الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
( 3722 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ادَّعَى الْعَامِلُ رَدَّ الْمَالِ ، فَأَنْكَرَ رَبُّ الْمَالِ ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا كَقَوْلِنَا .
وَالْآخَرُ : يُقْبَلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، وَلِأَنَّ مُعْظَمَ النَّفْعِ لِرَبِّ الْمَالِ ، فَالْعَامِلُ كَالْمُودَعِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ ، كَالْمُسْتَعِيرِ ، وَلِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مُنْكِرٌ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
وَفَارَقَ الْمُودَعَ ؛ فَإِنَّهُ لَا نَفْعَ لَهُ فِي الْوَدِيعَةِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ مُعْظَمَ النَّفْعِ لِرَبِّ الْمَالِ .
يَمْنَعُهُ ، وَإِنْ سُلِّمَ إلَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ لَمْ يَقْبِضْهُ إلَّا لِنَفْعِ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَأْخُذْهُ لِنَفْعِ رَبِّ الْمَالِ .
( 3723 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : رَبِحْت أَلْفًا .
ثُمَّ قَالَ : خَسِرْت ذَلِكَ .
قُبِلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِي الْخَسَارَةِ ، كَالْوَكِيلِ .
وَإِنْ قَالَ : غَلِطْت أَوْ نَسِيت .
لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِحَقٍّ لِآدَمِي ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرُّجُوعِ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفٌ ثُمَّ رَجَعَ .
وَلَوْ أَنَّ الْعَامِلَ خَسِرَ ، فَقَالَ لِرَجُلِ : أَقْرِضْنِي مَا أُتَمِّمُ بِهِ رَأْسَ الْمَالِ لِأَعْرِضَهُ عَلَى رَبِّهِ ، فَإِنَّنِي أَخْشَى أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي إنْ عَلِمَ بِالْخَسَارَةِ .
فَأَقْرَضَهُ ، فَعَرَضَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَقَالَ : هَذَا رَأْسُ مَالِكَ .
فَأَخَذَهُ ، فَلَهُ ذَلِكَ .
وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُ الْعَامِلِ عَنْ إقْرَارِهِ إنْ رَجَعَ .
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُقْرِضِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا .
وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مَلَكَهُ بِالْقَرْضِ ، ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ الْمُقْرِضُ عَلَى الْعَامِلِ لَا غَيْرُ .
( 3724 ) فَصْلٌ : وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلَيْنِ مَالًا قِرَاضًا عَلَى النِّصْفِ ، فَنَضَّ الْمَالُ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَانِ ، فَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا ، وَقَالَ الْآخَرُ : بَلْ هُوَ أَلْفٌ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ .
فَإِذَا حَلَفَ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ أَلْفٌ وَالرِّبْحَ أَلْفَانِ ، فَنَصِيبُهُ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ ، يَبْقَى أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ ، يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ أَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ يُصَدِّقُهُ ، وَيَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ رِبْحًا بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَامِلِ الْآخَرِ ، يَقْتَسِمَانِهَا أَثْلَاثًا ، لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَاهَا ، وَلِلْعَامِلِ ثُلُثُهَا مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ ، وَلِرَبِّ الْمَالِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ رَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ نِصْفُهُ ، وَنَصِيبَ هَذَا الْعَامِلِ رُبْعُهُ ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بَاقِي الرِّبْحِ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، وَمَا أَخَذَهُ الْحَالِفُ فِيمَا زَادَ عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِ كَالتَّالِفِ مِنْهُمَا ، وَالتَّالِفُ يَحْسِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ مِنْ الرِّبْحِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
( 3725 ) فَصْلٌ : وَإِنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفًا يَتَّجِرُ فِيهِ ، فَرِبْحَ ، فَقَالَ الْعَامِلُ : كَانَ قَرْضًا لِي رِبْحُهُ كُلُّهُ .
وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : كَانَ قِرَاضًا فَرِبْحُهُ بَيْنَنَا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي صِفَةِ خُرُوجِهِ عَنْ يَدِهِ .
فَإِذَا حَلَفَ قَسَمْنَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَحَالَفَا ، وَيَكُونَ لِلْعَامِلِ أَكْثَرُ الْأَمْرَيْنِ مِمَّا شَرَطَهُ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ أَجْرِ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَكْثَرُ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ ، فَرَبُّ الْمَالِ مُعْتَرِفٌ لَهُ بِهِ ، وَهُوَ يَدَّعِي الرِّبْحَ كُلَّهُ ، وَإِنْ كَانَ أَجْرُ مِثْلِهِ أَكْثَرَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي عَمَلِهِ مَعَ يَمِينِهِ .
كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي رِبْحِ مَالِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ مَا عَمِلَ بِهَذَا الشَّرْطِ ، وَإِنَّمَا عَمِلَ لِغَرَضٍ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ ، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ .
وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ ، فَنَصَّ ، أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ، أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ ، وَيُقْسَمُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ : كَانَ بِضَاعَةً .
وَقَالَ الْعَامِلُ : بَلْ كَانَ قِرَاضًا .
احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَهُ لَهُ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَتَحَالَفَا ، وَيَكُونَ لِلْعَامِلِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ أَجْرِ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ زِيَادَةً عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ أَجْرَ مِثْلِهِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ قِرَاضًا ، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ .
وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ : كَانَ بِضَاعَةً .
وَقَالَ الْعَامِلُ : كَانَ قَرْضًا .
حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى إنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ ، وَكَانَ لَهُ أَجْرُ عَمَلِهِ لَا غَيْرُ .
وَإِنْ خَسِرَ الْمَالُ أَوْ تَلِفَ ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : كَانَ قَرْضًا .
وَقَالَ الْعَامِلُ : كَانَ قِرَاضًا أَوْ
بِضَاعَةً .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ .
( 3726 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَطَ الْمُضَارِبُ النَّفَقَةَ ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ إنَّمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ ، فَلَهُ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فِي يَدَيْهِ ، أَوْ قَدْ رَجَعَ إلَى مَالِكِهِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ الْمَالُ بَاقِيًا فِي يَدَيْهِ ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ بَعْدَ رَدِّهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَمِينٌ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ ، وَكَالْوَصِيِّ إذَا ادَّعَى النَّفَقَةَ عَلَى الْيَتِيمِ .
( 3727 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَ عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا بِأَمْرِ الْآخَرِ بِأَلْفٍ ، وَقَالَ : لَمْ أَقْبِضْ ثَمَنَهُ .
وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ قَبَضَهُ ، وَصَدَّقَهُ الَّذِي لَمْ يَبِعْ ، بَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْ نِصْفِ ثَمَنِهِ ؛ لِاعْتِرَافِ شَرِيكِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ وَكِيلِهِ حَقَّهُ ، فَبَرِئَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ ، وَتَبْقَى الْخُصُومَةُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَشَرِيكِهِ وَالْمُشْتَرِي .
فَإِنْ خَاصَمَهُ شَرِيكُهُ ، وَادَّعَى عَلَيْهِ إنَّك قَبَّضْته نَصِيبِي مِنْ الثَّمَنِ .
فَأَنْكَرَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ قُضِيَ بِهَا عَلَيْهِ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُشْتَرِي لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِهَا إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا .
وَإِنْ خَاصَمَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ ، فَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ ، وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ .
فَإِذَا حَلَفَ ، أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ شَرِيكُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ ظُلْمًا ، فَلَا يَسْتَحِقُّ مُشَارَكَتَهُ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُشْتَرِي بَيِّنَةٌ ، حُكِمَ بِهَا ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شَرِيكِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ بِهَا إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا ، وَمِنْ شَهِدَ بِشَهَادَةٍ تَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْكُلِّ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُخَاصَمَةِ الشَّرِيكِ قَبْلَ مُخَاصَمَةِ الْمُشْتَرِي أَوْ بَعْدَهَا .
وَإِنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّ شَرِيكَ الْبَائِعِ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْهُ ، فَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ ، نَظَرْت ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ أَذِنَ لِشَرِيكِهِ فِي الْقَبْضِ ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْقَبْضِ ، لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّةُ الْمُشْتَرِي مِنْ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يُوَكِّلْهُ فِي الْقَبْضِ ، فَقَبْضُهُ لَهُ لَا يَلْزَمُهُ ، وَلَا يَبْرَأُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ ، كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ .
وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ
الْمُشْتَرِي عَلَى شَرِيكِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُهُ ، وَلِلْبَائِعِ الْمُطَالَبَةُ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ شَرِيكَهُ قَبَضَ حَقَّهُ .
وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ دَفْعُ نَصِيبِهِ إلَيْهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَمِينٍ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُقِرٌّ بِبَقَاءِ حَقِّهِ .
وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى شَرِيكِهِ ، لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ ، فَإِذَا قَبَضَ حَقَّهُ ، فَلِشَرِيكِهِ مُشَارَكَتُهُ فِيمَا قَبَضَ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَهُمَا ثَابِتٌ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ، فَمَا قَبَضَ مِنْهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَوْ كَانَ مِيرَاثًا .
وَلَهُ أَنْ لَا يُشَارِكَهُ ، وَيُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِحَقِّهِ كُلِّهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الشَّرِيكُ مُشَارَكَتَهُ فِيمَا قَبَضَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ ثَمَنَ نَصِيبِهِ الَّذِي يَنْفَرِدُ بِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ مُشَارَكَتُهُ فِيمَا قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ فِي صَفْقَةٍ .
وَيُخَالِفُ الْمِيرَاثَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْوَرَثَةِ لَا يَتَبَعَّضُ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ تَبْعِيضُهُ ، وَهَا هُنَا يَتَبَعَّضُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ عَقْدَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْوَارِثَ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْرُوثِ ، فَكَانَ مَا يَقْبِضُهُ لِلْمَوْرُوثِ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْوَرَثَةِ ، بِخِلَافِ .
مَسْأَلَتِنَا ، فَإِنَّ مَا يَقْبِضُهُ لِنَفْسِهِ .
فَإِنْ قُلْنَا : لَهُ مُشَارَكَتُهُ فِيمَا قَبَضَ .
فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَيَأْخُذُ مِنْ الْقَابِضِ نِصْفَ مَا قَبَضَهُ ، وَيُطَالِبُ الْمُشْتَرِيَ بِبَقِيَّةِ حَقِّهِ ، إذَا حَلَفَ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ مَا قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا .
وَلَيْسَ لِلْمَقْبُوضِ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضِ مَا أَخَذَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ ، وَإِنَّمَا أَخَذَ مِنْهُ ظُلْمًا ، فَلَا يَرْجِعُ بِمَا ظَلَمَهُ هَذَا عَلَى غَيْرِهِ .
وَإِنْ خَاصَمَ الْمُشْتَرِي شَرِيكَ الْبَائِعِ ، فَادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْهُ ،
فَكَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، حُكِمَ بِهَا .
وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَائِعِ لَهُ إذَا كَانَ عَدْلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا ، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضَرَرًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ شَرِيكَهُ قَبَضَ الثَّمَنَ ، لَمْ يَمْلِكْ مُطَالَبَتَهُ بِشَيْءِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لَهُ فِي الْقَبْضِ ، فَلَا يَقَعُ قَبْضُهُ لَهُ .
هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا ، وَعِنْدِي لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرَ مُشَارَكَةِ شَرِيكِهِ لَهُ فِيمَا يَقْبِضُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي .
وَإِذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ ، فَحَلَفَ ، أَخَذَ مِنْ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ ، وَإِنْ نَكَلَ ، أَخَذَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ نِصْفَهُ .
( 3728 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، فَغَصَبَ رَجُلٌ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا ، بِأَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى الْعَبْدِ ، وَيَمْنَعَ أَحَدَهُمَا الِانْتِفَاعَ دُونَ الْآخَرِ ، ثُمَّ إنَّ مَالِكَ نِصْفِهِ وَالْغَاصِبَ بَاعَا الْعَبْدَ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، صَحَّ فِي نَصِيبِ الْمَالِكِ ، وَبَطَلَ فِي نَصِيبِ الْغَاصِبِ .
وَإِنْ وَكَّلَ الشَّرِيكُ الْغَاصِبَ ، أَوْ وَكَّلَ الْغَاصِبُ الشَّرِيكَ فِي الْبَيْعِ ، فَبَاعَ الْعَبْدَ كُلَّهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، بَطَلَ فِي نَصِيبِ الْغَاصِبِ ، فِي الصَّحِيحِ .
وَهَلْ يَصِحُّ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ هَاهُنَا وَقَعَتْ وَاحِدَةً ، وَقَدْ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي بَعْضِهَا ، فَبَطَلَ فِي سَائِرِهَا .
بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَالِكُ وَالْغَاصِبُ ، فَإِنَّهُمَا عَقْدَانِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ عَقْدَانِ .
وَلَوْ أَنَّ الْغَاصِبَ ذَكَرَ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ وُكِّلَ فِي نِصْفِهِ ، لَصَلَحَ فِي نَصِيبِ الْآذِنِ ؛ لِكَوْنِهِ كَالْعَقْدِ الْمُنْفَرِدِ .
( 3729 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ دَيْنٌ لِسَبَبِ وَاحِدٍ ؛ إمَّا عَقْدٌ أَوْ مِيرَاثٌ أَوْ اسْتِهْلَاكٌ أَوْ غَيْرُهُ ، فَقَبَضَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ شَيْئًا ، فَلِلْآخَرِ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ .
هَذَا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ دُونَ صَاحِبِهِ ، وَلَا يُشَارِكَهُ الْآخَرُ فِيمَا أَخَذَهُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ ، وَأَبِي قِلَابَةَ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ قِيلَ لِأَحْمَدَ : بِعْت أَنَا وَصَاحِبِي مَتَاعًا بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، فَأَعْطَانِي حَقِّي ، وَقَالَ : هَذَا حَقُّك خَاصَّةً ، وَأَنَا أُعْطِي شَرِيكَك بَعْدُ .
قَالَ : لَا يَجُوزُ .
قِيلَ لَهُ : فَإِنْ أَخَّرَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ حَقِّهِ دُونَ صَاحِبِهِ ؟ قَالَ : يَجُوزُ .
قِيلَ : فَقَدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : لَهُ أَنْ يَأْخُذَ دُونَ صَاحِبِهِ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ ، وَيُبْرِئَهُ دُونَ صَاحِبِهِ ؟ فَفَكَّرَ فِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا يُشْبِهُ الْمِيرَاثَ إذَا أَخَذَ مِنْهُ بَعْضَ الْوَرَثَةِ دُونَ بَعْضٍ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَأَبُو قِلَابَةَ وَأَبُو الْعَالِيَةِ : مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ نَصِيبِهِ .
قَالَ : فَرَأَيْته قَدْ احْتَجَّ لَهُ وَأَجَازَهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْعَمَلُ عِنْدِي عَلَى مَا رَوَاهُ حَرْبٌ وَحَنْبَلٌ ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَحْمَدُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالرُّجُوعِ عَمَّا قَالَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الْقَابِضِ مَا أَخَذَهُ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ قِسْمَةِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ رِضَى الشَّرِيكِ ، فَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ وَالْبَاقِي جَمِيعًا مُشْتَرَكًا ، وَلِغَيْرِ الْقَابِضِ الرُّجُوعُ عَلَى الْقَابِضِ بِنِصْفِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِهِ ، أَوْ أَخْرَجَهُ عَنْهَا بِرَهْنٍ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَرِيمِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ لَهُمَا عَلَى وَجْهٍ سَوَاءٍ ، فَلَيْسَ لَهُ تَسْلِيمُ حَقِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ الْغَرِيمِ لَمْ يَرْجِعْ
عَلَى الشَّرِيكِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ يَثْبُتُ فِي أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الْآخَرِ ، وَلَيْسَ لِلْقَابِضِ مَنْعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَرِيمِ ، بِأَنْ يَقُولَ : أَنَا أُعْطِيك نِصْفَ مَا قَبَضْت .
بَلْ الْخِيرَةُ إلَيْهِ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ قَبَضَ ، فَإِنْ قَبَضَ مِنْ شَرِيكِهِ شَيْئًا ، رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى الْغَرِيمِ بِمِثْلِهِ ، وَإِنْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ الْقَابِضِ ، تَعَيَّنَ حَقُّهُ فِيهِ ، وَلَمْ يَضْمَنْهُ لِلشَّرِيكِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْرُ حَقِّهِ فِيمَا تَعَدَّى بِالْقَبْضِ ، وَإِنَّمَا كَانَ لِشَرِيكِهِ مُشَارَكَتُهُ لِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ مُشْتَرَكًا .
وَإِنْ أَبْرَأَ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ حَقِّهِ ، بَرِئَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَلَفِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ غَرِيمُهُ بِشَيْءٍ .
وَإِنْ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا مِنْ عُشْرِ الدَّيْنِ ، ثُمَّ قَبَضَا مِنْ الدَّيْنِ شَيْئًا ، اقْتَسَمَاهُ عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا فِي الْبَاقِي ؛ لِلْمُبْرِئِ أَرْبَعَةُ أَتْسَاعِهِ ، وَلِشَرِيكِهِ خَمْسَةُ أَتْسَاعِهِ .
وَإِنْ قَبَضَا نِصْفَ الدَّيْنِ ، ثُمَّ أَبْرَأَ أَحَدَهُمَا مِنْ عُشْرِ الدَّيْنِ كُلِّهِ ، نَفَذَتْ بَرَاءَتُهُ فِي خُمْسِ الْبَاقِي ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ ؛ لِلْمُبْرِئِ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ ، وَلِلْآخَرِ خَمْسَةُ أَثْمَانِهِ ، فَمَا قَبَضَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ اقْتَسَمَاهُ عَلَى هَذَا .
وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ ثَوْبًا ، فَلِلْآخَرِ إبْطَالُ الشِّرَاءِ فَإِنْ بَذَلَ لَهُ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّوْبِ ، وَلَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ ، لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ .
وَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ لِيَمْلِكَ نِصْفَ الثَّوْبِ ، انْبَنَى عَلَى بَيْعِ الْفُضُولِيِّ ، هَلْ يَقِفُ عَلَى الْإِجَازَةِ أَوْ لَا ؟ وَإِنْ أَخَّرَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ مِنْ الدَّيْنِ ، جَازَ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَسْقَطَ حَقَّهُ جَازَ ، فَتَأْخِيرُهُ أَوْلَى .
فَإِنْ قَبَضَ الشَّرِيكُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا ، لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَالْأَوْلَى أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْحَالَّ لَا يَتَأَجَّلُ
بِالتَّأْجِيلِ ؛ فَوُجُودُ التَّأْجِيلِ كَعَدَمِهِ .
فَأَمَّا إنْ قُلْنَا بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَأَنَّ مَا يَقْبِضُهُ أَحَدُهُمَا لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ ، فَوَجْهُهَا أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْعَيْنِ إلَّا بِتَسْلِيمِهِ إلَى غَرِيمِهِ أَوْ وَكِيلِهِ ، وَمَا قَبَضَهُ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ فِيهِ قَبْضٌ ، وَلَا لِوَكِيلِهِ ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ ، وَكَانَ لِقَابِضِهِ ؛ لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ بِحَقٍّ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ بِسَبَبَيْنِ .
وَلَيْسَ هَذَا قِسْمَةَ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ حَقُّهُ بِقَبْضِهِ ، فَأَشْبَهَ تَعْيِينَهُ بِالْإِبْرَاءِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِغَيْرِ الْقَابِضِ حَقٌّ فِي الْمَقْبُوضِ ، لَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِهِ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقَبْضَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ ، لَمْ يُشَارِكْهُ غَيْرُهُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ بِسَبَبَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مُطَالَبَتُهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الذِّمَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَ غَاصِبٌ مِنْهُ مَالًا ، فَعَلَى هَذَا مَا قَبَضَهُ الْقَابِضُ يَخْتَصُّ بِهِ دُونَ شَرِيكِهِ ، وَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ .
وَإِنْ اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ ثَوْبًا ، صَحَّ ، وَلَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِهِ إبْطَالُ الشِّرَاءِ .
وَإِنْ قَبَضَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ ، لَمْ يَبْرَأْ الْغَرِيمُ مِمَّا زَادَ عَلَى حَقِّهِ .
( 3730 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي قِسْمَةِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَمِ ، فَنَقَلَ حَنْبَلٌ مَنْعَ ذَلِكَ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الذِّمَمَ لَا تَتَكَافَأُ وَلَا تَتَعَادَلُ ، وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِي التَّعْدِيلَ .
وَأَمَّا الْقِسْمَةُ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيلٍ فَهِيَ بَيْعٌ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ .
فَعَلَى هَذَا لَوْ تَقَاسَمَا ، ثُمَّ تَوِيَ بَعْضُ الْمَالِ ، رَجَعَ مَنْ تَوِيَ مَالُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَتْوَ .
وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ ، وَالنَّخَعِيُّ .
وَنَقَلَ حَرْبٌ جَوَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ لَا يَمْنَعُ الْقِسْمَةَ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَتْ الْأَعْيَانُ .
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَإِسْحَاقُ .
فَعَلَى هَذَا لَا يَرْجِعُ مَنْ تَوِيَ مَالُهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَتْوَ ، إذَا أَبْرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ .
وَهَذَا إذَا كَانَ فِي ذِمَمٍ ، فَأَمَّا فِي ذِمَّةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَا تُمْكِنُ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ إفْرَازُ الْحَقِّ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي ذِمَّةٍ وَاحِدَةٍ .
( 3731 ) فُصُول فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ : يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ سَيِّدِهِ ، فَجَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِإِذْنِهِ .
وَيَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ فِي قَدْرِ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ إنَّمَا جَازَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، فَزَالَ الْحَجْرُ فِي قَدْرِ مَا أَذِنَ فِيهِ ، كَالْوَكِيلِ .
فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا يَتَّجِرُ بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيَتَّجِرَ فِيهِ .
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ فِي ذِمَّتِهِ ، جَازَ .
وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ نَوْعًا مِنْ الْمَالِ يَتَّجِرُ فِيهِ ، جَازَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ التِّجَارَةُ فِي غَيْرِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي غَيْرِهِ ، وَيَنْفَكُّ عَنْهُ الْحَجْرُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ إطْلَاقٌ مِنْ الْحَجْرِ وَفَكٌّ لَهُ ، وَالْإِطْلَاقُ لَا يَتَبَعَّضُ ، كَبُلُوغِ الصَّبِيِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ مِنْ جِهَةِ الْآدَمِيِّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ ، كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ .
وَمَا قَالَهُ يُنْقَضُ بِمَا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ ثَوْبٍ لِيَلْبَسَهُ ، أَوْ طَعَامٍ لِيَأْكُلَهُ ، وَيُخَالِفُ الْبُلُوغَ ؛ فَإِنَّهُ يَزُولُ بِهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحَجْرِ ، فَإِنَّ الْبُلُوغَ مَظِنَّةُ كَمَالِ الْعَقْلِ ، الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ ، وَهَا هُنَا الرِّقُّ سَبَبُ الْحَجْرِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ ، فَنَظِيرُ الْبُلُوغِ فِي الصَّبِيِّ الْعِتْقُ لِلْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ الْعَبْدُ بِالْإِذْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّبِيَّ يَسْتَفِيدُ بِالْبُلُوغِ قَبُولَ النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ ، ( 3732 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُؤْجِرَ نَفْسَهُ ، وَلَا يَتَوَكَّلَ لَإِنْسَانٍ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَأَبَاحَهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ ، فَمَلَكَ ذَلِكَ كَالْمُكَاتَبِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى نَفْسِهِ ، فَلَا يَمْلِكُهُ بِالْإِذْنِ
فِي التِّجَارَةِ ، كَبَيْعِ نَفْسِهِ وَتَزَوُّجِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ .
