الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
يَجْمُدُ عَقِيبَ حَلْبِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْكَيْلُ فِيهِ .
( 3217 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ وَزْنُهُ بِالْمِيزَانِ لِثِقَلِهِ ، كَالْأَرْحِيَةِ وَالْحِجَارَةِ الْكِبَارِ ، يُوزَنُ بِالسَّفِينَةِ ، فَتُتْرَكُ السَّفِينَةُ فِي الْمَاءِ ، ثُمَّ يُتْرَكُ ذَلِكَ فِيهَا فَيَنْظُرُ إلَى أَيْ مَوْضِعٍ تَغُوصُ ، فَيُعَلِّمُهُ ، ثُمَّ يُرْفَعُ وَيُتْرَكُ مَكَانَهُ رَمْلٌ أَوْ حِجَارَةٌ صِغَارٌ ، إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْمَاءُ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ بَلَغَهُ ، ثُمَّ يُوزَنُ بِمِيزَانٍ .
فَمَا بَلَغَ فَهُوَ زِنَةُ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي أُرِيدَ مَعْرِفَةُ وَزْنِهِ .
( 3218 ) فَصْلٌ : وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْمَذْرُوعِ بِالذَّرْعِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ فِي الثِّيَابِ بِذَرْعِ مَعْلُومٍ .
( 3219 ) فَصْلٌ : وَمَا عَدَّا الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَذْرُوعِ ، فَعَلَى ضَرْبَيْنِ : مَعْدُودٍ ، وَغَيْرِهِ فَالْمَعْدُودُ نَوْعَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَتَبَايَنُ كَثِيرًا ، كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهِمَا ، فَيُسْلِمُ فِيهِ عَدَدًا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيِّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُسْلِمُ فِيهِمَا كَيْلًا أَوْ وَزْنًا ، وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَبَايَنُ وَيَخْتَلِفُ ، فَلَمْ يَجُزْ عَدَدًا ، كَالْبِطِّيخِ .
وَلَنَا أَنَّ التَّفَاوُتَ يَسِيرٌ ، وَيَذْهَبُ ذَلِكَ بِاشْتِرَاطِ الْكِبَرِ أَوْ الصِّغَرِ أَوْ الْوَسَطِ ، فَيَذْهَبُ التَّفَاوُتُ ، وَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ يَسِيرٌ عُفِيَ عَنْهُ ، كَسَائِرِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ ، وَيُفَارِقُ الْبِطِّيخَ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُودٍ ، وَالتَّفَاوُتُ فِيهِ كَثِيرٌ لَا يَنْضَبِطُ .
النَّوْعُ الثَّانِي ، مَا يَتَفَاوَتُ ؛ كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ ، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَيْسَ بِمَعْدُودٍ مِنْ الْبِطِّيخِ وَالْبُقُولِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُسْلِمُ فِيهِ عَدَدًا ، وَيَضْبِطُهُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ هَكَذَا .
الثَّانِي ، لَا يُسْلِمُ فِيهِ إلَّا وَزْنًا .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ بِالْعَدَدِ ، لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ كَثِيرًا ، وَيَتَبَايَنُ جِدًّا ، وَلَا بِالْكَيْلِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ الْبُقُولِ بِالْحَزْمِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ ، وَيُمْكِنُ حَزْمُ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَقْدِيرُهُ بِغَيْرِ الْوَزْنِ ، فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُهُ بِهِ .
( 3220 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ بِالْأَهِلَّةِ ) وَهَذَا الشَّرْطُ الرَّابِعُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا أَجَلًا مَعْلُومًا .
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ ثَلَاثَةٌ : ( 3221 ) أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ السَّلَمِ كَوْنُهُ مُؤَجَّلًا ، وَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ الْحَالُ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ : لَا يَصِحُّ حَتَّى يَشْتَرِطَ الْأَجَلَ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يَجُوزُ السَّلَمُ حَالًّا ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ مُؤَجَّلًا ، فَصَحَّ حَالًّا ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ مُؤَجَّلًا فَحَالًّا أَجْوَزُ ، وَمِنْ الْغَرَرِ أَبْعَدُ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ ، فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } .
فَأَمَرَ بِالْأَجَلِ ، وَأَمْرُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
وَلِأَنَّهُ أَمَرَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ تَبْيِينًا لِشُرُوطِ السَّلَمِ ، وَمَنْعًا مِنْهُ بِدُونِهَا ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ إذَا انْتَفَى الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ ، فَكَذَلِكَ الْأَجَلُ .
وَلِأَنَّ السَّلَمَ إنَّمَا جَازَ رُخْصَةً لِلرِّفْقِ ، وَلَا يَحْصُلُ الرِّفْقُ إلَّا بِالْأَجَلِ ، فَإِذَا انْتَفَى الْأَجَلُ انْتَفَى الرِّفْقُ ، فَلَا يَصِحُّ ، كَالْكِتَابَةِ .
وَلِأَنَّ الْحُلُولَ يُخْرِجُهُ عَنْ اسْمِهِ وَمَعْنَاهُ ، أَمَّا الِاسْمُ فَلِأَنَّهُ يُسَمَّى سَلَمًا وَسَلَفًا ؛ لِتَعَجُّلِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وَتَأَخُّرِ الْآخَرِ ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ ، مِنْ أَنَّ الشَّارِعَ أَرْخَصَ فِيهِ لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ ، وَمَعَ حُضُورِ مَا يَبِيعُهُ حَالًّا لَا حَاجَةً إلَى السَّلَمِ ، فَلَا يَثْبُتُ .
وَيُفَارِقُ تَنَوُّعَ الْأَعْيَانِ ، فَإِنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِالتَّأْجِيلِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ التَّنْبِيهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُجْزِئُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا فِي الْفَرْعِ بِصِفَةِ
التَّأْكِيدِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا ؛ فَإِنَّ الْبُعْدَ مِنْ الضَّرَرِ لَيْسَ هُوَ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ ، وَإِنَّمَا الْمُصَحَّحُ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ ، لَمْ نَذْكُرْ اجْتِمَاعَهُمَا فِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا افْتِرَاقَهُمَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ إنْ بَاعَهُ مَا يَصِحُّ السَّلَمُ فِيهِ حَالًّا فِي الذِّمَّة ، صَحَّ ، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى السَّلَمِ ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا فِي اللَّفْظِ .
( 3222 ) الْفَصْلُ الثَّانِي ، أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ السَّلَمِ كَوْنِ الْأَجَلِ مَعْلُومًا السَّلَم ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } .
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ " .
وَلَا نَعْلَمُ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ فِي الْجُمْلَةِ اخْتِلَافًا فَأَمَّا كَيْفِيَّتُهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُعْلِمَهُ بِزَمَانٍ بِعَيْنِهِ لَا يَخْتَلِفُ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَجِّلَهُ بِالْحَصَادِ وَالْجِزَازِ وَمَا أَشْبَهَهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهُ قَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ كَانَ يَبْتَاعُ إلَى الْعَطَاء .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى .
وَقَالَ أَحْمَدُ : إنْ كَانَ شَيْءٌ يُعْرَفُ فَأَرْجُو ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : إلَى قُدُومِ الْغُزَاةِ .
وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ وَقْتَ الْعَطَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ فَأَمَّا نَفْسُ الْعَطَاءِ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَجْهُولٌ يَخْتَلِفُ وَيَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ نَفْسَ الْعَطَاءِ ؛ لِكَوْنِهِ يَتَفَاوَتُ أَيْضًا ، فَأَشْبَهَ الْحَصَادَ .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ ، بِأَنَّهُ أَجَلٌ يَتَعَلَّقُ بِوَقْتٍ مِنْ الزَّمَنِ ، يُعْرَفُ فِي الْعَادَةِ ، لَا يَتَفَاوَتُ فِيهِ تَفَاوُتًا كَثِيرًا ، فَأَشْبَهَ إذَا قَالَ : إلَى رَأْسِ السَّنَةِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : لَا تَتَبَايَعُوا إلَى الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ ، وَلَا تَتَبَايَعُوا إلَّا إلَى شَهْرٍ مَعْلُومٍ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ وَيَقْرُبُ وَيَبْعُدُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَجَلًا كَقُدُومِ زَيْدٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَعَثَ إلَى يَهُودِيٍّ ، أَنْ ابْعَثْ إلَيَّ بِثَوْبَيْنِ إلَى الْمَيْسَرَةِ } .
قُلْنَا : قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : رَوَاهُ حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ .
قَالَ أَحْمَدُ : فِيهِ غَفْلَةٌ ،
وَهُوَ صَدُوقٌ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : فَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَفَلَاتِهِ ، إذْ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْأَجَلَ إلَى الْمَيْسَرَةِ لَمْ يَصِحَّ .
( 3223 ) فَصْلٌ : إذَا جَعَلَ الْأَجَلَ إلَى شَهْرٍ تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ .
وَإِنْ جَعَلَ الْأَجَلَ اسْمًا يَتَنَاوَلُ شَيْئَيْنِ كَجُمَادَى وَرَبِيعٍ وَيَوْمِ النَّفْرِ ، تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِمَا .
وَإِنْ قَالَ : إلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ كَانَ إلَى انْقِضَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مُبْهَمَةٍ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ حِينِ لَفْظِهِ بِهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إلَى شَهْرٍ .
كَانَ آخِرَهُ .
وَيَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى الْأَشْهُرِ الْهِلَالِيَّةِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } .
وَأَرَادَ الْهِلَالِيَّةَ .
وَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ كَمَّلْنَا شَهْرَيْنِ بِالْهِلَالِ وَشَهْرًا بِالْعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا .
وَقِيلَ : تَكُونُ الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا عَدَدِيَّةً .
وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَإِنْ قَالَ : مَحَلُّهُ شَهْرَ كَذَا أَوْ يَوْمَ كَذَا .
صَحَّ ، وَتَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ .
وَقِيلَ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ ظَرْفًا ، فَيَحْتَمِلُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي شَهْرِ كَذَا .
تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا .
فَإِنْ قِيلَ : الطَّلَاقُ يَتَعَلَّقُ بِالْإِخْطَارِ وَالْإِغْرَارِ ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى مَجْهُولٍ ، كَنُزُولِ الْمَطَرِ ، وَقُدُومِ زَيْدٍ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
قُلْنَا : إلَّا أَنَّهُ إذَا جَعَلَ مَحَلَّهُ فِي شَهْرٍ تَعَلَّقَ بِأَوَّلِهِ ، فَلَا يَكُونُ مَجْهُولًا ، وَكَذَا السَّلَمُ .
( 3224 ) فَصْلٌ : وَمِنْ شَرْطِ الْأَجَلِ أَنْ يَكُونَ مُدَّةً لَهَا وَقْعٌ فِي الثَّمَنِ ، كَالشَّهْرِ وَمَا قَارَبَهُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَوْ قَدَّرَهُ بِنِصْفِ يَوْمٍ ، جَازَ .
وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَجُوزُ فِيهَا خِيَارُ الشَّرْطِ ، وَلِأَنَّهَا آخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا عِنْدَهُمْ إبَاحَةُ رُخَصِ السَّفَرِ .
وَقَالَ الْآخَرُونَ : إنَّمَا اُعْتُبِرَ التَّأْجِيلُ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَعْدُومٌ فِي الْأَصْلِ ، لِكَوْنِ السَّلَمِ إنَّمَا ثَبَتَ رُخْصَةً فِي حَقِّ الْمَفَالِيسِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَجَلِ لِيَحْصُلَ وَيُسَلَّمَ ؛ وَهَذَا يَتَحَقَّقُ بِأَقَلِّ مُدَّةٍ يَتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ فِيهَا وَلَنَا أَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ لِيَتَحَقَّقَ الْمَرْفِقُ الَّذِي شُرِعَ مِنْ أَجْلِهِ السَّلَمُ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْمُدَّةِ الَّتِي لَا وَقْعَ لَهَا فِي الثَّمَنِ ، وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِمُدَّةِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَجُوزُ سَاعَةً ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَالْأَجَلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعْوَامًا ، وَهُمْ لَا يُجِيزُونَ الْخِيَارَ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثٍ ، وَكَوْنُهَا آخِرَ حَدِّ الْقِلَّةِ ، لَا يَقْتَضِي التَّقْدِيرَ بِهَا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِأَقَلِّ مُدَّةٍ .
غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ السَّلَمَ إنَّمَا يَكُونُ لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ الَّذِينَ لَهُمْ ثِمَارٌ أَوْ زُرُوعٌ أَوْ تِجَارَاتٌ يَنْتَظِرُونَ حُصُولَهَا ، وَلَا تَحْصُلُ هَذِهِ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ .
( 3225 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، فِي كَوْنِ الْأَجَلِ مَعْلُومًا بِالْأَهِلَّةِ ، وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ إلَى وَقْتٍ يُعْلَمُ بِالْهِلَالِ ، نَحْوَ أَوَّلِ الشَّهْرِ ، أَوْ أَوْسَطِهِ ، أَوْ آخِرِهِ ، أَوْ يَوْمٍ مَعْلُومٍ مِنْهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } .
وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ التَّأْجِيلِ بِذَلِكَ .
وَلَوْ أَسْلَمَ إلَى عِيدِ الْفِطْرِ ، أَوْ النَّحْرِ ، أَوْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، أَوْ عَاشُورَاءَ ، أَوْ نَحْوِهَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِالْأَهِلَّةِ .
وَإِنْ جَعَلَ الْأَجَلَ مُقَدَّرًا بِغَيْرِ الشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ ، فَذَلِكَ قِسْمَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ ، وَهُوَ بَيْنَهُمْ مَشْهُورٌ كَكَانُونَ وَشُبَاطَ ، أَوْ عِيدٍ لَا يَخْتَلِفُ كَالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُهُمَا ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ وَابْنِ أَبِي مُوسَى ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَسْلَمَ إلَى غَيْرِ الشُّهُورِ الْهِلَالِيَّةِ .
أَشْبَهَ إذَا أَسْلَمَ إلَى الشَّعَانِينِ وَعِيدِ الْفَطِيرِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ لَا يَعْرِفُهَا كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، أَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَصِحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ .
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إذَا أَسْلَمَ إلَى فِصْحِ النَّصَارَى وَصَوْمِهِمْ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ لَا يَخْتَلِفُ ، أَشْبَهَ أَعْيَادَ الْمُسْلِمِينَ .
وَفَارَقَ مَا يَخْتَلِفُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ الْمُسْلِمُونَ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، مَا لَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ ، كَعِيدِ الشَّعَانِينِ وَعِيدِ الْفَطِيرِ وَنَحْوِهِمَا ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُونَهُ ، وَلَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، وَلِأَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَهُ وَيُؤَخِّرُونَهُ عَلَى حِسَابٍ لَهُمْ لَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ .
وَإِنْ أَسْلَمَ إلَى مَا لَا يَخْتَلِفُ ، مِثْلُ كَانُونِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَعْرِفُهُ الْمُتَعَاقِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ عِنْدَهُ .
مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( مَوْجُودًا عِنْدَ مَحَلِّهِ ) هَذَا الشَّرْطُ الْخَامِسُ ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَامَّ الْوُجُودِ فِي مَحِلِّهِ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ ، أَمْكَنَ تَسْلِيمُهُ عِنْدَ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامَ الْوُجُودِ ، لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْمَحِلِّ بِحُكْمِ الظَّاهِرِ ، فَلَمْ يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ ، كَبَيْعِ الْآبِقِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ السَّلَمَ اُحْتُمِلَ فِيهِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْغَرَرِ لِلْحَاجَةِ ، فَلَا يَحْتَمِلُ فِيهِ غَرَرٌ آخَرُ ، لِئَلَّا يَكْثُرَ الْغَرَرُ فِيهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ إلَى شُبَاطَ أَوْ آذَارَ ، وَلَا إلَى مَحِلٍّ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ فِيهِ ، كَزَمَانِ أَوَّلِ الْعِنَبِ أَوْ آخِرِهِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ إلَّا نَادِرًا ، فَلَا يُؤْمَنُ انْقِطَاعُهُ .
( 3227 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ ، وَلَا قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ ؛ لِكَوْنِهِ لَا يُؤْمَنُ تَلَفُهُ وَانْقِطَاعُهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : إبْطَالُ السَّلَمِ إذَا أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ كَالْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَمِمَّنْ حَفِظْنَا عَنْهُ ذَلِكَ ؛ الثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَإِسْحَاقُ .
قَالَ : وَرَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، أَنَّهُ أَسَلَفَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ دَنَانِيرَ فِي تَمْرٍ مُسَمًّى ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : مِنْ تَمْرِ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ فَلَا ، وَلَكِنْ كَيْلٌ مُسَمًّى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ ، وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْجُوزَجَانِيُّ ، فِي " الْمُتَرْجَمِ " .
وَقَالَ : أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِهَذَا الْبَيْعِ .
وَلِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ ، لَمْ يُؤْمَنْ انْقِطَاعُهُ وَتَلَفُهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ قَدَّرَهُ بِمِكْيَالِ مُعَيَّنٍ ، أَوْ صَنْجَةٍ مُعَيَّنَةٍ ، أَوْ أَحْضَرَ خِرْقَةً ، وَقَالَ : أَسْلَمْت إلَيْك فِي مِثْلِ هَذِهِ .
( 3228 ) فَصْلٌ : وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَوْجُودًا حَالِ السَّلَمِ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي الرُّطَبِ فِي أَوَانِ الشِّتَاءِ ، وَفِي كُلِّ مَعْدُومٍ إذَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْمَحَلِّ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يَجُوزُ حَتَّى يَكُونَ جِنْسُهُ مَوْجُودًا حَالَ الْعَقْدِ إلَى حِينِ الْمَحِلِّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ زَمَنٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِلْمُسْلِمِ فِيهِ لِمَوْتِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ، فَاعْتُبِرَ وُجُودُهُ فِيهِ كَالْمَحِلِّ وَلَنَا { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ ، فَقَالَ : مَنْ أَسَلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْوُجُودَ ، وَلَوْ كَانَ شَرْطًا لَذَكَرَهُ ، وَلَنَهَاهُمْ عَنْ السَّلَفِ سَنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ انْقِطَاعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ أَوْسَطِ السَّنَةِ ، وَلِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، وَيُوجَدُ فِي مَحِلِّهِ غَالِبًا ، فَجَازَ السَّلَمُ فِيهِ ، كَالْمَوْجُودِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدَّيْنَ يَحِلُّ بِالْمَوْتِ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ الْوُجُودَ ، إذْ لَوْ لَزِمَ أَفْضَى إلَى أَنْ تَكُونَ آجَالُ السَّلَمِ مَجْهُولَةً ، وَالْمَحِلُّ مَا جَعَلَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ مَحِلًّا ، وَهَا هُنَا لَمْ يَجْعَلَاهُ .
( 3229 ) فَصْلٌ : إذَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ عِنْدَ الْمَحِلِّ ، إمَّا لِغَيْبَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ أَوْ عَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ ، حَتَّى عَدِمَ الْمُسْلَمُ فِيهِ ، أَوْ لَمْ تَحْمِلْ الثِّمَارُ تِلْكَ السَّنَةَ ، فَالْمُسْلِمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يُوجَدَ فَيُطَالِبَ بِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَرْجِعَ بِالثَّمَنِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا ، أَوْ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا ، وَإِلَّا قِيمَتَهُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِنَفْسِ التَّعَذُّرِ ؛ لِكَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ ثَمَرَةِ الْعَامِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ مِنْهَا ، فَإِذَا هَلَكَتْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ فَهَلَكَتْ .
وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ صَحَّ ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَلَا يَصِحُّ دَعْوَى التَّعْيِينِ فِي هَذَا الْعَامِ ؛ فَإِنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ غَيْرِهَا ، جَازَ ، وَإِنَّمَا أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِهِ مِنْ ثَمَرَةِ الْعَامِ ، لِتَمْكِينِهِ مِنْ دَفْعِ مَا هُوَ بِصِفَةِ حَقِّهِ ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ مِنْ ثَمَرَةِ نَفْسِهِ إذَا وَجَدَهَا وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا ، وَلَيْسَتْ مُتَعَيِّنَةً .
وَإِنْ تَعَذَّرَ الْبَعْضُ ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ فِي الْكُلِّ ، وَالرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ إلَى حِينِ الْإِمْكَانِ ، وَيُطَالِبَ بِحَقِّهِ .
فَإِنْ أَحَبَّ الْفَسْخَ فِي الْمَفْقُودِ دُونَ الْمَوْجُودِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ طَرَأَ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، فَلَا يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ صُبْرَتَيْنِ فَتَلِفَتْ إحْدَاهُمَا .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ : لَيْسَ لَهُ الْفَسْخُ إلَّا فِي الْكُلِّ ، أَوْ يَصْبِرُ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِي الْإِقَالَةِ فِي بَعْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْفَسْخَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ التَّعَذُّرِ .
انْفَسَخَ فِي الْمَفْقُودِ
دُونَ الْمَوْجُودِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْفَسَادَ الطَّارِئَ عَلَى بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْجَمِيعِ ، وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ فِي الْمَوْجُودِ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
( 3230 ) فَصْلٌ : إذَا أَسْلَمَ نَصْرَانِيٌّ إلَى نَصْرَانِيٍّ فِي خَمْرٍ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا .
فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مِنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَأْخُذُ دَرَاهِمَهُ .
كَذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَبِهِ نَقُولُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُسْلِمُ الْمُسَلِّمَ فَلَيْسَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الْخَمْرِ ، فَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إيفَاؤُهَا ، فَصَارَ الْأَمْرُ إلَى رَأْسِ مَالِهِ .
( 3231 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ كَامِلًا وَقْتَ السَّلَمَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ) هَذَا الشَّرْطُ السَّادِسُ ، وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ ذَلِكَ بَطَلَ الْعَقْدُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ قَبْضُهُ يَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً وَأَكْثَرَ ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطًا ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ لَا يَخْرُجُ بِتَأْخِيرِ قَبْضِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَلَمًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَأَخَّرَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، لَا يَجُوزُ فِيهِ شَرْطُ تَأْخِيرِ الْعِوَضِ الْمُطْلَقِ ، فَلَا يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، كَالصَّرْفِ وَيُفَارِقُ الْمَجْلِسُ مَا بَعْدَهُ ، بِدَلِيلِ الصَّرْفِ .
وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَهُ ، ثُمَّ تَفَرَّقَا ، فَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِقَوْلِهِ : " كَامِلًا " .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيِّ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : هَلْ يَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
وَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ، إذَا أَسْلَمَ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي أَصْنَافٍ شَتَّى ؛ مِائَةً فِي حِنْطَةٍ وَمِائَةً فِي شَعِيرٍ ، وَمِائَةً فِي شَيْءٍ آخَرَ ، فَخَرَجَ فِيهَا زُيُوفٌ ، رَدَّ عَلَى الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ ، عَلَى كُلِّ صِنْفٍ بِقَدْرِ مَا وَجَدَ مِنْ الزُّيُوفِ ، فَصَحَّ الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ .
وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ ، فِي مَنْ أَسْلَمَ أَلْفًا إلَى رَجُلٍ ، فَقَبَّضَهُ نِصْفَهُ ، وَأَحَالَهُ بِنِصْفِهِ ، أَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِقَدْرِ نِصْفِهِ ، فَحَسَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَلْفِ : فَإِنَّهُ يَصِحُّ السَّلَمُ فِي النِّصْفِ الْمَقْبُوضِ ، وَيَبْطُلُ فِي الْبَاقِي .
فَأَبْطَلَ السَّلَمَ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ ، وَصَحَّحَهُ فِيمَا قَبَضَ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : يَبْطُلُ فِي الْحَوَالَةِ فِي الْكُلِّ .
وَفِي
الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى : يَبْطُلُ فِيمَا لَمْ يَقْبِضْ ، وَيَصِحُّ فِيمَا قَبَضَ بِقِسْطِهِ ؛ بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَوَجَدَهُ رَدِيئًا ، فَرَدَّهُ وَالثَّمَنُ مُعَيَّنٌ ، بَطَلَ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ ، وَيَبْتَدِئَانِ عَقْدًا آخَرَ إنْ أَحَبَّا .
وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَهُ إبْدَالُهُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى ثَمَنٍ سَلِيمٍ ، فَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَا لَيْسَ بِسَلِيمِ ، كَانَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالسَّلِيمِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ قَبْضُ الْمَعِيبِ فِي الْعَقْدِ .
وَإِنْ تَفَرَّقَا ، ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ فَرَدَّهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ ، لِوُقُوعِ الْقَبْضِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي السَّلَمِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الْأَوَّلَ كَانَ صَحِيحًا ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَمْسَكَهُ وَلَمْ يَرُدَّهُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْبُوضِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَاخْتِيَارُ الْمُزَنِيّ ، لَكِنَّ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَقْبِضَ الْبَدَلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ ، فَإِنْ تَفَرَّقَا عَنْ مَجْلِسِ الرَّدِّ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلَ لَمْ يَصِحَّ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِخُلُوِّ الْعَقْدِ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا .
وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَ الثَّمَنِ رَدِيئًا فَرَدَّهُ ، فَعَلَى الْمَرْدُودِ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَهَلْ يَصِحُّ فِي غَيْرِ الرَّدِيءِ إذَا قُلْنَا بِفَسَادِهِ فِي الرَّدِيءِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
( 3233 ) فَصْلٌ : وَإِنْ خَرَجَتْ الدَّرَاهِمُ مُسْتَحَقَّةً وَالثَّمَنُ مُعَيَّنٌ ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا خَرَجَتْ الدَّرَاهِمُ مَسْرُوقَةً ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا فَقَدْ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ فِي الْمَجْلِسِ .
وَإِنْ قَبَضَهُ ثُمَّ تَفَرَّقَا بَطَلَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا ، فَقَدْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَخْذِ الثَّمَنِ ، إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُلْ بِصِحَّةِ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ ، أَوْ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ .
وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ مُسْتَحَقًّا ، بَطَلَ فِي ذَلِكَ الْبَعْضِ ، وَفِي الْبَاقِي وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
( 3234 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ دِينَارٌ ، فَجَعَلَهُ سَلَمًا فِي طَعَامٍ إلَى أَجَلٍ ، لَمْ يَصِحَّ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَا يَصْلُحُ ذَلِكَ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ ، فَإِذَا جَعَلَ الثَّمَنَ دَيْنًا كَانَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَلَوْ قَالَ أَسْلَمْت إلَيْك مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُرِّ طَعَامٍ .
وَشَرَطَا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ مِنْهَا خَمْسِينَ وَخَمْسِينَ إلَى أَجَلٍ ، لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ ، عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ ، وَيُخَرَّجُ [ فِي ] صِحَّتِهِ فِي قَدْرِ الْمَقْبُوضِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَصِحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالثَّانِي ، لَا يَصِحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَهُوَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ لِلْمُعَجَّلِ فَضْلًا عَلَى الْمُؤَجَّلِ ، فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ أَكْثَرِ مِمَّا فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤَجَّلِ ، وَالزِّيَادَةُ مَجْهُولَةٌ ، فَلَا يَصِحُّ .
( 3235 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَتَى عَدِمَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ ، بَطَلَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ السِّتَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إلَّا بِهَا ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي شَرْطَيْنِ آخَرَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، مَعْرِفَةُ صِفَةِ الثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ .
وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِ مَعْرِفَةِ صِفَتِهِ ، إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ عِوَضَيْ السَّلَمِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا اشْتَرَطَ مَعْرِفَةَ صِفَتِهِ ، كَالْمُسْلَمِ فِيهِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ وَفِي الْبَلَدِ نَقْدٌ مُعَيَّنٌ ، انْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ ، وَقَامَ مَقَامَ وَصْفِهِ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الثَّمَنُ مُعَيَّنًا ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ : لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ وَصْفِهِ ، وَاحْتَجَّا بُقُولِ أَحْمَدَ : يَقُولُ : أَسْلَمْت إلَيْك كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا .
وَيَصِفُ الثَّمَنَ .
فَاعْتَبَرَ ضَبْطَ صِفَتِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَمْلِكُ إتْمَامَهُ فِي الْحَالِ ، وَلَا تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُؤْمَنُ انْفِسَاخُهُ ، فَوَجَبَ مَعْرِفَةُ رَأْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، لِيَرُدَّ بَدَلَهُ ، كَالْقَرْضِ وَالشَّرِكَةِ .
وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَظْهَرَ بَعْضُ الثَّمَنِ مُسْتَحِقًّا ، فَيَنْفَسِخَ الْعَقْدُ فِي قَدْرِهِ ، فَلَا يَدْرِي فِي كَمْ بَقِيَ وَكَمْ انْفَسَخَ ؟ فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَوْهُومٌ ، وَالْمَوْهُومَاتُ لَا تُعْتَبَرُ .
قُلْنَا : التَّوَهُّمُ مُعْتَبَرٌ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْجَوَازِ ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ إذَا وَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ الْغَرَرِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا ، بِدَلِيلِ مَا إذَا أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةِ بُسْتَانٍ بِعَيْنِهِ ، أَوْ قَدَّرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ بِصَنْجَةٍ أَوْ مِكْيَالٍ مُعَيَّنٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مُشَاهَدٌ ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ إنَّمَا تَنَاوَلَ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ ، وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ أَوْصَافِهِ .
وَدَلِيلُهُمْ يَنْتَقِضُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَأَنَّهُ يَنْفَسِخُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ ، وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ الْيَقِينِ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَوْصَافِ .
وَلِأَنَّ رَدَّ مِثْلِ الثَّمَنِ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عِنْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ ، لَا مِنْ جِهَةِ عَقْدِهِ ، وَجَهَالَةُ ذَلِكَ لَا تُؤَثِّرُ ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْمَكِيلَ ، أَوْ الْمَوْزُونَ .
وَلِأَنَّ الْعَقْدَ تَمَّتْ شَرَائِطُهُ .
فَلَا يَبْطُلُ بِأَمْرٍ مَوْهُومٍ ، فَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَعْتَبِرُ صِفَاتَهُ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ مَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَاتِهِ ، كَالْجَوَاهِرِ وَسَائِرِ مَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ، فَإِنْ جَعَلَاهُ سَلَمًا بَطَلَ الْعَقْدُ ، وَيَجِبُ رَدُّهُ إنْ كَانَ مَوْجُودًا ، وَقِيمَتِهِ إنْ عُرِفَتْ إذَا كَانَ مَعْدُومًا .
فَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ .
وَهَكَذَا إنْ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْعَقْدِ ثُمَّ انْفَسَخَ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : فِي مِائَةِ مُدَّيْ حِنْطَةٍ .
وَقَالَ الْآخَرُ : فِي مِائَةِ مُدَّيْ شَعِيرٍ .
تَحَالَفَا ، وَتَفَاسَخَا بِهِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ : كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ .
( 3236 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَالَيْنِ حَرُمَ النَّسَاءُ فِيهِمَا ، لَا يَجُوزُ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ مِنْ شَرْطِهِ النَّسَاءُ وَالتَّأْجِيلُ .
وَالْخِرَقِيُّ مَنَعَ بَيْعَ الْعُرُوضِ بَعْضُهَا بِبَعْضِ نَسَاءً .
فَعَلَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ إسْلَامُ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ إلَّا عَيْنًا أَوْ وَرِقًا .
وَقَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ هَاهُنَا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
قِيلَ لِأَحْمَدَ : يُسْلَمُ مَا يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ ، وَمَا يُكَالُ فِيمَا يُوزَنُ ؟ فَلَمْ يُعْجِبْهُ .
وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ ثَمَنًا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ إلَّا ثَمَنًا ، فَلَا تَكُونُ مُثَمَّنَةً .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِجَوَازِ النَّسَاءِ فِي الْعُرُوضِ ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ عَرْضًا ، كَالثَّمَنِ سَوَاءً ، وَيَجُوزُ إسْلَامُهَا فِي الْأَثْمَانِ .
قَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ : يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ صَدَاقًا ، فَتَثْبُتُ سَلَمًا ، كَالْعُرُوضِ .
وَلِأَنَّهُ لَا رِبًا بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ التَّفَاضُلُ وَلَا النَّسَاءُ ، فَصَحَّ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ، كَالْعَرْضِ فِي الْعَرْضِ ، وَلَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ صَحَّ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُثَمَّنًا .
فَعَلَى هَذَا إذَا أَسْلَمَ عَرْضًا فِي عَرْضٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَاتِهِ ، فَجَاءَهُ عِنْدَ الْحُلُولِ بِذَلِكَ الْعَرْضِ بِعَيْنِهِ ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ ، عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَاهُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى صِفَتِهِ ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ غَيْرَهُ .
وَالثَّانِي ، لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى كَوْنِ الثَّمَنِ هُوَ الْمُثَمَّنُ ، وَمَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ قَالَ : هَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ إنَّمَا هُوَ فِي الذِّمَّةِ .
وَهَذَا عِوَضٌ عَنْهُ .
وَهَكَذَا لَوْ أَسْلَمَ جَارِيَةً صَغِيرَةً فِي كَبِيرَةٍ فَحَلَّ الْمَحِلُّ وَهِيَ عَلَى صِفَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، فَأَحْضَرَهَا ، فَعَلَى احْتِمَالَيْنِ أَيْضًا ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَصِحُّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَمْتَعَ بِهَا وَرَدَّهَا خَالِيَةً عَنْ عُقْرٍ .
وَالثَّانِي ، يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ أَحْضَرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى صِفَتِهِ .
وَيَبْطُلُ الْأَوَّلُ بِمَا إذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَرَدَّهَا .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ حِيلَةً ؛ لِيَنْتَفِعَ بِالْعَيْنِ ، أَوْ لِيَطَأَ الْجَارِيَةَ ثُمَّ يَرُدَّهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، لَمْ يَجُزْ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْحِيَلَ كُلَّهَا بَاطِلَةٌ .
الشَّرْطُ الثَّانِي الْمُخْتَلَفُ فِيهِ ، تَعَيُّنُ مَكَانُ الْإِيفَاءِ .
قَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ بِشَرْطٍ .
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ ، وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ ، إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } .
وَلَمْ يَذْكُرْ مَكَانَ الْإِيفَاءِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ .
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ { ، أَنَّ الْيَهُودِيَّ أَسْلَمَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا مِنْ حَائِطِ بَنِي فُلَانٍ فَلَا ، وَلَكِنْ كَيْلٌ مُسَمًّى ، إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } .
وَلَمْ يَذْكُرْ مَكَانَ الْإِيفَاءِ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ذِكْرُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : يُشْتَرَطُ ذِكْرُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ .
وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : هُوَ مَكْرُوهٌ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَجِبُ بِحُلُولِهِ ، وَلَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ حِينَئِذٍ ، فَيَجِبُ شَرْطُهُ لِئَلَّا يَكُونَ مَجْهُولًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : إنْ كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةً ، وَجَبَ شَرْطُهُ ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةً اخْتَلَفَ فِيهِ الْغَرَضُ ، بِخِلَافِ مَا لَا مُؤْنَةَ فِيهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : إنْ كَانَا فِي بَرِّيَّةٍ لَزِمَ ذِكْرُ مَكَانِ الْإِيفَاءُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي بَرِّيَّةٍ ، فَذِكْرُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ حَسَنٌ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَاهُ كَانَ الْإِيفَاءُ فِي مَكَانَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَا فِي بَرِّيَّةٍ لَمْ يُمْكِنْ التَّسْلِيمُ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ فَإِذَا تَرَكَ ذِكْرَهُ كَانَ مَجْهُولًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا فِي بَرِّيَّةٍ اقْتَضَى الْعَقْدُ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ ، فَاكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ ذَكَره ، فَإِنْ ذَكَرَهُ كَانَ تَأْكِيدًا ، فَكَانَ حَسَنًا فَإِنْ شَرَطَ الْإِيفَاءَ
فِي مَكَان سَوَاءٍ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ بَيْعٍ فَصَحَّ شَرْطُ ذِكْرِ الْإِيفَاءِ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ .
وَلِأَنَّهُ شَرَطَ ذِكْرَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ ذَكَرَهُ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ شَرَطَ خِلَافَ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْإِيفَاءَ فِي مَكَانِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : مَتَى ذَكَرَ مَكَانَ الْإِيفَاءِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، سَوَاءٌ شَرَطَهُ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ، فَأَشْبَهَ تَعْيِينَ الْمِكْيَالِ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ فِي تَعْيِينِ الْمَكَانِ غَرَضًا وَمَصْلَحَةً لَهُمَا ، فَأَشْبَهَ تَعْيِينَ الزَّمَانِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ احْتِمَالِ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ فِيهِ يَبْطُلُ بِتَعْيِينِ الزَّمَانِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ التَّسْلِيمَ فِي مَكَانِهِ ، فَإِذَا شَرَطَهُ فَقَدْ شَرَطَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، أَوْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَتَعَيَّنَ ذِكْرُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ ، نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ عَنْهُ ، وَقَطْعًا لِلتَّنَازُعِ ، فَالْغَرَرُ فِي تَرْكِهِ لَا فِي ذِكْرِهِ .
وَفَارَقَ تَعْيِينَ الْمِكْيَالِ ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَيَفُوتُ بِهِ عِلْمُ الْمِقْدَارِ الْمُشْتَرَطِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَيُفْضِي إلَى التَّنَازُعِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَرْطٌ ، وَيَقْطَعُ التَّنَازُعَ ، فَالْمَعْنَى الْمَانِعُ مِنْ التَّقْدِيرِ بِمِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ مَجْهُولٍ هُوَ الْمُقْتَضِي لِشَرْطِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُهُمْ عَلَيْهِ .
( 3237 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَبَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ بَائِعِهِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَاسِدٌ .
وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ فِيهِ ، وَالتَّوْلِيَةُ ، وَالْحَوَالَةُ بِهِ ، طَعَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ) أَمَّا بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَلَا نَعْلَمُ فِي تَحْرِيمِهِ خِلَافًا ، وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ } ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ .
وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ لَمْ يَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ، كَالطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ .
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ فِيهِ وَالتَّوْلِيَةُ ، فَلَا تَجُوزُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُمَا بَيْعٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ جَوَازُ الشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَأَرْخَصَ فِي الشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ } .
وَلَنَا ، أَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ .
وَلِأَنَّهُمَا نَوْعَا بَيْعٍ ، فَلَمْ يَجُوزَا فِي الْمُسْلَمِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، كَالنَّوْعِ الْآخَرِ ، وَالْخَبَرُ لَا نَعْرِفُهُ ، وَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا ؛ لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَالشَّرِكَةُ وَالتَّوْلِيَةُ بَيْعٌ فَيَدْخُلَانِ فِي النَّهْيِ .
وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ : وَأَرْخَصَ فِي الشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ .
عَلَى أَنَّهُ أَرْخَصَ فِيهِمَا فِي الْجُمْلَةِ ، لَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَإِنَّهَا فَسْخٌ وَلَيْسَتْ بَيْعًا .
وَأَمَّا الْحَوَالَةُ بِهِ فَغَيْرُ جَائِزَةٍ ، لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إنَّمَا تَجُوزُ عَلَى دَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ ، وَالسَّلَمُ بِغَرَضِ الْفَسْخِ ، فَلَيْسَ بِمُسْتَقَرٍّ .
وَلِأَنَّهُ نَقْلٌ لِلْمِلْكِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْفَسْخِ ، فَلَمْ يَجُزْ كَالْبَيْعِ .
وَمَعْنَى الْحَوَالَةِ بِهِ ، أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ طَعَامٌ مِنْ سَلَمٍ ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ مِنْ قَرْضٍ أَوْ سَلَمٍ آخَرَ أَوْ بَيْعٍ فَيُحِيلُ
بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ عَلَى الَّذِي لَهُ عِنْدَهُ السَّلَمُ ، فَلَا يَجُوزُ .
وَإِنْ أَحَالَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ الْمُسْلَمَ بِالطَّعَامِ الَّذِي عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَالْبَيْعِ .
وَأَمَّا بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ بَائِعِهِ ، فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَ مَا أَسْلَمَ فِيهِ عِوَضًا عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ .
فَهَذَا حَرَامٌ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْقِيمَةِ ، أَوْ أَقَلِّ ، أَوْ أَكْثَرِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى ، عَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةً أُخْرَى فِي مَنْ أَسْلَمَ فِي بُرٍّ ، فَعَدِمَهُ عِنْدَ الْمَحِلِّ ، فَرَضِيَ الْمُسْلِمُ بِأَخْذِ الشَّعِيرِ مَكَانَ الْبُرِّ ، جَازَ .
وَلَمْ يَجُزْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ .
وَهَذَا يُحْمَلُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ غَيْرَ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَكَانَهُ ، يَتَعَجَّلُهُ وَلَا يُؤَخِّرُهُ إلَى الطَّعَامِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ إلَى أَجَلٍ فَإِنْ أَخَذْت مَا أَسْلَفْت فِيهِ ، وَإِلَّا فَخُذْ عِوَضًا أَنْقَصَ مِنْهُ ، وَلَا تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي " سُنَنِهِ " .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ ، فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَلِأَنَّ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ بَيْعٌ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَبَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ .
فَأَمَّا إنْ أَعْطَاهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَسْلَمَ فِيهِ خَيْرًا مِنْهُ ، أَوْ دُونَهُ فِي الصِّفَاتِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبَيْعٍ ، إنَّمَا هُوَ قَضَاءٌ لِلْحَقِّ ، مَعَ تَفَضُّلٍ مِنْ أَحَدِهِمَا .
( 3238 ) فَصْلٌ فَأَمَّا .
الْإِقَالَةُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ ، فَجَائِزَةٌ ، لِأَنَّهَا فَسْخٌ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْإِقَالَةَ فِي جَمِيعِ مَا أَسْلَمَ فِيهِ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ ، وَرَفْعٌ لَهُ مِنْ أَصْلِهِ ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا .
قَالَ الْقَاضِي : وَلَوْ قَالَ : لِي عِنْدَك هَذَا الطَّعَامُ ، صَالِحْنِي مِنْهُ عَلَى ثَمَنِهِ .
جَازَ ، وَكَانَتْ إقَالَةً صَحِيحَةً .
فَأَمَّا الْإِقَالَةُ فِي بَعْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، فَاخْتَلَفَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ .
وَرُوِيَتْ كَرَاهَتُهَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَرَبِيعَةَ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَإِسْحَاقَ .
وَرَوَى حَنْبَلٌ ، عَنْ أَحْمَدَ .
أَنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهَا .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُوسٍ ، وَمُحَمَّدِ بْن عَلِيٍّ وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَالْحَكَمِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَالنُّعْمَانِ وَأَصْحَابِهِ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا ، وَكُلُّ مَعْرُوفٍ جَازَ فِي الْجَمِيعِ جَازَ فِي الْبَعْضِ ، كَالْإِبْرَاءِ وَالْإِنْظَارِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، أَنَّ السَّلَفَ فِي الْغَالِبِ يُزَادُ فِيهِ فِي الثَّمَنِ مِنْ أَجْلِ التَّأْجِيلِ ، فَإِذَا أَقَالَهُ فِي الْبَعْضِ ، بَقِيَ الْبَعْضُ بِالْبَاقِي مِنْ الثَّمَنِ وَبِمَنْفَعَةِ الْجُزْءِ الَّذِي حُصِلَتْ الْإِقَالَةُ فِيهِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ .
وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْإِبْرَاءُ وَالْإِنْظَارُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
( 3239 ) فَصْلٌ : إذَا أَقَالَهُ ، رَدَّ الثَّمَنَ إنْ كَانَ بَاقِيًا ، أَوْ مِثْلَهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا ، أَوْ قِيمَتَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا .
فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ عِوَضًا عَنْهُ ، فَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ : لَيْسَ لَهُ صَرْفُ ذَلِكَ الثَّمَنِ فِي عَقْدٍ آخَرَ
حَتَّى يَقْبِضَهُ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } .
وَلِأَنَّ هَذَا مَضْمُونٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِعَقْدِ السَّلَمِ ، فَلَمْ يَجُزْ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مُسْتَقِرٌّ فِي الذِّمَّةِ ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ قَرْضًا .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ عَادَ إلَيْهِ بِفَسْخِ الْعَقْدِ ، فَجَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ ، كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ إذَا فُسِخَ ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ ، وَهَذَا مَضْمُونٌ بَعْدَ فَسْخِهِ ، وَالْخَبَرُ أَرَادَ بِهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ هَذَا .
فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ كَانَ قَرْضًا أَوْ ثَمَنًا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ سَلَمًا فِي شَيْءٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَيَجُوزُ فِيهِ مَا يَجُوزُ فِي الْقَرْضِ وَأَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ إذَا فُسِخَتْ .
( 3240 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسَيْنِ ثَمَنًا وَاحِدًا ، لَمْ يَجُزْ ، حَتَّى يُبَيِّنَ ثَمَنَ كُلِّ جِنْسٍ ) صُورَةُ ذَلِكَ أَنَّ يُسْلِمَ دِينَارًا وَاحِدًا فِي قَفِيزِ حِنْطَةٍ وَقَفِيزِ شَعِيرٍ ، وَلَا يُبَيِّنَ ثَمَنَ الْحِنْطَةِ مِنْ الدِّينَارِ ، وَلَا ثَمَنَ الشَّعِيرِ ، فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ .
وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ جَازَ عَلَى جِنْسَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ ، جَازَ عَلَيْهِمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، وَكَمَا لَوْ بَيَّنَ ثَمَنَ أَحَدِهِمَا .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا يُقَابِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسَيْنِ مَجْهُولٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ عَقَدَ عَلَيْهِ مُفْرَدًا بِثَمَنِ مَجْهُولٍ .
وَلِأَنَّ فِيهِ غَرَرًا لِأَنَّنَا لَا نَأْمَنُ الْفَسْخَ بِتَعَذُّرِ أَحَدِهِمَا ، فَلَا يَعْرِفُ بِمَ يَرْجِعُ ؟ وَهَذَا غَرَرٌ أَثَّرَ مِثْلُهُ فِي السَّلَمِ .
وَبِمِثْلِ هَذَا عَلَّلْنَا مَعْرِفَةَ صِفَةِ الثَّمَنِ وَقَدْرِهِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا ثَمَّ وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ ، فَيُخَرَّجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ .
وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُسْلِمَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ إلَى أَجَلَيْنِ ، وَلَا يُبَيِّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، كَذَا هَاهُنَا .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ، حَتَّى يُبَيِّنَ حِصَّةَ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ .
وَالْأَوْلَى صِحَّةُ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَعَذَّرَ بَعْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، رَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنْهُمَا ؛ إنْ تَعَذَّرَ النِّصْفُ رَجَعَ بِنِصْفِهِمَا ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْخُمْسُ رَجَعَ بِدِينَارِ وَعَشْرَةِ دَرَاهِمَ .
( 3241 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ، عَلَى أَنْ يَقْبِضَهُ فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَجْزَاءً مَعْلُومَةً ، فَجَائِزٌ ) قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الرَّجُلُ يَدْفَعُ إلَى الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ فِي الشَّيْءِ يُؤْكَلُ ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ تِلْكَ السِّلْعَةِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ : عَلَى مَعْنَى السَّلَمِ إذًا ؟ فَقُلْت : نَعَمْ .
قَالَ : لَا بَأْسَ .
ثُمَّ قَالَ : مِثْلُ الرَّجُلِ الْقَصَّابِ ، يُعْطِيه الدِّينَارَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ رِطْلًا مِنْ لَحْمٍ قَدْ وَصَفَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ إلَى أَجَلَيْنِ ، فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ أَبْعَدَهُمَا أَجَلًا أَقَلُّ مِمَّا يُقَابِلُ الْآخَرَ ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ ، فَلَمْ يَجُزْ .
وَلَنَا ، أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ جَازَ فِي أَجَلٍ وَاحِدٍ ، جَازَ فِي أَجَلَيْنِ وَآجَالٍ ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ ، فَإِذَا قَبَضَ الْبَعْضَ وَتَعَذَّرَ قَبْضُ الْبَاقِي ، فَفَسَخَ الْعَقْدَ ، رَجَعَ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَا يَجْعَلُ لِلْبَاقِي فَضْلًا عَنْ الْمَقْبُوضِ ؛ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ وَاحِدٌ مُتَمَاثِلُ الْأَجْزَاءِ ، فَيُقَسِّطُ الثَّمَنَ عَلَى أَجْزَائِهِ بِالسَّوِيَّةِ ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَ أَجَلُهُ .
( 3242 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا لَمْ يَكُنْ السَّلَمُ فِيهِ ، كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ ، وَمَا لَا يَفْسُدُ ، وَلَا يَخْتَلِفُ قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَبْضُهُ قَبْلَ مَحَلِّهِ ) يَعْنِي بِالسَّلَمِ : الْمُسْلَمَ فِيهِ ، بِاسْمِ الْمَصْدَرِ ، كَمَا يُسَمَّى الْمَسْرُوقُ سَرِقَةً وَالْمَرْهُونُ رَهْنًا .
قَالَ إبْرَاهِيمُ : خُذْ سَلَمَك أَوْ دُونَ سَلَمَك ، وَلَا تَأْخُذْ فَوْقَ سَلَمَك .
وَمَتَى أَحْضَرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يُحْضِرَهُ فِي مَحِلِّهِ ، فَيَلْزَمُهُ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَاهُ بِحَقِّهِ فِي مَحَلِّهِ ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ ، كَالْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ فِي قَبْضِهِ ضَرَرٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ .
فَإِنْ أَبَى ، قِيلَ لَهُ : إمَّا أَنْ تَقْبِضَ حَقَّك ، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَ مِنْهُ .
فَإِنْ امْتَنَعَ قَبَضَهُ الْحَاكِمُ مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِلْمُسْلِمِ ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُمْتَنِعِ بِوِلَايَتِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْرِئَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ .
الْحَالُ الثَّانِي ، أَنْ يَأْتِيَ بِهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ ، فَيُنْظَرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا فِي قَبْضِهِ قَبْلَ مَحِلِّهِ ضَرَرٌ ، إمَّا لِكَوْنِهِ مِمَّا يَتَغَيَّرُ ، كَالْفَاكِهَةِ وَالْأَطْعِمَةِ كُلِّهَا ، أَوْ كَانَ قَدِيمُهُ دُونَ حَدِيثِهِ ، كَالْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُسْلِمَ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي تَأْخِيرِهِ ، بِأَنْ يَحْتَاجَ إلَى أَكْلِهِ أَوْ إطْعَامِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ تَلَفَهُ ، وَيَحْتَاجُ إلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ .
وَهَكَذَا إنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى مُؤْنَةٍ ، كَالْقُطْنِ وَنَحْوِهِ ، أَوْ كَانَ الْوَقْتُ مَخُوفًا يَخْشَى نَهْبَ مَا يَقْبِضُهُ ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْأَخْذُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي قَبْضِهِ ، وَلَمْ يَأْتِ مَحِلُّ
اسْتِحْقَاقِهِ لَهُ ، فَجَرَى مَجْرَى نَقْصِ صِفَةٍ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِي قَبْضِهِ ، بِأَنْ يَكُونَ لَا يَتَغَيَّرُ ، كَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَدِيمُهُ وَحَدِيثُهُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الزَّيْتُ وَالْعَسَلُ ، وَلَا فِي قَبْضِهِ ضَرَرُ الْخَوْفِ ، وَلَا تَحَمُّلُ مُؤْنَةٍ ، فَعَلَيْهِ قَبْضُهُ ؛ لِأَنَّ غَرَضَهُ حَاصِلٌ مَعَ زِيَادَةِ تَعْجِيلِ الْمَنْفَعَةِ ، فَجَرَى مَجْرَى زِيَادَةِ الصِّفَةِ وَتَعْجِيلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ .
الْحَالُ الثَّالِثُ ، أَنْ يُحْضِرَهُ بَعْدَ مَحَلِّ الْوُجُوبِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ أَحْضَرَ الْمَبِيعَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا .
( 3243 ) فَصْلٌ : وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُحْضِرَ الْمُسْلَمَ فِيهِ عَلَى صِفَتِهِ ، أَوْ دُونَهَا ، أَوْ أَجْوَدَ مِنْهَا .
فَإِنْ أَحْضَرَهُ عَلَى صِفَتِهِ ، لَزِمَ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ .
وَإِنْ أَتَى بِهِ دُونَ صِفَتِهِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إسْقَاطَ حَقِّهِ ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ ، جَازَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ دُونَ حَقِّهِ ، وَيَزِيدَهُ شَيْئًا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ أَفْرَدَ صِفَةَ الْجَوْدَةِ بِالْبَيْعِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَلِأَنَّ بَيْعَ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ غَيْرُ جَائِزٍ ، فَبَيْعُ وَصْفِهِ أَوْلَى .
الثَّالِثُ ، أَنْ يُحْضِرَهُ أَجْوَدَ مِنْ الْمَوْصُوفِ ، فَيُنْظَرُ فِيهِ ؛ فَإِنْ أَتَاهُ بِهِ مِنْ نَوْعِهِ ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَزِيَادَةً تَابِعَةً لَهُ ، فَيَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ ، إذْ لَا يَفُوتُهُ غَرَضٌ .
فَإِنْ أَتَاهُ بِهِ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ مَا وَصَفَاهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي شَرَطَاهَا ، وَقَدْ فَاتَ بَعْضُ الصِّفَاتِ ، فَإِنَّ النَّوْعَ صِفَةٌ ، وَقَدْ فَاتَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَاتَ غَيْرُهُ مِنْ الصِّفَات .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ ، فَأَشْبَهَ الزِّيَادَةَ فِي الصِّفَةِ مَعَ اتِّفَاقِ النَّوْعِ .
وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْآخَرُ ، فَإِذَا فَوَّتَهُ عَلَيْهِ ، فَوَّتَ عَلَيْهِ الْغَرَضَ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ ، كَمَا لَوْ فَوَّتَ عَلَيْهِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَخْذِ النَّوْعِ بَدَلًا عَنْ النَّوْعِ الْآخَرِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا ، وَيُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ ، فَجَازَ أَخْذُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ، كَالنَّوْعِ الْوَاحِدِ .
وَقَالَ بَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ ؛ لِلْمَعْنَى الَّذِي مَنَعَ لُزُومَ أَخْذِهِ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ : لَا تَأْخُذْ فَوْقَ سَلَمَك فِي كَيْلٍ وَلَا صِفَةٍ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ الرَّدِيءِ مَكَانَ الْجَيِّدِ ، أَوْ الْجَيِّدِ مَكَانَ الرَّدِيءِ ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَخْذُ الرَّدِيءِ ، وَيَجُوزُ أَخْذُهُ .
وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَسْقَطَ حَقَّهُ مِنْ النَّوْعِ ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا صِفَةُ الْجَوْدَةِ ، وَقَدْ سَمَحَ بِهَا صَاحِبُهَا .
( 3244 ) فَصْلٌ : إذَا جَاءَهُ بِالْأَجْوَدِ ، فَقَالَ : خُذْهُ ، وَزِدْنِي دِرْهَمًا .
لَمْ يَصِحَّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي عَشَرَةٍ فَجَاءَهُ بِأَحَدِ عَشَرِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْجَوْدَةَ صِفَةٌ ، فَلَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، فَإِنْ جَاءَهُ بِزِيَادَةِ فِي الْقَدْرِ ، فَقَالَ : خُذْهُ ، وَزِدْنِي دِرْهَمًا .
فَفَعَلَا ، صَحَّ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هَاهُنَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْعَقْدِ .
( 3245 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لَهُ إلَّا أَقَلُّ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الصِّفَةُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ ذَلِكَ ، فَقَدْ سَلَّمَ إلَيْهِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ ، فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ .
وَعَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الْحِنْطَةَ نَقِيَّةً مِنْ التِّبْنِ وَالْقَصْلِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِ ، مِمَّا لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْحِنْطَةِ .
وَإِنْ كَانَ فِيهِ تُرَابٌ كَثِيرٌ يَأْخُذُ مَوْضِعًا مِنْ الْمِكْيَالِ ، لَمْ يَجُزْ .
وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمِكْيَالِ وَلَا يَعِيبُهَا ، لَزِمَهُ أَخْذُهُ .
وَلَا يَلْزَمُهُ أَخْذُ التَّمْرِ إلَّا جَافًّا .
وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَتَنَاهَى جَفَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ .
وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَقْبَلَ مَعِيبًا بِحَالِ ، وَمَتَى قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ فَوَجَدَهُ مَعِيبًا ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَدَلِ أَوْ الْأَرْشِ ، كَالْمَبِيعِ سَوَاءً .
( 3246 ) فَصْلٌ : وَلَا يَقْبِضُ الْمَكِيلَ إلَّا بِالْكَيْلِ ، وَلَا الْمَوْزُونَ إلَّا بِالْوَزْنِ ، وَلَا يَقْبِضُهُ جُزَافًا ، وَلَا بِغَيْرِ مَا يُقَدَّرُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ يَخْتَلِفَانِ ، فَإِنْ قَبَضَهُ بِذَلِكَ ، فَهُوَ كَقَبْضِهِ جُزَافًا ، فَيُقَدِّرُهُ بِمَا أَسْلَمَ فِيهِ ، وَيَأْخُذُ قَدْرَ حَقِّهِ ، وَيَرُدُّ الْبَاقِي ، وَيُطَالِبُ بِالْعِوَضِ .
وَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي قَدْرِ حَقِّهِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَعْتَبِرَهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، مَضَى ذِكْرُهُمَا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ مَعَ يَمِينِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَيُسْلِمُ إلَيْهِ مِلْءَ الْمِكْيَالِ وَمَا يَحْمِلُهُ ، وَلَا يَكُونُ مَمْسُوحًا ، وَلَا يَدُقُّ وَلَا يَهُزُّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَسْلَمْت إلَيْك فِي قَفِيزٍ .
يَقْتَضِي مَا يَسَعُهُ الْمِكْيَالُ وَمَا يَحْمِلُهُ ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا .
( 3247 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ رَهْنًا ، وَلَا كَفِيلًا مِنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ) وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي السَّلَمِ ، فَرَوَى الْمَرْوَزِيِّ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو طَالِبٍ ، مَنْعَ ذَلِكَ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيِّ وَأَبُو بَكْرٍ .
وَرُوِيَتْ كَرَاهَة ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَسَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ .
وَرَوَى حَنْبَلٌ جَوَازَهُ .
وَرَخَّصَ فِيهِ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَالْحَكَمُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ } .
إلَى قَوْله { : فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ السَّلَم .
وَلِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ ، فَيَدْخُلُ السَّلَمُ فِي عُمُومِهِ .
وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْبَيْعِ ، فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِمَا فِي الذِّمَّةِ مِنْهُ ، كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّ الرَّاهِنَ وَالضَّمِينَ إنْ أَخَذَا بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ ، فَقَدْ أَخَذَا بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مَآلُهُ إلَى الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ مَلَكَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ ، وَإِنْ أَخَذَا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ ، فَالرَّهْنُ إنَّمَا يَجُوزُ بِشَيْءِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ ، وَلَا مِنْ ذِمَّةِ الضَّامِنِ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ هَلَاكَ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ بِعُدْوَانٍ فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إلَى غَيْرِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ يُقِيمُ مَا فِي ذِمَّةِ الضَّامِنِ مُقَامَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ أَخْذِ الْعِوَضِ وَالْبَدَلِ عَنْهُ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
( 3248 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَخَذَ رَهْنًا أَوْ ضَمِينًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ ، ثُمَّ تَقَايَلَا السَّلَمَ ، أَوْ فُسِخَ الْعَقْدُ لِتَعَذُّرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، بَطَلَ الرَّهْنُ ؛ لِزَوَالِ الدَّيْنِ الَّذِي بِهِ الرَّهْنُ ، وَبَرِئَ الضَّامِنُ ، وَعَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَدُّ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي الْحَالِ .
وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ .
وَلَوْ أَقْرَضَهُ أَلْفًا ، وَأَخَذَ بِهِ رَهْنًا ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى طَعَامٍ مَعْلُومٍ فِي ذِمَّتِهِ ، صَحَّ ، وَزَالَ الرَّهْنُ ، لِزَوَالِ دَيْنِهِ مِنْ الذِّمَّةِ ، وَبَقِيَ الطَّعَامُ فِي الذِّمَّةِ ، وَيُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ ، كَيْ لَا يَكُونَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ .
فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، بَطَلَ الصُّلْحُ ، وَرَجَعَ الْأَلْفُ إلَى ذِمَّته بِرَهْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، كَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ ثُمَّ عَادَ خَلًّا .
وَهَكَذَا لَوْ صَالَحَهُ عَنْ الدَّرَاهِمِ بِدَنَانِيرَ فِي ذِمَّتِهِ ، فَالْحُكْمُ مِثْلُ مَا بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
( 3249 ) فَصْلٌ : وَإِذَا حَكَمْنَا بِصِحَّةِ ضَمَانِ السَّلَمِ ، فَلِصَاحِبِ الْحَقِّ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، وَأَيُّهُمَا قَضَاهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُمَا مِنْهُ .
فَإِنْ سَلَّمَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ الْمُسْلَمَ فِيهِ إلَى الضَّامِنِ لِيَدْفَعَهُ إلَى الْمُسْلِمِ ، جَازَ ، وَكَانَ وَكِيلًا .
وَإِنْ قَالَ : خُذْهُ عَنْ الَّذِي ضَمِنْت عَنِّي .
لَمْ يَصِحَّ ، وَكَانَ قَبْضًا فَاسِدًا مَضْمُونًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْأَخْذَ بَعْدَ الْوَفَاءِ ، فَإِنْ أَوْصَلَهُ إلَى الْمُسْلِمِ ، بَرِئَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ إلَيْهِ مَا سَلَّطَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ .
وَإِنْ أَتْلَفَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَإِنْ صَالَحَ الْمُسْلِمُ الضَّامِنَ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِثَمَنِهِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ هَذَا إقَالَةٌ ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ .
وَإِنْ صَالَحَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِثَمَنِهِ صَحَّ ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ الضَّامِنِ ؛ لِأَنَّ هَذَا إقَالَةٌ ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى غَيْرِ ثَمَنِهِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
( 3250 ) فَصْلٌ : وَاَلَّذِي يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ ، كُلُّ دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ يَصِحُّ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ ، كَأَثْمَانِ الْبِيَاعَاتِ ، وَالْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَاتِ ، وَالْمَهْرِ ، وَعِوَضِ الْخُلْعِ ، وَالْقَرْضِ ، وَأَرْشُ الْجِنَايَاتِ ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ .
وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ ، وَلَا مَآلُهُ إلَى الْوُجُوبِ ، كَالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بَعْدُ ، وَلَا يُعْلَمُ إفْضَاؤُهَا إلَى الْوُجُوبِ ، فَإِنَّهُمْ لَوْ جُنُّوا أَوْ افْتَقَرُوا أَوْ مَاتُوا ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِمْ ، فَلَمْ يَصِحَّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا .
فَأَمَّا بَعْدَ الْحَوْلِ ، فَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ اسْتَقَرَّتْ فِي ذِمَّتِهِمْ .
وَيَحْتَمِلُ جَوَازُ أَخْذَ الرَّهْنِ بِهَا قَبْلَ الْحَوْلِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَالْيَسَارِ وَالْعَقْلِ .
وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِالْجَعْلِ فِي الْجَعَالَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ ، وَلَا يُعْلَمُ إفْضَاؤُهُ إلَى الْوُجُوبِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَآلُهُ إلَى الْوُجُوبِ وَاللُّزُومِ ، فَأَشْبَهَتْ أَثْمَانَ الْبِيَاعَاتِ .
وَالْأُولَى أَوْلَى ؛ لِأَنَّ إفْضَاءَهَا إلَى الْوُجُوبِ مُحْتَمِلٌ ؛ فَأَشْبَهَتْ الدِّيَةَ قَبْلَ الْحَوْلِ .
وَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَ .
وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِمَالِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ؛ فَإِنَّ لِلْعَبْدِ تَعْجِيزَ نَفْسِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دَيْنِهِ مِنْ الرَّهْنِ ، لِأَنَّهُ لَوْ عَجَزَ صَارَ الرَّهْنُ لِلسَّيِّدِ ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَالِ الْمُكَاتَبِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ : وَلَنَا ، أَنَّهَا وَثِيقَةٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْهَا ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَضَمَانِ الْخَمْرِ ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعِوَضِ الْمُسَابَقَةِ ؛ لِأَنَّهَا جُعَلَةٌ ، وَلَمْ يُعْلَمْ إفْضَاؤُهَا إلَى الْوُجُوبِ ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ ، إنَّمَا يَثْبُتُ بِسَبْقِ غَيْرِ الْمُخْرِجِ ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا
مَظْنُونٍ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : فِيهَا وَجْهَانِ ، هَلْ هِيَ إجَارَةٌ أَوْ جَعَالَةٌ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : هِيَ إجَارَةٌ .
جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعِوَضِهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مُحَلِّلٌ فَهِيَ جَعَالَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُحَلِّلٌ فَعَلَى وَجْهَيْنِ .
وَهَذَا كُلُّهُ بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّ الْجَعْلَ لَيْسَ هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَمَلِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إذَا كَانَ مَسْبُوقًا .
وَقَدْ عَمِلَ الْعَمَلَ ، وَإِنَّمَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ السَّبْقِ ، وَلَا تُعْلَمُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْجَاعِلِ فِيهِ ، وَلَا هُوَ مُرَادٌ لَهُ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ إجَارَةً مَعَ عَدَمِ الْمُحَلِّلِ ، فَمَعَ وُجُودِهِ أَوْلَى ، لِأَنَّ مُسْتَحِقَّ الْجَعْلِ هُوَ السَّابِقُ ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ رَجُلٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، ثُمَّ لَوْ كَانَتْ إجَارَةً لَكَانَ عِوَضُهَا غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ ، وَلَا يُعْلَمُ إفْضَاؤُهُ إلَى الْوُجُوبِ وَلَا يُظَنُّ ، فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ كَالْجَعْلِ فِي رَدِّ الْآبِقِ وَاللَّقْطِ ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعِوَضٍ غَيْرِ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ ، كَالثَّمَنِ الْمُعَيَّنِ ، وَالْأُجْرَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الْإِجَارَةِ ، وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ إذَا كَانَ مَنَافِعُ مُعَيَّنَةٌ ، مِثْلُ إجَارَةِ الدَّارِ ، وَالْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ ، وَالْجَمَلِ الْمُعَيَّنِ ، مُدَّةً مَعْلُومَةً ، أَوْ لِحَمْلِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ لَا بِالذِّمَّةِ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ غَيْرِهَا ، وَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِتَلَفِ الْعَيْنِ .
وَإِنْ وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مَنْفَعَةٍ فِي الذِّمَّةَ ، كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ ، وَبِنَاءِ دَارٍ ، جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ ، وَيُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ ، بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ ثَمَنِهِ مَنْ يَعْمَلُ ذَلِكَ الْعَمَلَ ، فَجَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ ، كَالدَّيْنِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا
كُلِّهِ كَمَا قُلْنَا .
( 3251 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ ، كَالْمَغْصُوبِ ، وَالْعَوَارِيّ ، وَالْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ ، وَالْمَقْبُوضِ عَلَى وَجْهِ السَّوْمِ ، فَفِيهَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّهُ إنْ رَهَنَهُ عَلَى قِيمَتِهَا إذَا تَلِفَتْ ، فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى مَا لَيْسَ بِوَاجِبِ ، وَلَا يُعْلَمُ إفْضَاؤُهُ إلَى الْوُجُوبِ .
وَإِنْ أَخَذَ الرَّهْنَ عَلَى عَيْنِهَا لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ عَيْنِهَا مِنْ الرَّهْنِ ، فَأَشْبَهَ أَثْمَانَ الْبِيَاعَاتِ الْمُتَعَيِّنَةِ .
وَالثَّانِي يَصِحُّ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : كُلُّ عَيْنٍ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا ، جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهَا .
يُرِيدُ مَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ كَالْمَبِيعِ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِفَسَادِ الْعَقْدِ ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ الْوَثِيقَةُ بِالْحَقِّ ، وَهَذَا حَاصِلٌ ، فَإِنَّ الرَّهْنَ بِهَذِهِ الْأَعْيَانِ يَحْمِلُ الرَّاهِنَ عَلَى أَدَائِهَا .
وَإِنْ تَعَذَّرَ أَدَاؤُهَا ، اسْتَوْفَى بَدَلَهَا مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ ، فَأَشْبَهَتْ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ .
( 3252 ) فَصْلٌ قَالَ الْقَاضِي : كُلُّ مَا جَازَ أَخْذُ الرَّهْنِ بِهِ ، جَازَ أَخْذُ الضَّمِينِ بِهِ ، وَمَا لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ بِهِ ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الضَّمِينِ بِهِ ، إلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ ؛ عُهْدَةُ الْمَبِيعِ يَصِحُّ ضَمَانُهَا وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا ، وَالْكِتَابَةُ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِدَيْنِهَا ، وَفِي ضَمَانِهَا رِوَايَتَانِ ، وَمَا لَمْ يَجِبْ لَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ وَيَصِحُّ ضَمَانُهُ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدِهِمَا ، أَنَّ الرَّهْنَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُبْطِلُ الْإِرْفَاقَ ، فَإِنَّهُ إذَا بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفِ ، وَدَفَعَ رَهْنًا يُسَاوِي أَلْفًا ، فَكَأَنَّهُ مَا قَبَضَ الثَّمَنَ ، وَلَا ارْتَفَقَ بِهِ ، وَالْمُكَاتَبُ إذَا دَفَعَ مَا يُسَاوِي كِتَابَتَهُ ، فَمَا ارْتَفَقَ بِالْأَجَلِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ بَيْعُ الرَّهْنِ أَوْ بَقَاءُ الْكِتَابَةِ ، وَيَسْتَرِيحُ مِنْ تَعْطِيلِ مَنَافِعِ عَبْدِهِ ، وَالضَّمَانُ بِخِلَافِ هَذَا .
الثَّانِي أَنَّ ضَرَرَ الرَّهْنِ يَعُمُّ ؛ لِأَنَّهُ يَدُومُ بَقَاؤُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَيَمْنَعُ .
الْبَائِعَ التَّصَرُّفَ فِيهِ ، وَالضَّمَانُ بِخِلَافِهِ .
( 3253 ) فَصْلٌ : إذَا اخْتَلَفَ الْمُسْلِمُ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ ، فِي حُلُولِ الْأَجَلِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي أَدَاءِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ ؛ لِذَلِكَ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ؛ لِذَلِكَ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا : كَانَ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ .
وَقَالَ الْآخَرُ : بَعْدَهُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ مَعَهُ سَلَامَةَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِمُوجَبِ دَعْوَاهُ ، قُدِّمَتْ أَيْضًا بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ وَالْأُخْرَى نَافِيَةٌ .
بَابُ الْقَرْضِ وَالْقَرْضُ نَوْعٌ مِنْ السَّلَفِ ، وَهُوَ جَائِزٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا السُّنَّةُ ، فَرَوَى أَبُو رَافِعٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا ، فَقَدِمَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إبِلُ الصَّدَقَةِ ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ .
فَرَجَعَ إلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَمْ أَجِدْ فِيهَا إلَّا خِيَارًا رُبَاعِيًّا .
فَقَالَ : أَعْطِهِ ، فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً .
} رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ .
إلَّا كَانَ كَصَدَقَةِ مَرَّةٍ } وَعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوبًا : الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشْرَ .
فَقُلْت : يَا جِبْرِيلُ ، مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ ؟ .
قَالَ : لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَسْتَقْرِضُ إلَّا مِنْ حَاجَةٍ .
} رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ .
، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الْقَرْضِ .
( 3254 ) فَصْلٌ : وَالْقَرْضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ ، مُبَاحٌ لِلْمُقْتَرِضِ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَحَادِيثِ ، وَلَمَّا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَشَفَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا ، كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، أَنَّهُ قَالَ : " لَأَنْ أُقْرِضَ دِينَارَيْنِ ثُمَّ يُرَدَّانِ ، ثُمَّ أُقْرِضَهُمَا ، أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنَّ أَتَصَدَّقَ بِهِمَا .
وَلِأَنَّ فِيهِ تَفْرِيجًا عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، وَقَضَاءً لِحَاجَتِهِ ، وَعَوْنًا لَهُ ، فَكَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ ، كَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ .
قَالَ أَحْمَدُ لَا إثْمَ عَلَى مَنْ سُئِلَ الْقَرْضَ فَلَمْ يُقْرِضْ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعْرُوفِ ، فَأَشْبَهَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ .
وَلَيْسَ بِمَكْرُوهِ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ .
قَالَ أَحْمَدُ : لَيْسَ الْقَرْضُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ .
يَعْنِي لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَقْرِضُ ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي رَافِعٍ ، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا ، كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ .
وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ بِعِوَضِهِ ، فَأَشْبَهَ الشِّرَاءَ بِدَيْنِ فِي ذِمَّتِهِ .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : لَا أُحِبُّ أَنْ يَتَحَمَّلَ بِأَمَانَتِهِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ .
يَعْنِي مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى وَفَائِهِ .
وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَقْرِضَ ، فَلْيُعْلِمْ مَنْ يَسْأَلُهُ الْقَرْضَ بِحَالِهِ ، وَلَا يَغُرُّهُ مِنْ نَفْسِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يَتَعَذَّرُ رَدُّ مِثْلِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : إذَا اقْتَرَضَ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يُعْلِمْهُ بِحَالِهِ ، لَمْ يُعْجِبْنِي .
وَقَالَ : مَا أُحِبُّ أَنْ يَقْتَرِضَ بِجَاهِهِ لِإِخْوَانِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : يُعْنَى إذَا كَانَ مَنْ يَقْتَرِضُ لَهُ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالْوَفَاءِ ؛ لِكَوْنِهِ تَغْرِيرًا بِمَالِ الْمُقْرِضِ ، وَإِضْرَارًا بِهِ ، أَمَّا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْوَفَاءِ ، لَمْ
يُكْرَهْ ؛ لِكَوْنِهِ إعَانَةً لَهُ ، وَتَفْرِيجًا لِكُرْبَتِهِ .
( 3255 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَالِ ، فَلَمْ يَصِحَّ إلَّا مِنْ جَائِزِ التَّصَرُّفِ كَالْبَيْعِ .
وَحُكْمُهُ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حُكْمُ الْبَيْعِ ، عَلَى مَا مَضَى .
وَيَصِحُّ بِلَفْظِ السَّلَفِ وَالْقَرْضِ ؛ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِهِمَا ، وَبِكُلِّ لَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُمَا ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : مَلَّكْتُك هَذَا ، عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَى بَدَلَهُ .
أَوْ تُوجَدُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى إرَادَةِ الْقَرْضِ .
فَإِنْ قَالَ : مَلَّكْتُك .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ ، وَلَا وُجِدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَهُوَ هِبَةٌ .
فَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ ، لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ هِبَةٌ .
( 3256 ) فَصْلٌ : وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ مَا ؛ لِأَنَّ الْمُقْرِضَ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةِ أَنَّ الْحَظَّ لِغَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ ، وَالْمُقْتَرِضُ مَتَى شَاءَ رَدَّهُ ، فَيَسْتَغْنِي بِذَلِكَ عَنْ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ .
وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْقَرْضِ بِالْقَبْضِ .
وَهُوَ عَقَدَ لَازِمٌ فِي حَقِّ الْمُقْرِضِ ، جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُقْتَرِضِ ، فَلَوْ أَرَادَ الْمُقْرِضُ الرُّجُوعَ فِي عَيْنِ مَالِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِمِثْلِهِ مَلَكَ أَخْذَهُ إذَا كَانَ مَوْجُودًا ، كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَّةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِعِوَضٍ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ كَالْمَبِيعِ ، وَيُفَارِقُ الْمَغْصُوبَ ، وَالْعَارِيَّةَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِمِثْلِهِمَا مَعَ وُجُودِهِمَا ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا بِخِلَافِهِ .
فَأَمَّا الْمُقْتَرِضُ ، فَلَهُ رَدُّ مَا اقْتَرَضَهُ عَلَى الْمُقْرِضِ ، إذَا كَانَ عَلَى صِفَتِهِ لَمْ يَنْقُصْ ، وَلَمْ يَحْدُثْ بِهِ عَيْبٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى صِفَةِ حَقِّهِ ، فَلَزِمَهُ قَبُولُهُ كَالْمُسْلَمِ فِيهِ ، وَكَمَا لَوْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُقْتَرِضَ قَبُولُ مَا لَيْسَ بِمِثْلِي ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ فِيهِ يُوجِبُ رَدَّ الْقِيمَةِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، فَإِذَا رَدَّهُ بِعَيْنِهِ لَمْ يَرُدَّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَجِبْ قَبُولُهُ كَالْمَبِيعِ .
( 3257 ) فَصْلٌ : وَلِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ فِي الْمِثْلِيَّاتِ ، فَأَوْجَبَهُ حَالَّا كَالْإِتْلَافِ .
وَلَوْ أَقْرَضَهُ تَفَارِيقَ ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِهَا جُمْلَةً ؛ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ حَالٌّ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بُيُوعًا حَالَّةً ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِثَمَنِهَا جُمْلَةً .
وَإِنْ أَجَّلَ الْقَرْضَ ، لَمْ يَتَأَجَّلْ ، وَكَانَ حَالًّا .
وَكُلُّ دَيْنٍ حَلَّ أَجَلُهُ ، لَمْ يَصِرْ مُؤَجَّلًا بِتَأْجِيلِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ : يَتَأَجَّلُ الْجَمِيعُ بِالتَّأْجِيلِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ .
} وَلِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِي هَذَا الْعَقْدِ بِالْإِقَالَةِ وَالْإِمْضَاءِ ؛ فَمَلَكَا الزِّيَادَةَ فِيهِ ، كَخِيَارِ الْمَجْلِسِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْقَرْضِ وَبَدَلِ الْمُتْلَفِ كَقَوْلِنَا ، وَفِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ وَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الْخُلْعِ كَقَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يَقْتَضِي جُزْءًا مِنْ الْعِوَضِ ، وَالْقَرْضُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ فِي عِوَضِهِ ، وَبَدَلُ الْمُتْلَفِ الْوَاجِبِ فِيهِ الْمِثْلُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَأَجَّلْ ، وَبَقِيَّةُ الْأَعْوَاضِ يَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهَا ، فَجَازَ تَأْجِيلُهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ ، حَالًّا ، وَالتَّأْجِيلَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ وَوَعْدٌ ، فَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ ، كَمَا لَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا ، وَهَذَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّرْطِ ، وَلَوْ سُمِّيَ ، فَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِالْعَارِيَّةِ ، فَيَلْحَقُ بِهِ مِمَّا اخْتَلَفَا فِيهِ لِأَنَّهُ مِثْلُهُ وَلَنَا ، عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، أَنَّهَا زِيَادَةٌ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْعَقْدِ ، فَأَشْبَهَ الْقَرْضَ ، وَأَمَّا الْإِقَالَةُ : فَهِيَ فَسْخٌ ، وَابْتِدَاءُ عَقْدٍ آخَرَ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ، وَأَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ ،
بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِ الْقَبْضُ لِمَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ ، وَالتَّعَيُّنُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ .
( 3258 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ قَرْضُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِغَيْرِ خِلَافٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ اسْتِقْرَاضَ مَالَهُ مِثْلٌ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُون وَالْأَطْعِمَةِ جَائِزٌ .
وَيَجُوزُ قَرْضُ كُلِّ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا ، سِوَى بَنِي آدَمَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ قَرْضٌ غَيْرُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ ، أَشْبَهَ الْجَوَاهِرَ .
وَلَنَا ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا ، وَلَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ .
} وَلِأَنَّ مَا يَثْبُتُ سَلَمًا ، يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَيُضْبَطُ بِالْوَصْفِ ، فَجَازَ قَرْضُهُ ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ .
وَقَوْلُهُمْ : لَا مِثْلَ لَهُ .
خِلَافُ أَصْلِهِمْ ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لَوْ أَتْلَفَ عَلَى رَجُلٍ ثَوْبًا ، ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُهُ ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ .
فَأُمًّا مَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا ، كَالْجَوَاهِرِ وَشَبَهِهَا ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَجُوزُ فِيهَا قَرْضُهَا ، وَيَرُدُّ الْمُسْتَقْرِضُ الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ ، وَالْجَوَاهِرُ كَغَيْرِهَا فِي الْقِيَمِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَجُوزُ قَرْضُهَا ، لِأَنَّ الْقَرْضَ يَقْتَضِي رَدَّ الْمِثْلِ ، وَهَذِهِ لَا مِثْلَ لَهَا .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ قَرْضُهَا ، وَلَا هِيَ فِي مَعْنَى مَا نُقِلَ الْقَرْضُ فِيهِ ، لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمَرَافِقِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا ، فَوَجَبَ إبْقَاؤُهَا عَلَى الْمَنْعِ .
وَيُمْكِنُ بِنَاءُ هَذَا الْخِلَافِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الْوَاجِبِ فِي بَدَلِ غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، فَإِذَا قُلْنَا : الْوَاجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ .
لَمْ يَجُزْ قَرْضُ الْجَوَاهِرِ وَمَا لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا ، لِتَعَذُّرِ رَدِّ مِثْلِهَا .
وَإِنْ قُلْنَا : الْوَاجِبُ رَدُّ الْقِيمَةِ .
جَازَ قَرْضُهُ ؛ لِإِمْكَانِ رَدِّ الْقِيمَةِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
( 3259 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا بَنُو آدَمَ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : أَكْرَهُ قَرْضَهُمْ .
فَيَحْتَمِلُ كَرَاهِيَةَ تَنْزِيهٍ ، وَيَصِحُّ قَرْضُهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ جُرَيْجِ ، وَالْمَزْنِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا ، فَصَحَّ قَرْضُهُ ، كَسَائِرِ الْحَيَوَانِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ ، فَلَا يَصِحُّ قَرْضُهُمْ .
اخْتَارَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ قَرْضُهُمْ ، وَلَا هُوَ مِنْ الْمَرَافِقِ .
وَيَحْتَمِلُ صِحَّةَ قَرْضِ الْعَبِيدِ دُونَ الْإِمَاء .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، إلَّا أَنْ يُقْرِضَهُنَّ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهِنَّ ، لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْقَرْضِ ضَعِيفٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ رَدِّهَا عَلَى الْمُقْرِضِ ، فَلَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ ، كَالْمِلْكِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَإِذَا لَمْ يُبَحْ الْوَطْءُ لَمْ يَصِحَّ الْقَرْضُ ، لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ ، وَلِأَنَّ الْأَبْضَاعَ مِمَّا يُحْتَاطُ لَهَا ، وَلَوْ أَبَحْنَا قَرْضَهُنَّ ، أَفْضَى إلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَسْتَقْرِضُ أَمَةً ، فَيَطَؤُهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا مِنْ يَوْمِهِ ، وَمَتَى احْتَاجَ إلَى وَطْئِهَا ، اسْتَقْرَضَهَا فَوَطِئَهَا ثُمَّ رَدَّهَا ، كَمَا يَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ ، فَيَنْتَفِعُ بِهِ ثُمَّ يَرُدُّهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقْدٌ نَاقِلٌ لِلْمِلْكِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ وَلَا نُسَلِّمُ ضِعْفَ الْمِلْكِ ؛ فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ لِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ ، بِخِلَافِ الْمِلْكِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ .
وَقَوْلُهُمْ : مَتَى شَاءَ الْمُقْتَرِضُ رَدَّهَا .
مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّنَا إذَا قُلْنَا : الْوَاجِبُ رَدُّ الْقِيمَةِ .
لَمْ يَمْلِكْ الْمُقْتَرِضُ رَدَّ الْأَمَةِ ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ قِيمَتَهَا ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ ، لَكِنْ مَتَى قَصَدَ الْمُقْتَرِضُ هَذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ فِعْلُهُ ، وَلَا يَصِحُّ اقْتِرَاضُهُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أَمَةً لِيَطَأَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا بِالْمُقَابَلَةِ أَوْ بِعَيْبٍ فِيهَا ، وَإِنْ وَقَعَ هَذَا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ ، لَمْ يَمْنَعْ الصِّحَّةَ ، كَمَا لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ ، وَكَمَا لَوْ أَسْلَمَ جَارِيَةً فِي أُخْرَى
مَوْصُوفَةٍ بِصِفَاتِهَا ، ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ .
وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْقَرْضَ ضَعِيفٌ لَا يُبِيحُ الْوَطْءَ ، لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ فِي الْجَوَارِي ، كَالْبَيْعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ .
وَعَدَمُ الْقَائِلِ بِالْفَرْقِ لَيْسَ بِشَيْءِ ، عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوَاضِعِهِ .
وَعَدَمُ نَقْلِهِ لَيْسَ بِحَجَّةِ ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَيَوَانَاتِ لَمْ يُنْقَلْ قَرْضُهَا ، وَهُوَ جَائِزٌ .
( 3260 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اقْتَرَضَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ غَيْرَ مَعْرُوفَةِ الْوَزْنِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ فِيهَا يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْلِ ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ الْمِثْلُ لَمْ يُمْكِنْ الْقَضَاءُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اقْتَرَضَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا جُزَافًا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِذَلِكَ .
وَلَوْ قَدَّرَهُ بِمِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ ، أَوْ صَنْجَةٍ بِعَيْنِهَا ، غَيْرِ مَعْرُوفَيْنِ عِنْدَ الْعَامَّةِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ تَلَفَ ذَلِكَ ، فَيَتَعَذَّرَ رَدُّ الْمِثْلِ ، فَأَشْبَهَ السَّلَمَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي مَاءٍ بَيْنَ قَوْمٍ ، لَهُمْ نُوَبٌ فِي أَيَّامٍ مُسَمَّاةٍ ، فَاحْتَاجَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنْ يَسْتَقِيَ فِي غَيْرِ نَوْبَتِهِ ، فَاسْتَقْرَضَ مِنْ نَوْبَةِ غَيْرِهِ ، لِيَرُدَّ عَلَيْهِ بَدَلَهُ فِي يَوْمِ نَوْبَتِهِ : فَلَا بَأْسَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْدُودٍ كَرِهْته .
فَكَرِهَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ مِثْلِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ يَتَعَامَلُ بِهَا عَدَدًا ، فَاسْتَقْرَضَ عَدَدًا ، رَدَّ عَدَدًا .
وَإِنْ اسْتَقْرَضَ وَزْنًا .
رَدَّ وَزْنًا .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ .
وَاسْتَقْرَضَ أَيُّوبُ مِنْ حَمَّادِ بْن زَيْدٍ دَرَاهِمَ بِمَكَّةَ عَدَدًا ، وَأَعْطَاهُ بِالْبَصْرَةِ عَدَدًا ، لِأَنَّهُ وَفَّاهُ مِثْلَمَا اقْتَرَضَ فِيمَا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا وَزْنًا .
فَرَدَّ وَزْنًا .
( 3261 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ رَدُّ الْمِثْلِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا ، مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّفَ ، فَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلُهُ ، أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَأَنَّ لِلْمُسَلِّفِ أَخْذَ ذَلِكَ .
وَلِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يُضْمَنُ فِي الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ بِمِثْلِهِ .
فَكَذَا هَاهُنَا .
فَأَمَّا غَيْرُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْقَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ ، فَيَضْمَنُهُ بِقِيمَتِهِ ، كَحَالِ الْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ .
وَالثَّانِي ، يَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا ، فَرَدَّ مِثْلَهُ .
} وَيُخَالِفُ الْإِتْلَافَ ؛ فَإِنَّهُ لَا مُسَامَحَةَ فِيهِ ، فَوَجَبَتْ الْقِيمَةُ ، لِأَنَّهَا أُحْصَرُ ، وَالْقَرْضُ أَسْهَلُ ، وَلِهَذَا جَازَتْ النَّسِيئَةُ فِيهِ فِيمَا فِيهِ الرِّبَا ، وَيَعْتَبِرُ مِثْلَ صِفَاتِهِ تَقْرِيبًا ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْمِثْلِ إنَّمَا تُوجَدُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ .
فَإِنْ تَعَذَّرَ الْمِثْلُ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ تَعَذَّرَ الْمِثْلُ ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ ثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ حِينَئِذٍ .
وَإِذَا قُلْنَا : تَجِبُ الْقِيمَةُ .
وَجَبَتْ حِينَ الْقَرْضِ .
لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ ثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ .
( 3262 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ قَرْضُ الْخُبْزِ .
وَرَخَّصَ فِيهِ أَبُو قِلَابَةَ وَمَالِكٌ .
وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَوْزُونٌ ، فَجَازَ قَرْضُهُ ، كَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ .
وَإِذَا أَقْرَضَهُ بِالْوَزْنِ ، وَرَدَّ مِثْلَهُ بِالْوَزْنِ ، جَازَ .
وَإِنْ أَخَذَهُ عَدَدًا ، فَرَدَّهُ عَدَدًا ، فَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ : فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ ، أَشْبَهَ سَائِرَ الْمَوْزُونَاتِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَجُوزُ .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : إذَا كَانَ يَتَحَرَّى أَنْ يَكُونَ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْوَزْنِ ، وَالْوَزْنُ أَحَبُّ إلَيَّ .
وَوَجْهُ الْجَوَازِ ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ الْجِيرَانَ يَسْتَقْرِضُونَ الْخُبْزَ وَالْخَمِيرَ ، وَيَرُدُّونَ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا .
فَقَالَ : لَا بَأْسَ ، إنَّ ذَلِكَ مِنْ مَرَافِقِ النَّاسِ ، لَا يُرَادُ بِهِ الْفَضْلُ } .
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي " الشَّافِي " بِإِسْنَادِهِ .
وَفِيهِ أَيْضًا ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ اسْتِقْرَاضِ الْخُبْزِ وَالْخَمِيرِ ، فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، إنَّمَا هَذَا مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، فَخُذْ الْكَبِيرَ وَأَعْطِ الصَّغِيرَ ، وَخُذْ الصَّغِيرَ وَأَعْطِ الْكَبِيرَ ، خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً .
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ذَلِكَ } .
وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ ، وَيَشُقُّ اعْتِبَارُ الْوَزْنِ فِيهِ ، وَتَدْخُلُهُ الْمُسَامَحَةُ ، فَجَازَ ، كَدُخُولِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ ، وَالرُّكُوبِ فِي سَفِينَةِ الْمَلَّاحِ ، وَأَشْبَاهِ هَذَا .
فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُعْطِيَهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَقْرَضَهُ أَوْ أَجْوَدَ ، أَوْ أَعْطَاهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ وَزَادَهُ كِسْرَةً ، كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا .
وَكَذَلِكَ إنْ أَقْرَضَهُ صَغِيرًا ، قَصْدَ أَنَّ يُعْطِيَهُ كَبِيرًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لِمَشَقَّةِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ ، فَإِذَا قَصَدَ أَوْ شَرَطَ أَوْ أَفْرَدَتْ الزِّيَادَةُ ،
فَقَدْ أَمْكَنَ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَحُرِّمَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ ، كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ .
( 3263 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ قَرْضٍ شَرَطَ فِيهِ أَنْ يَزِيدَهُ ، فَهُوَ حَرَامٌ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُسَلِّفَ إذَا شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَسْلِفِ زِيَادَةً أَوْ هَدِيَّةً ، فَأَسْلَفَ عَلَى ذَلِكَ ، أَنَّ أَخْذَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ رَبًّا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً .
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إرْفَاقٍ وَقُرْبَةٍ ، فَإِذَا شَرَطَ فِيهِ الزِّيَادَةَ أَخْرَجَهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الْقَدْرِ أَوْ فِي الصِّفَةِ ، مِثْلُ أَنْ يُقْرِضَهُ مُكَسَّرَةً ، لِيُعْطِيَهُ صِحَاحًا ، أَوْ نَقْدًا ، لِيُعْطِيَهُ خَيْرًا مِنْهُ .
وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، وَكَانَ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ ، جَازَ .
وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَحْمَدَ ، وَإِسْحَاقَ .
وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَمَيْمُونُ بْنُ أَبِي شَبِيبٍ ، وَعَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ زِيَادَةٌ .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهَا سَفْتَجَةً لَمْ يَجُزْ ، وَمَعْنَاهُ : اشْتِرَاطُ الْقَضَاءِ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُهَا ؛ لِكَوْنِهَا مَصْلَحَةً لَهُمَا جَمِيعًا .
وَقَالَ عَطَاءٌ : كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَأْخُذُ مِنْ قَوْمٍ بِمَكَّةَ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ يَكْتُبُ لَهُمْ بِهَا إلَى مُصْعَبِ بْن الزُّبَيْرِ بِالْعِرَاقِ ، فَيَأْخُذُونَهَا مِنْهُ .
فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مِثْلِ هَذَا ، فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا .
وَمِمَّنْ لَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا ابْنُ سِيرِينَ ، وَالنَّخَعِيُّ .
رَوَاهُ كُلَّهُ سَعِيدٌ .
وَذَكَرَ
الْقَاضِي أَنَّ لِلْوَصِيِّ قَرْضَ مَالِ الْيَتِيمِ فِي بَلَدٍ أُخْرَى لِيَرْبَح خَطَرَ الطَّرِيقِ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالشَّرْعُ لَا يَرِدُ بِتَحْرِيمِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا مَضَرَّةَ فِيهَا ، بَلْ بِمَشْرُوعِيَّتِهَا .
وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصِ عَلَى تَحْرِيمِهِ ، وَلَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ، فَوَجَبَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ .
وَإِنْ شَرَطَ فِي الْقَرْضِ أَنْ يُؤْجَرَهُ دَارِهِ ، أَوْ يَبِيعَهُ شَيْئًا ، أَوْ أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُقْتَرَضُ مَرَّةً أُخْرَى ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ .
وَلِأَنَّهُ شَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ دَارِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَبِيعَهُ الْآخَرُ دَارِهِ .
وَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُؤْجَرَهُ دَارِهِ بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَتِهَا ، أَوْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ دَارَ الْمُقْرِضِ بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَتِهَا ، أَوْ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ لَهُ هَدِيَّةً ، أَوْ يَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا ، كَانَ أَبْلَغَ فِي التَّحْرِيمِ .
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ قَبْلَ الْوَفَاءِ ، لَمْ يَقْبَلْهُ ، وَلَمْ يَجُزْ قَبُولُهُ ، إلَّا أَنْ يُكَافِئَهُ ، أَوْ يَحْسُبَهُ مِنْ دَيْنِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْقَرْضِ ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ عَلَى سَمَّاكٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَجَعَلَ يُهْدِي إلَيْهِ السَّمَكَ وَيُقَوِّمُهُ حَتَّى بَلَغَ ثَلَاثَةَ عَشَرِ دِرْهَمًا ، فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : أَعْطِهِ سَبْعَةَ دَرَاهِمَ .
وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ ، أَنَّ عُمَرَ أَسْلَفَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَأَهْدَى إلَيْهِ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ مِنْ ثَمَرَةِ أَرْضِهِ ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَقْبَلْهَا ، فَأَتَاهُ أُبَيٌّ فَقَالَ : لَقَدْ عَلِمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنِّي مِنْ أَطْيَبِهِمْ ثَمَرَةً ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيمَ مَنَعْت هَدِيَّتَنَا ، ثُمَّ أَهْدَى إلَيْهِ بَعْد ذَلِكَ فَقَبِلَ .
وَعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ ، قَالَ : قُلْت لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : إنِّي أُرِيدُ
أَنْ أَسِيرَ إلَى أَرْضِ الْجِهَادِ إلَى الْعِرَاقِ .
فَقَالَ : إنَّك تَأْتِي أَرْضًا فَاشٍ فِيهَا الرِّبَا ، فَإِنْ أَقْرَضْت رَجُلًا قَرْضًا ، فَأَتَاك بِقَرْضِك وَمَعَهُ هَدِيَّةٌ ، فَاقْبِضْ قَرْضَك ، وَارْدُدْ عَلَيْهِ هَدِيَّتَهُ .
رَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ : قَدِمْت الْمَدِينَةَ ، فَلَقِيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ .
وَذَكَرَ حَدِيثًا .
وَفِيهِ : ثُمَّ قَالَ لِي : إنَّك بِأَرْضِ فِيهَا الرِّبَا فَاشٍ ، فَإِذَا كَانَ لَك عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ ، فَأَهْدَى إلَيْك حِمْلَ تِبْنٍ ، أَوْ حِمْلَ شَعِيرٍ ، أَوْ حِمْلَ قَتٍّ ، فَلَا تَأْخُذْهُ ، فَإِنَّهُ رَبًّا .
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : وَلَوْ أَقْرَضَهُ قَرْضًا ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَهُ عَمَلًا ، لَمْ يَكُنْ لِيَسْتَعْمِلهُ مِثْلَهُ قَبْلَ الْقَرْضِ ، كَانَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً .
وَلَوْ اسْتَضَافَ غَرِيمَهُ ، وَلَمْ تَكُنْ الْعَادَةُ جَرَتْ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ ، حَسَبِ لَهُ مَا أَكَلَهُ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ ، فِي " سُنَنِهِ " ، عَنْ أَنَسٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَقْرَضَ أَحَدُكُمْ قَرْضًا ، فَأَهْدَى إلَيْهِ ، أَوْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ ، فَلَا يَرْكَبْهَا ، وَلَا يَقْبَلْهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ } .
وَهَذَا كُلُّهُ فِي مُدَّةِ الْقَرْضِ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْوَفَاءِ ، فَهُوَ كَالزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 3264 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَقْرَضَهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، فَقَضَاهُ خَيْرًا مِنْهُ فِي الْقَدْرِ ، أَوْ الصِّفَةِ ، أَوْ دُونَهُ ، بِرِضَاهُمَا ، جَازَ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ لَهُ بِهَا سَفْتَجَةً ، أَوْ قَضَاهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، جَازَ .
وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَكْحُولٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إنْ قَضَاهُ خَيْرًا مِنْهُ ، أَوْ زَادَهُ زِيَادَةً بَعْدَ الْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَابْنِ عَبَّاسِ ، وَابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ يَأْخُذُ مِثْلَ قَرْضِهِ ، وَلَا يَأْخُذُ فَضْلًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ فَضْلًا كَانَ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ بَكْرًا ، فَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ .
وَقَالَ : { خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِلْبُخَارِيِّ : { أَفْضَلُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً } .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ تِلْكَ الزِّيَادَةَ عِوَضًا فِي الْقَرْضِ ، وَلَا وَسِيلَةً إلَيْهِ ، وَلَا إلَى اسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ ، فَحَلَّتْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ قَرْضٌ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : إذَا زَادَهُ بَعْدَ الْوَفَاءِ ، فَعَادَ الْمُسْتَقْرِضُ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مِنْهُ قَرْضًا ثَانِيًا ، فَفَعَلَ ، لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ إلَّا مِثْلَ مَا أَعْطَاهُ ، فَإِنْ أَخَذَ زِيَادَةً ، أَوْ أَجْوَدَ مِمَّا أَعْطَاهُ ، كَانَ حَرَامًا ، قَوْلًا وَاحِدًا .
وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِحُسْنِ الْقَضَاءِ ، لَمْ يُكْرَهْ إقْرَاضُهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَطْمَعُ فِي حُسْنِ عَادَتِهِ .
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعْرُوفًا بِحُسْنِ الْقَضَاءِ ، فَهَلْ يَسُوغُ لَأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ إقْرَاضَهُ مَكْرُوهٌ ، وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ بِحُسْنِ الْقَضَاءِ خَيْرُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ ، وَهُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ ،
وَإِجَابَةِ مَسْأَلَتِهِ ، وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا ، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمَشْرُوطَةِ .
وَلَوْ أَقْرَضَهُ مُكَسَّرَةً ، فَجَاءَهُ مَكَانَهَا بِصِحَاحِ بِغَيْرِ شَرْطٍ ، جَازَ .
وَإِنْ جَاءَهُ بِصِحَاحٍ أَقَلَّ مِنْهَا ، فَأَخَذَهَا بِجَمِيعِ حَقِّهِ ، لَمْ يَجُزْ ، قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ لِلنَّقْدِ بِأَقَلَّ مِنْهُ ، فَكَانَ رَبًّا .
فَصْلٌ : وَإِنْ شَرَطَ فِي الْقَرْضِ أَنْ يُوَفِّيَهُ أَنْقَصَ مِمَّا أَقْرَضَهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِإِفْضَائِهِ إلَى فَوَاتِ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا هِيَ شَرْطٌ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ ، لَمْ يَجُزْ أَيْضًا .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ ، يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ جُعِلَ لِلرِّفْقِ بِالْمُسْتَقْرِضِ ، وَشَرْطُ النُّقْصَانِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ ، بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقَرْضَ يَقْتَضِي الْمِثْلَ ، فَشَرْطُ النُّقْصَانِ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ .
فَلَمْ يَجُزْ ، كَشَرْطِ الزِّيَادَةِ .
( 3266 ) فَصْلٌ : وَلَوْ اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ دِينَارٍ ، فَدَفَعَ إلَيْهِ دِينَارًا صَحِيحًا ، وَقَالَ : نِصْفُهُ قَضَاءٌ ، وَنِصْفُهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَك ، أَوْ سَلَمًا فِي شَيْءٍ ، صَحَّ .
وَإِنْ امْتَنَعَ الْمُقْرِضُ مِنْ قَبُولِهِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِي الشَّرِكَةِ ضَرَرًا .
وَلَوْ اشْتَرَى بِالنِّصْفِ الثَّانِي مِنْ الدِّينَارِ سِلْعَةً ، جَازَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ مُشَارَطَةٍ ، فَقَالَ : أَقْضِيك صَحِيحًا بِشَرْطِ أَنِّي آخُذُ مِنْك بِنِصْفِهِ الْبَاقِي قَمِيصًا .
فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ صَحِيحًا إلَّا لِيُعْطِيَهُ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي فَضْلَ مَا بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْمَكْسُورِ مِنْ النِّصْفِ الْمَقْضِيِّ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا ، جَازَ .
فَإِنْ تَرَكَ النِّصْفَ الْآخَرَ عِنْدَهُ وَدِيعَةً ، جَازَ ، وَكَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى كَسْرِهِ ، كَسَرَاهُ .
فَإِنْ اخْتَلَفَا ، لَمْ يُجْبَرْ أَحَدُهُمَا عَلَى كَسْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْقِصُ قِيمَتَهُ .
( 3267 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَفْلَسَ غَرِيمُهُ ، فَأَقْرَضَهُ أَلْفًا ، لِيُوَفِّيَهُ كُلَّ شَهْرٍ شَيْئًا مَعْلُومًا ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا انْتَفَعَ بِاسْتِيفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حِنْطَةٌ .
فَأَقْرَضَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ حِنْطَةً يُوَفِّيه إيَّاهَا ، لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا ؛ لِذَلِكَ .
وَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَبْعَثَ إلَى عِيَالِهِ نَفَقَةً ، فَأَقْرَضَهَا رَجُلًا ، عَلَى أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى عِيَالِهِ .
