الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
الْقُرَظِيّ : عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ قُرَيْظَةَ ، فَشَكُّوا فِي ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْظَرَ إلَيَّ ، هَلْ أَنْبَتُّ بَعْدُ ، فَنَظَرُوا إلَيَّ ، فَلَمْ يَجِدُونِي أَنْبَتُّ بَعْدُ ، فَأَلْحَقُونِي بِالذُّرِّيَّةِ .
مُتَعَلِّقٌ عَلَى مَعْنَاهُ .
وَكَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى عَامِلِهِ ، أَنْ لَا تَأْخُذَ الْجِزْيَةَ إلَّا مِنْ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ ، أَنَّ غُلَامًا مِنْ الْأَنْصَارِ شَبَّبَ بِامْرَأَةِ فِي شِعْرِهِ ، فَرُفِعَ إلَى عُمَرَ ، فَلَمْ يَجِدْهُ أَنْبَتَ ، فَقَالَ : لَوْ أَنْبَتَّ الشَّعْرَ لَحَدَدْتُك .
وَلِأَنَّهُ خَارِجٌ يُلَازِمُهُ الْبُلُوغُ غَالِبًا ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، فَكَانَ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ ، كَالِاحْتِلَامِ ، وَلِأَنَّ الْخَارِجَ ضَرْبَانِ ، مُتَّصِلٌ ، وَمُنْفَصِلٌ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْمُنْفَصِلِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الْبُلُوغُ ، كَانَ كَذَلِكَ الْمُتَّصِلُ .
وَمَا كَانَ بُلُوغًا فِي حَقِّ الْمُشْرِكِينَ ، كَانَ بُلُوغًا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، كَالِاحْتِلَامِ ، وَالسِّنِّ .
وَأَمَّا السِّنُّ ، فَإِنَّ الْبُلُوغَ بِهِ فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً .
وَبِهَذَا قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ دَاوُد : لَا حَدَّ لِلْبُلُوغِ مِنْ السِّنِّ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ ، عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ } .
وَإِثْبَاتُ الْبُلُوغِ بِغَيْرِهِ يُخَالِفُ الْخَبَرَ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَقَالَ أَصْحَابُهُ : سَبْعَ عَشْرَةَ ، أَوْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْغُلَامِ رِوَايَتَانِ .
إحْدَاهُمَا ، سَبْعَ عَشْرَةَ ، وَالثَّانِيَةُ ، ثَمَانِيَ عَشْرَةَ .
وَالْجَارِيَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَوْقِيفٍ ، أَوْ اتِّفَاقٍ ، وَلَا تَوْقِيفَ فِي مَا دُونَ هَذَا ، وَلَا اتِّفَاقَ .
وَلَنَا ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ { : عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، فَلَمْ يُجْزِنِي فِي الْقِتَالِ ، وَعُرِضْت عَلَيْهِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشَرَةَ ، فَأَجَازَنِي } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ : عُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشَرَةَ فَرَدَّنِي ، وَلَمْ يَرَنِي بَلَغْت ، وَعُرِضْت عَلَيْهِ عَامَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشَرَةَ ، فَأَجَازَنِي .
فَأُخْبِرَ بِهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فَكَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ : أَنْ لَا تَفْرِضُوا إلَّا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشَرَةَ .
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : إذَا اسْتَكْمَلَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً كُتِبَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ الْحُدُودُ } .
وَلِأَنَّ السِّنَّ مَعْنًى يَحْصُلُ بِهِ الْبُلُوغُ ، يَشْتَرِكُ فِيهِ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ ، فَاسْتَوَيَا فِيهِ ، كَالْإِنْزَالِ .
وَمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَفِيمَا رَوَيْنَاهُ جَوَابٌ عَنْهُ ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ دَاوُد لَا يَمْنَعُ إنْبَاتَ الْبُلُوغِ بِغَيْرِ الِاحْتِلَامِ إذَا ثَبَت بِالدَّلِيلِ ، وَلِهَذَا كَانَ إنْبَاتُ الشَّعْرِ عَلَمًا .
وَأَمَّا الْحَيْضُ فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى الْبُلُوغِ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَقْبَلُ اللَّه صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَأَمَّا الْحَمْلُ فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْوَلَدَ لَا يُخْلَقُ إلَّا مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ .
قَالَ اللَّه تَعَالَى : { فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ ، فَمَتَى حَمَلَتْ ، حُكِمَ بِبُلُوغِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَمَلَتْ فِيهِ .
( 3472 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وُجِدَ خُرُوجُ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ ، فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى بُلُوغِهِ ، وَكَوْنِهِ رَجُلًا ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِهِ ، أَوْ حَاضَ ، فَهُوَ عَلَمٌ عَلَى بُلُوغِهِ ، وَكَوْنِهِ امْرَأَةً .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغِ ، فَإِنْ اجْتَمَعَا ، فَقَدْ بَلَغَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْفَرْجُ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ ذَلِكَ خِلْقَةً زَائِدَةً .
وَلَنَا ، أَنَّ خُرُوجَ الْبَوْلِ مِنْ أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً ، فَخُرُوجُ الْمَنِيِّ وَالْحَيْضِ أَوْلَى ، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ رَجُلًا خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ ذَكَرِهِ ، أَوْ امْرَأَةً خَرَجَ الْحَيْضُ مِنْ فَرْجِهَا ، لَزِمَ وُجُودُ الْبُلُوغِ ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ مَنِيِّ الرَّجُلِ مِنْ الْمَرْأَةِ ، وَالْحَيْضِ مِنْ الرَّجُلِ ، مُسْتَحِيلٌ ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى التَّعْيِينِ ، فَإِذَا ثَبَتَ التَّعْيِينُ لَزِمَ كَوْنُهُ دَلِيلًا عَلَى الْبُلُوغِ ، كَمَا لَوْ تَعَيَّنَ قَبْلَ خُرُوجِهِ ، وَلِأَنَّهُ مَنِيٌّ خَارِجٌ مِنْ ذَكَرٍ ، أَوْ حَيْضٌ خَارِجٌ مِنْ فَرْجٍ ، فَكَانَ عَلَمًا عَلَى الْبُلُوغ كَالْمَنِيِّ الْخَارِجِ مِنْ الْغُلَامِ ، وَالْحَيْضِ الْخَارِجِ مِنْ الْجَارِيَةِ ، وَلِأَنَّهُمْ سَلَّمُوا أَنَّ خُرُوجَهُمَا مَعًا دَلِيلٌ عَلَى الْبُلُوغِ ، فَخُرُوجُ أَحَدِهِمَا مُنْفَرِدًا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُمَا مَعًا يَقْتَضِي تَعَارُضَهُمَا ، وَإِسْقَاطَ دَلَالَتِهِمَا ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْتَمِعَ حَيْضٌ صَحِيحٌ وَمَنِيُّ رَجُلٍ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فَضْلَةً خَارِجَةً مِنْ غَيْرِ مَحَلِّهَا ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، فَتَبْطُلُ دَلَالَتُهُمَا ، كَالْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا ، وَكَالْبَوْلِ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ جَمِيعًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا مُنْفَرِدًا ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِأَنَّ الْحَيْضَ يَخْرُجُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةَ عِنْدَ بُلُوغِهَا ، وَمَنِيَّ الرَّجُلِ يَخْرُجُ مِنْ ذَكَرِهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ ، فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ
مُعَارِضٍ وَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُهُ ، وَيَقْضِي بِثُبُوتِ دَلَالَتِهِ ، كَالْحُكْمِ بِكَوْنِهِ رَجُلًا ، بِخُرُوجِ الْبَوْلِ مِنْ ذَكَرِهِ ، وَبِكَوْنِهِ امْرَأَةً ، بِخُرُوجِهِ مِنْ فَرْجِهَا ، وَالْحُكْمِ لِلْغُلَامِ بِالْبُلُوغِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ ذَكَرِهِ ، وَلِلْجَارِيَةِ بِخُرُوجِ الْحَيْضِ مِنْ فَرْجِهَا ، فَعَلَى هَذَا إنْ خَرَجَا جَمِيعًا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ رَجُلًا وَلَا امْرَأَةً ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَيْنِ تَعَارَضَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْ الْفَرْجَيْنِ .
وَهَلْ يَثْبُتُ الْبُلُوغُ بِذَلِكَ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَثْبُتُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا ، فَقَدْ خَرَجَ الْمَنِيُّ مِنْ ذَكَرِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً ، فَقَدْ حَاضَتْ .
وَالثَّانِي ، لَا يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذَا حَيْضًا وَلَا مَنِيًّا ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ ، وَقَدْ دَلَّ تَعَارُضُهُمَا عَلَى ذَلِكَ ، فَانْتَفَتْ دَلَالَتُهُمَا عَلَى الْبُلُوغِ ، كَانْتِفَاءِ دَلَالَتِهِمَا عَلَى الذُّكُورِيَّةِ وَالْأُنُوثِيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 3473 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ ، وَإِنْ لَمْ تُنْكَحْ ) يَعْنِي أَنَّ الْجَارِيَةَ إذَا بَلَغَتْ ، وَأُونِسَ رُشْدُهَا بَعْد بُلُوغِهَا ، دُفِعَ إلَيْهَا مَالُهَا ، وَزَالَ الْحَجْرُ عَنْهَا ، وَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ .
وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَنَقَلَ أَبُو طَالِبٍ ، عَنْ أَحْمَدَ لَا يُدْفَعُ إلَى الْجَارِيَةِ مَالُهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا ، حَتَّى تَتَزَوَّجَ وَتَلِدَ ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا سَنَةٌ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ : عَهِدَ إلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا أُجِيزَ لِجَارِيَةٍ عَطِيَّةً حَتَّى تَحُولَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا حَوْلًا ، أَوْ تَلِدَ وَلَدًا .
رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ ، فَصَارَ إجْمَاعًا .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُدْفَعُ إلَيْهَا مَالُهَا حَتَّى تَتَزَوَّجَ ، وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَالَةٍ جَازَ لِلْأَبِ تَزْوِيجُهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِهَا ، لَمْ يَنْفَكَّ عَنْهَا الْحَجْرُ ، كَالصَّغِيرَةِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } .
وَلِأَنَّهَا يَتِيمٌ بَلَغَ وَأُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ ؛ فَيُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ كَالرَّجُلِ ، وَلِأَنَّهَا بَالِغَةٌ رَشِيدَةٌ ، فَجَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِي مَالِهَا ، كَالَّتِي دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ ، وَحَدِيثُ عُمَرَ إنْ صَحَّ ، فَلَمْ يُعْلَمْ انْتِشَارُهُ فِي الصَّحَابَةِ ، وَلَا يُتْرَكُ بِهِ الْكِتَابُ وَالْقِيَاسُ ، عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ مُخْتَصٌّ بِمَنْعِ الْعَطِيَّةِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ تَسْلِيمِ مَالِهَا إلَيْهَا ، وَمَنْعُهَا مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَمَالِكٌ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ ، وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى إجْبَارِ الْأَبِ لَهَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ ذَلِكَ ، وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ ، فَإِنَّمَا أَجْبَرَهَا
عَلَى النِّكَاحِ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا لِلنِّكَاحِ وَمَصَالِحِهِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِمُبَاشَرَتِهِ ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْمُعَامَلَاتُ مُمْكِنَةٌ قَبْلَ النِّكَاحِ ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، إذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ أَصْلًا احْتَمَلَ أَنْ يَدُومَ الْحَجْرُ عَلَيْهَا ، عَمَلًا بِعُمُومِ حَدِيثِ عُمَرَ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ دَفْعِ مَالِهَا إلَيْهَا ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهُ إلَيْهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ تُرْشَدْ .
وَقَالَ الْقَاضِي : عِنْدِي أَنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهَا مَالُهَا إذَا عَنَّسَتْ وَبَرَزَتْ لِلرِّجَالِ ، يَعْنِي كَبِرَتْ .
( 3474 ) فَصْلٌ : وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّ لِلْمَرْأَةِ الرَّشِيدَةِ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهَا كُلِّهِ ، بِالتَّبَرُّعِ ، وَالْمُعَاوَضَةِ .
وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي مَالِهَا بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ .
وَحُكِيَ عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ حَلَفَتْ أَنْ تَعْتِقَ جَارِيَةً لَهَا لَيْسَ لَهَا غَيْرُهَا ، فَحَنِثَتْ ، وَلَهَا زَوْجٌ ، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا ، قَالَ : لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ لَهَا عِتْقٌ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةَ كَعْبِ بْنِ مَالِك أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُلِيٍّ لَهَا ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ عَطِيَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ زَوْجُهَا ، فَهَلْ اسْتَأْذَنْت كَعْبًا ؟ فَقَالَتْ : نَعَمْ .
فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى كَعْبٍ ، فَقَالَ : هَلْ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِحُلِيِّهَا ؟ .
قَالَ : نَعَمْ .
فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ .
عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا { : لَا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ مِنْ مَالِهَا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ؛ إذْ هُوَ مَالِكُ عِصْمَتِهَا .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَجُوزُ لَامْرَأَةٍ عَطِيَّةٌ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا } .
وَلِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ مُعَلَّقٌ بِمَالِهَا ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا " .
وَالْعَادَةُ أَنَّ الزَّوْجَ يَزِيدُ فِي مَهْرِهَا مِنْ أَجْلِ مَالِهَا ، وَيَتَبَسَّطُ فِيهِ ، وَيَنْتَفِعُ بِهِ ، فَإِذَا أُعْسِرَ بِالنَّفَقَةِ
أَنْظَرَتْهُ ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى حُقُوقِ الْوَرَثَةِ الْمُعَلَّقَةِ بِمَالِ الْمَرِيضِ .
وَلَنَا ، قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } .
وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُمْ ، وَإِطْلَاقِهِمْ فِي التَّصَرُّفِ ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ ، وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ } { .
وَأَنَّهُنَّ تَصَدَّقْنَ فَقَبِلَ صَدَقَتَهُنَّ وَلَمْ يَسْأَلْ وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ } { .
وَأَتَتْهُ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى اسْمُهَا زَيْنَبُ فَسَأَلَتْهُ عَنْ الصَّدَقَةِ ، هَلْ يَجْزِيهِنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ ، وَأَيْتَامٍ لَهُنَّ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ } وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُنَّ هَذَا الشَّرْطَ ، وَلِأَنَّ مَنْ وَجَبَ دَفْعُ مَالِهِ إلَيْهِ لِرُشْدٍ ، جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ كَالْغُلَامِ ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ ، وَلَا حَقَّ لِزَوْجِهَا فِي مَالِهَا .
فَلَمْ يَمْلِكْ الْحَجْرَ عَلَيْهَا فِي التَّصَرُّفِ بِجَمِيعِهِ ، كَأُخْتِهَا .
وَحَدِيثُهُمْ ضَعِيفٌ وَشُعَيْبٌ لَمْ يُدْرِكْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ، فَهُوَ مُرْسَلٌ .
وَعَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَطِيَّتُهَا لِمَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَطِيَّتُهَا مَا دُونَ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهَا ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ حَدِيثٌ يَدُلُّ عَلَى تَحْدِيدِ الْمَنْعِ بِالثُّلُثِ ، فَالتَّحْدِيدُ بِذَلِكَ تَحَكُّمٌ لَيْسَ فِيهِ تَوْقِيفٌ ، وَلَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ .
وَقِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَرِيضِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِوُجُوهِ ؛ أَحَدِهَا ، أَنَّ الْمَرَضَ سَبَبٌ يُفْضِي إلَى وُصُولِ الْمَالِ إلَيْهِمْ بِالْمِيرَاثِ ، وَالزَّوْجِيَّة إنَّمَا تَجْعَلُهُ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ ، فَهِيَ أَحَدُ وَصَفِّي الْعِلَّةِ ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِهَا ، كَمَا لَا يَثْبُتُ لِلْمَرْأَةِ الْحَجْرُ عَلَى زَوْجِهَا ، وَلَا لِسَائِرِ الْوُرَّاثِ بِدُونِ الْمَرَضِ .
الثَّانِي : أَنَّ تَبَرُّعَ الْمَرِيضِ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ ، صَحَّ تَبَرُّعُهُ ، وَهَا هُنَا
أَبْطَلُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَالْفَرْعُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَصْلِهِ .
الثَّالِثُ ، أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِالْمَرْأَةِ ، فَإِنَّهَا تَنْتَفِعُ بِمَالِ زَوْجِهَا وَتَتَبَسَّطُ فِيهِ عَادَةً ، وَلَهَا النَّفَقَةُ مِنْهُ ، وَانْتِفَاعُهَا بِمَالِهِ أَكْثَرُ مِنْ انْتِفَاعِهِ بِمَالِهَا ، وَلَيْسَ لَهَا الْحَجْرُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ بِمَوْجُودِ فِي الْأَصْلِ ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ وُجُودُ الْمَعْنَى الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ جَمِيعًا .
فَصْلٌ : وَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الصَّدَقَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ ، بِغَيْرِ إذْنِهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا ، غَيْرَ مُفْسِدَةٍ ، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا ، وَلَهُ مِثْلُهُ بِمَا كَسَبَ ، وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْتَقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ } .
وَلَمْ يَذْكُرْ إذْنًا .
وَعَنْ أَسْمَاءَ ، أَنَّهَا جَاءَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إلَّا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ ، فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ ؟ فَقَالَ { : ارْضَخِي مَا اسْطَعْتِ ، وَلَا تُوعِي ، فَيُوعَى عَلَيْك } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا وَرُوِيَ أَنَّ { امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كَلٌّ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَآبَائِنَا ، فَمَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ؟ قَالَ : الرَّطْبُ تَأْكُلِينَهُ ، وَتُهْدِينَهُ } .
وَلِأَنَّ الْعَادَةَ السَّمَاحُ بِذَلِكَ ، وَطِيبُ النَّفْسِ ، فَجَرَى مَجْرَى صَرِيحِ الْإِذْنِ ، كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيْ الْأَكَلَةِ قَامَ مَقَامَ صَرِيحِ الْإِذْنِ فِي أَكْلِهِ .
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة ، لَا يَجُوزُ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ ، قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : لَا تُنْفِقُ الْمَرْأَةُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِهَا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا .
قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الطَّعَامَ ؟ .
قَالَ : ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْوَالِنَا } .
رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ } .
وَقَالَ { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا } .
وَلِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ،
فَلَمْ يَجُزْ ، كَغَيْرِ الزَّوْجَةِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ فِيهَا خَاصَّة صَحِيحَةٌ ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِ وَيُبَيِّنُهُ ، وَيُعَرِّفُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَامِّ غَيْرُ هَذِهِ الصُّورَةِ الْمَخْصُوصَةِ ، وَالْحَدِيثُ الْخَاصُّ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ ضَعِيفٌ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْمَرْأَةِ عَلَى غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهَا بِحُكْمِ الْعَادَةِ تَتَصَرَّفُ فِي مَالِ زَوْجِهَا ، وَتَتَبَسَّطُ فِيهِ ، وَتَتَصَدَّقُ مِنْهُ ، لِحُضُورِهَا وَغَيْبَتِهِ ، وَالْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ يَقُومُ مَقَامَ الْإِذْنِ الْحَقِيقِيِّ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا : افْعَلِي هَذَا .
فَإِنْ مَنَعَهَا ذَلِكَ ، وَقَالَ : لَا تَتَصَدَّقِي بِشَيْءٍ ، وَلَا تَتَبَرَّعِي مِنْ مَالِي بِقَلِيلٍ ، وَلَا كَثِيرٍ .
لَمْ يَجُزْ لَهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ الصَّرِيحَ نَفْيٌ لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ وَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الرَّجُلِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَ امْرَأَتِهِ كَجَارِيَتِهِ ، أَوْ أُخْتِهِ .
أَوْ غُلَامِهِ الْمُتَصَرِّفِ فِي بَيْتِ سَيِّدِهِ وَطَعَامِهِ ، جَرَى مَجْرَى الزَّوْجَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا ؛ لِوُجُودِ الْمَعْنَى فِيهِ .
وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ مَمْنُوعَةً مِنْ التَّصَرُّفِ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا ، كَالَّتِي يُطْعِمُهَا بِالْفَرْضِ ، وَلَا يُمَكِّنُهَا مِنْ طَعَامِهِ ، وَلَا مِنْ التَّصَرُّفِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ ، لَمْ يَجُزْ لَهَا الصَّدَقَةُ بِشَيْءِ مِنْ مَالِهِ ؛ لِعَدَمِ الْمَعْنَى فِيهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 3476 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالرُّشْدُ الصَّلَاحُ فِي الْمَالِ ) هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ ؛ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ الرُّشْدُ صَلَاحُهُ فِي دِينِهِ وَمَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ رَشِيدٍ ، وَلِأَنَّ إفْسَادَهُ لِدِينِهِ يَمْنَعُ الثِّقَةَ بِهِ فِي حِفْظِ مَالِهِ ، كَمَا يَمْنَعُ قَبُولَ قَوْلِهِ ، وَثُبُوتَ الْوِلَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِنْهُ كَذِبٌ وَلَا تَبْذِيرٌ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَعْنِي صَلَاحًا فِي أَمْوَالِهِمْ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : إذَا كَانَ عَاقِلًا .
وَلِأَنَّ هَذَا إثْبَاتٌ فِي نَكِرَةٍ ، وَمَنْ كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ رُشْدٌ ، وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي الرُّشْدِ فِي الدَّوَامِ ، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ ، كَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ، وَلِأَنَّ هَذَا مُصْلِحٌ لِمَالِهِ ، فَأَشْبَهَ الْعَدْلَ ، يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إنَّمَا كَانَ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ ، فَالْمُؤَثِّرُ فِيهِ مَا أَثَّرَ فِي تَضْيِيعِ الْمَالِ ، أَوْ حِفْظِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ رَشِيدٍ .
قُلْنَا : هُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ فِي دِينِهِ ، أَمَّا فِي مَالِهِ وَحِفْظِهِ فَهُوَ رَشِيدٌ ، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِالْكَافِرِ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ رَشِيدٍ وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ عَلَى الْمُسْلِمِ بَعْدَ دَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ ، لَمْ يَزُلْ رُشْدُهُ ، وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْعَدَالَةُ شَرْطًا فِي الرُّشْدِ ، لَزَالَ بِزَوَالِهَا ، كَحِفْظِ الْمَالِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ قَبُولِ الْقَوْلِ مَنْعُ دَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ ، فَإِنَّ مَنْ يُعْرَفُ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَالْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ ، أَوْ مِنْ يَأْكُلُ فِي السُّوقِ ، وَيَمُدُّ رِجْلَيْهِ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ ، وَأَشْبَاهِهِمْ .
لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَتُدْفَعُ إلَيْهِمْ أَمْوَالُهُمْ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ الْفَاسِقَ إنْ كَانَ
يُنْفِقُ مَالَهُ فِي الْمَعَاصِي ، كَشِرَاءِ الْخَمْرِ ، وَآلَاتِ اللَّهْوِ ، أَوْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْفَسَادِ ، فَهُوَ غَيْرُ رَشِيدٍ ؛ لِتَبْذِيرِهِ لِمَالِهِ ، وَتَضْيِيعِهِ إيَّاهُ فِي غَيْر فَائِدَةٍ .
وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ ، كَالْكَذِبِ ، وَمَنْعِ الزَّكَاةِ ، وَإِضَاعَةِ الصَّلَاةِ ، مَعَ حِفْظِهِ لِمَالِهِ ، دُفِعَ مَالُهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَجْرِ حِفْظُ الْمَالِ ، وَمَالُهُ مَحْفُوظٌ بِدُونِ الْحَجْرِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ طَرَأَ الْفِسْقُ بَعْد دَفْعِ مَالِهِ إلَيْهِ ، لَمْ يُنْزَعْ مِنْهُ .
( 3477 ) فَصْلٌ : وَإِنَّمَا يُعْرَفُ رُشْدُهُ بِاخْتِبَارِهِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } .
يَعْنِي اخْتَبِرُوهُمْ .
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أَيْ يَخْتَبِرَكُمْ .
وَاخْتِبَارُهُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا أَمْثَالُهُ إلَيْهِ ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ التُّجَّارِ فُوِّضَ إلَيْهِ الْبَيْعُ ، وَالشِّرَاءُ ، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ مِنْهُ ، فَلَمْ يَغِبْنَ ، وَلَمْ يُضَيِّعْ مَا فِي يَدَيْهِ ، فَهُوَ رَشِيدٌ .
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الدَّهَاقِينِ ، وَالْكُبَرَاءِ الَّذِينَ يُصَانُ أَمْثَالُهُمْ عَنْ الْأَسْوَاقِ ، رُفِعَتْ إلَيْهِ نَفَقَةُ مُدَّةٍ ، لِيُنْفِقهَا فِي مَصَالِحِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَيِّمًا بِذَلِكَ ، يَصْرِفُهَا فِي مَوَاقِعِهَا ، وَيَسْتَوْفِي عَلَى وَكِيلِهِ ، وَيَسْتَقْصِي عَلَيْهِ ، فَهُوَ رَشِيدٌ .
وَالْمَرْأَةُ يُفَوَّضُ إلَيْهَا مَا يُفَوَّضُ إلَى رَبَّةِ الْبَيْتِ ، مِنْ اسْتِئْجَارِ الْغَزَالَاتِ ، وَتَوْكِيلِهَا فِي شِرَاءِ الْكَتَّانِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .
فَإِنْ وُجِدَتْ ضَابِطَةً لِمَا فِي يَدَيْهَا ، مُسْتَوْفِيَةً مِنْ وَكِيلِهَا ، فَهِيَ رَشِيدَةٌ .
وَوَقْتُ الِاخْتِبَارِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } .
فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ ابْتِلَاءَهُمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ سَمَّاهُمْ يَتَامَى ، وَإِنَّمَا يَكُونُونَ يَتَامَى قَبْلَ الْبُلُوغِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ مَدَّ اخْتِبَارَهُمْ إلَى الْبُلُوغِ بِلَفْظَةِ : ( حَتَّى ) ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاخْتِبَارَ قَبْلَهُ ، وَلِأَنَّ تَأْخِيرَ الِاخْتِبَارِ إلَى الْبُلُوغِ مُؤَدٍّ إلَى الْحَجْرِ عَلَى الْبَالِغِ الرَّشِيدِ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يُخْتَبَرَ وَيُعْلَمَ رُشْدُهُ ، وَاخْتِبَارُهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَمْنَعُ ذَلِكَ ، فَكَانَ أَوْلَى .
لَكِنْ لَا يُخْتَبَرُ إلَّا
الْمُرَاهِقُ الْمُمَيِّزُ ، الَّذِي يَعْرِفُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ .
وَالْمَصْلَحَةَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ .
وَمَتَى أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فَتَصَرَّفَ ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى .
وَقَدْ أَوْمَأَ أَحْمَدُ فِي مَوْضِعٍ إلَى اخْتِبَارِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِمَّنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ مَظِنَّةُ الْعَقْلِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي وَقْتِ الِاخْتِبَارِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ .
( 3478 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَإِنْ عَاوَدَ السَّفَهَ ، حُجِرَ عَلَيْهِ ) وَجُمْلَتُهُ ، أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا فُكَّ عَنْهُ الْحَجْرُ لِرُشْدِهِ وَبُلُوغِهِ ، وَدُفِعَ إلَيْهِ مَالُهُ ، ثُمَّ عَادَ إلَى السَّفَهِ ، أُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَجْرُ .
وَبِهَذَا قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُبْتَدَأُ الْحَجْرُ عَلَى بَالِغٍ عَاقِلٍ ، وَتَصَرُّفُهُ نَافِذٌ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُكَلَّفٌ ، فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ .
وَلَنَا .
إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، وَرَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ابْتَاعَ بَيْعًا ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَآتِيَنَّ عُثْمَانَ لِيَحْجُرَ عَلَيْك .
فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّبَيْرَ ، فَقَالَ : قَدْ ابْتَاعَ بَيْعًا ، وَإِنَّ عَلِيًّا يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ ، فَيَسْأَلَهُ الْحَجْرَ عَلَيَّ .
فَقَالَ الزُّبَيْرُ : أَنَا شَرِيكُك فِي الْبَيْعِ .
فَأَتَى عَلِيٌّ عُثْمَانَ ، فَقَالَ إنَّ ابْنَ جَعْفَرٍ قَدْ ابْتَاعَ بَيْعَ كَذَا ، فَاحْجُرْ عَلَيْهِ .
فَقَالَ الزُّبَيْرُ : أَنَا شَرِيكُهُ فِي الْبَيْعِ .
فَقَالَ عُثْمَانُ : كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَمْ أَسْمَعْ هَذَا إلَّا مِنْ أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي .
وَهَذِهِ قِصَّةٌ يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا ، وَلَمْ يُخَالِفْهَا أَحَدٌ فِي عَصْرِهِمْ ، فَتَكُونُ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّ هَذَا سَفِيهٌ ، فَيَحْجُرُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ بَلَغَ سَفِيهًا ؛ فَإِنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي اقْتَضَتْ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا سَفَهُهُ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ ، وَلِأَنَّ السَّفَهَ لَوْ قَارَنَ الْبُلُوغَ مَنَعَ دَفْعَ مَالِهِ إلَيْهِ ، فَإِذَا حَدَثَ ، أَوْجَبَ انْتِزَاعَ الْمَالِ كَالْجُنُونِ .
وَفَارَقَ الرَّشِيدَ ؛ فَإِنَّ رُشْدَهُ لَوْ قَارَنَ الْبُلُوغَ لَمْ يَمْنَعْ دَفْعَ مَالِهِ إلَيْهِ .
( 3479 ) فَصْلٌ : وَلَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ إلَّا الْحَاكِمُ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ تَبْذِيرِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ الْحَجْرِ ، فَأَشْبَهَ الْجُنُونَ .
وَلَنَا : أَنَّ التَّبْذِيرَ يَخْتَلِفُ ، وَيُخْتَلَفُ فِيهِ ، وَيَحْتَاجُ إلَى الِاجْتِهَادِ ، فَإِذَا افْتَقَرَ السَّبَبُ إلَى الِاجْتِهَادِ ، لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، كَابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْعُنَّةِ ، وَلِأَنَّهُ حَجْرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُفْلِسِ ، وَفَارَقَ الْجُنُونَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الِاجْتِهَادِ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ ، وَمَتَى حُجِرَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ عَادَ فَرَشَدَ ، فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ .
وَلَا يَزُولُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يَزُولُ السَّفَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْحَجْرِ ، فَيَزُولُ بِزَوَالِهِ ، كَمَا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَجْرٌ ثَبَتَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِهِ ، كَحَجْرِ الْمُفْلِسِ ، وَلِأَنَّ الرُّشْدَ يَحْتَاجُ إلَى تَأَمُّلٍ وَاجْتِهَادٍ فِي مَعْرِفَتِهِ ، وَزَوَالِ تَبْذِيرِهِ ، فَكَانَ كَابْتِدَاءِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ .
وَفَارَقَ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ ؛ فَإِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ حُكْمِ حَاكِمٍ ، فَيَزُولُ بِغَيْرِ حُكْمِهِ .
وَلِأَنَّنَا لَوْ وَقَفْنَا تَصَرُّفَ النَّاسِ عَلَى الْحَاكِمِ ، كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ يُنْكَرُ عَقْلُهُ ، يُحْجَرُ عَلَيْهِ .
يَعْنِي : إذَا كَبِرَ ، وَاخْتَلَّ عَقْلُهُ ، حُجِرَ عَلَيْهِ ، بِمَنْزِلَةِ الْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْجِزُ بِذَلِكَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ ، وَحِفْظِهِ ، فَأَشْبَهَ الصَّبِيَّ وَالسَّفِيهَ .
( 3480 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( فَمَنْ عَامَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَهُوَ الْمُتْلِفُ لِمَالِهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَجَرَ عَلَى السَّفِيهِ ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ ، لِيَظْهَرَ أَمْرُهُ ، فَتُجْتَنَبَ مُعَامَلَتُهُ .
وَإِنْ رَأَى أَنْ يَأْمُرَ مُنَادِيًا يُنَادِي بِذَلِكَ ، لِيَعْرِفَهُ النَّاسُ ، فَعَلَ .
وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْتَشِرُ أَمْرُهُ بِشُهْرَتِهِ ، وَحَدِيثِ النَّاسِ بِهِ .
فَإِذَا حُجِرَ عَلَيْهِ .
فَبَاعَ وَاشْتَرَى ، كَانَ ذَلِكَ فَاسِدًا ، وَاسْتَرْجَعَ الْحَاكِمُ مَا بَاعَ مِنْ مَالِهِ ، وَرَدَّ الثَّمَنَ إنْ كَانَ بَاقِيًا .
وَإِنْ أَتْلَفَهُ السَّفِيهُ ، أَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا شَيْءَ عَلَى السَّفِيهِ .
وَكَذَلِكَ مَا أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِرِضَا أَصْحَابِهَا ، كَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ بِقَرْضٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، رَدَّهُ الْحَاكِمُ إنْ كَانَ بَاقِيًا ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا ، فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِهِ ، عَلِمَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ إنْ عَلِمَ فَقَدْ فَرَّطَ ، بِدَفْعِ مَالِهِ إلَى مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَهُوَ مُفْرِطٌ إذَا كَانَ فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ ، هَذَا إذَا كَانَ صَاحِبُهُ قَدْ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إنْ حَصَلَ فِي يَدِهِ بِاخْتِيَارِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ ، فَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ إنْ أَتْلَفَهُ ، أَوْ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ صَاحِبه ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْقَبْضُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ ، لِأَنَّهُ عَرَّضَهَا لِإِتْلَافِهِ ، وَسَلَّطَهُ عَلَيْهَا ، فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ .
وَأَمَّا مَا أَخَذَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ صَاحِبِهِ ، أَوْ أَتْلَفَهُ ، كَالْغَصْبِ وَالْجِنَايَةِ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ مِنْ الْمَالِكِ ، لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَوْ فَعَلَا ذَلِكَ ، لَزِمَهُمَا الضَّمَانُ ، فَالسَّفِيهُ أَوْلَى .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ كَذَلِكَ .