مَمْنُوعٌ ، بَلْ يَتَصَرَّفُ لِسَيِّدِهِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْمُكَاتَبَ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ سَيِّدِهِ .
( 3733 ) فَصْلٌ : وَإِذَا رَأَى السَّيِّدُ عَبْدَهُ يَتَّجِرُ ، فَلَمْ يَنْهَهُ .
لَمْ يَصِرْ مَأْذُونًا لَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَكَتَ عَنْ حَقِّهِ ، فَكَانَ مُسْقِطًا لَهُ ، كَالشَّفِيعِ إذَا سَكَتَ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَفْتَقِرُ إلَى الْإِذْنِ ، فَلَمْ يَقُمْ السُّكُوتُ مَقَامَ الْإِذْنِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ وَالْمُرْتَهِنُ سَاكِتٌ ، أَوْ بَاعَهُ الْمُرْتَهِنُ وَالرَّاهِنُ سَاكِتٌ ، وَكَتَصَرُّفَاتِ الْأَجَانِبِ .
وَيُخَالِفُ الشُّفْعَةَ ؛ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ إذَا عَلِمَ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا عَلَى الْفَوْرِ .
( 3734 ) فَصْلٌ : وَلَا يَبْطُلُ الْإِذْنُ بِالْإِبَاقِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُ بِهِ وِلَايَةَ السَّيِّدِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا رَهْنُهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْإِبَاقَ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ اسْتِدَامَتَهُ ، كَمَا لَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ أَوْ حُبِسَ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ بَاقٍ وَهُوَ الرِّقُّ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِجَارَتُهُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَيَبْطُلُ بِالْمَغْصُوبِ .
( 3735 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ لِلْمَأْذُونِ التَّبَرُّعُ بِهِبَةِ الدَّرَاهِمِ ، وَلَا كِسْوَةِ الثِّيَابِ .
وَتَجُوزُ هِبَتُهُ الْمَأْكُولَ ، وَإِعَارَةُ دَابَّتِهِ ، وَاِتِّخَاذُ الدَّعْوَةِ ، مَا لَمْ يَكُنْ إسْرَافًا .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَالِ مَوْلَاهُ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَهِبَةِ دَرَاهِمِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ .
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ ، أَنَّهُ تَزَوَّجَ ، فَحَضَرَ دَعْوَتَهُ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ مِنْهُمْ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَحُذَيْفَةُ ، وَأَبُو ذَرٍّ ، فَأَمَّهُمْ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَبْدٌ .
رَوَاهُ صَالِحٌ فِي مَسَائِلِهِ بِإِسْنَادِهِ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِهَذَا بَيْنَ التُّجَّارِ ، فَجَازَ ، كَمَا جَازَ لِلْمَرْأَةِ الصَّدَقَةُ بِكِسْرَةِ الْخُبْزِ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا .
كِتَابُ الْوَكَالَةِ وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } .
فَجَوَّزَ الْعَمَلَ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمُسْتَحِقِّينَ ، وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ } .
وَهَذِهِ وَكَالَةٌ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالْأَثْرَمُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ ، عَنْ أَبِي لَبِيدٍ لُمَازَةَ بْنِ زَبَّارٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ قَالَ { : عُرِضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَبٌ ، فَأَعْطَانِي دِينَارًا ، فَقَالَ : يَا عُرْوَةُ ، ائْتِ الْجَلَبَ ، فَاشْتَرِ لَنَا شَاةً .
قَالَ : فَأَتَيْت الْجَلَبَ ، فَسَاوَمْت صَاحِبَهُ ، فَاشْتَرَيْت شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ ، فَجِئْت أَسُوقُهُمَا ، أَوْ أَقُودُهُمَا ، فَلَقِيَنِي رَجُلٌ بِالطَّرِيقِ ، فَسَاوَمَنِي ، فَبِعْت مِنْهُ شَاةً بِدِينَارٍ ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّينَارِ وَبِالشَّاةِ .
فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا دِينَارُكُمْ ، وَهَذِهِ شَاتُكُمْ .
قَالَ : وَصَنَعْت كَيْفَ ؟ .
قَالَ : فَحَدَّثْته الْحَدِيثَ .
قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ } .
هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ ، فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت لَهُ : إنِّي أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى خَيْبَرَ .
فَقَالَ : ائْتِ وَكِيلِي ، فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا ، فَإِنْ ابْتَغَى مِنْك آيَةً ، فَضَعْ يَدَك عَلَى تَرْقُوَتِهِ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، أَنَّهُ وَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ ، فِي قَبُولِ نِكَاحِ أُمِّ حَبِيبَةَ ، وَأَبَا رَافِعٍ فِي قَبُولِ نِكَاحِ مَيْمُونَةَ .
} وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ
.
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ كُلَّ وَاحِدٍ فِعْلُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا .
( 3736 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَنْ صَحَّ تَصَرُّفُهُ فِي شَيْءٍ بِنَفْسِهِ ، وَكَانَ مِمَّا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ ، صَحَّ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً ، حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا .
وَأَمَّا مَنْ يَتَصَرَّفُ بِالْإِذْنِ ، كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ ، وَالْوَكِيلِ ، وَالْمُضَارِبِ ، فَلَا يَدْخُلُونَ فِي هَذَا .
لَكِنْ يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ التَّوْكِيلُ فِيمَا يَمْلِكُهُ دُونَ سَيِّدِهِ ، كَالطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ ، لَا يُوَكَّلُ إلَّا فِيمَا لَهُ فِعْلُهُ ، مِنْ الطَّلَاقِ وَالْخُلْعِ ، وَطَلَبِ الْقِصَاصِ ، وَنَحْوِهِ .
وَكُلُّ مَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ بِنَفْسِهِ ، وَتَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ ، صَحَّ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ فِيهِ ، إلَّا الْفَاسِقَ ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقْبَلَ النِّكَاحَ لِنَفْسِهِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقْبَلَهُ لِغَيْرِهِ .
وَكَلَامُ أَبِي الْخَطَّابِ يَقْتَضِي جَوَازَ ذَلِكَ .
وَهُوَ الْقِيَاسُ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ ، كَهَذَيْنِ .
فَأَمَّا تَوْكِيلُهُ فِي الْإِيجَابِ ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُثْبِتُ الْوِلَايَةَ لَهُ .
وَذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا : يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَلِيٍّ .
وَوَجْهُ الْوَجْهِ الْآخَرِ ، أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلنِّكَاحِ ، أَشْبَهَ الْوَلِيَّ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيهِ ، كَالْمَرْأَةِ .
وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا ، وَطَلَاقِ غَيْرِهَا .
وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ الْعَبْدِ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهُ لِنَفْسِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَقِفُ ذَلِكَ عَلَى إذْنِ سَيِّدِهِ ، لِيُرْضِيَ بِتَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِهِ .
وَمَنْ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي شَيْءٍ لِنَفْسِهِ ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَكَّلَ فِيهِ ، كَالْمَرْأَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَقَبُولِهِ ، وَالْكَافِرِ فِي تَزْوِيجِ مُسْلِمَةٍ ، وَالطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا .
فَصْلٌ : وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُوَكِّلَ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِنَفْسِهِ .
وَلَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ بِجَعْلٍ ، لِأَنَّهُ مِنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ .
وَلَا يُمْنَعُ الْمُكَاتَبُ مِنْ الِاكْتِسَابِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَكَّلَ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ جَعْلٍ ، إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ كَأَعْيَانِ مَالِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ بَذْلُ عَيْنِ مَالِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَتَوَكَّلَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ لَا يَتَنَاوَلُ التَّوْكِيلَ .
وَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ ، إذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ .
( 3738 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ ، وَمُطَالَبَةِ الْحُقُوقِ ، وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ، حَاضِرًا كَانَ الْمُوَكِّلُ أَوْ غَائِبًا ) .
لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الدَّلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى التَّوْكِيلِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ ، أَوْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى السُّوقِ .
وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ وَلَا يُحْسِنُ التِّجَارَةَ فِيهِ ، وَقَدْ يُحْسِنُ وَلَا يَتَفَرَّغُ ، وَقَدْ لَا تَلِيقُ بِهِ التِّجَارَةُ لِكَوْنِهِ امْرَأَةً ، أَوْ مِمَّنْ يَتَعَيَّرُ بِهَا ، وَيَحُطُّ ذَلِكَ مِنْ مَنْزِلَتِهِ ، فَأَبَاحَهَا الشَّرْعُ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ ، وَتَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الْآدَمِيِّ الْمَخْلُوقِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْحَوَالَةِ ، وَالرَّهْنِ ، وَالضَّمَانِ ، وَالْكَفَالَةِ ، وَالشَّرِكَةِ ، الْوَدِيعَةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ ، وَالْجَعَالَةِ ، وَالْمُسَاقَاةِ ، وَالْإِجَارَةِ ، وَالْقَرْضِ ، وَالصُّلْحِ ، وَالْوَصِيَّةِ ، وَالْهِبَةِ ، وَالْوَقْفِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْفَسْخِ ، وَالْإِبْرَاءِ ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيْعِ فِي الْحَاجَةِ إلَى التَّوْكِيلِ فِيهَا ، فَيَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُهُ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافًا .
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ ، وَأَبَا رَافِعٍ ، فِي قَبُولِ النِّكَاحِ لَهُ } .
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا احْتَاجَ إلَى التَّزَوُّجِ مِنْ مَكَان بَعِيدٍ ، لَا يُمْكِنُهُ السَّفَرُ إلَيْهِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ ، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ .
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الطَّلَاقِ ، وَالْخُلْعِ ، وَالرَّجْعَةِ ، وَالْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ ، كَدُعَائِهَا إلَى التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ .
وَيَجُوزُ
التَّوْكِيلُ فِي تَحْصِيلِ الْمُبَاحَاتِ ، كَإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ ، وَإِسْقَاءِ الْمَاءِ ، وَالِاصْطِيَادِ ، وَالِاحْتِشَاشِ ؛ لِأَنَّهَا تَمَلُّكُ مَالٍ بِسَبَبٍ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ، فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ ، كَالِابْتِيَاعِ وَالِاتِّهَابِ .
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي إثْبَاتِ الْقِصَاصِ ، وَحَدِّ الْقَذْفِ ، وَاسْتِيفَائِهِمَا ، فِي حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ وَغَيْبَتِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَتَدْعُو الْحَاجَةُ إلَى التَّوْكِيلِ فِيهِمَا ، لِأَنَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ قَدْ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِيفَاءَ ، أَوْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ .
( 3739 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي مُطَالَبَةِ الْحُقُوقِ ، وَإِثْبَاتِهَا ، وَالْمُحَاكَمَةِ فِيهَا ، حَاضِرًا كَانَ الْمُوَكِّلُ أَوْ غَائِبًا ، صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِلْخَصْمِ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ مُحَاكَمَةِ الْوَكِيلِ إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا ؛ لِأَنَّ حُضُورَهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ ، وَمُخَاصَمَتَهُ حَقٌّ لِخَصْمِهِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ نَقْلُهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاءِ خَصْمِهِ ، كَالدَّيْنِ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَقٌّ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهِ ، فَكَانَ لِصَاحِبِهِ الِاسْتِنَابَةُ بِغَيْرِ رِضَاءِ خَصْمِهِ ، كَحَالِ غَيْبَتِهِ وَمَرَضِهِ ، وَكَدَفْعِ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَّلَ عَقِيلًا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ : مَا قُضِيَ لَهُ فَلِي ، وَمَا قُضِيَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ .
وَوَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ عِنْدَ عُثْمَانَ ، وَقَالَ : إنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَمًا ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَحْضُرُهَا ، وَإِنِّي لِأَكْرَه أَنْ أَحْضُرَهَا .
قَالَ أَبُو زِيَادٍ : الْقُحَمُ الْمَهَالِكُ .
وَهَذِهِ قِصَصٌ انْتَشَرَتْ ، لِأَنَّهَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ ، فَلَمْ يُنْقَلْ إنْكَارُهَا ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ حَقٌّ ، أَوْ يُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَلَا يُحْسِنُ الْخُصُومَةَ ، أَوْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَتَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ .
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْإِقْرَارِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِحَقٍّ ، فَلَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ فِيهِ ، كَالشَّهَادَةِ وَلَنَا ، أَنَّهُ إثْبَاتُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ بِالْقَوْلِ ، فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ ، كَالْبَيْعِ ، وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ ، فَإِنَّهَا لَا تُثْبِتُ الْحَقَّ ، وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ بِثُبُوتِهِ عَلَى غَيْرِهِ .
( 3740 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ فِي الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الشَّاهِدِ لِكَوْنِهَا خَبَرًا عَمَّا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى فِي نَائِبِهِ .
فَإِنْ اسْتَنَابَ فِيهَا ، كَانَ النَّائِبُ شَاهِدًا عَلَى شَهَادَتِهِ ، لِكَوْنِهِ يُؤَدِّي مَا سَمِعَهُ مِنْ شَاهِدِ الْأَصْلِ ، وَلَيْسَ بِوَكِيلِ .
وَلَا يَصِحُّ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْحَالِفِ وَالنَّاذِرِ ، فَأَشْبَهَتْ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةَ وَالْحُدُودَ .
وَلَا يَصِحُّ فِي الْإِيلَاءِ وَالْقَسَامَةِ وَاللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهَا أَيْمَانٌ .
وَلَا فِي الْقَسْمِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ الزَّوْجِ لَأَمْرٍ لَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِهِ .
وَلَا فِي الرَّضَاعِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُرْضِعَةِ وَالْمُرْتَضِعِ ، لَأَمْرٍ يَخْتَصُّ بِإِثْبَاتِ لَحْمِ الْمُرْتَضِعِ ، وَإِنْشَازِ عَظْمِهِ بِلَبَنِ الْمُرْضِعَةِ .
وَلَا فِي الظِّهَارِ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُنْكَرٌ وَزُورٌ ، فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ ، وَلَا الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ .
وَلَا يَصِحُّ فِي الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ .
وَلَا فِي الْجِنَايَاتِ ؛ لِذَلِكَ .
وَلَا فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ لِنَائِبِهِ .
( 3741 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا كَانَ مِنْهَا حَدًّا كَحَدِّ الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ ، جَازَ التَّوْكِيلُ فِي اسْتِيفَائِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا .
فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ ، فَاعْتَرَفَتْ ، فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
{ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِ مَاعِزٍ ، فَرَجَمُوهُ } .
وَوَكَّلَ عُثْمَانُ عَلِيًّا فِي إقَامَةِ حَدِّ الشُّرْبِ عَلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ .
وَوَكَّلَ عَلِيٌّ الْحَسَنَ فِي ذَلِكَ ، فَأَبَى الْحَسَنُ ، فَوَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ، فَأَقَامَهُ ، وَعَلِيٌّ يَعُدُّ .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ تَوَلِّي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ .
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي إثْبَاتِهَا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَجُوزُ فِي إثْبَاتِهَا .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِدَرْئِهَا بِهَا ، وَالتَّوْكِيلُ يُوصِلُ إلَى الْإِيجَابِ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ أُنَيْسٍ ؛ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَهُ فِي إثْبَاتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ جَمِيعًا ، فَإِنَّهُ قَالَ : فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَبَتَ ، وَقَدْ وَكَّلَهُ فِي إثْبَاتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ جَمِيعًا .
وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ إذَا اسْتَنَابَ ، دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْحُدُودُ ، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي التَّوْكِيلِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ ، وَجَبَ أَنْ تَدْخُلَ بِالتَّخْصِيصِ بِهَا أَوْلَى ، وَالْوَكِيلُ يَقُومُ مُقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي دَرْئِهَا بِالشُّبُهَاتِ .
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ ، فَمَا كَانَ مِنْهَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْمَالِ ، كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْمَنْذُورَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ ، جَازَ التَّوْكِيلُ فِي قَبْضِهَا وَتَفْرِيقِهَا ، وَيَجُوزُ لِلْمُخْرِجِ التَّوْكِيلُ فِي إخْرَاجِهَا وَدَفْعِهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا .
وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ : أَخْرِجْ زَكَاةَ مَالِي مِنْ مَالِكَ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عُمَّالَهُ لِقَبْضِ الصَّدَقَاتِ وَتَفْرِيقِهَا ، وَقَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ : أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ ، فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك بِذَلِكَ ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الْحَجِّ إذَا أَيِسَ الْمَحْجُوجُ عَنْهُ مِنْ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ الْعُمْرَةُ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَنَابَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالطَّهَارَةِ مِنْ الْحَدَثِ ، فَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِبَدَنِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهَا ، إلَّا أَنَّ الصِّيَامَ الْمَنْذُورَ يُفْعَلُ عَنْ الْمَيِّتِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَوْكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْ فِي ذَلِكَ ، وَلَا وَكَّلَ فِيهِ غَيْرُهُ .
وَلَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ إلَّا فِي رَكْعَتِي الطَّوَافِ تَبَعًا لِلْحَجِّ .
وَفِي فِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَنْذُورَةِ ، وَفِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ عَنْ الْمَيِّتِ رِوَايَتَانِ .
وَلَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الطَّهَارَةِ ، إلَّا فِي صَبِّ الْمَاءِ ، وَإِيصَالِ الْمَاءِ لِلْأَعْضَاءِ ، وَفِي تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ عَنْ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَغَيْرِهِمَا .
( 3742 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ مَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِيهِ ، جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي حَضْرَةِ الْمُوَكَّلِ وَغَيْبَتِهِ .
وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ .
أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْفُوَ الْمُوَكَّلُ فِي حَالَةِ غَيْبَتِهِ ، فَيَسْقُطَ ؛ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ شُبْهَةٌ تَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ .
وَلِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، فَإِذَا حَضَرَ ، احْتَمَلَ أَنْ يَرْحَمَهُ فَيَعْفُوَ .
وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ اسْتِيفَاؤُهُ فِي حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ ، جَازَ فِي غَيْبَتِهِ ، كَالْحُدُودِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَاحْتِمَالُ الْعَفْوِ بَعِيدٌ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ عَفَا لَبَعَثَ وَأَعْلَمَ وَكِيلَهُ بِعَفْوِهِ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ، فَلَا يُؤَثِّرُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ قُضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَحْكُمُونَ فِي الْبِلَادِ ، وَيُقِيمُونَ الْحُدُودَ الَّتِي تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، مَعَ احْتِمَالِ النَّسْخِ ؟ وَكَذَلِكَ لَا يُحْتَاطُ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ بِإِحْضَارِ الشُّهُودِ ، مَعَ احْتِمَالِ رُجُوعِهِمْ عَنْ الشَّهَادَةِ ، أَوْ تَغَيُّرِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ .
( 3743 ) فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَافْتَقَرَ إلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، كَالْبَيْعِ .
وَيَجُوزُ الْإِيجَابُ بِكُلِّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ ، نَحْوُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِفِعْلِ شَيْءٍ ، أَوْ يَقُولَ : أَذِنْت لَك فِي فِعْلِهِ { .
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ فِي شِرَاءِ شَاةٍ } بِلَفْظِ الشِّرَاءِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ، مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ أَنَّهُمْ قَالُوا : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ } .
وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ دَالٌ عَلَى الْإِذْنِ ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْلِهِ : وَكَّلْتُك .
وَيَجُوزُ الْقَبُولُ بِقَوْلِهِ : قَبِلْت .
وَكُلِّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَيْهِ .
وَيَجُوزُ بِكُلِّ فِعْلٍ دَلَّ عَلَى الْقَبُولِ ، نَحْوِ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَهُ بِفِعْلِهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ وَكَّلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ سِوَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ .
وَلِأَنَّهُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ ، فَجَازَ الْقَبُولُ فِيهِ بِالْفِعْلِ ، كَأَكْلِ الطَّعَامِ .
وَيَجُوزُ الْقَبُولُ عَلَى الْفَوْرِ وَالتَّرَاخِي ، نَحْوُ أَنْ يَبْلُغَهُ أَنَّ رَجُلًا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ مُنْذُ سَنَةٍ ، فَيَبِيعَهُ .
أَوْ يَقُولَ : قَبِلْت .
أَوْ يَأْمُرَهُ بِفِعْلِ شَيْءٍ ، فَيَفْعَلَهُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ وُكَلَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَكَالَتِهِ كَانَ بِفِعْلِهِمْ ، وَكَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْ تَوْكِيلِهِ إيَّاهُمْ .
وَلِأَنَّهُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ ، وَالْإِذْنُ قَائِمٌ ، مَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ ، فَأَشْبَهَ الْإِبَاحَةَ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
( 3744 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ تَعْلِيقُهَا عَلَى شَرْطٍ ، نَحْوِ قَوْلِهِ : إذَا قَدِمَ الْحَاجُّ فَبِعْ هَذَا الطَّعَامَ .
وَإِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ فَاشْتَرِ لَنَا فَحْمًا .
وَإِذَا جَاءَ الْأَضْحَى فَاشْتَرِ لَنَا أُضْحِيَّةً .
وَإِذَا طَلَبَ مِنْك أَهْلِي شَيْئًا فَادْفَعْهُ إلَيْهِمْ .
وَإِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَدْ وَكَّلْتُك فِي هَذَا ، أَوْ فَأَنْتَ وَكِيلِي .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ ، لَكِنْ إنْ تَصَرَّفَ صَحَّ تَصَرُّفُهُ ؛ لِوُجُودِ الْإِذْنِ ، وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا بِجَعْلٍ فَسَدَ الْمُسَمَّى ، وَلَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْلِكُ بِهِ التَّصَرُّفَ فِي الْحَيَاةِ ، فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ ، فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرٌ ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ } .
وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ حُكْمُهُ ، وَهُوَ إبَاحَةُ التَّصَرُّفِ وَصِحَّتُهُ ، فَكَانَ صَحِيحًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتَ وَكِيلِي فِي بَيْعِ عَبْدِي إذَا قَدِمَ الْحَاجُّ .
وَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : وَكَّلْتُك فِي شِرَاءِ كَذَا ، فِي وَقْتِ كَذَا .
صَحَّ بِلَا خِلَافٍ ، وَمَحَلُّ النِّزَاعِ فِي مَعْنَاهُ .
وَلِأَنَّهُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ ، أَشْبَهَ الْوَصِيَّةَ وَالتَّأْمِيرَ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ بِغَيْرِ جَعْلٍ ، وَلَا يَخْتَصُّ فَاعِلُهُ بِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ ، فَصَحَّ بِالْجَعْلِ ، كَالتَّوْكِيلِ النَّاجِزِ .
( 3745 ) فَصْلٌ : وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِجَعْلٍ وَغَيْرِ جَعْلٍ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَّلَ أُنَيْسًا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَعُرْوَةَ فِي شِرَاءِ شَاةٍ ، وَعَمْرًا وَأَبَا رَافِعٍ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ جَعْلٍ .
وَكَانَ يَبْعَثُ عُمَّالَهُ لِقَبْضِ الصَّدَقَاتِ ، وَيَجْعَلُ لَهُمْ عِمَالَةً .
