِ بَنِينَ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ تُسْعَانِ ، فَعَلِمْت أَنْ نَصِيبَ الِابْنِ مِنْ الثُّلُثِ تُسْعَانِ ، يَبْقَى تُسْعٌ لِلْوَصِيِّ .
وَإِنْ وَصَّى لِآخَرَ بِخُمُسِ مَا يَبْقَى مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى ، عَزَلْت ثُلُثَ الْمَالِ ، ثُمَّ أَخَذْت مِنْهُ نَصِيبًا ، وَرَدَدْته عَلَى الثُّلُثَيْنِ ، وَدَفَعْت إلَى الْوَصِيِّ الثَّانِي خُمُسَ ذَلِكَ ، يَبْقَى مِنْ الْمَالِ ثُلُثُهُ وَخُمُسُهُ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ نَصِيبٍ لِلْوَرَثَةِ ، فَأَسْقِطْ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ نَصِيبٍ بِمِثْلِهَا ، يَبْقَى لَهُ ثَلَاثَةٌ وَخُمُسٌ ، تَعْدِلُ ثُلُثًا وَخُمُسًا ، فَنِصْفُ الْمَالِ إذَا يَعْدِلُ ثَلَاثَةَ أَنْصِبَاءَ ، وَالْمَالُ كُلُّهُ سِتَّةٌ لِلْوَصِيَّيْنِ وَالْبَنِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْمٌ .
( طَرِيقٌ آخَرُ ) سِهَامُ الْبَنِينَ أَرْبَعَةٌ ، وَهِيَ بَقِيَّةُ مَالٍ ذَهَبَ خُمُسُهُ ، فَزِدْ عَلَيْهِ رُبُعَهُ لِلْوَصِيِّ الثَّانِي ، صَارَتْ خَمْسَةً ، ثُمَّ زِدْ عَلَى سَهْمِ ابْنٍ مَا يَكْمُلُ بِهِ الثُّلُثُ ، وَهُوَ سَهْمٌ آخَرُ فَصَارَتْ سِتَّةً .
وَإِنْ شِئْت فَرَضْت الْمَالَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ وَتَكْمِلَةً ، وَدَفَعْت التَّكْمِلَةَ إلَى صَاحِبِهَا ، وَخُمُسَ الْبَاقِي إلَى صَاحِبِهِ ، وَيَبْقَى لِكُلِّ ابْنٍ سَهْمٌ .
وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ سَهْمَ ابْنٍ مَعَ التَّكْمِلَةِ ثُلُثُ الْمَالِ ، وَأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَهُمَا الثُّلُثَانِ ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، فَقَابِلْ بِهِمَا نِصْفَ الْأَرْبَعَةِ ، وَهِيَ سَهْمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّكْمِلَةَ سَهْمٌ .