( 3481 ) فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، كَالْحُكْمِ فِي السَّفِيهِ ، فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا فِيمَا أَتْلَفَاهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِمَا بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ غَصَبَاهُ فَتَلِفَ فِي أَيْدِيهِمَا ، وَانْتِفَاءِ الضَّمَانِ عَنْهُمَا فِيمَا حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمَا بِاخْتِيَارِ صَاحِبِهِ وَتَسْلِيطِهِ ، كَالثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ وَالِاسْتِدَانَةِ .
وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِيمَا تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِمَا ، وَإِنْ أَتْلَفَاهُ فَفِي ضَمَانِهِ وَجْهَانِ .
"
( 3482 ) فَصْلٌ : وَلَا يَنْظُرُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، مَا دَامَا فِي الْحَجْرِ ، إلَّا الْأَبُ ، أَوْ وَصِيُّهُ بَعْدَهُ ، أَوْ الْحَاكِمُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا .
وَأَمَّا السَّفِيهُ ، فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ صَغِيرًا ، وَاسْتُدِيمَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِسَفَهِهِ ، فَالْوَلِيُّ فِيهِ مَنْ ذَكَرْنَاهُ .
وَإِنْ جُدِّدَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، لَمْ يَنْظُرْ فِي مَالِهِ إلَّا الْحَاكِمُ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ يَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ ، وَزَوَالَهُ يَفْتَقِرُ إلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ النَّظَرُ فِي مَالِهِ .
( 3483 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَأَنْ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا ، أَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ، لَزِمَهُ ذَلِكَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ ، لِفَلَسٍ ، أَوْ سَفَهٍ ، إذَا أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا ، كَالزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ ، وَالشُّرْبِ ، وَالْقَذْفِ ، وَالْقَتْلِ الْعَمْدِ ، أَوْ قَطْعِ الْيَدِ ، وَمَا أَشْبَهَهَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ ، وَيَلْزَمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْحَال .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَلَى نَفْسِهِ جَائِزٌ ، إذَا كَانَ إقْرَارُهُ بِزِنًا ، أَوْ سَرِقَةٍ ، أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ ، أَوْ قَذْفٍ ، أَوْ قَتْلٍ ، وَأَنَّ الْحُدُودَ تُقَامُ عَلَيْهِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَلَا أَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَالْحَجْرُ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَالِهِ ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ .
وَإِنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ، نَفَذَ طَلَاقُهُ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِمَالٍ ، وَيَصِحُّ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِمَالٍ ، فَلَمْ يَمْلِكْ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَالْمَالِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الطَّلَاقَ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الْمَالِ ، وَلَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ .
كَالْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ .
وَدَلِيلُ أَنَّهُ لَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَالِ ، أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، مَعَ مَنْعِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ ، وَلَا يُمْلَكُ بِالْمِيرَاثِ ، وَلِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مُخْتَارًا ، فَوَقَعَ طَلَاقُهُ ، كَالْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ .
فَصْلٌ : وَإِذَا أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، فَعَفَا الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى مَالٍ ، احْتَمَلَ أَنْ يَجِبَ الْمَالُ ؛ لِأَنَّهُ عَفْوٌ عَنْ قِصَاصٍ ثَابِتٍ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ .
وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِئَلَّا يُتَّخَذَ ذَلِكَ وَسِيلَةٌ إلَى الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ ، بِأَنْ يَتَوَاطَأَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ وَالْمُقَرُّ لَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ ، وَالْعَفْوِ عَنْهُ عَلَى مَالٍ .
وَلِأَنَّهُ وُجُوبُ مَالٍ ، مُسْتَنَدُهُ إقْرَارُهُ ، فَلَمْ يَثْبُتْ ، كَالْإِقْرَارِ بِهِ ابْتِدَاءً .
فَعَلَى هَذَا الْقَوْل يَسْقُطُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ فِي الْحَالِ .
( 3485 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَالَعَ ، صَحَّ خُلْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ الطَّلَاقُ ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَالْخُلْعُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْمَالُ أَوْلَى ، إلَّا أَنَّ الْعِوَضَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ ، وَإِنْ دُفِعَ إلَيْهِ ، لَمْ يَصِحَّ قَبْضُهُ ، وَإِنْ أَتْلَفَهُ ، لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَمْ تَبْرَأْ الْمَرْأَةُ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ ، وَهُوَ مِنْ ضَمَانِهَا إنْ أَتْلَفَهُ أَوْ تَلِفَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهَا سَلَّطَتْهُ عَلَى إتْلَافِهِ .
( 3486 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَعْتَقَ ، لَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ ، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاسِمِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ ، عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةً أُخْرَى : أَنَّهُ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مِنْ مُكَلَّفٍ مَالِكٍ تَامِّ الْمِلْكِ ، فَصَحَّ ، كَعِتْقِ الرَّاهِنِ وَالْمُفْلِسِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ ، وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ فَأَشْبَهَ هِبَتَهُ وَوَقْفَهُ ، وَلِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لَحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
وَفَارَقَ الْمُفْلِسَ وَالرَّاهِنَ ؛ فَإِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا لِحَقِّ غَيْرِهِمَا .
،
( 3487 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَزَوَّجَ ، صَحَّ النِّكَاحُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَبِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ : أَبُو الْخَطَّابِ لَا يَصِحُّ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَجِبُ بِهِ مَالٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ ، كَالشِّرَاءِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ مَالِيٍّ ، فَصَحَّ مِنْهُ ، كَخُلْعِهِ وَطَلَاقِهِ ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ الْمَالُ ، فَحُصُولُهُ بِطَرِيقِ الضِّمْنِ ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَقْدِ ، كَمَا لَوْ لَزِمَ ذَلِكَ مِنْ الطَّلَاقِ .
( 3488 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ تَدْبِيرُهُ وَوَصِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْضُ مَصْلَحَتِهِ لِأَنَّهُ تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَالِهِ بَعْدَ غِنَاهُ عَنْهُ .
وَيَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ ، وَتَعْتِقُ الْأَمَةُ الْمُسْتَوْلَدَةُ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَجْنُونِ ، فَمِنْ السَّفِيهِ أَوْلَى .
وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلتَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَلَهُ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِلْمَالِ ، لَا تَضْيِيعٌ لَهُ .
وَإِنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ نَظَرْتَ ؛ فَإِنْ قُلْنَا : الْوَاجِبُ الْقِصَاصُ عَيْنًا .
صَحَّ عَفْوُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ تَضْيِيعَ الْمَالِ .
وَإِنْ قُلْنَا : أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ .
لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ عَنْ الْمَالِ ، وَوَجَبَ الْمَالُ ، كَمَا لَوْ سَقَطَ الْقِصَاصُ بِعَفْوِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ .
وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، صَحَّ إحْرَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ، أَشْبَهَ غَيْرَهُ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ ، فَصَحَّتْ مِنْهُ ، كَسَائِرِ عِبَادَاتِهِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ ، دُفِعَ إلَيْهِ النَّفَقَةُ مِنْ مَالِهِ لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي السَّفَرِ كَنَفَقَتِهِ فِي الْحَضَرِ ، دُفِعَتْ إلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي إحْرَامِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَةُ السَّفَرِ أَكْثَرَ ، فَقَالَ : أَنَا أَكْتَسِبُ تَمَامَ نَفَقَتِي ، دُفِعَتْ إلَيْهِ أَيْضًا ، لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِمَالِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ ، فَلِوَلِيِّهِ تَحْلِيلُهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ مَالِهِ ، وَيَتَحَلَّلُ بِالصِّيَامِ كَالْمُعْسِرِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ وَلِيُّهُ تَحْلِيلَهُ ، بِنَاءً عَلَى الْعَبْدِ إذَا أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ .
وَإِنْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ ، أَوْ عَادَ فِي ظِهَارِهِ ، أَوْ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ بِالْقَتْلِ أَوْ الْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ ، كَفَّرَ بِالصِّيَامِ لِذَلِكَ .
وَإِنْ أَعْتَقَ أَوْ أَطْعَمَ عَنْ ذَلِكَ ، لَمْ يُجْزِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ؛
لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ مَالِهِ ، أَشْبَهَ الْمُفْلِسَ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يُجْزِئَهُ الْعِتْقُ ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا بِصِحَّتِهِ مِنْهُ .
وَإِنْ نَذَرَ عِبَادَةً بَدَنِيَّةً ، لَزِمَهُ فِعْلُهَا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ فِي بَدَنِهِ .
وَإِنْ نَذَرَ صَدَقَةَ الْمَالِ ، لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ ، وَكَفَّرَ بِالصِّيَامِ .
وَإِنْ فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ قَبْلَ تَكْفِيرِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا ، لَزِمَهُ الْعِتْقُ ، إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ .
وَمُقْتَضَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمْ فِي مَنْ أَقَرَّ قَبْلَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، ثُمَّ فُكَّ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ ، وَإِنْ فُكَّ بَعْدَ تَكْفِيرِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ بِالصِّيَامِ ثُمَّ فُكَّ الْحَجْرُ عَنْهُ .
( 3489 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَقَرَّ بِنَسَبِ وَلَدٍ ، قُبِلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارِ بِمَالِ ، وَلَا تَصَرُّفٍ فِيهِ ، فَقُبِلَ ، كَإِقْرَارِهِ بِالْحَدِّ وَالطَّلَاقِ .
وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ ، لَزِمَتْهُ أَحْكَامُهُ ، مِنْ النَّفَقَةِ وَغَيْرهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَصَلَ ضِمْنًا لِمَا صَحَّ مِنْهُ ، فَأَشْبَهَ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ .
( 3490 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِي حَالِ حَجْرِهِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ السَّفِيهَ إذَا أَقَرَّ بِمَالٍ ، كَالدَّيْنِ ، أَوْ بِمَا يُوجِبُهُ ، كَجِنَايَةِ الْخَطَإِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ ، وَإِتْلَافِ الْمَالِ ، وَغَصْبِهِ ، وَسَرِقَتِهِ ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحَظِّهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
وَلِأَنَّا لَوْ قَبِلْنَا إقْرَارَهُ فِي مَالِهِ ، لَزَالَ مَعْنَى الْحَجْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ ، ثُمَّ يُقِرُّ بِهِ ، فَيَأْخُذُهُ الْمُقَرُّ لَهُ .
وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، فَلَمْ يَنْفُذْ كَإِقْرَارِ الرَّاهِنِ عَلَى الرَّهْنِ ، وَالْمُفْلِسِ عَلَى الْمَالِ .
وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ .
وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا ، وَقَوْلِ أَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ أَقَرَّ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ فِي الْحَالِ فَلَزِمَهُ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، كَالْعَبْدِ يُقِرُّ بِدَيْنٍ وَالرَّاهِنِ يُقِرُّ عَلَى الرَّهْنِ ، وَالْمُفْلِسِ عَلَى الْمَالِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ ، وَلَا يُؤْخَذَ بِهِ فِي الْحُكْمِ بِحَالِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، لِعَدَمِ رُشْدِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ بَعْدَ فَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ نُفُوذِ إقْرَارِهِ فِي الْحَالِ ، إنَّمَا ثَبَتَ لِحِفْظِ مَالِهِ عَلَيْهِ ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ ، فَلَوْ نَفَذَ بَعْدَ فَكَّ الْحَجْرِ ، لَمْ يُفِدْ إلَّا تَأْخِيرَ الضَّرَرِ عَلَيْهِ إلَى أَكْمَلِ حَالَتَيْهِ .
وَفَارَقَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِحَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِنَّ الْمَانِعَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِمَالِهِ ، فَيَزُولُ الْمَانِعُ بِزَوَالِ الْحَقِّ عَنْ مَالِهِ ، فَيَثْبُتُ مُقْتَضَى إقْرَارِهِ .
وَفِي مَسْأَلَتِنَا انْتَفَى الْحُكْمُ لِخَلَلٍ فِي الْإِقْرَارِ .
فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ سَبَبًا ، وَبِزَوَالِ الْحَجْرِ لَمْ يَكْمُلْ السَّبَبُ ، فَلَا يَثْبُتُ
الْحُكْمُ مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ ، كَمَا لَمْ يَثْبُتْ قَبْلَ فَكِّ الْحَجْرِ .
وَلِأَنَّ الْحَجْرَ لِحَقِّ الْغَيْرِ لَمْ يَمْنَعْ تَصَرُّفَهُمْ فِي ذِمَمِهِمْ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ إقْرَارِهِمْ فِي ذِمَمِهِمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِمْ ، بِأَنْ يَلْزَمَهُمْ بَعْدَ زَوَالِ حَقِّ غَيْرِهِمْ وَالْحَجْرُ هَاهُنَا لِحَظِّ نَفْسِهِ ، مِنْ أَجْلِ ضَعْفِ عَقْلِهِ ، وَسُوءِ تَصَرُّفِهِ ، وَلَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ إلَّا بِإِبْطَالِ إقْرَارِهِ بِالْكُلِّيَّةِ ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
فَأَمَّا صِحَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ عَلِمَ صِحَّةَ مَا أَقَرَّ بِهِ ، كَدَيْنٍ لَزِمَهُ مِنْ جِنَايَةٍ ، أَوْ دَيْنٍ لَزِمَهُ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، فَعَلَيْهِ أَدَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ حَقًّا ، فَلَزِمَهُ أَدَاؤُهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ .
وَإِنْ عَلِمَ فَسَادَ إقْرَارِهِ ، مِثْلُ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِدَيْنٍ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، أَوْ بِجِنَايَةٍ لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ ، أَوْ أَقَرَّ بِمَا لَا يَلْزَمُهُ ، مِثْلُ إنْ أَتْلَفَ مَالَ مَنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ بِقَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ .
( 3491 ) فَصْلٌ : إذَا أَذِنَ وَلِيُّ السَّفِيهِ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَهَلْ يَصِحُّ مِنْهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، يَصِحُّ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٌ ، فَمَلَكَهُ بِالْإِذْنِ ، كَالنِّكَاحِ .
وَلِأَنَّهُ عَاقِلٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ بِالْإِذْنِ فِيهِ كَالصَّبِيِّ .
يُحَقِّقُ هَذَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الصَّبِيِّ أَعْلَى مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ثُمَّ ، يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ بِالْإِذْنِ ، فَهَاهُنَا أُولَى .
وَلِأَنَّا لَوْ مَنَعْنَا تَصَرُّفَهُ بِالْإِذْنِ ، لَمْ يَكُنْ لَنَا طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَة رُشْدِهِ وَاخْتِبَارِهِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِتَبْذِيرِهِ وَسُوءِ تَصَرُّفِهِ ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ ، فَقَدْ أَذِنَ فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي بَيْعِ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةٍ .
وَلِلشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
وَاَللَّه أَعْلَمُ .
كِتَابُ الصُّلْحِ الصُّلْحُ مُعَاقَدَةٌ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ ، وَيَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا ؛ صُلْحٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ ، وَصُلْحٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ ، وَصُلْحٌ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إذَا خِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ ، إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا } .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ الصُّلْحِ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بَابٌ يُفْرَدُ لَهُ ، يَذْكُرُ فِيهِ أَحْكَامُهُ .
وَهَذَا الْبَابُ لِلصُّلْحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ ، وَهُوَ نَوْعَانِ ؛ صُلْحٌ عَلَى إقْرَارٍ ، وَصُلْحٌ عَلَى إنْكَارٍ .
وَلَمْ يُسَمِّ الْخِرَقِيِّ الصُّلْحَ إلَّا فِي الْإِنْكَارِ خَاصَّةً .
( 3492 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالصُّلْحُ الَّذِي يَجُوزُ هُوَ أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي حَقٌّ لَا يَعْلَمُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيَصْطَلِحَانِ عَلَى بَعْضِهِ ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ ، فَجَحَدَهُ ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ صَحِيحٌ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ عَاوَضَ عَلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ، فَلَمْ تَصِحَّ الْمُعَاوَضَةُ كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ خَلَا عَنْ الْعِوَضِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ ، فَبَطَلَ ، كَالصُّلْحِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ جَائِزٌ } .
فَيَدْخُلُ هَذَا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ .
فَإِنْ قَالُوا : فَقَدْ قَالَ : { إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا } .
وَهَذَا دَاخِلٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَحَلَّ بِالصُّلْحِ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ دُخُولَهُ فِيهِ ، وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ هَذَا يُوجَدُ فِي الصُّلْحِ بِمَعْنَى الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ قَبْلَهُ ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ بِمَعْنَى الْهِبَةِ ، فَإِنَّهُ يُحِلُّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ ، الْإِسْقَاطُ يُحِلُّ لَهُ تَرْكَ أَدَاءِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ .
الثَّانِي ، أَنَّهُ لَوْ حَلَّ بِهِ الْمُحَرَّمُ ، لَكَانَ الصُّلْحُ صَحِيحًا ، فَإِنَّ الصُّلْحَ الْفَاسِدَ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى تَنَاوُلِ الْمُحَرَّمِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، كَمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى اسْتِرْقَاقِ حُرٍّ ، أَوْ إحْلَالِ بُضْعٍ مُحَرَّمٍ ، أَوْ صَالَحَهُ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ .
وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ .
وَعَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهَذَا ، فَإِنَّهُمْ يُبِيحُونَ لِمَنْ لَهُ حَقٌّ يَجْحَدُهُ غَرِيمُهُ ، أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِهِ أَوْ دُونَهُ ، فَإِذَا حَلَّ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ
اخْتِيَارِهِ وَلَا عِلْمِهِ ، فَلَأَنْ يَحِلَّ بِرِضَاهُ وَبَذْلِهِ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ إذَا حَلَّ مَعَ اعْتِرَافِ الْغَرِيمِ ، فَلَأَنْ يَحِلَّ مَعَ جَحْدِهِ وَعَجْزِهِ عَنْ الْوُصُولِ إلَى حَقِّهِ إلَّا بِذَلِكَ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هَاهُنَا يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَدْفَعُهُ لِدَفْعِ الشَّرِّ عَنْهُ ، وَقَطْعِ الْخُصُومَةِ ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ ، وَلِأَنَّهُ صُلْحٌ يَصِحُّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ ، فَصَحَّ مَعَ الْخَصْمِ كَالصُّلْحِ مَعَ الْإِقْرَارِ .
يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ إذَا صَحَّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ ، فَلَأَنْ يَصِحَّ مَعَ الْخَصْمِ مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ مُعَاوَضَةٌ .
قُلْنَا : فِي حَقِّهِمَا أَمْ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ ، وَالثَّانِي مُسَلِّمٌ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضَ حَقِّهِ مِنْ الْمُنْكِرِ لِعِلْمِهِ بِثُبُوتِ حَقِّهِ عِنْدَهُ ، فَهُوَ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّهِ ، وَالْمُنْكِرُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَدْفَعُ الْمَالَ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ وَالْيَمِينِ عَنْهُ ، وَيُخَلِّصُهُ مِنْ شَرِّ الْمُدَّعِي ، فَهُوَ أَبْرَأُ فِي حَقِّهِ ، وَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ ثُبُوتُ الْمُعَاوَضَةِ فِي حَقِّ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا شَهِدَ بِحُرِّيَّتِهِ ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ ، وَيَكُونُ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَاسْتِنْقَاذًا لَهُ مِنْ الرِّقِّ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي ، كَذَا هَاهُنَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُعْتَقِدًا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ حَقٌّ ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا حَقَّ عَلَيْهِ ، فَيَدْفَعُ إلَى الْمُدَّعِي شَيْئًا افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ ، وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ ، وَصِيَانَةً لِنَفْسِهِ عَنْ التَّبَذُّلِ ، وَحُضُورِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ ، فَإِنَّ ذَوِي النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ وَالْمُرُوءَةِ يَصْعُبُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ، وَيَرَوْنَ دَفْعَ ضَرَرِهَا عَنْهُمْ مِنْ أَعْظَمِ مَصَالِحِهِمْ ، وَالشَّرْعُ لَا يَمْنَعهُمْ مِنْ وِقَايَةِ أَنْفُسِهِمْ وَصِيَانَتِهَا ، وَدَفْعِ
الشَّرِّ عَنْهُمْ بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ ، وَالْمُدَّعِي يَأْخُذُ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ ، فَلَا يَمْنَعُهُ الشَّرْعُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، بِقَدْرِ حَقِّهِ أَوْ دُونَهُ ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ بِقَدْرِهِ فَهُوَ مُسْتَوْفٍ لَهُ ، وَإِنْ أَخَذَ دُونَهُ ، فَقَدْ اسْتَوْفَى بَعْضَهُ وَتَرَكَ بَعْضَهُ ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ فَقَدْ أَخَذَ عِوَضَهُ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ أَكْثَرِ مِمَّا ادَّعَاهُ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ لَا مُقَابِلَ لَهُ ، فَيَكُونَ ظَالِمًا بِأَخْذِهِ .
وَإِنْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ جَازَ ، وَيَكُونُ بَيْعًا فِي حَقِّ الْمُدَّعِي ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَخْذَهُ عِوَضًا ، فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ .
فَإِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ شِقْصًا فِي دَارٍ أَوْ عَقَارٍ ، وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ ، وَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَلَهُ رَدُّهُ ، وَالرُّجُوعُ فِي دَعْوَاهُ ، وَيَكُونُ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ ، لِأَنَّهُ دَفَعَ الْمَالَ افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ، لَا عِوَضًا عَنْ حَقٍّ يَعْتَقِدُهُ فَيَلْزَمُهُ أَيْضًا حُكْمُ إقْرَارِهِ .
فَإِنْ وَجَدَ بِالْمُصَالَحِ عَنْهُ عَيْبًا ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُدَّعِي ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مَا أَخَذَ عِوَضًا .
وَإِنْ كَانَ شِقْصًا لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهُ عَلَى مِلْكِهِ ، لَمْ يَزُلْ ، وَمَا مَلَكَهُ بِالصُّلْحِ .
وَلَوْ دَفَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى الْمُدَّعِي مَا ادَّعَاهُ أَوْ بَعْضَهُ ، لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حُكْمُ الْبَيْعِ وَلَا تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ ، وَأَخَذَ عَيْنَ مَالِهِ ، مُسْتَرْجِعًا لَهَا مِمَّنْ هِيَ عِنْدَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْعًا ، كَاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَاذِبًا ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ، وَيُنْكِرَ الْمُنْكِرُ حَقًّا يَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَيْهِ ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ فِي الْبَاطِنِ ؛ لِأَنَّ
الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ كَاذِبًا ، فَمَا يَأْخُذُهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ ، أَخَذَهُ بِشَرِّهِ وَظُلْمِهِ وَدَعْوَاهُ الْبَاطِلَةُ ، لَا عِوَضًا عَنْ حَقٍّ لَهُ ، فَيَكُونُ حَرَامًا عَلَيْهِ ، كَمَنْ خَوَّفَ رَجُلًا بِالْقَتْلِ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْلَمُ صِدْقَهُ وَثُبُوتَ حَقِّهِ ، فَجَحَدَهُ لِيَنْتَقِصَ حَقَّهُ ، أَوْ يُرْضِيَهُ عَنْهُ بِشَيْءِ فَهُوَ هَضْمٌ لِلْحَقِّ ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرَامًا ، وَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ مَالُ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ .
وَقَدْ ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي قَوْله " وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ فَجَحَدَهُ ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ " .
يَعْنِي فِي الْحَقِيقَةِ ، وَأَمَّا الظَّاهِرُ لَنَا فَهُوَ الصِّحَّةُ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ بَاطِنَ الْحَالِ ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْأَمْرُ عَلَى الظَّوَاهِرِ ، وَالظَّاهِرُ ، مِنْ الْمُسْلِمِ السَّلَامَةُ .
( 3493 ) فَصْلٌ : وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ وَدِيعَةً ، أَوْ قَرْضًا ، أَوْ تَفْرِيطًا فِي وَدِيعَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ ، فَأَنْكَرَهُ وَاصْطَلَحَا ، صَحَّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
( 3494 ) فَصَلِّ : وَإِنْ صَالَحَ عَنْ الْمُنْكِرِ أَجْنَبِيٌّ ، صَحَّ ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنَّمَا يَصِحُّ إذَا اعْتَرَفَ لِلْمُدَّعِي بِصِدْقِهِ ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى صُلْحِ الْمُنْكِرِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ .
ثُمَّ لَا يَخْلُو الصُّلْحُ ، إمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ ، فَإِنْ كَانَ عَنْ دَيْنٍ ، صَحَّ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الْمُنْكِرِ ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَإِنَّ { عَلِيًّا وَأَبَا قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَضَيَا عَنْ الْمَيِّتِ ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَنْ عَيْنٍ بِإِذْنِ الْمُنْكِرِ ، فَهُوَ كَالصُّلْحِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ .
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَهُوَ افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنْ الْخُصُومَةِ ، وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنْ الدَّعْوَى ، وَذَلِكَ جَائِزٌ .
وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ ، إذَا صَالَحَ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءِ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَالًا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ .
وَخَرَّجَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ .
فِيمَا إذَا قَضَى دَيْنَهُ الثَّابِتَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِجَيِّدٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ وُجُوبُهُ عَلَى الْمُنْكِرِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إلَى الْمُدَّعِي ، فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، فَكَانَ مُتَبَرِّعًا ، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ .
وَمَنْ قَالَ بِرُجُوعِهِ ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ كَالْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى عَلَى الْمُنْكَرِ لَا غَيْرُ ، أَمَّا أَنْ يَجِبَ لَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَدَّاهُ حَتْمًا ، فَلَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَجِبُ لِمَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ أَنْ يَقُومَ مَقَامَ صَاحِبِ الدَّيْنِ ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ هَاهُنَا لَمْ يَجِبْ لَهُ حَقٌّ ، وَلَا لَزِمَ الْأَدَاءُ إلَيْهِ ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ
جَوَازِ الدَّعْوَى ، فَكَذَلِكَ هَذَا .
وَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ الدَّعْوَى أَنْ يَعْلَمَ صِدْقَ الْمُدَّعِي ، فَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْلَمْ ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ دَعْوَى بِشَيْءِ لَا يَعْلَمُ ثُبُوتَهُ ، وَأَمَّا مَا إذَا صَالَحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ ، فَهُوَ وَكِيلُهُ ، وَالتَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ .
ثُمَّ إنْ أَدَّى عَنْهُ بِإِذْنِهِ ، رَجَعَ إلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَإِنْ أَدَّى عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُتَبَرِّعًا ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ وَإِنْ قَضَاهُ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ ، خُرِّجَ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَنْ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ بِعَقْدِ الصُّلْحِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ وَقَضَى بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَإِنَّهُ قَضَى مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْكِرِ قَضَاؤُهُ .
( 3495 ) فَصْلٌ : وَإِنْ صَالَحَ الْأَجْنَبِيُّ الْمُدَّعِيَ لِنَفْسِهِ ؛ لِتَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لَهُ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَعْتَرِفَ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ ، أَوْ لَا يَعْتَرِفَ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ ، كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ، وَلَمْ تَتَوَجَّهْ إلَيْهِ خُصُومَةٌ يَفْتَدِي مِنْهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ مِلْكَ غَيْرِهِ .
وَإِنْ اعْتَرَفَ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ ، وَكَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَا يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : يَصِحُّ .
وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ الْمُقَرِّ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَصِحُّ ، فَبَيْعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ مُنْكِرٍ مَعْجُوزٍ عَنْ قَبْضِهِ أُولَى .
وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا ، فَقَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي : أَنَا أَعْلَمُ أَنَّك صَادِقٌ ، فَصَالِحْنِي عَنْهَا ، فَإِنِّي قَادِرٌ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا مِنْ الْمُنْكِرِ .
فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَصِحُّ الصُّلْحُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ مِلْكَهُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ .
ثُمَّ إنْ قَدَرَ عَلَى انْتِزَاعِهِ ، اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ ، وَإِنْ عَجَزَ ، كَانَ لَهُ الْفَسْخُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى بَدَلِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ كَانَ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَى قَبْضِهِ مَعْدُومٌ حَالَ الْعَقْدِ ، فَكَانَ فَاسِدًا ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَهُ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ آبِقٌ أَوْ مَيِّتٌ .
وَلَوْ اعْتَرَفَ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاؤُهُ ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَا يُمْكِنُهُ قَبْضُهُ مِنْهُ ، فَأَشْبَهَ شِرَاءَ الْعَبْدِ الْآبِقِ ، وَالْجَمَلِ الشَّارِدِ .
فَإِنْ اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ قَبْضِهِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ
قَبْضَهُ مُمْكِنٌ ، صَحَّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَنَاوَلَ مَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ عَلِمَا ذَلِكَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ ظَنَّ عَدَمَ الشَّرْطِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا يَظُنُّ أَنَّهُ حُرُّ ، أَوْ أَنَّهُ عَبْدُ غَيْرِهِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدُهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَعْلَمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَكَانَ بَيْعُهُ فَاسِدًا ؛ لِكَوْنِهِ مُتَلَاعِبًا بِقَوْلِهِ : مُعْتَقِدًا فَسَادَهُ ، وَمِنْ لَا يَعْلَمُ يَعْتَقِدُهُ صَحِيحًا ، وَقَدْ تَبَيَّنَ اجْتِمَاعُ شُرُوطِهِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ عَلِمَهُ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ .
( 3496 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي : أَنَا وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِك عَنْ هَذِهِ الْعَيْنِ ، وَهُوَ مُقِرٌّ لَك بِهَا ، وَإِنَّمَا يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ .
فَظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّ الصُّلْحَ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ لِيَنْتَقِصَ الْمُدَّعِيَ بَعْضَ حَقِّهِ ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَهُوَ هَاضِمٌ لِلْحَقِّ ، يَتَوَصَّلُ إلَى أَخْذِ الْمُصَالِحِ عَنْهُ بِالظُّلْمِ وَالْعَدُوَّانِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَافَهَهُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : أَنَا أَعْلَمُ صِحَّةَ دَعْوَاك ، وَأَنَّ هَذَا لَك ، وَلَكِنْ لَا أُسَلِّمُهُ إلَيْك ، وَلَا أُقِرُّ لَك بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَتَّى تُصَالِحَنِي مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ ، أَوْ عِوَضٍ عَنْهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَصِحُّ .
وَهَذَا مَذْهَبُ .
الشَّافِعِيِّ .
قَالُوا : ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ ، مَلَكَ الْعَيْنَ ، وَرَجَعَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَعَلَيْهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ ، إنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ فِي الدَّفْعِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مِنْ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَإِنْ أَنْكَرَ الْوِكَالَةَ ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَيْسَ لِلْأَجْنَبِيِّ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُحْكَمُ لَهُ بِمِلْكِهَا .
فَأَمَّا حُكْمُ مِلْكِهَا فِي الْبَاطِنِ ، فَإِنْ كَانَ وَكَّلَ الْأَجْنَبِيَّ فِي الشِّرَاءِ ، فَقَدْ مَلَكَهَا ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِإِذْنِهِ ، فَلَا يَقْدَحُ إنْكَارُهُ فِي مِلْكِهَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَبَتَ قَبْلَ إنْكَارِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ بِالْإِنْكَارِ لِلْأَجْنَبِيِّ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوَكِّلْهُ ، لَمْ يَمْلِكُهَا ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقِفَ عَلَى إجَازَتِهِ ، كَمَا قُلْنَا فِي مَنْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِهِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِنْ أَجَازَهُ ، لَزِمَ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْهُ لَزِمَ مَنْ اشْتَرَاهُ .
وَإِنْ قَالَ الْأَجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي : قَدْ عَرَفَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ صِحَّةَ دَعْوَاك ، وَهُوَ يَسْأَلُك أَنْ تُصَالِحَهُ عَنْهُ ، وَقَدْ وَكَّلَنِي فِي الْمُصَالَحَةِ عَنْهُ .
فَصَالَحَهُ صَحَّ ، وَكَانَ الْحُكْمُ كَمَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّهُ هَاهُنَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ أَدَائِهِ ، بَلْ اعْتَرَفَ بِهِ ، وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ ، مَعَ بَذْلِهِ لَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجْحَدْهُ .
( 3497 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ ، فَصَالَحَ عَلَى بَعْضِهِ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صُلْحًا ؛ لِأَنَّهُ هَضْمٌ لِلْحَقِّ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ حَتَّى صُولِحَ عَلَى بَعْضِهِ ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ صَالَحَ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضٍ ، وَهَذَا مُحَالُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ ، أَوْ بِلَفْظِ الْإِبْرَاءِ أَوْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ الْمَقْرُونِ بِشَرْطِ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : أَبْرَأَتْك عَنْ خَمْسِمِائَةٍ ، أَوْ وَهَبْت لَك خَمْسَمِائَةٍ ، بِشَرْطِ أَنْ تُعْطِيَنِي مَا بَقِيَ .
وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُعْطِ بَعْضَ حَقِّهِ إلَّا بِإِسْقَاطِهِ بَعْضَهُ ، فَهُوَ حَرَامٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ هَضَمَهُ حَقَّهُ .
قَالَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ : الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ هَضْمٌ لِلْحَقِّ ، فَمَتَى أَلْزَمَ الْمُقَرَّ لَهُ تَرْكَ بَعْضِ حَقِّهِ ، فَتَرَكَهُ عَنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ ، لَمْ يَطِبْ الْأَخْذُ .
وَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ بِطِيبٍ مِنْ نَفْسِهِ ، جَازَ ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصُلْحٍ ، وَلَا مِنْ بَابِ الصُّلْحِ بِسَبِيلٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ الْخِرَقِيِّ الصُّلْحَ إلَّا فِي الْإِنْكَارِ ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ ، فَأَمَّا فِي الِاعْتِرَافِ ، فَإِذَا اعْتَرَفَ بِشَيْءِ وَقَضَاهُ مِنْ جِنْسِهِ ، فَهُوَ وَفَاءٌ ، وَإِنْ قَضَاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، فَهِيَ مُعَاوَضَةٌ ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِهِ اخْتِيَارًا مِنْهُ ، وَاسْتَوْفَى الْبَاقِيَ ، فَهُوَ إبْرَاءٌ ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ بَعْضَ الْعَيْنِ وَأَخَذَ بَاقِيَهَا بِطِيبِ نَفْسٍ ، فَهِيَ هِبَةٌ ، فَلَا يُسَمِّي ذَلِكَ صُلْحًا .