وَلِهَذَا قَالَ لَهُ ابْنَا عَمِّهِ : لَوْ بَعَثْتنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ ، فَنُؤَدِّي إلَيْك مَا يُؤَدِّي النَّاسُ ، وَنُصِيبُ مَا يُصِيبُهُ النَّاسُ يَعْنِيَانِ الْعِمَالَةَ .
فَإِنْ كَانَتْ بِجَعْلٍ ، اسْتَحَقَّ الْوَكِيلُ الْجَعْلَ بِتَسْلِيمِ مَا وُكِّلَ فِيهِ إلَى الْمُوَكِّلِ ، إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ ، كَثَوْبٍ يَنْسِجُهُ أَوْ يَقْصِرُهُ أَوْ يَخِيطُهُ ، فَمَتَى سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ مَعْمُولًا فَلَهُ الْأَجْرُ .
وَإِنْ كَانَ الْخَيَّاطُ فِي دَارِ الْمُوَكِّلِ ، فَكُلَّمَا عَمِلَ شَيْئًا وَقَعَ مَقْبُوضًا ، فَيَسْتَحِقُّ الْوَكِيلُ الْجَعْلَ إذَا فَرَغَ الْخَيَّاطُ مِنْ الْخِيَاطَةِ .
وَإِنْ وُكِّلَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ حَجٍّ ، اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ إذَا عَمِلَهُ .
وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ .
وَإِنْ قَالَ : إذَا بِعْت الثَّوْبَ ، وَقَبَضْت ثَمَنَهُ ، وَسَلَّمْته إلَيَّ ، فَلَكَ الْأَجْرُ .
لَمْ يَسْتَحِقَّ مِنْهَا شَيْئًا حَتَّى يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ، فَإِنْ فَاتَهُ التَّسْلِيمُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا ؛ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ .
( 3746 ) فَصْلٌ : وَلَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ إلَّا فِي تَصَرُّفٍ مَعْلُومٍ .
فَإِنْ قَالَ : وَكَّلْتُك فِي كُلِّ شَيْءٍ .
أَوْ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ .
أَوْ فِي كُلِّ تَصَرُّفٍ يَجُوزُ لِي .
أَوْ فِي كُلِّ مَالِي التَّصَرُّفُ فِيهِ .
لَمْ يَصِحَّ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَصِحُّ ، وَيَمْلِكُ بِهِ كُلَّ مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ عَامٌ ، فَصَحَّ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْ مَالِي كُلَّهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ فِي هَذَا غَرَرًا عَظِيمًا ، وَخَطَرًا كَبِيرًا ؛ لِأَنَّهُ تَدْخُلُ فِيهِ هِبَةُ مَالِهِ ، وَطَلَاقُ نِسَائِهِ ، وَإِعْتَاقُ رَقِيقِهِ ، وَتَزَوُّجُ نِسَاءٍ كَثِيرَةٍ .
وَيَلْزَمُهُ الْمُهُورُ الْكَثِيرَةُ ، وَالْأَثْمَانُ الْعَظِيمَةُ ، فَيَعْظُمُ الضَّرَرُ .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي مَا شِئْت .
لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ثَمَنِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ لِقَوْلِهِ فِي رَجُلَيْنِ ، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا اشْتَرَيْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا : إنَّهُ جَائِزٌ .
وَأَعْجَبَهُ .
وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ وَالْمُضَارِبَ وَكِيلَانِ فِي شِرَاءِ مَا شَاءَ .
فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ إلَّا بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَمَا دُونِ ، وَلَا يَشْتَرِيَ مَا لَا يَقْدِرُ الْمُوَكِّلُ عَلَى ثَمَنِهِ ، وَلَا مَا لَا يَرَى الْمَصْلَحَةَ لَهُ فِي شِرَائِهِ .
وَإِنْ قَالَ : بِعْ مَالِيِّ كُلَّهُ ، وَاقْبِضْ دُيُونِي كُلَّهَا .
صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْرِفُ مَالَهُ وَدُيُونَهُ .
وَإِنْ قَالَ : بِعْ مَا شِئْت مِنْ مَالِي ، وَاقْبِضْ مَا شِئْت مِنْ دُيُونِي .
جَازَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِي الْجَمِيعِ ، فَفِي بَعْضِهِ أَوْلَى .
وَإِنْ قَالَ : اقْبِضْ دَيْنِي كُلَّهُ ، وَمَا يَتَجَدَّدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
صَحَّ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إذَا قَالَ : بِعْ مَا شِئْت مِنْ مَالِي .
لَمْ يَجُزْ .
وَإِنْ قَالَ : مِنْ عَبِيدِي .
جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَحْصُورٌ بِالْجِنْسِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا جَازَ التَّوْكِيلُ فِي جَمِيعِهِ ، جَازَ فِي بَعْضِهِ ، كَعَبْدِهِ .
وَإِنْ
قَالَ : اشْتَرِ لِي عَبْدًا ، تُرْكِيًّا ، أَوْ ثَوْبًا هَرَوِيًّا .
صَحَّ .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي عَبْدًا ، أَوْ قَالَ ثَوْبًا وَلَمْ يَذْكُرْ جِنْسَهُ ، صَحَّ أَيْضًا .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَصِحُّ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَوْكِيلٌ فِي شِرَاءِ عَبْدِهِ ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ ذِكْرُ نَوْعِهِ ، كَالْقِرَاضِ .
وَلَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ قَدْرِ الثَّمَنِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ قَدْرَ الثَّمَنِ .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْعَبِيدَ تَتَفَاوَتُ مِنْ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ، وَإِنَّمَا تَتَمَيَّزُ بِالثَّمَنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ نَوْعًا ، فَقَدْ أَذِنَ فِي أَغْلَاهُ ثَمَنًا ، فَيَقِلُّ الْغَرَرُ ، وَلِأَنَّ تَقْدِيرَ الثَّمَنِ يَضُرُّ ، فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ بِقَدْرِ الثَّمَنِ .
وَمَنْ اعْتَبَرَ ذِكْرَ الثَّمَنِ ، جَوَّزَ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ أَكْثَرُ الثَّمَنِ وَأَقَلَّهُ .
( 3747 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلَيْنِ فِي تَصَرُّفٍ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ الِانْفِرَادَ بِالتَّصَرُّفِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِيهِ .
فَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ ذَلِكَ ، فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ مَا أَذِنَ فِيهِ مُوَكِّلُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَإِنْ وَكَّلَهُمَا فِي حِفْظِ مَالِهِ ، حَفِظَاهُ مَعًا فِي حِرْزٍ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : افْعَلَا كَذَا .
يَقْتَضِي اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى فِعْلِهِ ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ ، فَتَعَلَّقَ بِهِمَا .
وَفَارَقَ هَذَا قَوْلَهُ : بِعْتُكُمَا .
حَيْثُ كَانَ مُنْقَسِمًا بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ كَوْنُ الْمِلْكِ لَهُمَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ ، فَانْقَسَمَ بَيْنَهُمَا .
فَإِنْ غَابَ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ ، وَلَا لِلْحَاكِمِ ضَمُّ أَمِينٍ إلَيْهِ لِيَتَصَرَّفَا ؛ لِأَنَّ الْمُوَكَّلَ رَشِيدٌ جَائِزُ التَّصَرُّفِ ، لَا وِلَايَةَ لِلْحَاكِمِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَضُمُّ الْحَاكِمُ وَكِيلًا لَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ .
وَفَارَقَ مَا لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ ، حَيْثُ يُضِيفُ الْحَاكِمُ إلَى الْوَصِيِّ أَمِينًا لِيَتَصَرَّفَ ؛ لِكَوْنِ الْحَاكِمِ لَهُ النَّظَرُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ وَالْيَتِيمِ ، وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يُوصِ إلَى أَحَدٍ ، أَقَامَ الْحَاكِمُ أَمِينًا فِي النَّظَرِ لِلْيَتِيمِ .
وَإِنْ حَضَرَ الْحَاكِمَ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ ، وَادَّعَى الْوَكَالَةَ لَهُمَا ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً سَمِعَهَا الْحَاكِمُ ، وَحَكَمَ بِثُبُوتِ الْوَكَالَةِ لَهُمَا ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْحَاضِرُ التَّصَرُّفَ وَحْدَهُ ، فَإِذَا حَضَرَ الْآخَرُ تَصَرَّفَا مَعًا ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ سَمِعَهَا لَهُمَا مَرَّةً .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا حُكْمٌ لِلْغَائِبِ .
قُلْنَا : يَجُوزُ تَبَعًا لِحَقِّ الْحَاضِرِ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْوَقْفِ الَّذِي يَثْبُتُ لِمَنْ لَمْ يُخْلَقْ لِأَجْلِ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ فِي الْحَالِ ، كَذَا هَاهُنَا .
وَإِنْ جَحَدَ الْغَائِبُ الْوَكَالَةَ ، أَوْ عَزَلَ
نَفْسَهُ ، لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَتَصَرَّفَ .
وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَجَمِيعُ التَّصَرُّفَاتِ فِي هَذَا سَوَاءٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا وَكَّلَهُمَا فِي خُصُومَةٍ ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِانْفِرَادُ بِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِ أَحَدِهِمَا ، أَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ .
( 3748 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكَّلَ فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ ، إلَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ إلَيْهِ ) لَا يَخْلُو التَّوْكِيلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يَنْهَى الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ عَنْ التَّوْكِيلِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، لِأَنَّ مَا نَهَاهُ عَنْهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي إذْنِهِ .
فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوَكِّلْهُ .
الثَّانِي ، أَذِنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ ، فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ أَذِنَ لَهُ فِيهِ ، فَكَانَ لَهُ فِعْلُهُ ، كَالتَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَيْنِ خِلَافًا .
وَإِنْ قَالَ لَهُ : وَكَّلْتُك فَاصْنَعْ مَا شِئْت .
فَلَهُ أَنْ يُوَكَّلَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَيْسَ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ يَقْتَضِي تَصَرُّفًا يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ : اصْنَعْ مَا شِئْت .
يَرْجِعُ إلَى مَا يَقْتَضِيه التَّوْكِيلُ مِنْ تَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ لَفْظَهُ عَامٌّ فِيمَا شَاءَ ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ التَّوْكِيلُ .
الثَّالِثُ ، أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مِمَّا يَرْتَفِعُ الْوَكِيلُ عَنْ مِثْلِهِ ، كَالْأَعْمَالِ الدَّنِيَّةِ فِي حَقِّ أَشْرَافِ النَّاسِ الْمُرْتَفِعِينَ عَنْ فِعْلِهَا فِي الْعَادَةِ ، أَوْ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ لِكَوْنِهِ لَا يُحْسِنُهُ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَعْمَلُهُ الْوَكِيلُ عَادَةً ، انْصَرَفَ الْإِذْنُ إلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ الِاسْتِنَابَةِ فِيهِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَعْمَلُهُ بِنَفْسِهِ ، إلَّا أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ ؛ لِكَثْرَتِهِ وَانْتِشَارِهِ ، فَيَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِي عَمَلِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ اقْتَضَتْ جَوَازَ التَّوْكِيلِ ، فَجَازَ التَّوْكِيلُ فِي فِعْلِ جَمِيعِهِ ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي التَّوْكِيلِ بِلَفْظِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : عِنْدِي أَنَّهُ إنَّمَا لَهُ التَّوْكِيلُ فِيمَا زَادَ عَلَى مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ
عَمَلِهِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إنَّمَا جَازَ لِلْحَاجَةِ ، فَاخْتَصَّ مَا دَعَتْ إلَيْهِ الْحَاجَةُ بِخِلَافِ وُجُودِ إذْنِهِ ، فَإِنَّهُ مُطْلَقٌ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا عَدَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُهُ عَمَلُهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَتَرَفَّعُ عَنْهُ ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ فِيهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا يَجُوزُ .
نَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ ، وَلَا تَضَمَّنَهُ إذْنُهُ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ نَهَاهُ ، وَلِأَنَّهُ اسْتِئْمَانٌ فِيمَا يُمْكِنُهُ النُّهُوضُ فِيهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ لِمَنْ لَمْ يَأْمَنْهُ عَلَيْهِ ، كَالْوَدِيعَةِ وَالْأُخْرَى ، يَجُوزُ .
نَقَلَهَا حَنْبَلٌ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، إذَا مَرِضَ أَوْ غَابَ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ ، فَمَلَكَهُ نِيَابَةً كَالْمَالِكِ .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى .
وَلَا يُشْبِهُ الْوَكِيلُ الْمَالِكَ ؛ فَإِنَّ الْمَالِكَ يَتَصَرَّفُ بِنَفْسِهِ فِي مِلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ .
( 3749 ) فَصْلٌ : وَكُلُّ وَكِيلٍ جَازَ لَهُ التَّوْكِيلُ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكَّلَ إلَّا أَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لِلْمُوَكِّلِ فِي تَوْكِيلِ مَنْ لَيْسَ بِأَمِينٍ ، فَيُقَيَّدُ جَوَازُ التَّوْكِيلِ بِمَا فِيهِ الْحَظُّ وَالنَّظَرُ ، كَمَا أَنَّ الْإِذْنَ فِي الْبَيْعِ يَتَقَيَّدُ بِالْبَيْعِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ ، إلَّا أَنْ يُعَيِّنَ لَهُ الْمُوَكَّلُ مَنْ يُوَكِّلُهُ ، فَيَجُوزُ تَوْكِيلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ نَظَرَهُ بِتَعْيِينِهِ .
وَإِنْ وَكَّلَ أَمِينًا ، وَصَارَ خَائِنًا ، فَعَلَيْهِ عَزْلُهُ ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ يَتَصَرَّفُ مَعَ الْخِيَانَةِ تَضْيِيعٌ وَتَفْرِيطٌ ، وَالْوَكَالَةُ تَقْتَضِي اسْتِئْمَانَ أَمِينٍ ، وَهَذَا لَيْسَ بِأَمِينٍ ، فَوَجَبَ عَزْلُهُ .
( 3750 ) فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ فِي الْوَصِيِّ يُوَكَّلُ فِيمَا أُوصِيَ بِهِ إلَيْهِ ، وَفِي الْحَاكِمِ يُوَلِّي الْقَضَاءَ فِي نَاحِيَةٍ يَسْتَنِيبُ غَيْرَهُ ، حُكْمُ الْوَكِيلِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ ، إلَّا أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ، جَوَازُ ذَلِكَ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْوَصِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيمَا لَمْ يُنَصَّ لَهُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَالْوَكِيلُ لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا فِيمَا نُصَّ لَهُ عَلَيْهِ .
وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِالْإِذْنِ ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ ، وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيمَا اقْتَضَتْهُ الْوَصِيَّةُ ، كَالْوَكِيلِ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيمَا اقْتَضَتْهُ الْوَكَالَةُ .
( 3751 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْوَلِيُّ فِي النِّكَاحِ ، فَلَهُ التَّوْكِيلُ فِي تَزْوِيجِ مُوَلِّيَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهَا ، أَبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي مَنْ وِلَايَتُهُ غَيْرُ وِلَايَةِ الْإِجْبَارِ : هُوَ كَالْوَكِيلِ ، يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا فِي الْوَكِيلِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ إلَّا بِإِذْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّزْوِيجَ إلَّا بِإِذْنِهَا ، أَشْبَهَ الْوَكِيلَ ، وَلَنَا ، أَنَّ وِلَايَتَهُ مِنْ غَيْرِ جِهَتِهَا ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُهَا فِي تَوْكِيلِهِ فِيهَا ، كَالْأَبِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ، وَلِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، أَشْبَهَ الْحَاكِمَ ، وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ يَمْلِكُ تَفْوِيضَ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ النِّسَاءِ ، فَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالْحَاكِمِ .
وَاَلَّذِي يُعْتَبَرُ إذْنُهَا فِيهِ هُوَ غَيْرُ مَا يُوَكَّلُ فِيهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إذْنِهَا لَهُ فِي التَّزْوِيجِ أَيْضًا ، فَهُوَ كَالْمُوَكَّلِ فِي ذَلِكَ .
( 3752 ) فَصْلٌ : إذَا أَذِنَ الْمُوَكِّلُ فِي التَّوْكِيلِ ، فَوَكَّلَ ، كَانَ الْوَكِيلُ الثَّانِي وَكِيلًا لِلْمُوَكِّلِ ، لِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ، وَلَا عَزْلِهِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَوَّلُ عَزْلَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلِهِ .
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُوَكَّلَ لِنَفْسِهِ ، جَازَ ، وَكَانَ وَكِيلًا لِلْمُوَكَّلِ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ وَعَزْلِهِ إيَّاهُ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُوَكَّلُ ، أَوْ عُزِلَ الْأَوَّلُ ، انْعَزِلَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُمَا فَرْعَانِ لَهُ ، لَكِنَّ أَحَدَهُمَا فَرْعٌ لِلْآخَرِ ، فَذَهَبَ حُكْمُهُمَا بِذَهَابِ أَصْلِهِمَا .
وَإِنْ وُكِّلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ نُطْقًا ، بَلْ وُجِدَ عُرْفًا ، أَوْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي أَجَزْنَا لَهُ التَّوْكِيلَ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ ، فَالثَّانِي وَكِيلُ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ، حُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ لِنَفْسِهِ .
( 3753 ) فَصْلٌ : إذَا وَكَّلَ رَجُلًا فِي الْخُصُومَةِ ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِقَبْضِ الْحَقِّ وَلَا غَيْرِهِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ أَحَدُ جَوَابَيْ الدَّعْوَى ، فَصَحَّ مِنْ الْوَكِيلِ ، كَالْإِنْكَارِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْإِقْرَارَ مَعْنًى يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ وَيُنَافِيهَا ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ فِيهَا ، كَالْإِبْرَاءِ .
وَفَارَقَ الْإِنْكَارَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ الْخُصُومَةَ ، وَيَمْلِكُهُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ .
وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ الْإِنْكَارَ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ الْمُوَكِّلَ مِنْ الْإِقْرَارِ ، فَلَوْ مَلَكَ الْإِقْرَارَ ، لَامْتَنَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ الْإِنْكَارُ ، فَافْتَرَقَا ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُصَالَحَةَ عَنْ الْحَقِّ ، وَلَا الْإِبْرَاءَ مِنْهُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الْخُصُومَةِ لَا يَقْتَضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي تَثْبِيتِ حَقٍّ ، لَمْ يَمْلِكْ قَبْضَهُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَمْلِكُ قَبْضَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّثْبِيتِ قَبْضُهُ وَتَحْصِيلُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِذْنُ نُطْقًا وَلَا عُرْفًا ، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَرْضَاهُ لِتَثْبِيتِ الْحَقِّ يَرْضَاهُ لِقَبْضِهِ .
وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي قَبْضِ حَقٍّ ، فَجَحَدَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، كَانَ وَكِيلًا فِي تَثْبِيتِهِ عَلَيْهِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالْآخَرُ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ ، فَالْوَكِيلُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْآخَرِ ، كَمَا لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي الْقَبْضِ بِالتَّوْكِيلِ فِي الْخُصُومَةِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ ، أَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الْقَبْضِ إلَّا
بِالتَّثْبِيتِ ؛ فَكَانَ إذْنًا فِيهِ عُرْفًا ، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ ، فَمَلَكَهُ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ مَلَكَ وَزْنَ ثَمَنِهِ ، أَوْ فِي بَيْعِ شَيْءٍ مَلَكَ تَسْلِيمَهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُوَكِّلُ عَالِمًا بِجَحْدِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ أَوْ مَطْلِهِ ، كَانَ تَوْكِيلًا فِي تَثْبِيتِهِ وَالْخُصُومَةِ فِيهِ ، لِعِلْمِهِ بِوُقُوفِ الْقَبْضِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ ، لَمْ يَكُنْ تَوْكِيلًا فِيهِ ؛ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِتَوَقُّفِ الْقَبْضِ عَلَيْهِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْحَقِّ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ : إنْ وَكَّلَهُ فِي قَبْضِ عَيْنٍ لَمْ يَمْلِكْ تَثْبِيتَهَا ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ فِي نَقْلِهَا ، أَشْبَهَ الْوَكِيلَ فِي نَقْلِ الزَّوْجَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَكِيلٌ فِي قَبْضِ حَقٍّ ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِالتَّوْكِيلِ فِي قَبْضِ الدِّينِ ؛ فَإِنَّهُ وَكِيلٌ فِي قَبْضِهِ وَنَقْلِهِ إلَيْهِ .
( 3754 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ ، مَلَكَ تَسْلِيمَهُ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ ، لِكَوْنِهِ مِنْ تَمَامِهِ ، وَلَمْ يَمْلِكْ الْإِبْرَاءَ مِنْ ثَمَنِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَمْلِكُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْإِبْرَاءَ لَيْسَ مِنْ الْبَيْعِ ، وَلَا مِنْ تَتِمَّتِهِ ، فَلَا يَكُونُ التَّوْكِيلُ فِي الْبَيْعِ تَوْكِيلًا فِيهِ ، كَالْإِبْرَاءِ مِنْ غَيْرِ ثَمَنِهِ .
وَأَمَّا قَبْضُ الثَّمَنِ ، فَقَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ : لَا يُمْكِنُ .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُوَكِّلُ فِي الْبَيْعِ مَنْ لَا يَأْمَنُهُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ .
فَعَلَى هَذَا إنْ تَعَذَّرَ قَبْضُ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي ، لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ شَيْءٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ قَبْضَ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبِ الْبَيْعِ ، فَمَلَكَهُ الْوَكِيلُ فِيهِ ، كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ .
فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إلَّا بِقَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ حُضُورِهِ .
وَإِنْ سَلَّمَهُ قَبْلَ قَبْضِ ثَمَنِهِ ضَمِنَهُ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ ، فَإِنْ دَلَّتْ قَرِينَةُ الْحَالِ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ ، مِثْلُ تَوْكِيلِهِ فِي بَيْعِ ثَوْبٍ فِي سُوقٍ غَائِبٍ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، أَوْ مَوْضِعٍ يَضِيعُ الثَّمَنُ بِتَرْكِ قَبْضِ الْوَكِيلِ لَهُ ، كَانَ إذْنًا فِي قَبْضِهِ .
وَمَتَى تَرَكَ قَبْضَهُ كَانَ ضَامِنًا لَهُ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ حَالِ الْمُوَكِّلِ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ لِتَحْصِيلِ ثَمَنِهِ ، فَلَا يَرْضَى بِتَضْيِيعِهِ ، وَلِهَذَا يُعَدُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مُضَيِّعًا مُفَرِّطًا .
وَإِنْ لَمْ تَدُلّ الْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهُ .
( 3755 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ شَيْءٍ ، أَوْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ ، أَوْ قَسْمِ شَيْءٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَمْلِكُ تَثْبِيتَهُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقِسْمَةِ وَطَلَبِ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى مَا وَكَّلَهُ فِيهِ إلَّا بِالتَّثْبِيتِ .
وَالثَّانِي ، لَا يَمْلِكُهُ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَلَمْ يَتَضَمَّنْ الْإِذْنُ فِي أَحَدِهِمَا الْإِذْنَ فِي الْآخَرِ .
( 3756 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ ، مَلَكَ تَسْلِيمَ ثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَتِمَّتِهِ وَحُقُوقِهِ ، فَهُوَ كَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ .
فِي الْبَيْعِ .
وَالْحُكْمُ فِي قَبْضِ الْمَبِيعِ كَالْحُكْمِ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهِ .
فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا ، وَنَقَدَ ثَمَنَهُ ، فَخَرَجَ الْعَبْدُ مُسْتَحَقًّا ؛ فَهَلْ يَمْلِكُ أَنْ يُخَاصِمَ الْبَائِعَ فِي الثَّمَنِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
فَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا ، وَقَبَضَهُ ، وَأَخَّرَ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، فَهَلَكَ فِي يَدِهِ ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ ، مِثْلُ أَنْ ذَهَبَ لِيَنْقُدَهُ فَهَلَكَ ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي إمْسَاكِهِ كَمَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ، فَلِذَلِكَ لَزِمَهُ الضَّمَانُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُفَرِّطْ .
( 3757 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَكَّلَهُ فِي قَبْضِ دَيْنٍ مِنْ رَجُلٍ ، فَمَاتَ ؛ نَظَرْت فِي لَفْظِهِ ؛ فَإِنْ قَالَ : اقْبِضْ حَقِّي مِنْ فُلَانٍ .
لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهُ مِنْ وَارِثِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ .
وَإِنْ قَالَ : اقْبِضْ حَقِّي الَّذِي قِبَلَ فُلَانٍ .
أَوْ عَلَى فُلَانٍ .
فَلَهُ مُطَالَبَةُ وَارِثِهِ وَالْقَبْضُ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ مِنْ الْوَارِثِ قَبْضٌ لِلْحَقِّ الَّذِي عَلَى مَوْرُوثِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ قَالَ : اقْبِضْ حَقِّي مِنْ زَيْدٍ .
فَوَكَّلَ زَيْدٌ إنْسَانًا فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ ، كَانَ لَهُ الْقَبْضُ مِنْهُ ، وَالْوَارِثُ نَائِبُ الْمَوْرُوثِ ، فَهُوَ كَوَكِيلِهِ .
قُلْنَا : إنَّ الْوَكِيلَ إذَا دَفَعَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ جَرَى مَجْرَى تَسْلِيمِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَاهُنَا ، فَإِنَّ الْحَقَّ انْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ فَاسْتَحَقَّتْ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِمْ ، لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمَوْرُوثِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا ، حَنِثَ بِفِعْلِ وَكِيلِهِ لَهُ ، وَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ وَارِثِهِ .
( 3758 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ ، ثُمَّ ادَّعَى تَلَفَ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرٍ تَعَدٍّ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
فَإِنْ اُتُّهِمَ ، حَلَفَ ) إذَا اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ سِتَّةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي التَّلَفِ ، فَيَقُولَ الْوَكِيلُ تَلِفَ مَالُكَ فِي يَدِي ، أَوْ الثَّمَنُ الَّذِي قَبَضْته ثَمَنَ مَتَاعِك تَلِفَ فِي يَدِي .
فَيُكَذِّبُهُ الْمُوَكِّلُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، وَهَذَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، فَلَا يُكَلَّفُ ذَلِكَ كَالْمُودِعِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ لِغَيْرِهِ عَلَى سَبِيلِ الْأَمَانَةِ ، كَالْأَبِ ، وَالْوَصِيِّ ، وَأَمِينِ الْحَاكِمِ ، وَالْمُودِعِ ، وَالشَّرِيكِ ، وَالْمُضَارِبِ ، وَالْمُرْتَهِنِ ، وَالْمُسْتَأْجِرِ ، وَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَوْ كُلِّفَ ذَلِكَ مَعَ تَعَذُّرِهِ عَلَيْهِ ، لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ الدُّخُولِ فِي الْأَمَانَات مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ، فَيَلْحَقُهُمْ الضَّرَرُ .
قَالَ الْقَاضِي : إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ التَّلَفَ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ ، كَالْحَرِيقِ وَالنَّهْبِ وَشِبْهِهِمَا ، فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى وُجُودِ هَذَا الْأَمْرِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ ، ثُمَّ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي تَلَفِهَا بِذَلِكَ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْأَمْرِ الظَّاهِرِ مِمَّا لَا يَخْفَى ، فَلَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ ، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي تَعَدِّي الْوَكِيلِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فِي الْحِفْظِ ، وَمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ أَنَّك حَمَلْت عَلَى الدَّابَّةِ فَوْقَ طَاقَتِهَا ، أَوْ حَمَلْت عَلَيْهَا شَيْئًا لِنَفْسِك ، أَوْ فَرَّطْت فِي حِفْظِهَا ، أَوْ لَبِسْت الثَّوْبَ ، أَوْ أَمَرْتُك بِرَدِّ الْمَالِ فَلَمْ تَفْعَلْ .
وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الَّذِي قَبْلَهُ ، وَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِمَا يُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ .
وَمَتَى ثَبَتَ التَّلَفُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ ، إمَّا لِقَبُولِ قَوْلِهِ ، وَإِمَّا بِإِقْرَارِ مُوَكِّلِهِ أَوْ بَيِّنَةٍ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ تَلِفَ الْمَتَاعُ الَّذِي أُمِرَ بِبَيْعِهِ ، أَوْ بَاعَهُ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ فَتَلِفَ الثَّمَنُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِجَعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جَعْلٍ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْمَالِكِ فِي الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ ، فَكَانَ الْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمَالِكِ ، وَجَرَى مَجْرَى الْمُودِعِ وَالْمُضَارِبِ وَشِبْهِهِمَا .
وَإِنْ تَعَدَّى أَوْ فَرَّطَ ، ضَمِنَ .
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمَنَاءِ .
وَلَوْ بَاعَ الْوَكِيلُ سِلْعَةً وَقَبَضَ ثَمَنَهَا ، فَتَلِفَ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ ، وَاسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ ، رَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَهُ ، فَالرُّجُوعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ بِنَفْسِهِ .
الْحَالُ الثَّالِثَةُ ، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي التَّصَرُّفِ ، فَيَقُولَ الْوَكِيلُ : بِعْت الثَّوْبَ وَقَبَضْت الثَّمَنَ ، فَتَلِفَ .
فَيَقُولُ الْمُوَكِّلُ : لَمْ تَبِعْ وَلَمْ تَقْبِضْ .
أَوْ يَقُولَ : بِعْت وَلَمْ تَقْبِضْ شَيْئًا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ .
ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالْقَبْضَ ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِمَا ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ الْمُجْبَرَةِ عَلَى النِّكَاحِ فِي تَزْوِيجِهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ .
وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِحَقٍّ لَغَيْرِهِ عَلَى مُوَكِّلِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ .
وَإِنْ وَكَّلَ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ ، فَاشْتَرَاهُ ، وَاخْتَلَفَا فِي قَدْرِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ ، فَقَالَ : اشْتَرَيْته بِأَلْفِ .
وَقَالَ : بَلْ اشْتَرَيْته بِخَمْسِمِائَةٍ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَيَّنَ لَهُ الشِّرَاءَ بِمَا ادَّعَاهُ ، فَقَالَ : اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِأَلْفٍ .
فَادَّعَى الْوَكِيلُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ إذًا ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَصْلِ شَيْءٍ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي صِفَتِهِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ الشِّرَاءُ فِي الذِّمَّةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ مُطَالَبٌ بِالثَّمَنِ .
وَإِنْ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ ؛ لِكَوْنِهِ الْغَارِمَ ؛ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِرَدِّ مَا زَادَ عَلَى خُمْسِ الْمِائَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الشِّرَاءِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي قَدْرِ ثَمَنِ الْمُشْتَرَيْ ، كَالْمُضَارِبِ ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : اشْتَرِ بِأَلْفٍ عِنْدَ الْقَاضِي .
الْحَالُ الرَّابِعَةُ ، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي الرَّدِّ ، فَيَدَّعِيَهُ الْوَكِيلُ ، فَيُنْكِرَهُ الْمُوَكِّلُ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ جَعْلٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِ مَالِكِهِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَالْمُودِعِ ، وَإِنْ كَانَ بِجَعْلٍ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَالْأَوَّلِ .
وَالثَّانِي ، لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ كَالْمُسْتَعِيرِ وَسَوَاءٌ اخْتَلَفَا فِي رَدِّ الْعَيْنِ ، أَوْ رَدِّ ثَمَنِهَا .
وَجُمْلَةُ الْأُمَنَاءِ عَلَى ضَرْبَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، مَنْ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِ مَالِكِهِ لَا غَيْرُ ، كَالْمُودَعِ وَالْوَكِيلِ بِغَيْرِ جَعْلٍ ، فَيُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي الرَّدِّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ هَذِهِ الْأَمَانَاتِ ، فَيَلْحَقُ النَّاسَ الضَّرَرُ .
الثَّانِي ، مَنْ يَنْتَفِعُ بِقَبْضِ الْأَمَانَةِ ، كَالْوَكِيلِ بِجَعْلٍ ، وَالْمُضَارِبِ ، وَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَالْمُسْتَأْجِرِ ، وَالْمُرْتَهِنِ ، فَفِيهِمْ وَجْهَانِ .
ذَكَرَهُمَا أَبُو الْخَطَّابِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُضَارِبِ فِي الرَّدِّ ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُضَارِبِ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ، وَلِأَنَّ مَنْ قَبَضَ الْمَالَ لِنَفْعِ نَفْسِهِ ، لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ .
وَلَوْ أَنْكَرَ الْوَكِيلُ قَبْضَ الْمَالِ ، ثُمَّ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ ، أَوْ اعْتِرَافٍ ، فَادَّعَى الرَّدَّ أَوْ التَّلَفَ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ خِيَانَتَهُ قَدْ ثَبَتَتْ بِجَحْدِهِ .
فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ الرَّدِّ أَوْ التَّلَفِ ، فَهَلْ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَهَا بِجَحْدِهِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : مَا قَبَضْت .
يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَرُدَّ شَيْئًا .
وَالثَّانِي : تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الرَّدَّ وَالتَّلَفَ قَبْلَ وُجُودِ خِيَانَتِهِ .
وَإِنْ كَانَ
جُحُودُهُ أَنَّك لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا ، أَوْ مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ ، سُمِعَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ لَا يُكَذِّبُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ قَدْ تَلِفَ أَوْ رُدَّ ، فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ شَيْءٌ .
فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ رَدَّهُ أَوْ تَلِفَ بَعْدَ قَوْلِهِ : مَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ .
فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ أَيْضًا ؛ لِثُبُوتِ كَذِبِهِ وَخِيَانَتِهِ .
الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ ، إذَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْوَكَالَةِ ، فَقَالَ : وَكَّلْتنِي .
فَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوَكَالَةِ ، فَلَمْ يُثْبِتْ أَنَّهُ أَمِينُهُ لِيُقْبَلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ : وَكَّلْتُك ، وَدَفَعْت إلَيْك مَالًا .
فَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، أَوْ اعْتَرَفَ بِالتَّوْكِيلِ ، وَأَنْكَرَ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِذَلِكَ .
وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ : وَكَّلْتنِي أَنْ أَتَزَوَّجَ لَك فُلَانَةَ ، بِصَدَاقِ كَذَا ، فَفَعَلْت .
وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ ، فَأَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْ الْآخَرَ عَقْدُ النِّكَاحِ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَلَا يُسْتَحْلَفُ .
قَالَ الْقَاضِي : لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَدَّعِي حَقًّا لِغَيْرِهِ .
فَأَمَّا إنْ ادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَحْلَفَ ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي الصَّدَاقَ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّدَاقُ ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمَرْأَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَحُقُوقُ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ .
وَنَقَلَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّ الْوَكِيلَ يَلْزَمُهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الشِّرَاءِ ضَامِنٌ لِلثَّمَنِ ، وَلِلْبَائِعِ مُطَالَبَتُهُ بِهِ ، كَذَا هَاهُنَا .
وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَيُفَارِقُ الشِّرَاءَ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَقْصُودُ الْبَائِعِ ، وَالْعَادَةُ تَعْجِيلُهُ وَأَخْذُهُ مِنْ الْمُتَوَلِّي لِلشِّرَاءِ ، وَالنِّكَاحُ يُخَالِفُهُ فِي هَذَا كُلِّهِ ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ الْوَكِيلُ ضَمِنَ الْمَهْرَ ، فَلَهَا الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ فِي ذِمَّتِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : يَلْزَمُ الْوَكِيلَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِإِنْكَارِهِ ، فَيَكُونُ ثَابِتًا فِي الْبَاطِنِ ،
فَيَجِبُ جَمِيعُ الصَّدَاقِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، فَإِذَا أَنْكَرَ فَقَدْ أَقَرَّ بِتَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ إيقَاعِهِ لَهَا تَحْرُمُ بِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : وَلَا تَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ حَتَّى يُطَلِّقَ ، لَعَلَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِي إنْكَارِهِ .
وَظَاهِرُ هَذَا تَحْرِيمُ نِكَاحِهَا قَبْلَ طَلَاقِهَا ؛ لِأَنَّهَا مُعْتَرِفَةٌ بِأَنَّهَا زَوْجَةٌ لَهُ ، فَيُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهَا ، وَإِنْكَارُهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ .
وَهَلْ يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ طَلَاقُهَا ؟ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ نِكَاحٌ ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يُكَلِّفْ الطَّلَاقَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُكَلَّفَهُ ، لِإِزَالَةِ الِاحْتِمَالِ ، وَإِزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْهَا بِمَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ .
فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ .
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ وَكَّلَهُ فِي تَزَوُّجِ امْرَأَةٍ ، فَتَزَوَّجَهَا لَهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْغَائِبُ ، لَمْ تَرِثْهُ الْمَرْأَةُ ، إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ ، أَوْ يَثْبُتَ بِبَيِّنَةٍ .
وَإِنْ أَقَرَّ الْمُوَكِّلُ بِالتَّوْكِيلِ فِي التَّزْوِيجِ ، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ تَزَوَّجَ لَهُ ، فَهَاهُنَا الِاخْتِلَافُ فِي تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِيهِ ، فَيَثْبُتُ التَّزْوِيجُ هَاهُنَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَثْبُتُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّهُ لَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، لِكَوْنِهِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِهَا .
وَذَكَرَ أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلَيْهِ .
وَأَشَارَ إلَى نَصَّهُ فِيمَا إذَا أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ مِنْ أَصْلِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي فِعْلِ الْوَكِيلِ مَا أُمِرَ بِهِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ ثَوْبٍ فَادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ ، أَوْ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ فَادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِهِ .
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ الْوَكَالَةَ ، فَلَيْسَ بِنَصِّ هَاهُنَا ؛ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الصُّورَتَيْنِ وَتَبَايُنِهِمَا ، فَلَا يَكُونُ النَّصُّ فِي إحْدَاهُمَا نَصًّا فِي
الْأُخْرَى .
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا أَصْلَ لَهُ ، فَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ .
وَلَوْ غَابَ رَجُلٌ ، فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ إلَى امْرَأَتِهِ ، فَذَكَرَ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا وَأَبَانَهَا ، وَوَكَّلَهُ فِي تَجْدِيدِ نِكَاحِهَا بِأَلْفِ .
فَأَذِنَتْ لَهُ فِي نِكَاحِهَا ، فَعَقَدَ عَلَيْهَا ، وَضَمِنَ الْوَكِيلُ الْأَلْفَ ، ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا فَأَنْكَرَ هَذَا كُلَّهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَالنِّكَاحُ الْأَوَّلُ بِحَالِهِ .
وَقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ صَدَّقَتْ الْوَكِيلَ ، لَزِمَهُ الْأَلْفُ ، إلَّا أَنْ يُبِينَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ دُخُولِهِ بِهَا .
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ ، وَزُفَرَ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الضَّامِنَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَنْ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْمَضْمُونَ عَنْهُ شَيْءٌ ، فَكَذَلِكَ فَرْعُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْوَكِيلَ مُقِرٌّ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَأَنَّهُ ضَامِنٌ عَنْهُ ، فَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ أَلْفًا عَلَى أَجْنَبِيٍّ ، فَأَقَرَّ الضَّامِنُ بِالضَّمَانِ وَصِحَّتِهِ وَثُبُوتِ الْحَقِّ فِي ذِمَّةِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، وَكَمَا لَوْ ادَّعَى شُفْعَةً عَلَى إنْسَانٍ فِي شِقْصٍ اشْتَرَاهُ ، فَأَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْبَيْعِ ، وَأَنْكَرَهُ الْمُشْتَرِي ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ .
وَإِنْ لَمْ تَدَّعِ الْمَرْأَةُ صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ الْوَكِيلُ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَنْ أَسْقَطَ عَنْهُ الضَّمَانَ أَسْقَطَهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَمَنْ أَوْجَبَهُ أَوْجَبَهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا اخْتِلَافٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْحَالُ السَّادِسَةُ ، أَنْ يَخْتَلِفَا فِي صِفَةِ الْوَكَالَةِ ، فَيَقُولَ : وَكَّلْتُك فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ .
قَالَ : بَلْ وَكَّلْتنِي فِي بَيْعِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ .
أَوْ قَالَ : وَكَّلْتُك فِي الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ .
قَالَ : بَلْ بِأَلْفٍ .
أَوْ قَالَ : وَكَّلْتُك فِي بَيْعِهِ نَقْدًا .
قَالَ بَلْ نَسِيئَةً .
أَوْ قَالَ : وَكَّلْتُك فِي شِرَاءِ عَبْدٍ .
قَالَ : بَلْ فِي شِرَاءِ أَمَةٍ .
أَوْ قَالَ : وَكَّلْتُك فِي الشِّرَاءِ بِخَمْسَةٍ .
قَالَ : بَلْ بِعَشْرَةٍ .
فَقَالَ الْقَاضِي : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : إذَا قَالَ : أَذِنْت لَك فِي الْبَيْعِ نَقْدًا ، فِي الشِّرَاءِ بِخَمْسَةٍ .
قَالَ : بَلْ أَذِنْت لِي فِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً ، وَفِي الشِّرَاءِ بِعَشْرَةٍ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي التَّصَرُّفِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي صِفَتِهِ ، كَالْخَيَّاطِ إذَا قَالَ : أَذِنْت لِي فِي تَفْصِيلِهِ قَبَاءً .
قَالَ : بَلْ قَمِيصًا .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِك ، إنْ أَدْرَكَتْ السِّلْعَةَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ فَاتَتْ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا فَاتَتْ لَزِمَ الْوَكِيلَ الضَّمَانُ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ ، لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي التَّوْكِيلِ الَّذِي يَدَّعِيه الْوَكِيلُ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِيه ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ الْمُوَكِّلُ بِتَوْكِيلِهِ فِي غَيْرِهِ وَالثَّانِي ، أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ قَوْلِ الْمُوَكِّلِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي صِفَةِ كَلَامِهِ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي صِفَةِ الطَّلَاقِ .
فَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ : اشْتَرَيْت لَك هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِإِذْنِك .
قَالَ : مَا أَذِنْت لَك إلَّا فِي شِرَاءِ غَيْرِهَا .
أَوْ قَالَ : اشْتَرَيْتهَا لَك بِأَلْفَيْنِ .
فَقَالَ : مَا أَذِنْت لَك فِي شِرَائِهَا إلَّا بِأَلْفٍ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ ،
وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ .
فَإِذَا حَلَفَ بَرِئَ مِنْ الشِّرَاءِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بِعَيْنِ الْمَالِ ، أَوْ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنْ كَانَ بِعَيْنِ الْمَالِ ، فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَتُرَدُّ الْجَارِيَةُ عَلَى الْبَائِعِ إنْ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي أَنَّ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ أَوْ بِمَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَا فِي يَدِ الْإِنْسَانِ لَهُ فَإِنْ ادَّعَى الْوَكِيلُ عِلْمَهُ بِذَلِكَ ، حَلَّفَهُ إنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِمَالِ مُوَكِّلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ غَيْرِهِ فَكَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ، فَإِذَا حَلَفَ ، أَمْضَى الْبَيْعَ ، وَعَلَى الْوَكِيلِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ لِمُوَكِّلِهِ ، وَدَفْعُ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ ، وَتَبْقَى الْجَارِيَةُ فِي يَدِهِ ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا ، فَتَكُونَ لِلْمُوَكِّلِ ، أَوْ كَاذِبًا فَتَكُونَ لِلْبَائِعِ ، فَإِذَا أَرَادَ اسْتِحْلَالَهَا ، اشْتَرَاهَا مِمَّنْ هِيَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ إيَّاهَا ، رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ ، لِيَرْفُقَ بِهِ لِيَبِيعَهُ إيَّاهَا ، لِيَثْبُتَ الْمِلْكُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَيَصِيرَ مَا ثَبَتَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ ثَمَنًا قِصَاصًا بِاَلَّذِي أَخَذَ مِنْهُ الْآخَرُ ظُلْمًا ، فَإِنْ امْتَنَعَ الْآخَرُ مِنْ الْبَيْعِ ، لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُرَاضَاةٍ .
وَإِنْ قَالَ : إنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ لِي فَقَدْ بِعْتُكَهَا .
أَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ : إنْ كُنْت أَذِنْت لَك فِي شِرَائِهَا بِأَلْفَيْنِ ، فَقَدْ بِعْتُكَهَا .
فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَصِحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطٍ .
وَالثَّانِي ، يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ يَعْلَمَانِ ، وُجُودَهُ ، فَلَا يَضُرُّ جَعْلُهُ شَرْطًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ جَارِيَتِي ، فَقَدْ بِعْتُكَهَا .
وَكَذَلِكَ كُلُّ شَرْطٍ عَلِمَا وُجُودَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ وُقُوفَ الْبَيْعِ وَلَا
شَكًّا فِيهِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْوَكِيلُ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ نَقَدَ الثَّمَنَ ، صَحَّ الشِّرَاءُ ، وَلَزِمَ الْوَكِيلَ فِي الظَّاهِرِ ، فَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ كَاذِبًا فِي دَعْوَاهُ ، فَالْجَارِيَةُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا ، فَالْجَارِيَةُ لِمُوَكِّلِهِ .
فَإِذَا أَرَادَ إحْلَالَهَا لَهُ ، تَوَصَّلَ إلَى شِرَائِهَا مِنْهُ ، كَمَا ذَكَرْنَا .
وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَتْ لِلْمُوَكِّلِ فِي الْبَاطِنِ فَامْتَنَعَ مِنْ بَيْعِهَا لِلْوَكِيلِ ، فَقَدْ حَصَلَتْ فِي يَدِ الْوَكِيلِ ، وَهِيَ لِلْمُوَكِّلِ ، وَفِي ذِمَّتِهِ لِلْوَكِيلِ ثَمَنُهَا .
فَأَقْرَبُ الْوُجُوهِ أَنْ يَأْذَنَ لِلْحَاكِمِ فِي بَيْعِهَا ، وَتَوْفِيَةِ حَقِّهِ مِنْ ثَمَنِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْوَكِيلِ ، فَقَدْ أَذِنَ فِي بَيْعِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُوَكِّلِ ، فَقَدْ بَاعَهَا الْحَاكِمُ فِي إيفَاءِ دَيْنٍ امْتَنَعَ الْمَدِينُ مِنْ وَفَائِهِ .
وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا .
وَهَذَا أَقْرَبُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنْ اشْتَرَاهَا الْوَكِيلُ مِنْ الْحَاكِمِ بِمَالِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي هَذَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَى مِنْهُ .
( 3759 ) فَصْلٌ : وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ ، فَبَاعَهُ نَسِيئَةً ، فَقَالَ الْمُوَكِّلُ : مَا أَذِنْت فِي بَيْعِهِ إلَّا نَقْدًا .