فَلَا بَأْسَ ، إذَا لَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهَا شَيْئًا .
وَلَوْ أَقْرَضَ أَكَّارَهُ مَا يَشْتَرِي بِهِ بَقَرًا يَعْمَلُ عَلَيْهَا فِي أَرْضِهِ ، أَوْ بَذْرًا يَبْذُرُهُ فِيهَا ، فَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْقَرْضِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ ، فَأَشْبَهَ شَرْطَ الزِّيَادَةِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً .
قَالَ : وَلَوْ قَالَ : أَقْرِضْنِي أَلْفًا ، وَادْفَعْ إلَى أَرْضَك أَزْرَعْهَا بِالثُّلُثِ .
كَانَ خَبِيثًا .
وَالْأَوْلَى جَوَازُ ذَلِكَ ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ ، وَالْمُسْتَقْرِضُ إنَّمَا يَقْصِدُ نَفْعَ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ انْتِفَاعُ الْمُقْرِضِ ضِمْنًا ، فَأَشْبَهَ أَخْذَ السَّفْتَجَةَ بِهِ ، وَإِيفَاءَهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، وَلِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا ، فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا .
( 3268 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ اقْتَرَضَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ ، وَابْتَاعَ بِهَا مِنْهُ شَيْئًا ، فَخَرَجَتْ زُيُوفًا : فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ .
يَعْنِي لَا يَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِبَدَلِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهَا دَرَاهِمُهُ ، فَعَيْبُهَا عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بَدَلُ مَا أَقْرَضَهُ إيَّاهُ بِصِفَتِهِ زُيُوفًا .
وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ فِيمَا إذَا بَاعَهُ السِّلْعَةَ بِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ عَيْبَهَا ؛ فَأَمَّا إنْ بَاعَهُ فِي ذِمَّتِهِ بِدَرَاهِمَ ، ثُمَّ قَبَضَ هَذِهِ بَدَلًا عَنْهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ لَهُ دَرَاهِمُ خَالِيَةٌ مِنْ الْعَيْبِ ، وَيَرُدَّ هَذِهِ عَلَيْهِ ، وَلِلْمُشْتَرِي رَدُّهَا عَلَى الْبَائِعِ ، وَفَاءً عَنْ الْقَرْضِ ، وَيَبْقَى الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ .
وَإِنْ حَسَبَهَا عَلَى الْبَائِعِ وَفَاءً عَنْ الْقَرْضِ ، وَوَفَّاهُ الثَّمَنَ جَيِّدًا ، جَازَ .
قَالَ : وَلَوْ أَقْرَضَ رَجُلًا دَرَاهِمَ ، وَقَالَ : إذَا مِتّ فَأَنْتِ فِي حِلٍّ .
كَانَتْ وَصِيَّةً .
وَإِنْ قَالَ : إنْ مِتّ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ .
لَمْ يَصِحَّ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ ، وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشُّرُوطِ ، وَالْأَوَّلُ وَصِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى مَوْتِ نَفْسِهِ ، وَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ .
قَالَ : وَلَوْ أَقْرَضَهُ تِسْعِينَ دِينَارًا بِمِائَةٍ عَدَدًا وَالْوَزْنُ وَاحِدٌ ، وَكَانَتْ لَا تُنْفَقُ فِي مَكَان إلَّا بِالْوَزْنِ ، جَازَ .
وَإِنْ كَانَتْ تُنْفَقُ بِرُءُوسِهَا ، فَلَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ تُنْفَقُ فِي مَكَان بِرُءُوسِهَا ، كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً ، لِأَنَّ التِّسْعِينَ مِنْ الْمِائَةِ تَقُومُ مَقَامَ التِّسْعِينَ الَّتِي أَقْرَضَهُ إيَّاهَا ، وَيَسْتَفْضِلُ عَشَرَةً ، وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ ، وَإِذَا كَانَتْ لَا تُنْفَقُ إلَّا بِالْوَزْنِ ، فَلَا زِيَادَةَ فِيهَا وَإِنْ كَثُرَ عَدَدُهَا .
قَالَ : وَلَوْ قَالَ : اقْتَرِضْ لِي مِنْ فُلَانٍ مِائَةً ، وَلَك عَشَرَةٌ .
فَلَا بَأْسَ ، وَلَوْ قَالَ : اُكْفُلْ عَنِّي وَلَك أَلْفٌ .
لَمْ يَجُزْ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ
: اقْتَرِضْ لِي وَلَك عَشْرَةٌ .
جَعَالَةٌ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ ، فَجَازَتْ ، كَمَا لَوْ قَالَ : ابْنِ لِي هَذَا الْحَائِطَ وَلَك عَشْرَةٌ .
وَأَمَّا الْكَفَالَةُ ، فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ ، فَإِذَا أَدَّاهُ وَجَبَ لَهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ، فَصَارَ كَالْقَرْضِ ، فَإِذَا أَخَذَ عِوَضًا صَارَ الْقَرْضُ جَارًّا لِلْمَنْفَعَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ .
( 3269 ) فَصْلٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ يَرُدُّ الْمِثْلَ فِي الْمِثْلِيَّاتِ ، سَوَاءٌ رَخُصَ سِعْرُهُ أَوْ غَلَا ، أَوْ كَانَ بِحَالِهِ .
وَلَوْ كَانَ مَا أَقْرَضَهُ مَوْجُودًا بِعَيْنِهِ ، فَرَدَّهُ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ يَحْدُثُ فِيهِ ، لَزِمَ قَبُولُهُ ، سَوَاءٌ تَغَيَّرَ سِعْرُهُ أَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ .
وَإِنْ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ ، لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ .
وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ فُلُوسًا أَوْ مُكَسَّرَةً ، فَحَرَّمَهَا السُّلْطَانُ ، وَتَرَكَتْ الْمُعَامَلَةُ بِهَا ، كَانَ لِلْمُقْرِضِ قِيمَتُهَا ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهَا ، سَوَاءٌ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِهِ أَوْ اسْتَهْلَكَهَا ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ فِي مِلْكِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الدَّرَاهِمِ الْمُكَسَّرَةِ ، وَقَالَ : يُقَوِّمُهَا كَمْ تُسَاوِي يَوْمَ أَخَذَهَا ؟ ثُمَّ يُعْطِيه ، وَسَوَاءٌ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا إذَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهَا ، فَأَمَّا إنْ تَعَامَلُوا بِهَا مَعَ تَحْرِيمِ السُّلْطَانِ لَهَا ، لَزِمَ أَخْذُهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَيْسَ لَهُ إلَّا مِثْلُ مَا أَقْرَضَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِعَيْبٍ حَدَثَ فِيهَا ، فَجَرَى مَجْرَى نَقْصِ سِعْرِهَا .
وَلَنَا أَنَّ تَحْرِيمَ السُّلْطَانِ لَهَا مَنْعُ إنْفَاقِهَا ، وَإِبْطَالُ مَالِيَّتِهَا ، فَأَشْبَهَ كَسْرَهَا ، أَوْ تَلَفَ أَجْزَائِهَا ، وَأَمَّا رُخْصُ السِّعْرِ فَلَا يَمْنَعُ رَدَّهَا ، سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا ، مِثْلَ إنْ كَانَتْ عَشَرَةً بِدَانِقٍ ، فَصَارَتْ عِشْرِينَ بِدَانِقٍ ، أَوْ قَلِيلًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ فِيهَا شَيْءٌ ، إنَّمَا تَغَيَّرَ السِّعْرُ ، فَأَشْبَهَ الْحِنْطَةَ إذَا رَخُصَتْ أَوْ غَلَتْ .
( 3270 ) فَصْلٌ وَإِذَا أَقْرَضَهُ مَا لِحَمْلِهِ مُؤْنَةٌ ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِمِثْلِهِ بِبَلَدٍ آخَرَ ، لَمْ يَلْزَمْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ حَمْلُهُ لَهُ إلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ .
فَإِنْ طَالَبَهُ بِالْقِيمَةِ لَزِمَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُؤْنَةَ لِحَمْلِهَا .
فَإِنْ تَبَرَّعَ الْمُسْتَقْرِضُ بِدَفْعِ الْمِثْلِ ، وَأَبَى الْمُقْرِضُ قَبُولَهُ ، فَلَهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَرَرًا فِي قَبْضِهِ ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا احْتَاجَ إلَى حَمْلِهِ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي أَقْرَضَهُ فِيهِ ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِيمَةِ ذَلِكَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي أَقْرَضَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ الْمَكَانُ الَّذِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَرْضُ أَثْمَانًا ، أَوْ مَا لَا مُؤْنَةَ فِي حَمْلِهِ ، وَطَالَبَهُ بِهَا ، وَهُمَا بِبَلَدٍ آخَرَ ، لَزِمَهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْبَلَدِ وَغَيْرِهِ وَاحِدٌ .
( 3271 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَقْرَضَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيًّا خَمْرًا ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا .
بَطَلَ الْقَرْضُ .
وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُقْتَرِضِ شَيْءٌ ، سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمُسْلِمَ أَوْ الْآخَرَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ خَمْرٌ ، لِعَدَمِ مَالِيَّتِهَا ، وَلَا يَجِبُ بَدَلُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا ، وَلِذَلِكَ لَا يَضْمَنُهَا إذَا أَتْلَفَهَا .
وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ الْآخَرَ لَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ ، لِذَلِكَ .
كِتَابُ الرَّهْنِ الرَّهْنُ فِي اللُّغَةِ : الثُّبُوتُ وَالدَّوَامُ .
يُقَالُ : مَاءٌ رَاهِنٌ .
أَيْ رَاكِدٌ .
وَنِعْمَةٌ رَاهِنَةٌ .
أَيْ ثَابِتَةٌ دَائِمَةٌ .
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ الْحَبْسِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } وَقَالَ : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَفَارَقَتْك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَضْحَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا شَبَّهَ لُزُومَ قَلْبِهِ لَهَا ، وَاحْتِبَاسَهُ عِنْدَهَا ، لِشِدَّةِ وَجْدِهِ بِهَا ، بِالرَّهْنِ الَّذِي يَلْزَمُهُ الْمُرْتَهِنُ ، فَيُبْقِيه عِنْدَهُ ، وَلَا يُفَارِقُهُ .
وَغَلْقُ الرَّهْنِ : اسْتِحْقَاقُ الْمُرْتَهِنِ إيَّاهُ ، لِعَجْزِ الرَّاهِنِ عَنْ فِكَاكِهِ .
وَالرَّهْنُ فِي الشَّرْعِ : الْمَالُ الَّذِي يُجْعَلُ وَثِيقَةً بِالدَّيْنِ لِيُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِهِ إنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ .
وَهُوَ جَائِزٌ .
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } .
وَتُقْرَأُ : { فَرُهُنٌ } .
وَالرِّهَانُ : جَمْعُ رَهْنٍ ، وَالرُّهُنُ : جَمْعُ الْجَمْعِ .
قَالَهُ الْفَرَّاءُ .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ رَهْنٍ ، مِثْل سَقْفٍ وَسُقُفٍ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ ، إذَا كَانَ مَرْهُونًا ، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ ، إذَا كَانَ مَرْهُونًا ، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ } .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ ، فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْجُمْلَةِ .
( 3272 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ الرَّهْنُ فِي الْحَضَرِ ، كَمَا يَجُوزُ فِي السَّفَرِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا نَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ ، إلَّا مُجَاهِدًا ، قَالَ : لَيْسَ الرَّهْنُ إلَّا فِي السَّفَرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ السَّفَرَ فِي الرَّهْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا ، وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ ، وَكَانَا بِالْمَدِينَةِ .
} وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ تَجُوزُ فِي السَّفَرِ ، فَجَازَتْ فِي الْحَضَرِ ، كَالضَّمَانِ .
فَأَمَّا ذِكْرُ السَّفَرِ ، فَإِنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ ؛ لِكَوْنِ الْكَاتِبِ يُعْدَمُ فِي السَّفَرِ غَالِبًا ، وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَدَمَ الْكَاتِبِ ، وَهُوَ مَذْكُورٌ مَعَهُ أَيْضًا .
( 3273 ) فَصْلٌ : وَالرَّهْنُ غَيْرُ وَاجِبٍ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ؛ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ ، فَلَمْ يَجِبْ ، كَالضَّمَانِ وَالْكِتَابَةِ .
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } .
إرْشَادٌ لَنَا لَا إيجَابٌ عَلَيْنَا ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } .
وَلِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ عِنْدَ إعْوَازِ الْكِتَابَةِ ، وَالْكِتَابَةُ غَيْرُ وَاجِبَةٍ ، فَكَذَلِكَ بَدَلُهَا .
( 3274 ) فَصْلٌ : وَلَا يَخْلُو الرَّهْنُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ، أَحَدُهَا ، أَنْ يَقَعَ بَعْدَ الْحَقِّ ، فَيَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى أَخْذِ الْوَثِيقَةِ بِهِ ، فَجَازَ أَخْذُهَا بِهِ كَالضَّمَانِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } .
فَجَعَلَهُ بَدَلًا عَنْ الْكِتَابَةِ ، فَيَكُونُ فِي مَحَلِّهَا ، وَمَحَلُّهَا بَعْدَ وُجُوبِ الْحَقِّ ، وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } .
فَجَعَلَهُ جَزَاءً لِلْمُدَايِنَةِ مَذْكُورًا بَعْدَهَا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ الْحَالُ الثَّانِي ، أَنْ يَقَعَ الرَّهْنُ مَعَ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِلدَّيْنِ ، فَيَقُولُ : بِعْتُك ثَوْبِي هَذَا بِعَشْرَةٍ إلَى شَهْرٍ ، تَرْهَنُنِي بِهَا عَبْدَك سَعْدًا .
فَيَقُولُ : قَبِلْت ذَلِكَ .
فَيَصِحُّ أَيْضًا .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ثُبُوتِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْقِدْهُ مَعَ ثُبُوتِ الْحَقِّ ، وَيَشْتَرِطْ فِيهِ ، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إلْزَامِ الْمُشْتَرِي عَقْدَهُ ، وَكَانَتْ الْخِيرَةُ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَبْذُلُهُ ، فَتَفُوتُ الْوَثِيقَةُ بِالْحَقِّ .
الْحَالُ الثَّالِثُ ، أَنْ يَرْهَنَهُ قَبْلَ الْحَقِّ ، فَيَقُولُ : رَهَنْتُك عَبْدِي هَذَا بِعَشْرَةٍ تُقْرِضُنِيهَا .
فَلَا يَصِحُّ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي .
وَذَكَرَ الْقَاضِي : أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَصِحُّ .
فَمَتَى قَالَ : رَهَنْتُك ثَوْبِي هَذَا بِعَشْرَةٍ تُقْرِضُنِيهَا غَدًا .
وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ، ثُمَّ أَقْرَضَهُ الدَّرَاهِمَ ، لَزِمَ الرَّهْنُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِحَقِّ ، فَجَازَ عَقْدُهَا قَبْلَ وُجُوبِهِ ، كَالضَّمَانِ ، أَوْ فَجَازَ انْعِقَادُهَا عَلَى شَيْءٍ يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، كَضَمَانِ الدَّرْكِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِحَقِّ لَا يَلْزَمُ قَبْلَهُ ، فَلَمْ تَصِحَّ قَبْلَهُ كَالشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ تَابِعٌ لِلْحَقِّ ، فَلَا يَسْبِقُهُ ، كَالشَّهَادَةِ ، وَالثَّمَنُ لَا يَتَقَدَّمُ الْبَيْعَ .
وَأَمَّا الضَّمَانُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْنَعَ صِحَّتَهُ ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الضَّمَانَ الْتِزَامُ مَالٍ تَبَرُّعًا بِالْقَوْلِ ، فَجَازَ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ ثَابِتٍ ، كَالنَّذْرِ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ .
( 3275 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ ) يَعْنِي لَا يَلْزَمُ الرَّهْنُ إلَّا بِالْقَبْضِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : مَا كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، لَا يَلْزَمُ رَهْنُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ ، وَفِيمَا عَدَّاهُمَا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ .
وَالْأُخْرَى ، يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، كَالْبَيْعِ .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِي .
وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ الْخِرَقِيِّ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ خَاصَّةً .
وَلَيْسَ بِصَحِيحِ ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْخِرَقِيِّ مَعَ عُمُومِهِ ، قَدْ أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ التَّعْمِيمِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ ، فَقَبْضُهُ أَخْذُهُ إيَّاهُ مِنْ رَاهِنِهِ مَنْقُولًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ ، كَالدُّورِ وَالْأَرْضِينَ ، فَقَبْضُهُ بِتَخْلِيَةِ رَاهِنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ .
وَقَدْ وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الدَّارِ وَالْجَارِيَةِ إذَا رَدَّهَا إلَى الرَّاهِنِ : لَمْ يَكُنْ رَهْنًا فِي الْحَالِ .
وَهَذَا كَقَوْلِ الْخِرَقِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَلْتَزِمُ الرَّهْنَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ ، فَلَزِمَ قَبْلَهُ ، كَالْبَيْعِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } .
وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مَقْبُوضَةً ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إرْفَاقٍ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ ، فَافْتَقَرَ إلَى الْقَبْضِ ، كَالْقَرْضِ ، وَلِأَنَّهُ رَهْنٌ لَمْ يُقْبَضْ ، فَلَا يَلْزَمُ إقْبَاضُهُ ، كَمَا لَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ ، وَلَا يُشْبِهُ الْبَيْعَ ، فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ ، وَلَيْسَ بِإِرْفَاقِ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : " مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ " .
يَعْنِي أَنَّ الرَّاهِنَ الَّذِي يَرْهَنُ وَيَقْبِضُ ، يَكُونُ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، وَهُوَ الْحُرُّ الْمُكَلَّفُ الرَّشِيدُ ، وَلَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حَالِ رَهْنِهِ وَإِقْبَاضِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَالتَّسْلِيمَ
لَيْسَ بِوَاجِبِ ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى اخْتِيَارِ الرَّاهِنِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ ، لَمْ يَصِحَّ ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ تَصَرُّفٍ فِي الْمَالِ ، فَلَمْ يَصِحَّ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ ، كَالْبَيْعِ .
فَإِنْ جُنَّ أَحَدُ الْمُتَرَاهِنَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، أَوْ مَاتَ ، لَمْ يَبْطُلْ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَئُولُ إلَى اللُّزُومِ ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِجُنُونِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ مَوْتِهِ ، كَالْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ ، وَيَقُومُ وَلِيُّ الْمَجْنُونِ مَقَامَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ الرَّاهِنَ ، وَكَانَ الْحَظُّ فِي التَّقْبِيضِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي بَيْعٍ يَسْتَضِرُّ بِفَسْخِهِ وَنَحْوَهُ أَقْبَضَهُ .
وَإِنْ كَانَ الْحَظُّ فِي تَرْكِهِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْبِيضُهُ .
وَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ الْمُرْتَهِنَ ، قَبَضَهُ وَلِيُّهُ إنْ اخْتَارَ الرَّاهِنُ ، وَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ .
وَإِذَا مَاتَ ، قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي الْقَبْضِ .
فَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ ، لَمْ يَلْزَمْ وَرَثَتُهُ تَقْبِيضَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَ الرَّاهِنِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ سِوَى هَذَا الدَّيْنِ ، فَأَحَبَّ الْوَرَثَةُ تَقْبِيضَ الرَّهْنِ ، جَازَ .
وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَاهُ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَارِثِ تَخْصِيصُ الْمُرْتَهِنِ بِالرَّهْنِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْن سَعِيدٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ ، أَخْذًا مِمَّا نَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ وَأَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ قَالَ : إذَا مَاتَ الرَّاهِنُ أَوْ أَفْلَسَ ، فَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ وُجُودَ الْقَبْضِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ قَبْلَهُ .
وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا نَقَلَهُ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ ؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ وَهَذَا عَامٌ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ يَضْعُفُ جِدًّا لِنُدْرَتِهَا ، فَكَيْفَ يُعَارَضُ بِهِ الْخَاصُّ ، لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ مَبْنِيًّا عَلَى
الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْقَبْضُ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، فَيَكُونُ الرَّهْنُ قَدْ لَزِمَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَوَجَبَ تَقْبِيضُهُ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَكَذَلِكَ عَلَى وَارِثِهِ .
وَيَخْتَصُّ هَذَا بِمَا عَدَّا الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، وَأَمَّا مَا لَمْ يَلْزَمْ الرَّهْنُ فِيهِ ، فَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ تَقْبِيضُهُ ؛ لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ تَعَلَّقَتْ دُيُونُهُمْ بِالتَّرِكَةِ قَبْلَ لُزُومِ حَقِّهِ فِي الرَّهْنِ ، فَلَمْ يَجُزْ تَخْصِيصُهُ بِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ ، كَمَا لَوْ أَفْلَسَ الرَّاهِنُ ، إلَّا إذَا قُلْنَا : إنَّ لِلْوَرَثَةِ التَّصَرُّفَ فِي التَّرِكَةِ ، وَوَفَاءَ الدَّيْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ إذَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ الْمُرْتَهِنُ ؟ قُلْنَا : فَائِدَتُهُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَرْضَى الْغُرَمَاءُ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ ، فَيَتِمُّ الرَّهْنُ .
وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ ؛ لِكَوْنِ الْإِذْنِ يَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْمَوْتِ وَالْإِغْمَاءِ وَالْحَجْرِ .
( 3276 ) فَصْلٌ وَلَوْ حُجِرَ عَلَى الرَّاهِنِ لِفَلْسِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَسْلِيمُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَخْصِيصًا لِلْمُرْتَهِنِ بِثَمَنِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ تَخْصِيصُ بَعْضِ غُرَمَائِهِ .
وَإِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ زَالَ عَقْلُهُ بِجُنُونِ ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ .
وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الرَّهْنِ ، وَلَيْسَ لَأَحَدٍ تَقْبِيضُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، لَمْ يَكُنْ لَأَحَدٍ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ أَيْضًا .
وَانْتُظِرَ إفَاقَتُهُ ، وَإِنْ خَرِسَ ، وَكَانَتْ لَهُ كِتَابَةٌ مَفْهُومَةٌ ، أَوْ إشَارَةٌ مَعْلُومَةٌ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُتَكَلِّمِينَ ، إنْ أَذِنَ فِي الْقَبْضِ جَازَ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَإِنْ لَمْ تُفْهَمْ إشَارَتُهُ وَلَا كِتَابَتُهُ ، لَمْ يَجُزْ الْقَبْضُ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ قَدْ أَذِنَ فِي الْقَبْضِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مِنْ لَمْ يَأْذَنْ ؛ لِأَنَّ إذْنَهُمْ يَبْطُلُ بِمَا عَرَضَ لَهُمْ .
وَجَمِيعُ هَذَا تَنَاوَلَهُ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ : مِنْ جَائِزِ الْأَمْرِ " .
وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ جَائِزَ الْأَمْرِ .
( 3277 ) فَصْلٌ إذَا تَصَرَّفَ الرَّاهِنُ فِي الرَّهْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، بِهِبَةِ أَوْ بَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ ، أَوْ جَعَلَهُ صَدَاقًا ، أَوْ رَهَنَهُ ثَانِيًا ، بَطَلَ الرَّهْنُ الْأَوَّلُ ، سَوَاءٌ قَبَضَ الْهِبَةَ وَالْمَبِيعَ وَالرَّهْنَ الثَّانِيَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ إمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ ، أَوْ فَعَلَ مَا يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ ذَلِكَ ، وَإِنْ دَبَّرَ الْعَبْدَ ، أَوْ أَجَرَهُ ، أَوْ زَوَّجَ الْأَمَةَ ، لَمْ يَبْطُلْ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَا يَمْنَعُ الْبَيْعَ ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الرَّهْنِ ، فَلَا يَقْطَعُ اسْتَدَامَتْهُ كَاسْتِخْدَامِهِ .
وَإِنْ كَاتَبَ الْعَبْدَ ، انْبَنَى عَلَى صِحَّةِ رَهْنِ الْمُكَاتَبِ ، فَإِنْ قُلْنَا : يَجُوزُ رَهْنُهُ .
لَمْ يَبْطُلْ رَهْنُهُ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ .
بَطَلَ رَهْنُهُ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ .
فَصْلٌ : وَاسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ شَرْطٌ لِلُزُومِ الرَّهْنِ .
فَإِذَا أَخْرَجَهُ الْمُرْتَهِنُ عَنْ يَدِهِ بِاخْتِيَارِهِ ، زَالَ لُزُومُ الرَّهْنِ ، وَبَقِيَ الْعَقْدُ ، كَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَبْضٌ ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهُ بِإِجَارَةِ أَوْ إعَارَةٍ أَوْ إيدَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
فَإِذَا عَادَ فَرَدَّهُ إلَيْهِ ، عَادَ اللُّزُومُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ السَّابِقِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ : إذَا ارْتَهَنَ دَارًا ، ثُمَّ أَكْرَاهَا صَاحِبُهَا ، خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ ، فَإِذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ ، صَارَتْ رَهْنًا .
وَقَالَ فِي مَنْ رَهَنَ جَارِيَةً ، ثُمَّ سَأَلَ الْمُرْتَهِنَ أَنْ يَبْعَثَهَا إلَيْهِ لِتَخْبِزَ لَهُمْ ، فَبَعَثَ بِهَا ، فَوَطِئَهَا : انْتَقَلَتْ مِنْ الرَّهْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا ، فَلَا شَيْءَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا يَكُونُ رَهْنًا فِي تِلْكَ الْحَالِ ، فَإِذَا رَدَّهَا رَجَعَتْ إلَى الرَّهْنِ .
وَمِمَّنْ أَوْجَبَ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : ابْتِدَاءُ الْقَبْضِ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
فَأَوْلَى أَنْ يَقُولَ : الِاسْتِدَامَةُ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَرْطٍ يُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِدَامَةِ ، يُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ فِي الِابْتِدَاءِ مَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِدَامَةِ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إذَا قُلْنَا : الْقَبْضُ شَرْطٌ فِي الِابْتِدَاءِ .
كَانَ شَرْطًا فِي الِاسْتِدَامَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ لَيْسَتْ شَرْطًا ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِي ابْتِدَائِهِ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ اسْتَدَامَتْهُ كَالْهِبَةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } .
لِأَنَّهَا إحْدَى حَالَتَيْ الرَّهْنِ ، فَكَانَ الْقَبْضُ فِيهَا شَرْطًا ، كَالِابْتِدَاءِ .
وَيُفَارِقُ الْهِبَةَ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي ابْتِدَائِهَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ ، فَإِذَا ثَبَتَ اُسْتُغْنِيَ عَنْ الْقَبْضِ ثَانِيًا ، وَالرَّهْنُ يُرَادُ لِلْوَثِيقَةِ مِنْ بَيْعِهِ ، وَاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ، لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ بَيْعِهِ
، وَلَمْ تَحْصُلْ وَثِيقَةٌ .
وَإِنْ أُزِيلَتْ يَدُ الْمُرْتَهِنِ لِغَيْرِ حَقٍّ ، كَغَصْبٍ ، أَوْ سَرِقَةٍ ، أَوْ إبَاقِ الْعَبْدِ ، أَوْ ضَيَاعِ الْمَتَاعِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، لَمْ يَزُلْ لُزُومُ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ ثَابِتَةٌ حُكْمًا ، فَكَأَنَّهَا لَمْ تَزُلْ .
( 3279 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ قَبْضُ الرَّهْنِ إلَّا بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ تَقْبِيضُهُ ، فَاعْتُبِرَ إذْنُهُ فِي قَبْضِهِ ، كَالْوَاهِبِ .
فَإِنْ تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ ، فَقَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنٍ ، لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَقْبِضْ .
وَإِنْ أَذِنَ الرَّاهِنُ فِي الْقَبْضِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْإِذْنِ قَبْلَهُ ، زَالَ حُكْمُ الْإِذْنِ .
وَإِنْ رَجَعَ عَنْ الْإِذْنِ بَعْدَ قَبْضِهِ ، لَمْ يُؤَثِّرْ رُجُوعُهُ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ قَدْ لَزِمَ لِاتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ زَالَ لُزُومُ الرَّهْنِ لِزَوَالِ الْقَبْضِ ، اُعْتُبِرَ الْإِذْنُ فِي الْقَبْضِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ يَلْزَمُ بِهِ الرَّهْنُ ، أَشْبَهَ الْأَوَّلَ ، وَيَقُومُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ مَقَامَهُ ، مِثْلُ إرْسَالِهِ الْعَبْدَ إلَى مُرْتَهِنِهِ ، وَرَدِّهِ لِمَا أَخَذَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ إلَى يَدِهِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْإِذْنِ ، فَاكْتُفِيَ بِهِ ، كَدُعَاءِ النَّاسِ إلَى الطَّعَامِ ، وَتَقْدِيمِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، يَجْرِي مَجْرَى الْإِذْنِ فِي أَكْلِهِ .
( 3280 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَالْقَبْضُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْقَلُ ، فَقَبْضُ الْمُرْتَهِنِ لَهُ أَخْذُهُ إيَّاهُ مِنْ رَاهِنِهِ مَنْقُولًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ ، كَالدُّورِ وَالْأَرْضِينَ ، فَقَبْضُهُ تَخْلِيَةُ رَاهِنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُرْتَهِنِهِ ، لَا حَائِلَ دُونَهُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقَبْضَ فِي الرَّهْنِ كَالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، فَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا فَقَبْضُهُ نَقْلُهُ أَوْ تَنَاوُلُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَثْمَانًا ، أَوْ شَيْئًا خَفِيفًا يُمْكِنُ قَبْضُهُ بِالْيَدِ ، فَقَبْضُهُ تَنَاوُلُهُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا ، رَهَنَهُ بِالْكَيْلِ ، أَوْ مَوْزُونًا ، رَهَنَهُ بِالْوَزْنِ ، فَقَبْضُهُ اكْتِيَالُهُ أَوْ اتِّزَانُهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا سَمَّيْت الْكَيْلَ فَكِلْ } .
وَإِنْ ارْتَهَنَ الصُّبْرَةَ جُزَافًا ، أَوْ كَانَ ثِيَابًا أَوْ حَيَوَانًا فَقَبْضُهُ نَقْلُهُ ؛ لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ : { كُنَّا نَشْتَرِي الطَّعَامَ مِنْ الرُّكْبَانِ جُزَافًا .
فَنَهَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ مِنْ مَكَانِهِ .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ مَنْقُولٍ ، كَالْعَقَارِ وَالثَّمَرَةِ عَلَى الشَّجَرَةِ ، فَقَبْضُهُ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ مُرْتَهِنِهِ وَبَيْنَهُ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ ، بِأَنْ يَفْتَحَ لَهُ بَابَ الدَّارِ ، أَوْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ مِفْتَاحَهَا .
وَإِنْ خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَفِيهَا قُمَاشٌ لِلرَّاهِنِ ، صَحَّ التَّسْلِيمُ ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَهَا بِمِلْكِ الرَّاهِنِ ، لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ ، كَالثَّمَرَةِ فِي الشَّجَرَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهُ دَابَّةً عَلَيْهَا حِمْلٌ لِلرَّاهِنِ ، فَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ، صَحَّ التَّسْلِيمُ .
وَلَوْ رَهَنَ الْحِمْلَ وَهُوَ عَلَى الدَّابَّةِ ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ بِحِمْلِهَا ، صَحَّ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حَصَلَ فِيهِمَا جَمِيعًا ، فَيَكُونُ مَوْجُودًا فِي الرَّهْنِ مِنْهُمَا .
( 3281 ) فَصْلٌ : وَإِنْ رَهَنَهُ سَهْمًا مُشَاعًا مِمَّا لَا يُنْقَلُ .
خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، سَوَاءٌ حَضَرَ الشَّرِيكُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ وَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا كَالْجَوْهَرَةِ يَرْهَنُ نِصْفَهَا ، فَقَبْضُهَا تَنَاوُلُهَا ، وَلَا يُمْكِنُ تَنَاوُلُهَا إلَّا بِرِضَا الشَّرِيكِ ، فَإِنْ رَضِيَ الشَّرِيكُ ، تَنَاوَلَهَا ، وَإِنْ امْتَنَعَ الشَّرِيكُ ، فَرَضِيَ الْمُرْتَهِنُ وَالرَّاهِنُ بِكَوْنِهَا فِي يَدِ الشَّرِيكِ ، جَازَ ، وَنَابَ عَنْهُ فِي الْقَبْضِ ، وَإِنْ تَنَازَعَ الشَّرِيكُ وَالْمُرْتَهِنُ ، نَصَّبَ الْحَاكِمُ عَدْلًا تَكُونُ فِي يَدِهِ لَهُمَا وَإِنْ نَاوَلَهَا الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ رِضَا الشَّرِيكِ فَتَنَاوَلَهَا ، فَإِنْ قُلْنَا : اسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ شَرْطٌ .
لَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ التَّنَاوُلُ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَيْسَ بِشَرْطِ .
فَقَدْ حَصَلَ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ حَصَلَ فِي يَدِهِ مَعَ التَّعَدِّي فِي غَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَهَنَهُ ثَوْبًا فَسَلَّمَهُ إلَيْهِ مَعَ ثَوْبٍ لِغَيْرِهِ ، فَتَنَاوَلَهُمَا مَعًا .
وَلَوْ رَهَنَهُ ثَوْبًا ، فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ ، فَسَلَّمَ إلَيْهِ أَحَدَهُمَا ، لَمْ يَثْبُتْ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَقْبِضهُ الرَّهْنَ ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ الرَّهْنُ ، تَبَيَّنَ صِحَّةُ التَّسْلِيمِ .
وَإِنْ سَلَّمَ إلَيْهِ الثَّوْبَيْنِ مَعًا ، حَصَلَ الْقَبْضُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَسَلَّمَ الرَّهْنَ يَقِينًا .
( 3282 ) فَصْلٌ : وَلَوْ رَهَنَهُ دَارًا ، فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَهُمَا فِيهَا ، ثُمَّ خَرَجَ الرَّاهِنُ ، صَحَّ الْقَبْضُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَصِحُّ حَتَّى يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَعْد خُرُوجِهِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ فِي الدَّارِ فَيَدُهُ عَلَيْهَا ، فَمَا حُصِلَتْ التَّخْلِيَةُ .