وَنَحْوُ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَسَمَّاهُ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ صُلْحًا .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ ؛ وَالْخِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ ، أَمَّا الْمَعْنَى فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ فِعْلُ مَا عَدَا وَفَاءَ الْحَقِّ ، وَإِسْقَاطُهُ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ؛ مُعَاوَضَةٌ ، وَإِبْرَاءٌ ، وَهِبَةٌ .
فَأَمَّا الْمُعَاوَضَةُ ، فَهُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعَيْنٍ فِي
يَدِهِ ، أَوْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى تَعْوِيضِهِ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَجُوزُ تَعْوِيضُهُ بِهِ ، وَهَذَا ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا ، أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ ، فَيُصَالِحَهُ الْآخَرُ ، نَحْوُ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ ، أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ ، فَيُصَالِحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَهَذَا صَرْفٌ ، يُشْتَرَطُ لَهُ شُرُوطُ الصَّرْفِ ، مِنْ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ .
الثَّانِي ، أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِعُرُوضٍ ، فَيُصَالِحَهُ عَلَى أَثْمَانٍ ، أَوْ بِأَثْمَانٍ فَيُصَالِحَهُ عَلَى عُرُوضٍ ، فَهَذَا بَيْعٌ يَثْبُتْ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ .
وَإِنْ اعْتَرَفَ لَهُ بِدَيْنٍ ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ ، لَمْ يَجُزْ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدِينٍ .
الثَّالِثُ .
أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أَوْ ، خِدْمَةِ عَبْدٍ ، وَنَحْوِهِ ، أَوْ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا مَعْلُومًا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إجَارَةً لَهَا حُكْمُ سَائِرِ الْإِجَارَاتِ ، وَإِذَا أَتْلَفَ الدَّارُ أَوْ الْعَبْدُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ ، وَرَجَعَ بِمَا صَالَحَ عَنْهُ .
وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، انْفَسَخَتْ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ ، وَرَجَعَ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ .
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ جَارِيَتَهُ ، وَهُوَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ ، صَحَّ .
وَكَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ صَدَاقَهَا ، فَإِنْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِأَمْرٍ يُسْقِطُ الصَّدَاقَ ، رَجَعَ الزَّوْجُ بِمَا صَالَحَ عَنْهُ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، رَجَعَ بِنِصْفِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَرِفُ امْرَأَةً ، فَصَالَحَتْ الْمُدَّعِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَهُ نَفْسَهَا ، جَازَ وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَرَفُ بِهِ عَيْبًا فِي مَبِيعِهَا ، فَصَالَحَتْهُ عَلَى نِكَاحِهَا صَحَّ .
فَإِنْ زَالَ الْعَيْبُ ، رَجَعَتْ بِأَرْشِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَدَاقُهَا ، فَرَجَعَتْ بِهِ ، لَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا .
وَإِنْ لَمْ يَزُلْ
الْعَيْبُ ، لَكِنْ انْفَسَخَ نِكَاحُهَا بِمَا يُسْقِطُ صَدَاقَهَا ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِأَرْشِهِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، الْإِبْرَاءُ ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، فَيَقُولَ : قَدْ أَبْرَأْتُك مِنْ نِصْفِهِ أَوْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْهُ ، فَأَعْطِنِي مَا بَقِيَ .
فَيَصِحُّ إذَا كَانَتْ الْبَرَاءَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ ، لَيْسَ عِنْدَهُ وَفَاءٌ فَوَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حَقِّهِ ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَاقِيَ ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمَا ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَاضٍ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ إثْمٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ غُرَمَاءَ جَابِرٍ لِيَضَعُوا عَنْهُ ، فَوَضَعُوا عَنْهُ ، الشَّطْرَ .
وَفِي الَّذِي أُصِيبَ فِي حَدِيقَتِهِ فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَلْزُومٌ ، فَأَشَارَ إلَى غُرَمَائِهِ بِالنِّصْفِ ، فَأَخَذُوهُ مِنْهُ .
فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قَاضٍ الْيَوْمَ ، جَازَ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ وَالنَّظَرِ لَهُمَا .
وَرَوَى يُونُسُ ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن كَعْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ إلَيْهِمَا ، ثُمَّ نَادَى : { يَا كَعْبُ .
قَالَ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَأَشَارَ إلَيْهِ ، أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنَك .
قَالَ : قَدْ فَعَلْت يَا رَسُولَ اللَّه .
قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُمْ فَأَعْطِهِ } .
فَإِنْ قَالَ : عَلَى أَنْ تُوَفِّيَنِي مَا بَقِيَ بَطَلَ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْحَقِّ إلَّا لِيُوَفِّيَهُ بَقِيَّتَهُ ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ بَعْضَ حَقِّهِ بِبَعْضٍ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، الْهِبَةُ .
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ ، فَيَقُولَ قَدْ وَهَبْتُك نِصْفَهَا ، فَأَعْطِنِي بَقِيتهَا .
فَيَصِحُّ ، وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ الْهِبَةِ .
وَإِنْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الشَّرْطِ ، لَمْ يَصِحَّ .
وَهَذَا مَذْهَبُ
الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْهِبَةِ الْوَفَاءَ جَعَلَ الْهِبَةَ عِوَضًا عَنْ الْوَفَاءِ بِهِ ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ بَعْضَ حَقِّهِ بِبَعْضٍ .
وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ الدَّيْنِ ، أَوْ وَهَبَ لَهُ بَعْضَ الْعَيْنِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : صَالِحْنِي بِنِصْفِ دَيْنَك عَلَيَّ ، أَوْ بِنِصْفِ دَارِك هَذِهِ .
فَيَقُولَ : صَالِحَتك بِذَلِكَ .
لَمْ يَصِحَّ ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : يَجُوزُ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجُزْ بِلَفْظِهِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ صُلْحًا ، وَلَا يَبْقَى لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ ، فَلَا يُسَمَّى صُلْحًا ، أَمَّا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ سُمِّيَ صُلْحًا ؛ لِوُجُودِ اللَّفْظِ ، وَإِنْ تَخَلَّفَ الْمَعْنَى ، كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الثَّوَابِ ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي لَفْظُ الصُّلْحِ الْمُعَاوَضَةَ إذَا كَانَ ثَمَّ عِوَضٌ ، أَمَّا مَعَ عَدَمِهِ فَلَا .
وَإِنَّمَا مَعْنَى الصُّلْحِ الِاتِّفَاقُ ، وَالرِّضَى ، وَقَدْ يَحْصُلُ هَذَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ، كَالتَّمْلِيكِ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ سُمِّيَ بَيْعًا ، وَإِنْ خَلَا عَنْ الْعِوَضِ سُمِّيَ هِبَةً .
وَلَنَا أَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ : صَالِحْنِي بِهِبَةِ كَذَا ، أَوْ عَلَى نِصْفِ هَذِهِ الْعَيْنِ ، وَنَحْوُ هَذَا .
فَقَدْ أَضَافَ إلَيْهِ بِالْمُقَابَلَةِ ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ : بِعْنِي بِأَلْفٍ .
وَإِنْ أَضَافَ إلَيْهِ " عَلَى " جَرَى مَجْرَى الشَّرْطِ .
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } .
وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ الشَّرْطِ أَوْ بِلَفْظِ الْمُعَاوَضَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : أَنَّهُ يُسَمَّى صُلْحًا .
مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ سُمِّيَ صُلْحًا فَمَجَازٌ ؛ لِتَضَمُّنِهِ قَطْعَ النِّزَاعِ وَإِزَالَةَ الْخُصُومَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الصُّلْحَ لَا يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ .
قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ .
وَإِنْ سَلَّمْنَا لَكِنَّ الْمُعَاوَضَةَ حَصَلَتْ مِنْ اقْتِرَانِ حَرْفِ الْبَاءِ ، أَوْ عَلَى ، أَوْ نَحْوِهِمَا بِهِ ، فَإِنَّ لَفْظَةَ الصُّلْحِ
تَحْتَاجُ إلَى حَرْفٍ تَعَدَّى بِهِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ ، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
( 3498 ) فَصْل : وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بَيْتًا ، فَصَالَحَهُ عَلَى بَعْضِهِ ، أَوْ عَلَى بِنَاءِ غُرْفَةٍ فَوْقَهُ ، أَوْ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهُ سَنَةً ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ يُصَالِحُهُ مِنْ مِلْكِهِ عَلَى مِلْكِهِ أَوْ مَنْفَعَتِهِ .
وَإِنْ أَسْكَنَهُ كَانَ تَبَرُّعًا مِنْهُ ، مَتَى شَاءَ أَخْرَجَهُ مِنْهَا .
وَإِنْ أَعْطَاهُ بَعْضَ دَارِهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا ، فَمَتَى شَاءَ انْتَزَعَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ إيَّاهُ عِوَضًا عَمَّا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْهُ .
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَالَحَةِ ، مُعْتَقِدًا أَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَجْرِ مَا سَكَنَ وَأَجْرِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، فَأَشْبَهَ الْمَبِيعَ الْمَأْخُوذَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَسُكْنَى الدَّارِ بِإِجَارَةٍ فَاسِدَةٍ .
وَإِنْ بَنَى فَوْقَ الْبَيْتِ غُرْفَةً ، أُجْبِرَ عَلَى نَقْضِهَا ، وَإِذَا آجَرَ السَّطْحَ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي يَدَيْهِ ، فَلَهُ أَخْذُ آلَتِهِ .
وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُصَالِحَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ عَنْ بِنَائِهِ بِعِوَضٍ ، جَازَ .
وَإِنْ بَنَى الْغُرْفَةَ بِتُرَابٍ مِنْ أَرْضِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَآلَاتِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ بِنَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ .
وَإِنْ أَرَادَ نَقْضَ الْبِنَاءِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، إذَا أَبْرَأْهُ الْمَالِكُ مِنْ ضَمَانِ مَا يُتْلَفُ بِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ نَقْضَهُ ، كَقَوْلِنَا فِي الْغَاصِبِ .
( 3499 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَالَحَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً ، صَحَّ .
وَكَانَتْ إجَارَةً .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ .
فَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ فِي السَّنَةِ صَحَّ الْبَيْعُ ، وَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ بَقِيَّةَ السَّنَةِ ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَتِهِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ ، كَمَا لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهَا .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ ، فَلَهُ الْفَسْخُ ؛ لِأَنَّهُ عَيْبٌ .
وَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ ، نَفَذَ عِتْقُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ ، فَصَحَّ عِتْقُهُ لِغَيْرِهِ ، وَلِلْمُصَالِحِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ نَفْعَهُ فِي الْمُدَّةِ ، لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ أَنْ مَلَّكَ مَنْفَعَتَهُ لِغَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقَ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَة لِحُرٍّ .
وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى سَيِّدِهِ بِشَيْءِ ؛ لِأَنَّهُ مَا زَالَ مِلْكُهُ بِالْعِتْقِ إلَّا عَنْ الرَّقَبَةِ ، وَالْمَنَافِعُ حِينَئِذٍ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ ، فَلَمْ تَتْلَفْ مَنَافِعُهُ بِالْعِتْقِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ مَسْلُوبَ الْمَنْفَعَةِ ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَ زَمِنًا أَوْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ ، أَوْ أَعْتَقَ أَمَةً مُزَوَّجَةً ، وَذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى سَيِّدِهِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعِتْقَ اقْتَضَى إزَالَةَ مِلْكِهِ عَنْ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ جَمِيعًا ، فَلَمَّا لَمْ تَحْصُلْ الْمَنْفَعَةُ لِلْعَبْدِ هَاهُنَا ، فَكَأَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْفَعَتِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ إعْتَاقَهُ لَمْ يُصَادِفْ لِلْمُعْتَقِ سِوَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ إلَّا فِيهِ ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِرَقَبَةِ عَبْدٍ وَلِآخَرَ بِنَفْعِهِ ، فَأَعْتَقَ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ ، وَكَمَا لَوْ أَعْتَقَ أَمَةً مُزَوَّجَةً .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ اقْتَضَى زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْمَنْفَعَةِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهِ فَلَا يَقْتَضِي إعْتَاقُهُ إزَالَةَ مَا لَيْسَ
بِمَوْجُودٍ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ مُسْتَحِقٌّ ، تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الصُّلْحِ لِفَسَادِ الْعِوَضِ ، وَرَجَعَ الْمُدَّعِي فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ .
وَإِنْ وَجَدَ الْعَبْدَ مَعِيبًا عَيْبًا تَنْقُصُ بِهِ الْمَنْفَعَةُ ، فَلَهُ رَدَّهُ وَفَسْخُ الصُّلْحِ .
وَإِنْ صَالَحَ عَلَى الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ ، صَحَّ الصُّلْحُ ، وَيَكُونُ بَيْعًا .
وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا خَرَجَ مُسْتَحَقًّا أَوْ ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ ، كَمَا ذَكَرْنَا .
( 3500 ) فَصْل : إذَا ادَّعَى زَرْعًا فِي يَدِ رَجُلٍ ، فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى دَرَاهِمَ ، جَازَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ بِهِ بَيْعُ الزَّرْعِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ .
وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ ، فَأَقَرَّ لَهُ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِهِ ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ اشْتِدَادِ حُبِّهِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَالَحَهُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَلِكَ .
وَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ ؛ لَا يُمْكِنُهُ قَطْعُهُ إلَّا بِقَطْعِ زَرْعِ الْآخَرِ .
وَلَوْ كَانَ الزَّرْعُ لَوَاحِدٍ ، فَأَقَرَّ لِلْمُدَّعِي بِنِصْفِهِ ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَنْهُ بِنِصْفِ الْأَرْضِ لِيَصِيرَ الزَّرْعُ كُلُّهُ لِلْمُقِرِّ ، وَالْأَرْضُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَإِنْ شَرَطَ الْقَطْعَ جَازَ ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ كُلّه لِلْمُقِرِّ ، فَجَازَ شَرْطُ قَطْعِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ فِي الزَّرْعِ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ ، وَهُوَ النِّصْفُ الَّذِي لَمْ يُقِرَّ بِهِ ، وَهُوَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي لَهُ ، فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ قَطْعِهِ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ قَطْعَ زَرْعٍ آخَرَ فِي أَرْضٍ أُخْرَى .
وَإِنْ صَالِحَهُ مِنْهُ بِجَمِيعِ الْأَرْضِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ لِيُسَلِّمَ الْأَرْضَ إلَيْهِ فَارِغَةً ، صَحَّ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ جَمِيعِ الزَّرْعِ مُسْتَحَقٌّ نِصْفُهُ بِحُكْمِ الصُّلْحِ ، وَالْبَاقِي لِتَفْرِيغِ الْأَرْضِ ، فَأَمْكَنَ الْقَطْعُ .
وَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِجَمِيعِ الزَّرْعِ ، فَصَالَحَهُ مِنْ نِصْفِهِ عَلَى نِصْفِ الْأَرْضِ ، لِيَكُونَ الْأَرْضُ وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَشَرَطَ الْقَطْعَ فِي الْجَمِيعِ ، احْتَمَلَ الْجَوَازَ ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ شَرَطَا قَطْعَ كُلِّ الزَّرْعِ وَتَسْلِيمَ الْأَرْضِ فَارِغَةً ، وَاحْتَمَلَ الْمَنْعَ ؛ لِأَنَّ بَاقِيَ الزَّرْعِ لَيْسَ بِمَبِيعٍ ، فَلَا يَصِحُّ شَرْطُ قَطْعِهِ فِي الْعَقْدِ .
( 3501 ) فَصْلٌ : إذَا حَصَلَتْ أَغْصَانُ شَجَرَتِهِ فِي هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ ، أَوْ هَوَاءِ جِدَارٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ ، أَوْ عَلَى نَفْسِ الْجِدَارِ ، لَزِمَ مَالِكَ الشَّجَرَةِ إزَالَةُ تِلْكَ الْأَغْصَانِ ، إمَّا بِرَدِّهَا إلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى ، وَإِمَّا بِالْقَطْعِ ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الْقَرَارَ ، فَوَجَبَ إزَالَةُ مَا يَشْغَلُهُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ كَالْقَرَارِ .
فَإِنْ امْتَنَعَ الْمَالِكُ مِنْ إزَالَته ، لَمْ يُجْبَرْ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى إزَالَتِهِ ، كَمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ .
وَإِنْ تَلِفَ بِهَا شَيْءٌ ، لَمْ يَضْمَنْهُ كَذَلِكَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى إزَالَتِهِ ، وَيَضْمَنَ مَا تَلِفَ بِهِ ، إذَا أُمِرَ بِإِزَالَتِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا مَالَ حَائِطُهُ إلَى مِلْكِ غَيْره ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ ، إذَا امْتَنَعَ مِنْ إزَالَتِهِ كَانَ لِصَاحِبِ الْهَوَاءِ إزَالَتُهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي تَدْخُلُ دَارِهِ ، لَهُ إخْرَاجُهَا ، كَذَا هَاهُنَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
فَإِنْ أَمْكَنَهُ إزَالَتُهَا بِلَا إتْلَافٍ وَلَا قَطْعٍ ، مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ تَلْزَمُهُ وَلَا غَرَامَةٍ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ إتْلَافُهَا ، كَمَا أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَهُ إخْرَاجُ الْبَهِيمَةِ مِنْ غَيْرِ إتْلَافٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ إتْلَافُهَا .
فَإِنْ أَتْلَفَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ غَرِمَهَا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إزَالَتُهَا إلَّا بِالْإِتْلَافِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إقْرَارُ مَالِ غَيْرِهِ فِي مِلْكِهِ .
فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى إقْرَارِهَا بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا .
فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ وَابْنُ عَقِيلٍ : يَجُوزُ ذَلِكَ رَطْبًا كَانَ الْغُصْنُ أَوْ يَابِسًا ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُصَالَحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ ، لِكَوْنِهَا لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ ، بِخِلَافِ الْعِوَضِ ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمِ ؛ لِوُجُوبِ تَسْلِيمِهِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الصُّلْحِ عَنْهُ ،
لِكَوْنِ ذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُتَجَاوِرَةِ ، وَفِي الْقَطْعِ إتْلَافٌ وَضَرَرٌ .
وَالزِّيَادَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ يُعْفَى عَنْهَا ، كَالسِّمَنِ الْحَادِثِ فِي الْمُسْتَأْجَرِ لِلرُّكُوبِ ، وَالْمُسْتَأْجِرِ لِلْغُرْفَةِ يَتَجَدَّدُ لَهُ الْأَوْلَادُ ، وَالْغِرَاسِ الَّذِي يَسْتَأْجِرُ لَهُ الْأَرْضَ يَعْظُمُ وَيَجْفُو .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا تَصِحُّ الْمُصَالَحَةُ عَنْهُ بِحَالٍ ، رَطْبًا كَانَ أَوْ يَابِسًا ؛ لِأَنَّ الرَّطْبَ يَزِيدُ وَيَتَغَيَّرُ وَالْيَابِسُ يَنْقُصُ ، وَرُبَّمَا ذَهَبَ كُلُّهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ يَابِسًا مُعْتَمِدًا عَلَى نَفْسِ الْجِدَارِ ، صَحَّتْ الْمُصَالَحَةُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَأْمُونَةٌ فِيهِ ، وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرَّطْبَ يَزِيدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَمَا لَا يَعْتَمِدُ عَلَى الْجِدَارِ ، لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعُ الْهَوَاءِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَاللَّائِقُ بِمَذْهَبِ أَحْمَدَ صِحَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُصَالَحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَى الْعِلْمِ بِهِ سَبِيلٌ ، وَذَلِكَ لِدُعَاءِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَكَوْنِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمٍ ، وَهَذَا كَذَلِكَ .
وَالْهَوَاءُ كَالْقَرَارِ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِهِ ، فَجَازَ الصُّلْحُ عَلَى مَا فِيهِ ، كَاَلَّذِي فِي الْقَرَارِ .
( 3502 ) فَصْل : وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى إقْرَارِهَا بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْ ثَمَرِهَا ، أَوْ بِثَمَرِهَا كُلُّهُ ، فَقَدْ نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : لَا أَدْرِي .
فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ .
وَنَحْوَهُ .
وَقَالَ مَكْحُولٌ ، فَإِنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّمَا شَجَرَةٍ ظُلِّلَتْ عَلَى قَوْمٍ ، فَهُمْ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَطْعِ مَا ظَلَّلَ ، أَوْ أَكْلِ ثَمَرَهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مَجْهُولٌ ، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ مَجْهُولَةٌ ، وَجُزْؤُهَا مَجْهُولٌ ، وَمِنْ شَرْطِ الصُّلْحِ الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ ، وَلِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ أَيْضًا مَجْهُولٌ ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَتَغَيَّرُ عَلَى مَا أَسْلَفْنَا .
وَوَجْهُ الْأَوَّل ، أَنَّ هَذَا مِمَّا يَكْثُرُ فِي الْأَمْلَاكِ ، وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، وَفِي الْقَطْعِ إتْلَافٌ ، فَجَازَ مَعَ الْجَهَالَةَ ، كَالصُّلْحِ عَلَى مَجْرَى مِيَاهِ الْأَمْطَارِ ، وَالصُّلْحِ عَلَى الْمَوَارِيثِ الدَّارِسَةِ ، وَالْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهَا ، وَيَقْوَى عِنْدِي أَنَّ الصُّلْحَ هَاهُنَا يَصِحُّ ، بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُبِيحُ صَاحِبَهُ مَا بَذَلَ لَهُ ، فَصَاحِبُ الْهَوَاءِ يُبِيحُ صَاحِبَ الشَّجَرَةِ إبْقَاءَهَا ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ قَطْعِهَا وَإِزَالَتِهَا ، وَصَاحِبُ الشَّجَرَةَ يُبِيحُهُ مَا بَذَلَ لَهُ مِنْ ثَمَرَتهَا ، وَلَا يَكُونُ هَذَا بِمَعْنَى الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ بِمَعْدُومٍ وَلَا مَجْهُولٍ ، وَالثَّمَرَةُ فِي حَالِ الصُّلْحِ مَعْدُومَةٌ مَجْهُولَةٌ ، وَلَا هُوَ لَازِمٌ ، بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ عَمَّا بَذَلَهُ ، وَالْعَوْدُ فِيمَا قَالَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ إبَاحَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ : اُسْكُنْ دَارِي ، وَأَسْكُنُ دَارَك .
مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ ، وَلَا ذِكْرِ شُرُوطِ الْإِجَارَةِ ، أَوْ قَوْلِهِ : أَبَحْتُك الْأَكْلَ مِنْ ثَمَرَةِ بُسْتَانِي ،
فَأَبِحْنِي الْأَكْلَ مِنْ ثَمَرَة بُسْتَانِك .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : دَعْنِي أُجْرِي فِي أَرْضِك مَاءً ، وَلَك أَنْ تَسْقِيَ بِهِ مَا شِئْت ، وَتَشْرَبَ مِنْهُ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَهَذَا مِثْلُهُ بَلْ أَوْلَى ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ كَثِيرًا ، وَفِي إلْزَامِ الْقَطْعِ ضَرَرٌ كَبِيرٌ ، وَإِتْلَافُ أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ ، وَفِي التَّرْكِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَصِلُ إلَى صَاحِبِ الْهَوَاءِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، وَنَظَرٌ لِلْفَرِيقَيْنِ ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الْأُصُولِ ، فَكَانَ أَوْلَى .
( 3503 ) فَصْلٌ : وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا امْتَدَّ مِنْ عُرُوقِ شَجَرَةِ إنْسَانٍ إلَى أَرْضِ جَارِهِ ، سَوَاءٌ أَثَّرَتْ ضَرَرًا مِثْلُ تَأْثِيرِهَا فِي الْمَصَانِعِ ، وَطَيِّ الْآبَارِ ، وَأَسَاسِ الْحِيطَانِ أَوْ مَنْعِهَا مِنْ ثَبَاتِ شَجَرٍ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَوْ زَرْعٍ ، أَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي قَطْعِهِ وَالصُّلْحِ عَلَيْهِ كَالْحُكْمِ فِي الْفُرُوعِ ، إلَّا أَنَّ الْعُرُوقَ لَا ثَمَرَ لَهَا ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ مَا نَبَتَ مِنْ عُرُوقِهَا لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، أَوْ جُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ ، فَهُوَ كَالصُّلْحِ عَلَى الثَّمَرِ فِيمَا ذَكَرْنَا ، فَعَلَى قَوْلِنَا ، إذَا اصْطَلَحَا عَلَى ذَلِكَ ، فَمَضَتْ مُدَّةٌ ، ثُمَّ أَبَى صَاحِبُ الشَّجَرَةِ دَفْعَ نَبَاتِهَا إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ ، فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَهُ فِي أَرْضِهِ لِهَذَا ، فَلَمَّا لَمْ يُسَلِّمْهُ لَهُ ، رَجَعَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ ، كَمَا لَوْ بَذَلَهَا بِعِوَضٍ فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَنْ مَالَ حَائِطُهُ إلَى هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ ، أَوْ ذَلِقَ مِنْ أَخْشَابِهِ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَالْحُكْمِ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
( 3504 ) فَصْلٌ : وَإِذَا صَالَحَهُ عَلَى الْمُؤَجَّلِ بِبَعْضِهِ حَالًّا ، لَمْ يَجُزْ ، كَرِهَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عُمَرَ - وَقَالَ : نَهَى عُمَرُ أَنْ تُبَاعَ الْعَيْنُ بِالدَّيْنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمُ وَسَالِمٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ ، وَهُشَيْمٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِسْحَاقُ .
وَرَوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَعَنْ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ ، أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بَأْسًا بِالْعُرُوضِ أَنْ يَأْخُذُهَا مِنْ حَقِّهِ قَبْلَ مَحَلِّهِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا الْعُرُوضَ بِمَا فِي الذِّمَّةِ ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِثَمَنِ مِثْلِهَا .
وَلَعَلَّ ابْنَ سِيرِينَ يَحْتَجُّ بِأَنَّ التَّعْجِيلَ جَائِزٌ وَالْإِسْقَاطَ وَحْدَهُ جَائِزٌ ، فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَوْ فَعَلَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَبْذُلُ الْقَدْرَ الَّذِي يَحُطُّهُ عِوَضًا عَنْ تَعْجِيلِ مَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَبَيْعُ الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ لَا يَجُوزُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ عَشَرَةً حَالَّةً بِعِشْرِينَ مُؤَجَّلَةٍ .
وَلِأَنَّهُ يَبِيعُهُ عَشَرَةً بِعِشْرِينَ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ مَعِيبَةً ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ وَلَا عَقْدٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعٌ بِبَذْلِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ .
وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ جَوَازُهُ فِي الْعَقْدِ ، أَوْ مَعَ الشَّرِكَة كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ .
وَيُفَارِقُ مَا إذَا اشْتَرَى الْعُرُوضَ بِثَمَنِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ عَنْ الْحُلُولِ عِوَضًا ، فَأَمَّا إنْ صَالَحَهُ عَنْ أَلْفٍ حَالَّةٍ بِنِصْفِهَا مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ ، وَتَبَرُّعًا بِهِ ، صَحَّ الْإِسْقَاطُ ، وَلَمْ يَلْزَمْ التَّأْجِيلُ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى ، وَالْإِسْقَاطُ صَحِيحٌ .
وَإِنْ فَعَلَهُ لِمَنْعِهِ مِنْ حَقِّهِ بِدُونِهِ ، أَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْوَفَاءِ ،
لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ أَيْضًا .
عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي هَذَا رِوَايَتَيْنِ ، أَصَحُّهُمَا لَا يَصِحُّ .
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ أَوْلَى ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 3505 ) فَصْل : وَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ الْمَجْهُولِ ، سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا ، إذَا كَانَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي الرَّجُلِ يُصَالِحُ عَلَى الشَّيْءِ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْهُ ، لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يُوقِفَهُ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا لَا يَدْرِي مَا هُوَ ، وَنَقَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ ، إذَا اخْتَلَطَ قَفِيزُ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ شَعِيرٍ ، وَطُحِنَا ، فَإِنْ عَرَفَ قِيمَةَ دَقِيقِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِ الشَّعِيرِ ، بِيعَ هَذَا ، وَأُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةَ مَالِهِ ، إلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ وَيَتَحَالَّا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : الصُّلْحُ الْجَائِزُ هُوَ صُلْحُ الزَّوْجَةِ مِنْ صَدَاقِهَا الَّذِي لَا بَيِّنَةَ لَهَا بِهِ ، وَلَا عِلْمَ لَهَا ، وَلَا لِلْوَرَثَةِ بِمَبْلَغِهِ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا الْمُعَامَلَةُ وَالْحِسَابُ الَّذِي قَدْ مَضَى عَلَيْهِ الزَّمَانُ الطَّوِيلُ ، لَا عِلْمَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ ، فَيَجُوزُ الصُّلْحُ ، بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لَا عِلْمَ لَهُ بِقَدْرِهِ ، جَازَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ صَاحِبُ الْحَقِّ يَعْلَمُ قَدْرَ حَقِّهِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ ، أَوْ لَا عِلْمَ لَهُ .
وَيَقُول الْقَابِضُ : إنْ كَانَ لِي عَلَيْك حَقٌّ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ .
وَيَقُول الدَّافِعُ : إنْ كُنْت أَخَذْت مِنِّي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّك فَأَنْتَ مِنْهُ فِي حِلٍّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى مَجْهُولٍ ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ الْبَيْعِ ، وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ عَلَى مَجْهُولٍ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ : { اسْتِهِمَا ، وَتَوَخَّيَا ، وَلْيَحْلِلْ أَحَدُكُمَا صَاحِبَهُ } .
وَهَذَا صُلْحٌ عَلَى الْمَجْهُولِ .
وَلِأَنَّهُ إسْقَاطُ حَقٍّ ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ ، كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا صَحَّ الصُّلْحُ مَعَ الْعِلْمِ ، وَإِمْكَانِ أَدَاءِ الْحَقِّ بِعَيْنِهِ ، فَلَأَنْ يَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ أَوْلَى ، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَهُمَا طَرِيقٌ إلَى التَّخَلُّصِ وَبَرَاءَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِدُونِهِ ، وَمَعَ الْجَهْلِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ أَفْضَى إلَى ضَيَاعِ الْمَالِ ، عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَالٌ لَا يَعْرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهُ .
وَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ بَيْعًا ، وَلَا فَرْعَ بَيْعٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ إبْرَاءٌ .
وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَهُ بَيْعًا ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِدَلِيلِ بَيْعِ أَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ ، وَطَيِّ الْآبَارِ ، وَمَا مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ ، وَلَوْ أَتْلَفَ رَجُلٌ صُبْرَةَ طَعَامٍ لَا يَعْلَمُ قَدْرَهَا ، فَقَالَ صَاحِبُ الطَّعَامِ لِمُتْلِفِهِ : بِعْتُك الطَّعَامَ الَّذِي فِي ذِمَّتِك بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ ، أَوْ بِهَذَا الثَّوْبِ .
صَحَّ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ فِي الصُّلْحِ مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِهِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، كَالْمُخْتَصِمِينَ فِي مَوَارِيثَ دَارِسَةٍ ، وَحُقُوقٍ سَالِفَةٍ ، أَوْ عَيْنٍ مِنْ الْمَالِ لَا يَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ مِنْهَا ، صَحَّ الصُّلْحُ مَعَ الْجَهَالَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْخَبَرِ وَالْمَعْنَى .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى تَسْلِيمِهِ ، لَمْ يَجُزْ مَعَ الْجَهَالَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ وَاجِبٌ ، وَالْجَهَالَةُ تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ ، وَتُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ ، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الصُّلْحِ ( 3506 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يُمْكِنُهُمَا مَعْرِفَتُهُ ، كَتَرِكَةٍ مَوْجُودَةٍ ، أَوْ يَعْلَمُهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ ، وَيَجْهَلُهُ صَاحِبُهُ ، فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَيْهِ مَعَ الْجَهْلِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إنْ صُولِحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ ثُمُنِهَا ، لَمْ يَصِحَّ .
وَاحْتَجَّ بُقُولِ شُرَيْحٍ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ صُولِحَتْ مِنْ ثُمُنِهَا ، لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا مَا تَرَكَ زَوْجُهَا ، فَهِيَ الرِّيبَةُ كُلُّهَا .
قَالَ : وَإِنْ وَرِثَ قَوْمٌ مَالًا وَدُورًا وَغَيْرَ ذَلِكَ ، فَقَالُوا لَبَعْضِهِمْ : نُخْرِجُك مِنْ الْمِيرَاثِ بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ .
أَكْرَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يُشْتَرَى مِنْهَا شَيْءٌ ، وَهِيَ لَا تَعْلَمُ لَعَلَّهَا تَظُنُّ أَنَّهُ قَلِيلٌ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَثِيرٌ وَلَا يَشْتَرِي حَتَّى تَعْرِفَهُ وَتَعْلَمَ مَا هُوَ ، وَإِنَّمَا يُصَالِحُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَعْرِفُهُ ، وَلَا يَدْرِي مَا هُوَ حِسَابُ بَيْنَهُمَا ، فَيُصَالِحُهُ ، أَوْ يَكُونُ رَجُلٌ يَعْلَمُ مَالَهُ عَلَى رَجُلٍ ، وَالْآخَرُ لَا يَعْلَمُهُ فَيُصَالِحُهُ ، فَأَمَّا إذَا عَلِمَ فَلَمْ يُصَالِحْهُ إنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَهْضِمَ حَقَّهُ وَيَذْهَبَ بِهِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الصُّلْحَ إنَّمَا جَازَ مَعَ الْجَهَالَةِ ، لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ لِإِبْرَاءِ الذِّمَمِ ، وَإِزَالَةِ الْخِصَامِ ، فَمَعَ إمْكَانِ الْعِلْمِ لَا حَاجَةَ إلَى الصُّلْحِ مَعَ الْجَهَالَةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ .
( 3507 ) فَصْل : وَيَصِحُّ الصُّلْحُ عَنْ كُلِّ مَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بَيْعُهُ أَوْ لَا يَجُوزُ ، فَيَصِحُّ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ، وَسُكْنَى الدَّارِ ، وَعَيْبِ الْمَبِيعِ .
وَمَتَى صَالَحَ عَمَّا يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ أَوْ أَقَلَّ ، جَازَ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَسَعِيدَ بْنِ الْعَاصِ بَذَلُوا لِلَّذِي وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ سَبْعَ دِيَاتٍ ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا .
وَلِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ ، فَلَا يَقَعُ الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَتَهُ .
فَأَمَّا إنْ صَالَحَ عَنْ قَتْلِ الْخَطَأِ بِأَكْثَرَ مِنْ دِيَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا ، لَمْ يَجُزْ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ عَبْدًا أَوْ شَيْئًا غَيْرَهُ ، فَصَالَحَ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ مِنْ جِنْسِهَا ، لَمْ يَجُزْ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ الْمُتْلَفِ ، فَجَازَ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرِ مِنْ قِيمَتِهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِذَلِكَ .
وَلَنَا ، أَنَّ الدِّيَةَ وَالْقِيمَةَ ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ مُقَدَّرَةً ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا مِنْ جِنْسِهَا ، كَالثَّابِتَةِ عَنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ أَكْثَرَ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَقَّهُ وَزِيَادَةً لَا مُقَابِلَ لَهَا ، فَيَكُونُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ .
فَأَمَّا إنْ صَالَحَهُ عَلَى غَيْرِ جِنْسِهَا ، بِأَكْثَرَ قِيمَةً مِنْهَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الشَّيْءَ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَقَلَّ .
( 3508 ) فَصْلٌ : وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْمِائَةِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ بِالْإِتْلَافِ ، بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ ، لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَتْ حَالَّةً .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ يَجُوزُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ عَاوَضَ عَنْ الْمُتْلِفِ بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ فَجَازَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْمُتْلَفِ وَهُوَ مِائَةٌ حَالَّةٌ ، الْحَالُّ لَا يَتَأَجَّلُ بِالتَّأْجِيلِ ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنِ ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ .
( 3509 ) فَصْلٌ : وَلَوْ صَالَحَ عَنْ الْقِصَاصِ بِعَبْدٍ ، فَخَرَجَ مُسْتَحَقًّا ، رَجَعَ بِقِيمَتِهِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَإِنْ خَرَجَ حُرًّا فَكَذَلِكَ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَرْجِعُ بِالدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فَاسِدٌ ، فَيَرْجِعُ بِبَذْلِ مَا صَالَحَ عَنْهُ ، وَهُوَ الدِّيَةُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ مَا جَعَلَهُ عِوَضًا ، فَرَجَعَ فِي قِيمَتِهِ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا .
( 3510 ) فَصْل : وَلَوْ صَالَحَ عَنْ دَارٍ أَوْ عَبْدٍ بِعِوَضِ ، فَوَجَدَ الْعِوَضَ مُسْتَحَقًّا أَوْ حُرًّا ، رَجَعَ فِي الدَّارِ وَمَا صَالَحَ عَنْهُ ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ تَالِفًا ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ هَاهُنَا بَيْعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِوَضَ كَانَ مُسْتَحَقًّا أَوْ حُرًّا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا ، فَرَجَعَ فِيمَا كَانَ لَهُ ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِبَيْعٍ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ إسْقَاطِ الْقِصَاصِ .
وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَوَجَدَهُ مَعِيبًا ، فَصَالَحَهُ عَنْهُ بِعَبْدٍ ، فَبَانَ مُسْتَحَقًّا أَوْ حُرًّا ، رَجَعَ بِأَرْشِ الْعَيْبِ .
وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ امْرَأَةً ، فَزَوْجَته نَفْسَهَا عِوَضًا عَنْ أَرْشِ الْعَيْبِ ، فَزَالَ الْعَيْبُ رَجَعَتْ بِأَرْشِهِ ، لَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ ذَلِكَ مَهْرًا لَهَا .
( 3511 ) فَصْلٌ : وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْ الْقِصَاصِ بِحُرٍّ يَعْلَمَانِ حُرِّيَّتَهُ أَوْ عَبْدٍ يَعْلَمَانِ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ ، أَوْ تَصَالَحَا بِذَلِكَ عَنْ غَيْرِ الْقِصَاصِ ، رَجَعَ بِالدِّيَةِ وَبِمَا صَالَحَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ هَاهُنَا بَاطِلٌ يَعْلَمَانِ بُطْلَانَهُ ، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .
( 3512 ) فَصْلٌ : إذَا صَالَحَ رَجُلًا عَلَى مَوْضِعِ قَنَاةٍ مِنْ أَرْضِهِ يَجْرِي فِيهَا مَاءٌ ، بَيَّنَّا مَوْضِعَهَا وَعَرْضَهَا وَطُولَهَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ لَمَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِهِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِ عُمْقِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ الْمَوْضِعَ كَانَ لَهُ إلَى تُخُومِهِ ، فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ فِيهِ مَا شَاءَ .
وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مِنْ أَرْضِ رَبِّ الْأَرْضِ ، مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ عَلَيْهَا ، فَهَذَا إجَارَةٌ لِلْأَرْضِ ، فَيَشْتَرِطُ تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْإِجَارَةِ .
فَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ فِي يَدِ رَجُلٍ بِإِجَارَةٍ ، جَازَ لَهُ أَنْ يُصَالِحَ رَجُلًا عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهَا فِي سَاقِيَةٍ مَحْفُورَةٍ مُدَّةً لَا تُجَاوِزُ مُدَّةَ إجَارَتِهِ .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ السَّاقِيَةُ مَحْفُورَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إحْدَاثُ سَاقِيَةٍ فِي أَرْضٍ فِي يَدِهِ بِإِجَارَةِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْأَرْضُ فِي يَدِهِ وَقْفًا عَلَيْهِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : هُوَ كَالْمُسْتَأْجِرِ ، لَهُ أَنْ يُصَالِحَ إجْرَاءَ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مَحْفُورَةٍ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِيهَا سَاقِيَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا ، إنَّمَا يَسْتَوْفِي مَنْفَعَتَهَا ، كَالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ سَوَاءً .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوْلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ حَفْرُ السَّاقِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَهُ ، وَلَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا كَيْفَمَا شَاءَ ، مَا لَمْ يَنْقُلْ الْمِلْكَ فِيهَا إلَى غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ ، فَكَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا أُذِنَ لَهُ فِي الْحَفْرِ ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ ، فَهَلْ لِمَنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ فَسْخُ الصُّلْحِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا آجَرَهُ مُدَّةً ، فَمَاتَ فِي أَثْنَائِهَا .
فَإِنْ قُلْنَا : لَهُ فَسْخُ الصُّلْحِ .
فَفَسَخَهُ ، رَجَعَ الْمُصَالِحُ عَلَى وَرَثَةِ الَّذِي صَالَحَهُ
بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ .
رَجَعَ مِنْ انْتَقَلَ إلَيْهِ الْوَقْفُ عَلَى الْوَرَثَة .
( 3513 ) فَصْلٌ : وَإِنْ صَالَحَ رَجُلًا عَلَى إجْرَاءِ مَاءِ سَطْحِهِ مِنْ الْمَطَرِ عَلَى سَطْحِهِ أَوْ فِي أَرْضِهِ عَنْ سَطْحِهِ ، أَوْ فِي أَرْضِهِ عَنْ أَرْضِهِ ، جَازَ ، إذَا كَانَ مَا يَجْرِي مَاءً مَعْلُومًا ، إمَّا بِالْمُشَاهَدَةِ ، وَإِمَّا بِمَعْرِفَةِ الْمِسَاحَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَخْتَلِفُ بِصِغَرِ السَّطْحِ وَكِبَرِهِ .
وَلَا يُمَكِّنُ ضَبْطُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ .
وَيُشْتَرَطُ مَعْرِفَةُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجْرِي مِنْهُ الْمَاءُ إلَى السَّطْحِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ .
وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى ذِكْرِ مُدَّةٍ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى هَذَا ، وَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ ، كَمَا فِي النِّكَاحِ ، وَلَا يَمْلِكُ صَاحِبُ الْمَاءِ مَجْرَاهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَسْتَوْفِي بِهِ مَنَافِعَ الْمَجْرَى دَائِمًا ، وَلَا فِي أَكْثَرِ الْمُدَّةِ ، بِخِلَافِ السَّاقِيَةِ ، وَيَخْتَلِفَانِ أَيْضًا فِي أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي السَّاقِيَّةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ ذَلِكَ حَصَلَ بِتَقْدِيرِ السَّاقِيَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُجْرِيَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مَائِهَا ، وَالْمَاءُ الَّذِي عَلَى السَّطْحِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ السَّطْحِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مِنْهُ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ .
وَإِنْ كَانَ السَّطْحُ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ الْمَاءُ مُسْتَأْجَرًا ، أَوْ عَارِيَّةً مَعَ إنْسَانٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى إجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِهِ بِخِلَافِ الْمَاءِ فِي السَّاقِيَةِ الْمَحْفُورَةِ ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تَتَضَرَّرُ بِهِ .
وَإِنْ كَانَ مَاءُ السَّطْحِ يَجْرِي عَلَى أَرْضٍ ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الصُّلْحُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ احْتَاجَ إلَى حَفْرٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ أَرْضَ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَجْعَلُ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْأَرْضِ رَسْمًا ، فَرُبَّمَا ادَّعَى اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهَا .
وَاحْتَمَلَ الْجَوَازَ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى حَفْرٍ ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ مَضَرَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي سَاقِيَةٍ مَحْفُورَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا مُدَّةً لَا تَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ إجَارَتِهِ ، كَمَا قُلْنَا فِي إجْرَاءِ الْمَاءِ فِي السَّاقِيَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 3514 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُجْرِيَ مَاءً فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَرْضٌ لِلزِّرَاعَةِ ، لَهَا مَاءٌ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا أَرْضُ جَارِهِ ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، إحْدَاهُمَا ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَاجَةِ لَا تُبِيحُ مَالَ غَيْرِهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ الزَّرْعُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ، وَلَا الْبِنَاءُ فِيهَا ، وَلَا الِانْتِفَاعُ بِشَيْءِ مِنْ مَنَافِعِهَا الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ قَبْل هَذِهِ الْحَاجَةِ .
وَالْأُخْرَى يَجُوزُ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ خَلِيفَةَ سَاقَ خَلِيجًا مِنْ الْعَرِيضِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ بِهِ فِي أَرْضِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ ، فَأَبَى ، فَقَالَ لَهُ الضَّحَّاكُ : لِمَ تَمْنَعُنِي وَهُوَ مَنْفَعَةٌ لَك ، تَشْرَبُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا ، وَلَا يَضُرُّك ؟ فَأَبَى مُحَمَّدٌ ، فَكَلَّمَ فِيهِ الضَّحَّاكُ عُمَرَ ، فَدَعَا مُحَمَّدَ بْن مَسْلَمَةَ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ .
فَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا وَاَللَّهِ .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لِمَ تَمْنَعُ أَخَاك مَا يَنْفَعُهُ ، وَهُوَ لَك نَافِعٌ ، تَشْرَبُهُ أَوَّلًا وَآخِرًا ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا وَاَللَّهِ .
فَقَالَ عُمَرُ : وَاَللَّهِ لَيَمُرَّنَّ بِهِ وَلَوْ عَلَى بَطْنِك .
فَأَمَرَهُ عُمَرُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ ، فَفَعَلَهُ .
رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " ، وَسَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " .
وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ ، وَقَوْلُ عُمَرَ يُخَالِفُهُ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنُ مَسْلَمَةَ ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ ، فَكَانَ أَوْلَى .
( 3515 ) فَصْلٌ : وَإِنْ صَالَحَ رَجُلًا عَلَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ مِنْ نَهْرِ الرَّجُلِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ، أَوْ مِنْ عَيْنِهِ ، وَقَدَّرَهُ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ بِهِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ بِمَمْلُوكِ ، وَلَا يَجُوزُ ؛ بَيْعُهُ ، فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ .
قَالَ : وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سَهْمٍ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ النَّهْرِ كَالثُّلُثِ أَوْ الرُّبْعِ ، جَازَ ، وَكَانَ بَيْعًا لِلْقَرَارِ ، وَالْمَاءُ تَابِعٌ لَهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عَلَى السَّقْيِ مِنْ نَهْرِهِ وَقَنَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، وَالْمَاءُ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَخَذَهُ فِي قِرْبَتِهِ أَوْ إنَائِهِ ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ بِدَلِيلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَأَشْبَاهِهِ ، وَالصُّلْحِ عَلَى الْمَجْهُولِ .
( 3516 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ ، مِثْلُ أَنْ يُصَالِحَ امْرَأَةً لِتُقِرَّ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ يُحِلُّ حَرَامًا ، وَلِأَنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ بَذْلَ نَفْسِهَا بِعِوَضٍ لَمْ يَجُزْ .
وَإِنْ دَفَعَتْ إلَيْهِ عِوَضًا عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَى لِيَكُفَّ عَنْهَا ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْإِنْكَارِ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ ، وَهَذِهِ لَا يَمِينَ عَلَيْهَا ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعِي بِأَخْذِ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ حَقِّهِ الَّذِي يَدَّعِيه ، وَخُرُوجُ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا قِيمَةَ لَهُ ، وَإِنَّمَا أُجِيزَ الْخَلْع لِلْحَاجَةِ إلَى افْتِدَاءِ نَفْسِهَا .
وَالثَّانِي ، يَصِحُّ .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ مِنْ النِّكَاحِ ، فَجَازَ كَعِوَضِ الْخُلْعِ وَالْمَرْأَةُ تَبْذُلُهُ لِقَطْعِ خُصُومَتِهِ وَإِزَالَةِ شَرِّهِ ، وَرُبَّمَا تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهَا لِكَوْنِ الْحَاكِمِ يَرَى ذَلِكَ ، أَوَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي حَقِّهَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَمَتَى صَالَحَتْهُ عَلَى ذَلِكَ ، ثَبَتَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِإِقْرَارِهَا أَوْ بِبَيِّنَةٍ ، فَإِنْ قُلْنَا : الصُّلْحُ بَاطِلٌ .
فَالنِّكَاحُ بَاقٍ بِحَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ طَلَاقٌ وَلَا خَلَعَ .
وَإِنْ قُلْنَا : هُوَ صَحِيحٌ .
احْتَمَلَ ذَلِكَ أَيْضًا ؛ وَلِذَلِكَ احْتَمَلَ أَنْ تَبِينَ مِنْهُ بِأَخْذِ الْعِوَضِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعِوَضَ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ نِكَاحِهَا ، فَكَانَ خُلْعًا ، كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ فَخَالَعَهَا .
وَلَوْ ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، فَصَالَحَهَا عَلَى مَالٍ لِتَنْزِلَ عَنْ دَعْوَاهَا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا بَذْلُ نَفْسِهَا لِمُطَلِّقِهَا بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِهِ .
وَإِنْ دَفَعَتْ إلَيْهِ مَالًا لِيُقِرَّ بِطَلَاقِهَا ، لَمْ يَجُزْ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي الْآخَرِ يَجُوزُ ، كَمَا لَوْ بَذَلَتْ لَهُ عِوَضًا لِيُطَلِّقهَا ثَلَاثًا .
( 3517 ) فَصْل : وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ ، فَأَنْكَرَهُ ، فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ لِيُقِرَّ لَهُ بِالْعُبُودِيَّةِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يُحِلُّ حَرَامًا ، فَإِنَّ إرْقَاقَ الْحُرِّ نَفْسَهُ لَا يَحِلُّ بِعِوَضِ وَلَا بِغَيْرِهِ .
وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالًا صُلْحًا عَنْ دَعْوَاهُ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ بِمَالِ ، وَيُشْرَعُ لِلدَّافِعِ لِدَفْعِ الْيَمِينِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ ، وَالْخُصُومَةِ الْمُتَوَجِّهَةِ إلَيْهِ .
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفًا ، فَأَنْكَرَهُ فَدَفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا لِيُقِرَّ لَهُ بِالْأَلْفِ ، لَمْ يَصِحَّ .
فَإِنْ أَقَرَّ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَيَرُدُّ مَا أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِإِقْرَارِهِ كَذِبُهُ فِي إنْكَارِهِ ، وَأَنَّ الْأَلْفَ عَلَيْهِ ، فَيَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمُنْكَرُ مَالًا صُلْحًا عَنْ دَعْوَاهُ ، صَحَّ .
وَقَدْ مَضَى ذِكْرُهُ .
( 3518 ) فَصْلٌ : وَلَوْ صَالَحَ شَاهِدًا عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ ، لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ تَلْزَمُ الشَّهَادَةُ بِهِ ، كَدَيْنِ آدَمِي ، أَوْ حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا ، فَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْ ذَلِكَ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ .
الثَّانِي ، أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ .
فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ ذَلِكَ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَقْتُلَهُ وَلَا يَغْصِبَ مَالَهُ .
الثَّالِثُ ، أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى أَنْ لَا يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقِّ لَهُ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ عِوَضِهِ ، كَسَائِرِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ .
وَلَوْ صَالَحَ السَّارِقَ وَالزَّانِيَ وَالشَّارِبَ بِمَالٍ ، عَلَى أَنْ لَا يَرْفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ لِذَلِكَ ، وَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ .
وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ حَدِّ الْقَذْفِ ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضَهُ ، لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ ، فَأَشْبَهَ حَدَّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَهُ ، لَمْ يَجُزْ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ، لِكَوْنِهِ حَقًّا لَيْسَ بِمَالِي ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ إلَى بَدَلَ ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ ، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِتَنْزِيهِ الْعِرْضِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ عِرْضِهِ بِمَالٍ .
وَهَلْ يَسْقُطُ الْحَدُّ بِالصُّلْحِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، مَبْنِيَّانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي كَوْنِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، أَوْ حَقًّا لِآدَمِي ؛ فَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، لَمْ يَسْقُطْ بِصُلْحِ الْآدَمِيِّ وَلَا إسْقَاطِهِ ، كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ سَقَطَ
بِصُلْحِهِ وَإِسْقَاطِهِ ، مِثْل الْقِصَاصِ .
وَإِنْ صَالَحَ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ شُرِعَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ ، سَقَطَ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ ، كَحَدِّ الْقَذْفِ ، إلَّا أَنَّهُ يَسْقُطُ هَاهُنَا وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِكَوْنِهِ حَقًّا لِآدَمِيٍّ .
( 3519 ) فَصْل : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَعَ إلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ جَنَاحًا ؛ وَهُوَ الرَّوْشَنُ يَكُونُ عَلَى أَطْرَافِ خَشَبَةٍ مَدْفُونَةٍ فِي الْحَائِطِ ، وَأَطْرَافُهَا خَارِجَةٌ فِي الطَّرِيقِ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ فِي الْعَادَةِ بِالْمَارَّةِ أَوْ لَا يَضُرُّ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهَا .
سَابَاطًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَهُوَ الْمُسْتَوْفِي لِهَوَاءِ الطَّرِيقِ كُلِّهِ عَلَى حَائِطَيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَائِطَانِ مِلْكَهُ أَوْ لَمْ يَكُونَا ، وَسَوَاءٌ أَذِنَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ جَازَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُهُمْ ، فَجَرَى إذْنُهُ مَجْرَى إذْنِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الدَّرْبِ الَّذِي لَيْسَ بِنَافِدٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا ضَرَرَ فِيهِ ، وَإِنْ عَارَضَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ قَلْعُهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مَنْعَهُ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَقَ بِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُ أَحَدٍ فِيهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ ، فَكَانَ جَائِزًا ، كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَالْجُلُوسِ فِيهَا .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يَضُرُّ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ كَانَ فِي شَارِعٍ تَمُرُّ فِيهِ الْجُيُوشُ وَالْأَحْمَالُ ، فَيَكُونُ بِحَيْثُ إذَا سَارَ فِيهِ الْفَارِسُ وَرُمْحُهُ مَنْصُوبٌ لَا يَبْلُغُهُ .
وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : لَا يُقَدَّرُ بِذَلِكَ ، بَلْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بالعماريات وَالْمَحَامِلِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ بِنَاءٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَبِنَاءِ الدَّكَّةِ أَوْ بِنَاءِ ذَلِكَ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ ، وَيُفَارِقُ الْمُرُورَ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنَّهَا جُعِلَتْ لِذَلِكَ ، وَلَا مَضَرَّةَ فِيهِ ، وَالْجُلُوسُ لَا يَدُومُ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ يُظْلِمُ الطَّرِيقَ ، وَيَسُدُّ الضَّوْءَ ، وَرُبَّمَا سَقَطَ عَلَى الْمَارَّةِ ، أَوْ سَقَطَ
مِنْهُ شَيْءٌ ، وَقَدْ تَعْلُو الْأَرْضُ بِمُرُورِ الزَّمَانِ ، فَيَصْدِمُ رُءُوسَ النَّاسِ ، وَيَمْنَعُ مُرُورَ الدَّوَابِّ بِالْأَحْمَالِ ، وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ إلَّا عَلَى الْمَاشِي ، وَقَدْ رَأَيْنَا مِثْل هَذَا كَثِيرًا ، وَمَا يُفْضِي إلَى الضَّرَرِ فِي ثَانِي الْحَالِ ، يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ ، كَمَا لَوْ أَرَادَ بِنَاءَ حَائِطٍ مَائِلٍ إلَى الطَّرِيقِ يُخْشَى وُقُوعُهُ عَلَى مِنْ يَمُرُّ فِيهَا .
وَعَلَى أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ بِنَاءٌ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ ، لَوْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْضُ أَهْلِهِ لَمْ يَجُزْ ، فَلَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ إلَى هَوَاءِ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ سَاكِنًا ، كَمَا لَا يَجُوزُ إذَا مَنَعَ مِنْهُ .
( 3520 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ فِي الطَّرِيقِ دُكَّانًا ، بِغَيْرِ خِلَافِ نَعْلَمُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا أَوْ غَيْرَ وَاسِعٍ ، سَوَاءٌ أَذِنَ الْإِمَامُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي الْمَارَّةَ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ ، وَيَعْثُرُ بِهِ الْعَاثِرُ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا .
( 3521 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْنِيَ دُكَّانًا ، وَلَا يُخْرِجَ رَوْشَنًا وَلَا سَابَاطًا عَلَى دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ ، إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الدَّرْبِ بَابٌ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الدَّرْبِ بَابٌ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ أَيْضًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ لَهُ إخْرَاجَ الْجَنَاحِ وَالسَّابَاطِ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي الدَّرْبِ اسْتِطْرَاقًا ، فَمَلَكَ ذَلِكَ ، كَمَا يَمْلِكُهُ فِي الدَّرْبِ النَّافِذِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ بِنَاءٌ فِي هَوَاءِ مِلْكِ قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ بَابٌ ، وَلَا نُسَلِّمُ الْأَصْلَ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ .
فَأَمَّا إنْ أَذِنَ أَهْلُ الدَّرْبِ فِيهِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ، فَجَازَ بِإِذْنِهِمْ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَالِكُ وَاحِدًا .
وَإِنْ صَالَحَ أَهْلَ الدَّرْبِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِوَضٍ مَعْلُومٍ ، جَازَ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لِلْهَوَاءِ دُونَ الْقَرَارِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَبْنِي فِيهِ بِإِذْنِهِمْ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ أَذِنُوا لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُمْ ، فَجَازَ لَهُمْ أَخْذُ عِوَضِهِ ، كَالْقَرَارِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ بِشَرْطِ كَوْنِ مَا يُخْرِجُهُ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ فِي الْخُرُوجِ وَالْعُلُوِّ ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَخْرَجَهُ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ ، لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَيَجُوزُ بِإِذْنِهِ ، بِعِوَضِ وَبِغَيْرِهِ ، إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 3522 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْفِرَ فِي الطَّرِيقِ النَّافِذَةِ بِئْرًا لِنَفْسِهِ ، سَوَاءٌ جَعَلَهَا لِمَاءِ الْمَطَرِ ، أَوْ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَإِنْ أَرَادَ حَفْرَهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَنَفْعِهِمْ أَوْ لِنَفْعِ الطَّرِيقِ ، مِثْل أَنْ يَحْفِرَهَا لِيَسْتَقِيَ النَّاسُ مِنْ مَائِهَا ، وَيَشْرَبَ مِنْهُ الْمَارَّةُ ، أَوْ لِيَنْزِلَ فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ عَنْ الطَّرِيقِ ، نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقِ ضَيِّقًا ، أَوْ يَحْفِرَهَا فِي مَمَرِّ النَّاسِ بِحَيْثُ يُخَافُ سُقُوطُ إنْسَانٍ فِيهَا أَوْ دَابَّةٍ ، أَوْ يُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ مَمَرَّهُمْ ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهَا ، وَإِنْ حَفَرَهَا فِي زَاوِيَةٍ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ ، وَجَعَلَ عَلَيْهَا مَا يَمْنَعُ الْوُقُوعَ فِيهَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعٌ بِلَا ضَرَرٍ ، فَجَازَ كَتَمْهِيدِهَا ، وَبِنَاءِ رَصِيفٍ فِيهَا ، فَأَمَّا مَا فَعْلَهُ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ لِقَوْمِ مُعَيَّنِينَ ، فَلَمْ يَجُزْ فِعْلُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ .
كَمَا لَوْ فَعَلَهُ فِي بُسْتَانِ إنْسَانٍ .
وَلَوْ صَالَحَ أَهْلَ الدَّرْبِ عَنْ ذَلِكَ بِعِوَضٍ ، جَازَ ، سَوَاءٌ حَفَرَهَا لِنَفْسِهِ لِيَنْزِل فِيهَا مَاءُ الْمَطَرِ عَنْ دَارِهِ ، أَوْ لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا مَاءً لِنَفْسِهِ ، أَوْ حَفَرَهَا لِلسَّبِيلِ وَنَفْعِ الطَّرِيقِ .
وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ .
( 3523 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْمَيَازِيبِ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ .
وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا إلَى دَرْبٍ نَافِذٍ إلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ إخْرَاجُهُ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اجْتَازَ عَلَى دَارِ الْعَبَّاسِ وَقَدْ نَصَبَ مِيزَابًا عَلَى الطَّرِيقِ ، فَقَلَعَهُ ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : تَقْلَعُهُ وَقَدْ نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ؟ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا نَصَبْته إلَّا عَلَى ظَهْرِي ، وَانْحَنَى حَتَّى صَعِدَ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَنَصَبَهُ .
وَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِغَيْرِهِ فِعْلُهُ ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ .
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، وَلَا يُمْكِنُهُ رَدَّ مَائِهِ إلَى الدَّارِ .
وَلِأَنَّ النَّاسَ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ كَانَ الطَّرِيقِ غَيْرُ نَافِذٍ وَلِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالطَّرِيقِ وَأَهْلِهَا ، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ دَكَّةٍ فِيهَا أَوْ جَنَاحٍ يَضُرُّ بِأَهْلِهَا .
وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ ، فَإِنَّ مَاءَهُ يَقَعُ عَلَى الْمَارَّةِ ، وَرُبَّمَا جَرَى فِيهِ الْبَوْلُ أَوْ مَاءٌ نَجِسٌ فَيُنَجِّسُهُمْ ، وَيَزْلَقُ الطَّرِيقَ ، وَيَجْعَلُ فِيهَا الطِّينَ ، وَالْحَدِيثُ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ فِي دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ ، أَوْ تَجَدَّدَتْ الطَّرِيقُ بَعْدَ نَصْبِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِهِ ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ .
فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَحَ فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ طَاقًا وَلَا بَابًا ، إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ ، وَتَصَرُّفٌ فِيهِ بِمَا يَضُرُّ بِهِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَغْرِزَ فِيهِ وَتَدًا ، وَلَا يُحْدِثَ عَلَيْهِ حَائِطًا وَلَا يَسْتُرَهُ ، وَلَا يَتَصَرَّفَ فِيهِ نَوْعَ تَصَرُّفٍ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْحَائِطِ بِمَا يَضْرِبُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَنَقْضِهِ .
وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي حَائِطِ جَارِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّهُ ؛ إذَا لَمْ يَجُزْ فِيمَا لَهُ فِيهِ حَقٌّ ، فَفِيمَا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ أَوْلَى .
وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ ذَلِكَ بِعِوَضٍ ، جَازَ .
وَأَمَّا الِاسْتِنَادُ إلَيْهِ ، وَإِسْنَادُ شَيْءٍ لَا يَضُرُّهُ إلَيْهِ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ أَشْبَهَ الِاسْتِظْلَالَ بِهِ .
( 3525 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا وَضْعُ خَشَبَةٍ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْحَائِطِ لِضَعْفِهِ عَنْ حَمْلِهِ ، لَمْ يَجُزْ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ؛ لَا ذَكَرْنَا ، وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ .
} وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِ ، إلَّا أَنَّ بِهِ غَنِيَّةً عَنْ وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَيْهِ ، لِإِمْكَانِ وَضْعِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَقَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ أَيْضًا .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ .
لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ كَبِنَاءِ حَائِطٍ عَلَيْهِ .
وَأَشَارَ ابْنُ عَقِيلٍ إلَى جَوَازِهِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَهُ عَلَى جِدَارِهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ الْعَامَّةِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ ، كَأَخْذِ الشِّقْصِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَالْفَسْخِ بِالْخِيَارِ أَوْ بِالْعَيْبِ ، اتِّخَاذِ الْكَلْبِ لِلصَّيْدِ ، وَإِبَاحَةِ السَّلَمِ ، وَرُخَصِ السَّفَرِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
فَأَمَّا إنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى وَضْعِهِ عَلَى حَائِطِ جَارِهِ ، أَوْ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ التَّسْقِيفُ بِدُونِهِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ وَضْعُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ .
وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : لَيْسَ لَهُ وَضْعُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمِلْكِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَزِرَاعَتِهِ .
وَلَنَا ، الْخَبَرُ وَلِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِحَائِطِ جَارِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِهِ ، أَشْبَهَ الِاسْتِنَادَ إلَيْهِ وَالِاسْتِظْلَالَ بِهِ ، وَيُفَارِقُ الزَّرْعَ ، فَإِنَّهُ يَضُرُّ ، وَلَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَاشْتَرَطَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ لِلْجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَلَاثَةُ حِيطَانٍ ، وَلِجَارِهِ حَائِطٌ وَاحِدٌ ، وَلَيْسَ هَذَا فِي كَلَامِ أَحْمَدَ ، إنَّمَا قَالَ ،
فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : لَا يَمْنَعُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ضَرَرٌ ، وَكَانَ الْحَائِطُ يَبْقَى .
وَلِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ التَّسْقِيفُ عَلَى حَائِطَيْنِ إذَا كَانَا غَيْرَ مُتَقَابِلَيْنِ ، أَوْ كَانَ الْبَيْتُ وَاسِعًا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهِ جِسْرًا ثُمَّ يَضَعُ الْخَشَبَ عَلَى ذَلِكَ الْجِسْرِ .
وَالْأَوْلَى اعْتِبَارُهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ اعْتِبَارِ التَّسْقِيفِ بِدُونِهِ .
وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْبَالِغِ وَالْيَتِيمِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَاقِلِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَاَللَّه أَعْلَمُ .
( 3526 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا وَضْعُهُ فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ ، إذَا وُجِدَ الشَّرْطَانِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، الْجَوَازُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ فِي مِلْكِ الْجَارِ ، مَعَ أَنَّ حَقَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالضِّيقِ ، فَفِي حُقُوقِ اللَّه تَعَالَى الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ أَوْلَى .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَجُوزُ .
نَقَلَهَا أَبُو طَالِبٍ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، تُرِكَ فِي حَقِّ الْجَارِ لِلْخَبَرِ الْوَارِدِ فِيهِ ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ فِي غَيْرِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ .
وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَجْهًا لِلْمَنْعِ مِنْ وَضْعِ الْخَشَبِ فِي مِلْكِ الْجَارِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ مِنْ وَضْعِ الْخَشَبِ فِي الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلِلْوَاضِعِ فِيهِ حَقٌّ فَلَأَنْ يُمْنَعَ مَنْ الْمُخْتَصِّ بِغَيْرِهِ أَوْلَى .
وَلِأَنَّهُ إذَا مُنِعَ فِي حَقٍّ لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ حَقَّهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ ؛ لِغِنَى اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ ، فَلَأَنْ يُمْنَعَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ مَعَ شُحِّهِ وَضِيقِهِ أَوْلَى .
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا تُجِيزُونَ فَتْحَ الطَّاقِ وَالْبَابِ فِي الْحَائِطِ ، بِالْقِيَاسِ عَلَى وَضْعِ الْخَشَبِ ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الْخَشَبَ يُمْسِكُ الْحَائِطَ وَيَنْفَعُهُ ، بِخِلَافِ الطَّاقِ وَالْبَابِ ، فَإِنَّهُ يُضْعِفُ الْحَائِطَ ، لِأَنَّهُ يَبْقَى مَفْتُوحًا فِي الْحَائِطِ ، وَاَلَّذِي يَفْتَحُهُ لِلْخَشَبَةِ يَسُدُّهُ بِهَا ، وَلِأَنَّ وَضْعَ الْخَشَبِ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
( 3527 ) فَصْلٌ : وَمَنْ مَلَكَ وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَى حَائِطٍ ، فَزَالَ بِسُقُوطِهِ ، أَوْ قَلْعِهِ أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ ، ثُمَّ أُعِيدَ ، فَلَهُ إعَادَةُ خَشَبِهِ ، لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُجَوِّزَ لِوَضْعِهِ مُسْتَمِرٌّ ، فَاسْتَمَرَّ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ .
وَإِنْ زَالَ السَّبَبُ ، مِثْلُ أَنْ يُخْشَى عَلَى الْحَائِطِ مِنْ وَضْعِهِ عَلَيْهِ ، أَوْ اُسْتُغْنِيَ عَنْ وَضْعِهِ ، لَمْ تَجُزْ إعَادَتُهُ ؛ لِزَوَالِ السَّبَبِ الْمُبِيحِ .