وَصَدَّقَهُ الْوَكِيلُ وَالْمُشْتَرِي ، فَسَدَ الْبَيْعُ ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا بِالْعَبْدِ ، إنْ كَانَ بَاقِيًا ، أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ تَالِفًا .
فَإِنْ أَخَذَ الْقِيمَة مِنْ الْوَكِيلِ ، رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِهَا ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ فِي يَدِهِ ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ .
وَإِنْ كَذَّبَاهُ ، وَادَّعَيَا أَنَّهُ أَذِنَ فِي الْبَيْعِ نَسِيئَةً ، فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي : يَحْلِفُ الْمُوَكِّلُ ، وَيَرْجِعُ فِي الْعَيْنِ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً ، وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً ، رَجَعَ بِقِيمَتِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، فَإِنْ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، رَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمَبِيعَ ، وَإِنْ ضَمِنَ الْوَكِيلُ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَتَأْجِيلِ الثَّمَنِ ، وَإِنَّ الْبَائِعَ ظَلَمَهُ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الْأَجَلِ ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ ، رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَقَلِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ أَوْ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ إنْ كَانَتْ أَقَلَّ ، فَمَا غَرِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا ، فَلَا يَرْجِعُ بِأَكْثَرَ مِمَّا غَرِمَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ ، فَالْوَكِيلُ مُعْتَرِفٌ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْهُ ، وَأَنَّ الْمُوَكِّلَ ظَلَمَهُ بِأَخْذِ الزَّائِدِ عَلَى الثَّمَنِ ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمَا ظَلَمَهُ بِهِ الْمُوَكِّلُ .
وَإِنْ كَذَّبَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ ، فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُصَدِّقِ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَيَحْلِفُ عَلَى الْمُكَذِّبِ ، وَيَرْجِعُ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا .
هَذَا إنْ اعْتَرَفَ الْمُشْتَرِي بِأَنَّ الْوَكِيلَ وَكِيلٌ فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ ، وَقَالَ : إنَّمَا بِعْتنِي
مِلْكَك ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ وَكِيلًا ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ .
( 3760 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَبَضَ الْوَكِيلُ ثَمَنَ الْمَبِيعِ ، فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ قَبْلَ طَلَبِهِ وَلَا يَضْمَنُهُ بِتَأْخِيرِهِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ .
فَإِنْ طَلَبَهُ فَأَخَّرَ رَدَّهُ مَعَ إمْكَانِهِ ، فَتَلِفَ ، ضَمِنَهُ .
وَإِنْ وَعَدَهُ بِرَدِّهِ ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّنِي كُنْت رَدَدْته قَبْلَ طَلَبِهِ ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ تَلِفَ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِنَفْسِهِ بِوَعْدِهِ بِرَدِّهِ .
فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ ، بَرِئَ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ .
فَإِنْ أَقَامَ الْوَكِيلُ بَيِّنَةً بِذَلِكَ ، فَهَلْ يُقْبَلُ ، عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ بَرِئَ ، فَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ ، فَبَرِئَ بِهَا كَالْإِقْرَارِ .
وَالثَّانِي : لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ بِوَعْدِهِ بِالدَّفْعِ .
أَمَّا إذَا صَدَّقَهُ ، فَقَدْ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مُنَازِعٌ .
وَإِنْ لَمْ يَعِدْهُ بِرَدِّهِ ، لَكِنْ مَنَعَهُ أَوْ مَطَلَهُ بِرَدِّهِ مَعَ إمْكَانِهِ ، ثُمَّ ادَّعَى التَّلَفَ أَوْ الرَّدَّ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ بِالْمَنْعِ ، خَارِجٌ عَنْ حَالِ الْأَمَانَةِ .
وَإِنْ أَقَامَ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ الرَّدِّ أَوْ التَّلَفِ بَيِّنَةً ، سُمِعَتْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَذِّبْهَا .
( 3761 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ ، فِي رَجُلٍ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ ، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا يَقْبِضُهَا ، فَبَعَثَ إلَيْهِ مَعَ الرَّسُولِ دِينَارًا ، فَضَاعَ مَعَ الرَّسُولِ ، فَهُوَ مِنْ مَالِ الْبَاعِثِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُصَارَفَتِهِ ، إنَّمَا كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَاعِثِ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَى الرَّسُولِ غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُرْسِلُ ، فَإِنَّ الْمُرْسِلَ إنَّمَا أَمَرَهُ بِقَبْضِ مَا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَهِيَ الدَّرَاهِمُ ، وَلَمْ يَدْفَعْهَا ، وَإِنَّمَا دَفَعَ دِينَارًا عِوَضًا عَنْ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ ، وَهَذَا صَرْفٌ يَفْتَقِرُ إلَى رِضَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَإِذْنِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ ، فَصَارَ الرَّسُولُ وَكِيلًا لِلْبَاعِثِ فِي تَأْدِيَتِهِ إلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ وَمُصَارَفَتِهِ بِهِ ، فَإِذَا تَلِفَ فِي يَدِ وَكِيلِهِ .
كَانَ مِنْ ضَمَانِهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُخْبِرَ الرَّسُولُ الْغَرِيمَ أَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِ الدِّينَارِ عَنْ الدَّرَاهِمِ .
فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ ضَمَانِ الرَّسُولِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ وَأَخَذَ الدِّينَارَ عَلَى أَنَّهُ وَكِيلٌ لِلْمُرْسِلِ .
وَإِنْ قَبَضَ مِنْهُ الدَّرَاهِمَ الَّتِي أَمَرَ بِقَبْضِهَا ، فَضَاعَتْ مِنْ الرَّسُولِ ، فَهِيَ مِنْ ضَمَانِ صَاحِبِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْ يَدِ وَكِيلِهِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ، فِي رَجُلٍ لَهُ عِنْدَ آخَرَ دَنَانِيرُ وَثِيَابٌ ، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولًا ، وَقَالَ : خُذْ دِينَارًا وَثَوْبًا .
فَأَخَذَ دِينَارَيْنِ وَثَوْبَيْنِ ، فَضَاعَتْ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَاعِثِ .
يَعْنِي الَّذِي أَعْطَاهُ الدِّينَارَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الرَّسُولِ .
يَعْنِي عَلَيْهِ ضَمَانُ الدِّينَارِ وَالثَّوْبِ الزَّائِدَيْنِ ؛ إنَّمَا جُعِلَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُمَا إلَى مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِمَا إلَيْهِ ، وَرَجَعَ بِهِمَا عَلَى الرَّسُولِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ ، وَحَصَلَ التَّلَفُ فِي يَدِهِ ، فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الضَّمَانُ .
وَلِلْمُوَكِّلِ تَضْمِينُ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى بِقَبْضِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَبْضِهِ .
فَإِذَا ضَمِنَهُ
، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ فِي يَدِهِ ، فَاسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رَجُلٍ وَكَّلَ وَكِيلًا فِي اقْتِضَاءِ دَيْنِهِ ، وَغَابَ ، فَأَخَذَ الْوَكِيلُ بِهِ رَهْنًا ، فَتَلِفَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ ، فَقَالَ : أَسَاءَ الْوَكِيلُ فِي أَخْذِ الرَّهْنِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
إنَّمَا لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ رَهْنٌ فَاسِدٌ ، وَالْقَبْضُ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ ، كَالْقَبْضِ فِي الصَّحِيحِ ، فَمَا كَانَ الْقَبْضُ فِي صَحِيحِهِ مَضْمُونًا ، كَانَ مَضْمُونًا فِي فَاسِدِهِ ، وَمَا كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ فِي صَحِيحِهِ ، كَانَ غَيْرَ مَضْمُونٍ فِي فَاسِدِهِ .
وَنَقَلَ الْبَغَوِيّ ، عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ أَعْطَى آخَرَ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي لَهُ بِهَا شَاةً ، فَخَلَطَهَا مَعَ دَرَاهِمِهِ ، فَضَاعَا ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ ضَاعَ أَحَدُهُمَا ، أَيُّهُمَا ضَاعَ غَرِمَهُ قَالَ الْقَاضِي : هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ خَلَطَهَا بِمَا تَمَيَّزَ مِنْهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي خَلْطِهَا .
أَمَّا إنْ خَلَطَهَا بِمَا لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، ضَمِنَهَا ، كَالْوَدِيعَةِ .
وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ إذَا ضَاعَ أَحَدُهُمَا ، لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الضَّائِعَ دَرَاهِمُ الْمُوَكِّلِ ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهَا .
وَمَعْنَى الضَّمَانِ هَاهُنَا ، أَنَّهُ يَحْسُبُ الضَّائِعَ مِنْ دَرَاهِمَ نَفْسِهِ فَأَمَّا عَلَى الْمَحْمَلِ الْآخَرِ ، وَهُوَ إذَا خَلَطَهَا بِمَا تَتَمَيَّزُ مِنْهُ ، فَإِذَا ضَاعَتْ دَرَاهِمُ الْمُوَكِّلِ وَحْدَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا ضَاعَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْهُ .
( 3762 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا ، فَادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْآمِرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي قَضَاءِ دِينِهِ ، وَدَفَعَ إلَيْهِ مَالًا لِيَدْفَعَهُ إلَيْهِ ، فَادَّعَى الْوَكِيلُ قَضَاءَ الدَّيْنِ وَدَفْعَ الْمَالِ إلَى الْغَرِيمِ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الْغَرِيمِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَمِينِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ .
فَإِذَا حَلَفَ الْغَرِيمُ ، فَلَهُ مُطَالَبَةُ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ لَا تَبْرَأُ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى وَكِيلِهِ .
فَإِذَا دَفَعَهُ فَهَلْ لِلْمُوَكِّلِ الرُّجُوعُ عَلَى وَكِيلِهِ ؟ يُنْظَرُ ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَضَى الدَّيْنَ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، فَلِلْمُوَكَّلِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ إذَا قَضَاهُ فِي غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ .
قَالَ الْقَاضِي : سَوَاءٌ صَدَّقَهُ أَنَّهُ قَضَى الْحَقَّ أَوْ كَذَّبَهُ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي قَضَاءٍ يُبْرِئُهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ .
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى : لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالْإِشْهَادِ فَلَمْ يَفْعَلْ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، إنْ صَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الدَّفْعِ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ مَعَ يَمِينِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَجْهٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى فِعْلَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوَكِّلُهُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِبَيْعِ ثَوْبِهِ ، فَادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مُفَرِّطٌ بِتَرْكِ الْإِشْهَادِ ، فَضَمِنَ كَمَا لَوْ فَرَّطَ فِي الْبَيْعِ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَ يَأْمُرُهُ بِالْإِشْهَادِ ؟ قُلْنَا إطْلَاقُ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِهِ ، فَيَصِيرُ كَأَمْرِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، يَقْتَضِي ذَلِكَ الْعُرْفُ لَا الْعُمُومُ .
كَذَا هَاهُنَا .
وَقِيَاسُ
الْقَوْلِ الْآخَرِ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِهِ .
وَأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي الْقَضَاءِ ، لَكِنْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِتَفْرِيطِهِ ، لَا لِرَدِّ قَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا ، لَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ ، لَمْ يَضْمَنْ الْوَكِيلُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ الْإِشْهَادَ وَالِاحْتِيَاطَ رِضًى مِنْهُ بِمَا فَعَلَ وَكِيلُهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَضَاءِ بِغَيْرِ إشْهَادٍ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ صَرِيحَ قَوْلِهِ يُقَدَّمُ عَلَى مَا تَقْتَضِيه دَلَالَةُ الْحَالِ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَشْهَدَ عَلَى الْقَضَاءِ عُدُولًا فَمَاتُوا أَوْ غَابُوا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ .
وَإِنْ أَشْهَدَ مَنْ يُخْتَلَفُ فِي ثُبُوتِ الْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ ، كَشَاهِدٍ وَاحِدٍ ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، فَهَلْ يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ ؟ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ فَقَالَ : قَضَيْت الدَّيْنَ بِحَضْرَتِك .
قَالَ : بَلْ فِي غَيْبَتِي ، أَوْ قَالَ : أَذِنْت لِي فِي قَضَائِهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ .
فَأَنْكَرَ الْإِذْنَ أَوْ قَالَ : أَشْهَدْت عَلَى الْقَضَاءِ شُهُودًا فَمَاتُوا .
فَأَنْكَرَهُ الْمُوَكِّلُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ .
( 3763 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي إيدَاعِ مَالِهِ ، فَأَوْدَعَهُ وَلَمْ يُشْهِدْ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يَضْمَنُ إذَا أَنْكَرَ الْمُودَعُ .
وَكَلَامُ الْخِرَقِيِّ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ ، فَهِيَ كَالدَّيْنِ .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ يُقْبَلُ فِي الرَّدِّ وَالْهَلَاكِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِيثَاقِ ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ .
فَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ : دَفَعْت الْمَالَ إلَى الْمُودَعِ .
فَقَالَ : لَمْ تَدْفَعْهُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي تَصَرُّفِهِ ، وَفِيمَا وُكِّلَ فِيهِ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيهِ .
( 3764 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ ، فَجَاءَهُ إنْسَانٌ فَادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ فِي قَبْضِهِمَا ، وَأَقَامَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً ، وَجَبَ الدَّفْعُ إلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً ، لَمْ يَلْزَمْهُ دَفْعُهَا إلَيْهِ ، سَوَاءٌ صَدَّقَهُ فِي أَنَّهُ وَكِيلُهُ أَوْ كَذَّبَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ صَدَّقَهُ ، لَزِمَهُ وَفَاءُ الدَّيْنِ .
وَفِي دَفْعِ الْعَيْنِ إلَيْهِ رِوَايَتَانِ ؛ أَشْهَرُهُمَا ، لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا .
وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِحَقِّ الِاسْتِيفَاءِ ، فَلَزِمَهُ ، إيفَاؤُهَا ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ أَنَّهُ وَارِثُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَسْلِيمٌ لَا يُبْرِئُهُ ، فَلَا يَجِبُ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْحَقُّ عَيْنًا ، وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ هَذَا وَصِيُّ الصَّغِيرِ .
وَفَارَقَ الْإِقْرَارَ بِكَوْنِهِ وَارِثَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَتَهُ ؛ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِسِوَاهُ .
فَأَمَّا إنْ أَنْكَرَ وَكَالَتَهُ ، لَمْ يُسْتَحْلَفْ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسْتَحْلَفُ .
وَمَبْنَى الْخِلَافِ عَلَى الْخِلَافِ فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ مَعَ التَّصْدِيقِ ، فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الدَّفْعَ مَعَ التَّصْدِيقِ ، أَلْزَمَهُ الْيَمِينَ عِنْدَ التَّكْذِيبِ ، كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَمَنْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الدَّفْعَ مَعَ التَّصْدِيقِ ، قَالَ : لَا يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ عِنْدَ التَّكْذِيبِ ؛ لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا .
فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ مَعَ التَّصْدِيقِ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ ، فَحَضَرَ الْمُوَكِّلُ ، وَصَدَّقَ الْوَكِيلَ ، بَرِئَ الدَّافِعُ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينُهُ ، فَإِذَا حَلَفَ ، وَكَانَ الْحَقُّ عَيْنًا قَائِمَةً فِي يَدِ الْوَكِيلِ ، فَلَهُ أَخْذُهَا ، وَلَهُ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ بِرَدِّهَا ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا ، وَالْوَكِيلُ عَيْنُ مَالِهِ فِي يَدِهِ .
فَإِنْ طَالَبَ الدَّافِعَ ، فَلِلدَّافِعِ مُطَالَبَةُ الْوَكِيلِ بِهَا ، وَأَخْذُهَا مِنْ يَدِهِ ، لِيُسَلِّمهَا إلَى صَاحِبِهَا .
وَإِنْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ ، أَوْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا ،
فَلِصَاحِبِهَا الرُّجُوعُ بِبَدَلِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ ضَمِنَهَا بِالدَّفْعِ ، وَالْمَدْفُوعَ إلَيْهِ قَبَضَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ .
وَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ مَا يَأْخُذهُ الْمَالِكُ ظُلْمٌ ، وَيُقِرُّ بِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ صَاحِبِهِ تَعَدٍّ ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِظُلْمِ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ دَفَعَهَا إلَى الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ الْوَكَالَةِ .
فَإِنْ ضَمِنَ رَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يُقِرَّ بِوَكَالَتِهِ ، وَلَا ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةِ .
وَإِنْ ضَمِنَ الْوَكِيلُ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ .
وَإِنْ صَدَّقَهُ لَكِنَّ الْوَكِيلَ تَعَدَّى فِيهَا أَوْ فَرَّطَ ، اسْتَقَرَّ الضَّمَانُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ ضَمِنَ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ ضَمِنَ الدَّافِعُ ، رَجَعَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُقِرُّ أَنَّهُ قَبَضَهُ قَبْضًا صَحِيحًا ، لَكِنْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ بِتَفْرِيطِهِ وَتَعَدِّيه ، فَالدَّافِعُ يَقُولُ : ظَلَمَنِي الْمَالِكُ بِالرُّجُوعِ عَلَيَّ .
وَلَهُ عَلَى الْوَكِيلِ حَقٌّ يَعْتَرِفُ بِهِ الْوَكِيلُ ، فَبِأَخْذِهِ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ مِنْهُ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَدْفُوعُ دَيْنًا ، لَمْ يَرْجِعْ إلَّا عَلَى الدَّافِعِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذِمَّةِ الدَّافِعِ لَمْ يَبْرَأَ مِنْهُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى غَيْرِ وَكِيلِ صَاحِبِ الْحَقِّ ، وَاَلَّذِي أَخَذَهُ الْوَكِيلُ عَيْنُ مَالِ الدَّافِعِ فِي زَعْمِ صَاحِبِ الْحَقِّ ، وَالْوَكِيلُ وَالدَّافِعُ يَزْعُمَانِ أَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ ، وَأَنَّهُ ظَالِمٌ لِلدَّافِعِ بِالْأَخْذِ مِنْهُ ، فَيَرْجِعُ الدَّافِعُ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ الْوَكِيلُ ، وَيَكُونُ قِصَاصًا مِمَّا أَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ الْحَقِّ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ تَلِفَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ أَمِينٌ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنْ يَتْلَفَ بِتَعَدِّيهِ وَتَفْرِيطِهِ ، فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ .
( 3765 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : أَنَا وَارِثُ صَاحِبِ الْحَقِّ .
فَإِنْ أَنْكَرَهُ ، لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ صِحَّةَ مَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ هَاهُنَا عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ ، فَكَانَتْ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ لَزِمَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ ، فَلَمَّا لَزِمَهُ الدَّفْعُ مَعَ الْإِقْرَارِ ، لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ مَعَ الْإِنْكَارِ .
وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي أَنَّهُ وَارِثُ صَاحِبِ الْحَقِّ ، لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ ، لَزِمَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ .
بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ لَهُ بِالْحَقِّ ، وَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِهَذَا الدَّفْعِ ، فَلَزِمَهُ ، كَمَا لَوْ جَاءَ صَاحِبُ الْحَقِّ .
فَأَمَّا إنْ جَاءَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : قَدْ أَحَالَنِي عَلَيْك صَاحِبُ الْحَقِّ .
فَصَدَّقَهُ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعُ إلَيْهِ غَيْرُ مُبْرِئٍ ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَجِيءَ الْمُحِيلُ فَيُنْكِرَ الْحَوَالَةَ أَوْ يُضَمِّنَهُ ، فَأَشْبَهَ الْمُدَّعِيَ لِلْوَكَالَةِ .
وَالثَّانِي ، يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ لَا لَغَيْرِهِ ، فَأَشْبَهَ الْوَارِثَ .
فَإِنْ قُلْنَا : يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ مَعَ الْإِقْرَارِ .
لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ مَعَ الْإِنْكَارِ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَلْزَمُهُ الدَّفْعُ مَعَ الْإِقْرَارِ .
لَمْ تَلْزَمْهُ الْيَمِينُ مَعَ الْإِنْكَارِ ؛ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِيهَا .
وَمِثْلُ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
( 3766 ) فَصْلٌ : وَمَنْ طُلِبَ مِنْهُ حَقٌّ ، فَامْتَنَعَ مِنْ دَفْعِهِ حَتَّى يُشْهِدَ الْقَابِضُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ، لَمْ يُلْزِمْهُ الْقَاضِي بِالْإِشْهَادِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ مَتَى ادَّعَى الْحَقَّ عَلَى الدَّافِعِ بَعْدَ ذَلِكَ ، قَالَ : لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيَّ شَيْءٌ .
وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ ، وَكَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ ، كَالْمُودَعِ وَالْوَكِيلِ بِغَيْرِ جَعْلٍ ، فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اُدُّعِيَ عَلَيْهِ حَقٌّ ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ ، أَوْ يُخْتَلَفُ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ ، كَالْغَاصِبِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُرْتَهِنِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ مَا قَبِلَهُ إلَّا بِالْإِشْهَادِ ، لِئَلَّا يُنْكِرَ الْقَابِضُ الْقَبْضَ .
وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الدَّافِعِ فِي الرَّدِّ .
وَإِنْ قَالَ : لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيَّ شَيْئًا .
قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ .
أَوْ إذَا أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَبْضِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُ الْوَثِيقَةِ بِالْحَقِّ إلَى مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْقَبْضِ تُسْقِطُ الْبَيِّنَةَ الْأُولَى ، وَالْكِتَابُ مِلْكُهُ ، فَلَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ إلَى غَيْرِهِ .
( 3767 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَشِرَاءُ الْوَكِيلِ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ وُكِّلَ فِي بَيْعِ شَيْءٍ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
نَقَلَهَا .
مُهَنَّا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ جَوَازُ ذَلِكَ فِيهِمَا .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ : يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَا بِشَرْطَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَزِيدَا عَلَى مَبْلَغِ ثَمَنِهِ فِي النِّدَاءِ .
وَالثَّانِي ، أَنْ يَتَوَلَّى النِّدَاءَ غَيْرُهُ .
قَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُ تَوَلِّي غَيْرِهِ النِّدَاءَ وَاجِبًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَبًّا ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ كَلَامِهِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : الشَّرْطُ الثَّانِي ، أَنْ يُوَلِّيَ مَنْ يَبِيعُ ، وَيَكُونَ هُوَ أَحَدَ الْمُشْتَرِينَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُهَا إلَى غَيْرِهِ لِيَبِيعَهَا ، وَهَذَا تَوْكِيلٌ وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ التَّوْكِيلُ ؟ قُلْنَا : يَجُوز التَّوْكِيلُ فِيمَا لَا يَتَوَلَّى مِثْلَهُ بِنَفْسِهِ ، وَالنِّدَاءُ مِمَّا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ أَنْ يَتَوَلَّاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ بِنُفُوسِهِمْ .
وَإِنْ وَكَّلَ إنْسَانًا يَشْتَرِي لَهُ ، وَبَاعَهُ هُوَ ، جَازَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ فِي الْبَيْعِ ، وَحَصَّلَ غَرَضَهُ مِنْ الثَّمَنِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا أَجْنَبِيٌّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ الشِّرَاءُ دُونَ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .
} .
وَإِذَا اشْتَرَى مَالَ الْيَتِيمِ بِأَكْثَر مِنْ ثَمَنِ مِثْلِهِ ، فَقَدْ قَرِبَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .
وَلِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْأَبِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِلْأَبِ ، فَكَذَلِكَ لِنَائِبِهِ .