وَلَنَا ، أَنَّ التَّخْلِيَةَ تَصِحُّ بِقَوْلِهِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهَا وَعَدَمِ الْمَانِعِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَا خَارِجِينَ عَنْهَا ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ خُرُوجَ الْمُرْتَهِنِ مِنْهَا لَا يُزِيلُ يَدَهُ عَنْهَا ، وَدُخُولَهُ إلَى دَارِ غَيْرِهِ لَا يُثْبِتُ يَدَهُ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّهُ بِخُرُوجِهِ عَنْهَا مُحَقِّقٌ لِقَوْلِهِ ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَةِ التَّخْلِيَةِ .
( 3283 ) فَصْلٌ : وَإِنْ رَهَنَهُ مَالًا لَهُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ؛ عَارِيَّةً أَوْ وَدِيعَةً أَوْ غَصْبًا أَوْ نَحْوَهُ ، صَحَّ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ يُمْكِنُ قَبْضُهُ ، فَصَحَّ رَهْنُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَد لُزُومُ الرَّهْنِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا حُصِلَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ بَعْد الرَّهْنِ ، فَهُوَ رَهْنٌ .
فَلَمْ يَعْتَبِرْ أَمْرًا زَائِدًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَ ثَابِتَةٌ ، وَالْقَبْضُ حَاصِلٌ .
وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ لَا غَيْرُ ، وَيُمْكِنْ تَغَيُّرُ الْحُكْمِ مَعَ اسْتِدَامَةِ الْقَبْضِ .
كَمَا لَوْ طُولِبَ الْوَدِيعَةِ فَجَحَدَهَا لِتَغَيُّرِ الْحُكْمِ ، وَصَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ زَائِدٍ .
وَلَوْ عَادَ الْجَاحِدُ ، فَأَقَرَّ بِهَا ، وَقَالَ لِصَاحِبِهَا : خُذْ وَدِيعَتَك .
فَقَالَ : دَعْهَا عِنْدَك وَدِيعَةً كَمَا كَانَتْ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْك فِيهَا .
لَتَغَيَّرَ الْحُكْمُ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ أَمْرٍ زَائِدٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَصِيرُ رَهْنًا حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةً يَتَأَتَّى قَبْضُهُ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ مَنْقُولًا فَبِمُضِيِّ مُدَّةٍ يُمْكِنُ نَقْلُهُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا فَبِمُضِيِّ مُدَّةٍ يُمْكِنُ اكْتِيَالُهُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُولٍ فَبِمُضِيِّ مُدَّةِ التَّخْلِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَصِرْ مَقْبُوضًا حَتَّى يُوَافِيَهُ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ ، ثُمَّ تَمْضِي مُدَّةٌ يُمْكِنُ قَبْضُهُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبْضِ ، وَالْقَبْضُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلِهِ أَوْ بِإِمْكَانِهِ ، وَيَكْفِي ذَلِكَ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى وُجُودِ حَقِيقَةِ الْقَبْضِ ، لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ حَقِيقَةً .
فَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى قَبْضُهُ فِيهَا ، فَهُوَ كَتَلَفِ الرَّهْنِ قَبْلَ قَبَضَهُ .
ثُمَّ هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِذْنِ مِنْ الرَّاهِنِ فِي الْقَبْضِ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، يَفْتَقِرُ ، لِأَنَّهُ قَبْضٌ يَلْزَمُ بِهِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِغَيْرِ
إذْنٍ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ ، وَإِقْرَارُهُ فِي يَدِهِ لَا يَكْفِي ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمَغْصُوبَ فِي يَدِ غَاصِبِهِ مَعَ إمْكَانِ أَخْذِهِ مِنْهُ .
وَالثَّانِي ، لَا يَفْتَقِرُ إلَى إذْنٍ فِي الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَهُ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ فِي الْقَبْضِ .
فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةٍ يَتَأَتَّى الْقَبْضُ فِيهَا ، لَمْ يَلْزَمْ الرَّهْنُ .
حَتَّى يَعُودَ فَيَأْذَنَ ، ثُمَّ تَمْضِي مُدَّةٌ يَقْبِضُهُ فِي مِثْلِهَا .
( 3284 ) فَصْلٌ : وَإِذَا رَهَنَهُ الْمَضْمُونَ ، كَالْمَغْصُوبِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْمَقْبُوضِ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ ، أَوْ عَلَى تَوَجُّهِ السَّوْمِ .
صَحَّ ، وَزَالَ الضَّمَانُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَزُولُ الضَّمَانُ ، وَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الرَّهْنِ ، وَالْحُكْمُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا فِيهِ يَبْقَى بِحَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّى فِي الرَّهْنِ صَارَ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْغَصْبِ .
وَهُوَ رَهْنٌ كَمَا كَانَ ، فَكَذَلِكَ ابْتِدَاؤُهُ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ الرَّهْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي إمْسَاكِهِ رَهْنًا لَمْ يَتَجَدَّدْ مِنْهُ فِيهِ عُدْوَانٌ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ ، كَمَا لَوْ قَبَضَهُ مِنْهُ ثُمَّ أَقْبِضهُ إيَّاهُ ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ ضَمَانِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا .
مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَدُهُ عَادِيَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ إزَالَتُهَا ، وَيَدُ الْمُرْتَهِنِ مُحِقَّةٌ جَعَلَهَا الشَّرْعُ لَهُ ، وَيَدُ الْمُرْتَهِنِ يَدُ أَمَانَةٍ .
وَيَدُ الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَنَحْوِهِمَا يَدٌ ضَامِنَةٌ ، وَهَذَانِ مُتَنَافِيَانِ .
وَلِأَنَّ السَّبَبَ الْمُقْتَضِيَ لِلضَّمَانِ زَالَ ، فَزَالَ الضَّمَانُ لِزَوَالِهِ ، كَمَا لَوْ رَدَّهُ إلَى مَالِكِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ الْغَصْبُ وَالْعَارِيَّةُ وَنَحْوُهُمَا ، وَهَذَا لَمْ يَبْقَ غَاصِبًا وَلَا مُسْتَعِيرًا ، وَلَا يَبْقَى الْحُكْمُ مَعَ زَوَالِ سَبَبِهِ وَحُدُوثِ سَبَبٍ يُخَالِفُ حُكْمُهُ حُكْمَهُ ، وَأَمَّا إذَا تَعَدَّى فِي الرَّهْنِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ ، لِعُدْوَانِهِ ، لَا لِكَوْنِهِ غَاصِبًا وَلَا مُسْتَعِيرًا ، وَهَا هُنَا قَدْ زَالَ سَبَبُ الضَّمَانِ ، وَلَمْ يَحْدُثْ مَا يُوجِبهُ ، فَلَمْ يَثْبُتْ .
( 3285 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ ، وَيَقُومُ قَبْضُ وَكِيلِهِ مَقَامَ قَبْضِهِ ، فِي لُزُومِ الرَّهْنِ وَسَائِرِ أَحْكَامِهِ .
وَإِنْ وَكَّلَ الْمُرْتَهِنُ الرَّاهِنَ فِي قَبْضِ الرَّهْنِ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، لَمْ يَصِحَّ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْضًا ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِيَسْتَوْفِيَ الْحَقَّ مِنْهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الرَّاهِنِ ، فَإِذَا كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ لَمْ يَحْصُلْ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْبَيْعِ ، أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ دَفَعَ إلَى الْبَائِعِ غِرَارَةً ، وَقَالَ : كُلُّ حَقِّي فِي هَذِهِ .
فَفَعَلَ ، كَانَ ذَلِكَ قَبْضًا .
فَيَخْرُجُ هَاهُنَا كَذَلِكَ .
( 3286 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِتَقْبِيضِ الرَّهْنِ ، أَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ بِقَبْضِهِ ، كَانَ ذَلِكَ مَقْبُولًا فِيمَا يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا فِيهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِالتَّقْبِيضِ ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ ، وَقَالَ : أَقْرَرْت بِذَلِكَ وَلَمْ أَكُنْ قَبَّضْت شَيْئًا .
أَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ بِالْقَبْضِ ، ثُمَّ أَنْكَرَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ لَهُ ، فَإِنْ طَلَبَ الْمُنْكِرُ يَمِينَهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَلْزَمُهُ يَمِينٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِذَلِكَ وَطَلَبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ يَمِينَ خَصْمِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ، فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ .
وَالثَّانِي ، يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مَنْصُوصِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ قَبْلَهُ ، فَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ ، وَيَلْزَمُ خَصْمَهُ الْيَمِينُ ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْعَادَةِ ، وَهَذَا أَجْوَدُ .
وَيُفَارِقُ الْبَيِّنَةَ ، فَإِنَّهَا لَا تَشْهَدُ بِالْحَقِّ قَبْلَهُ ، وَلَوْ فَعَلْت ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً عَادِلَةً .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَ الْمُقِرُّ غَائِبًا ، فَقَالَ : أَقْرَرْت لِأَنَّ وَكِيلِي كَتَبَ إلَيَّ بِذَلِكَ ، ثُمَّ بَانَ لِي خِلَافُهُ .
سَمِعْنَا قَوْلَهُ ، وَأَحْلَفْنَا خَصْمَهُ .
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاشَرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ عَادَ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ ، لَمْ يَحْلِفْ خَصْمُهُ .
وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، فَأُمًّا إنْ اخْتَلَفَا فِي الْقَبْضِ ، فَقَالَ الْمُرْتَهِنُ : قَبَّضْته .
وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ فَالْأَصْلُ مَعَهُ ، وَهُوَ عَدَمُ الْإِقْبَاضِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، فَقَدْ وُجِدَ الْقَبْضُ ، لِكَوْنِهِ لَا يَحْصُلُ فِي يَدِهِ إلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ ، فَقَالَ الرَّاهِنُ : أَخَذْته بِغَيْرِ إذْنِي .
قَالَ : بَلْ بِإِذْنِك .
وَهُوَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ
؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ وُجِدَ ، وَيَدُهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِحَقِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِذْنِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .
( 3287 ) فَصْلٌ : وَإِذَا رَهَنَهُ عَيْنَيْنِ ، فَتَلِفَتْ إحْدَاهُمَا قَبْلَ قَبْضِهَا ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهَا دُونَ الْبَاقِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ صَحِيحًا فِيهِمَا ، وَإِنَّمَا طَرَأَ انْفِسَاخُ الْعَقْدِ فِي إحْدَاهُمَا ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ ، ثُمَّ رَدَّ أَحَدَهُمَا بِعَيْبِ أَوْ خِيَارٍ أَوْ إقَالَةٍ ، وَالرَّاهِنُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إقْبَاضِ الْبَاقِيَةِ وَبَيْنَ مَنْعِهَا .
وَإِنْ كَانَ التَّلَفُ بَعْد قَبْضِ الْأُخْرَى ، فَقَدْ لَزِمَ الرَّهْنُ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ ثَبَتَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ ؛ لِتَعَذُّرِ الرَّهْنِ بِكَمَالِهِ ، فَإِنْ رَضِيَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِ التَّالِفَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَلْزَمْ فِيهَا ، وَتَكُونُ الْمَقْبُوضَةُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ .
وَلَوْ تَلِفَتْ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ بَعْد الْقَبْضِ ، فَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَوْ تَلِفَ كُلُّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ ، فَإِذَا تَلِفَ بَعْضُهُ أَوْلَى .
ثُمَّ إنْ كَانَ تَلَفُهَا بَعْدَ قَبْضِ الْعَيْنِ الْأُخْرَى ، فَقَدْ لَزِمَ الرَّهْنُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ قَبْضِ الْأُخْرَى ، فَالرَّاهِنُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إقْبَاضِهَا وَبَيْنَ تَرْكِهِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ تَقْبِيضِهَا ، ثَبَتَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ ، كَمَا لَوْ لَمْ تَتْلَفْ الْأُخْرَى .
( 3288 ) فَصْلٌ : وَإِنْ رَهَنَهُ دَارًا فَانْهَدَمَتْ قَبْلَ قَبْضِهَا ، لَمْ يَنْفَسِخْ عَقْدُ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهَا لَمْ تَذْهَبْ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَإِنَّ عَرْصَتَهَا وَأَنْقَاضَهَا بَاقِيَةٌ ، وَيَثْبُتُ لِلْمُرْتَهِنِ الْخِيَارُ إنْ كَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ وَنَقَصَتْ قِيمَتُهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَنْفَسِخُ عَقْدُ الرَّهْنِ كَمَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ ؟ قُلْنَا : الْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةِ السُّكْنَى ، وَقَدْ تَعَذَّرَتْ وَعَدِمَتْ ، فَبَطَلَ الْعَقْدُ لِعَدَمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَالرَّهْنُ عَقْدُ اسْتِيثَاقٍ يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ الَّتِي فِيهَا الْمَالِيَّةُ ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ .
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْعَرْصَةُ وَالْأَنْقَاضُ مِنْ الْأَخْشَابِ وَالْأَحْجَارِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْيَانِ وَالْأَنْقَاضُ مِنْهَا ، وَمَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ اسْتَقَرَّ بِالْقَبْضِ .
( 3289 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا جَازَ رَهْنُهَا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ الِاسْتِيثَاقُ بِالدَّيْنِ لِلتَّوَصُّلِ إلَى اسْتِيفَائِهِ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ إنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ ذِمَّةِ الرَّاهِنِ ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ عَيْنٍ جَازَ بَيْعُهَا ، وَلِأَنَّ مَا كَانَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَانَ مَحَلًّا لِحِكْمَةِ الرَّهْنِ ، وَمَحِلُّ الشَّيْءِ مَحِلُّ حِكْمَتِهِ ، إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ مِنْ ثُبُوتِهِ ، أَوْ يَفُوتَ شَرْطٌ ، فَيَنْتَفِيَ الْحُكْمُ لِانْتِفَائِهِ ، فَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاعِ لِذَلِكَ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَمَالِكٌ ، وَالْبَتِّيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَسَوَّارٌ ، وَالْعَنْبَرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ : لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ ، إلَّا أَنْ يَرْهَنَهُ مِنْ شَرِيكِهِ ، أَوْ يَرْهَنَهَا الشَّرِيكَانِ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، أَوْ يَرْهَنَ رَجُلًا دَارِهِ مِنْ رَجُلَيْنِ ، فَيَقْبِضَانِهَا مَعًا ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ تَخَلَّفَ عَنْهُ مَقْصُودُهُ لِمَعْنًى اتَّصَلَ بِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ ، بَيَانُهُ أَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَبْسُ الدَّائِمُ ، وَالْمُشَاعُ لَا يُمْكِنُ الْمُرْتَهِنُ حَبْسَهُ ، لِأَنَّ شَرِيكَهُ يَنْتَزِعُهُ يَوْمَ نَوْبَتِهِ ، وَلِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ شَرْطٌ ، وَهَذَا يَسْتَحِقُّ زَوَالَ الْيَدِ عَنْهُ لِمَعْنًى قَارَنَ الْعَقْدَ ، فَلَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ كَالْمَغْصُوبِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا عَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي مَحِلِّ الْحَقِّ ، فَيَصِحُّ رَهْنُهَا كَالْمُفْرَزَةِ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَبْسُ ، بَلْ مَقْصُودُهُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَالْمُشَاعُ قَابِلٌ لِذَلِكَ ، ثُمَّ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ بِرَهْنِ الْقَاتِلِ وَالْمُرْتَدِّ وَالْمَغْصُوبِ ، وَرَهْنِ مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ وِلَايَةٍ ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَهُمْ .
( 3290 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ أَنْ يَرْهَنَ بَعْضَ نَصِيبِهِ مِنْ الْمُشَاعِ ، كَمَا يَصِحُّ أَنْ يَرْهَنَ جَمِيعَهُ ، سَوَاءٌ رَهَنَهُ مُشَاعًا فِي نَصِيبِهِ ، مِثْلَ أَنْ يَرْهَنَ نِصْفَ نَصِيبِهِ ، أَوْ يَرْهَنَ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَيَّنٍ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ دَارٍ فَيَرْهَنَ نَصِيبَهُ مِنْ بَيْتٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ رَهْنُ حِصَّتِهِ مِنْ مُعَيَّنٍ مِنْ شَيْءٍ تُمْكِنُ قِسْمَتُهُ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقْتَسِمَ الشَّرِيكَانِ ، فَيَحْصُلُ الرَّهْنُ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ ، فَصَحَّ رَهْنُهُ كَغَيْرِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الرَّهْنِ بِمَا يَضُرُّ بِالْمُرْتَهِنِ ، فَيُمْنَعُ مِنْ الْقِسْمَةِ الْمُضِرَّةِ ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ .
( 3291 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُرْتَدِّ وَالْقَاتِلِ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالْجَانِي ، سَوَاءٌ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَلَى النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْقَاتِلِ فِي الْمُحَارَبَةِ ، وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْجَانِي .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَبْنَى الْخِلَافِ فِي هَذَا عَلَى الْخِلَافِ فِي بَيْعِهِ ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوْضِعِهِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِحَالِهِ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى بَصِيرَةٍ ، فَأَشْبَهَ الْمُشْتَرِيَ إذَا عَلِمَ الْعَيْبَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا ، ثُمَّ عَلِمَ بَعْد إسْلَامِ الْمُرْتَدِّ وَفِدَاءِ الْجَانِي ، فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ زَالَ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ زَالَ عَيْبُ الْمَبِيعِ .
وَإِنْ عَلِمَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَلَهُ رَدُّهُ وَفَسْخُ الْبَيْعِ إنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ بَيْعٍ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ اقْتَضَاهُ سَلِيمًا ، فَإِذَا سَلَّمَ إلَيْهِ مَعِيبًا ، مَلَكَ الْفَسْخَ ، كَالْبَيْعِ ، وَإِنْ اخْتَارَ إمْسَاكَهُ ، فَلَيْسَ لَهُ أَرْشٌ وَلَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ بِجُمْلَتِهِ لَوْ تَلِفَ قَبْلَ قَبْضِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ بَدَلَهُ ، فَبَعْضُهُ أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى قُتِلَ الْعَبْدُ بِالرِّدَّةِ أَوْ الْقِصَاصِ ، أَوْ أُخِذَ فِي الْجِنَايَةِ ، فَلَا أَرْشَ لِلْمُرْتَهِنِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ الْأَرْشَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ .
وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْمَبِيعَ عِوَضٌ عَنْ الثَّمَنِ ، فَإِذَا فَاتَ بَعْضَهُ ، رَجَعَ بِمَا يُقَابِلهُ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَوْ فَاتَ كُلُّهُ ، مِثْلَ أَنْ يَتْلَفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ قَبْضِهِ ، رَجَعَ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ ، وَالرَّهْنُ لَيْسَ بِعِوَضٍ ، وَلَوْ تَلِفَ كُلُّهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، لَمَا اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِشَيْءٍ ، فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ بِبَدَلِ عَيْنِهِ أَوْ فَوَاتِ بَعْضِهِ ؟ وَإِنْ امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِنْ فِدَاءِ الْجَانِي ، لَمْ يُجْبَرْ ، وَيُبَاعُ فِي الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ
مُقَدَّمٌ عَلَى الرَّهْنِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَدَّثَتْ الْجِنَايَةُ بَعْدَ الرَّهْنِ .
فَعَلَى هَذَا إنْ اسْتَغْرَقَ الْأَرْشُ قِيمَتَهُ ، بِيعَ وَبَطَلَ الرَّهْنُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْهَا ، بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الْأَرْشِ ، وَالْبَاقِي رَهْنٌ .
( 3292 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُدَبَّرِ ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
بِنَاءً عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ .
وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِصِفَةِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِصِفَةِ تُوجَدُ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقْدٌ يُقْصَدُ مِنْهُ اسْتِيفَاءُ الْحَقِّ مِنْ الْعَيْنِ ، أَشْبَهَ الْإِجَارَةَ .
وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِصِفَةِ لَا تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَلَّقَهُ بِصِفَةٍ تُوجَدُ بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِهَذَا الْأَصْلِ ، وَيُفَارِقُ التَّدْبِيرُ التَّعْلِيقَ بِصِفَةِ تَحِلُّ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَمْنَعُ عِتْقَهُ بِالصِّفَةِ ، فَإِذَا عَتَقَ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ ، وَالدَّيْنُ فِي الْمُدَبَّرِ يَمْنَعُ عِتْقَهُ بِالتَّدْبِيرِ ، وَيَقْدُمُ عَلَيْهِ ، فَلَا يَمْنَعُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ .
وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا عُلِمَ التَّدْبِيرُ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ ، كَالْحُكْمِ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي ، عَلَى مَا فُصِّلَ فِيهِ .
وَمَتَى مَاتَ السَّيِّدُ قَبْلَ الْوَفَاءِ ، فَعَتَقَ الْمُدَبَّرُ ، بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَإِنْ عَتَقَ بَعْضُهُ ، بَقِيَ الرَّهْنُ فِيمَا بَقِيَ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّيِّدِ مَالٌ يَفْضُلُ عَنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ ، بِيعَ الْمُدَبَّرُ فِي الدَّيْنِ ، وَبَطَلَ التَّدْبِيرُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّدْبِيرِ ، وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ .
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يَسْتَغْرِقُهُ ، بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ ، وَعَتَقَ مِنْهُ ثُلُثُ الْبَاقِي ، وَمَا بَقِيَ لِلْوَرَثَةِ .
( 3293 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْقَبْضِ فِي الرَّهْنِ شَرْطٌ فِي الصَّحِيحِ ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّةُ رَهْنِهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ .
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا يُؤَدِّيه مِنْ نُجُوم كِتَابَتِهِ رَهْنًا مَعَهُ ، فَإِنْ عَجَزَ ثَبَتَ الرَّهْنُ فِيهِ وَفِي اكْتِسَابِهِ ، وَإِنْ عَتَقَ كَانَ مَا أَدَّاهُ مِنْ نُجُومِهِ رَهْنًا ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَسَبَ الْعَبْدُ الْقِنُّ ، ثُمَّ مَاتَ .
( 3294 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا مَنْ عُلِّقَ عِتْقُهُ بِصِفَةِ تَحِلُّ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ ، كَمَنْ عُلِّقَ عِتْقُهُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ ، وَمَحَلُّ الْحَقِّ آخِرُهُ ، لَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ ؛ لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ ، وَلَا اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ .
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ يَحِلُّ قَبْلَهَا ، مِثْلُ أَنْ يُعَلَّقَ عِتْقُهُ بِآخِرِ رَمَضَانَ ، وَالْحَقُّ يَحِلُّ فِي أَوَّلِهِ ، صَحَّ رَهْنُهُ ؛ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ ، كَقُدُومِ زَيْدٍ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ صِحَّةُ رَهْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ مَحِلٌّ لِلرَّهْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَصَحَّ رَهْنُهُ ، كَالْمَرِيضِ وَالْمُدَبَّرِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ رَهْنُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ غَرَّرَا ، إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ اخْتِلَافٌ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا .
( 3295 ) فَصْلٌ : وَيَحُوزُ رَهْنُ الْجَارِيَةِ دُونَ وَلَدِهَا ، وَرَهْنُ وَلَدِهَا دُونَهَا ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ ، فَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ تَفْرِقَةٌ ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْوَلَدِ مَعَ أُمِّهِ ، وَالْأُمِّ مَعَ وَلَدِهَا ، فَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى بَيْعِهَا فِي الدَّيْنِ ، بِيعَ وَلَدُهَا مَعَهَا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي الْعَقْدِ مُمْكِنٌ ، وَالتَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا حَرَامٌ ، فَوَجَبَ بَيْعُهُ مَعَهَا .
فَإِذَا بِيعَا مَعًا ، تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ الثَّمَنِ ، فَإِذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا مِائَةً ، مَعَ أَنَّهَا ذَاتُ وَلَدٍ ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ خَمْسُونَ ، فَحِصَّتُهَا ثُلُثَا الثَّمَنِ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُرْتَهِنُ بِالْوَلَدِ ، ثُمَّ عَلِمَ ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي الرَّدِّ وَالْإِمْسَاكِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ عَيْبٌ فِيهَا ، لِكَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا بِدُونِهِ ، فَإِنْ أَمْسَكَ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلِمَ حَالَ الْعَقْدِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهَا ، وَإِنْ رَدَّهَا فَلَهُ فَسْخُ الْبَيْعِ ، إنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِيهِ .
( 3296 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ رَهْنُ مَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ إصْلَاحُهُ بِالتَّجْفِيفِ ، كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ ، أَوْ لَا يُمْكِنُ ، كَالْبِطِّيخِ وَالطَّبِيخِ .
ثُمَّ إنْ كَانَ مِمَّا يُجَفَّفُ ، فَعَلَى الرَّاهِنِ تَجْفِيفُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ حِفْظِهِ وَتَبْقِيَتِهِ ، فَلَزِمَ الرَّاهِنَ ، كَنَفَقَةِ الْحَيَوَانِ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُجَفَّفُ ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ ، وَيَقْضِي الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهِ ، إنْ كَانَ حَالًّا ، أَوْ يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ ، جَعَلَ ثَمَنَهُ مَكَانَهُ رَهْنًا ، سَوَاءٌ شَرَطَ فِي الرَّهْنِ بَيْعَهُ أَوْ أَطْلَقَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ كَانَ مِمَّا يَفْسُدُ قَبْلَ مَحِلِّ الدَّيْنِ ، فَشَرَطَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بَيْعَهُ وَجَعَلَ ثَمَنَهُ مَكَانَهُ ، صَحَّ .
وَإِنْ أَطْلَقَ ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدِهِمَا ، لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الرَّهْنِ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ لَا يَقْتَضِيه عَقْدُ الرَّهْنِ ، فَلَمْ يَجِبْ ، وَلَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَهُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ وَجْهَيْنِ ، كَالْقَوْلَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْعُرْفَ يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُعَرِّضُ مِلْكَهُ لِلتَّلَفِ وَالْهَلَاكِ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ حِفْظُهُ فِي بَيْعِهِ ، حُمِلَ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الْعَقْدِ ، كَتَجْفِيفِ مَا يَجِفُّ ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَيَوَانِ ، وَحِرْزِ مَا يَحْتَاجُ إلَى حِرْزٍ .
وَأَمَّا إذَا شَرَطَ أَنْ لَا يُبَاعَ ، فَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ مَا يَتَضَمَّنُ فَسَادَهُ ، وَفَوَاتَ الْمَقْصُودِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُجَفِّفَ مَا يَجِفُّ ، أَوْ لَا يُنْفِقَ عَلَى الْحَيَوَانِ .
وَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَإِنَّهُ إنْ شَرَطَ لِلْمُرْتَهِنِ بَيْعَهُ ، أَوْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ ، أَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ الرَّاهِنُ أَوْ غَيْرُهُ ، بَاعَهُ .
وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ ، بَاعَهُ الْحَاكِمُ ، وَجَعَلَ ثَمَنَهُ رَهْنًا ، وَلَا يَقْضِي الدَّيْنَ مِنْ ثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَعْجِيلُ وَفَاءِ الدَّيْنِ
قَبْلَ حُلُولِهِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ رَهَنَهُ ثِيَابًا فَخَافَ تَلَفَهَا ، أَوْ حَيَوَانًا وَخَافَ مَوْتَهُ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي مَنْ رَهَنَ ثِيَابًا يَخَافُ فَسَادَهَا ، كَالصُّوفِ : أَتَى السُّلْطَانَ ، فَأَمَرَهُ بِبَيْعِهَا .
( 3297 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ رَهْنُ الْعَصِيرِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَتَعَرُّضُهُ لِلْخُرُوجِ عَنْ الْمَالِيَّةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ رَهْنِهِ ، كَالْمَرِيضِ وَالْجَانِي .
ثُمَّ إنْ اسْتَحَالَ إلَى حَالٍ لَا يَخْرُجُ فِيهَا عَنْ الْمَالِيَّةِ ، كَالْخَلِّ ، فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ ، وَإِنْ صَارَ خَمْرًا زَالَ لُزُومُ الْعَقْدِ ، وَوَجَبَتْ إرَاقَتُهُ ، فَإِنْ أُرِيقَ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِهِ .
وَإِنْ عَادَ خَلًّا ، عَادَ اللُّزُومُ ، بِحُكْمِ الْعَقْدِ السَّابِقِ ، كَمَا لَوْ زَالَتْ يَدُ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الرَّهْنِ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ .
وَإِنْ اسْتَحَالَ خَمْرًا قَبْلَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ ، بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَلَمْ يَعُدْ بِعَوْدِهِ خَلًّا ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ ضَعِيفٌ لِعَدَمِ الْقَبْضِ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ إسْلَامَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ الْعَصِيرَ إذَا اسْتَحَالَ خَمْرًا بَعْدَ الْقَبْضِ ، بَطَلَ الرَّهْنُ ، ثُمَّ إذَا عَادَ خَلًّا ، عَادَ مِلْكًا لِصَاحِبِهِ ، مَرْهُونًا بِالْعَقْدِ السَّابِقِ ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ مَمْلُوكًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ ، فَيَعُودُ حُكْمُ الرَّهْنِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ زَالَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ ، فَيَعُودُ بِعَوْدِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ قِيمَةٌ حَالَةَ كَوْنِهِ عَصِيرًا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ لَهُ قِيمَةٌ ، فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ ارْتَدَّ الْجَانِي ، وَلِأَنَّ الْيَدَ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ حُكْمًا ، وَلِهَذَا لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ ، فَتَخَلَّلَ فِي يَدِهِ ، كَانَ مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَلَوْ زَالَتْ يَدُهُ ، لَكَانَ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ ، كَمَا لَوْ أَرَاقَهُ فَجَمَعَهُ إنْسَانٌ ، فَتَخَلَّلَ فِي يَدِهِ ، كَانَ لَهُ ، دُونَ مَنْ أَرَاقَهُ .
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُنَا الْأَوَّلُ فِي الْمَعْنَى ، إلَّا أَنْ يَقُولُوا بِبَقَاءِ اللُّزُومِ فِيهِ حَالَ كَوْنِهِ خَمْرًا .
وَلَمْ يَظْهَرْ لِي فَائِدَةُ الْخِلَافِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى عَوْدِهِ رَهْنًا بِاسْتِحَالَتِهِ خَلًّا ،
وَأَرَى الْقَوْلَ بِبَقَائِهِ رَهْنًا أَقْرَبَ إلَى الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَوْ بَطَلَ لَمَا عَادَ صَحِيحًا مِنْ غَيْرِ ابْتِدَاءِ عَقْدٍ .
فَإِنْ قَالُوا : يُمْكِنُ عَوْدُهُ صَحِيحًا لِعَوْدِ الْمَعْنَى الَّذِي بَطَلَ بِزَوَالِهِ ، كَمَا أَنَّ زَوْجَةَ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَتْ خَرَجَتْ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ ، لِاخْتِلَافِ دِينِهِمَا ، فَإِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ فِي الْعِدَّةِ ، عَادَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، لِزَوَالِ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ .
قُلْنَا : هُنَاكَ مَا زَالَتْ الزَّوْجِيَّةُ ، وَلَا بَطَلَ الْعَقْدُ ، وَلَوْ بَطَلَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمَا عَادَ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ ، وَإِنَّمَا الْعَقْدُ كَانَ مَوْقُوفًا مُرَاعًى ، فَإِذَا أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمْ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ قَدْ بَطَلَ ، وَهَا هُنَا قَدْ جَزَمْتُمْ بِبُطْلَانِهِ .
( 3298 ) فَصْلٌ : وَهَلْ يَصِحُّ رَهْنُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا ، مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ أَوْ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَجُوزُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ يَقِلُّ فِيهِ ، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ مَتَى تَلِفَتْ ، عَادَ إلَى حَقِّهِ فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، فَجَازَ رَهْنُهُ ، وَمَتَى حَلَّ الْحَقُّ بِيعَ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمُرْتَهِنُ تَأْخِيرَ بَيْعِهِ ، فَلَهُ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي ، لَا يَصِحُّ .
وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، فَلَا يَصِحُّ رَهْنُهُ ، كَسَائِرِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجُوزُ رَهْنُ الْمَبِيعِ الَّذِي يُشْتَرَطُ ، قَبْضُهُ ، كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِأَنَّ قَبْضَهُ مُسْتَحَقٌّ ، فَيُمْكِنُ الْمُشْتَرِيَ قَبْضُهُ ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ .
أَمَّا الْبَيْعُ فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى أَنْ يَرْبَحَ فِيمَا لَمْ يَضْمَنْ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ رَهْنُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ .
( 3299 ) فَصْلٌ : وَفِي رَهْنِ الْمُصْحَفِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَصِحُّ رَهْنُهُ .
نَقَلَ الْجَمَاعَةُ عَنْهُ : أَرْخَصَ فِي رَهْنِ الْمُصْحَفِ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِبَيْعِهِ ، وَبَيْعُهُ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَصِحُّ رَهْنُهُ .
فَإِنَّهُ قَالَ : إذَا رَهَنَ مُصْحَفًا لَا يَقْرَأُ فِيهِ إلَّا بِإِذْنِهِ .
فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ رَهْنِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْي ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ فَصَحَّ رَهْنُهُ ، كَغَيْرِهِ .
( 3300 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ أَنَّ يَسْتَعِيرَ شَيْئًا يَرْهَنُهُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا اسْتَعَارَ مِنْ الرَّجُلِ شَيْئًا يَرْهَنُهُ عَلَى دَنَانِيرَ مَعْلُومَةٍ ، عِنْدَ رَجُلٍ سَمَّاهُ ، إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ ، فَفَعَلَ ، أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْمُرْتَهَنَ ، وَالْقَدْرَ الَّذِي يَرْهَنُهُ بِهِ ، وَجِنْسَهُ ، وَمُدَّةَ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ ، فَاحْتِيجَ إلَى ذِكْرِهِ ، كَأَصْلِ الرَّهْنِ ، وَمَتَى شَرَطَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، فَخَالَفَ ، وَرَهَنَهُ بِغَيْرِهِ ، لَمْ يَصِحَّ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي هَذَا الرَّهْنِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ .
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِقَدْرِ مِنْ الْمَالِ ، فَنَقَصَ عَنْهُ ، مِثْلُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي رَهْنِهِ بِمِائَةِ ، فَيَرْهَنُهُ بِخَمْسِينَ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّ مَنْ أَذِنَ فِي مِائَةٍ ، فَقَدْ أَذِنَ فِي خَمْسِينَ .
وَإِنْ رَهَنَهُ بِأَكْثَرَ ، مِثْلُ أَنَّ رَهَنَهُ بِمِائَةِ وَخَمْسِينَ ، احْتَمَلَ أَنْ يَبْطُلَ فِي الْكُلِّ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ ، فَبَطَلَ ، كَمَا لَوْ قَالَ : ارْهَنْهُ بِدَنَانِيرَ .
فَرَهَنَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِحَالٍّ فَرَهَنَهُ بِمُؤَجَّلٍ أَوْ بِمُؤَجَّلٍ .
فَرَهَنَهُ بِحَالٍّ ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ .
كَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، أَنَّهُ يَصِحُّ فِي الْمِائَةِ ، وَيَبْطُلُ فِي الزَّائِدِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ ، فَجَازَ فِيمَا دُونَ غَيْرِهِ ، كَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
وَيُفَارِقُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأُصُولِ ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَنَاوَلْ مَأْذُونًا فِيهِ بِحَالٍّ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ لَا يُوجَدُ فِي الْآخَرِ ، فَإِنَّ الرَّاهِنَ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى فِكَاكِهِ فِي الْحَالِّ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْأَجَلِ وَبِالْعَكْسِ .
وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى فِكَاكِهِ
بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، فَيَفُوتُ الْغَرَضُ بِالْمُخَالَفَةِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا إذَا صَحَّ فِي الْمِائَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا لَمْ يَخْتَلِفْ الْغَرَضُ ، فَإِنْ أَطْلَقَ الرَّهْنَ فِي الْإِذْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَصِحُّ ، وَلَهُ رَهْنُهُ بِمَا شَاءَ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَالْآخَرُ : لَا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ قَدْرَ الَّذِي يَرْهَنُهُ بِهِ ، وَصِفَتَهُ ، وَحُلُولَهُ ، وَتَأْجِيلَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الضَّمَانِ ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ ، وَالْعَارِيَّةُ مَا أَفَادَتْ الْمَنْفَعَةَ ، إنَّمَا حَصَّلَتْ لَهُ نَفْعًا يَكُونُ الرَّهْنُ وَثِيقَةً عَنْهُ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّمَانِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَضَمَانُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا عَارِيَّةٌ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ لِصِحَّتِهَا ذِكْرُ ذَلِكَ ، كَالْعَارِيَّةِ لِغَيْرِ الرَّهْنِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ عَارِيَّةٌ أَنَّهُ قَبَضَ مِلْكَ غَيْرِهِ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ، مُنْفَرِدًا بِهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ، فَكَانَ عَارِيَّةً ، كَقَبْضِهِ لِلْخِدْمَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ ضَمَانٌ .
غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الرَّقَبَةِ ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ لَازِمٌ فِي حَقِّ الضَّامِنِ ، وَهَذَا لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَبْدِ قَبْلَ الرَّهْنِ ، وَإِلْزَامُ الْمُسْتَعِيرِ بِفِكَاكِهِ بَعْدَهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْمَنَافِعَ لِلسَّيِّدِ .
قُلْنَا : الْمَنَافِعُ مُخْتَلِفَةٌ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَعِيرَهُ لِتَحْصِيلِ مَنْفَعَةٍ وَاحِدَةٍ وَسَائِرَ الْمَنَافِعِ لِلسَّيِّدِ ، كَمَا لَوْ اسْتَعَارَهُ لِحِفْظِ مَتَاعٍ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخِيطُ لِسَيِّدِهِ .
أَوْ يَعْمَلُ لَهُ شَيْئًا ، أَوْ اسْتَعَارَهُ لِيَخِيطَ لَهُ ، وَيَحْفَظَ الْمَتَاعَ لِسَيِّدِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ عَارِيَّةً لَمَا صَحَّ رَهْنُهُ ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تَلْزَمُ ، وَالرَّهْنُ لَازِمٌ .
قُلْنَا : الْعَارِيَّةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَعِيرِ ؛ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ الْمُطَالَبَةَ بِفِكَاكِهِ قَبْلَ حُلُولِ الدَّيْنِ .
وَلِأَنَّ
الْعَارِيَّةَ قَدْ تَكُونُ لَازِمَةً ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَعَارَهُ حَائِطًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ ، أَوْ أَرْضًا لِيَدْفِنَ فِيهَا ، أَوْ لِيَزْرَعَ فِيهَا مَا لَا يُحْصَدُ قَصِيلًا .
إذْ ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ رَهْنُهُ بِمَا شَاءَ ، إلَى أَيْ وَقْتٍ شَاءَ ، مِمَّنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِإِطْلَاقِهِ ، وَلِلسَّيِّدِ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ بِفِكَاكِ الرَّهْنِ ، حَالًا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا ، فِي مَحِلِّ الْحَقِّ وَقَبْلَ مَحِلِّهِ ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تَلْزَمُ .
وَمَتَى حَلَّ الْحَقُّ فَلَمْ يَقْبِضْهُ ، فَلِلْمُرْتَهِنِ بَيْعُ الرَّهْنِ .
وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَيَرْجِعُ الْمُعِيرُ عَلَى الرَّاهِنِ بِالضَّمَانِ ، وَهُوَ قِيمَةُ الْعَيْنِ الْمُسْتَعَارَةِ ، أَوْ مِثْلُهَا إنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِمَا بِيعَتْ بِهِ ، سَوَاءٌ بِيعَتْ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا إنْ بِيعَتْ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا ، رَجَعَ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّة مَضْمُونَةٌ ، فَيَضْمَنُ نَقْصَ ثَمَنِهَا ، وَإِنْ بِيعَتْ بِأَكْثَرَ ، رَجَعَ بِمَا بِيعَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكٌ لِلْمُعِيرِ ، فَيَكُونُ ثَمَنُهُ كُلُّهُ لَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْقَطَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ عَنْ الرَّاهِنِ ، رَجَعَ الثَّمَنُ كُلُّهُ إلَى صَاحِبِهِ .
فَإِذَا قَضَى بِهِ دَيْنَ الرَّاهِنِ ، رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ ضَمَانِ النَّقْصِ أَنْ لَا تَكُونَ الزِّيَادَةُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ ، كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ تَلَفَ الرَّهْنُ ضَمِنَهُ الرَّاهِنُ بِقِيمَتِهِ ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِتَفْرِيطِ أَوْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ .
نَصَّ عَلَى هَذَا أَحْمَدُ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مَضْمُونَةٌ .
( 3301 ) فَصْلٌ : وَإِنْ فَكَّ الْمُعِيرُ الرَّهْنَ ، وَأَدَّى الدَّيْنَ الَّذِي عَلَيْهِ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ، رَجَعَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ قَضَاهُ مُتَبَرِّعًا ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ .
وَإِنْ قَضَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُحْتَسِبًا بِالرُّجُوعِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَهَلْ يَرْجِعُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى مَا إذَا قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَيَتَرَجَّحُ الرُّجُوعُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِفِكَاكِ عَبْدِهِ ، وَأَدَاءُ دَيْنِهِ فِكَاكُهُ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ .
وَإِنْ شَهِدَ الْمُرْتَهِنُ لِلْمُعِيرِ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ بِهَا نَفْعًا ، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا ضَرَرًا ، وَإِنْ قَالَ : أَذِنْت لِي فِي رَهْنِهِ بِعَشْرَةٍ .
قَالَ : بَلْ بِخَمْسَةٍ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا ، فَقَضَاهُ حَالًّا بِإِذْنِهِ ، رَجَعَ بِهِ حَالًّا ، وَإِنْ قَضَاهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَرْجِعُ بِهِ حَالًّا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِفِكَاكِ عَبْدِهِ فِي الْحَالِّ .
( 3302 ) فَصْلٌ : وَلَوْ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا لِيَرْهَنهُ بِمِائَةٍ ، فَرَهَنَهُ عِنْدَ رَجُلَيْنِ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ مَا يَرْهَنُ بِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَكَذَلِكَ مَنْ يَرْهَنُ عِنْدَهُ ، وَلِأَنَّ رَهْنَهُ مِنْ رَجُلَيْنِ أَقَلُّ ضَرَرًا مِنْ رَهْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ مِنْهُ بَعْضُهُ بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ رَهْنًا عِنْدَ وَاحِدٍ .
فَعَلَى هَذَا ، إذَا قَضَى أَحَدُهُمَا مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ ، خَرَجَ نَصِيبُهُ مِنْ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ عَقْدَانِ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا مِنْ رَجُلَيْنِ ، فَرَهَنَهُ عِنْدَ وَاحِدٍ بِمِائَةٍ ، فَقَضَاهُ نِصْفَهَا عَنْ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَنْفَكُّ مِنْ الرَّهْنِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ ، مِنْ رَاهِنٍ وَاحِدٍ ، مَعَ مُرْتَهِنٍ وَاحِدٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِوَاحِدٍ .
وَالثَّانِي ، يَنْفَكُّ نِصْفُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا أَذِنَ فِي رَهْنِ نَصِيبِهِ بِخَمْسِينَ ، فَلَا يَكُونُ رَهْنًا بِأَكْثَرَ مِنْهَا ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ لَهُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : ارْهَنْ نَصِيبِي بِخَمْسِينَ ، لَا تَزِدْ عَلَيْهَا .
فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، إنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ عَالِمًا بِذَلِكَ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ ، وَالرَّهْنُ مَشْرُوطٌ فِي بَيْعٍ ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الرَّهْنِ وَثِيقَةٌ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ، وَقَدْ فَاتَهُ ذَلِكَ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ خِيَارٌ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ سُلِّمَ لَهُ كُلُّهُ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ ، وَهُوَ دَخَلَ عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ رَهَنَ هَذَا الْعَبْدَ عِنْدَ رَجُلَيْنِ ، فَقَضَى أَحَدَهُمَا ، انْفَكَّ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُعِيرَيْنِ مِنْ نِصْفِهِ .
وَإِنْ قَضَى نِصْفَ دَيْنِ أَحَدِهِمَا انْفَكَّ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا ، عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي الْآخَرِ ، يَنْفَكُّ نِصْفُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 3303 ) فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ عَبْدَانِ ، فَأَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِشَرِيكِهِ فِي رَهْنِ نَصِيبِهِ مِنْ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ ، فَرَهَنَاهُمَا عِنْدَ رَجُلٍ مُطْلَقًا ، صَحَّ ، فَإِنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا أَنَّنِي مَتَى قَضَيْت مَا عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ ، انْفَكَّ الرَّهْنُ فِي الْعَبْدِ الَّذِي رَهَنْته ، وَفِي الْعَبْدِ الْآخَرِ ، أَوْ فِي قَدْرِ نَصِيبِي مِنْ الْعَبْدِ الْآخَرِ .
فَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَنْفَكَّ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ رَهْنٌ عَلَى دَيْنٍ آخَرَ ، وَيَفْسُدُ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ نَقْصًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَكُلُّ شَرْطٍ فَاسِدٍ يُنْقِصُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ ، يُفْسِدُ الرَّهْنَ .
فَأَمَّا إنْ شَرَطَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ شَيْءٌ مِنْ الْعَبْدِ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ ، فَهُوَ فَاسِدٌ ، أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَبْقَى الرَّهْنُ مَحْبُوسًا بِغَيْرِ الدَّيْنِ الَّذِي هُوَ رَهْنٌ بِهِ ، لَكِنَّهُ لَا يَنْقُصُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ ، فَهَلْ يَفْسُدُ الرَّهْنُ بِذَلِكَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
( 3304 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ رَهْنُ مَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، كَأُمِّ الْوَلَدِ ، وَالْوَقْفِ ، وَالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ .
وَلَوْ رَهَنَ الْعَيْنَ الْمَرْهُونَةَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ، لَمْ يَجُزْ .
فَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ : زِدْنِي مَا لَا يَكُونُ الرَّهْنُ الَّذِي عِنْدَك رَهْنًا بِهِ وَبِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ .
لَمْ يَجُزْ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْمُزَنِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَادَهُ رَهْنًا جَازَ ، فَكَذَلِكَ إذَا زَادَ فِي دَيْنِ الرَّهْنِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ فَدَى الْمُرْتَهِنُ الْعَبْدَ الْجَانِي بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ، لِيَكُونَ رَهْنًا بِالْمَالِ الْأَوَّلِ وَبِمَا فَدَاهُ بِهِ ، جَازَ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَلِأَنَّهَا وَثِيقَةٌ مَحْضَةٌ ، فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ فِيهَا كَالضَّمَانِ وَلَنَا ، أَنَّهَا عَيْنٌ مَرْهُونَةٌ ، فَلَمْ يَجُزْ رَهْنُهَا بِدَيْنٍ آخَرَ ، كَمَا لَوْ رَهَنَهَا عِنْدَ غَيْرِ الْمُرْتَهِنِ ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ فَيَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ اسْتِيثَاقٍ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْجَانِي فَيَصِحُّ فِدَاؤُهُ ، لِيَكُونَ رَهْنًا بِالْفِدَاءِ وَالْمَالِ الْأَوَّلِ ، لِكَوْنِ الرَّهْنِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الْأَرْشِ بِالْجَانِي ، لِكَوْنِ الْجِنَايَةِ أَقْوَى ، وَلِأَنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْمُطَالَبَةَ بِبَيْعِ الرَّهْنِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ الرَّهْنِ ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ الْجَائِزِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَزِيدَهُ فِي الرَّهْنِ الْجَائِزِ حَقًّا قَبْلَ لُزُومِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ جَائِزًا بِالْجِنَايَةِ ، وَيُفَارِقُ الرَّهْنُ الضَّمَانَ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضْمَنَ لِغَيْرِهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَرَهَنَهُ بِحَقٍّ ثَانٍ كَانَ رَهْنًا بِالْأَوَّلِ خَاصَّةً ، فَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ يَعْتَقِدَانِ فَسَادَهُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا بِهِ ، وَإِنْ اعْتَقَدَا
صِحَّتَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَنْ يَشْهَدَا أَنَّهُ رَهَنَهُ بِالْحَقَّيْنِ مُطْلَقًا ، بَلْ يَشْهَدَانِ بِكَيْفِيَّةِ الْحَالِ ، لِيَرَى الْحَاكِمُ فِيهِ رَأْيَهُ .
( 3305 ) فَصْلٌ : وَأَمَّا رَهْنُ سَوَادِ الْعِرَاقِ ، وَالْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ، فَكَذَلِكَ رَهْنُهَا .
وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ بِنَائِهَا ، فَحُكْمُهُ حُكْمُهَا ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تُرَابِهَا أَوْ مِنْ الشَّجَرِ الْمُجَدَّدِ فِيهَا ، إنْ أَفْرَدَهُ بِالْبَيْعِ وَالرَّهْنِ ، فَهَلْ يَصِحُّ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي الْبَيْعِ ؛ إحْدَاهُمَا : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ طَلْقٌ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا رَهْنُهُ ، فَهُوَ كَأَسَاسَاتِ الْحِيطَانِ .
وَإِنْ رَهَنَهُ مَعَ الْأَرْضِ ، بَطَلَ فِي الْأَرْضِ ، وَهَلْ يَجُوزُ فِي الْأَشْجَارِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَجُوزُ رَهْنُهَا مُنْفَرِدَةً ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
( 3306 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمَجْهُولِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ ، فَلَوْ قَالَ : رَهَنْتُك هَذَا الْجِرَابَ أَوْ الْبَيْتَ أَوْ الْخَرِيطَةَ بِمَا فِيهَا .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ .
وَإِنْ لَمْ يَقْلُ : بِمَا فِيهَا .
صَحَّ رَهْنُهَا ؛ لِلْعِلْمِ بِهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ ، كَالْجِرَابِ الْخَلِقِ وَنَحْوِهِ .
وَلَوْ قَالَ : رَهَنْتُك أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ .
لَمْ يَصِحَّ ؛ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ .
وَفِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ لِلْعِلْمِ فِي الرَّهْنِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ ، فَلَا يَصِحُّ رَهْنُ الْآبِقِ وَلَا الْجَمَلِ الشَّارِدِ ، وَلَا غَيْرِ مَمْلُوكٍ .
( 3307 ) فَصْلٌ : وَلَوْ رَهَنَ عَبْدًا ، أَوْ بَاعَهُ ، يَعْتَقِدُهُ مَغْصُوبًا ، فَبَانَ مِلْكُهُ ، مِثْلُ إنْ رَهَنَ عَبْدَ أَبِيهِ ، فَبَانَ أَنَّ أَبَاهُ قَدْ مَاتَ ، وَصَارَ الْعَبْدُ مِلْكَهُ بِالْمِيرَاثِ ، أَوْ وَكَّلَ إنْسَانًا يَشْتَرِي لَهُ عَبْدًا مِنْ سَيِّدِهِ ، ثُمَّ إنَّ الْمُوَكِّلَ بَاعَ الْعَبْدَ أَوْ رَهَنَهُ ، يَعْتَقِدُهُ لِسَيِّدِهِ الْأَوَّلِ ، فَبَانَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ بَعْدَ شِرَاءِ الْوَكِيلِ لَهُ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، صَحَّ تَصَرُّفُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَصَادَفَ مِلْكَهُ ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ عَلِمَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَقَدَهُ بَاطِلًا .
( 3308 ) فَصْلٌ : وَلَوْ رَهَنَ الْمَبِيعَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، لَمْ يَصِحَّ ، إلَّا أَنْ يَرْهَنَهُ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لَهُ وَحْدَهُ ، فَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ ، وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ .
ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ بَيْعُهُ وَتَصَرُّفَاتُهُ .
وَلَوْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي ، فَرَهَنَ الْبَائِعُ عَيْنَ مَالِهِ الَّتِي لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا قَبْلَ الرُّجُوعِ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَ مَالًا يَمْلِكُهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَ الْأَبُ الْعَيْنَ الَّتِي وَهَبَهَا لِابْنِهِ قَبْلَ رُجُوعِهِ فِيهَا ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلِلشَّافِعِي فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ لَهُ اسْتِرْجَاعَ الْعَيْنِ ، فَتَصَرُّفُهُ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ فِيهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ رَهَنَ مَا لَا يَمْلِكُهُ .
بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ ، وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ رَهَنَ الزَّوْجُ نِصْفَ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ .
( 3309 ) فَصْلٌ : وَلَوْ رَهَنَ ثَمَرَةَ شَجَرٍ يَحْمِلُ فِي السَّنَةِ حِمْلَيْنِ ، لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ ، فَرَهَنَ الثَّمَرَةَ الْأُولَى إلَى مَحِلٍّ تَحْدُثُ الثَّانِيَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَيَّزُ ، فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ حِينَ حُلُولِ الْحَقِّ ، فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَجْهُولًا حِينَ الْعَقْدِ ، وَكَمَا لَوْ رَهَنَهُ إيَّاهَا بَعْدَ اشْتِبَاهِهَا .
فَإِنْ شَرَطَ قَطْعَ الْأُولَى إذَا خِيفَ اخْتِلَاطُهَا بِالثَّانِيَةِ ، صَحَّ .
فَإِنْ كَانَ الْحِمْلُ الْمَرْهُونُ بِحَقِّ حَالًّا ، وَكَانَتْ الثَّمَرَةُ الثَّانِيَةُ تَتَمَيَّزُ مِنْ الْأُولَى إذَا حَدَثَتْ ، فَالرَّهْنُ صَحِيحٌ .
فَإِنْ وَقَعَ التَّوَانِي فِي قَطْعِ الْأُولَى حَتَّى اخْتَلَطَتْ بِالثَّانِيَةِ ، وَتَعَذَّرَ التَّمَيُّزُ ، لَمْ يَبْطُلْ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا ، وَقَدْ اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ فَصْلُهُ .
فَعَلَى هَذَا إنْ سَمْحَ الرَّاهِنُ بِكَوْنِ الثَّمَرَةِ رَهْنًا ، أَوْ اتَّفَقَا عَلَى قَدْرِ الْمَرْهُونِ مِنْهُمَا ، فَحَسَنٌ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ مَعَ يَمِينِهِ فِي قَدْرِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ لِلْقَدْرِ الزَّائِدِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
( 3310 ) فَصْلٌ : وَلَوْ رَهَنَهُ مَنَافِعَ دَارِهِ شَهْرًا ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ ، وَالْمَنَافِعُ تَهْلِكُ إلَى حُلُولِ الْحَقِّ .
وَإِنْ رَهَنَهُ أُجْرَةَ دَارِهِ شَهْرًا ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ وَغَيْرُ مَمْلُوكَةٍ .
( 3311 ) فَصْلٌ : وَلَوْ رَهَنَ الْمُكَاتَبُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ .
وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ .
وَلَوْ رَهَنَ الْعَبْدَ الْمَأْذُونُ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى السَّيِّدِ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ .
فَقَدْ صَارَ حُرًّا بِشِرَائِهِ إيَّاهُ .
( 3312 ) فَصْلٌ : وَلَوْ رَهَنَ الْوَارِثُ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ ، أَوْ بَاعَهَا ، وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ ، صَحَّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَصِحُّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِي ، فَلَمْ يَصِحَّ رَهْنُهُ ، كَالْمَرْهُونِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَصَرُّفٌ صَادَفَ مِلْكَهُ ، وَلَمْ يُعَلِّقْ بِهِ حَقًّا ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ رَهَنَ الْمُرْتَدَّ .
وَفَارَقَ الْمَرْهُونَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتنَا فَالْحَقُّ تَعَلَّقَ بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ تَصَرُّفَهُ .
وَهَكَذَا كُلُّ حَقٍّ ثَبَتَ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِهِ ، كَالزَّكَاةِ وَالْجِنَايَةِ ، فَلَا يَمْنَعُ رَهْنَهُ ، فَإِذَا رَهَنَهُ ، ثُمَّ قَضَى الْحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ ، فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْحَقَّ ، فَلِلْغُرَمَاءِ انْتِزَاعُهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ أَسْبَقُ ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْجَانِي .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي التَّرِكَةِ ، ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ مَبِيعٌ بَاعَهُ الْمَيِّتُ بِعَيْبٍ ظَهَرَ فِيهِ ، أَوْ حَقٌّ تَجَدَّدَ تَعَلُّقُهُ بِالتَّرِكَةِ ، مِثْلُ إنْ وَقَعَ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ فِي بِئْرٍ حَفَرَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ صَحِيحٌ غَيْرُ نَافِذٍ ، فَإِنْ قَضَى الْحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ نَفَذَ ، وَإِلَّا فُسِخَ الْبَيْعُ وَالرَّهْنُ .
( 3313 ) فَصْلٌ : قَالَ الْقَاضِي : لَا يَصِحُّ رَهْنُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِكَافِرٍ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ صِحَّةَ رَهْنِهِ ، إذَا شَرَطَا كَوْنَهُ عَلَى يَدِ مُسْلِمٍ ، وَيَبِيعُهُ الْحَاكِمُ إذَا امْتَنَعَ مَالِكُهُ .
وَهَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الرَّهْنِ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ .
( 3314 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا قَبَضَ الرَّهْنَ مَنْ تَشَارَطَا أَنَّ الرَّهْنَ يَكُونُ عَلَى يَدِهِ ، صَارَ مَقْبُوضًا وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُتَرَاهِنَيْنِ إذَا شَرَطَا كَوْنَ الرَّهْنِ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ رَضِيَاهُ ، وَاتَّفَقَا عَلَيْهِ ، جَازَ ، وَكَانَ وَكِيلًا لِلْمُرْتَهِنِ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ ، فَمَتَى قَبَضَهُ صَحَّ قَبْضُهُ ، فِي قَوْلِ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ الْحَكَمُ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى : لَا يَكُونُ مَقْبُوضًا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ ، فَتَعَلَّقَ بِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، كَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلَنَا ، أَنَّهُ قَبْضٌ فِي عَقَدَ ، فَجَازَ فِيهِ التَّوْكِيلُ ، كَسَائِرِ الْقُبُوضِ ، وَفَارَقَ الْقَبُولَ ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ إذَا كَانَ لِشَخْصِ كَانَ الْقَبُولُ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ يُخَاطَبُ بِهِ ، وَلَوْ وَكَّلَ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ قَبْلَ أَنْ يُوجِبَ لَهُ ، صَحَّ أَيْضًا ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِالْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ ، فِيمَا يُعْتَبَرُ الْقَبْضُ فِيهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَا الرَّهْنَ عَلَى يَدَيْ مَنْ يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ ، وَهُوَ الْجَائِزُ التَّصَرُّفِ ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا ، عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا ، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَبِيًّا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزِ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا ، فَإِنْ فَعَلَا كَانَ قَبْضُهُ وَعَدَمُ الْقَبْضِ وَاحِدًا ، وَلَا عَبْدًا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ ، فَلَا يَجُوزُ تَضْيِيعُهَا فِي الْحِفْظِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ ، جَازَ وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ ، فَإِنْ كَانَ بِجَعْلٍ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ لَهُ الْكَسْبَ ، وَبَذْلَ مَنَافِعِهِ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ جَعَلَ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ التَّبَرُّعُ بِمَنَافِعِهِ .
( 3315 ) فَصْلٌ : فَإِنْ : جَعَلَا الرَّهْنَ فِي يَدِ عَدْلَيْنِ ، جَازَ ، وَلَهُمَا إمْسَاكُهُ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِحِفْظِهِ .
وَإِنْ سَلَّمَهُ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النِّصْفِ ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الَّذِي تَعَدَّى فِيهِ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي الْآخَرِ ، إذَا رَضِيَ أَحَدُهُمَا بِإِمْسَاكِ الْآخَرِ ، جَازَ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ ، اقْتَسَمَاهُ ، وَإِلَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إمْسَاكُ جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى حِفْظِهِ يَشُقُّ عَلَيْهِمَا ، فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْحِفْظَ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْمُتَرَاهِنِينَ لَمْ يَرْضَيَا إلَّا بِحِفْظِهِمَا فَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِذَلِكَ ، كَالْوَصِيَّيْنِ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدِهِمَا بِالتَّصَرُّفِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْحِفْظِ يَشُقُّ .
لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُهُ فِي مَخْزَنٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ قُفْلٌ .
( 3316 ) فَصْلٌ : وَمَا دَامَ الْعَدْلُ بِحَالِهِ ، لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ الْأَمَانَةِ ، وَلَا حَدَثَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا عَدَاوَةٌ ، فَلَيْسَ لَأَحَدِهِمَا ، وَلَا لِلْحَاكِمِ ، نَقْلُ الرَّهْنِ عَنْ يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى نَقْلِهِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَمْ يَعْدُهُمَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، فَلَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ ، لَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ وَلَا لِلْحَاكِمِ نَقْلُهُ عَنْ يَدِهِ .
وَإِنْ تَغَيَّرَتْ حَالُ الْعَدْلِ بِفِسْقٍ ، أَوْ ضَعْفٍ عَنْ الْحِفْظِ ، أَوْ حَدَثَتْ عَدَاوَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا ، أَوْ بَيْنَ أَحَدِهِمَا ، فَلِمَنْ طَلَبَ نَقْلَهُ عَنْ يَدِهِ ذَلِكَ ، وَيَضَعَانِهِ فِي يَدِ مَنْ يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ اخْتَلَفَا ، وَضَعَهُ الْحَاكِمُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي تُغَيِّرْ حَالِهِ ، بَحَثَ الْحَاكِمُ ، وَعَمِلَ بِمَا يَظْهَرُ لَهُ .
وَهَكَذَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ،
فَتَغَيَّرَتْ حَاله فِي الثِّقَةِ وَالْحِفْظِ ، فَلِلرَّاهِنِ رَفْعُهُ عَنْ يَدِهِ إلَى الْحَاكِمِ ، لِيَضَعَهُ فِي يَدِ عَدْلٍ وَإِذَا ادَّعَى الرَّاهِنُ تَغَيُّرَ حَالِ الْمُرْتَهِنِ ، فَأَنْكَرَ ، بَحَثَ الْحَاكِمُ عَنْ ذَلِكَ ، وَعَمَلَ بِمَا بَانَ لَهُ .
وَإِنْ مَاتَ الْعَدْلُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ ، لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِمَا إمْسَاكُهُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ ، جَازَ .
وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى عَدْلٍ يَضَعَانِهِ عَلَى يَدِهِ ، فَلَهُمَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ، فَيُفَوَّضُ أَمْرُهُ إلَيْهِمَا .
فَإِنْ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَ مَوْتِ الْعَدْلِ ، أَوْ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَوَرَثَةُ الْمُرْتَهِنِ ، رَفَعَا الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ ، لِيَضَعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ اثْنَيْنِ ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا ، أَوْ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ ، بِفِسْقٍ ، أَوْ ضَعْفٍ عَنْ الْحِفْظِ ، أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَ أَحَدِ الْمُتَرَاهِنَيْنِ ، أُقِيمَ مُقَامَهُ عَدْلٌ يَنْضَمُّ إلَى الْعَدْلِ الْآخَرِ ، فَيَحْفَظَانِ مَعًا .
( 3317 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَرَادَ الْعَدْلُ رَدَّهُ عَلَيْهِمَا ، فَلَهُ ذَلِكَ ، وَعَلَيْهِمَا قَبُولُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ مُتَطَوِّعٌ بِالْحِفْظِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْمُقَامُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ امْتَنَعَا ، أَجْبَرَهُمَا الْحَاكِمُ .
فَإِنْ تَغَيَّبَا ، نَصَبَ الْحَاكِمُ أَمِينًا يَقْبِضُهُ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ وِلَايَةً عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ .
وَلَوْ دَفَعَهُ إلَى الْأَمِينِ مِنْ غَيْرِ امْتِنَاعِهِمَا ، ضَمِنَ ، وَضَمِنَ الْحَاكِمُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَيْر الْمُمْتَنِع .
وَكَذَا لَوْ تَرَكَهُ الْعَدْلُ عِنْدَ آخَرَ مَعَ وُجُودِهِمَا ، ضَمِنَ ، وَضَمِنَ الْقَابِضُ .
وَإِنْ امْتَنَعَا ، وَلَمْ يَجِدْ حَاكِمَا ، فَتَرَكَهُ عِنْدَ عَدْلٍ آخَرَ ، لَمْ يَضْمَنْ .
وَإِنْ امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ دَفْعُهُ إلَى الْآخَرِ ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا يُمْسِكُهُ لِنَفْسِهِ ، وَالْعَدْلُ يُمْسِكُهُ لَهُمَا ، هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ حَاضِرَيْنِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَا غَائِبِينَ ، نَظَرْت ، فَإِنْ كَانَ لِلْعَدْلِ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ نَحْوِهِ ، رَفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ ، فَقَبَضَهُ مِنْهُ ، أَوْ نَصَبَ لَهُ عَدْلًا يَقْبِضُهُ لَهُمَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا ، أَوْدَعَهُ عِنْدَ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ إلَى ثِقَةٍ يُودِعُهُ عِنْدَهُ ، مَعَ وُجُودِ الْحَاكِمِ ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ ، وَكَانَتْ الْغَيْبَةُ بَعِيدَةً إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، قَبَضَهُ الْحَاكِمُ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا ، دَفَعَهُ إلَى عَدْلٍ .
وَإِنْ كَانَتْ الْغَيْبَةُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فِي حُكْمِ الْإِقَامَةِ .
وَإِنْ كَانَا أَحَدُهُمَا حَاضِرًا وَالْآخَرُ غَائِبًا ، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْغَائِبَيْنِ ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُهُ إلَى الْحَاضِرِ مِنْهُمَا .
وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ ، مَتَى دَفَعَهُ إلَى أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ رَدَّهُ إلَى يَدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ حَقِّ الْآخَرِ .
( 3318 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ الرَّهْنُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ ، وَشَرَطَا لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ عِنْدَ حُلُولِ الْحَقِّ ، صَحَّ ، وَيَصِحُّ بَيْعُهُ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فَإِنْ عَزَلَ الرَّاهِنُ الْعَدْلَ عَنْ الْبَيْعِ ، صَحَّ عَزْلُهُ ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْبَيْعَ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ لَا يَنْعَزِلُ ؛ لِأَنَّ وَكَالَتَهُ صَارَتْ مِنْ حُقُوقِ الرَّهْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلرَّاهِنِ إسْقَاطُهُ ، كَسَائِرِ حُقُوقِهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَيَتَوَجَّهُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ مَنَعَ الْحِيلَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ ، وَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ الْحِيلَةِ لِلرَّاهِنِ ، فَإِنَّهُ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ لِلْمُرْتَهِنِ ، لِيُجِيبَهُ إلَيْهِ ، ثُمَّ يَعْزِلَهُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ ، فَلَمْ يَلْزَمْ الْمَقَامُ عَلَيْهَا ، كَسَائِرِ الْوَكَالَاتِ ، وَكَوْنُهُ مِنْ حُقُوقِ الرَّاهِنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِهِ ، كَمَا لَوْ شَرَطَا الرَّهْنَ فِي الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ لَازِمًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ بَعْدَ الْإِذْنِ ، انْفَسَخَتْ الْوَكَالَةُ ، وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ مَتَى عَزَلَهُ عَنْ الْبَيْعِ ، فَلِلْمُرْتَهِنِ فَسْخُ الْبَيْعِ الَّذِي حَصَلَ الرَّهْنُ بِثَمَنِهِ ، كَمَا لَوْ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ ، فَأَمَّا إنْ عَزَلَهُ الْمُرْتَهِنُ ، فَلَا يَنْعَزِلُ ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَكِيلُ الرَّاهِنِ ، إذْ الرَّهْنُ مِلْكُهُ ، وَلَوْ انْفَرَدَ بِتَوْكِيلِهِ صَحَّ ، فَلَمْ يَنْعَزِلْ بِعَزْلِ غَيْرِهِ ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَهَكَذَا لَوْ لَمْ يَعْزِلَاهُ ، فَحَلَّ الْحَقُّ ، لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ الْمُرْتَهِنَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لِحَقِّهِ ، فَلَمْ يَجُزْ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ إذْنٍ مِنْ الرَّاهِنِ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ لِأَنَّ الْإِذْنَ قَدْ وُجِدَ مَرَّةً ، فَيَكْفِي ، كَمَا فِي الْوَكَالَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّهُ يَحْتَاجُ
إلَى تَجْدِيدِ إذْنٍ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي قَضَاءِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِهِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ الْإِذْنَ كَافٍ مَا لَمْ يُغَيَّرْ ، وَالْغَرَضُ لَا اعْتِبَارَ بِهِ مَعَ صَرِيحِ الْإِذْنِ بِخِلَافِهِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ جَدَّدَ الْإِذْنَ لَهُ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَهِنِ ؛ فَإِنَّ الْمَبِيعَ يَفْتَقِرُ إلَى مُطَالَبَتِهِ بِالْحَقِّ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ نَحْوٌ مِنْ هَذَا .