وَإِنْ خِيفَ سُقُوطُ الْحَائِطِ بَعْدَ وَضْعِهِ عَلَيْهِ ، أَوْ اُسْتُغْنِيَ عَنْ وَضْعِهِ ، لَزِمَ إزَالَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْمَالِكِ ، وَيَزُولُ الْخَشَبُ .
وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ ، لَكِنْ اُسْتُغْنِيَ عَنْ إبْقَائِهِ عَلَيْهِ ، لَمْ يَلْزَمْ إزَالَتُهُ ؛ لِأَنَّ فِي إزَالَتِهِ ضَرَرًا بِصَاحِبِهِ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ فِي إبْقَائِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَشِيَ سُقُوطَهُ .
( 3528 ) فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ لَهُ وَضْعُ خَشَبِهِ عَلَى جِدَارِ غَيْرِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ إعَارَتَهُ وَلَا إجَارَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ الْمَاسَّةِ إلَى وَضْعِ خَشَبِهِ ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى وَضْعِ خَشَبِ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ .
وَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ حَقِّهِ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ ، وَلَا الْمُصَالَحَةَ عَنْهُ لِلْمَالِكِ وَلَا لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ مِنْ حَقِّ غَيْرِهِ لِحَاجَتِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ فِيهِ ، كَطَعَامِ غَيْرِهِ إذَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ أَجْلِ الضَّرُورَةِ ، وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ إعَارَةَ الْحَائِطِ ، أَوْ إجَارَتَهُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ هَذَا الْمُسْتَحِقَّ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى مَنْعِ ذِي الْحَقِّ مِنْ حَقِّهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ ، كَمَنْعِهِ .
وَلَوْ أَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْحَقِّ .
وَإِنْ احْتَاجَ إلَى هَدْمِهِ لِلْخَوْفِ مِنْ انْهِدَامِهِ ، أَوْ لِتَحْوِيلِهِ إلَى مَكَان آخَرَ أَوْ لِغَرَضِ صَحِيحٍ مَلَكَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْخَشَبِ إنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّهُ لِلْإِرْفَاقِ بِهِ ، مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الضَّرَرِ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ ، فَمَتَى أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ زَالَ الِاسْتِحْقَاقُ ؛ لِزَوَالِ شَرْطِهِ .
( 3529 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَذِنَ صَاحِبُ الْحَائِطِ لِجَارِهِ فِي الْبِنَاءِ عَلَى حَائِطِهِ ، أَوْ وَضْعِ سُتْرَةٍ عَلَيْهِ ، أَوْ وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِع الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ وَضْعَهُ ، جَازَ ، فَإِذَا فَعَلَ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ ، صَارَتْ الْعَارِيَّةُ لَازِمَةً ، فَإِذَا رَجَعَ الْمُعِيرُ فِيهَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْمُسْتَعِيرَ إزَالَةُ مَا فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ اقْتَضَى الْبَقَاءَ وَالدَّوَامَ ، وَفِي الْقَلْعِ إضْرَارٌ بِهِ ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ الْمُعِيرُ ، كَمَا لَوْ أَعَارَهُ أَرْضًا لِلدَّفْنِ وَالْغِرَاسِ ، لَمْ يَمْلِكْ الْمُطَالَبَةَ بِنَقْلِ الْمَيِّتِ وَالْغِرَاسِ بِغَيْرِ ضَمَانٍ .
وَإِنْ أَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ قَدْ اسْتَحَقَّ تَبْقِيَةَ الْخَشَبِ عَلَيْهِ ، وَلَا ضَرَرَ فِي تَبْقِيَتِهِ .
وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْدَمًا ، فَلَهُ نَقْضُهُ .
وَعَلَى صَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْخَشَبِ إزَالَتُهُ .
وَإِذَا أُعِيدَ الْحَائِطُ لَمْ يَمْلِكْ الْمُسْتَعِيرُ رَدَّ بِنَائِهِ وَخَشَبِهِ إلَّا بِإِذْنِ جَدِيدٍ ، سَوَاءٌ بَنَاهُ بِآلَتِهِ أَوْ غَيْرِهَا .
وَهَكَذَا لَوْ قَلَعَ الْمُسْتَعِيرُ خَشَبًا ، أَوْ سَقَطَ بِنَفْسِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ رَدُّهُ إلَّا بِإِذْنِ مُسْتَأْنَفٍ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْقَلْعِ إنَّمَا كَانَ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ ، وَهَا هُنَا قَدْ حَصَلَ الْقَلْعُ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ شَجَرٌ فَانْقَلَعَ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالُوا فِي الْآخَرِ : ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ بَقَاءَ ذَلِكَ عَلَى التَّأْبِيدِ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْإِبْقَاءَ ضَرُورَةَ دَفْعِ ضَرَرِ الْقَلْعِ ، وَقَدْ حَصَلَ الْقَلْعُ هَاهُنَا ، فَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ .
وَإِنْ قَلَعَ صَاحِبُ الْحَائِطِ ذَلِكَ عُدْوَانًا ، كَانَ لِلْآخَرِ إعَادَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ أُزِيلَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، تَعَدِّيًا مِمَّنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، فَلَمْ يَسْقُطْ الْحَقُّ عَنْهُ بِعُدْوَانِهِ .
وَإِنْ أَزَالَهُ أَجْنَبِيٌّ ، لَمْ يَمْلِكْ صَاحِبُهُ إعَادَتَهُ
بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ زَالَ بِغَيْرِ عُدْوَانٍ ، مِنْهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَقَطَ بِنَفْسِهِ .
( 3530 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي وَضْعِ خَشَبِهِ ، أَوْ الْبِنَاءِ عَلَى جِدَارِهِ بِعِوَضٍ ، جَازَ سَوَاءٌ كَانَ إجَارَةً فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ ، أَوْ صُلْحًا عَلَى وَضْعِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ .
وَمَتَى زَالَ فَلَهُ إعَادَتُهُ ، سَوَاءٌ زَالَ لِسُقُوطِهِ ، أَوْ سُقُوطِ الْحَائِطِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ إبْقَاءَهُ بِعِوَضٍ ، وَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْبِنَاءُ مَعْلُومَ الْعَرْضِ وَالطُّولِ ، وَالسُّمْكِ ، وَالْآلَاتُ مِنْ الطِّينِ وَاللَّبَنِ ، وَالْآجُرُّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ يَخْتَلِفُ فَيُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ .
وَإِذَا سَقَطَ الْحَائِطُ الَّذِي عَلَيْهِ الْبِنَاءُ أَوْ الْخَشَبُ ، فِي أَثْنَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ ، سُقُوطًا لَا يَعُودُ ، انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ ، وَرَجَعَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ .
وَإِنْ أُعِيدَ رَجَعَ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي سَقَطَ الْبِنَاءُ وَالْخَشَبُ عَنْهُ .
وَإِنْ صَالَحَهُ مَالِكُ الْحَائِطِ عَلَى رَفْعِ بِنَائِهِ أَوْ خَشَبِهِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ ، جَازَ كَمَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى وَضْعِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَا صَالَحَهُ بِهِ مِثْلَ الْعِوَضِ الَّذِي صُولِحَ بِهِ عَلَى وَضْعِهِ ، أَوْ أَقَلِّ أَوْ أَكْثَرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا عِوَضٌ عَنْ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ مَسِيلُ مَاءٍ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ، أَوْ مِيزَابٌ ، أَوْ غَيْرُهُ فَصَالَحَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مُسْتَحِقَّ ذَلِكَ بِعِوَضٍ ، لِيُزِيلَهُ عَنْهُ ، جَازَ .
وَإِنْ كَانَ الْخَشَبُ أَوْ الْحَائِطُ قَدْ سَقَطَ ، فَصَالَحَهُ بِشَيْءٍ عَلَى أَنْ لَا يُعِيدَهُ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ مِنْهُ ، جَازَ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ بَيْعٌ .
فَصْل : وَإِذَا وُجِدَ بِنَاؤُهُ أَوْ خَشَبُهُ عَلَى حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ ، أَوْ حَائِطِ جَارِهِ ، وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبُهُ ، فَمَتَى زَالَ فَلَهُ إعَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا الْوَضْعَ بِحَقٍّ مِنْ صُلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَلَا يَزُولُ هَذَا الظَّاهِرُ حَتَّى يُعْلَمَ خِلَافُهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ مَسِيلُ مَائِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ، أَوْ مَجْرَى مَاءِ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ غَيْرِهِ ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا ، فَهُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَهُ بِحَقٍّ فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْيَدِ الثَّابِتَةِ .
وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ ، هَلْ هُوَ بِحَقٍّ أَوْ بِعُدْوَانٍ ؟ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْخَشَبِ وَالْبِنَاءِ وَالْمَسِيلِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ .
( 3532 ) فَصْل : إذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِ أَخَوَيْنِ ، فَأَنْكَرَهُ أَحَدُهُمَا ، وَأَقَرَّ لَهُ الْآخَرُ ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَمَّا أَقَرَّ لَهُ بِعِوَضٍ ، صَحَّ الصُّلْحُ ، وَلِأَخِيهِ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْإِنْكَارُ مُطْلَقًا ، وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ : هَذِهِ لَنَا وَرِثْنَاهَا جَمِيعًا عَنْ أَبِينَا أَوْ أَخِينَا .
فَيُقَال : إذَا كَانَ الْإِنْكَارُ مُطْلَقًا ، كَانَ لَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ ، وَإِنْ قَالَ : وَرِثْنَاهَا عَنْ أَبِينَا .
فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ يَزْعُمُ أَنَّ الْمِلْكَ لِأَخِيهِ الْمُقِرَّ لَمْ يَزُلْ ، وَأَنَّ الصُّلْحَ بَاطِلٌ ، فَيُؤَاخَذُ بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شُفْعَةً .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ لِلْمُدَّعِيَّ حُكْمًا ؛ وَقَدْ رَجَعَ إلَى الْمُقِرِّ بِالْبَيْعِ ، وَهُوَ مُعْتَرَفٌ بِأَنَّهُ بَيْعٌ صَحِيحٌ فَتَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْإِنْكَارُ مُطْلَقًا .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ انْتَقَلَ نَصِيبُ الْمُقِرِّ إلَى الْمُدَّعِي بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ ، فَلَا يَتَنَافَى إنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ ، كَحَالَةِ إطْلَاقِ الْإِنْكَارِ وَهَذَا أَصَحُّ .
( 3533 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا تَدَاعَى نَفْسَانِ جِدَارًا مَعْقُودًا بِبِنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، تَحَالَفَا ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَحْلُولًا مِنْ بِنَائِهِمَا .
وَإِنْ كَانَ مَعْقُودًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا ، كَانَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إذَا تَدَاعَيَا حَائِطًا بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا ، وَتَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مَعْقُودًا بِبِنَائِهِمَا مَعًا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِهِمَا اتِّصَالًا لَا يُمْكِنُ إحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْحَائِطِ ، مِثْلُ اتِّصَالِ الْبِنَاءِ بِالطِّينِ ، كَهَذِهِ الْفَطَائِرِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إحْدَاثُ اتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، أَوْ تَسَاوَيَا فِي كَوْنِهِ مَحْلُولًا مِنْ بِنَائِهِمَا ، أَيْ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِبِنَائِهِمَا الِاتِّصَالَ الْمَذْكُورَ ، بَلْ بَيْنَهُمَا شَقٌّ مُسْتَطِيلٌ ، كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ اللَّذَيْنِ أُلْصِقَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ .
فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الدَّعْوَى ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِ الْحَائِطِ ، أَنَّهُ لَهُ ، وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُهُ عَلَى نِصْفِ الْحَائِطِ ؛ لِكَوْنِ الْحَائِطِ فِي أَيْدِيهِمَا .
وَإِنْ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى جَمِيعِ الْحَائِطِ ، أَنَّهُ لَهُ ، وَمَا هُوَ لِصَاحِبِهِ ، جَازَ ، وَهُوَ بَيْنَهُمَا .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي الْعَيْنِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ مَعَ يَمِينِهِ .
فَإِذَا كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا ، كَانَتْ يَدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِهَا ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي نِصْفِهَا مَعَ يَمِينِهِ .
وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ ، حُكِمَ لَهُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ ، تَعَارَضَتَا ، وَصَارَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لَهُمَا .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ ، وَنَكَلَا عَنْ
الْيَمِينِ ، كَانَ الْحَائِطُ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى مَا كَانَ .
وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا ، وَنَكَلَ الْآخَرُ ، قُضِيَ عَلَى النَّاكِلِ ، فَكَانَ الْكُلُّ لِلْآخَرِ .
وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَهُوَ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : لَا يُرَجَّحُ بِالْعَقْدِ ، وَلَا يُنْظَرُ إلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا الْبِنَاءِ بُنِيَ كُلُّهُ بِنَاءً وَاحِدًا ، فَإِذَا كَانَ بَعْضُهُ لِرَجُلِ ، كَانَ بَقِيَّتُهُ لَهُ ، وَالْبِنَاءُ الْآخَرُ الْمَحْلُولُ ، الظَّاهِرُ أَنَّهُ بُنِيَ وَحْدَهُ ، فَإِنَّهُ لَوْ بُنِيَ مَعَ هَذَا ، كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لِغَيْرِ صَاحِبِ هَذَا الْحَائِطِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَجَّحَ بِهَذَا ، كَالْيَدِ وَالْأَزَجِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَمْ تَجْعَلُوهُ لَهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ لِذَلِكَ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ ، وَلَيْسَ بِيَقِينٍ ، إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بَنَى الْحَائِطَ لِصَاحِبِهِ تَبَرُّعًا مَعَ حَائِطِهِ ، أَوْ كَانَ لَهُ فَوَهَبَهُ إيَّاهُ ، أَوْ بَنَاهُ بِأُجْرَةِ ، فَشُرِعَتْ الْيَمِينُ مِنْ أَجْلِ الِاحْتِمَالِ ، كَمَا شُرِعَتْ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ وَسَائِرِ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ مَعْقُودًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا عَقْدًا يُمْكِنُ إحْدَاثُهُ ، مِثْلُ الْبِنَاءِ بِاللَّبِنِ وَالْآجُرِّ ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَنْزَعَ مِنْ الْحَائِطِ الْمَبْنِيِّ نِصْفَ لَبِنَةٍ أَوْ آجُرَّةً ، أَوْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا لَبِنَةً صَحِيحَةً أَوْ آجُرَّةً صَحِيحَةً تُعْقَدُ بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُرَجَّحُ بِهَذَا ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْحَائِطِ فَعَلَ هَذَا لِيَتَمَلَّكَ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يُرَجَّحُ بِهَذَا الِاتِّصَالِ ، كَمَا يُرَجَّحُ بِالِاتِّصَالِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ إحْدَاثُهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صَاحِبَ الْحَائِطِ لَا يَدَعُ غَيْرَهُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ ، بِنَزْعِ آجُرِّهِ ، وَتَغْيِيرِ بِنَائِهِ ، وَفِعْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى
مِلْكِهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُرَجَّحَ بِهَذَا ، كَمَا يُرَجَّحُ بِالْيَدِ ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ يَدًا عَادِيَةً ، حَدَثَتْ بِالْغَصْبِ أَوْ بِالسَّرِقَةِ أَوْ الْعَارِيَّة أَوْ الْإِجَارَةِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ التَّرْجِيحَ بِهَا .
( 3534 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ لَأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ بِنَاءٌ ، كَحَائِطٍ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ ، أَوْ عَقْدٍ مُعْتَمَدٍ عَلَيْهِ ، أَوْ قُبَّةٍ وَنَحْوهَا فَهُوَ لَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّ وَضْعَ بِنَائِهِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْيَدِ الثَّابِتَةِ عَلَيْهِ ، لِكَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ ، فَجَرَى مَجْرَى كَوْنِ حِمْلِهِ عَلَى الْبَهِيمَةِ وَزَرْعِهِ فِي الْأَرْضِ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتْرُكُ غَيْرَهُ يَبْنِي عَلَى حَائِطِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ سُتْرَةٌ ، وَلَوْ كَانَ فِي أَصْلِ الْحَائِطِ خَشَبَةٌ طَرَفُهَا تَحْتَ حَائِطٍ يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا ، أَوْ لَهُ عَلَيْهَا أَزَجٌ مَعْقُودٌ ، فَالْحَائِطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْخَشَبَةَ لِمَنْ يَنْفَرِدُ بِوَضْعِ بِنَائِهِ عَلَيْهَا ، فَيَكُونُ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا عَلَيْهَا مِنْ الْبِنَاءِ لَهُ .
( 3535 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ لَأَحَدِهِمَا خَشَبٌ مَوْضُوعٌ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا تُرَجَّحُ دَعْوَاهُ بِذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَسْمَحُ بِهِ الْجَارُ .
وَقَدْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَنْعِ مِنْهُ .
وَعِنْدَنَا إنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ التَّمْكِينُ مِنْهُ .
فَلَمْ تُرَجَّحْ بِهِ الدَّعْوَى ، كَإِسْنَادِ مَتَاعِهِ إلَيْهِ ، وَتَجْصِيصِهِ وَتَزْوِيقِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرَجَّحَ بِهِ الدَّعْوَى .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِهِ بِوَضْعِ مَالِهِ عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ الْبَانِيَ عَلَيْهِ وَالزَّارِعَ فِي الْأَرْضِ ، وَوُرُودُ الشَّرْعِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَنْعِ مِنْهُ ، لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ دَلِيلًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ ، بِدَلِيلِ أَنَّا اسْتَدْلَلْنَا بِوَضْعِهِ عَلَى كَوْنِ الْوَضْعِ مُسْتَحَقًّا عَلَى الدَّوَامِ ، حَتَّى مَتَى زَالَ جَازَتْ إعَادَتُهُ ، وَلِأَنَّ كَوْنَهُ مُسْتَحَقًّا تُشْتَرَطُ لَهُ الْحَاجَةُ إلَى وَضْعِهِ ، فَفِيمَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ وَضْعِهِ .
وَأَمَّا السَّمَاحُ بِهِ ، فَإِنَّ أَكْثَرِ النَّاسِ لَا يَتَسَامَحُونَ بِهِ ، وَلِهَذَا لَمَّا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ الْحَدِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { ، طَأْطَئُوا رُءُوسَهُمْ ، كَرَاهَةً لِذَلِكَ ، فَقَالَ : مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ؟ وَاَللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ } .
وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ لَا يُوجِبُونَ التَّمْكِينَ مِنْ هَذَا ، وَيَحْمِلُونَ الْحَدِيثَ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَنْعِ لَا عَلَى تَحْرِيمِهِ .
وَلِأَنَّ الْحَائِطَ يَبْنِي لِذَلِكَ ، فَيُرَجَّحُ بِهِ ، كَالْأَزَجِّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِالْجِذْعِ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يَبْنِي لَهُ ، وَيُرَجَّحُ بِالْجِذْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ يَبْنِي لَهُمَا وَلَنَا ، أَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْحَائِطِ ، فَاسْتَوَى فِي تَرْجِيحِ الدَّعْوَى بِهِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ ، كَالْبِنَاءِ .
( 3536 ) فَصْلٌ : وَلَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِكَوْنِ الدَّوَاخِلِ إلَى أَحَدِهِمَا وَالْخَوَارِجِ وَوُجُوهِ الْآجُرِّ وَالْحِجَارَةِ ، وَلَا كَوْنِ الْآجُرَّةِ الصَّحِيحَةِ مِمَّا يَلِي مِلْكَ أَحَدِهِمَا وَأَقْطَاعِ الْآجُرِّ إلَى مِلْكِ الْآخَرِ ، وَلَا بِمَعَاقِدِ الْقِمْطِ فِي الْخُصِّ ، يَعْنِي عَقْدَ الْخُيُوطِ الَّتِي يُشَدُّ بِهَا الْخُصُّ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : يُحْكَمُ بِهِ لِمَنْ إلَيْهِ وَجْهُ الْحَائِطِ وَمَعَاقِدُ الْقِمْطِ ؛ لِمَا رَوَى نَمِرُ بْنُ حَارِثَةَ التَّمِيمِيُّ ، عَنْ أَبِيهِ { ، أَنَّ قَوْمًا اخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُصٍّ ، فَبَعَثَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، فَحَكَمَ بِهِ لِمَنْ يَلِيهِ مَعَاقِدُ الْقِمْطِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : أَصَبْت ، وَأَحْسَنْت } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ .
وَلِأَنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ مَنْ بَنَى حَائِطًا جَعَلَ وَجْهَ الْحَائِطِ إلَيْهِ .
وَلَنَا ، عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } .
وَلِأَنَّ وَجْهَ الْحَائِطِ وَمَعَاقِدَ الْقِمْطِ إذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إلَى أَحَدِهِمَا ، إذْ لَا
يُمْكِنُ كَوْنُهُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا ، فَبَطَلَتْ دَلَالَتُهُ كَالتَّزْوِيقِ ، وَلِأَنَّهُ يُرَادُ لِلزِّينَةِ ، فَأَشْبَهَ التَّزْوِيقَ .
وَحَدِيثُهُمْ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ النَّقْلِ ، وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
قَالَ الشَّالَنْجِيُّ : ذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ لِأَحْمَدَ ، فَلَمْ يُقْنِعْهُ ، وَذَكَرْته لِإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ ، فَقَالَ : لَيْسَ هَذَا حَدِيثًا .
وَلَمْ يُصَحِّحْهُ .
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ فِيهِ مَقَالٌ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْعُرْفِ لَيْسَ بِصَحِيحِ ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَعْلُ وَجْهِ الْحَائِطِ إلَى خَارِجٍ لِيَرَاهُ النَّاسُ ، كَمَا يَلْبَسُ الرَّجُلُ أَحْسَنَ أَثْوَابِهِ ، أَعْلَاهَا الظَّاهِرُ لِلنَّاسِ ، لِيَرَوْهُ ، فَيَتَزَيَّنُ بِهِ ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ .
( 3537 ) .
فَصْلٌ : وَلَا تُرَجَّحُ الدَّعْوَى بِالتَّزْوِيقِ وَالتَّحْسِينِ ، وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا لَهُ عَلَى الْآجُرِّ سُتْرَةٌ غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُتَسَامَحُ بِهِ ، وَيُمْكِنُ إحْدَاثُهُ .
( 3538 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ ، فِي حَوَائِطِ الْبَيْتِ السُّفْلَانِيِّ ، فَهِيَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُنْتَفِعُ بِهَا ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْبَيْتِ ، فَكَانَتْ لِصَاحِبِهِ .
وَإِنْ تَنَازَعَا حَوَائِطَ الْعُلْوِ ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ ؛ لِذَلِكَ .
وَإِنْ تَنَازَعَا السَّقْفَ ، تَحَالَفَا ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا .
وَبِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ ؛ لِأَنَّ السَّقْفَ عَلَى مِلْكِهِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَا سَرْجًا عَلَى دَابَّةِ أَحَدِهِمَا ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِهَا ، وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ .
وَحُكِيَ عَنْهُ ، أَنَّهُ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَيْهِ ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ السُّكْنَى إلَّا بِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَاجِزٌ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا ، يَنْتَفِعَانِ بِهِ ، غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا اتِّصَالَ الْبُنْيَانِ ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا ، كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ .
وَقَوْلُهُمْ : هُوَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ السُّفْلِ .
يَبْطُلُ بِحِيطَانِ الْعُلْوِ ، وَلَا يُشْبِهُ السَّرْجَ عَلَى الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُ صَاحِبِهَا ، وَلَا يُرَادُ إلَّا لَهَا ، فَكَانَ فِي يَدِهِ .
وَهَذَا السَّقْفُ يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ سَمَاءُ صَاحِبِ السُّفْلِ يُظِلُّهُ ، وَأَرْضُ صَاحِبِ الْعُلْوِ تُقِلُّهُ ، فَاسْتَوَيَا فِيهِ .
( 3539 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ فِي الدَّرَجَةِ الَّتِي يَصْعَدُ مِنْهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَحْتِهَا مِرْفَقٌ لِصَاحِبِ السُّفْلِ ، كَسُلَّمِ مُسَمَّرًا ، أَوْ دَكَّةٍ ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ الْيَدَ وَالتَّصَرُّفَ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهَا مَصْعَدُ صَاحِبِ الْعُلْوِ لَا غَيْرُ .
وَالْعَرْصَةُ الَّتِي عَلَيْهَا الدَّرَجَةُ لَهُ أَيْضًا ؛ لِانْتِفَاعِهِ بِهَا وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَهَا بُنِيَتْ لِأَجْلِهِ ، لِتَكُونَ مَدْرَجًا لِلْعُلْوِ ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ يَدَيْهِمَا عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّهَا سَقْفٌ لِلسُّفْلَانِيِّ ، وَمَوْطِئٌ لِلْفَوْقَانِيِّ ، فَهِيَ كَالسَّقْفِ الَّذِي بَيْنَهُمَا .
وَإِنْ كَانَ تَحْتِهَا طَاقَ صَغِيرٌ لَمْ تُبْنَ الدَّرَجَةُ لِأَجَلِهِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ مِرْفَقًا يُجْعَلُ فِيهِ جُبُّ الْمَاءِ وَنَحْوُهُ ، فَهِيَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ ؛ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِأَجْلِهِ وَحْدَهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ يَدَهُمَا عَلَيْهَا ، وَانْتِفَاعَهُمَا حَاصِلٌ بِهَا ، فَهِيَ كَالسَّقْفِ .
( 3540 ) فَصْلٌ : وَلَوْ تَنَازَعَا مُسَنَّاةً بَيْنَ نَهْرِ أَحَدِهِمَا وَأَرْضِ الْآخَرِ ، تَحَالَفَا ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهَا حَاجِزٌ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا ، فَهِيَ كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ .
( 3541 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا إعَادَتَهُ فَأَبَى الْآخَرُ مُشْتَرَكٌ ، فَانْهَدَمَ ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا إعَادَتَهُ ، فَأَبَى الْآخَرُ ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى إعَادَتِهِ ؟ قَالَ الْقَاضِي : فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يُجْبَرُ .
نَقَلَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَحَرْبٌ ، وَسِنْدِي .
قَالَ الْقَاضِي : هِيَ أَصَحُّ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَعَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُنَا .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَدِيمِ قَوْلَيْهِ .
وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ ، وَصَحَّحَهُ ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ إضْرَارًا ، فَيُجْبَرُ عَلَيْهِ ، كَمَا يُجْبَرُ عَلَى الْقِسْمَةِ إذَا طَلَبَهَا أَحَدُهُمَا ، وَعَلَى النَّقْضِ إذَا خِيفَ سُقُوطُهُ عَلَيْهِمَا ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ } .
وَهَذَا وَشَرِيكُهُ يَتَضَرَّرَانِ فِي تَرْكِ بِنَائِهِ .
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة ، لَا يُجْبَرُ .
نُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ أَقْوَى دَلِيلًا ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي نَفْسِهِ ، فَلَمْ يُجْبَرْ مَالِكُهُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ بِنَاءُ حَائِطٍ ، فَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ، كَالِابْتِدَاءِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو ، إمَّا أَنْ يُجْبَرَ عَلَى بِنَائِهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ ، أَوْ لِحَقِّ جَارِهِ ، أَوْ لِحَقَّيْهِمَا جَمِيعًا ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ لِحَقِّ نَفْسِهِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ ، وَلَا لِحَقِّ غَيْرِهِ ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِ جَارُهُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجَبًا عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَا .
وَفَارَقَ الْقِسْمَةَ ، فَإِنَّهَا دَفْعٌ لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ ، وَالْبِنَاءُ فِيهِ مَضَرَّةٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَامَةِ وَإِنْفَاقِ مَالِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إجْبَارِهِ عَلَى إزَالَةِ الضَّرَرِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ ، إجْبَارُهُ عَلَى إزَالَتِهِ بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ ، بِدَلِيلِ قِسْمَةِ مَا فِي قِسْمَتِهِ ضَرَرٌ .
وَيُفَارِقُ هَدْمَ
الْحَائِطِ إذَا خِيفَ سُقُوطُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ سُقُوطَ حَائِطِهِ عَلَى مَا يُتْلِفُهُ ، فَيُجْبَرُ عَلَى مَا يُزِيلُ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ انْفَرَدَ بِالْحَائِطِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي تَرْكِهِ إضْرَارًا ، فَإِنَّ الضَّرَرَ إنَّمَا حَصَلَ بِانْهِدَامِهِ ، وَإِنَّمَا تَرْكُ الْبِنَاءِ تَرْكٌ لِمَا يَحْصُلُ النَّفْعُ بِهِ ، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْهُ ، بِدَلِيلِ حَالَةِ الِابْتِدَاءِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ إضْرَارٌ ، لَكِنْ فِي الْإِجْبَارِ إضْرَارٌ ، وَلَا يُزَالُ الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْمُمْتَنِعُ لَا نَفْعَ لَهُ فِي الْحَائِطِ ، أَوْ يَكُونُ الضَّرَرُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ النَّفْعِ ، أَوْ يَكُونُ مُعْسِرًا لَيْسَ مَعَهُ مَا يَبْنِي بِهِ ، فَيُكَلَّفُ الْغَرَامَةَ مَعَ عَجْزِهِ عَنْهَا ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ إذَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُجْبَرْ ، فَإِنْ أَرَادَ شَرِيكُهُ الْبِنَاءِ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْحَمْلِ وَرَسْمًا ، فَلَا يَجُوزُ مَنْعُهُ مِنْهُ ، وَلَهُ بِنَاؤُهُ بِأَنْقَاضِهِ إنْ شَاءَ ، وَبِنَاؤُهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَإِنْ بَنَاهُ بِآلَتِهِ وَأَنْقَاضِهِ ، فَالْحَائِطُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ ، كَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ الْمُنْفِقَ عَلَيْهِ إنَّمَا أَنْفَقَ عَلَى التَّالِفِ وَذَلِكَ أَثَرٌ لَا عَيْنٌ يَمْلِكُهَا .
وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَالْحَائِطُ مِلْكُهُ خَاصَّةً ، وَلَهُ مَنْعُ شَرِيكِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَوَضْعِ خَشَبِهِ وَرُسُومِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَهُ .
وَإِذَا أَرَادَ نَقْضَهُ ، فَإِنْ كَانَ بَنَاهُ بِآلَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ نَقْضَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُمَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ [ بِمَا ] فِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِمَا .
وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَلَهُ نَقْضُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً .
فَإِنْ قَالَ شَرِيكُهُ : أَنَا أَدْفَعُ إلَيْك نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَلَا تَنْقُضْهُ .
لَمْ يُجْبَرْ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبِنَاءِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِبْقَاءِ .
وَإِنْ أَرَادَ غَيْرُ الْبَانِي نَقْضَهُ ، أَوْ
إجْبَارَ بَانِيه عَلَى نَقْضِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْ بِنَائِهِ ، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ إجْبَارَهُ عَلَى نَقْضِهِ أَوْلَى ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْحَائِطِ رَسْمُ انْتِفَاعٍ ، وَوَضْعِ خَشَبٍ ، قَالَ لَهُ : إمَّا أَنْ تَأْخُذَ مِنِّي نِصْفَ قِيمَتِهِ ، وَتُمَكِّنَنِي مِنْ انْتِفَاعِي وَوَضْعِ خَشَبِي ، وَإِمَّا أَنْ تَقْلَعَ حَائِطَك ، لِنُعِيدَ الْبِنَاءَ بَيْنَنَا .
فَيَلْزَمُ الْآخَرَ إجَابَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ رُسُومِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِبِنَائِهِ .
وَإِنْ لَمْ يُرِدْ الِانْتِفَاعَ بِهِ ، فَطَالَبَهُ الْبَانِي بِالْغَرَامَةِ أَوْ الْقِيمَةِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبِنَاءِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الْغَرَامَةِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَذِنَ فِي الْبِنَاءِ وَالْإِنْفَاقِ ، فَيَلْزَمُهُ مَا أَذِنَ فِيهِ ، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، فَمَتَى امْتَنَعَ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، أَخَذَ الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ، فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ ، أَوْ إذْنِ الشَّرِيكِ ، رَجَعَ عَلَيْهِ مَتَى قَدَرَ .
وَإِنْ أَرَادَ بِنَاءَهُ ، لَمْ يَمْلِكْ الشَّرِيكُ مَنْعَهُ ، وَمَا أَنْفَقَ ؛ إنْ تَبَرَّعَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ ، وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ بِهِ ، فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِذَلِكَ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَإِنْ بَنَاهُ لِنَفْسِهِ بِآلَتِهِ ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا .
وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً .
فَإِنْ أَرَادَ نَقْضِهِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَرِيكُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ ، فَلَا يَكُونُ لَهُ نَقْضُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُجْبِرَ عَلَى بِنَائِهِ ، فَأَوْلَى أَنْ يُجْبَرَ عَلَى إبْقَائِهِ .
( 3542 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا حَائِطٌ قَدِيمٌ ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ مُبَانَاتِهِ حَائِطًا يَحْجِزُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا ، فَامْتَنَعَ ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ .
رِوَايَةٌ وَاحِدَةً .
وَإِنْ أَرَادَ الْبِنَاءَ وَحْدَهُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبِنَاءُ إلَّا فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ جَارِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ ، وَلَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ مَا لَهُ فِيهِ رَسْمٌ ، وَهَذَا لَا رَسْمَ لَهُ .
وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
( 3543 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ ، وَالْعُلْوُ لِآخَرَ ، فَانْهَدَمَ السَّقْفُ الَّذِي بَيْنَهُمَا ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا الْمُبَانَاةَ مِنْ الْآخَرِ ، فَامْتَنَعَ ، فَهَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى ذَلِكَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، كَالْحَائِطِ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ .
وَإِنْ انْهَدَمَتْ حِيطَانُ السُّفْلِ ، فَطَالَبَهُ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِإِعَادَتِهَا ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ .
إحْدَاهُمَا ، يُجْبَرُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً .
وَالثَّانِيَة ، لَا يُجْبَرُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلْوِ بِنَاءَهُ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ .
عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا .
فَإِنْ بَنَاهُ بِآلَتِهِ ، فَهُوَ عَلَى مَا كَانَ ، وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ : لَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ السُّفْلِ .
يَعْنِي حَتَّى يُؤَدِّيَ الْقِيمَةَ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْكُنَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ الْبَيْتَ إنَّمَا يَبْنِي لِلسُّكْنَى ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ كَغَيْرِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الِانْتِفَاعَ بِالْحِيطَانِ خَاصَّةً ، مِنْ طَرْحِ الْخَشَبِ ، وَسَمْرِ الْوَتَدِ ، وَفَتْحِ الطَّاقِ ، وَيَكُونُ لَهُ السُّكْنَى مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى إنَّمَا هِيَ إقَامَتُهُ فِي فِنَاءِ الْحِيطَانِ ، مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِيهَا ، فَأَشْبَهَ الِاسْتِظْلَالَ بِهَا مِنْ خَارِجِ .
فَأَمَّا إنْ طَالَبَ صَاحِبُ السُّفْلِ بِالْبِنَاءِ ، وَأَبَى صَاحِبُ الْعُلْوِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ ، وَلَا مُسَاعَدَتِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ مِلْكُ صَاحِبِ السُّفْلِ مُخْتَصٌّ بِهِ ، فَلَمْ يُجْبَرْ غَيْرُهُ عَلَى بِنَائِهِ ، وَلَا الْمُسَاعَدَةِ فِيهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عُلْوٌ .
وَالثَّانِيَة ، يُجْبَرُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ وَالْبِنَاءِ مَعَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
الدَّرْدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ حَائِطٌ يَشْتَرِكَانِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ ، أَشْبَهَ الْحَائِطَ بَيْنَ الدَّارَيْنِ .
( 3544 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ حَائِطٌ لِأَحَدِهِمَا ، فَانْهَدَمَ ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ بِنَاءَهُ .
أَوْ الْمُسَاعَدَةَ فِي بِنَائِهِ ، فَامْتَنَعَ ، لَمْ يُجْبَرْ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ مَالِكَهُ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بِنَاءِ مِلْكِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ ، كَحَائِطِ الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُمْتَنِعُ الْآخَرَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بِنَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَلَا الْمُسَاعَدَةَ فِيهِ .
وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا حَائِطُ السُّفْلِ ، حَيْثُ يُجْبَرُ صَاحِبُهُ عَلَى بِنَائِهِ ، مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِمِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ مَلَكَهُ مُسْتَحِقًّا لِإِبْقَائِهِ عَلَى حِيطَانِ السُّفْلِ دَائِمًا ، فَلَزِمَ صَاحِبَ السُّفْلِ تَمْكِينُهُ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ ، وَطَرِيقُهُ الْبِنَاءُ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ بِنَاءَهُ ، أَوْ نَقْضَهُ بَعْدَ بِنَائِهِ ، لَمْ يَكُنْ لِجَارِهِ مَنْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ خَاصَّةً .
وَإِنْ أَرَادَ جَارُهُ بِنَاءَهُ ، أَوْ نَقْضَهُ أَوْ التَّصَرُّفَ فِيهِ ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ .
( 3545 ) فَصْلٌ : وَمَتَى هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ ، أَوْ السَّقْفَ الَّذِي بَيْنَهُمَا ، نَظَرْت ، فَإِنْ خِيفَ سُقُوطُهُ ، وَوَجَبَ هَدْمُهُ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى هَادِمِهِ ، وَيَكُونُ كَمَا لَوْ انْهَدَمَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ الْوَاجِبَ ، وَأَزَالَ الضَّرَرَ الْحَاصِلَ بِسُقُوطِهِ ، وَإِنْ هَدَمَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ ، فَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ سَوَاءٌ هَدَمَهُ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، وَسَوَاءٌ الْتَزَمَ إعَادَتَهُ أَوْ لَمْ يَلْتَزِمْ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ ، فَلَزِمَهُ إعَادَتُهُ .
( 3546 ) فَصْلٌ : فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى بِنَاءِ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
وَمِلْكُهُ بَيْنَهُمَا الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ يُصَالِحُ عَلَى بَعْضِ مِلْكِهِ بِبَعْضٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَارٍ فَصَالَحَهُ عَلَى سُكْنَاهَا .
وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُحَمِّلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا شَاءَ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِجَهَالَةِ الْحِمْلِ فَإِنَّهُ يُحَمِّلُهُ مِنْ الْأَثْقَالِ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِحَمْلِهِ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ جَازَ .
( 3547 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ أَوْ قَنَاةٌ أَوْ دُولَابٌ ، أَوْ نَاعُورَةٌ ، أَوْ عَيْنٌ ، فَاحْتَاجَ إلَى عِمَارَةٍ ، فَفِي إجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ مِنْهُمَا رِوَايَتَانِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهُ يُجْبَرُ هَاهُنَا عَلَى الْإِنْفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ شَرِيكُهُ مِنْ مُقَاسَمَتِهِ ، فَيَضُرُّ بِهِ ، بِخِلَافِ الْحَائِطِ ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُمَا قِسْمَةُ الْعَرْصَةِ .
وَالْأَوْلَى التَّسْوِيَةُ ؛ لِأَنَّ فِي قِسْمَةِ الْعَرْصَةِ إضْرَارًا بِهِمَا وَالْإِنْفَاقُ أَرْفَقُ بِهِمَا ، فَكَانَا سَوَاءً .
وَالْحُكْمُ فِي الدُّولَابِ وَالنَّاعُورَةِ ، كَالْحُكْمِ فِي الْحَائِطِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَمَّا الْبِئْرُ وَالنَّهْرُ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْإِنْقَاقُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُ الْآخَرِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ مِلْكَيْهِمَا ، وَإِنَّمَا أَثَّرَ أَحَدُهُمَا فِي نَقْلِ الطِّينِ مِنْهُ ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ عَيْنُ مَالٍ ، فَأَشْبَهَ الْحَائِطَ إذَا بَنَاهُ بِآلَتِهِ ، وَالْحُكْمُ فِي الرُّجُوعِ بِالنَّفَقَةِ ، كَحُكْمِ الرُّجُوعِ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْحَائِطِ ، عَلَى مَا مَضَى .
( 3548 ) فَصْل : إذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ بَابَانِ فِي زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ ، أَحَدُهُمَا قَرِيبٌ مِنْ بَابِ الزُّقَاقِ وَالْآخَرُ فِي دَاخِلِهِ .
فَلِلْقَرِيبِ مِنْ الْبَابِ نَقْلُ بَابِهِ إلَى مَا يَلِي بَابِ الزُّقَاقِ ؛ لِأَنَّ لَهُ الِاسْتِطْرَاقَ إلَى بَابِهِ الْقَدِيمِ ، فَقَدْ نَقَصَ مِنْ اسْتِطْرَاقِهِ ، وَمَتَى أَرَادَ رَدَّ بَابِهِ إلَى مَوْضِعِهِ الْأَوَّلِ ، كَانَ لَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَسْقُطْ ، وَإِنْ أَرَادَ نَقْلَ بَابِهِ تِلْقَاءَ صَدْرِ الزُّقَاقِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ بَابَهُ إلَى مَوْضِعٍ لَا اسْتِطْرَاقَ لَهُ فِيهِ .
وَيَحْتَمِلُ جَوَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَابَهُ فِي أَوَّلِ الْبِنَاءِ ، فِي أَيْ مَوْضِعٍ شَاءَ ، فَتَرَكَهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُسْقِطُ حَقَّهُ ، كَمَا أَنَّ تَحْوِيلَهُ بَعْدَ فَتْحِهِ لَا يُسْقِطُ ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ حَائِطَهُ كُلَّهُ ، فَلَا يُمْنَعُ مِنْ رَفْعِ مَوْضِعِ الْبَابِ وَحْدَهُ .
فَأَمَّا صَاحِبُ الْبَابِ الثَّانِي ، فَإِنْ كَانَ فِي دَاخِلِ الدَّرْبِ بَابٌ لِآخَرَ ، فَحُكْمُهُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ حُكْمُ صَاحِبِ الْبَابِ الْأَوَّلِ سَوَاءً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَّ بَابٌ آخَرُ ، كَانَ لَهُ تَحْوِيلُ بَابِهِ حَيْثُ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ ، لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيمَا تَجَاوَزَ الْبَابَ الْأَوَّلَ ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ .
وَلَوْ أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْتَحَ فِي دَارِهِ بَابًا آخَرَ ، أَوْ يَجْعَلَ دَارِهِ دَارَيْنِ ، يَفْتَحُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَابًا ، جَازَ ، إذَا وَضَعَ الْبَابَيْنِ فِي مَوْضِعِ اسْتِطْرَاقِهِ .
وَإِنْ كَانَ ظَهْرُ دَارِ أَحَدِهِمَا إلَى شَارِعٍ نَافِذٍ ، أَوْ زُقَاقٍ نَافِذٍ ، فَفَتَحَ فِي حَائِطِهِ بَابًا إلَيْهِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَفِقُ بِمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُ أَحَدٍ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فِي هَذَا إضْرَارٌ بِأَهْلِ الدَّرْبِ ؛ لِأَنَّهُ بِجَعْلِهِ نَافِذًا يَسْتَطْرِقُ إلَيْهِ مِنْ الشَّارِعِ قُلْنَا : لَا يَصِيرُ الدَّرْبُ نَافِذًا ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ دَارُهُ نَافِذَةً ،
وَلَيْسَ لَأَحَدٍ اسْتِطْرَاقُ دَارِهِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ بَابُهُ فِي الشَّارِعِ ، وَظَهْرُ دَارِهِ إلَى الزُّقَاقِ الَّذِي لَا يَنْفُذُ ، فَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا إلَى الزُّقَاقِ لِلِاسْتِطْرَاقِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الدَّرْبِ الَّذِي قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ مِلْكُ أَرْبَابِهِ .
وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا لِغَيْرِ الِاسْتِطْرَاقِ ، أَوْ يَجْعَلَ لَهُ بَابًا يُسَمِّرُهُ ، أَوْ شُبَّاكًا ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ رَفْعُ الْحَائِطِ بِجُمْلَتِهِ ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَيَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ شَكْلَ الْبَابِ مَعَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ رُبَّمَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى حَقِّ الِاسْتِطْرَاقِ ، فَيَضُرُّ بِأَهْلِ الدَّرْبِ ، بِخِلَافِ رَفْعِ الْحَائِطِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ .
( 3549 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ دَارَانِ مُتَلَاصِقَتَانِ ، ظَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى ، وَبَابُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي زُقَاقٍ غَيْرِ نَافِذٍ ، فَرَفَعَ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا ، وَجَعَلَهُمَا دَارًا وَاحِدَةً ، جَازَ .
وَإِنْ فَتَحَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَابًا إلَى الْأُخْرَى ، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّطَرُّقِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى كِلَا الدَّارَيْنِ ، لَمْ يَجُزْ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُثْبِتُ الِاسْتِطْرَاقَ فِي الدَّرْبِ الَّذِي لَا يَنْفُذُ مِنْ دَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِيهِ طَرِيقٌ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا أَدَّى إلَى إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ فِي قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا بِالطَّرِيقِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الدَّارَيْنِ فِي زُقَاقِ الْأُخْرَى .
وَيَحْتَمِلُ جَوَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَهُ رَفْعَ الْحَاجِزِ جَمِيعِهِ ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى ، وَهَذَا أَشْبَهُ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لِلْمَنْعِ مُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا رَفَعَ الْحَائِطَ جَمِيعَهُ .
وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ .
إذَا صَالَحَهُ أَهْلُ الدَّرْبِ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ ، أَوْ أَذِنُوا لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، جَازَ .
( 3550 ) فَصْلٌ : إذَا تَنَازَعَ صَاحِبُ الْبَابَيْنِ فِي الدَّرْبِ ، وَتَدَاعَيَاهُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَابٌ لَغَيْرِهِمَا .
فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا ، أَنَّهُ يُحْكَمُ بِالدَّرْبِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى الْبَابِ الَّذِي يَلِي أَوَّلَهُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ لَهُمَا الِاسْتِطْرَاقَ فِيهِ جَمِيعًا ، وَمَا بَعْدَهُ إلَى صَدْرِ الدَّرْبِ لِلْأُخَرِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطْرَاقَ فِي ذَلِكَ لَهُ وَحْدَهُ ، فَلَهُ الْيَدُ وَالتَّصَرُّفُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، أَنَّ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى أَقْصَى حَائِطِ الْأَوَّلِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ ذَلِكَ لَهُمَا التَّصَرُّفُ فِيهِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَفْتَحَ بَابَهُ فِيمَا شَاءَ مِنْ حَائِطِهِ ، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِنَاءٍ لِلْأَوَّلِ ، وَلَا لَهُ فِيهِ اسْتِطْرَاقٌ .
وَالثَّالِثُ ، يَكُونُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ لَهُمَا جَمِيعًا يَدًا وَتَصَرُّفًا .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَ لِرَجُلِ عُلْوُ خَانٍ ، وَلِآخَرَ سُفْلُهُ ، وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ دَرَجَةٌ فِي أَثْنَاءِ صَحْنِ الْخَانِ ، فَاخْتَلَفَا فِي الصَّحْنِ ، فَمَا كَانَ مِنْ الدَّرَجَةِ إلَى بَابِ الْخَانِ بَيْنَهُمَا ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ إلَى صَدْرِ الْخَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ، أَحَدُهُمَا هُوَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ .
وَالثَّانِي هُوَ بَيْنَهُمَا .
فَإِنْ كَانَتْ الدَّرَجَةُ فِي صَدْرِ الصَّحْنِ ، فَالصَّحْنُ بَيْنَهُمَا ؛ لِوُجُودِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ مِنْهُمَا جَمِيعًا .
فَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ : إنْ صَدْرَ الدَّرْبِ مُخْتَصٌّ بِصَاحِبِ الْبَابِ الصَّدْرَانِيِّ .
لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْهُ ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ دِهْلِيزًا لِنَفْسِهِ ، أَوْ يُدْخِلَهُ فِي دَارِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِجَارِهِ ، وَلَا يَضَعُ عَلَى حَائِطِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لَهُ يَنْفَرِدُ بِهِ .
( 3551 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يَضُرُّ بِجَارِهِ ، نَحْو أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ حَمَّامًا بَيْنَ الدُّورِ ، أَوْ يَفْتَحَ خَبَّازًا بَيْنَ الْعَطَّارِينَ ، أَوْ يَجْعَلَهُ دُكَّانَ قِصَارَةٍ يَهُزُّ الْحِيطَانَ وَيُخَرِّبُهَا ، أَوْ يَحْفِرَ بِئْرًا إلَى جَانِبِ بِئْرِ جَارِهِ يَجْتَذِبُ مَاءَهَا .
وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَة أُخْرَى : لَا يُمْنَعُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ طَبَخَ فِي دَارِهِ أَوْ خَبَزَ فِيهَا ، وَسَلَّمُوا أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الدَّقِّ الَّذِي يَهْدِمُ الْحِيطَانَ وَيَنْثِرُهَا .
وَلَنَا : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } .
وَلِأَنَّ هَذَا إضْرَارٌ بِجِيرَانِهِ ، فَمُنِعَ مِنْهُ ، كَالدَّقِّ الَّذِي يَهُزُّ الْحِيطَانَ وَيَنْثِرُهَا ، وَكَسَقْيِ الْأَرْضِ الَّذِي يَتَعَدَّى إلَى هَدْمِ حِيطَانِ جَارِهِ ، أَوْ إشْعَالِ نَارٍ تَتَعَدَّى إلَى إحْرَاقِهَا .
قَالُوا : هَاهُنَا تَعَدَّتْ النَّارُ الَّتِي أَضْرَمَهَا ، وَالْمَاءُ الَّذِي أَرْسَلَهُ ، فَكَانَ مُرْسِلًا لِذَلِكَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَرْسَلَهُ إلَيْهَا قَصْدًا .
قُلْنَا : وَالدُّخَانُ هُوَ أَجْزَاءُ الْحَرِيقِ الَّذِي أَحْرَقَهُ ، فَكَانَ مُرْسِلًا لَهُ فِي مِلْكِ جَارِهِ ، فَهُوَ كَأَجْزَاءِ النَّارِ وَالْمَاءِ .
وَأَمَّا دُخَانُ الْخُبْزِ وَالطَّبِيخِ ، فَإِنَّ ضَرَرَهُ يَسِيرٌ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، وَتَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ .
( 3552 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ سَطْحُ أَحَدِهِمَا أَعْلَى مِنْ سَطْحِ الْآخَرَ ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى الصُّعُودُ عَلَى سَطْحِهِ عَلَى وَجْهٍ يُشْرِفُ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ ، إلَّا أَنْ يَبْنِيَ سُتْرَةً تَسْتُرُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُهُ عَمَلُ سُتْرَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَاجِزٌ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا ، فَلَا يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ ، كَالْأَسْفَلِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إضْرَارٌ بِجَارِهِ ، فَمُنِعَ مِنْهُ ، كَدَقِّ يَهُزُّ الْحِيطَانَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ جَارَهُ ، وَيَطَّلِعُ عَلَى حُرُمِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ صِيرِ بَابِهِ أَوْ خَصَاصِهِ .
وَقَدْ دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ إلَيْك ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ ، فَفَقَأْت عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْك جُنَاحٌ } .
وَيُفَارِقُ الْأَسْفَلَ ؛ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ لَا يَضُرُّ بِالْأَعْلَى ، وَلَا يَكْشِفُ دَارِهِ .
( 3553 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا عَرْصَةُ حَائِطٍ ، فَاتَّفَقَا عَلَى قَسْمَهَا طُولًا ، جَازَ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ اتَّفَقَا عَلَى قَسْمِهَا طُولًا أَوْ عَرْضًا ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُمَا ، وَلَا تَخْرُجُ عَنْهُمَا .
وَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قَسْمَهَا طُولًا وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ نِصْفُ الطُّولِ فِي جَمِيعِ الْعَرْضِ ، وَلِلْآخَرِ مِثْلُهُ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْقِسْمَةِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ .
فَإِذَا اقْتَسَمَا اقْتَرَعَا ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَخْرُجُ بِهِ الْقُرْعَةُ ، فَإِنْ كَانَ مَبْنِيًّا فَلَا كَلَامَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَبْنِيٍّ ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ فِي نَصِيبِهِ ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُدْخِلَ بَعْضَ عَرْصَتِهِ فِي دَارِهِ فَعَلَ ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَزِيدَ فِي حَائِطِهِ مِنْ عَرْصَتِهِ فَعَلَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ الْحَائِطِ الْمُقَابِلِ لِمِلْكِ شَرِيكِهِ ، وَزَوَالَ مِلْكِ شَرِيكِهِ ، فَيَتَضَرَّرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَائِطٍ يَسْتُرُ مِلْكَهُ ، وَرُبَّمَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَبْنِيَ حَائِطَهُ ، فَيَبْقَى مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكْشُوفًا ، أَوْ يَبْنِيه وَيَمْنَعُ جَارَهُ مِنْ وَضْعِ خَشَبِهِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَا يَرِدُ الشَّرْعُ بِالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا تَمَكَّنَ أَيْضًا مِنْ مَنْعِ شَرِيكِهِ وَضْعَ خَشَبِهِ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ رَسْمُ وَضْعِ خَشَبِهِ ، أَوْ انْتِفَاعٌ بِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ مَنْعَهُ مِنْ رَسْمِهِ ، وَهَا هُنَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَأَمَّا إنْ طَلَبَ قَسْمَهَا عَرْضًا ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْعَرْضِ فِي كَمَالِ الطُّولِ ، نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَتْ الْعَرْصَةُ لَا تَتَّسِعُ لِحَائِطَيْنِ ، لَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ قَسْمِهَا .
وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يُجْبَرُ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهَا عَرْصَةٌ ،
فَأُجْبِرَ عَلَى قَسْمِهَا ، كَعَرْصَةِ الدَّارِ .
وَلَنَا ، أَنَّ فِي قَسْمِهَا ضَرَرًا ، فَلَمْ يُجْبَرْ الْمُمْتَنِعُ مِنْ قَسْمِهَا عَلَيْهِ ، كَالدَّارِ الصَّغِيرَةِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَتْ تَتَّسِعُ لِحَائِطَيْنِ ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَبْنِي فِيهِ حَائِطًا ، فَفِي إجْبَارِ الْمُمْتَنِعِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يُجْبَرُ .
قَالَهُ أَبُو الْخَطَّابِ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْقِسْمَةِ ؛ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْصُلُ لَهُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ ، فَأَشْبَهَ عَرْصَةَ الدَّارِ الَّتِي يَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَبْنِي فِيهِ دَارًا .
وَالثَّانِي ، لَا يُجْبَرُ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ لَا تَقَعُ فِيهَا قُرْعَةٌ ؛ لِأَنَّنَا لَوْ أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا ، لَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَخْرُجَ قُرْعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَلِي مِلْكَ جَارِهِ ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، فَلَوْ أَجْبَرْنَاهُ عَلَى الْقِسْمَةِ لَأَجْبَرْنَاهُ عَلَى أَخْذِ مَا يَلِي دَارِهِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ ، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَهَذَيْنِ .
وَمَتَى اقْتَسَمَا الْعَرْصَةَ طُولًا ، فَبَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ حَائِطًا ، وَبَقِيَتْ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ ، لَمْ يُجْبَرْ أَحَدُهُمَا عَلَى سَدِّهَا ، وَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ سَدِّهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى بِنَاءِ الْحَائِطِ فِي عَرْصَتِهِ .
( 3554 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ ، فَاتَّفَقَا عَلَى قِسْمَتِهِ طُولًا ، جَازَ ، وَيُعَلَّمُ بَيْنَ نَصِيبِهِمَا بِعَلَامَةٍ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى قِسْمَتِهِ عَرْضًا ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا ، فَأَشْبَهَ الْعَرْصَةَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا بِتَمْيِيزِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ ، بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، وَهَا هُنَا لَا يَتَمَيَّزُ ، وَلَا يُمْكِنُ انْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِنَصِيبِهِ مُنْفَرِدًا ؛ لِأَنَّ إنْ وَضَعَ خَشَبَهُ عَلَى أَحَدِ جَانِبَيْ الْحَائِطِ ، كَانَ ثِقْلُهُ عَلَى الْحَائِطِ كُلِّهِ ، وَإِنْ فَتَحَ فِيهِ طَاقًا يُضْعِفُهُ ، ضَعُفَ كُلُّهُ ، وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُهُ ، تَضَرَّرَ النَّصِيبُ الْآخَرُ .
وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قَسَمَهُ وَأَبَى الْآخَرُ ، فَذَكَرَ الْقَاضِي ، أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْحَائِطِ كَالْحُكْمِ فِي عَرْصَتِهِ ، سَوَاءٌ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَسْمِ الْحَائِطِ ، إلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَحَدُهُمَا قَسْمَهُ طُولًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى قَسْمِهِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ قَطَعَاهُ بَيْنَهُمَا ، فَقَدْ أَتْلَفَا جُزْءًا مِنْ الْحَائِطِ ، وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَوْبٌ ، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قَطْعَهُ .
وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ وَعَلَّمَا عَلَامَةَ عَلَى نِصْفِهِ ، كَانَ انْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِنَصِيبِهِ انْتِفَاعًا بِنَصِيبِ الْآخَرِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى قَسْمِ الدَّارِ وَقَسْمِ حَائِطِهَا الْمُحِيطِ بِهَا ، وَكَذَلِكَ قَسْمِ الْبُسْتَانِ وَحَائِطِهِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْقَطْعِ الْمُضِرِّ ، بَلْ يُعَلِّمُهُ بِخَطِّ بَيْنَ نَصِيبِهِمَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاعُ أَحَدِهِمَا بِنَصِيبِ الْآخَرِ وَإِنْ اتَّصَلَ بِهِ ، بِدَلِيلِ الْحَائِطِ الْمُتَّصِلِ فِي دَارَيْنِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ الْحَوَالَةُ ثَابِتَةٌ بِالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ .
أَمَّا السُّنَّةُ ، فَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ، وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي لَفْظٍ { مَنْ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَحْتَلْ } وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ الْحَوَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَاشْتِقَاقِهَا مِنْ تَحْوِيلِ الْحَقِّ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا بَيْعٌ ، فَإِنَّ الْمُحِيلَ يَشْتَرِي مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَالِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَجَازَ تَأْخِيرُ الْقَبْضِ رُخْصَةً ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى الرِّفْقِ ، فَيَدْخُلُهَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِذَلِكَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَقْدُ إرْفَاقٍ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ ، لَيْسَ بِمَحْمُولٍ عَلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمَا جَازَتْ ، لِكَوْنِهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَلَمَّا جَازَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالِ الرَّبَّا بِجِنْسِهِ .
وَلَجَازَتْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ، وَلَجَازَتْ بَيْنَ جِنْسَيْنِ ، كَالْبَيْعِ كُلِّهِ .
وَلِأَنَّ لَفْظَهَا يُشْعِرُ بِالتَّحَوُّلِ لَا بِالْبَيْعِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَدْخُلُهَا خِيَارٌ ، وَتَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، وَهَذَا أَشْبَهُ بِكَلَامِ أَحْمَدَ وَأُصُولِهِ .
وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُحِيلٍ وَمُحْتَالٍ وَمُحَالٍ عَلَيْهِ .
وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا رِضَى الْمُحِيلِ ، بِلَا خِلَافٍ ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ جِهَةُ قَضَائِهِ .
وَأَمَّا الْمُحْتَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُمَا ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 3555 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْحَقِّ ، فَرَضِيَ ، فَقَدْ بَرِئَ الْمُحِيلُ أَبَدًا ) .
مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْحَوَالَةِ شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا ، تَمَاثُلُ الْحَقَّيْنِ ؛ لِأَنَّهَا تَحْوِيلٌ لِلْحَقِّ وَنَقْلٌ لَهُ ، فَيُنْقَلُ عَلَى صِفَتِهِ ، وَيُعْتَبَرُ تَمَاثُلُهُمَا فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا ، الْجِنْسُ .
فَيُحِيلُ مَنْ عَلَيْهِ ذَهَبٌ بِذَهَبٍ ، وَمَنْ عَلَيْهِ فِضَّةٌ بِفِضَّةٍ .
وَلَوْ أَحَالَ مَنْ عَلَيْهِ ذَهَبٌ بِفِضَّةٍ ، أَوْ مَنْ عَلَيْهِ فِضَّةٌ بِذَهَبٍ ، لَمْ يَصِحَّ .
الثَّانِي ، الصِّفَةُ .
فَلَوْ أَحَالَ مَنْ عَلَيْهِ صِحَاحٌ بِمُكَسَّرَةٍ ، أَوْ مَنْ عَلَيْهِ مِصْرِيَّةٌ بِأَمِيرِيَّةٍ ، لَمْ يَصِحَّ .
الثَّالِثُ ، الْحُلُولُ وَالتَّأْجِيلُ .
وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ أَجَلِ الْمُؤَجَّلَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حَالًّا وَالْآخَرُ مُؤَجَّلًا ، أَوْ أُجِّلَ أَحَدُهُمَا إلَى شَهْرٍ وَالْآخَرُ إلَى شَهْرَيْنِ ، لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ .
وَلَوْ كَانَ الْحَقَّانِ حَالَّيْنِ ، فَشَرَطَ عَلَى الْمُحْتَالِ أَنْ يَقْبِضَ حَقَّهُ أَوْ بَعْضَهُ بَعْدَ شَهْرٍ لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ لَا يَتَأَجَّلُ ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ مَا لَوْ كَانَ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةُ ؛ فَكَذَلِكَ إذَا شَرَطَهُ .
وَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ ، وَصَحَّتْ الْحَوَالَةُ ، وَتَرَاضَيَا بِأَنْ يَدْفَعَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ خَيْرًا مِنْ حَقِّهِ ، أَوْ رَضِيَ الْمُحْتَالُ بِدُونِ الصِّفَةِ ، أَوْ رَضِيَ مَنْ عَلَيْهِ الْمُؤَجَّلُ بِتَعْجِيلِهِ ، أَوْ رَضِيَ مَنْ لَهُ الْحَالُ بِإِنْظَارِهِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ ، فَفِي الْحَوَالَةِ أَوْلَى .
وَإِنْ مَاتَ الْمُحِيلُ ، أَوْ الْمُحَالُ ، فَالْأَجَلُ بِحَالِهِ .
وَإِنْ مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ، فَفِي حُلُولِ الْحَقِّ رِوَايَتَانِ ، مَضَى ذِكْرُهُمَا .
الشَّرْطُ الثَّانِي ، أَنْ تَكُونَ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ .
وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يُحِيلَ بِدَيْنٍ [ غَيْرِ ] مُسْتَقِرٍّ ، إلَّا أَنَّ السَّلَمَ لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ وَلَا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ دَيْنَ السَّلَمِ لَيْسَ
بِمُسْتَقَرٍّ لِكَوْنِهِ بِعَرْضِ الْفَسْخِ ، لِانْقِطَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ .
وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصِحَّ إلَّا فِيمَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ ، وَالسَّلَمُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ ، فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } .
وَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِمَالِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَدَائِهِ ، وَيَسْقُطُ بِعَجْزِهِ .
وَتَصِحُّ الْحَوَالَةُ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ غَيْرِ دَيْنٍ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْأَحْرَارِ فِي الْمُدَايِنَات .
وَإِنْ أَحَالَ الْمُكَاتَبُ سَيِّدَهُ بِنَجْمٍ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ ، صَحَّ ، وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمُكَاتَبِ بِالْحَوَالَةِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ .
وَإِنْ أَحَالَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا بِصَدَاقِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ .
وَإِنْ أَحَالَهَا الزَّوْجُ بِهِ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَهُ تَسْلِيمَهُ إلَيْهَا ، وَحَوَالَتُهُ بِهِ تَقُومُ مَقَامَ تَسْلِيمِهِ .
وَإِنْ أَحَالَتْ بِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ .
وَإِنْ أَحَالَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، لَمْ يَصِحَّ ، فِي قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ أَحَالَهُ الْمُشْتَرِي بِهِ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَفَاءِ ، وَلَهُ الْوَفَاءُ قَبْلَ الِاسْتِقْرَارِ .
وَإِنْ أَحَالَ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى عَيْبٍ ، لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ بَاطِلَةً ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ كَانَ ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا ، وَالْبَيْعُ كَانَ لَازِمًا ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ الْجَوَازُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُشْتَرِي .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ الْحَوَالَةُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْجَوَازِ عَيْبُ الْمَبِيعِ ، وَقَدْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْحَوَالَةِ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ أَحَالَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ بِهِ ، ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ ، كَالزَّوْجَةِ يَنْفَسِخُ نِكَاحُهَا بِسَبَبٍ مِنْ
جِهَتِهَا ، أَوْ الْمُشْتَرِي يَفْسَخُ الْبَيْعَ وَيَرُدُّ الْمَبِيعَ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، تَبْطُلُ الْحَوَالَةَ ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي بَقَائِهَا ، وَيَرْجِعُ الْمُحِيلُ بِدَيْنِهِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي ، لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ انْتَقَلَ عَنْ الْمُحِيلِ ، فَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ ، وَثَبَتَ لِلْمُحْتَالِ فَلَمْ يَزُلْ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ ، فَكَأَنَّ الْمُحِيلَ أَقْبَضَ الْمُحْتَالَ دَيْنَهُ ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِهِ ، وَيَأْخُذُ الْمُحْتَالُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
وَسَوَاءٌ تَعَذَّرَ الْقَبْضُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَتَعَذَّرْ .
وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ ، لَمْ يَبْطُلْ ، وَجْهًا وَاحِدًا ، وَيَرْجِعُ الْمُحِيلُ عَلَى الْمُحْتَالِ بِهِ .
( 3556 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَحَالَ مَنْ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ رَجُلًا عَلَى آخَرَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَوَالَةٍ ، بَلْ هِيَ وَكَالَةٌ تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُهَا ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَحَوُّلِ الْحَقِّ وَانْتِقَالِهِ ، وَلَا حَقَّ هَاهُنَا يَنْتَقِلُ وَيَتَحَوَّلُ ، وَإِنَّمَا جَازَتْ الْوَكَالَةُ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى ؛ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْوَكِيلِ مُطَالَبَةَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، كَاسْتِحْقَاقِ الْمُحْتَالِ مُطَالَبَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَتَحُولُ ذَلِكَ إلَى الْوَكِيلِ كَتَحَوُّلِهِ إلَى الْمُحِيلِ .
وَإِنْ أَحَالَ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَلَى مَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، فَلَيْسَتْ حَوَالَةً أَيْضًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
فَلَا يَلْزَمُهُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ ، وَلَا الْمُحْتَالُ قَبُولُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُعَاوَضَةٌ ، وَلَا مُعَاوَضَةَ هَاهُنَا ، وَإِنَّمَا هُوَ اقْتِرَاضٌ .
فَإِنْ قَبَضَ الْمُحْتَالُ مِنْهُ الدَّيْنَ ، رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ .
وَإِنْ أَبْرَأَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا ، لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ ؛ لِأَنَّهَا بَرَاءَةُ لِمَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ الدَّيْنَ ، ثُمَّ وَهَبَهُ إيَّاهُ ، رَجَعَ
الْمُحَالُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُحِيلِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ غَرِمَ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا عَادَ إلَيْهِ الْمَالُ بِعَقْدٍ مُسْتَأْنَفٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ ، لِكَوْنِهِ مَا غَرِمَ عَنْهُ شَيْئًا .