وَوَجْهُ
الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، أَنَّ الْعُرْفَ فِي الْبَيْعِ بَيْعُ الرَّجُلِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَحَمَلَتْ الْوَكَالَةُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ ، فَقَالَ : بِعْهُ غَيْرَك .
وَلِأَنَّهُ تَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ ، وَيَتَنَافَى الْغَرَضَانِ فِي بَيْعِهِ نَفْسَهُ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ نَهَاهُ .
وَالْوَصِيُّ كَالْوَكِيلِ ، لَا يَلِي بَيْعَ مَالِ غَيْرِهِ بِتَوَلِّيهِ ، فَأَشْبَهَ الْوَكِيلَ ، بَلْ التُّهْمَةُ فِي الْوَصِيِّ آكَدُ مِنْ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يُتَّهَمُ فِي تَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الثَّمَنِ لَا غَيْرُ ، وَالْوَصِيُّ يُتَّهَمُ فِي ذَلِكَ ، وَفِي أَنَّهُ يَشْتَرِي مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ مَا لَا حَظَّ لِلْيَتِيمِ فِي بَيْعِهِ ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَخْذُهُ لِمَالِهِ قُرْبًا لَهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ بِتَرِكَتِهِ ، وَقَدْ تَرَكَ فَرَسًا ، فَقَالَ الْوَصِيُّ : اشْتَرِهِ ؟ قَالَ : لَا .
.
( 3768 ) فَصْلٌ : وَالْحُكْمُ فِي الْحَاكِمِ وَأَمِينِهِ ، كَالْحُكْمِ فِي الْوَكِيلِ ، وَالْحُكْمُ فِي بَيْعِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ لِوَكِيلِهِ ، أَوْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ ، أَوْ الطِّفْلِ يَلِي عَلَيْهِ ، أَوْ لِوَكِيلِهِ ، أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ ، كَالْحُكْمِ فِي بَيْعِهِ لِنَفْسِهِ ، كُلُّ ذَلِكَ يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى بَيْعِهِ لِنَفْسِهِ ، أَمَّا بَيْعُهُ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ ، أَوْ وَالِدِهِ ، أَوْ مُكَاتَبِهِ ، فَذَكَرَهُمْ أَصْحَابُنَا أَيْضًا فِي جُمْلَةِ مَا يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِيهِمْ وَجْهَانِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ بَيْعُهُ لِوَلَدِهِ الْكَبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ مُوَكِّلِهِ ، وَوَافَقَ الْعُرْفَ فِي بَيْعِ غَيْرِهِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ لِأَخِيهِ ، وَفَارَقَ الْبَيْع لِوَكِيلِهِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إنَّمَا يَقَعُ لِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ ، وَبَيْعُ طِفْلٍ يَلِي عَلَيْهِ ، بَيْعٌ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشْتَرِي لَهُ ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمْ ، أَنَّهُ يُتَّهَمُ فِي حَقِّهِمْ ، وَيَمِيلُ
إلَى تَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ عَلَيْهِمْ فِي الثَّمَنِ ، كَتُهْمَتِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ .
وَالْحُكْمُ فِيمَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ لِمُوَكِّلِهِ ، كَالْحُكْمِ فِي بَيْعِهِ لِمَالِهِ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى .
( 3769 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَ رَجُلًا يَتَزَوَّجُ لَهُ امْرَأَةً ، فَهَلْ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ ؟ وَيُخَرَّجَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ ، هَلْ يَبِيعُ لِوَلَدِهِ ؟ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَجُوزُ .
وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ مَا تَقَدَّمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
وَإِنْ أَذِنَتْ لَهُ وَلِيَّتُهُ فِي تَزْوِيجِهَا ، خُرِّجَ فِي تَزْوِيجِهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لِوَلَدِهِ وَجْهَانِ ، بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْبَيْعِ .
وَكَذَلِكَ إنْ وَكَّلَهُ رَجُلٌ فِي تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ ، خُرِّجَ فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ .
( 3770 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ رَجُلٌ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ وَوَكَّلَهُ آخَرُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ ، فَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِي طَرَفَيْ الْعَقْدِ ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَلِيَهُمَا إذَا كَانَ غَيْرَ مُتَّهَمٍ ، كَالْأَبِ يَشْتَرِي مِنْ مَالِ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ الْمُتَدَاعِيَانِ فِي الدَّعْوَى عَنْهُمَا ، فَالْقِيَاسُ جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّهُ تُمْكِنُهُ الدَّعْوَى عَنْ أَحَدِهِمَا ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْآخَرِ ، وَإِقَامَةُ حُجَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ .
( 3771 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَذِنَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ نَفْسِهِ ، جَازَ لَهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ لَهُ فِي عَقْدِهِ غَرَضَانِ ، الِاسْتِرْخَاصُ لِنَفْسِهِ ، وَالِاسْتِقْصَاءُ لِلْمُوَكِّلِ ، وَهُمَا مُتَضَادَّانِ ، فَتُمَانِعَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ وَكَّلَ فِي التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ ، فَجَازَ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَ الْمَرْأَةَ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا ، وَلِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ هِيَ مِنْ الْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ فِي مَحَلٍّ لِاتِّفَاقِ التُّهْمَةِ ، لِدَلَالَتِهَا عَلَى عَدَمِ رِضَى الْمُوَكِّلِ بِهَذَا التَّصَرُّفِ ، وَإِخْرَاجِ هَذَا التَّصَرُّفِ عَنْ عُمُومِ لَفْظِهِ وَإِذْنِهِ ، وَقَدْ صَرَّحَ هَاهُنَا بِالْإِذْنِ فِيهَا ، فَلَا تَبْقَى دَلَالَةُ الْحَالِ مَعَ نَصِّهِ بِلَفْظِهِ عَلَى خِلَافِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهُ يَتَضَادَّ مَقْصُودُهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
قُلْنَا : إنْ عَيَّنَ الْمُوَكِّلُ لَهُ الثَّمَنَ ، فَاشْتَرَى بِهِ ، فَقَدْ زَالَ مَقْصُودُ الِاسْتِقْصَاءِ ، فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ أَكْثَرُ مِمَّا قَدْ حَصَّلَ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الثَّمَنَ ، تَقَيَّدَ الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْأَجْنَبِيُّ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا فِيمَا إذَا وَكَّلَ عَبْدًا يَشْتَرِي لَهُ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ وَجْهًا ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَيَخْرُجُ هَاهُنَا مِثْلُهُ .
وَالصَّحِيحُ مَا قُلْنَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( 3772 ) فَصْلٌ : إذَا وَكَّلَ عَبْدًا يَشْتَرِي نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ ، أَوْ يَشْتَرِي مِنْهُ عَبْدًا آخَرَ ، فَفَعَلَ ، صَحَّ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ كَيَدِ سَيِّدِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَلِهَذَا يُحْكَمُ لِلْإِنْسَانِ بِمَا فِي يَدِ عَبْدِهِ .
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا وَجْهًا كَذَلِكَ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهُ ، فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ مَوْلَاهُ ، كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ غَيْرَهُ ، جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ ، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا جَازَ تَوْكِيلُهَا فِي طَلَاقِ غَيْرِهَا ، جَازَ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا .
وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يُقَدَّرُ هَاهُنَا جَعْلُ تَوْكِيلِ الْعَبْدِ كَتَوْكِيلِ سَيِّدِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا صِحَّةَ تَوْكِيلِ السَّيِّدِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ مِنْ نَفْسِهِ ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
فَعَلَى هَذَا ، إذَا قَالَ الْعَبْدُ : اشْتَرَيْت نَفْسِي لِزَيْدٍ فَصَدَّقَهُ سَيِّدُهُ وَزَيْدٌ ، صَحَّ ، وَلَزِمَ زَيْدًا الثَّمَنُ .
وَإِنْ قَالَ السَّيِّدُ : مَا اشْتَرَيْت نَفْسَك إلَّا لِنَفْسِك .
عَتَقَ الْعَبْدُ بِقَوْلِهِ وَإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يَعْتِقُ بِهِ ، وَيَلْزَمُ الْعَبْدَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ لِسَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ زَيْدًا لَا يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ لِعَدَمِ حُصُولِ الْعَبْدِ لَهُ ، وَكَوْنِ سَيِّدِهِ لَا يَدَّعِيه عَلَيْهِ ، فَلَزِمَ الْعَبْدَ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِمَّنْ بَاشَرَ الْعَقْدَ أَنَّهُ لَهُ .
وَإِنْ صَدَّقَهُ السَّيِّدُ وَكَذَّبَهُ زَيْدٌ ، نَظَرْت فِي تَكْذِيبِهِ ، فَإِنْ كَذَّبَهُ فِي الْوَكَالَةِ ، حَلَفَ وَبَرِئَ ، وَلِلسَّيِّدِ فَسْخُ الْبَيْعِ ، وَاسْتِرْجَاعُ عَبْدِهِ ؛ لِتَعَذُّرِ ثَمَنِهِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي الْوَكَالَةِ وَكَذَّبَهُ فِي أَنَّك مَا اشْتَرَيْت نَفْسَك لِي ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهِ .
( 3773 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَ عَبْدَهُ فِي إعْتَاقِ نَفْسِهِ ، أَوْ امْرَأَتَهُ فِي طَلَاقِ نَفْسِهَا ، صَحَّ .
وَإِنْ وَكَّلَ الْعَبْدَ فِي إعْتَاقِ عَبِيدِهِ ، وَالْمَرْأَةَ فِي طَلَاقِ نِسَائِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ الْعَبْدُ إعْتَاقَ نَفْسِهِ ، وَلَا الْمَرْأَةُ طَلَاقَ نَفْسِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ بِإِطْلَاقِهِ إلَى التَّصَرُّفِ فِي غَيْرِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُمَا ذَلِكَ ، أَخْذًا مِنْ عُمُومِ لَفْظِهِ ، كَمَا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ ، الْبَيْعُ مِنْ نَفْسِهِ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَإِنْ وَكَّلَ غَرِيمًا لَهُ فِي إبْرَاءِ نَفْسِهِ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي إسْقَاطِ حَقٍّ عَنْ نَفْسِهِ ، فَأَشْبَهَ تَوْكِيلَ الْعَبْدِ فِي إعْتَاقِ نَفْسِهِ .
وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي إبْرَاءِ غُرَمَائِهِ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْرِئَ نَفْسَهُ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي حَبْسِ غُرَمَائِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ حَبْسَ نَفْسِهِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ فِي خُصُومَتِهِمْ ، لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِي خُصُومَةِ نَفْسِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ إبْرَاءَ نَفْسِهِ ؛ لَمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ .
وَإِنْ وَكَّلَ الْمَضْمُونَ عَنْهُ ، فِي إبْرَاءِ الضَّامِنِ فَأَبْرَأَهُ ، صَحَّ .
وَلَا يَبْرَأُ الْمَضْمُونُ عَنْهُ .
وَإِنْ وَكَّلَ الضَّامِنَ فِي إبْرَاءِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ ، أَوْ الْكَفِيلَ فِي إبْرَاءِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ ، فَأَبْرَأَهُ ، صَحَّ ، وَبَرِئَ الْوَكِيلُ بِبَرَاءَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ عَلَيْهِ ، فَإِذَا بَرِئَ الْأَصْلُ بَرِئَ الْفَرْعُ بِبَرَاءَتِهِ .
( 3774 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي إخْرَاجِ صَدَقَةٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَهُوَ مِسْكِينٌ ، أَوْ أَوْصَى إلَيْهِ بِتَفْرِيقِ ثُلُثِهِ عَلَى قَوْمٍ وَهُوَ مِنْهُمْ ، أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا وَأَمَرَهُ بِتَفْرِيقِهِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ ، أَوْ دَفْعِهِ إلَى مَنْ شَاءَ ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ : إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالٌ لِلْمَسَاكِينِ وَأَبْوَابِ الْبِرِّ وَهُوَ مُحْتَاجٌ ، فَلَا يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا ، إنَّمَا أَمَرَهُ بِتَنْفِيذِهِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْمُوَكِّلِ يَنْصَرِفُ إلَى دَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الْأَخْذُ إذَا تَنَاوَلَهُ عُمُومُ اللَّفْظِ ، كَالْمَسَائِلِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي حَصَلَ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ ، وَاللَّفْظُ مُتَنَاوِلٌ لَهُ ، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ كَغَيْرِهِ .
وَيَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فِي ذَلِكَ إلَى قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ ، فَمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ فِيهِ أَنَّهُ أَرَادَ الْعُمُومَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ ، فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْهُ ، وَمَا غَلَبَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ ، فَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ ، وَمَا تَسَاوَى فِيهِ الْأَمْرَانِ ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ .
وَهَلْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ لِوَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ أَوْ امْرَأَتِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَوَّلُهُمَا ، جَوَازُهُ ؛ لِدُخُولِهِمْ ، فِي عُمُومِ لَفْظِهِ ، وَوُجُودِ الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِجَوَازِ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ .
فَأَمَّا مَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ غَيْرَ هَؤُلَاءِ ، فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ ، كَمَا يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إلَيْهِمْ .
( 3775 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَشِرَاءُ الرَّجُلِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الطِّفْلِ جَائِزٌ .
وَكَذَلِكَ شِرَاؤُهُ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ ) .
يَعْنِي أَنَّ الْأَبَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ ابْنِهِ الَّذِي فِي حِجْرِهِ .
وَيَبِيعَ وَلَدَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَزَادُوا الْجَدَّ ، فَأَبَاحُوا لَهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ زُفَرُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا وَقَابِلًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا يَلِي بِنَفْسِهِ ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ ، كَالْأَبِ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ عَبْدَهُ الصَّغِيرَ ، وَالسَّيِّدِ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَمَتَهُ .
وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْعَقْدِ بِالْعَاقِدِ لِغَيْرِهِ .
فَأَمَّا الْجَدُّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى ابْنِ ابْنِهِ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ .
وَلِأَنَّ التُّهْمَةَ بَيْنَ الْأَبِ وَوَلَدِهِ مُنْتَفِيَةٌ ، إذْ مِنْ طَبْعِهِ الشَّفَقَةُ عَلَيْهِ ، وَالْمَيْلُ لَهُ ، وَتَرْكُ حَظِّ نَفْسِهِ لِحَظِّهِ ، فَلِذَلِكَ جَازَ .
وَفَارَقَ الْجَدَّ وَالْوَصِيَّ وَالْحَاكِمَ وَأَمِينَهُ ؛ فَإِنَّ التُّهْمَةَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ فِي حَقِّهِمْ .
وَأَمَّا تَوَلِّي طَرَفَيْ الْعَقْدِ ، فَيَجُوزُ ، بِدَلِيلِ الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَلَا نُسَلِّمُ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَمِّهِ ، بَلْ يَجُوزُ بِدَلِيلِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ لِابْنَةِ قَارِظٍ : أَتَجْعَلِينَ أَمْرَكِ إلَيَّ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ .
قَالَ : قَدْ تَزَوَّجْتُك .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَإِنَّ التُّهْمَةَ غَيْرُ مُنْتَفِيَةٍ ثَمَّ .
( 3776 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَا فَعَلَ الْوَكِيلُ بَعْدَ فَسْخِ الْمُوَكِّلِ أَوْ مَوْتِهِ فَبَاطِلٌ ) .
وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ، فَلِلْمُوَكِّلِ عَزْلُ وَكِيلِهِ مَتَى شَاءَ ، وَلِلْوَكِيلِ عَزْلُ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إبْطَالُهُ ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي أَكْلِ طَعَامِهِ .
وَتَبْطُلُ أَيْضًا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ، أَيِّهِمَا كَانَ ، وَجُنُونِهِ الْمُطْبِقِ .
وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا كُلِّهِ فِيمَا نَعْلَمُ .
فَمَتَى تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بَعْدَ فَسْخِ الْمُوَكِّلِ ، أَوْ مَوْتِهِ ، فَهُوَ بَاطِلٌ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ .
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْوَكِيلُ بِالْعَزْلِ ، وَلَا مَوْتِ الْمُوَكِّلِ ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَذَا أَنَّهُ يَنْعَزِلُ ، عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ .
وَمَتَى تَصَرَّفَ ، فَبَانَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ بَعْدَ عَزْلِهِ أَوْ مَوْتِ مُوَكِّلِهِ ، فَتَصَرُّفُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ عَقْدٍ لَا يَفْتَقِرُ إلَى رِضَى صَاحِبِهِ ، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى عِلْمِهِ ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، لَا يَنْعَزِلُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَعَزْلِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ انْعَزَلَ قَبْلَ عِلْمِهِ ، كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفَاتٍ فَتَقَعُ بَاطِلَةً ، وَرُبَّمَا بَاعَ الْجَارِيَةَ فَيَطَؤُهَا الْمُشْتَرِي ، أَوْ الطَّعَامَ فَيَأْكُلُهُ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ الْمُشْتَرِي ، وَيَجِبُ ضَمَانُهُ ، وَيَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي وَالْوَكِيلُ .
وَلِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ ، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْمَأْمُورِ قَبْلَ عِلْمِهِ ، كَالْفَسْخِ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، مَتَى تَصَرَّفَ قَبْلَ الْعِلْمِ ، نَفَذَ تَصَرُّفُهُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ ، فَلَا يَنْعَزِلُ قَبْلَ عِلْمِهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ عَزَلَ الْوَكِيلُ نَفْسَهُ ، لَمْ يَنْعَزِلْ إلَّا بِحَضْرَةِ
الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ ، فَلَا يَصِحُّ رَدُّ أَمْرِهِ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ ، كَالْمُودَعِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ .
وَلَنَا ، مَا تَقَدَّمَ .
فَأَمَّا الْفَسْخُ فَفِيهِ وَجْهَانِ ، كَالرِّوَايَتَيْنِ .
ثُمَّ هُمَا مُفْتَرِقَانِ ؛ فَإِنَّ أَمْرَ الشَّارِعِ يَتَضَمَّنُ الْمَعْصِيَةَ بِتَرْكِهِ ، وَلَا يَكُونُ عَاصِيًا مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْعَزْلُ عَنْهُ إبْطَالَ التَّصَرُّفِ ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ عَدَمُ الْعِلْمِ .
( 3777 ) فَصْلٌ : وَمَتَى خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَنْ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ ، مِثْلُ أَنْ يُجَنَّ ، أَوْ يُحْجَرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ ، فَلَا يُمَلِّكُهُ غَيْرَهُ مِنْ جِهَتِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي الشَّرِكَةِ : إذَا وَسْوَسَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مِثْلُ الْعَزْلِ .
وَإِنْ حُجِرَ عَلَى الْوَكِيلِ لِفَلْسِ ، فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ .
وَإِنْ حُجِرَ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَكَانَتْ الْوَكَالَةُ فِي أَعْيَانِ مَالِهِ ، بَطَلَتْ ؛ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِهِ فِي أَعْيَانِ مَالِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ فِي الْخُصُومَةِ ، أَوْ الشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ ، أَوْ الطَّلَاقِ ، أَوْ الْخُلْعِ ، أَوْ الْقِصَاصِ ، فَالْوَكَالَةُ بِحَالِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَهْلٌ لِذَلِكَ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِيهِ ابْتِدَاءً ، فَلَا تَنْقَطِعُ الِاسْتِدَامَةُ .
وَإِنْ فَسَقَ الْوَكِيلُ لَمْ يَنْعَزِلْ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْوَكَالَةُ فِيمَا يُنَافِيهِ الْفِسْقُ ، كَالْإِيجَابِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ بِفِسْقِهِ أَوْ فِسْقِ مُوَكِّلِهِ بِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ .
وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا فِي الْقَبُولِ لِلْمُوَكِّلِ ، لَمْ يَنْعَزِلْ بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي جَوَازَ قَبُولِهِ .
وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِفِسْقِ نَفْسِهِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ .
وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا فِيمَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَمَانَةُ ، كَوَكِيلِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ ، وَوَلِيِّ الْوَقْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، وَنَحْوِ هَذَا ، انْعَزَلَ بِفِسْقِهِ وَفِسْقِ مُوَكِّلِهِ بِخُرُوجِهِمَا بِذَلِكَ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ .
وَإِنْ كَانَ وَكِيلًا لِوَكِيلِ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، انْعَزَلَ بِفِسْقِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ لَهُ تَوْكِيلُ فَاسِقٍ ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِفِسْقِ مُوَكِّلِهِ ؛ لِأَنَّ مُوَكِّلَهُ وَكِيلٌ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَلَا يُنَافِيه الْفِسْقُ ، وَلَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِالنَّوْمِ وَالسُّكْرِ وَالْإِغْمَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ ، وَلَا
تَثْبُتُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ ، إلَّا أَنْ يَحْصُلَ الْفِسْقُ بِالسُّكْرِ ، فَيَكُونَ فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ مَا أَسْلَفْنَاهُ .
( 3778 ) فَصْلٌ : وَلَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِالتَّعَدِّي فِيمَا وُكِّلَ فِيهِ ، مِثْلُ أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ ، وَيَرْكَبَ الدَّابَّةَ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي ، تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ أَمَانَةٍ ، فَتَبْطُلُ بِالتَّعَدِّي كَالْوَدِيعَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إذَا تَصَرَّفَ فَقَدْ تَصَرَّفَ بِإِذْنِ مُوَكِّلِهِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَعَدَّ .
وَيُفَارِقُ الْوَدِيعَةَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا أَمَانَةٌ مُجَرَّدَةٌ ، فَنَافَاهَا التَّعَدِّي وَالْخِيَانَةُ ، وَالْوَكَالَةُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ تَضَمَّنَتْ الْأَمَانَةَ ، فَإِذَا انْتَفَتْ الْأَمَانَةُ بِالتَّعَدِّي ، بَقِيَ الْإِذْنُ بِحَالِهِ .
فَعَلَى هَذَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ ثَوْبٍ فَلَبِسَهُ .
صَارَ ضَامِنًا .
فَإِذَا بَاعَهُ ، صَحَّ بَيْعُهُ ، وَبَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ ؛ لِدُخُولِهِ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَضَمَانِهِ .
فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ ، كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ غَيْرَ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ ، وَلَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا ، وَوَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ ، فَتَعَدَّى فِي الثَّمَنِ ، صَارَ ضَامِنًا لَهُ ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهِ وَسَلَّمَهُ ، زَالَ الضَّمَانُ ، وَقَبْضُهُ لِلْمَبِيعِ قَبْضُ أَمَانَةٍ وَإِنْ وُجِدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ ، فَرُدَّ عَلَيْهِ ، أَوْ وَجَدَ هُوَ بِمَا اشْتَرَى عَيْبًا ، فَرَدَّهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ ، كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُزِيلَ لِلضَّمَانِ زَالَ ، فَعَادَ مَا زَالَ عَنْهُ .
( 3779 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَ امْرَأَتَهُ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ، لَمْ تَنْفَسِخْ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْوَكَالَةِ ، فَلَا يَقْطَعُ اسْتَدَامَتْهَا .
وَإِنْ وَكَّلَ عَبْدَهُ ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ ، أَوْ بَاعَهُ ، لَمْ يَنْعَزِلْ ؛ لِذَلِكَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْعَزِلَ ، لِأَنَّ تَوْكِيلَ عَبْدِهِ لَيْسَ بِتَوْكِيلٍ فِي الْحَقِيقَةِ ، إنَّمَا هُوَ اسْتِخْدَامٌ بِحَقِّ الْمِلْكِ ، فَيَبْطُلُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ .
وَإِذَا بَاعَهُ فَقَدْ صَارَ إلَى مِلْكِ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ فِي تَوْكِيلِهِ ، وَثُبُوتُ مِلْك غَيْرِهِ فِيهِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ تَوْكِيلِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَيَقْطَعُ اسْتَدَامَتْهُ .
وَهَكَذَا الْوَجْهَانِ فِيمَا إذَا وَكَّلَ عَبْدَ غَيْرِهِ ثُمَّ بَاعَهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ سَيِّدَ الْعَبْدِ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِ مَالِهِ ، وَالْعِتْقُ لَا يُبْطِلُ ؛ الْإِذْنَ .
وَهَكَذَا إنْ بَاعَهُ ، إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ رَضِيَ بِبَقَائِهِ عَلَى الْوَكَالَةِ ، بَقِيَ ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ ، بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ وَإِنْ وَكَّلَ عَبْدَ غَيْرِهِ ، فَأَعْتَقَهُ ، لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ حَقِيقَةً ، وَالْعِتْقُ غَيْرُ مُنَافٍ لَهُ .
وَإِنْ اشْتَرَاهُ الْمُوَكِّلُ مِنْهُ لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَهُ لَا يُنَافِي إذْنَهُ لَهُ فِي الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ .
( 3780 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فِيمَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ ، صَحَّ تَوْكِيلُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ ذِمِّيًّا ، أَوْ مُسْتَأْمَنًا ، أَوْ حَرْبِيًّا ، أَوْ مُرْتَدًّا ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ غَيْرُ مُشْتَرَطَةٍ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الدِّينُ ، كَالْبَيْعِ .
وَإِنْ وَكَّلَ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ ، لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ ، سَوَاءٌ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، أَوْ أَقَامَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ وَكَالَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْهُمْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ ، فَلَمْ تَبْطُلْ وَكَالَتُهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَلِأَنَّ الرِّدَّةَ لَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ وَكَالَتِهِ فَلَمْ تَمْنَعْ اسْتِدَامَتَهَا ، كَسَائِرِ الْكُفْرِ .
وَإِنْ ارْتَدَّ الْمُوَكِّلُ ، لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ فِيمَا لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ فِي مَالِهِ ، فَيَنْبَنِي عَلَى تَصَرُّفِهِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ قُلْنَا : يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ .
لَمْ يَبْطُلْ تَوْكِيلُهُ ، وَإِنْ قُلْنَا : هُوَ مَوْقُوفٌ .
فَوَكَالَتُهُ مَوْقُوفَةٌ ، وَإِنْ قُلْنَا : يَبْطُلُ تَصَرُّفُهُ .
بَطَلَ تَوْكِيلُهُ .
وَإِنْ وَكَّلَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ ، فَفِيهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ أَيْضًا .
( 3781 ) فَصْلٌ : وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي نَقْلِ امْرَأَتِهِ ، أَوْ بَيْعِ عَبْدِهِ ، أَوْ قَبْضِ دَارِهِ مِنْ فُلَانٍ ، فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِطَلَاقِ الزَّوْجَةِ ، وَعِتْقِ الْعَبْدِ ، وَانْتِقَالِ الدَّارِ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّهُ زَالَ تَصَرُّفُ الْمُوَكِّلِ ، فَزَالَتْ وَكَالَتُهُ .
( 3782 ) فَصْلٌ : وَإِنْ تَلِفَتْ الْعَيْنُ الَّتِي وَكَّلَ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا ، بَطَلَتْ ، الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّهَا ذَهَبَ ، فَذَهَبَتْ الْوَكَالَةُ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ فَمَاتَ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دِينَارًا ، وَوَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِهِ ، فَهَلَكَ الدِّينَارُ ، أَوْ ضَاعَ ، أَوْ اسْتَقْرَضَهُ الْوَكِيلُ وَتَصَرَّفَ فِيهِ ، بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ، سَوَاءٌ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِعَيْنِهِ أَوْ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِعَيْنِهِ ، فَقَدْ اسْتَحَالَ الشِّرَاءُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ تَلَفِهِ ، فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ، وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ مُطْلَقًا ، وَنَقَدَ الدِّينَارَ ، بَطَلَتْ ، أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِهِ ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَنْقُدَهُ ثَمَنَ ذَلِكَ الْبَيْعِ ، إمَّا قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِتَلَفِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ شِرَاؤُهُ ، لَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ ثَمَنٌ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَلَا رَضِيَ بِلُزُومِهِ وَإِذَا اسْتَقْرَضَهُ الْوَكِيلُ ، ثُمَّ عَزَلَ دِينَارًا عِوَضَهُ ، وَاشْتَرَى بِهِ ، فَهُوَ كَالشِّرَاءِ لَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَطَلَتْ ، وَالدِّينَارُ الَّذِي عَزَلَهُ عِوَضًا لَا يَصِيرُ لِلْمُوَكِّلِ حَتَّى يَقْبِضَهُ ، فَإِذَا اشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ بِهِ شَيْئًا وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ ، فَإِنْ أَجَازَهُ صَحَّ وَلَزِمَ الثَّمَنُ ، وَإِلَّا لَزِمَ الْوَكِيلَ .
وَعَنْهُ يَلْزَمُ الْوَكِيلَ .
بِكُلِّ حَالٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي : مَتَى اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِهِ لِغَيْرِهِ شَيْئًا ، فَالشِّرَاءُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِعَيْنِ مَالِهِ مَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : مَتَى اشْتَرَى لِغَيْرِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ شَيْئًا ، صَحَّ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ ، سَوَاءٌ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ أَوْ فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي شِرَائِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ .
( 3783 ) فَصْلٌ : نَقَلَ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي رَجُلٍ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ ، فَقَالَ لَهُ : إذَا أَمْكَنَك قَضَاؤُهَا فَادْفَعْهَا إلَى فُلَانٍ .
وَغَابَ صَاحِبُ الْحَقِّ ، وَلَمْ يُوصِ إلَى هَذَا الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِي الْقَبْضِ ، لَكِنْ جَعَلَهُ وَكِيلًا ، وَتَمَكَّنَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ الْقَضَاءِ ، فَخَافَ إنْ دَفَعَهَا إلَى الْوَكِيلِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَدْ مَاتَ ، وَيَخَافُ التَّبِعَةَ مِنْ الْوَرَثَةِ .
فَقَالَ : لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ لَعَلَّهُ قَدْ مَاتَ ، لَكِنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْوَرَثَةِ ، وَيَبْرَأُ إلَيْهِمَا مِنْ ذَلِكَ .
هَذَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَلَى طَرِيقِ النَّظَرِ لِلْغَرِيمِ ، خَوْفًا مِنْ التَّبِعَةِ مِنْ الْوَرَثَةِ إنْ كَانَ مُوَرِّثُهُمْ قَدْ مَاتَ ، فَانْعَزَلَ وَكِيلُهُ وَصَارَ الْحَقُّ لَهُمْ ، فَيَرْجِعُونَ عَلَى الدَّافِعِ إلَى الْوَكِيلِ .
فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ ، فَلِلْوَكِيلِ الْمُطَالَبَةُ ، وَلِلْآخَرِ الدَّفْعُ إلَيْهِ ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَدْ نَصَّ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ : إذَا وَكَّلَهُ فِي الْحَدِّ وَغَابَ ، اسْتَوْفَاهُ الْوَكِيلُ .
وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا ؛ لِكَوْنِهِ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، لَكِنَّ هَذَا احْتِيَاطٌ حَسَنٌ ، وَتَبْرِئَةٌ لِلْغَرِيمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَإِزَالَةٌ لِلتَّبِعَةِ عَنْهُ .
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ انْعَزَلَ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ لَا يَدْفَعَ إلَى الْوَكِيلِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَدْ مَاتَ ، فَانْتَقَلَ إلَى الْوَرَثَةِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتَارَ هَذَا لِئَلَّا يَكُونَ الْقَاضِي مِمَّنْ يَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِالْمَوْتِ ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِالْعَزْلِ بِهِ .
وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَرَاخِي الْقَبُولِ عَنْ الْإِيجَابِ ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي قَبْضِ الْحَقِّ وَلَمْ يَعْلَمْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فَيَقْبَلُ .
وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ لَفْظِ التَّوْكِيلِ .
وَقَدْ نَقَلَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلِ : بِعْ ثَوْبِي .
لَيْسَ
شَيْءٌ حَتَّى يَقُولَ : قَدْ وَكَّلْتُك .
وَهَذَا سَهْوٌ مِنْ النَّاقِلِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدَّلِيلِ عَلَى جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ لَفْظِ التَّوْكِيلِ ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْجَمَاعَةُ .
( 3784 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِذَا وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ ، فَهُوَ فِي يَدِهِ حَتَّى يَفْسَخَ أَوْ يَطَأَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَكَالَةَ إذَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُؤَقَّتَةٍ ، مَلَكَ التَّصَرُّفَ أَبَدًا ، مَا لَمْ تَنْفَسِخْ الْوَكَالَةُ ، وَفَسْخُ الْوَكَالَةِ أَنْ يَقُولَ : فَسَخْت الْوَكَالَةَ ، أَوْ أَبْطَلْتهَا ، أَوْ نَقَضْتهَا ، أَوْ عَزَلْتُك ، أَوْ صَرَفْتُك عَنْهَا ، وَأَزَلْتُك عَنْهَا .
أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ فِعْلِ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَوْ وَكَّلَهُ فِيهِ ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُقْتَضِيَةِ عَزْلَهُ أَوْ الْمُؤَدِّيَةِ مَعْنَاهُ ، أَوْ يَعْزِلَ الْوَكِيلُ نَفْسَهُ ، أَوْ يُوجَدَ مَا يَقْتَضِي فَسْخَهَا حُكْمًا ، عَلَى مَا قَدْ ذَكَرْنَا ، أَوْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَمَّا قَدْ وَكَّلَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ ، أَوْ يُوجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْوَكَالَةِ .
فَإِذَا وَكَّلَهُ فِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ ، ثُمَّ وَطِئَهَا ، انْفَسَخَتْ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى رَغْبَتِهِ فِيهَا ، وَاخْتِيَارِهِ إمْسَاكَهَا .
وَكَذَلِكَ إنْ وَطِئَهَا بَعْدَ طَلَاقِهَا طَلَاقًا رَجْعِيَّا ، كَانَ ارْتِجَاعًا لَهَا ، فَإِذَا اقْتَضَى رَجْعَتَهَا بَعْدَ طَلَاقِهَا ، فَلَأَنْ يَقْتَضِيَ اسْتِبْقَاءَهَا عَلَى نِكَاحِهَا وَمَنْعَ طَلَاقِهَا أَوْلَى .
وَإِنْ بَاشَرَهَا دُونَ الْفَرْجِ ، أَوْ قَبَّلَهَا ، أَوْ فَعَلَ بِهَا مَا يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ الزَّوْجِ ، فَهَلْ تَنْفَسِخُ الْوَكَالَةُ فِي الطَّلَاقِ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي حُصُولِ الرَّجْعَةِ بِهِ .
وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ ، أَوْ بَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا ، أَوْ كَاتَبَهُ ، أَوْ دَبَّرَهُ ، انْفَسَخَتْ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّهُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ لَا يَبْقَى لَهُ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ، وَفِي الْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الرُّجُوعَ عَنْ بَيْعِهِ .
وَإِنْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّ
مِلْكَهُ فِي الْعَبْدِ لَمْ يَزُلْ .
ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
( 3785 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ وُكِّلَ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ فَاشْتَرَى غَيْرَهُ ، كَانَ الْآمِرُ مُخَيَّرًا فِي قَبُولِ الشِّرَاءِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ ، لَزِمَ الْوَكِيلَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ بِعَيْنِ الْمَالِ ، فَيَبْطُلُ الشِّرَاءُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الشِّرَاءِ إذَا خَالَفَ مُوَكِّلَهُ ، فَاشْتَرَى غَيْرَ مَا وُكِّلَ فِي شِرَائِهِ ، مِثْلُ أَنْ يُوَكِّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ فَيَشْتَرِيَ جَارِيَةً ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ بِعَيْنِ الْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ ، ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهُ ، فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَى بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِلْكًا لِغَيْرِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَصِحُّ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَهُ عَلَى أَنَّهُ لِلْمُوَكِّلِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَالِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَصَحَّ كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِهِ لِغَيْرِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، الشِّرَاءُ لَازِمٌ لِلْمُشْتَرِي .
وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ إذْنِ غَيْرِهِ ، فَكَانَ الشِّرَاءُ لَهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ ، فَإِنْ أَجَازَهُ لَزِمَهُ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ وَقَدْ أَجَازَهُ ، فَلَزِمَهُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِإِذْنِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ لَزِمَ الْوَكِيلَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ الْمُوَكِّلَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ فِي شِرَائِهِ ، وَلَزِمَ الْوَكِيلَ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ صَدَرَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِغَيْرِهِ ، فَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ وَكِيلًا لِلَّذِي قَصَدَ الشِّرَاءَ لَهُ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا لَهُ .
فَأَمَّا إنْ اشْتَرَى بِعَيْنِ الْمَالِ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : بِعْنِي
الْجَارِيَةَ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ .
أَوْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ صَحِيحٌ ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ ، فَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ ، وَإِنْ أَجَازَهُ صَحَّ ؛ لِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ ، { أَنَّهُ بَاعَ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي بَيْعِهِ ، فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا لَهُ ، } وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ لَهُ بِخَيْرٍ ، فَصَحَّ ، وَوَقَفَ عَلَى الْإِجَازَةِ ، كَالْوَصِيَّةِ بِالزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ، أَنَّهُ عَقَدَ عَلَى مَالِ مَنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَصِحَّ ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَ الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ ، ثُمَّ بَلَغَ ، فَأَجَازَهُ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ : { لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك } .
يَعْنِي مَا لَمْ تَمْلِكْ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عُرْوَةَ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ وَكِيلًا مُطْلَقًا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ بَاعَ وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ جَائِزًا لِمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ اتِّفَاقًا .
وَمَتَى حَكَمْنَا بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ ، فَاعْتَرَفَ لَهُ الْعَاقِدُ مَعَهُ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ ، أَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ ، فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ ، وَلَا قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ ، حَلَفَ الْعَاقِدُ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ فِيمَا يُبْطِلُ عَقْدَهُ .
وَإِنْ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي : إنَّك بِعْت مَالَ غَيْرِك بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ ذَلِكَ .
وَقَالَ : بَلْ بِعْت مِلْكِي .
أَوْ قَالَ : بِعْت مَالَ مُوَكِّلِي بِإِذْنِهِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا .
وَإِنْ اتَّفَقَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى مَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ ، وَقَالَ
الْمُوَكِّلُ : بَلْ الْبَيْعُ صَحِيحٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ مَا أَخَذَهُ مِنْ الْعِوَضِ .
( 3786 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي أَنْ يَتَزَوَّجَ لَهُ امْرَأَةً ، فَتَزَوَّجَ لَهُ غَيْرَهَا ، أَوْ تَزَوَّجَ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ بِكُلِّ حَالٍ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ النِّكَاحِ ذِكْرَ الزَّوْجِ ، فَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، لَمْ يَقَعْ لَهُ وَلَا لِلْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَعْيَانُ الزَّوْجَيْنِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمُشْتَرَى لَهُ ، فَافْتَرَقَا .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يَصِحُّ النِّكَاحُ ، وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُتَزَوَّجِ لَهُ ، فَإِنْ أَجَازَهُ صَحَّ ، وَإِلَّا بَطَلَ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْبَيْعِ ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
( 3787 ) فَصْلٌ : قَالَ الْقَاضِي : إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : اشْتَرِ لِي بِدَيْنِي عَلَيْك طَعَامًا .
لَمْ يَصِحَّ .
وَلَوْ قَالَ : تَسَلَّفْ لِي أَلْفًا مِنْ مَالِك فِي كُرِّ طَعَامٍ .
فَفَعَلَ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْإِنْسَانُ بِمَالِهِ مَا يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي فِي ذِمَّتِك .
أَوْ قَالَ : تَسَلَّفْ لِي أَلْفًا فِي كُرِّ طَعَامٍ ، وَاقْضِ الثَّمَنَ عَنِّي مِنْ مَالِك ، أَوْ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْك .
صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ حَصَلَ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ وَالثَّمَنُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا قَضَاهُ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ ، فَقَدْ دَفَعَ الدَّيْنَ إلَى مَنْ أَمَرَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ ، وَإِنْ قَضَاهُ مِنْ مَالِهِ عَنْ دَيْنِ السَّلَفِ الَّذِي عَلَيْهِ ، صَارَ قَرْضًا عَلَيْهِ .
( 3788 ) فَصْلٌ : وَلَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا مَا يَقْتَضِيه إذْنُ مُوَكِّلِهِ ، مِنْ جِهَةِ النُّطْقِ ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالْإِذْنِ ، فَاخْتَصَّ بِمَا أَذِنَ فِيهِ ، وَالْإِذْنُ يُعْرَفُ بِالنُّطْقِ تَارَةً وَبِالْعُرْفِ أُخْرَى .
وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا فِي التَّصَرُّفِ فِي زَمَنٍ مُقَيَّدٍ ، لَمْ يَمْلِكْ التَّصَرُّفَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ إذْنُهُ مُطْلَقًا وَلَا عُرْفًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُؤْثِرُ التَّصَرُّفَ فِي زَمَنِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَلِهَذَا لَمَّا عَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادَتِهِ وَقْتًا ، لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ وَلَا تَأْخِيرُهَا عَنْهُ .
فَلَوْ قَالَ لَهُ : بِعْ ثَوْبِي غَدًا .
لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ الْيَوْمَ وَلَا بَعْدَ غَدٍ .
وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الْمَكَانَ ، وَكَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَضٌ ، مِثْلُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِبَيْعِ ثَوْبِهِ فِي سُوقٍ ، وَكَانَ ذَلِكَ السُّوقُ مَعْرُوفًا بِجَوْدَةِ ، النَّقْدِ ، أَوْ كَثْرَةِ الثَّمَنِ ، أَوْ حِلِّهِ ، أَوْ بِصَلَاحِ أَهْلِهِ ، أَوْ بِمَوَدَّةٍ بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَبَيْنَهُمْ ، تَقَيَّدَ الْإِذْنُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَى أَمْرٍ لَهُ فِيهِ غَرَضٌ ، فَلَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهُ .
وَإِنْ كَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءً فِي الْغَرَضِ ، لَمْ يَتَقَيَّدْ الْإِذْنُ بِهِ ، وَجَازَ لَهُ الْبَيْعُ فِي غَيْرِهِ ؛ لِمُسَاوَاتِهِ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْغَرَضِ ، فَكَانَ تَنْصِيصُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا إذْنًا فِي الْآخَرِ ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَوْ اسْتَعَارَ أَرْضًا لِزِرَاعَةِ شَيْءٍ ، كَانَ إذْنًا فِي زِرَاعَةِ مِثْلِهِ فَمَا دُونَهُ ، وَلَوْ اشْتَرَى عَقَارًا كَانَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهُ مِثْلَهُ ، وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً أَوْ اعْتِكَافًا فِي مَسْجِدٍ ، جَازَ الِاعْتِكَافُ وَالصَّلَاةُ فِي غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يُقَدِّرْهُ .
وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الْمُشْتَرِي ، فَقَالَ : بِعْهُ فُلَانًا .
لَمْ يَمْلِكْ بَيْعَهُ لِغَيْرِهِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ ، سَوَاءٌ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يُقَدِّرْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي تَمْلِيكِهِ إيَّاهُ
دُونَ غَيْرِهِ ، إلَّا أَنْ يَعْلَمَ الْوَكِيلُ بِقَرِينَةِ أَوْ صَرِيحٍ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي عَيْنِ الْمُشْتَرِي .
( 3789 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ ، لَمْ يَمْلِكْهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَمْلِكُهُ ، فَالْوَكِيلُ أَوْلَى .
وَلَا يَمْلِكُ الصَّحِيحَ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَمْلِكُ الصَّحِيحَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ فِي الْفَاسِدِ ، فَالصَّحِيحُ أَوْلَى .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي مُحَرَّمٍ ، فَلَمْ يَمْلِكْ الْحَلَالَ بِهَذَا الْإِذْنِ ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِي شِرَاءِ خَمْرٍ وَخِنْزِيرٍ ، لَمْ يَمْلِكْ شِرَاءَ الْخَيْلِ وَالْغَنَمِ .
( 3790 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ عَقَارٍ وَنَحْوِهِ ، أَوْ شِرَائِهِ ، لَمْ يَمْلِكْ الْعَقْدَ عَلَى بَعْضِهِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَنَاوَلَ جَمِيعَهُ ، وَفِي التَّبْعِيضِ إضْرَارٌ بِالْمُوَكَّلِ وَتَشْقِيصٌ لِمِلْكِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِيهِ .
وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبِيدٍ أَوْ شِرَائِهِمْ ، مَلَكَ الْعَقْدَ عَلَيْهِمْ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَاحِدًا وَاحِدًا ، لِأَنَّ الْإِذْنَ يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ عَلَيْهِمْ جُمْلَةً ، وَالْعُرْفُ فِي بَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ الْعَقْدُ عَلَى وَاحِدٍ وَاحِدٍ ، وَلَا ضَرَرَ فِي جَمْعِهِمْ وَلَا إفْرَادِهِمْ .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي عَبِيدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً ، أَوْ وَاحِدًا وَاحِدًا ، أَوْ بِعْهُمْ .
لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ ؛ لِأَنَّ تَنْصِيصَهُ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى غَرَضِهِ فِيهِ ، فَلَمْ يَتَنَاوَلْ إذْنُهُ سِوَاهُ .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي عَبْدَيْنِ صَفْقَةً .
فَاشْتَرَى عَبْدَيْنِ لِاثْنَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ بَيْنَهُمَا ، مِنْ وَكِيلِهِمَا ، أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ ، جَازَ .
وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ مُفْرَدٌ ، فَاشْتَرَاهُمَا مِنْ الْمَالِكَيْنِ ، بِأَنْ أَوْجَبَا لَهُ الْبَيْعَ فِيهِمَا ، وَقَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَاحِدِ مَعَ الِاثْنَيْنِ عَقْدَانِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ هُوَ الشِّرَاءُ ، وَهُوَ مُتَّحِدٌ ، وَالْغَرَضُ لَا يَخْتَلِفُ .
وَإِنْ اشْتَرَاهُمَا مِنْ وَكِيلِهِمَا ، وَعَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ ، هَذَا بِمِائَةٍ وَهَذَا بِمِائَتَيْنِ .
فَقَالَ : قَبِلْت .
احْتَمَلَ أَيْضًا وَجْهَيْنِ .
وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ وَيُقَسَّطَ الثَّمَنُ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا .
( 3791 ) فَصْلٌ : فَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ ، وَقَالَ اشْتَرِ لِي بِهَذِهِ عَبْدًا .
كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِعَيْنِهَا ، وَفِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ ، كَانَ لَهُ فِعْلُ مَا شَاءَ مِنْهُمَا .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ بِعَيْنِهَا .