( 3319 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَتْلَفَ الرَّهْنَ فِي يَدِ الْعَدْلِ أَجْنَبِيٌّ ، فَعَلَى الْجَانِي قِيمَتُهُ ، تَكُونُ رَهْنًا فِي يَدِهِ ، وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا بَدَلِ الرَّهْنِ ، وَقَائِمَةٌ مَقَامَهُ ، وَلَهُ إمْسَاكُ الرَّهْنِ وَحِفْظُهُ .
فَإِنْ كَانَ الْمُتَرَاهِنَانِ أَذِنَا لَهُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّ لَهُ بَيْعَ قِيمَته ؛ لِأَنَّ لَهُ بَيْعَ نَمَاءِ الرَّهْنِ تَبِعَا لِلْأَصْلِ ، فَالْقِيمَةُ أَوْلَى .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ ، فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَا لَمْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ ، وَالْمَأْذُونُ فِي بَيْعِهِ قَدْ تَلِفَ ، وَقِيمَتُهُ غَيْرُهُ .
وَلِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَهُ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ ، وَالْقِيمَةُ رَهْنٌ ، يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْأَصْلِ ، مِنْ كَوْنِهِ يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهَا ، وَإِمْسَاكَهَا ، وَاسْتِيفَاءَ دَيْنِهِ مِنْ ثَمَنِهَا ، فَكَذَلِكَ بَيْعُهَا ، فَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ ، وَقَدْ أُذِنَ لَهُ فِي وَفَائِهِ مِنْ ثَمَنِ الرَّهْنِ ، مَلَكَ إيفَاءَهُ مِنْ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلُ الرَّهْنِ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ ، فَأَشْبَهَتْ ثَمَنَ الْبَيْعِ .
( 3320 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَذِنَا لِلْعَدْلِ فِي الْبَيْعِ ، وَعَيَّنَا لَهُ نَقْدًا ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُمَا .
وَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : بِعْهُ بِدَرَاهِمَ .
وَقَالَ الْآخَرُ : بِدَنَانِيرَ .
لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ حَقًّا ، لِلرَّاهِنِ مِلْكُ الْيَمِينِ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ حَقُّ الْوَثِيقَةِ وَاسْتِيفَاءُ حَقِّهِ ، وَيُرْفَعُ الْأَمْرُ إلَى الْحَاكِمِ ، فَيَأْمُرُ مَنْ يَبِيعُهُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَافَقَ قَوْلَ أَحَدِهِمَا أَوْ لَمْ يُوَافِقْ ؛ لِأَنَّ الْحَظَّ فِي ذَلِكَ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا يَرَى الْحَظَّ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ بَاعَهُ بِأَغْلَبِهِمَا ، فَإِنْ تَسَاوَيَا ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَبِيعُ بِمَا يُؤَدِّيه اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ الْأَحَظُّ ، وَالْغَرَضُ تَحْصِيلِ الْحَظِّ ، فَإِنْ تَسَاوَيَا ، بَاعَ بِجِنْسِ الدَّيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جِنْسُ الدَّيْنِ ، عَيَّنَ لَهُ الْحَاكِمُ مَا يَبِيعُهُ بِهِ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْوَكِيلِ فِي وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ ، وَالْمَنْعِ مِنْ الْبَيْعِ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ ، وَمِنْ الْبَيْعِ نَسَاء ، مَتَى خَالَفَ لَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ الْوَكِيلَ الْمُخَالِفَ وَذَكَرَ فِي الْبَيْعِ نَسَاءً رِوَايَةً أُخْرَى ، أَنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى الْوَكِيلِ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هَاهُنَا لِإِيفَاءِ دَيْنٍ حَالِ يَجِبُ تَعْجِيلُهُ ، وَالْبَيْعُ نَسَاءً يَمْنَعُ ذَلِكَ .
وَكَذَا نَقُولُ فِي الْوَكِيلِ ، مَتَى وُجِدَتْ فِي حَقِّهِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى مَنْعِ الْبَيْعِ نَسَاءً لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَتَانِ فِيهِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْقَرَائِنِ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ حَكَمْنَا بِأَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ ، وَجَبَ رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ بَاقِيًا ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ، فَلِلْمُرْتَهِنِ تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ أَوْ قَدْرِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ قِيمَةَ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ
، لَا رَهْنًا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ ، وَمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ ، يَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا وَإِنْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ مِنْ الرَّهْنِ ، رَجَعَ الرَّاهِنُ بِقِيمَتِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا .
وَمَتَى ضَمِنَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ .
لِأَنَّ الْعَيْنَ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ ضَمِنَ الْعَدْلُ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي .
( 3321 ) فَصْلٌ : وَمَتَى قَدَّرَا لَهُ ثَمَنًا لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُهُ بِدُونِهِ ، وَإِنْ أَطْلَقَا ، فَلَهُ بَيْعُهُ بِثَمَنِ مِثْلِهِ ، أَوْ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَهُ بَيْعُهُ وَلَوْ بِدَرَاهِمَ وَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْوَكَالَةِ .
فَإِنْ أَطْلَقَا ، فَبَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ ، مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ ، صَحَّ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُضْبَطُ غَالِبًا .
وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ ، أَوْ بَاعَ بِأَنْقَصَ مِمَّا قَرَّرَا لَهُ ، صَحَّ الْبَيْعُ ، وَضَمِنَ النَّقْصَ كُلَّهُ .
ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا .
وَالْأَوْلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَالَفَ فِي النَّقْدِ .
( 3322 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بَاعَ الْعَدْلُ الرَّهْنَ بِإِذْنِهِمَا ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ ، فَتَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، فَهُوَ كَالْوَكِيلِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَيَكُونُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لِأَجْلِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَكِيلُ الرَّاهِنِ فِي الْبَيْعِ ، وَالثَّمَنُ مِلْكُهُ ، وَهُوَ أَمِينٌ لَهُ فِي قَبْضِهِ ، فَإِذَا تَلِفَ ، كَانَ مِنْ ضَمَانِ مُوَكَّلِهِ ، كَسَائِرِ الْأُمَنَاءِ .
وَإِنْ ادَّعَى التَّلَفَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ كَلَّفْنَاهُ الْبَيِّنَةَ ، شَقَّ عَلَيْهِ ، وَرُبَّمَا أَدَّى إلَى أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّاسُ فِي الْأَمَانَاتِ فَإِنْ خَالَفَاهُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ ، فَقَالَا : مَا قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي .
وَادَّعَى ذَلِكَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، الْقَوْلُ قَوْلُهُ ، لِأَنَّهُ أَمِينٌ .
وَالْآخَرُ : لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْله فِيهِ ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ غَيْرِ الثَّمَنِ .
وَإِنْ خَرَجَ الْمَبِيعُ مُسْتَحَقًّا ، فَالْعُهْدَةُ عَلَى الرَّاهِنِ دُونَ الْعَدْلِ ، إذَا كَانَ قَدْ أَعْلَمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ وَكِيلٌ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ وَكِيلٍ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْعُهْدَةُ عَلَى الْوَكِيلِ .
وَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي الْوَكَالَةِ فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ تَلَفِ الثَّمَنِ فِي يَدِ الْعَدْلِ ، رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ ، وَلَا شَيْء عَلَى الْعَدْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْعَدْلِ ، لِأَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ أَمِينٌ فِي قَبْضِهِ ، يُسَلِّمُهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ .
فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ ، فَقَدْ بَانَ لَهُ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ كَانَ فَاسِدًا ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي
بَيْعِ ، ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِيهِ ، وَإِلَّا سَقَطَ حَقُّهُ ، فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُفْلِسًا ، حَيًّا أَوْ مَيِّتًا ، كَانَ الْمُرْتَهِنُ وَالْمُشْتَرِي أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي ثُبُوتِ حَقِّهِمْ فِي الذِّمَّةِ ، فَاسْتَوَوْا فِي قِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَهُمْ فَأَمَّا إنْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا بَعْدَ مَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُرْتَهِنِ ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُرْتَهِنِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَرْجِعُ عَلَى الْعَدْلِ ، وَيَرْجِعُ الْعَدْلُ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ مِنْ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ .
وَلَنَا ، أَنَّ عَيْنَ مَالِهِ صَارَ إلَى الْمُرْتَهِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَكَانَ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَبَضَهُ مِنْهُ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي رَدَّهُ بِعَيْبٍ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ بِحَقِّ ، وَلَا عَلَى الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَوَكِيلٌ ، وَيَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ حِينَ بَاعَهُ لَمْ يُعْلِمْ الْمُشْتَرِيَ أَنَّهُ وَكِيلٌ ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ عَلَيْهِ ، وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الرَّاهِنِ ، إنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَدْلِ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِنْ نَكِلَ عَنْ الْيَمِينِ ، فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ ، أَوْ رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، فَحَلَفَ ، وَرَجَعَ عَلَى الْعَدْلِ ، لَمْ يَرْجِعْ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُ ظَلَمَهُ وَعَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ الْقَوْلُ فِي حُدُوثِ الْعَيْبِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ .
وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ فَإِذَا حَلَفَ الْمُشْتَرِي ، رَجَعَ عَلَى الْعَدْلِ ، وَرَجَعَ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ .
وَإِنْ تَلِفَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ بَانَ مُسْتَحَقًّا قَبْلَ وَزْنِ ثَمَنِهِ ، فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ تَضْمِينُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْغَاصِبِ وَالْعَدْلِ وَالْمُرْتَهِنِ ، وَيَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ فِي يَدِهِ ، هَذَا إذَا عَلِمَ بِالْغَصْبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالَمًا ،
فَهَلْ يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، أَوْ عَلَى الْغَاصِبِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
( 3323 ) فَصْلٌ : فَإِنْ ادَّعَى الْعَدْلُ دَفْعَ الثَّمَنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ ، فَأَنْكَرَ ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَكِيلُ الرَّاهِنِ فِي دَفْعِ الدَّيْنِ إلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَلَيْسَ بِوَكِيلٍ لِلْمُرْتَهِنِ فِي ذَلِكَ ، إنَّمَا هُوَ وَكِيلُهُ فِي الْحِفْظِ فَقَطْ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ بِوَكِيلٍ لَهُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي قَضَاءِ دَيْنٍ ، فَادَّعَى أَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ .
وَقَالَ الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ فِي رُءُوسِ مَسَائِلِهِمَا : يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ ، كَالْمُودِعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ .
فَعَلَى هَذَا ، إذَا حَلَفَ الْعَدْلُ لَهُ ، سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ الْمُرْتَهِنِ أَنَّهُ قَبَضَهُ .
وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَحْلِفُ الْمُرْتَهِنُ ، وَيَرْجِعُ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْعَدْلِ ، لَمْ يَرْجِعْ الْعَدْلُ عَلَى الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ : ظَلَمَنِي وَأَخَذَ مِنِّي بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الرَّاهِنِ ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ مَالًا آخَرَ ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الرَّاهِنِ ، فَهَلْ يَرْجِعُ الرَّاهِنُ عَلَى الْعَدْلِ ؟ نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ بِحَضْرَةِ الرَّاهِنِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ ، فَمَاتَتْ أَوْ غَابَتْ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَمْ يُفَرِّطْ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فِي غَيْبَةِ الرَّاهِنِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يَرْجِعُ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي الْقَضَاءِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ ، كَمَا لَوْ تَلِفَ الرَّهْنُ بِتَفْرِيطِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا
أَنْ يَدْفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا ، وَادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْآمِرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَا يَرْجِعُ الرَّاهِنُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي حَقِّهِ ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ فِي الْقَضَاءِ أَوْ كَذَّبَهُ ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَذَّبَهُ فَلَهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ .
( 3324 ) فَصْلٌ : إذَا غَصَبَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ مِنْ الْعَدْلِ ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ ، زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ .
وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، فَتَعَدَّى فِيهِ ، ثُمَّ أَزَالَ التَّعَدِّيَ ، أَوْ سَافَرَ بِهِ ثُمَّ رَدَّهُ ، لَمْ يَزُلْ عَنْهُ الضَّمَانُ ، لِأَنَّ اسْتِئْمَانَهُ زَالَ بِذَلِكَ ، فَلَمْ يَفْسُدْ بِفِعْلِهِ مَعَ بَقَائِهِ فِي يَدِهِ ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا ، فَإِنْ رَدَّهُ إلَى يَدِ نَائِبِ مَالِكِهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ رَدَّهَا إلَى يَدِ مَالِكهَا .
( 3325 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اسْتَقْرَضَ ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ مَالًا ، وَرَهَنَهُ خَمْرًا ، لَمْ يَصِحَّ ، سَوَاءٌ جَعَلَهُ عَلَى يَدِ ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ بَاعَهَا الرَّاهِنُ ، أَوْ نَائِبُهُ الذِّمِّيُّ ، وَجَاءَ الْمُقْرِضُ بِثَمَنِهَا ، لَزِمَهُ قَبُولُهُ .
فَإِنْ أَبَى ، قِيلَ لَهُ : إمَّا أَنْ تَقْبِضَ ، وَإِمَّا أَنْ تُبْرِئَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إذَا تَقَابَضُوا فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ ، جَرَتْ مَجْرَى الصَّحِيحَةِ .
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَهْلِ الذِّمَّةِ ، مَعَهُمْ الْخَمْرُ : وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا ، وَخُذُوا مِنْ أَثْمَانِهَا .
وَإِنْ جَعَلَهَا عَلَى يَدِ مُسْلِمٍ .
فَبَاعَهَا ، لَمْ يُجْبَرْ الْمُرْتَهِنُ عَلَى قَبُولِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْبَيْعَ فَاسِدٌ ، لَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ ، وَلَا حُكْمَ لَهُ .
( 3326 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَلَا يَرْهَنُ مَالَ مَنْ أَوْصَى إلَيْهِ بِحِفْظِ مَالِهِ إلَّا مِنْ ثِقَةٍ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ لَيْسَ لَهُ رَهْنُ مَالِهِ ، إلَّا عِنْدَ ثِقَةٍ يُودِعُ مَالَهُ عِنْدَهُ ، لِئَلَّا يَجْحَدَهُ أَوْ يُفَرِّطَ فِيهِ فَيَضِيعَ .
قَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ لِوَلِيِّهِ رَهْنُ مَالِهِ إلَّا بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ثِقَةٍ .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ حَظٌّ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِهِ حَاجَةٌ إلَى نَفَقَةٍ ، أَوْ كُسْوَةٍ ، أَوْ إنْفَاقٍ عَلَى عَقَارِهِ الْمُتَهَدِّمِ ، أَوْ أَرْضِهِ ، أَوْ بَهَائِمِهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَمَالُهُ غَائِبٌ يَتَوَقَّعُ وُرُودَهُ ، أَوْ ثَمَرَةٌ يَنْتَظِرُهَا ، أَوْ لَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ يَحِلُّ ، أَوْ مَتَاعٌ كَاسِدٌ يَرْجُو نِفَاقَهُ ؛ فَيَجُوزُ لِوَلِيِّهِ الِاقْتِرَاضُ وَرَهْنُ مَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يَنْتَظِرُهُ ، فَلَا حَظَّ لَهُ فِي الِاقْتِرَاضِ ، فَيَبِيعُ شَيْئًا مِنْ أُصُولِ مَالِهِ ، وَيَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مِنْ يُقْرِضُهُ ، وَوَجَدَ مَنْ يَبِيعُهُ نَسِيئَةً ، وَكَانَ أَحْظَ مِنْ بَيْعِ أَصْلِهِ ، جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ نَسِيئَةً وَيَرْهَنَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ، وَالْوَصِيُّ وَالْحَاكِمُ وَأَمِينُهُ فِي هَذَا سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ ، إلَّا أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَرْهَنَ مِنْ نَفْسِهِ لِوَلَدِهِ وَلِنَفْسِهِ مِنْ وَلَدِهِ ، وَمَنْ عَدَاهُ بِخِلَافِهِ ، عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
( 3327 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا أَخْذُ الرَّهْنِ بِمَالِ الْيَتِيمِ ، فَيَكُونُ فِي بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْقَرْضَ فِي بَابِ الْمُصَرَّاةِ وَفِي الْبَيْعِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ : إحْدَاهُنَّ ، أَنْ يَبِيعَ مَا يُسَاوِي مِائَةً نَقْدًا بِمِائَةِ أَوْ دُونهَا نَسِيئَةً ، وَيَأْخُذَهَا رَهْنًا ، فَهَذَا بَيْعٌ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ نَقْدًا أَحْوَطُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ بَعْضَ الثَّمَنِ نَسِيئَةً .
الثَّانِيَةُ ، أَنْ يَبِيعَهُ بِمِائَةٍ نَقْدًا وَعِشْرِينَ نَسِيئَةً ، يَأْخُذُ بِهَا رَهْنًا ، فَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِمِائَةٍ نَقْدًا جَازَ ، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهَا ، فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا ، سَوَاء قَلَّتْ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ .
الثَّالِثَةُ ، بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ نَسِيئَةً ، وَأَخَذَ بِهَا رَهْنًا ، فَهَذَا جَائِزٌ أَيْضًا .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ تَغْرِيرٌ بِمَالِهِ ، وَبَيْعُ النَّقْدِ أَحْوَطُ لَهُ وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ ، وَقَدْ أَمَرْنَاهُ بِالتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الرِّبْحِ ، وَهَذَا مِنْ جِهَاته ، وَالتَّغْرِيرُ يَزُولُ بِالرَّهْنِ ( 3328 ) فَصْلٌ : وَحُكْمُ الْمُكَاتَبِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ حُكْمُ وَلِيِّ الْيَتِيمِ ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا فِي يَدَيْهِ فِيمَا لَهُ فِيهِ الْحَظُّ ، فَأَمَّا الْمَأْذُونُ ، فَإِنْ دَفَعَ لَهُ سَيِّدُهُ مَالًا يَتَّجِرُ فِيهِ ، أَوْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِالنَّسِيئَةِ ؛ لِأَنَّ دُيُونَهُ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ السَّيِّدِ ، فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ ، لِأَنَّ الدَّيْنَ غَرَّرَ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ .
( 3329 ) فَصْلٌ : وَلَوْ كَانَ مَالُ الْيَتِيمِ رَهْنًا ، فَاسْتَعَادَهُ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ ، جَازَ .
وَإِنْ اسْتَعَادَهُ لِنَفْسِهِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ لَهُ قَبْضُهُ .
وَإِنْ فَكَّهُ بِمَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَطْلَقَ ، فَهُوَ لِلْيَتِيمِ .
وَإِنْ فَكَّهُ بِمَالِ نَفْسِهِ ، وَأَطْلَقَ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اسْتَعَادَهُ لِنَفْسِهِ .
فَإِنْ قَالَ : اسْتَعَدْته لِلْيَتِيمِ .
قُبِلَ قَوْلُهُ ، وَإِنْ تَلِفَ قَبْلَ ذَلِكَ ضَمِنَهُ وَإِنْ قَالَ اسْتَعَدْته لِلْيَتِيمِ بَعْدَ هَلَاكِهِ أَوْ هَلَاكِ بَعْضِهِ .
لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، لِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِالضَّمَانِ ظَاهِرًا ، فَلَا يَزُولُ بِقَوْلِهِ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ؛ وَهُوَ أَعْلَمُ بِنِيَّتِهِ ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا ، كَمَا قَبْلَ التَّلَفِ .
( 3330 ) فَصْلٌ : وَلَوْ رَهَنَ الْوَصِيُّ أَوْ الْحَاكِمُ مَالَ الْيَتِيمِ عِنْدَ مُكَاتَبِهِ ، أَوْ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةً لَهُ عَلَيْهِمَا .
( 3331 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ .
فَرَهَنَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ عِنْدَ الْغَرِيمِ ، أَوْ غَيْرِهِ ، ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي رَهْنِهَا ، فَضَمِنَ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوصِ إلَيْهِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ .
( 3332 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَإِذَا قَضَاهُ بَعْضَ الْحَقِّ ، كَانَ الرَّهْنُ بِحَالِهِ عَلَى مَا بَقِيَ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ حَقَّ الْوَثِيقَةِ يَتَعَلَّقُ بِالرَّهْنِ جَمِيعِهِ ، فَيَصِيرُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ الْحَقِّ ، وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ ، لَا يَنْفَكُّ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَقْضِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ أَوْ لَا يُمْكِنُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ مَنْ رَهَنَ شَيْئًا بِمَالِ ، فَأَدَّى بَعْضَ الْمَالِ ، وَأَرَادَ إخْرَاجَ بَعْضِ الرَّهْنِ ، أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ ، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ حَتَّى يُوَفِّيَهُ آخِرَ حَقِّهِ ، أَوْ يُبْرِئَهُ مِنْ ذَلِكَ .
كَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِحَقِّ ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بِزَوَالِ جَمِيعِهِ ، كَالضَّمَانِ وَالشَّهَادَةِ .
( 3333 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ ، فَقَدْ صَارَ حُرًّا ، وَيُؤْخَذُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ بِقِيمَةِ الْمُعْتَقِ ، فَيَكُونُ رَهْنًا وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاهِنِ عِتْقُ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الْوَثِيقَةِ ، فَإِنْ أَعْتَقَ ، نَفَذَ عِتْقُهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعَسِّرًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَبِهِ قَالَ { شَرِيكٌ } ، وَالْحَسَنُ بْن صَالِحٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : يَسْتَسْعِي الْعَبْدَ فِي قِيمَتِهِ إنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُعَسِّرًا .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى : لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُعَسِّرِ .
ذَكَرَهَا الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِي لِأَنَّ عِتْقَهُ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الْوَثِيقَةِ ، مِنْ عَيْنِ الرَّهْنِ وَبَدَلِهَا ، فَلَمْ يَنْفُذْ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُرْتَهِنِ ، وَلِأَنَّهُ عِتْقٌ يُبْطِلُ حَقَّ غَيْرِ الْمَالِكِ ، فَنَفَذَ مِنْ الْمُوسِرِ دُونَ الْمُعَسِّرِ ، كَعِتْقِ شِرْكٍ لَهُ مِنْ عَبْدٍ وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْبَتِّيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الرَّاهِنِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعَسِّرًا .
وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لِلشَّافِعِي لِأَنَّهُ مَعْنَى يُبْطِلُ حَدُّ الْوَثِيقَةِ مِنْ الرَّهْنِ ، فَلَمْ يَنْفُذْ كَالْبَيْعِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إعْتَاقٌ مِنْ مَالِكٍ جَائِزِ التَّصَرُّفِ تَامِّ الْمِلْكِ ، فَنَفَذَ ، كَعِتْقِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ عَيْنٌ مَحْبُوسَةٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ ، فَنَفَذَ فِيهَا عِتْقُ الْمَالِكِ ، كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، وَالْعِتْقُ يُخَالِفُ الْبَيْعَ ، فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ ، وَيَنْفُذُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَيَجُوزُ عِتْقُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَالْآبِقِ ، وَالْمَجْهُولِ ، وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، وَيَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى الشُّرُوطِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا أُخِذَتْ مِنْ قِيمَتُهُ ، فَجُعِلَتْ مَكَانه رَهْنًا ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ
حَقَّ الْوَثِيقَةِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ ، كَمَا لَوْ أَبْطَلَهَا أَجْنَبِيٌّ ، أَوْ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ ، وَتَكُونُ الْقِيمَةُ رَهْنًا ؛ لِأَنَّهَا نَائِبَةٌ عَنْ الْعَيْنِ ، وَبَدَلٌ عَنْهَا ، وَإِنْ كَانَ مُعَسِّرًا فَالْقِيمَةُ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِنْ أُيْسِرَ قَبْلَ حُلُولِ الْحَقِّ ، أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ فَجُعِلَتْ رَهْنًا ، إلَّا أَنْ يَخْتَارَ تَعْجِيلَ الْحَقِّ ، فَيَقْضِيَهُ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى رَهْنٍ ، وَإِنْ أُيْسِرَ بَعْدَ حُلُولِ الْحَقِّ ، طُولِبَ بِالدَّيْنِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ تَبْرَأُ بِهِ مِنْ الْحَقَّيْنِ مَعًا ، وَالِاعْتِبَارُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ حَالَ الْإِعْتَاقِ ، لِأَنَّهُ حَالُ الْإِتْلَافِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمُعَسِّرِ : يَسْتَسْعِي الْعَبْدَ فِي قِيمَتِهِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ .
وَفِيهِ إيجَابُ الْكَسْبِ عَلَى الْعَبْدِ ، وَلَا صُنْعَ لَهُ ، وَلَا جِنَايَةَ مِنْهُ ، وَإِلْزَامُ الْغُرْمِ لِمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الْإِتْلَافُ أَوْلَى ، كَحَالِ الْيَسَارِ ، وَكَسَائِرِ الْإِتْلَافِ .
( 3334 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَعْتَقَهُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، فَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي نُفُوذِ عِتْقِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَقَدْ أَذِنَ ، فَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الْوَثِيقَةِ مُوسِرًا كَانَ الْمُعْتِقُ أَوْ مُعَسِّرًا ، لِأَنَّهُ أَذِنَ فِيمَا يُنَافِي حَقَّهُ ، فَإِذَا وُجِدَ ، زَالَ حَقُّهُ ، وَقَدْ رَضِيَ بِهِ لِرِضَاهُ بِمَا يُنَافِيه ، وَإِذْنِهِ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَدَلٌ .
فَإِنْ رَجَعَ عَنْ الْإِذْنِ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَعَلِمَ الرَّاهِنُ بِرُجُوعِهِ ، كَانَ كَمَنْ لَمْ يَأْذَنْ ، فَإِنْ عَلِمَ الرَّاهِنُ بِرُجُوعِهِ ، فَأَعْتَقَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى عَزْلِ الْوَكِيلِ بِدُونِ عِلْمِهِ .
وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ الْعِتْقِ ، لَمْ يَنْفَعْ رُجُوعُهُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينه ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِذْنِ .
وَلَوْ اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَوَرَثَةُ الْمُرْتَهِنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الْمُرْتَهِنُ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّ أَيْمَانَهُمْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ، لِأَنَّهَا عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمُرْتَهِنُ وَوَرَثَةُ الرَّاهِنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ ، قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ .
( 3335 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَصَرَّفَ الرَّاهِنُ بِغَيْرِ الْعِتْقِ ، كَالْبَيْعِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالْوَقْفِ ، وَالرَّهْنِ ، وَغَيْرِهِ ، فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مِنْ الْوَثِيقَةِ ، غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ ، فَلَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، كَفَسْخِ الرَّهْنِ .
فَإِنْ أَذِنَ فِيهِ الْمُرْتَهِنُ ، صَحَّ ، وَبَطَلَ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ فِيمَا يُنَافِي حَقَّهُ ، فَيَبْطُلُ بِفِعْلِهِ ، كَالْعِتْقِ .
وَإِنْ زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَرْهُونَةَ ، لَمْ يَصِحَّ .
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ الْقَاضِي وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : يَصِحُّ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ مَنْعُ الزَّوْجِ مِنْ وَطْئِهَا ، وَمَهْرُهَا رَهْنٌ مَعَهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ مَحَلَّ النِّكَاحِ غَيْرُ مَحَلِّ عَقْدِ الرَّهْنِ ، وَلِذَلِكَ صَحَّ رَهْنُ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ ، فَلَا يَمْنَعُ التَّزْوِيجَ ، كَالْإِجَارَةِ وَلَنَا ، أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الرَّهْنِ بِمَا يُنْقِصُ ثَمَنَهُ ، وَيَسْتَغِلُّ بَعْضَ مَنَافِعِهِ ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ الرَّاهِنُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ ، كَالْإِجَارَةِ ، وَلَا يُخْفِي تَنْقِيصَهُ لِثَمَنِهَا ، فَإِنَّهُ يُعَطِّلُ مَنَافِعَ بَعْضِهَا ، وَيَمْنَعُ مُشْتَرِيَهَا مِنْ وَطْئِهَا وَحِلِّهَا ، وَيُوجِبُ عَلَيْهِ تَمْكِينَ زَوْجِهَا مِنْ اسْتِمْتَاعِهَا فِي اللَّيْلِ ، وَيُعَرِّضُهَا بِوَطْئِهِ لِلْحَمْلِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُهَا ، وَيَشْغَلُهَا عَنْ خِدْمَتِهِ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِهَا ، فَتَذْهَبُ الرَّغْبَةُ فِيهَا ، وَتَنْقُصُ نَقْصًا كَثِيرًا ، وَرُبَّمَا مَنَعَ بَيْعَهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَقَوْلُهُمْ : إنَّ مَحِلَّ عَقْدِ النِّكَاحِ غَيْرُ مَحِلِّ الرَّهْنِ .
غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ مَحِلَّ الرَّهْنِ مَحِلُّ الْبَيْعِ ، وَالْبَيْعُ يَتَنَاوَلُ جُمْلَتَهَا ، وَلِهَذَا يُبَاحُ لِمُشْتَرِيهَا اسْتِمْتَاعُهَا ، وَإِنَّمَا صَحَّ رَهْنُ الْمُزَوَّجَةِ لِبَقَاءِ مُعْظَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا ، وَبَقَائِهَا مَحِلًّا لِلْبَيْعِ ، كَمَا يَصِحُّ
رَهْنُ الْمُسْتَأْجَرَةِ ، وَيُفَارِقُ الرَّهْنُ الْإِجَارَةَ ؛ فَإِنَّ التَّزْوِيجَ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَقْصُودِ الْإِجَارَةِ ، وَلَا يَمْنَعُ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ ، وَيُؤَثِّرُ فِي مَقْصُودِ الرَّهْنِ ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهَا ، فَإِنَّ تَزْوِيجَهَا يَمْنَعُ بَيْعَهَا ، أَوْ يَنْقُصُ ثَمَنَهَا ، فَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ بِكَمَالِهِ .
( 3336 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلرَّاهِنِ وَطْءُ أَمَتِهِ الْمَرْهُونَةِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ وَطْءُ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ الْخَوْفُ مِنْ الْحَمْلِ ، مَخَافَةَ أَنْ تَلِدَ مِنْهُ ، فَتَخْرُجَ بِذَلِكَ عَنْ الرَّهْنِ ، أَوْ تَتَعَرَّضَ لِلتَّلَفِ ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِيهِمَا .
وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ هَذَا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ مَنَعَ الرَّاهِنِ مِنْ وَطْءِ أَمَتِهِ الْمَرْهُونَةِ .
وَلِأَنَّ سَائِرَ مَنْ يَحْرُمُ وَطْؤُهَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَغَيْرِهِمَا ، كَالْمُعْتَدَّةِ وَالْمُسْتَبْرَأَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الَّذِي تَحْبَلُ فِيهِ يَخْتَلِفُ ، وَلَا يَنْحَزِرُ ، فَمُنِعَ مِنْ الْوَطْءُ جُمْلَةً ، كَمَا حُرِّمَ الْخَمْرُ لِلسُّكْرِ ، وَحُرِّمَ مِنْهُ الْيَسِيرُ الَّذِي لَا يُسْكِرُ ، لِكَوْنِ السُّكْرِ يَخْتَلِفُ .
وَإِنْ وَطِئَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ ، وَإِنَّمَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ لِعَارِضٍ ، كَالْمُحْرِمَةِ وَالصَّائِمَةِ ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَنْفَعَتِهَا ، وَوَطْؤُهَا لَا يُنْقِصُ قِيمَتَهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَخْدَمَهَا وَإِنْ تَلِفَ جُزْءٌ مِنْهَا أَوْ نَقَصَهَا ، مِثْلَ إنْ افْتَضَّ الْبِكْرَ أَوْ أَفْضَاهَا ، فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَتْلَفَ ، فَإِنْ شَاءَ جَعَلَ رَهْنًا مَعَهَا ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ قَضَاءً مِنْ الْحَقِّ ، إنْ لَمْ يَكُنْ حَلَّ .
فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ قَدْ حَلَّ ، جَعَلَهُ قَضَاءً لَا غَيْرُ ؛ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي جَعْلِهِ رَهْنًا .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ .
( 3337 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً ، فَأَوْلَدَهَا الرَّاهِنُ ، خَرَجَتْ أَيْضًا مِنْ الرَّهْنِ ، وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَتَهَا ، فَتَكُونُ رَهْنًا وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّاهِنَ إذَا وَطِئَ أَمَتَهُ الْمَرْهُونَةَ ، فَأَوْلَدَهَا ، خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا حِينَ أَحْبَلَهَا ، كَمَا لَوْ جَرَحَ الْعَبْدَ كَانَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ حِينَ جَرَحَهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُوسِرِ وَالْمُعَسِّرِ ، إلَّا أَنَّ الْمُوسِرَ يُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهَا ، وَالْمُعَسِّرُ يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ قِيمَتُهَا ، عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْعِتْقِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا كَقَوْلِهِ فِي الْعِتْقِ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ : لَا يَنْفُذُ الْإِحْبَالُ .
فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الرَّاهِنِ ، فَهُوَ ثَابِتٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَهَبَهَا لِلْمُرْتَهِنِ .
وَلَوْ حَلَّ الْحَقُّ وَهِيَ حَامِلٌ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا ؛ لِأَنَّهَا حَامِلٌ بِحُرٍّ ، فَإِذَا وَلَدَتْ ، لَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا حَتَّى تَسْقِيَ وَلَدَهَا اللِّبَأَ ، فَإِنْ وَجَدَ مِنْ يُرْضِعُهُ بِيعَتْ ، وَإِلَّا تُرِكَتْ حَتَّى تُرْضِعَهُ ، ثُمَّ يُبَاعُ مِنْهَا بِقَدْرِ الدَّيْنِ خَاصَّةً ، وَيَثْبُتُ لِلْبَاقِي حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ ، فَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ عَتَقَ وَإِنْ رَجَعَ هَذَا الْمَبِيعُ إلَى الرَّاهِنِ بِإِرْثٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، أَوْ بِيعَ جَمِيعُهَا ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلَيْهِ ، ثَبَتَ لَهَا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ وَقَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَتْ الْأَمَةُ تَخْرُجُ إلَى الرَّاهِنِ وَتَأْتِيه ، خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ ، وَإِنْ تَسَوَّرَ عَلَيْهَا ، أَخَذَ وَلَدَهَا ، وَبِيعَتْ .
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ أُمُّ وَلَدٍ ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا حُكْمُ الرَّهْنِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْوَطْءُ سَابِقًا عَلَى الرَّهْنِ ، أَوْ نَقُولُ : مَعْنَى يُنَافِي الرَّهْنَ فِي ابْتِدَائِهِ ، فَنَافَاهُ فِي دَوَامِهِ ، كَالْحُرِّيَّةِ .