وَإِنْ أَحَالَ مَنْ لَا دَيْنٍ عَلَيْهِ فَهِيَ وَكَالَةٌ فِي اقْتِرَاضٍ وَلَيْسَتْ حَوَالَةً ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إنَّمَا تَكُونُ بِدَيْنٍ عَلَى دَيْنٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
( 3557 ) فَصْلٌ : الشَّرْطُ الثَّالِثُ ، أَنْ تَكُونَ بِمَالٍ مَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ بَيْعًا فَلَا تَصِحُّ فِي مَجْهُولٍ ، وَإِنْ كَانَتْ تُحَوِّلُ الْحَقَّ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا التَّسْلِيمُ ، وَالْجَهَالَةُ تَمْنَعُ مِنْهُ ، فَتَصِحُّ بِكُلِّ مَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ فِي الذِّمَّةِ بِالْإِتْلَافِ مِنْ الْأَثْمَانِ وَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ ، وَلَا تَصِحُّ فِيمَا لَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، وَمِنْ شَرْطِ الْحَوَالَةِ تَسَاوِي الدَّيْنَيْنِ ، فَأَمَّا مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَّمَا غَيْرَ الْمِثْلِيَّاتِ ، كَالْمَذْرُوعِ وَالْمَعْدُودِ ، فَفِي صِحَّةِ الْحَوَالَةِ بِهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ فِيهِ لَا يَتَحَرَّرُ ، وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُهُ بِمِثْلِهِ فِي الْإِتْلَافِ ، وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَالثَّانِي : تَصِحُّ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ ، فَأَشْبَهَ مَالَهُ مِثْلٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُخَرَّجَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا يَقْتَضِي بِهِ قَرْضَ هَذِهِ الْأَمْوَالِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ الدِّيَةِ وَلَهُ عَلَى آخَرَ مِثْلُهَا فِي السِّنِّ ، فَقَالَ الْقَاضِي : تَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِأَقَلِّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فِي السِّنِّ وَالْقِيمَةِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا تَصِحُّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ لَيْسَتْ مِنْ الْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي تُضْمَنُ بِمِثْلِهَا فِي الْإِتْلَافِ ، وَلَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا .
فِي رِوَايَةٍ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ إبِلٌ مِنْ دِيَةٍ ، وَلَهُ عَلَى آخَرَ مِثْلُهَا قَرْضًا ،
فَأَحَالَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : يَرُدُّ فِي الْقَرْضِ قِيمَتَهَا .
لَمْ تَصِحَّ الْحَوَالَةِ ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ .
وَإِنْ قُلْنَا : يَرُدُّ مِثْلَهَا .
اقْتَضَى قَوْلُ الْقَاضِي صِحَّةَ الْحَوَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ عَلَى صِفَتِهِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْخِيرَةَ فِي التَّسْلِيمِ إلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، وَقَدْ رَضِيَ بِتَسْلِيمِ مَا لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ .
وَإِنْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ ، فَاحْتَالَ الْمُقْرِضُ بِإِبِلِ الدِّيَةِ ، لَمْ تَصِحَّ ؛ لِأَنَّنَا إنْ قُلْنَا : تَجِبُ الْقِيمَةُ فِي الْقَرْضِ .
فَقَدْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ .
وَإِنْ قُلْنَا : يَجِبُ الْمِثْلُ .
فَلِلْمُقْرِضِ مِثْلُ مَا أَقْرَضَ فِي صِفَاتِهِ وَقِيمَتِهِ ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الدِّيَةُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ .
( 3558 ) فَصْلٌ : الشَّرْطُ الرَّابِعُ ، أَنْ يُحِيلَ بِرِضَائِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ مِنْ جِهَةِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا فَإِذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُ الْحَوَالَةِ وَصَحَّتْ ، بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْحَوَالَةَ بَرَاءَةً إلَّا أَنْ يُبْرِئَهُ .
وَعَنْ زَفَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَنْقُلُ الْحَقَّ .
وَأَجْرَاهَا مَجْرَى الضَّمَانِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ تَحْوِيلِ الْحَقِّ ، بِخِلَافِ الضَّمَانِ ، فَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ ضَمِّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ .
فَعُلِّقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مُقْتَضَاهُ ، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ .
إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ انْتَقَلَ ، فَمَتَى رَضِيَ بِهَا الْمُحْتَالُ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْيَسَارَ ، لَمْ يَعُدْ الْحَقُّ إلَى الْمُحِيلِ أَبَدًا ، سَوَاءٌ أَمْكَنَ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ ، أَوْ تَعَذَّرَ لِمَطْلٍ أَوْ فَلَسٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا ، وَلَمْ يَعْلَمْ
الْمُحْتَالُ بِذَلِكَ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ ، إلَّا أَنْ يَرْضَى بَعْدَ الْعِلْمِ .
وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ الْفَلَسَ عَيْبٌ فِي الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً ، وَلِأَنَّ الْمُحِيلَ غَرَّهُ ، فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ ، كَمَا لَوْ دَلَّسَ الْمَبِيعَ .
وَقَالَ شُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ : مَتِّي أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ ، رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي حَالَيْنِ ؛ إذَا مَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا ، وَإِذَا جَحَدَهُ وَحَلَفَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَرْجِعُ عَلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ ، وَإِذَا حُجِرَ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أُحِيلَ بِحَقِّهِ ، فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَقَالَ : يَرْجِعُ بِحَقِّهِ ، لَا تَوَى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَمْ يَسْلَمْ الْعِوَضُ فِيهِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ ، فَكَانَ لَهُ الْفَسْخُ ، كَمَا لَوْ اعْتَاضَ بِثَوْبٍ فَلَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ حَزْنًا جَدَّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، كَانَ لَهُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَيْنٌ ، فَأَحَالَهُ بِهِ ، فَمَاتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ، فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : اخْتَرْت عَلَيْنَا ، أَبْعَدَك اللَّهُ .
فَأَبْعَدَهُ بِمُجَرَّدِ احْتِيَالِهِ ، وَلَمْ يُخْبِرُهُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ .
وَلِأَنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ دَيْنٍ لَيْسَ فِيهَا قَبْضٌ مِمَّنْ عَلَيْهِ ، وَلَا مِمَّنْ يَدْفَعُ عَنْهُ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا رُجُوعٌ ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ ، وَحَدِيثُ عُثْمَانَ لَمْ يَصِحَّ ، يَرْوِيه خَالِدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ عُثْمَانَ ، وَلَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُ مِنْهُ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : فِي حَوَالَةٍ أَوْ كَفَالَةٍ .
وَهَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ ، وَلَا يَصِحُّ ، وَلَوْ صَحَّ كَانَ قَوْلُ عَلِيٍّ مُخَالِفًا لَهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ مُعَاوَضَةٌ .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى بَيْعِ
الدَّيْنِ ، بِالدَّيْنِ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَيُفَارِقُ الْمُعَاوَضَةَ بِالثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَبْضًا يَقِفُ اسْتِقْرَارُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ، وَهَا هُنَا الْحَوَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ ، وَإِلَّا كَانَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ .
( 3559 ) فَصْلٌ : فَإِنْ شَرَطَ مُلَاءَةَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، فَبَانَ مُعْسِرًا ، رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ .
وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لَا تُرَدُّ بِالْإِعْسَارِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُلَاءَةَ ، فَلَا تُرَدُّ بِهِ ، وَإِنْ شَرَطَ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ كَوْنَهُ مُسْلِمًا ، وَيُفَارِقُ الْبَيْعَ ؛ فَإِنَّ الْفَسْخَ يَثْبُتُ بِالْإِعْسَارِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ } .
وَلِأَنَّهُ شَرَطَ مَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْعَقْدِ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، فَيَثْبُتُ الْفَسْخُ بِفَوَاتِهِ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ صِفَةً فِي الْمَبِيعِ ، وَقَدْ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ مَا لَا يَثْبُتُ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ ، بِدَلِيلِ اشْتِرَاطِ صِفَةٍ فِي الْمَبِيعِ .
( 3560 ) فَصْلٌ : وَلَوْ لَمْ يَرْضَ الْمُحْتَالُ بِالْحَوَالَةِ ، ثُمَّ بَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا أَوْ مَيِّتًا ، رَجَعَ عَلَى الْمُحِيلِ ، بِلَا خِلَافٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الِاحْتِيَالُ عَلَى غَيْرِ مَلِيءٍ لِمَا عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ ، وَإِنَّمَا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ إذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ ، } وَلَوْ أَحَالَهُ عَلَى مَلِيءٍ فَلَمْ يَقْبَلْ حَتَّى أَعْسَرَ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ أَيْضًا ، عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ؛ لِكَوْنِهِ اشْتَرَطَ فِي بَرَاءَةِ الْمُحِيل إبْدَاءَ رِضَى الْمُحْتَالِ .
( 3561 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ أُحِيلَ بِحَقِّهِ عَلَى مَلِيءٍ ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَالَ ) الْمَلِيءُ : هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْوَفَاءِ .
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : مَنْ يُقْرِضُ الْمَلِيءَ غَيْرَ الْمُعْدِمِ .
} وَقَالَ الشَّاعِرُ : تُطِيلِينَ لَيَّانِي وَأَنْتِ مَلِيئَة وَأُحْسِنُ يَا ذَاتَ الْوِشَاحِ التَّقَاضِيَا يَعْنِي قَادِرَةٌ عَلَى وَفَائِي .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِرَقِيِّ أَرَادَ بِالْمَلِيءِ هَاهُنَا الْقَادِرَ عَلَى الْوَفَاءِ غَيْرَ الْجَاحِدِ وَلَا الْمُمَاطِلِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي تَفْسِيرِ الْمَلِيءِ ، كَأَنَّ الْمَلِيءَ عِنْدَهُ ، أَنْ يَكُونَ مَلِيًّا بِمَالِهِ وَقَوْلِهِ وَبَدَنِهِ وَنَحْو هَذَا .
فَإِذَا أُحِيلَ عَلَى مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ لَزِمَ الْمُحْتَالَ وَالْمُحَالَ عَلَيْهِ الْقَبُولُ ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ رِضَاهُمَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْتَبَرُ رِضَاهُمَا ؛ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ ، فَيُعْتَبَرُ الرِّضَا مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُعْتَبَرُ رِضَى الْمُحْتَالِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ ، فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِالدَّيْنِ عَرْضًا .
فَأَمَّا الْمُحَالُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَالُ عَدُوَّهُ .
وَلِلشَّافِعِي فِي اعْتِبَارِ رِضَائِهِ قَوْلَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : يُعْتَبَرُ .
وَهُوَ يَحْكِي عَنْ الزُّهْرِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ مَنْ تَتِمُّ بِهِ الْحَوَالَةُ ، فَأَشْبَهَ الْمُحِيلَ .
وَالثَّانِي : لَا يُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ مَقَامَ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى رِضَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ كَالتَّوْكِيلِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } .
وَلِأَنَّ لِلْمُحِيلِ أَنْ يُوَفِّيَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَبِوَكِيلِهِ ، وَقَدْ أَقَامَ الْمُحَالَ عَلَيْهِ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي التَّقْبِيضِ فَلَزِمَ الْمُحَالَ
الْقَبُولُ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي إبْقَائِهِ ، وَفَارَقَ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ عَرْضًا ؛ لِأَنَّهُ يُعْطِيه غَيْرَ مَا وَجَبَ لَهُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ .
( 3562 ) فَصْلٌ : إذَا أَحَالَ رَجُلًا عَلَى زَيْدٍ بِأَلْفٍ ، فَأَحَالَهُ زَيْدٌ بِهَا عَلَى عَمْرٍ فَالْحَوَالَةُ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الثَّانِي ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الذِّمَّةِ ، فَصَحَّ أَنْ يُحِيلَ بِهِ ، كَالْأَوَّلِ .
وَهَكَذَا لَوْ أَحَالَ الرَّجُلُ عَمْرًا عَلَى زَيْدٍ بِمَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ ، صَحَّ أَيْضًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَتَكَرُّرُ الْمُحْتَالِ وَالْمُحِيلِ لَا يَضُرُّ .
( 3563 ) فَصْلٌ : إذَا اشْتَرَى عَبْدًا ، فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ ، ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ مُسْتَحَقًّا ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَالْحَوَالَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا ثَمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ حُرِّيَّته بِبَيِّنَةٍ أَوْ اتِّفَاقِهِمْ ، فَإِنْ اتَّفَقَ الْمُحِيلُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ عَلَى حُرِّيَّته ، وَكَذَّبَهُمَا الْمُحْتَالُ ، وَلَا بَيِّنَةَ بِذَلِكَ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا يُبْطِلَانِ حَقَّهُ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ ، ثُمَّ اعْتَرَفَ هُوَ وَبَائِعُهُ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي ، وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً ، لَمْ تُسْمَعْ ؛ لِأَنَّهُمَا كَذَّبَاهَا بِدُخُولِهِمَا فِي التَّبَايُعِ .
وَإِنْ أَقَامَ الْعَبْدُ بَيِّنَةً بِحُرِّيَّتِهِ ، قُبِلَتْ ، وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ .
وَإِنْ صَدَّقَهُمَا الْمُحْتَالُ ، وَادَّعَى أَنَّ الْحَوَالَةَ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْعَبْدِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ صِحَّةُ الْحَوَالَةِ ، وَهُمَا يَدَّعِيَانِ بُطْلَانَهَا ، فَكَانَتْ جَنْبَتُهُ أَقْوَى .
فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ بِالثَّمَنِ ، قُبِلَتْ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُكَذِّبَاهَا .
وَإِنْ اتَّفَقَ الْمُحِيلُ وَالْمُحْتَالُ عَلَى حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ ، وَكَذَّبَهُمَا الْمُحَالُ عَلَيْهِ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا عَلَيْهِ فِي حُرِّيَّةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى غَيْرِهِمَا ، وَتَبْطُلُ الْحَوَالَةُ ؛ لِاتِّفَاقِ الْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ وَالرَّاجِعِ بِهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الرُّجُوعِ ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ يَعْتَرِفُ لِلْمُحْتَالِ بِدَيْنٍ لَا يُصَدِّقُهُ فِيهِ ، فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا .
وَإِنْ اعْتَرَفَ الْمُحْتَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ عَتَقَ ؛ لِإِقْرَارِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ بِحُرِّيَّتِهِ ، وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ مَعَهُ فِي الْحَوَالَةِ اعْتِرَافٌ بِبَرَاءَتِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ
الرُّجُوعُ عَلَيْهِ .
( 3564 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا ، فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى آخَرَ ، فَقَبَضَهُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، ثُمَّ رَدَّ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ بِعَيْبٍ ، أَوْ مُقَايَلَةٍ ، أَوْ اخْتِلَافٍ فِي ثَمَنٍ ، فَقَدْ بَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ بِإِذْنِهِ ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ .
وَإِنْ رَدَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ ، وَيَعُودُ الْمُشْتَرِي إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَيَبْرَأُ الْبَائِعُ ، فَلَا يَبْقَى لَهُ دَيْنٌ وَلَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِالثَّمَنِ ، وَقَدْ سَقَطَ بِالْفَسْخِ ، فَيَجِبُ أَنْ تَبْطُلَ الْحَوَالَةُ لِذَهَابِ حَقِّهِ مِنْ الْمَالِ الْمُحَالِ بِهِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ عَوَّضَ الْبَائِعَ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ مَالَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَنَقَلَ حَقَّهُ إلَيْهِ نَقْلًا صَحِيحًا ، وَبَرِئَ مِنْ الثَّمَنِ ، وَبَرِئَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْمُشْتَرِي ، فَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِفَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ بِالثَّمَنِ ثَوْبًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ، فَسَخَ الْعَقْدَ ، لَمْ يَرْجِعْ بِالثَّوْبِ ، كَذَا هَاهُنَا .
فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْحَوَالَةِ ، رَجَعَ الْمُحِيلُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ ، وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْبَائِعِ مُعَامَلَةٌ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا تَبْطُلُ .
رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، وَيَأْخُذُهُ الْبَائِعُ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ عَادَ الْبَائِعُ فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى مَنْ أَحَالَهُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ ، صَحَّ وَبَرِئَ الْبَائِعُ ، وَعَادَ الْمُشْتَرِي إلَى غَرِيمِهِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، لَكِنْ أَحَالَ الْبَائِعُ أَجْنَبِيًّا عَلَى الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ رَدَّ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ ، فَفِي الْحَوَالَةِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُشْتَرِي بَرِئَتْ بِالْحَوَالَةِ مِنْ حِقَّ الْبَائِعَ ، وَصَارَ الْحَقُّ عَلَيْهِ لِلْأَجْنَبِيِّ الْمُحْتَالِ ، فَأَشْبَهَ
مَا لَوْ دَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْمُحِيلِ ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، وَيُسَلِّمُ إلَى الْمُحْتَالِ مَا أَحَالَهُ بِهِ .
وَالثَّانِي ، تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ إنْ كَانَ الرَّدُّ قَبْلَ الْقَبْضِ ، لِسُقُوطِ الثَّمَنِ الَّذِي كَانَتْ الْحَوَالَةُ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي بَقَاءِ الْحَوَالَةِ هَاهُنَا ، فَيَعُودُ الْبَائِعُ بِدَيْنِهِ ، وَيَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنْهُمَا ، كَالْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا ، وَإِذَا قُلْنَا : لَا تَبْطُلُ .
فَأَحَالَ الْمُشْتَرِي الْمُحَالَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ ، صَحَّ ، وَبَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْهَا .
( 3565 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ ، فَأَذِنَ لِآخَرَ فِي قَبْضِهِ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْمَأْذُونُ لَهُ ، فَقَالَ : وَكَّلْتُك فِي قَبْضِ دَيْنِي بِلَفْظِ التَّوْكِيلِ .
فَقَالَ : بَلْ أَحَلْتنِي بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ .
أَوْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ ، فَقَالَ : أَحَلْتُك بِدَيْنِك .
فَقَالَ : بَلْ وَكَّلْتنِي .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ مِنْهُمَا مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي بَقَاءَ الْحَقِّ عَلَى مَا كَانَ ، وَيُنْكِرُ انْتِقَالَهُ ، وَالْأَصْلُ مَعَهُ ، فَإِنْ كَانَ لَأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ حُكِمَ بِهَا ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي اللَّفْظِ ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ قَالَ : أَحَلْتُك بِالْمَالِ الَّذِي لِي قِبَلَ زَيْدٍ .
ثُمَّ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الْمُحِيلُ : إنَّمَا وَكَّلْتُك فِي الْقَبْضِ لِي .
وَقَالَ الْآخَرُ : بَلْ أَحَلْتنِي بِدَيْنِي عَلَيْك .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْحَوَالَةِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ فَإِنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَوَالَةِ دُونَ الْوَكَالَةِ ، فَيَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي دَارٍ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا .
وَالثَّانِي ، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَقِّ الْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَالْمُحْتَالُ يَدَّعِي نَقْلَهُ ، وَالْمُحِيلُ يُنْكِرُهُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، يَحْلِفُ الْمُحْتَالُ وَيَثْبُتُ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَيَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْمُحِيلِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، يَحْلِفُ الْمُحِيلُ ، وَيَبْقَى حَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ : إنْ كَانَ الْمُحْتَالُ قَدْ قَبَضَ الْحَقَّ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، وَتَلِفَ فِي يَدِهِ ، فَقَدْ بَرِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِتَفْرِيطِهِ أَوْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَلِفَ بِتَفْرِيطٍ ، وَكَانَ الْمُحْتَالُ مُحِقًّا ، فَقَدْ أَتْلَفَ مَالَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا ، ثَبَتَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ مِثْلُ مَا فِي ذِمَّتِهِ لَهُ ، فَيَتَقَاصَّانِ ، وَيَسْقُطَانِ .
وَإِنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ ، فَالْمُحَالُ قَدْ قَبَضَ حَقَّهُ ، وَتَلِفَ فِي يَدِهِ ، وَبَرِئَ مِنْهُ الْمُحِيلُ بِالْحَوَالَةِ ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ بِتَسَلُّمِهِ ، وَالْمُحِيلُ يَقُولُ : قَدْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِ وَكِيلِي بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ .
فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ يَتْلَفْ ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْمُحِيلُ طَلَبَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ مِثْلَ مَا لَهُ فِي يَدِهِ ، وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِقَبْضِهِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ أَخْذَهُ مِنْهُ ، وَيَمْلِكَ الْمُحْتَالُ مُطَالَبَتَهُ بِدَيْنِهِ .
وَقِيلَ : يَمْلِكُ الْمُحِيلُ أَخْذَهُ مِنْهُ ، وَلَا يَمْلِكَ الْمُحْتَالُ الْمُطَالَبَةَ بِدَيْنِهِ ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِبَرَاءَةِ الْمُحِيلِ مِنْهُ بِالْحَوَالَةِ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحِ ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ إنْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ ، فَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ قَبَضَ هَذَا الْمَالَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ ، فَعَلَى كِلَا الْحَالَيْنِ ، هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِ هَذَا الْمَالِ الْمَقْبُوضِ مِنْهُ ، فِي قَوْلِهِمَا جَمِيعًا ، فَلَا وَجْهَ لِإِسْقَاطِهِ ، وَلَا مَوْضِعَ لِلْبَيِّنَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي لَفْظٍ يُسْمَعُ ، وَلَا فِعْلٍ يُرَى ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْمُحِيلُ بَيِّنَةً ، وَهَذَا لَا تَشْهَدُ بِهِ الْبَيِّنَةُ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا .
( 3566 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ بِالْعَكْسِ ، فَقَالَ : أَحَلْتُك بِدَيْنِك .
فَقَالَ : بَلْ وَكَّلْتنِي .
فَفِيهَا الْوَجْهَانِ أَيْضًا ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ .
فَإِنْ قُلْنَا : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ .
فَحَلَفَ ، بَرِئَ مِنْ حَقِّ الْمُحْتَالِ ، وَلِلْمُحْتَالِ قَبَضَ الْمَالِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بُقُولِهِمَا مَعًا ، فَإِذَا قَبَضَهُ كَانَ لَهُ بِحَقِّهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحْتَالِ ، فَحَلَفَ كَانَ لَهُ
مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ بِحَقِّهِ ، وَمُطَالَبَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا وَكِيلٌ وَإِمَّا مُحْتَالٌ .
فَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ قَبْلَ أَخْذِهِ مِنْ الْمُحِيلِ ، فَلَهُ أَخْذُ مَا قَبَضَ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ يَقُولُ : هُوَ لَك .
وَالْمُحْتَالُ يَقُولُ : هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِي ، وَلِي مِثْلُهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي أَخْذِهِ ضِمْنًا .
فَإِذَا أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ حَصَلَ غَرَضُهُ ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْمُحِيلِ شَيْئًا .
وَإِنْ اسْتَوْفَى مِنْ الْمُحِيلِ ، رَجَعَ عَلَى الْمُحَالِ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَثَبَّتَتْ الْوَكَالَةُ بِيَمِينِ الْمُحْتَالِ ، وَبَقِيَ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ أَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا الْمُحْتَالُ ظَلَمَهُ بِأَخْذِ مَا كَانَ عَلَيْهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ قَبَضَ الْحَوَالَةَ ، فَتَلِفَتْ فِي يَدِهِ بِتَفْرِيطٍ ، أَوْ أَتْلَفَهَا ، سَقَطَ حَقُّهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُحِقًّا فَقَدْ أَتْلَفَ حَقَّهُ ، وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَقَدْ أَتْلَفَ مِثْلَ دَيْنِهِ ، فَيَثْبُت فِي ذِمَّتِهِ وَيَتَقَاصَّانِ .
وَإِنْ تَلْفِتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطِهِ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، يَسْقُطُ حَقُّهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَالَهُ تَلِفَ تَحْتَ يَدِهِ .
وَعَلَى الثَّانِي ، لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ بِحَقِّهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَرِفُ بِبَرَاءَتِهِ .
( 3567 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْمُحِيلَ قَالَ : أَحَلْتُك بِدَيْنِك .
ثُمَّ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ أَحَدِهِمَا : هِيَ حَوَالَةٌ بِلَفْظِهَا .
وَقَالَ الْآخَرُ : هِيَ وَكَالَةٌ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْحَوَالَةِ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِدَيْنِهِ لَا تَحْتَمِلُ الْوَكَالَةَ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ مُدَّعِيهَا .
وَسَوَاءٌ اعْتَرَفَ الْمُحِيلُ بِدَيْنِ الْمُحْتَالِ ، أَوْ قَالَ : لَا دَيْنَ لَك عَلَيَّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَحَلْتُك بِدَيْنِك .
اعْتِرَافٌ بِدَيْنِهِ ، فَلَا يُقْبَلُ جَحْدُهُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
فَأَمَّا إنْ لَمْ يَقُلْ بِدَيْنِك ، بَلْ قَالَ : أَحَلْتُك .
ثُمَّ قَالَ : لَيْسَ لَك عَلَيَّ دَيْنٌ ، وَإِنَّمَا عَنَيْت التَّوْكِيلَ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ .
أَوْ قَالَ : أَرَدْت أَنْ أَقُولَ ، وَكَّلْتُك ، فَسَبَقَ لِسَانِي فَقُلْت : أَحَلْتُك .
وَادَّعَى الْمُحْتَالُ أَنَّهَا حَوَالَةٌ بِدَيْنِهِ ، وَأَنَّ دَيْنَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الْمُحِيلِ ، فَهَلْ ذَلِكَ اعْتِرَافٌ بِالدَّيْنِ أَوْ لَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، سَبَقَ تَوْجِيهُهُمَا .
( 3568 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلِ دَيْنٌ عَلَى آخَرَ ، فَطَالَبَهُ بِهِ ، فَقَالَ : قَدْ أَحَلْت بِهِ عَلَيَّ فُلَانًا الْغَائِبَ .
وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الدَّيْنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَإِنْ كَانَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بَيِّنَةٌ بِدَعْوَاهُ ، سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ ، لِإِسْقَاطِ حَقَّ الْمُحِيلِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ أَحَالَنِي عَلَيْك ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ .
فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً ، ثَبَتَتْ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْغَائِبِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِهَا عَلَى الْغَائِبِ ، وَلَزِمَ الدَّفْعُ إلَى الْمُحْتَالِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَهَلْ تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ اعْتَرَفَ لَهُ هَلْ يَلْزَمُهُ الدُّفَعُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِدَيْنِهِ عَلَيْهِ ، وَوُجُوبُ دَفْعِهِ إلَيْهِ ، فَلَزِمَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بَيِّنَةً .
وَالثَّانِي لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ إنْكَارِ الْمُحِيلِ وَرُجُوعِهِ عَلَيْهِ ، فَكَانَ لَهُ الِاحْتِيَاطُ لِنَفْسِهِ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنِّي وَكَيْلُ فُلَانٍ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ مِنْك ، فَصَدَّقَهُ ، وَقَالَ : لَا أَدْفَعُهُ إلَيْك .
فَإِذَا قُلْنَا : يَلْزَمُهُ الدُّفَعُ مَعَ الْإِقْرَارِ .
لَزِمَهُ الْيَمِينُ مَعَ الْإِنْكَارِ .
فَإِذَا حَلَفَ ، بَرِئَ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِبَرَاءَتِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ قُلْنَا : لَا تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ .
فَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُحِيلِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمُحِيلِ ، فَإِنْ صَدَقَ الْمُدَّعِي فِي أَنَّهُ أَحَالَهُ ، ثَبَتَتْ الْحَوَّالَةُ لَهُ ؛ لِأَنَّ رِضَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَا يُعْتَبَرُ .
وَإِنْ أَنْكَرَ الْحَوَالَةَ ، حَلَفَ ، وَسَقَطَ حُكْمُ الْحَوَالَةِ .
وَإِنْ نَكَلَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ ، فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَاسْتُوْفِيَ الْحَقُّ مِنْهُ ، ثُمَّ إنَّ الْمُحِيلَ صَدَّقَ
الْمُدَّعِيَ ، فَلَا كَلَامَ .
وَإِنْ أَنْكَرَ الْحَوَالَة ، فَالْقَوْلُ قَوْله ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرَفٌ لَهُ بِالْحَقِّ وَيَدَّعِي أَنَّ الْمُحْتَالَ ظَلَمَهُ ، وَيَبْقَى دَيْنُ الْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُحِيلُ يُنْكِرُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يُقِرُّ بِبَرَاءَتِهِ مِنْهُ ، لِاسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُحِيلُ يَعْتَرِفُ بِهِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْهُ بِالْحَوَالَةِ ، وَالْمُحِيلُ يُصَدِّقُ الْمُحَالَ عَلَيْهِ فِي كَوْنِ الْمُحْتَالِ قَدْ ظَلَمَهُ ، وَاسْتَوْفَى مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْمُحْتَالُ يَزْعُمُ أَنَّ الْمُحِيلَ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ أَيْضًا بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ إلَيْهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُحْتَالُ ، وَيُسَلِّمُهَا إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، أَوْ يَأْذَنَ لِلْمُحِيلِ فِي دَفْعِهَا إلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ صَدَّقَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ الْمُحْتَالَ فِي الْحَوَالَة ، وَدَفَعَ إلَيْهِ ، فَأَنْكَرَ الْمُحِيلُ الْحَوَالَةَ ، حَلَفَ ، وَرَجَعَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ .
وَالْحُكْمُ فِي الرُّجُوعِ بِمَا عَلَى الْمُحِيلِ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
( 3569 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفٌ ضَمِنَهُ رَجُلٌ ، فَأَحَالَ الضَّامِنُ صَاحِبَ الدَّيْنِ بِهِ ، بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَذَمَّةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَالتَّسْلِيمِ ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ هَاهُنَا كَالْحُكْمِ فِيمَا لَوْ قَضَى عَنْهُ الدَّيْنَ .
فَإِنْ كَانَ الْأَلْفُ عَلَى رَجُلَيْنِ ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ بِذَلِكَ ، فَأَحَالَهُ أَحَدِهِمَا بِالْأَلْفِ ، بَرِئَتْ ذِمَّتُهُمَا مَعًا ، كَمَا لَوْ قَضَاهَا .
وَإِنْ أَحَالَ صَاحِبُ الْأَلْفِ رَجُلًا عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ بِالْأَلْفِ ، صَحَّتْ الْحَوَالَةُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِرٌّ .
وَإِنْ أَحَالَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ، لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُمَا ، أَوْ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ صَحَّتْ الْحَوَالَةُ أَيْضًا عِنْدَ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ هَاهُنَا فِي نَوْعٍ وَلَا أَجَلٍ وَلَا عَدَدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ زِيَادَةُ اسْتِيثَاقٍ ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ الْحَوَالَةِ ، كَحَوَالَةِ الْمُعْسِرِ عَلَى الْمَلِيءِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ قَدْ دَخَلَهَا ، فَإِنَّ الْمُحْتَالَ ارْتَفَقَ بِالتَّخْيِيرِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُمَا ، أَوْ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَحَالَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ لَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَبَيْنَ مَا إذَا أَحَالَهُ بِأَلْفَيْنِ ، أَنَّهُ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَدِ هَاهُنَا ، وَثَمَّ تَفَاضَلَا فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ هَاهُنَا بِأَلْفِ مُعَيَّنٍ ، وَثَمَّ الْحَوَالَةُ بِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، وَأَنَّهُ إذَا قَضَاهُ أَحَدُهُمَا الْأَلْفَ فَقَدْ قَضَى جَمِيعَ الدَّيْنِ ، وَثَمَّ إذَا قَضَى أَحَدَهُمَا بَقِيَ مَا عَلَى الْآخَرِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُلَيْنِ ضَامِنًا عَنْ صَاحِبَهُ ، فَأَحَالَ عَلَيْهِمَا ، صَحَّتْ الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ إشْكَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأَلْفَ مِنْ وَاحِدٍ
، كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ اثْنَيْنِ ، كَالْوَكِيلَيْنِ .
بَاب الضَّمَان ( 3570 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ ضُمِنَ عَنْهُ حَقٌّ بَعْدَ وُجُوبِهِ ، أَوْ قَالَ : مَا أَعْطَيْته فَهُوَ عَلَيَّ .
فَقَدْ لَزِمَهُ مَا صَحَّ أَنَّهُ أَعْطَاهُ ) .
الضَّمَانُ : ضَمُّ ذِمَّةِ الضَّامِنِ إلَى ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فِي الْتِزَامِ الْحَقِّ .
فَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِمَا جَمِيعًا ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الضَّمِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّضْمِينِ ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الضَّامِنِ تَتَضَمَّنُ الْحَقَّ .
وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهِ ، الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الزَّعِيمُ الْكَفِيلُ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الزَّعِيمُ غَارِمٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِرَجُلٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، دِينَارَانِ .
قَالَ : هَلْ تَرَكَ لَهُمَا وَفَاءً ؟ قَالُوا : لَا ، فَتَأَخَّرَ ، فَقِيلَ : لَمْ لَا تُصَلِّ عَلَيْهِ ؟ : فَقَالَ : مَا تَنْفَعُهُ صَلَاتِي وَذِمَّتُهُ مَرْهُونَةٌ ؟ أَلَا إنْ قَامَ أَحَدُكُمْ فَضَمِنَهُ .
فَقَامَ أَبُو قَتَادَةَ ، فَقَالَ : هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الضَّمَانِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي فُرُوعٍ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : ضَمِينٌ ، وَكَفِيلٌ ، وَقَبِيلٌ ، وَحَمِيلٌ ، وَزَعِيمٌ ، وَصَبِيرٌ ، بِمَعْنِيِّ وَاحِدٍ .
وَلَا بُدَّ فِي الضَّمَان مِنْ ضَامِن ، ومضمون عَنْهُ ، ومضمون لَهُ .
وَلَا بد مِنْ رِضَى الضَّامِن ، فَإِن أُكْرِهَ عَلَى الضَّمَانِ لَمْ يَصِحَّ ، وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
لِأَنَّهُ لَوْ قُضِيَ الدَّيْنُ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَرِضَاهُ صَحَّ ، فَكَذَلِكَ إذَا ضَمِنَ عَنْهُ .
وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَى الْمَضْمُونِ لَهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : يُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ مَالٍ لِآدَمِي ، فَلَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِرِضَاهُ أَوْ رِضَى مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَعَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُمَا وَثِيقَةٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا قَبْضٌ ، فَأَشْبَهَتْ الشَّهَادَةَ ، وَلِأَنَّهُ ضَمَانُ دَيْنٍ ، فَأَشْبَهَ ضَمَانَ بَعْضِ الْوَرَثَةِ دَيْنٍ الْمَيِّتِ لِلْغَائِبِ ، وَقَدْ سَلَّمُوهُ .