( 3338 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُرْتَهِنِ ، لِأَنَّهُ أَذِنَ فِي سَبَبِ مَا يُنَافِي حَقِّهِ ، فَكَانَ إذْنًا فِيهِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ ، فَهِيَ رَهْنٌ بِحَالِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَذِنَ فِي الْوَطْءِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِحْبَالِ .
قُلْنَا : الْوَطْءُ هُوَ الْمُفْضِي إلَى الْإِحْبَالِ ، وَلَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِيَارِهِ ، فَالْإِذْنُ فِي سَبَبِهِ إذْنٌ فِيهِ ، فَإِنْ أَذِنَ ثُمَّ رَجَعَ ، فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يَأْذَنْ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُهُ ، وَإِنْ أَقَرَّ الْمُرْتَهِنُ بِالْإِذْنِ ، وَأَنْكَرَ كَوْنَ الْوَلَدِ مِنْ الْوَطْءِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، أَوْ قَالَ : هُوَ مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ ، بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُرْتَهِنُ بِالْإِذْنِ وَالثَّانِي ، أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْوَطْءِ .
وَالثَّالِثِ ، أَنْ يَعْتَرِفَ بِالْوِلَادَةِ .
وَالرَّابِعِ ، أَنْ يَعْتَرِفَ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ بَعْدَ الْوَطْءِ يُمْكِنُ أَنْ تَلِدَ فِيهَا ، فَحِينَئِذٍ لَا يُلْتَفَتُ إلَى إنْكَارِهِ ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّاهِنِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نُلْحِقْهُ بِهِ بِدَعْوَاهُ ، بَلْ بِالشَّرْعِ .
فَإِنْ أَنْكَرَ شَرْطًا مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ ، فَقَالَ : لَمْ آذَنْ .
أَوْ قَالَ : أَذِنْت فَمَا وَطِئَتْ .
أَوْ قَالَ : لَمْ تَمْضِ مُدَّةٌ تَضَعُ فِيهَا الْحَمْلَ مُنْذُ وَطِئَتْ .
أَوْ قَالَ : لَيْسَ هَذَا وَلَدَهَا ، وَإِنَّمَا اسْتَعَارَتْهُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَبَقَاءُ الْوَثِيقَةِ صَحِيحَةً حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
( 3339 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَذِنَ فِي ضَرْبِهَا ، فَضَرَبَهَا فَتَلِفَتْ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوَلَّدَ مِنْ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، كَتَوَلُّدِ الْإِحْبَالِ مِنْ الْوَطْءِ .
( 3340 ) فَصْلٌ : إذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِالْوَطْءِ لَمْ يَخْلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يُقِرَّ بِهِ حَالَ الْعَقْدِ ، أَوْ قَبْلَ لُزُومِهِ ، فَحُكْمُ هَذَيْنِ وَاحِدٌ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَمْلِ ، فَإِنْ بَانَتْ حَائِلًا ، أَوْ حَامِلًا بِوَلَدِ لَا يَلْحَقُ بِالرَّاهِنِ ، فَالرَّهْنُ بِحَالِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَلْحَقُ بِهِ ، لَكِنْ لَا تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، مِثْلُ إنْ وَطِئَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ ، ثُمَّ مَلَكَهَا وَرَهَنَهَا .
وَإِنْ بَانَتْ حَامِلًا بِوَلَدٍ تَصِيرُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ ، بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا قَدْ لَا تَكُونُ رَهْنًا ، فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ بِذَلِكَ السَّبَبِ الَّذِي عَلِمَهُ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ ، كَالْمَرِيضِ إذَا مَاتَ ، وَالْجَانِي إذَا اُقْتُصَّ مِنْهُ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَهُ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ نَفْسَهُ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ ، فَلَمْ يَكُنْ رِضَاهُ بِهِ رِضَى بِالْحَمْلِ الَّذِي يَحْدُثُ مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ وَالْمَرَضِ وَلَنَا ، أَنَّ إذْنَهُ فِي الْوَطْءِ إذْنٌ فِيمَا يَئُولُ إلَيْهِ ، كَذَلِكَ رِضَاهُ بِهِ رِضَى بِمَا يَئُولهُ إلَيْهِ .
الْحَالُ الثَّالِثُ ، أَقَرَّ بِالْوَطْءِ بَعْدَ لُزُومِ الرَّهْنِ ، فَإِنَّهُ يُقْبَلُ فِي حَقِّهِ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَفْسَخُ عَقْدًا لَازِمًا لِغَيْرِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ بَيْعِهَا .
وَيَحْتَمِلَ أَنْ يُقْبَلَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ فِي مِلْكِهِ بِمَا لَا تُهْمَةَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ بِخُرُوجِهَا مِنْ الرَّهْنِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ لَا يُقْبَلُ .
وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِأَنَّهُ غَصَبَهَا ، أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ جَنَتْ جِنَايَةً تَعَلَّقَ أَرْشُهَا بِرَقَبَتِهَا .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ
أَعْتَقَهَا ، صَحَّ إقْرَارُهُ ، وَخَرَجَتْ مِنْ الرَّهْنِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : لَا يُقْبَلُ .
بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إعْتَاقُهُ لِلرَّهْنِ وَلَنَا ، أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ لَنَفَذَ عِتْقُهُ ، فَقُبِلَ إقْرَارُهُ بِعِتْقِهِ ، كَغَيْرِ الرَّهْنِ ، وَلِأَنَّ إقْرَارَهُ بِعِتْقِهِ يَجْرِي مَجْرَى عِتْقِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَنْفُذَ إقْرَارُ الْمُعَسِّرِ ، بِنَاءٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا : الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ .
فَقَالَ الْقَاضِي : ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ كَذِبَهُ مُحْتَمَلٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَحْلِفَ ، لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ ، لَمْ يُقْبَلْ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِحْلَافِهِ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي اسْتِحْلَافِهِ ، عَلَى نَحْوِ الْوَجْهَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالْعِتْقِ لَمْ يَسْتَحْلِفْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : أَنْتَ حُرٌّ .
فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى يَمِينٍ ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ وَالْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِ الرَّاهِنِ ، وَجْهًا وَاحِدًا ، وَإِنْ ادَّعَيَاهُ ، فَالْيَمِينُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ، وَرُجُوعُهُمَا عَنْهُ مَقْبُولٌ ، فَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا ، كَسَائِرِ الدَّعَاوَى .
وَإِنْ أَقَرَّ بِاسْتِيلَادِ أَمَتِهِ ، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ ؛ لِأَنَّ نَفْعَهَا عَائِدٌ إلَيْهِ مِنْ حِلِّ اسْتِمْتَاعِهَا ، وَمِلْكِ خِدْمَتِهَا ، فَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا وَإِنْ قُلْنَا : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ .
فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَرَفَ ثَبَتَ الْحَقُّ فِي الرَّهْنِ ، وَيَمِينُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ، لِأَنَّهَا عَلَى نَفْيِ فَعَلَ الْغَيْرِ ، فَإِذَا حَلَفَ ، سَقَطَتْ الدَّعْوَى بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ، وَبَقِيَ حُكْمُهَا فِي حَقِّ الرَّاهِنِ ، بِحَيْثُ لَوْ عَادَ إلَيْهِ الرَّهْنُ ظَهَرَ فِيهِ حُكْمُ
إقْرَارِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، أَوْ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ، أَنْ يُغَرِّمَاهُ فِي الْحَالِ ، فَلَهُمَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْجِنَايَةِ بِتَصَرُّفِهِ ، فَلَزِمَهُ أَرْشُهَا ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ .
( 3341 ) فَصْلٌ : وَلَا يَحِلُّ لِلْمُرْتَهِنِ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمَرْهُونَةِ إجْمَاعًا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } .
وَلَيْسَتْ هَذِهِ زَوْجَةً وَلَا مِلْكَ يَمِينٍ .
فَإِنْ وَطِئَهَا ، عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ، فَإِنَّ الرَّهْنَ اسْتِيثَاقٌ بِالدَّيْنِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِي إبَاحَةِ الْوَطْءِ ، لِأَنَّ وَطْءَ الْمُسْتَأْجَرَةِ يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ مِلْكِهِ لِنَفْعِهَا ، فَالرَّهْنُ أَوْلَى .
فَإِنْ ادَّعَى الْجَهْلَ بِالتَّحْرِيمِ ، وَاحْتَمَلَ صِدْقَهُ لِكَوْنِهِ مِمَّنْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ ، أَوْ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَوَلَدُهُ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا مُعْتَقِدًا إبَاحَةَ وَطْئِهَا ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَطِئَهَا يَظُنُّهَا أَمَتَهُ ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ وَلَدِهَا يَوْمَ الْوِلَادَةِ ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ الْحِلَّ مَنَعَ انْخِلَاقَ الْوَلَدِ رَقِيقًا ، فَفَوَّتَ رِقَّ الْوَلَدِ عَلَى سَيِّدِهَا ، فَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ ، كَالْمَغْرُورِ بِحُرِّيَّةِ أَمَةٍ وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ صِدْقَهُ ، كَالنَّاشِئِ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ ، مُخْتَلِطًا بِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَعْلَمُ بِهِ تَحْرِيمَ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ كَمَنْ لَمْ يَدَّعِ الْجَهْلَ ، وَوَلَدُهُ رَقِيقٌ لِلرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ زِنَا .
وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَهَذَا الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ قِيمَةُ الْوَلَدِ مَعَ الْإِذْنِ فِي الْوَطْءِ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْوَطْءِ .
إذْنٌ فِيمَا يَحْدُثُ مِنْهُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ الْمُرْتَهِنُ لِلرَّاهِنِ فِي الْوَطْءِ ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ ، سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الرَّهْنِ وَلَوْ أَذِنَ فِي قَطْعِ إصْبَعٍ ، فَسَرَتْ إلَى أُخْرَى ، لَمْ يَضْمَنْهَا .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَمْنَعُ انْخِلَاقَ الْوَلَدِ رَقِيقًا ،
وَسَبَبُهُ اعْتِقَادُ الْحِلِّ ، وَمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ ، بِخِلَافِ الْوَطْءِ ، فَإِنَّ خُرُوجَهَا مِنْ الرَّهْنِ بِالْحَمْلِ الَّذِي الْوَطْءَ الْمَأْذُونِ فِيهِ سَبَبٌ لَهُ .
وَأَمَّا الْمَهْرُ ، فَإِنْ كَانَ الْوَطْءُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ، فَلَا مَهْرَ لَهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ لَهَا ابْتِدَاءً ، فَلَا يَسْقُطُ بِإِذْنِ غَيْرِهَا .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ وَلَنَا ، أَنَّهُ أَذِنَ فِي سَبَبِهِ ، وَهُوَ حَقُّهُ ، فَلَمْ يَجِبْ ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي قَتْلِهَا ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ أَذِنَ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، فَلَمْ يَجِبْ عِوَضُهَا ، كَالْحُرَّةِ الْمُطَاوِعَةِ .
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنٍ ، فَالْمَهْرُ وَاجِبٌ ، سَوَاءٌ أَكْرَهَهَا أَوْ طَاوَعَتْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ مَعَ الْمُطَاوَعَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ .
وَلِأَنَّ الْحَدَّ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ لَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ ، كَالْحُرَّةِ وَلَنَا ، أَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ لِلسَّيِّدِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِمُطَاوَعَةِ الْأَمَةِ وَإِذْنِهَا ، كَمَا لَوْ أَذِنَتْ فِي قَطْعِ يَدِهَا ، وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ الْمَمْلُوكَةَ لِلسَّيِّدِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهَا ، كَمَا لَوْ أَكْرَهَهَا ، وَكَأَرْشِ بَكَارَتِهَا لَوْ كَانَتْ بِكْرًا ، وَالْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِالْمُكْرَهَةِ عَلَى الْبِغَاءِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا بِذَلِكَ ، مَعَ كَوْنِهَا مُكْرَهَةً عَلَيْهِ ، فَقَالَ : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } وَقَوْلُهُمْ : لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ .
قُلْنَا : لَا يَجِبُ الْمَهْرُ لَهَا ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا لَا يَجِبُ لَهَا ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لِسَيِّدِهَا ، وَيُفَارِقُ الْحُرَّةَ ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ لَهَا ، وَقَدْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا بِإِذْنِهَا ، وَهَاهُنَا الْمُسْتَحِقُّ لَمْ يَأْذَنْ ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ بِإِكْرَاهِهَا ، وَسُقُوطُهُ بِمُطَاوَعَتِهَا ، فَكَذَلِكَ السَّيِّدُ هَاهُنَا ، لَمَا تَعَلَّقَ السُّقُوطُ
بِإِذْنِهِ ، يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ عَدَمِهِ ، وَسَوَاءٌ وَطِئَهَا مُعْتَقِدًا لِلْحِلِّ ، أَوْ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لَهُ ، أَوْ ادَّعَى شُبْهَةً ، أَوْ لَمْ يَدَّعِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ حَقُّ آدَمِي ، فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلَا تَصِيرُ هَذِهِ الْأَمَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُرْتَهِنِ بِحَالٍ ، سَوَاءٌ مَلَكَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ أَوْ قَبْلَهُ ، وَسَوَاءٌ حَكَمْنَا بِرِقِّ الْوَلَدِ أَوْ حُرِّيَّته ؛ لِأَنَّهُ أَحْبَلَهَا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ .
( 3342 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ ، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِرَقَبَتِهِ مِنْ مُرْتَهِنِهِ ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ ، فَإِنْ اخْتَارَ سَيِّدُهُ أَنْ يَفْدِيَهُ وَفَعَلَ ، فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ إذَا جَنَى عَلَى إنْسَانٍ ، أَوْ عَلَى مَالِهِ ، تَعَلَّقَتْ الْجِنَايَةُ بِرَقَبَتِهِ ، فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْمَالِكِ ، وَالْمِلْكُ أَقْوَى مِنْ الرَّهْنِ ، فَأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الرَّهْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ أَيْضًا يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْمَالِكِ .
قُلْنَا : حَقُّ الْمُرْتَهِنِ ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ بِعَقْدِهِ ، وَحَقُّ الْجِنَايَةِ ثَبَتَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّهِ ، فَيُقَدَّمُ عَلَى مَا ثَبَتَ بِعَقْدِهِ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ مُخْتَصٌّ بِالْعَيْنِ ، يَسْقُطُ بِفَوَاتِهَا ، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ لَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْعَيْنِ ، وَلَا يَخْتَصُّ بِهَا ، فَكَانَ تَعَلُّقُهُ بِهَا أَخَفَّ وَأَدْنَى ، فَإِنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ ، فَلِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ اسْتِيفَاؤُهُ ، فَإِنْ اقْتَصَّ سَقَطَ الرَّهْنُ ، كَمَا لَوْ تَلِفَ ، وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ تَعَلَّقَ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ، وَصَارَ كَالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ ، فَيُقَالُ لِلسَّيِّدِ : أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِدَائِهِ وَبَيْنَ تَسْلِيمِهِ لِلْبَيْعِ فَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ ، فَبِكَمْ يَفْدِيه ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَرْشُ أَقَلِّ ، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْهَا ، لِأَنَّ مَا يَدْفَعُهُ عِوَضٌ عَنْ الْعَبْدِ ، فَلَا يَلْزَمُ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ وَالثَّانِيَةُ ، يَفْدِيه بِأَرْشِ جِنَايَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَرْغَبُ فِيهِ رَاغِبٌ ، فَيَشْتَرِيه
بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، فَإِذَا فَدَاهُ فَهُوَ رَهْنٌ بِحَالِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ قَائِمٌ لِوُجُودِ سَبَبِهِ ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِقُوَّتِهِ ، فَإِذَا زَالَ ظَهَرَ حُكْمُ الرَّهْنِ ، كَحَقِّ مِنْ لَا رَهْنَ لَهُ مَعَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي تَرِكَةِ مُفْلِسٍ ، إذَا أَسْقَطَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ ظَهَرَ حُكْمُ الْآخَرِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ قِيلَ لِلْمُرْتَهِنِ : أَنْتَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِدَائِهِ وَبَيْنَ تَسْلِيمِهِ فَإِنْ اخْتَارَ فِدَاءَهُ ، فَبِكَمْ يَفْدِيه ؟ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ .
فَإِنْ فَدَاهُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ، رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْحَقَّ عَنْهُ بِإِذْنِهِ ، فَرَجَعَ بِهِ ، كَمَا لَوْ قَضَى دَيْنَهُ بِإِذْنِهِ ، وَإِنْ فَدَاهُ مُتَبَرِّعًا ، لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءِ .
وَإِنْ نَوَى الرُّجُوعَ ، فَهَلْ يَرْجِعُ بِذَلِكَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَإِنْ زَادَ فِي الْفِدَاءِ عَلَى الْوَاجِبِ ، لَمْ يَرْجِعْ بِهِ ، وَجْهًا وَاحِدًا .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بِمَا فَدَاهُ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ شَرَطَ لَهُ الرَّاهِنُ الرُّجُوعَ ، رَجَعَ ، قَوْلًا وَاحِدًا .
وَإِنْ قَضَاهُ بِإِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الرُّجُوعِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ، وَهَذَا أَصْلٌ يُذْكَرُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَإِنْ فَدَاهُ ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُنْ رَهْنًا بِالْفِدَاءِ مَعَ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ يَمْلِكُ بَيْعَ الْعَبْدِ ، وَإِبْطَالَ الرَّهْنِ ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ الْجَائِزِ قَبْلَ قَبْضِهِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي دَيْنِ الرَّهْنِ قَبْلَ لُزُومِهِ جَائِزَةٌ ، وَلِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ مِنْ الْجِنَايَةِ إلَى الرَّهْنِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ رُهِنَ بِدَيْنٍ ، فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ ثَانِيًا بِدَيْنٍ سِوَاهُ ، كَمَا لَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ سِوَى هَذَا وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ ضَمَانَ جِنَايَةِ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ،
فَإِنْ فَدَاهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالْفِدَاءِ ، وَإِنْ فَدَاهُ الرَّاهِنُ أَوْ بِيعَ فِي الْجِنَايَةِ سَقَطَ دَيْنُ الرَّهْنِ ، إنْ كَانَ بِقَدْرِ الْفِدَاءِ .
وَبِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الرَّهْنَ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ .
وَهَذَا يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ ، إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَإِذَا لَمْ يَفْدِ الْجَانِي .
فَبِيعَ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ ، بَطَلَ الرَّهْنُ ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَغْرِقْهَا ، بِيعَ مِنْهُ بِقَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَبَاقِيه رَهْنٌ ، إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ بَيْعُ بَعْضِهِ ، فَيُبَاعَ الْكُلُّ ، وَيُجْعَلَ بَقِيَّةُ الثَّمَنِ رَهْنًا وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : هَلْ يُبَاعُ مِنْهُ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ ، أَمْ يُبَاعُ جَمِيعُهُ ، وَيَكُونُ الْفَاضِلُ مِنْ ثَمَنِهِ عَنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ رَهْنًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
( 3343 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلْقَوَدِ ، كَجِنَايَةِ الْخَطَأِ ، أَوْ شِبْهِ الْعَمْدِ ، أَوْ إتْلَافِ مَالٍ ، فَيَكُونُ هَدْرًا ، لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ لِسَيِّدِهِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ مَالٌ فِي مَالِهِ .
الثَّانِي ، أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلْقَوَدِ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى مَا دُونَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ، فَالْحَقُّ لِلسَّيِّدِ ، فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ ، وَلَمْ يَجِبْ الْمَالُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَكَذَلِكَ إنْ عَفَا عَلَى غَيْرِ مَالٍ .
وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصَّ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَمْلِكُ الْجِنَايَةَ عَلَى عَبْدِهِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ لِلزَّجْرِ ، وَالْحَاجَةُ تَدْعُو إلَى زَجْرِهِ عَنْ سَيِّدِهِ .
فَإِنْ اقْتَصَّ ، فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ ، وَقَضَاءً عَنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ رَهْنًا بِاخْتِيَارِهِ ، فَكَانَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ ، فَلِلْوَرَثَةِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِمْ ، فَكَانَ لَهُمْ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ .
وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ ، كَالْمَذْهَبَيْنِ .
فَإِنْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ ، سَقَطَ الْقِصَاصُ ، وَهَلْ يَثْبُتُ لِغَيْرِ الْعَافِي نَصِيبُهُ مِنْ الدِّيَةِ ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
( 3344 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ عَلَى عَبْدٍ لِسَيِّدِهِ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ لَا يَكُونَ مَرْهُونًا ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى طَرَفِ سَيِّدِهِ ، لَهُ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ مُوجِبَةً لَهُ ، وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ ، ذَهَبَتْ هَدْرًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ .
الْحَالُ الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ رَهْنًا ، فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ مُرْتَهِنِ الْقَاتِلِ ، أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ مُرْتَهِنِ الْقَاتِلِ وَالْجِنَايَةُ مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ ، فَلِسَيِّدِهِ الْقِصَاصُ .
فَإِنْ اقْتَصَّ ، بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمُقْتَصِّ مِنْهُ ، فَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ ، أَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ ، وَكَانَا رَهْنًا بِحَقٍّ وَاحِدٍ فَجِنَايَتُهُ ، هَدْرٌ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِذَا قُتِلَ أَحَدُهُمَا ، بَقِيَ الْحَقُّ مُتَعَلِّقًا بِالْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرْهُونًا بِحَقِّ مُفْرَدٍ ، فَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ ؛ ( 3345 ) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ، أَنْ يَكُونَ الْحَقَّانِ سَوَاءً ، وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءً ، فَتَكُونَ الْجِنَايَةُ هَدْرًا ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَقَّانِ مِنْ جِنْسَيْنِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَالْآخَرُ أَلْفَ دِرْهَمٍ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِينَارٍ ، أَوْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ .
( 3346 ) الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنْ يَخْتَلِفَ الْحَقَّانِ وَتَتَّفِقَ الْقِيمَتَانِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ دَيْنُ أَحَدِهِمَا مِائَةً وَدَيْنُ الْآخَرِ مِائَتَيْنِ ، وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ ، فَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْقَاتِلِ أَكْثَرَ ، لَمْ يُنْقَلْ إلَى دَيْنِ الْمَقْتُولِ ، لِعَدَمِ الْغَرَضِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ ، نُقِلَ إلَى الْقَاتِلِ ، لِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ ، غَرَضًا فِي ذَلِكَ .
وَهَلْ يُبَاعُ الْقَاتِلُ
، وَتُجْعَلُ قِيمَتُهُ رَهْنًا مَكَانَ الْمَقْتُولِ ، أَوْ يُنْقَلُ بِحَالِهِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يُبَاعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَالثَّانِي ، يُبَاعُ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا زَادَ فِيهِ مُزَايِدٌ ، فَبَلَّغَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَإِنْ عُرِضَ لِلْبَيْعِ فَلَمْ يُزَدْ فِيهِ ، لَمْ يُبَعْ ، لِعَدَمِ ذَلِكَ ( 3347 ) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ؛ أَنْ يَتَّفِقَ الدَّيْنَانِ وَتَخْتَلِفَ الْقِيمَتَانِ ، بِأَنْ يَكُونَ دَيْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةً ، وَقِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَةً ، وَالْآخَرُ مِائَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ ، فَلَا غَرَضَ فِي النَّقْلِ ، فَيَبْقَى بِحَالِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَانِي أَكْثَرَ ، بَيْعَ مِنْهُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ ، يَكُونُ رَهْنًا بِدَيْنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَالْبَاقِي رَهْنٌ بِدَيْنِهِ ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَبْقِيَتِهِ وَنَقْلِ الدَّيْنِ إلَيْهِ ، صَارَ مَرْهُونًا بِهِمَا ، فَإِنْ حَلَّ أَحَدُ الدَّيْنَيْنِ ، بِيعَ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دَيْنُهُ الْمُعَجَّلَ بِيعَ لِيُسْتَوْفَى مِنْ ثَمَنِهِ ، وَمَا بَقِيَ مِنْهُ رَهْنٌ بِالدَّيْنِ الْآخَرِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُعَجَّلَ الْآخَرُ بِيعَ لِيُسْتَوْفَى بِقَدْرِهِ ، وَالْبَاقِي رَهْنٌ بِدَيْنِهِ ( 3348 ) الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ ، أَنْ يَخْتَلِفَ الدَّيْنَانِ وَالْقِيمَتَانِ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الدَّيْنَيْنِ خَمْسِينَ وَالْآخَرُ ثَمَانِينَ ، وَقِيمَةُ أَحَدِهِمَا مِائَةً وَالْآخَرُ مِائَتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْمَقْتُولِ أَكْثَرَ ، نُقِلَ إلَيْهِ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ رَهْنًا عِنْدَ غَيْرِ مُرْتَهَنِ الْقَاتِلِ ، فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْجِنَايَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْمَالِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ ، فَالْقِصَاصُ أَوْلَى ، فَإِنْ اقْتَصَّ ، بَطَلَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ لَمْ تُوجِبْ مَالًا يُجْعَلُ رَهْنًا مَكَانَهُ ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ ، وَتَكُونُ رَهْنًا ، لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّ الْوَثِيقَةِ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ ،
وَلِلسَّيِّدِ الْعَفْوُ عَلَى مَالٍ ، فَتَصِيرُ الْجِنَايَةُ كَالْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَالِ ، فَيَثْبُتُ الْمَالُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ جَنَى عَلَى الْعَبْدِ ، لَوَجَبَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَلَأَنْ يَثْبُتَ عَلَى عَبْدِهِ أَوْلَى فَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ لَا يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ ، بِعْنَا مِنْهُ بِقَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ، يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ مُرْتَهِنِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَبَاقِيه بَاقٍ عِنْدَ مُرْتَهِنِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بَيْعُ بَعْضِهِ ، بِيعَ جَمِيعُهُ ، وَقُسِّمَ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ ، يَكُونُ رَهْنًا .
وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ تَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ ، نُقِلَ الْجَانِي ، فَجُعِلَ رَهْنًا عِنْدَ الْآخَرِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُبَاعَ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرْغَبَ فِيهِ رَاغِبٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَيَفْضُلُ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْءٌ يَكُنْ رَهْنًا عِنْدَ مُرْتَهِنِهِ .
وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
( 3349 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى مَوْرُوثِ سَيِّدِهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، كَأَطْرَافِهِ أَوْ مَالِهِ ، فَهِيَ كَالْجِنَايَةِ عَلَى أَجْنَبِيٍّ ، وَلَهُ الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لَهُ ، وَالْعَفْوُ عَلَى مَالٍ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلْمَالِ ابْتِدَاءً ، ثَبَتَ ، فَإِنْ انْتَقَلَ ذَلِكَ إلَى السَّيِّدِ بِمَوْتِ الْمُسْتَحِقِّ ، فَلَهُ مَا لِمُوَرِّثِهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ عَلَى مَالٍ ، لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ أَقْوَى مِنْ الِابْتِدَاءِ ، فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِهَا مَا لَا يَثْبُتُ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَتْلِ ، ثَبَتَ الْحُكْمُ لِسَيِّدِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ فِيمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ .
وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ ، أَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ ابْتِدَاءً ، فَهَلْ يَثْبُتُ لِلسَّيِّدِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَثْبُتُ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى غَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَتْ الْجِنَايَةَ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَثْبُتُ لَهُ مَالُهُ فِي عَبْدِهِ ، وَلَا لَهُ الْعَفْوُ عَلَيْهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِلسَّيِّدِ ابْتِدَاءً ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ .
وَأَصْلُ الْوَجْهَيْنِ ، وُجُوبُ الْحَقِّ فِي ابْتِدَائِهِ هَلْ يَثْبُتُ لِلْقَتِيلِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى وَارِثِهِ ، أَوْ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَثْبُتُ لَهُ الْمَالُ فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْمَوْرُوثِ كَذَلِكَ ، فَيَنْتَقِلُ إلَى وَارِثِهِ كَذَلِكَ ، وَإِنْ اقْتَصَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ بَدَلُ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُدِّمَ الْمَالُ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَالْقِصَاصُ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ يَثْبُتُ لِلْمَوْرُوثِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ وَارِثِهِ .
( 3350 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى مُكَاتَبِ السَّيِّدِ ، فَهِيَ كَالْجِنَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ ، وَتَعْجِيزُهُ كَمَوْتِ وَلَدِهِ ، فِيمَا ذَكَرْنَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 3351 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَكَانَ مِمَّنْ يَعْلَمُ تَحْرِيمَ الْجِنَايَةِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْ سَيِّدِهِ ، فَهِيَ كَالْجِنَايَةِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا ، أَوْ صَبِيًّا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ ، فَالسَّيِّدُ هُوَ الْقَاتِلُ ، وَالْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ مُتَعَلِّقَانِ بِهِ ، لَا يُبَاعُ الْعَبْدُ فِيهَا ، مُوسِرًا كَانَ السَّيِّدُ أَوْ مُعَسِّرًا كَمَا لَوْ بَاشَرَ السَّيِّدُ الْقَتْلَ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّ الْعَبْدَ يُبَاعُ إذَا كَانَ السَّيِّدُ مُعَسِّرًا ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ الْجِنَايَةَ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ آلَةٌ ، فَلَوْ تَعَلَّقَتْ الْجِنَايَةُ بِهِ بِيعَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ السَّيِّدُ مُوسِرًا ، وَحُكْمُ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ ، حُكْمُ إقْرَارِ الْعَبْدِ غَيْرِ الْمَرْهُونِ ، عَلَى مَا مَضَى بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
( 3352 ) مَسْأَلَةٌ قَالَ : وَإِنْ جُرِحَ الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ ، أَوْ قُتِلَ ، فَالْخَصْمُ فِي ذَلِكَ سَيِّدُهُ ، وَمَا قَبَضَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ رَهْنٌ وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا جُنِيَ عَلَى الرَّهْنِ ، فَالْخَصْمُ فِي ذَلِكَ سَيِّدُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ ، وَالْأَرْشُ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ مِلْكُهُ ، وَإِنَّمَا لِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقُّ الْوَثِيقَةِ ، فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ وَالْمُودَعِ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ .
فَإِنْ تَرَكَ الْمُطَالَبَةَ ، أَوْ أَخَّرَهَا ، أَوْ كَانَ غَائِبًا ، أَوْ لَهُ عُذْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْهَا ، فَلِلْمُرْتَهِنِ الْمُطَالَبَةُ بِهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمُوجِبِهَا ، فَكَانَ لَهُ الطَّلَبُ بِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْجَانِي سَيِّدُهُ .
ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْقِصَاصِ ، فَلِلسَّيِّدِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِيُسْتَوْفَى ، فَإِنْ اقْتَصَّ ، أُخِذَتْ مِنْهُ قِيمَةُ أَقَلِّهِمَا قِيمَةً ، فَجُعِلَتْ مَكَانَهُ رَهْنًا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ بِالْجِنَايَةِ مَالٌ ، وَلَا اُسْتُحِقَّ بِحَالِ ، وَلَيْسَ عَلَى الرَّاهِنِ أَنْ يَسْعَى لِلْمُرْتَهِنِ فِي اكْتِسَابِ مَالٍ وَلَنَا ، أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا اُسْتُحِقَّ بِسَبَبِ إتْلَافِ الرَّهْنِ ، فَغَرِمَ قِيمَتَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الْقِصَاصُ لِلسَّيِّدِ فِي عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا أَقَلِّ الْقِيمَتَيْنِ ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ ، وَالْوَاجِبُ مِنْ الْمَالِ هُوَ أَقَلُّ الْقِيمَتَيْنِ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ إنْ كَانَ أَقَلَّ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِي أَقَلَّ لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَإِنْ عَفَا عَلَى مَالٍ صَحَّ عَفْوُهُ ، وَوَجَبَ أَقَلُّ الْقِيمَتَيْنِ ، لِمَا ذَكَرْنَا هَذَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ قَتْلًا ، وَإِنْ كَانَ جُرْحًا أَوْ قَلْعَ
سِنٍّ وَنَحْوَهُ ، فَالْوَاجِبُ بِالْعَفْوِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ ؛ مِنْ أَرْشِ الْجُرْحِ ، أَوْ قِيمَةِ الْجَانِي .
وَإِنْ عَفَا مُطْلَقًا ، أَوْ عَلَى غَيْرِ مَالٍ ، انْبَنِي ذَلِكَ عَلَى مُوجِبِ الْعَمْدِ مَا هُوَ ؟ فَإِنْ قُلْنَا : مُوجِبُهُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ .
ثَبَتَ الْمَالُ وَإِنْ قُلْنَا : مُوجِبُهُ الْقِصَاصُ عَيْنًا ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ اقْتَصَّ ؛ إنْ قُلْنَا ثَمَّ : يَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى الرَّاهِنِ .
وَجَبَ هَاهُنَا .
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ بَدَلَ الرَّهْنِ بِفِعْلِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ اقْتَصَّ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَجِبُ عَلَى الرَّاهِنِ شَيْءٌ ثَمَّ .
لَمْ يَجِبْ هَاهُنَا شَيْءٌ .
وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ مَالٍ ، فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُوجِبَةً لِلْمَالِ ، أَوْ ثَبَتَ الْمَالُ بِالْعَفْوِ عَنْ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ ، وَيَكُونُ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ ، كَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ ، فَلَوْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْهَا ، أَوْ يَأْخُذَ حَيَوَانًا عَنْهَا ، لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ أَذِنَ فِيهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَخْرُجُ عَنْهُمَا ، وَمَا قَبَضَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ رَهْنٌ ، بَدَلًا عَنْ الْأَوَّلِ ، نَائِبًا عَنْهُ ، وَقَائِمًا مَقَامَهُ ، فَإِنْ عَفَا الرَّاهِنُ عَنْ الْمَالِ ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَسْقُطُ حَقُّ الرَّاهِنِ دُونَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَتُؤْخَذُ الْقِيمَةُ تَكُنْ رَهْنًا ، فَإِذَا زَالَ الرَّهْنُ رَجَعَ الْأَرْشُ إلَى الْجَانِي ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّ الرَّهْنَ مَغْصُوبٌ أَوْ جَانٍ وَإِنْ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ مِنْ الْأَرْشِ ، احْتَمَلَ أَنْ يَرْجِعَ الْجَانِي عَلَى الْعَافِي ؛ لِأَنَّ مَالَهُ ذَهَبَ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ ، فَلَزِمَتْهُ غَرَامَتُهُ ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ أَوْ اسْتَعَارَهُ فَرَهَنَهُ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِي حَقِّ الْجَانِي مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الضَّمَانِ ، وَإِنَّمَا اُسْتُوْفِيَ بِسَبَبِ كَانَ مِنْهُ حَالَ