( 3571 ) فَصْلٌ : وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَعْرِفَهُمَا الضَّامِنُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يُعْتَبَرُ مَعْرِفَتُهُمَا ، لِيَعْلَمَ هَلْ الْمَضْمُونُ عَنْهُ أَهْلٌ لِاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ إلَيْهِ أَوَّلًا ؟ وَلِيَعْرِفَ الْمَضْمُونَ لَهُ ، فَيُؤَدِّيَ إلَيْهِ .
وَذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّهُ تُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ لَهُ لِذَلِكَ .
وَلَا تُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعَامَلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ نَحْو هَذِهِ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ عَلِيٍّ وَأَبِي قَتَادَةَ ، فَإِنَّهُمَا ضَمِنَا لِمَنْ لَمْ يَعْرِفَاهُ عَمَّنْ لَمْ يَعْرِفَاهُ .
وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ مَالٍ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَعْرِفَةُ مَنْ يَتَبَرَّعُ لَهُ بِهِ ، كَالنَّذْرِ .
فَصْلٌ : وَقَدْ دَلَّتْ مَسْأَلَةُ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَحْكَامٍ ؛ مِنْهَا ، صِحَّةُ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ ؛ لِقَوْلِهِ : مَا أَعْطَيْته فَهُوَ عَلَيَّ .
وَهَذَا مَجْهُولٌ فَمَتَى قَالَ : أَنَا ضَامِنٌ لَك مَالَك عَلَى فُلَانٍ ، أَوْ مَا يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ ، أَوْ مَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ ، أَوْ يُقِرُّ بِهِ لَك ، أَوْ مَا يَخْرُجُ فِي رَوْز مَانِحك .
صَحَّ الضَّمَانُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامُ مَالٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ مَجْهُولًا ، كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } ، وَحِمْلُ الْبَعِيرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّ حِمْلَ الْبَعِيرِ يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِهِ ، وَعُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الزَّعِيمُ غَارِمٌ } ، وَلِأَنَّهُ الْتِزَامُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَضَةٍ ، فَصَحَّ فِي الْمَجْهُولِ ، كَالنَّذْرِ وَالْإِقْرَارِ ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِضَرَرٍ وَخَطَرٍ ، وَهُوَ ضَمَانُ الْعُهْدَةِ .
وَإِذَا قَالَ : أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ ، وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ .
أَوْ قَالَ : ادْفَعْ ثِيَابَك إلَى هَذَا الرِّفَاء ، وَعَلَيَّ ضَمَانُهَا .
فَصَحَّ الْمَجْهُولُ ، كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ .
وَمِنْهَا صِحَّةُ ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : " مَا أَعْطَيْته " ، أَيْ مَا يُعْطِيه فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى مَنْ ضَمِنَ عَنْهُ حَقٌّ بَعْدَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِ ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُهُ ، وَلَوْ كَانَ " مَا أَعْطَيْته " فِي الْمَاضِي ، كَانَ مَعْنَى الْمَسْأَلَتَيْنِ سَوَاءً ، أَوْ إحْدَاهُمَا دَاخِلَةً فِي الْأُخْرَى .
وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَدَلِيلُ الْقَوْلَيْنِ ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا : الضَّمَانُ ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْتِزَامِ الدَّيْنِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ شَيْءٌ ، فَلَا ضَمَّ فِيهِ ، فَلَا يَكُونُ ضَمَانًا .
قُلْنَا : قَدْ ضَمَّ ذِمَّته إلَى ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُهُ ، وَأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي ذِمَّة مَضْمُونِهِ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ .
وَهَذَا كَافٍ .
وَقَدْ سَلَّمُوا ضَمَانَ مَا يُلْقِيه فِي الْبَحْرِ قَبْلَ وُجُوبِهِ بِقَوْلِهِ : أَلْقِ مَتَاعَك فِي الْبَحْرِ ، وَعَلَيَّ ضَمَانُهُ .
وَسَلَّمَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ضَمَانَ الْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ ، وَمَا وَجَبَ شَيْءٌ بَعْدُ .
وَمِنْهَا ، أَنَّ الضَّمَانَ إذَا صَحَّ لَزِمَ الضَّامِنَ مِنْ أَدَاءِ مَا ضَمِنَهُ ، وَكَانَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ مُطَالَبَتُهُ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَهُوَ فَائِدَةُ الضَّمَانِ ، وَقَدْ دَلَّ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ } .
وَاشْتِقَاقُ اللَّفْظِ .
وَمِنْهَا صِحَّةُ الضَّمَانِ عَنْ كُلِّ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ ، حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا ، مَلِيئًا أَوْ مُفْلِسًا ؛ لِعُمُومِ لَفْظِهِ فِيهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ ضَمَانُ دَيْنِ الْمَيِّتِ ، إلَّا أَنْ يَخْلُفَ وَفَاءً ، فَإِنْ خَلَفَ بَعْضَ الْوَفَاءِ ، صَحَّ ضَمَانُهُ بِقَدْرِ مَا خَلَفَ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ سَاقِطٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ ، كَمَا لَوْ سَقَطَ بِالْأَبْرَاءِ ، وَلِأَنَّ ذِمَّتَهُ قَدْ خَرِبَتْ خَرَابًا لَا تَعْمُرُ بَعْدَهُ ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا دَيْنٌ ، وَالضَّمَانُ : ضَمُّ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ فِي الْتِزَامِهِ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ وَعَلِيٍّ ، فَإِنَّهُمَا ضَمِنَا دَيْنَ مَيِّتٍ لَمْ يَخْلُفْ وَفَاءً .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَضَّهُمْ عَلَى ضَمَانِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ، بِقَوْلِهِ : { أَلَا قَامَ أَحَدُكُمْ فَضَمِنَهُ ؟ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ ، كَمَا لَوْ خَلَفَ وَفَاءً ، وَدَلِيلُ ثُبُوتِهِ أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ رَجُلٌ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ ، جَازَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ اقْتِضَاؤُهُ ، وَلَوْ ضَمِنَهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ ، لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الضَّامِنِ ، وَلَوْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ بَرِئَتْ ذِمَّة الضَّامِنِ ، وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا ذَكَرُوهُ .
وَمِنْهَا ، صِحَّةُ الضَّمَانِ فِي كُلِّ حَقٍّ ، أَعْنِي مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ الْوَاجِبَةِ ، أَوْ الَّتِي تَئُولُ إلَى الْوُجُوبِ ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَبَعْدَهُ ، وَالْأُجْرَةِ وَالْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُقُوقَ لَازِمَةٌ ، وَجَوَازُ سُقُوطِهَا لَا يَمْنَعُ ضَمَانَهَا ، كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِرَدِّ بِعَيْبِ أَوْ مُقَايَلَةٍ .
وَبِهَذَا كُلِّهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
( 3573 ) فَصْلٌ : فِيمَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ : وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ ، وَفِي الْمُسَابَقَةِ وَالْمُنَاضَلَةِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهُ ، كَمَا فِي الْكِتَابَةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } .
وَلِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ إذَا عَمِلَ الْعَمَلَ ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَلْزَمُ الْعَمَلُ ، وَالْمَالُ يَلْزَمُ بِوُجُودِهِ ، وَالضَّمَانُ لِلْمَالِ دُونَ الْعَمَلِ .
وَيَصِحُّ ضَمَانُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ نُقُودًا كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ ، أَوْ حَيَوَانًا كَالدِّيَاتِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْحَيَوَانِ الْوَاجِبِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ .
وَقَدْ مَضَى الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ الْمَجْهُولِ ، وَلِأَنَّ الْإِبِلَ الْوَاجِبَةَ فِي الذِّمَّةِ مَعْلُومَةُ الْأَسْنَانِ وَالْعَدَدِ ، وَجَهَالَةُ اللَّوْنِ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْبَاقِيَةِ لَا تَضُرُّ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ أَدْنَى لَوْنٍ أَوْ صِفَةٍ فَتَحْصُلُ مَعْلُومَةً ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْحَيَوَانِ ، وَلِأَنَّ جَهْلَ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَهُ بِالْإِتْلَافِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَهُ بِالِالْتِزَامِ .
وَيَصِحُّ ضَمَانُ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ ، سَوَاءٌ كَانَتْ نَفَقَةَ يَوْمِهَا أَوْ مُسْتَقْبَلَةً ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْيَوْمِ وَاجِبَةٌ ، وَالْمُسْتَقْبِلَةُ مَآلُهَا إلَى اللُّزُومِ ، وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا ضَمِنَ نَفَقَةَ الْمُسْتَقْبَلِ ، لَمْ تَلْزَمْهُ إلَّا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ تَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَالَ فِيهِ : يَصِحُّ ضَمَانُهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ ، وَاحْتِمَالُ عَدَمِ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ ضَمَانِهَا ، بِدَلِيلِ الْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ ، وَالصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَالْمَبِيعِ فِي مُدَّةِ
الْخِيَارِ .
فَأَمَّا النَّفَقَةُ فِي الْمَاضِي ، فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً ، إمَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِهَا ، أَوْ قُلْنَا : بِوُجُوبِهَا بِدُونِ حُكْمِهِ ، صَحَّ ضَمَانُهَا ، وَإِلَّا فَلَا .
وَيَصِحُّ ضَمَانُ مَالِ السَّلَمِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَالْأُخْرَى لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اسْتِيفَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَالْحَوَالَةِ بِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَازِمٌ فَصَحَّ ضَمَانُهُ ، كَالْأُجْرَةِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ .
وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ مَالِ الْكِتَابَةِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَالْأُخْرَى : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ عَلَى الْمُكَاتَبِ ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ عَلَيْهِ .
وَالْأُولَى أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ .
وَلَا مَآلُهُ إلَى اللُّزُومِ ، فَإِنَّ لِلْمُكَاتَبِ تَعْجِيزَ نَفْسِهِ ، وَالِامْتِنَاعَ عَنْ أَدَائِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ الْأَصِيلَ ، فَالضَّمِينُ أَوْلَى .
وَيَصِحُّ ضَمَانُ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ ، كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَّةِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ مَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ ، وَوَصْفُنَا لَهَا بِالضَّمَانِ إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا إنَّ تَلِفَتْ ، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ ، فَصَحَّ ضَمَانُهَا ، كَالْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَّةِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ .
قُلْنَا : الضَّمَانُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ ضَمَانُ اسْتِنْقَاذِهَا وَرَدِّهَا ، وَالْتِزَامُ تَحْصِيلِهَا أَوْ قِيمَتِهَا عِنْدَ تَلَفِهَا .
وَهَذَا مِمَّا يَصِحُّ ضَمَانُهُ ، كَعُهْدَةِ الْمَبِيعِ ، فَإِنَّ ضَمَانَهَا يَصِحُّ ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة الْتِزَامُ رَدِّ الثَّمَنِ أَوْ عِوَضِهِ ، إنْ ظَهَرَ بِالْبَيْعِ عَيْبٌ ، أَوْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا ، فَأَمَّا الْأَمَانَاتُ ، كَالْوَدِيعَةِ ،
وَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَة ، وَالشَّرِكَةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ ، وَالْعَيْنِ الَّتِي يَدْفَعُهَا إلَى الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ ، فَهَذِهِ إنْ ضَمِنَهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ فِيهَا ، لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهَا ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ ، فَكَذَلِكَ عَلَى ضَامِنِهِ .
وَإِنْ ضَمِنَهَا إنْ تَعَدَّى فِيهَا ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الضَّمَانِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ ، فِي رَجُلٍ يَتَقَبَّلُ مِنْ النَّاسِ الثِّيَابَ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : ادْفَعْ إلَيْهِ ثِيَابَك ، وَأَنَا ضَامِنٌ .
فَقَالَ لَهُ : هُوَ ضَامِنٌ لِمَا دَفَعَهُ إلَيْهِ .
يَعْنِي إذَا تَعَدَّى أَوْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ .
فَعَلَى هَذَا إنْ تَلِفَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ وَلَا فِعْلِهِ ، لَمْ يَلْزَمْ الضَّامِنَ شَيْءٌ ، لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ أَوْ تَفْرِيطٍ لَزِمَ ضَمَانُهَا وَلَزِمَ ضَامِنُهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ ، فَلَزِمَ ضَامِنَهُ ، كَالْغُصُوبِ وَالْعَوَارِيّ .
وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَهُ .
وَيَصِحُّ ضَمَانُ عُهْدَةِ الْمَبِيعِ عَنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي ، وَعَنْ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ ، فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي هُوَ أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ الْوَاجِبَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ ، وَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ أَوْ اُسْتُحِقَّ ، رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الضَّامِنِ ، وَضَمَانُهُ عَنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي هُوَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْ الْبَائِعِ الثَّمَنَ مَتَى خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا ، أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ ، أَوْ أَرْشِ الْعَيْبِ .
فَضَمَانُ الْعُهْدَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ ضَمَانُ الثَّمَنِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ .
وَحَقِيقَةُ الْعُهْدَةِ الْكِتَابُ الَّذِي يَكْتُبُ فِيهِ وَثِيقَةَ الْبَيْعِ ، وَيَذْكُرُ فِيهِ الثَّمَنَ ، فَعُبِّرَ بِهِ عَنْ الثَّمَنِ الَّذِي يَضْمَنُهُ .
وَمِمَّنْ أَجَازَ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ فِي الْجُمْلَةِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَمَنَعَ مِنْهُ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ؛ لِكَوْنِهِ ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ ، وَضَمَانَ مَجْهُولٍ ،
وَضَمَانَ عَيْنٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الضَّمَانِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْوَثِيقَةِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَالْوَثَائِقُ ثَلَاثَةٌ ؛ الشَّهَادَةُ ، وَالرَّهْنُ ، وَالضَّمَانُ .
فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا يُسْتَوْفَى مِنْهَا الْحَقُّ ، وَأَمَّا الرَّهْنُ فَلَا يَجُوزُ فِي ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَبْقَى أَبَدًا مَرْهُونًا ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الضَّمَانُ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إلَّا مَا كَانَ وَاجِبًا حَالَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّمَانِ حُكْمٌ إذَا خَرَجَ مُسْتَحَقًّا أَوْ مَعِيبًا حَالَ الْعَقْدِ ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ ، فَقَدْ ضَمِنَ مَا وَجَبَ حِينَ الْعَقْدِ ، وَالْجَهَالَةُ مُنْتَفِيَةٌ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْجُمْلَةَ ، فَإِذَا خَرَجَ بَعْضُهُ مُسْتَحَقًّا ، لَزِمَهُ بَعْضُ مَا ضَمِنَهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ ضَمَانُ الْعُهْدَةِ عَنْ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَبَعْدَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّمَا يَصِحُّ بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَوْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْبَائِعِ شَيْءٌ .
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى ضَمَانِ مَا لَمْ يَجِبْ إذَا كَانَ مُفْضِيًا إلَى الْوُجُوبِ ، كَالْجَعَالَةِ .
وَأَلْفَاظُ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ أَنْ يَقُولَ : ضَمِنْت عُهْدَتَهُ أَوْ ثَمَنَهُ أَوْ دَرَكَهُ .
أَوْ يَقُولَ لِلْمُشْتَرِي : ضَمِنْت خَلَاصَك مِنْهُ .
أَوْ يَقُولَ : مَتَى خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا فَقَدْ ضَمِنْت لَك الثَّمَنَ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، أَنَّهُ قَالَ : ضَمِنْت عُهْدَته ، أَوْ ضَمِنَتْ لَك الْعُهْدَةَ .
وَالْعُهْدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ : هِيَ الصَّكُّ الْمَكْتُوبُ فِيهِ الِابْتِيَاعُ .
هَكَذَا فَسَّرَهُ بِهِ أَهْلُ اللُّغَةِ ، فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ صَارَتْ فِي الْعُرْفِ عِبَارَةً عَنْ الدَّرْكِ وَضَمَانِ الثَّمَنِ ، وَالْكَلَامُ الْمُطْلَقُ يُحْمَلُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْعُرْفِيَّةِ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ ، كَالرَّاوِيَةِ ، تُحْمَلُ عِنْدَ إطْلَاقِهَا عَلَى الْمَزَادَةِ ، لَا عَلَى الْجَمَلِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ
الْمَوْضُوعَ .
فَأَمَّا إنْ ضَمِنَ لَهُ خَلَاصَ الْمَبِيعِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : هُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَرَجَ حُرًّا أَوْ مُسْتَحَقًّا ، لَا يَسْتَطِيعُ تَخْلِيصَهُ ، وَلَا يَحِلُّ .
وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رَجُلٍ بَاعَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً ، وَضَمِنَ لَهُ الْخَلَاصَ ، فَقَالَ : كَيْفَ يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ إذَا خَرَجَ حُرًّا ؟ فَإِنْ ضَمِنَ عُهْدَةَ الْمَبِيعِ وَخَلَاصَهُ ، بَطَلَ فِي الْخَلَاصِ .
وَهَلْ يَصِحُّ فِي الْعُهْدَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
إذَا ثَبَتَ صِحَّةُ ضَمَانِ الْعُهْدَةِ ، فَالْكَلَامُ فِيمَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ ، فَنَقُولُ : إنَّ اسْتِحْقَاقَ رُجُوعِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لَا يَخْلُو ، إمَّا أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ حَادِثٍ بَعْدَ الْعَقْدِ ، أَوْ مُقَارِنٍ لَهُ ، فَأَمَّا الْحَادِثُ فَمِثْلُ تَلَفِ الْمَبِيعِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَصْبِ مِنْ يَدِهِ أَوْ يَتَقَايَلَانِ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الضَّامِنِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ الِاسْتِحْقَاقَ الْمَوْجُودَ حَالَ الْعَقْدِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الضَّامِنِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ مَا لَمْ يَجِبْ جَائِزٌ ، وَهَذَا مِنْهُ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ بِسَبَبٍ مُقَارِنٍ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ لَا تَفْرِيطَ مِنْ الْبَائِعِ فِيهِ ، كَأَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الثَّمَنَ مِنْ الشَّفِيعِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ وَلَا الضَّامِنِ .
وَمَتَى لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ شَيْءٌ ، لَمْ يَجِبْ عَلَى الضَّامِنِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَأَمَّا إنْ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْمَبِيعِ بِسَبَبٍ مُقَارِنٍ لِتَفْرِيطٍ مِنْ الْبَائِعِ ، بِاسْتِحْقَاقٍ أَوْ حُرِّيَّةٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ قَدِيمٍ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ إلَى الضَّامِنِ ، وَهَذَا ضَمَانُ الْعُهْدَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَخْذَ أَرْشِ الْعَيْبِ ، رَجَعَ عَلَى الضَّامِنِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَزِمَهُ كُلُّ الثَّمَنِ ، لَزِمَهُ بَعْضُهُ إذَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَسَوَاءٌ ظَهَرَ كُلُّ الْمَبِيعِ
مُسْتَحَقًّا أَوْ بَعْضُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ بَعْضُهُ مُسْتَحَقًّا ، بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فَقَدْ خَرَجَتْ الْعَيْنُ كُلُّهَا مِنْ يَدِهِ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ ، وَلَكِنْ اسْتَحَقَّ رَدَّهَا ، فَإِنْ رَدَّهَا كُلَّهَا فَالْحُكْمُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَمْسَكَ الْمَمْلُوكَ مِنْهَا ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْأَرْشِ ، كَمَا لَوْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا .
وَلَوْ بَاعَهُ عَيْنًا أَوْ أَقْرِضَهُ شَيْئًا بِشَرْطِ أَنْ يَرْهَنَ عِنْدَهُ عَيْنَهَا ، فَتَكَفَّلَ رَجُلٌ بِتَسْلِيمِ الرَّهْنِ ، لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الرَّاهِنَ إقْبَاضُهُ وَتَسْلِيمُهُ ، فَلَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ مَا لَا يَلْزَمُ الْأَصْلَ .
وَإِنْ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي قِيمَةَ مَا يَحْدُثُ فِي الْمَبِيعِ ، مِنْ بِنَاءٍ أَوْ غِرَاسٍ ، صَحَّ ، سَوَاءٌ ضَمِنَهُ الْبَائِعُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ ، فَإِذَا بَنَى أَوْ غَرَسَ وَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الضَّامِنِ بِقِيمَةِ مَا تَلِفَ أَوْ نَقَصَ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَجْهُولٍ ، وَضَمَانُ مَا لَمْ يَجِبْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ ذَلِكَ .
( 3574 ) فَصْلٌ : فِي مَنْ يَصِحُّ ضَمَانُهُ ، وَمَنْ لَا يَصِحُّ ، يَصِحُّ ضَمَانُ كُلِّ جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ ، فَصَحَّ مِنْ الْمَرْأَةِ كَالْبَيْعِ ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالْمُبَرْسَمِ ، وَلَا مِنْ صَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيَّزٍ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ إيجَابُ مَالٍ بِعَقْدِ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُمْ ، كَالنَّذْرِ .
وَلَا يَصِحُّ مِنْ السَّفِيهِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ .
ذَكَرِهِ أَبُو الْخَطَّابِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَصِحُّ ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ إقْرَارَهُ صَحِيحٌ يُتْبَعُ بِهِ مِنْ بَعْدِ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، صَحَّ ، فَكَذَلِكَ ضَمَانُهُ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ إيجَابُ مَالٍ بِعَقْدٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ ، كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَلَا يُشْبِهُ الْإِقْرَارَ ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِحَقٍّ سَابِقٍ .
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ ، فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَخَرَّجَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي صِحَّةِ إقْرَارِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَلَا يَصِحُّ هَذَا الْجَمْعُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْتِزَامُ مَالٍ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ ، كَالتَّبَرُّعِ وَالنَّذْرِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وَقْتِ الضَّمَانِ بَعْدَ بُلُوغِهِ ، فَقَالَ الصَّبِيُّ : قَبْلَ بُلُوغِي .
وَقَالَ الْمَضْمُونُ لَهُ : بَعْدَ الْبُلُوغِ .
فَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ قَوْلِ أَحْمَدَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَعَهُ سَلَامَةَ الْعَقْدِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي شَرْطٍ فَاسِدٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الضَّامِنِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْبُلُوغِ ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي شَرْطٍ فَاسِدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِفَيْنِ ثَمَّ مُتَّفِقَانِ عَلَى أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَا
يَتَصَرَّفَانِ إلَّا تَصَرُّفًا صَحِيحًا ، فَكَانَ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ هُوَ الظَّاهِرُ ، وَهَاهُنَا اخْتَلَفَا فِي أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ ، وَلَيْسَ مَعَ مَنْ يَدَّعِي الْأَهْلِيَّةَ ظَاهِرٌ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ ، وَلَا أَصْلٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ ، فَلَا تُرَجَّحُ دَعْوَاهُ .
وَالْحُكْمُ فِي مَنْ عُرِفَ لَهُ حَالُ جُنُونٍ ، كَالْحُكْمِ فِي الصَّبِيِّ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ حَالُ جُنُونٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَضْمُونِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ ، فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لِفَلَسٍ ، فَيَصِحُّ ضَمَانُهُ ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ ، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ، لَا فِي ذِمَّتِهِ ، فَأَشْبَهَ الرَّاهِنَ ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ فِيمَا عَدَّا الرَّهْنِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اقْتَرَضَ أَوْ أَقَرَّ أَوْ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ .
وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْعَبْدِ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ ، وَيُتْبَعَ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ ، فَصَحَّ تَصَرُّفُهُ بِمَا لَا ضَرَرَ عَلَى السَّيِّدِ فِيهِ ، كَالْإِقْرَارِ بِالْإِتْلَافِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ عَقْدٌ تَضَمَّنَ إيجَابَ مَالٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إذْنٍ ، كَالنِّكَاحِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ التِّجَارَةِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ .
فَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّ سَيِّدَهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ صَحَّ .
قَالَ الْقَاضِي : وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ تَعَلُّقُ الْمَالِ بِرَقَبَتِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَقِيَاسُهُ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ السَّيِّد .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : هَلْ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِذِمَّةِ سَيِّدِهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، كَاسْتِدَانَتِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ .
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهَا .
فَإِنْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الضَّمَانِ
لِيَكُونَ الْقَضَاءُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ ، صَحَّ ، وَيَكُونُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقًا بِالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِ الْعَبْدِ ، كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَةِ الْجَانِي ، كَمَا لَوْ قَالَ الْحُرُّ : ضَمِنْت لَك الدَّيْنَ ، عَلَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِي هَذَا .
صَحَّ .
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، كَالْعَبْدِ الْقِنِّ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ مَالٍ ، فَأَشْبَهَ نَذْرَ الصَّدَقَةَ بِغَيْرِ مَالٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، كَقَوْلِنَا فِي الْعَبْدِ .
وَإِنْ ضَمِنَ بِإِذْنِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَصِحُّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى إلَى تَفْوِيتِ الْحُرِّيَّةِ .
وَالثَّانِي ، يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ، لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا .
فَأَمَّا الْمَرِيضُ ، فَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ غَيْرَ مَخُوفٍ ، أَوْ غَيْرَ مَرَضِ الْمَوْتِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ .
وَإِنْ كَانَ مَرَضَ الْمَوْتِ الْمَخُوفِ ، فَحُكْمُ ضَمَانِهِ حُكْمُ تَبَرُّعِهِ ، يَحْسِبُ مِنْ ثُلُثِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِالْتِزَامِ مَالٍ لَا يَلْزَمُهُ ، وَلَمْ يَأْخُذْ عَنْهُ عِوَضًا ، فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ .
وَإِذَا فُهِمَتْ إشَارَةُ الْأَخْرَسِ ، صَحَّ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَإِقْرَارُهُ وَتَبَرُّعُهُ ، فَصَحَّ ضَمَانُهُ ، كَالنَّاطِقِ ، وَلَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ بِكِتَابَةِ مُنْفَرِدَةً عَنْ إشَارَةٍ يُفْهَمُ بِهَا أَنَّهُ قَصَدَ الضَّمَانَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكْتُبُ عَبَثًا أَوْ تَجْرِبَةً ، فَلَمْ يَثْبُتْ الضَّمَانُ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ .
وَمَنْ لَا تُفْهَمُ إشَارَتُهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِضَمَانِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ ، فَكَذَلِكَ ضَمَانُهُ .
( 3575 ) فَصْلٌ : إذَا ضَمِنَ الدَّيْنَ الْحَالَ مُؤَجَّلًا ، صَحَّ ، وَيَكُونُ حَالًّا عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ مُؤَجَّلًا عَلَى الضَّامِنِ ، يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْمَضْمُونِ عَنْهُ دُونَ الضَّامِنِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رَجُلٍ ضَمِنَ مَا عَلَى فُلَانٍ أَنْ يُؤَدِّيَهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ : فَهُوَ عَلَيْهِ ، وَيُؤَدِّيَهُ كَمَا ضَمِنَ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ : مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { ، أَنَّ رَجُلًا لَزِمَ غَرِيمًا لَهُ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيكَهُ .
فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُفَارِقَنَّكَ حَتَّى تَقْضِيَنِي أَوْ تَأْتِيَنِي بِحَمِيلٍ ، فَجَرَّهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَمْ تَسْتَنْظِرْهُ ؟ قَالَ : شَهْرًا .
قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَأَنَا أَحْمِلُ .
فَجَاءَ بِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ أَيْنَ أَصَبْت هَذَا ؟ قَالَ : مِنْ مَعْدِنٍ .
قَالَ : لَا خَيْرَ فِيهَا .
وَقَضَاهَا عَنْهُ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، فِي " سُنَنِهِ " .
وَلِأَنَّهُ ضَمِنَ مَالًا بِعَقْدٍ مُؤَجَّلٍ ، فَكَانَ مُؤَجَّلًا كَالْبَيْعِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعِنْدَكُمْ الدَّيْنُ الْحَالُ لَا يَتَأَجَّلُ ، فَكَيْفَ يَتَأَجَّلُ عَلَى الضَّامِنِ ؟ أَمْ كَيْفَ يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ عَلَى غَيْرِ الْوَصْفِ الَّذِي يَتَّصِفُ بِهِ فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ؟ قُلْنَا : الْحَقُّ يَتَأَجَّلُ فِي ابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ ، إذَا كَانَ بِعَقْدٍ ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ ثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الضَّامِنِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا عَلَيْهِ حَالًّا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ مَا فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ مَاتَ الْمَضْمُونُ عَنْهُ وَالدَّيْنُ مُؤَجَّلٌ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، وَكَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا إلَى شَهْرٍ ، فَضَمِنَهُ إلَى شَهْرَيْنِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَةُ الضَّامِنِ إلَى شَهْرَيْنِ
، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ الْأَجَلِ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ فِي الْحَالِ ، عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ : إنَّهُ إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ رَجَعَ بِهِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ هَاهُنَا ، أَنَّهُ قَضَى بِغَيْرِ إذْنٍ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، لَا يَرْجِعُ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْقَضَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا فَضَمِنَهُ حَالًّا ، لَمْ يَصِرْ حَالًّا ، وَلَا يَلْزَمْهُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ فَرْعٌ لِلْمَضْمُونِ عَنْهُ ، فَلَا يَلْزَمُهُ مَا لَا يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ لَوْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ تَعْجِيلَ هَذَا الدَّيْنِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَعْجِيلُهُ ، فَبِأَنْ لَا يَلْزَمَ الضَّامِنَ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ الْتِزَامُ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْتَزِمَ مَا لَا يَلْزَمُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ .
فَعَلَى هَذَا ، إنْ قَضَاهُ حَالًّا ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهُ لَمْ يُغَيِّرْهُ عَنْ تَأْجِيلِهِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَلَّتِي قَبْلهَا ، أَنَّ الدَّيْنَ الْحَالَ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ ، مُسْتَحَقُّ الْقَضَاءِ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ ، فَإِذَا ضَمِنَهُ مُؤَجَّلًا فَقَدْ الْتَزَمَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَشْرَةً ، فَضَمِنَ خَمْسَةً ، وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ ، فَلَا يُسْتَحَقُّ قَضَاؤُهُ إلَّا عِنْدَ أَجَلِهِ ، فَإِذَا ضَمِنَهُ حَالًّا الْتَزَمَ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَضْمُونِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَشْرَةً فَضَمِنَ عِشْرِينَ .
وَقِيلَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ ضَمَانُ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ حَالًّا ، كَمَا يَصِحُّ ضَمَانُ الْحَالِ مُؤَجَّلًا ، قِيَاسًا لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى .
وَقَدْ فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا بِمَا يَمْنَعُ الْقِيَاسَ ، إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
( 3576 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ضَمِنَ دَيْنًا مُؤَجَّلًا عَنْ إنْسَانٍ ، فَمَاتَ أَحَدَاهُمَا ، إمَّا الضَّامِنُ وَإِمَّا الْمَضْمُونُ عَنْهُ ، فَهَلْ يَحِلُّ الدَّيْنُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْهُمَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمَا .
فَإِنْ قُلْنَا : يَحِلُّ عَلَى الْمَيِّتِ ، لَمْ يَحِلَّ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَحِلُّ عَلَى شَخْصٍ بِمَوْتِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْمَضْمُونَ عَنْهُ ، لَمْ يَسْتَحِقَّ مُطَالَبَةَ الضَّامِنِ قَبْلَ الْأَجَلِ ، فَإِنْ قَضَاهُ قَبْلَ الْأَجَلِ ، كَانَ مُتَبَرِّعًا بِتَعْجِيلِ الْقَضَاءِ ، وَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ قَبْلَ الْأَجَلِ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَنْ قَضَى بِغَيْرِ إذْنِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الضَّامِنَ ، فَاسْتَوْفَى الْغَرِيمُ الدَّيْنَ مِنْ تَرِكَتِهِ ، لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ مُطَالَبَةُ الْمَضْمُونِ عَنْهُ حَتَّى يَحِلَّ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ عَلَيْهِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتَهُ بِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَحُكِيَ عَنْ زَفَرَ أَنَّ لَهُمْ مُطَالَبَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَحِلُّ بِمَوْتِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ ، فَلَا تَجُوزُ مُطَالَبَتُهُ بِهِ قَبْلَ الْأَجَلِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَمُتْ .
وَقَوْلُهُ : أَدْخَلَهُ فِيهِ .
قُلْنَا : إنَّمَا أَدْخَلَهُ فِي الْمُؤَجَّلِ ، وَحُلُولُهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَضَى قَبْلَ الْأَجَلِ .
مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يَبْرَأُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الضَّامِنِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ لَا يَبْرَأُ بِنَفْسِ الضَّمَانِ ، كَمَا يَبْرَأُ الْمُحِيلُ بِنَفْسِ الْحَوَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، بَلْ يَثْبُتُ الْحَقُّ فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ ، مَعَ بَقَائِهِ فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : الْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ سَوَاءٌ ، وَكِلَاهُمَا يَنْقُلُ الْحَقَّ عَنْ ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ وَالْمُحِيلِ .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَدَاوُد ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ ، فَلَمَّا وُضِعَتْ ، قَالَ : هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ مِنْ دَيْنٍ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، دِرْهَمَانِ فَقَالَ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ .
فَقَالَ عَلِيٌّ : هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّه ، وَأَنَا لَهُمَا ضَامِنٌ .
فَقَامَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ : فَقَالَ : جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا عَنْ الْإِسْلَامِ ، وَفَكَّ رِهَانَك كَمَا فَكَكْت رِهَانَ أَخِيك .
فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّه ، هَذَا لِعَلِيٍّ خَاصَّةً ، أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً ؟ فَقَالَ : لِلنَّاسِ عَامَّةً } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ بَرِئَ بِالضَّمَانِ .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " ، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { تُوُفِّيَ صَاحِبٌ لَنَا ، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَخَطَا خُطْوَةً ، ثُمَّ قَالَ : أَعَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قُلْنَا : دِينَارَانِ .
فَانْصَرَفَ ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ .
فَقَالَ : الدِّينَارَانِ عَلَيَّ .
فَقَالَ .
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَجَبَ حَقُّ الْغَرِيمِ ، وَبَرِئَ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا ؟ قَالَ : نَعَمْ .
فَصَلَّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