فَاشْتَرَاهُ فِي ذِمَّتِهِ ، ثُمَّ نَقَدَهَا ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُوَكِّلَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَعَيَّنَ الثَّمَنُ ، انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِتَلَفِهِ ، أَوْ كَوْنِهِ مَغْصُوبًا ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ ثَمَنٌ فِي ذِمَّتِهِ ، وَهَذَا غَرَضٌ لِلْمُوَكِّلِ ، فَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ ، وَيَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ .
وَهَلْ يَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي فِي ذِمَّتِك ، وَانْقُدْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ ثَمَنًا .
فَاشْتَرَاهُ بِعَيْنِهَا ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي عَقْدٍ يَلْزَمُهُ بِهِ الثَّمَنُ مَعَ بَقَاءِ الدَّرَاهِمِ وَتَلَفِهَا ، فَكَانَ إذْنًا فِي عَبْدٍ لَا يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ إلَّا مَعَ بَقَائِهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي الشِّرَاءِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ، لِكَوْنِهَا فِيهَا شُبْهَةٌ لَا يُحِبُّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا ، أَوْ يُحِبُّ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْفَسِخُ بِتَلَفِهَا ، وَلَا يَبْطُلُ بِتَحْرِيمِهَا ، وَهَذَا غَرَضٌ صَحِيحٌ ، فَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُهُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُ غَرَضِهِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا كُلِّهِ كَنَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
( 3792 ) فَصْلٌ : وَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الشِّرَاءَ بِنَقْدٍ أَوْ حَالًا ، لَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ .
وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي النَّسِيئَةِ وَالْبَيْعِ بِأَيِّ نَقْدٍ شَاءَ ، جَازَ .
وَإِنْ أَطْلَقَ ، لَمْ يَبِعْ إلَّا حَالًّا بِنَقْدِ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ الْحُلُولُ ، وَإِطْلَاقُ النَّقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَأَطْلَقَ ، حُمِلَ عَلَى الْحُلُولِ بِنَقْدِ الْبَلَدِ .
وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدَانِ ، بَاعَ بِأَغْلَبِهِمَا ، فَإِنْ تَسَاوَيَا ، بَاعَ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فَأَشْبَهَ الْحَالَ .
وَيَتَخَرَّجُ لَنَا مِثْلُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ فِي الْمُضَارِبِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا .
وَالْأَوَّلُ ؛ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْبَيْعَ حُمِلَ عَلَى الْحُلُولِ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ فِيهِ ، وَلَا نُسَلِّمُ تَسَاوِي الْعَادَةِ فِيهِمَا ، فَإِنَّ بَيْعَ الْحَالِ أَكْثَرُ ، وَيُفَارِقُ الْمُضَارَبَةَ لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ الرِّبْحُ ، لَا دَفْعُ الْحَاجَةِ بِالثَّمَنِ فِي الْحَالِ ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ فِي الْوَكَالَةِ دَفْعَ حَاجَةٍ نَاجِزَةٍ تَفُوتُ بِتَأْخِيرِ الثَّمَنِ .
وَالثَّانِي ، أَنَّ اسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ ، فَيَعُودُ ضَرَرُ التَّأْخِيرِ فِي التَّقَاضِي عَلَيْهِ ، وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ ، فَلَا يَرْضَى بِهِ الْمُوَكِّلُ ، وَلِأَنَّ الضَّرَرَ فِي تَوَى الثَّمَنِ عَلَى الْمُضَارِبِ ، لِأَنَّهُ يَحْسِبُ مِنْ الرِّبْحِ ، لِكَوْنِ الرِّبْحِ وِقَايَةً لِرَأْسِ الْمَالِ ، وَهَا هُنَا يَعُودُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، فَانْقَطَعَ الْإِلْحَاقُ .
( 3793 ) فَصْلٌ : إذَا وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ نَسِيئَةً ، فَبَاعَهَا نَقْدًا بِدُونِ ثَمَنِهَا نَسِيئَةً ، أَوْ بِدُونِ مَا عَيَّنَهُ لَهُ ، لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمُوَكِّلِهِ ، لِأَنَّهُ رَضِيَ بِثَمَنِ النَّسِيئَةِ دُونَ النَّقْدِ .
وَإِنْ بَاعَهَا نَقْدًا بِمَا تُسَاوِي نَسِيئَةً ، أَوْ عَيَّنَ لَهُ ثَمَنَهَا فَبَاعَهَا بِهِ نَقْدًا ، فَقَالَ الْقَاضِي : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ زَادَهُ خَيْرًا فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عُرْفًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهَا بِعَشْرَةٍ فَبَاعَهَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُنْظَرَ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي النَّسِيئَةِ صَحَّ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا غَرَضٌ ، نَحْوُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِمَّا يُسْتَضَرُّ بِحِفْظِهِ فِي الْحَالِ ، أَوْ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ التَّلَفِ أَوْ الْمُتَغَلِّبِينَ ، أَوْ يَتَغَيَّرُ عَنْ حَالِهِ إلَى وَقْتِ الْحُلُولِ ، فَهُوَ كَمَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحُلُولِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ فِي الْمَصْلَحَةِ ، كَالْمَنْطُوقِ أَوْ أَكْثَرَ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ أَوْ الْمُمَاثَلَةِ ، وَمَتَى كَانَ فِي الْمَنْطُوقِ بِهِ غَرَضٌ مُخْتَصٌّ بِهِ لَمْ يَجُزْ تَفْوِيتُهُ ، وَلَا ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي غَيْرِهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي نَحْوَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
( 3794 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِثَمَنِ نَقْدًا ، فَاشْتَرَاهُ نَسِيئَةً بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ النَّقْدِ ، لَمْ يَقَعْ لِلْمُوَكِّلِ .
وَإِنْ اشْتَرَاهُ نَسِيئَةً بِثَمَنِهِ نَقْدًا ، أَوْ بِمَا عَيَّنَهُ لَهُ ، فَهِيَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا .
وَيَصِحُّ لِلْمُوَكِّلِ فِي قَوْلِ الْقَاضِي .
وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ ، نَحْوُ أَنْ يُسْتَضَرَّ بِبَقَاءِ الثَّمَنِ مَعَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، لَمْ يَجُزْ ، كَقَوْلِنَا فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيّ فِي صِحَّةِ الشِّرَاءِ وَجْهَانِ .
( 3795 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ ، أَوْ دُونَ مَا قَدَّرَهُ لَهُ ، وَلَا يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا قَدَّرَ لَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ فِي الْبَيْعِ ، فَلَهُ الْبَيْعُ بِأَيِّ ثَمَنٍ كَانَ ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ فِي الْإِذْنِ مُطْلَقٌ ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى إطْلَاقِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَوْكِيلٌ مُطْلَقٌ فِي عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، فَاقْتَضَى ثَمَنَ الْمِثْلِ ، كَالشِّرَاءِ ، فَإِنَّهُ وَافَقَ عَلَيْهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ يَنْتَقِضُ بِالشِّرَاءِ .
فَإِنْ بَاعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ ، أَوْ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ ، أَوْ بَاعَ بِدُونِ مَا قَدَّرَهُ لَهُ ، أَوْ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْهُ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ دُونَ الشِّرَاءِ ، وَيَضْمَنُ الْوَكِيلُ النَّقْصَ ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّ بَيْعُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ ، صَحَّ بِدُونِهِ كَالْمَرِيضِ .
فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا ، وَعَلَى الْوَكِيلِ ضَمَانُ النَّقْصِ ، وَفِي قَدْرِهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، مَا بَيْنَ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَمَا بَاعَهُ بِهِ .
وَالثَّانِي ، مَا بَيْنَ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ ، وَمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ ، لِأَنَّ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ يَصِحُّ بَيْعُهُ بِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لِلْوَكِيلِ فِي هَذَا الْبَيْعِ ، فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْأَجْنَبِيِّ .
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ ، فَأَشْبَهَ الشِّرَاءَ .
وَكُلُّ تَصَرُّفٍ كَانَ الْوَكِيلُ مُخَالِفًا فِيهِ لِمُوَكِّلِهِ ، فَحُكْمُهُ فِيهِ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْأَجْنَبِيِّ ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَأَمَّا مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ عَادَةً ، فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُوَكِّلُ قَدَّرَ لَهُ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ مَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهِ
يُعَدُّ ثَمَنَ الْمِثْلِ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ .
وَلَوْ حَضَرَ مِنْ يَزِيدُ عَلَى ثَمَنِ الْمِثْلِ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبِيعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطَ وَطَلَبَ الْحَظِّ لِمُوَكِّلِهِ .
وَإِنْ بَاعَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ ، فَحَضَرَ مَنْ يَزِيدُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ فَسْخُ الْعَقْدِ ، فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مَمْنُوعٌ مِنْهَا ، مَنْهِيٌّ عَنْهَا ، فَلَا يَلْزَمُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا ، وَلِأَنَّ الْمُزَايِدَ قَدْ لَا يَثْبُتُ عَلَى الزِّيَادَةِ ، فَلَا يَلْزَمُ الْفَسْخُ بِالشَّكِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَجَازَ بِهِ قَبْلَ الْبَيْعِ ، وَالنَّهْيُ يَتَوَجَّهُ إلَى الَّذِي زَادَ لَا إلَى الْوَكِيلِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ جَاءَتْهُ الزِّيَادَةُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ .
( 3796 ) فَصْلٌ : وَمَنْ وُكِّلَ فِي بَيْعِ عَبْدٍ بِمِائَةٍ ، فَبَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا ، صَحَّ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً أَوْ قَلِيلَةً ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ بِالْمَأْذُونِ فِيهِ وَزَادَ زِيَادَةً تَنْفَعُهُ وَلَا تَضُرُّهُ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَأْذَنَ فِي بَيْعِهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَيَبِيعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ أَوْ ثَوْبٍ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِمِائَةِ وَثَوْبٍ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا زِيَادَةٌ تَنْفَعُهُ وَلَا تَضُرُّهُ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بِمِائَةٍ وَدِينَارٍ ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي بَيْعِهِ بِمِائَةٍ ، إذْنٌ فِي بَيْعِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهَا عُرْفًا ، لِأَنَّ مَنْ رَضِيَ بِمِائَةٍ لَا يَكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا ثَوْبٌ يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ .
وَإِنْ بَاعَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، أَوْ بِتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَعَشْرَةِ دَنَانِيرَ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، أَوْ بِمِائَةِ ثَوْبٍ ، أَوْ بِثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَعِشْرِينَ ثَوْبًا ، لَمْ يَصِحَّ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مُوَكِّلَهُ فِي الْجِنْسِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بِثَوْبٍ يُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَصِحَّ فِيمَا إذَا جَعَلَ مَكَانَ الدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ ، أَوْ مَكَانَ بَعْضِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا ، فَإِنَّ مَنْ رَضِيَ بِدِرْهَمٍ رَضِيَ مَكَانَهُ بِدِينَارٍ ، فَجَرَى مَجْرَى بَيْعِهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ .
وَأَمَّا الثِّيَابُ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْأَثْمَانِ .
( 3797 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ بِمِائَةٍ ، فَبَاعَ نِصْفَهُ بِهَا ، أَوْ وَكَّلَهُ مُطْلَقًا ، فَبَاعَ نِصْفَهُ بِثَمَنِ الْكُلِّ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ ، فَإِنَّ مَنْ رَضِيَ مِائَةً ثَمَنًا لِلْكُلِّ ، رَضِيَ بِهَا ثَمَنًا لِلنِّصْفِ ، وَلِأَنَّهُ حَصَّلَ لَهُ الْمِائَةَ وَأَبْقَى لَهُ زِيَادَةً تَنْفَعُهُ وَلَا تَضُرُّهُ .
وَلَهُ بَيْعُ النِّصْفِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي بَيْعِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَ الْعَبْدَ كُلَّهُ بِمِثْلَيْ ثَمَنِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَلَّا يَجُوزَ لَهُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَّلَ لِلْمُوَكِّلِ غَرَضَهُ مِنْ الثَّمَنِ بِبَيْعِ نِصْفِهِ ، فَرُبَّمَا لَا يُؤْثِرُ بَيْعَ بَاقِيهِ ، لِلْغِنَى عَنْ بَيْعِهِ بِمَا حَصَلَ لَهُ مِنْ ثَمَنِ نِصْفِهِ .
وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَوْكِيلِهِ فِي بَيْعِ عَبْدَيْنِ بِمِائَةٍ ، إذَا بَاعَ أَحَدَهُمَا بِهَا ، صَحَّ .
وَهَلْ يَكُونُ لَهُ بَيْعُ الْعَبْدِ الْآخَرِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ .
فَأَمَّا إنْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ بِمِائَةٍ ، فَبَاعَ بَعْضَهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا ، لَمْ يَصِحَّ .
وَإِنْ وَكَّلَهُ مُطْلَقًا ، فَبَاعَ بَعْضَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْكُلِّ ، لَمْ يَجُزْ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ فِيمَا إذَا أَطْلَقَ الْوَكَالَةَ .
بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ لِلْوَكِيلِ الْمُطْلَقِ الْبَيْعَ بِمَا شَاءَ ، وَلَنَا ، أَنَّ عَلَى الْمُوَكِّلِ ضَرَرًا فِي تَبْعِيضِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ فِيهِ نُطْقًا وَلَا عُرْفًا ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ ، فَاشْتَرَى نِصْفَهُ .
( 3798 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ بِمِائَةٍ ، فَاشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ ، أَوْ بِمَا دُونَ الْمِائَةِ ، صَحَّ ، وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ .
وَإِنْ قَالَ : لَا تَشْتَرِهِ بِأَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ ، فَخَالَفَهُ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ نَصَّهُ ، وَصَرِيحُ قَوْلِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَلَالَةِ الْعُرْفِ .
فَإِنْ قَالَ : اشْتَرِهِ بِمِائَةٍ ، وَلَا تَشْتَرِهِ بِخَمْسِينَ .
جَازَ لَهُ شِرَاؤُهُ بِمَا فَوْقَ الْخَمْسِينَ ؛ لِأَنَّ إذْنَهُ فِي الشِّرَاءِ بِمِائَةٍ دَلَّ عُرْفًا عَلَى الشِّرَاءِ بِمَا دُونَهَا ، خَرَجَ مِنْهُ الْخَمْسُونَ بِصَرِيحِ النَّهْيِ ، بَقِيَ فِيمَا فَوْقَهَا عَلَى مُقْتَضَى الْإِذْنِ .
وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ الْخَمْسِينَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَجُوزُ ؛ لِذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ صَرِيحَ نَهْيِهِ ، أَشْبَهَ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِينَ .
وَالثَّانِي ، لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ الْخَمْسِينَ اسْتِقْلَالًا لَهَا .
فَكَانَ تَنْبِيهًا عَلَى النَّهْيِ عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُمَا ، كَمَا أَنَّ الْإِذْنَ فِي الشِّرَاءِ بِمِائَةٍ إذْنٌ فِيمَا دُونَهَا ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى صَرِيحِ نَهْيِهِ ، فَإِنَّ تَنْبِيهَ الْكَلَامِ كَنَصِّهِ .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ .
فَاشْتَرَاهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ .
فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَبَاعَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهِ .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي نِصْفَهُ بِمِائَةٍ .
فَاشْتَرَاهُ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ بِمِائَةٍ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي نِصْفَهُ بِمِائَةٍ ، وَلَا تَشْتَرِهِ جَمِيعَهُ ، فَاشْتَرَى أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ وَأَقَلَّ مِنْ الْكُلِّ بِمِائَةٍ ، صَحَّ ، فِي قِيَاسِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا ، لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْعُرْفِ قَاضِيَةً بِالْإِذْنِ فِي شِرَاءِ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ ، خَرَجَ الْجَمِيعُ بِصَرِيحِ نَهْيِهِ ، فَفِيمَا عَدَاهُ يَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْإِذْنِ .
( 3799 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ مَوْصُوفٍ بِمِائَةٍ ، فَاشْتَرَاهُ عَلَى الصِّفَةِ بِدُونِهَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا .
وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الصِّفَةِ ، أَوْ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُوَكِّلَ .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِمِائَةٍ فَاشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي مِائَةً بِدُونِهَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بِمِائَةٍ جَازَ ، فَإِذَا اشْتَرَاهُ بِدُونِهَا فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا ، فَيَجُوزُ .
وَإِنْ كَانَ لَا يُسَاوِي مِائَةً ، لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ يُسَاوِي أَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَهُ ، وَلَمْ يُحَصِّلْ غَرَضَهُ .
( 3800 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ شَاةٍ بِدِينَارٍ ، فَاشْتَرَى شَاتَيْنِ تُسَاوِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَقَلَّ مِنْ دِينَار لَمْ يَقَعْ لِلْمُوَكِّلِ .
وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُسَاوِي دِينَارًا .
أَوْ إحْدَاهُمَا تُسَاوِي دِينَارًا وَالْأُخْرَى أَقَلَّ مِنْ دِينَارٍ ، صَحَّ ، وَلَزِمَ الْمُوَكِّلَ .
وَهَذَا الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ إحْدَى الشَّاتَيْنِ بِنِصْفِ دِينَارٍ ، وَالْأُخْرَى لِلْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِإِلْزَامِهِ عُهْدَةَ شَاةٍ وَاحِدَةٍ .
وَلَنَا ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى عُرْوَةَ بْنَ الْجَعْدِ دِينَارًا ، فَقَالَ : اشْتَرِ لَنَا بِهِ شَاةً .
قَالَ : فَأَتَيْت الْجَلَبَ ، فَاشْتَرَيْت شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ ، فَجِئْت أَسُوقُهُمَا ، أَوْ أَقُودُهُمَا ، فَلَقِيَنِي رَجُلٌ بِالطَّرِيقِ ، فَسَاوَمَنِي ، فَبِعْت مِنْهُ شَاةً بِدِينَارٍ ، فَأَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالدِّينَارِ وَالشَّاةِ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا دِينَارُكُمْ ، وَهَذِهِ شَاتُكُمْ .
قَالَ : وَصَنَعْتَ كَيْفَ ؟ فَحَدَّثْته الْحَدِيثَ قَالَ : اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ .
} وَلِأَنَّهُ حَصَّلَ لَهُ الْمَأْذُونَ فِيهِ وَزِيَادَةً مِنْ جِنْسِهِ تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ ، فَوَقَعَ ذَلِكَ لَهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : لَهُ بِعْهُ بِدِينَارٍ .
فَبَاعَهُ بِدِينَارَيْنِ ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْبَيْعِ .
فَإِنْ بَاعَ الْوَكِيلُ إحْدَى الشَّاتَيْنِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، الْبَيْعُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَالَ مُوَكِّلِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ كَبَيْعِ الشَّاتَيْنِ .
وَالثَّانِي ، إنْ كَانَتْ الْبَاقِيَةُ تُسَاوِي دِينَارًا جَازَ ، لِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الْجَعْدِ الْبَارِقِيِّ ، وَلِأَنَّهُ حَصَّلَ لَهُ الْمَقْصُودَ ، وَالزِّيَادَةُ لَوْ كَانَتْ غَيْرَ الشَّاةِ جَازَ ، فَجَازَ لَهُ إبْدَالُهَا بِغَيْرِهَا .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ صِحَّةُ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ وَذَهَبَ إلَيْهِ .
وَإِذَا قُلْنَا : لَا يَجُوزُ
لَهُ بَيْعُ الشَّاةِ .
فَبَاعَهَا ، فَهَلْ يَقَعُ الْبَيْعُ بَاطِلًا أَوْ صَحِيحًا مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمُوَكِّلِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَهَذَا أَصْلٌ لِكُلِّ مَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَوَكِيلٌ يُخَالِفُ مُوَكِّلَهُ ، هَلْ يَقَعُ بَاطِلًا أَوْ يَصِحُّ وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ هَاهُنَا وَجْهَانِ .
( 3801 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ سِلْعَةٍ مَوْصُوفَةٍ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْتَرِيَهَا إلَّا سَلِيمَةً لِأَنَّ إطْلَاقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ ، وَلِذَلِكَ جَازَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ .
فَإِنْ اشْتَرَى مَعِيبًا يَعْلَمُ عَيْبَهُ ، لَمْ يَلْزَمْ الْمُوَكِّلَ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى غَيْرَ مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَيْبَهُ ، صَحَّ ، الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الصَّحِيحِ فِي الظَّاهِرِ ، لِعَجْزِهِ عَنْ التَّحَرُّزِ عَنْ شِرَاءِ مَعِيبٍ لَا يَعْلَمُ عَيْبَهُ ، فَإِذَا عَلِمَ عَيْبَهُ مَلَكَ رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ فِي الشِّرَاءِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ ، وَلِلْمُوَكِّلِ رَدُّهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ ، فَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ رَدِّ الْوَكِيلِ ، وَرَضِيَ بِالْعَيْبِ ، لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ رَدُّهُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ ، بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ ، فَإِنَّ لَهُ الرَّدَّ وَإِنْ رَضِيَ رَبُّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فَلَا يَسْقُطُ بِرِضَى غَيْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ ، فَأَرَادَ الْوَكِيلُ الرَّدَّ ، فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ : تَوَقَّفْ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ ، فَرُبَّمَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ .
لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ فَوَاتَ الرَّدِّ لِهَرَبِ الْبَائِعِ ، وَفَوَاتَ الثَّمَنِ بِتَلَفِهِ ، وَإِنْ أَخَّرَهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، فَلَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُوَكِّلُ ، لَمْ يَسْقُطْ رَدُّهُ .
وَإِنْ قُلْنَا : الرَّدُّ عَلَى الْفَوْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فِيهِ .
وَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ : مُوَكِّلُك قَدْ عَلِمَ الْعَيْبَ فَرَضِيَهُ .
لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يُسْتَحْلَفْ الْوَكِيلُ ، إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ عِلْمَهُ ، فَيَحْلِفَ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ كَانَ نَائِبًا فِي الْيَمِينَ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحِ ، فَإِنَّهُ لَا نِيَابَةَ هَاهُنَا ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ عِلْمِهِ ، وَهَذَا لَا يَنُوبُ فِيهِ عَنْ أَحَدٍ .
فَإِنْ رَدَّ الْوَكِيلُ ، وَحَضَرَ
الْمُوَكِّلُ ، وَقَالَ : بَلَغَنِي الْعَيْبُ ، وَرَضِيت بِهِ .
وَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ ، لَمْ يَقَعْ الرَّدُّ مَوْقِعَهُ ، وَكَانَ لِلْمُوَكِّلِ اسْتِرْجَاعُهُ ، وَلِلْبَائِعِ رَدُّهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِهِ عَزَلَ الْوَكِيلَ عَنْ الرَّدِّ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ الرَّدُّ ، إلَّا أَنْ نَقُولَ : إنَّ الْوَكِيلَ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَعْلَمَ الْعَزْلَ .
وَإِنْ رَضِيَ الْوَكِيلُ الْمَعِيبَ ، أَوْ أَمْسَكَهُ إمْسَاكًا يَنْقَطِعُ بِهِ الرَّدُّ ، فَحَضَرَ الْمُوَكِّلُ ، فَأَرَادَ الرَّدَّ ، فَلَهُ ذَلِكَ إنْ صَدَّقَهُ الْبَائِعُ أَنَّ الشِّرَاءَ لَهُ ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ .
وَإِنْ كَذَّبَهُ وَلَمْ تَكُنْ بِهِ بَيِّنَةٌ ، فَحَلَّفَهُ الْبَائِعُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الشِّرَاءَ لَهُ ، فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَهُوَ لَهُ ، وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ ، وَعَلَيْهِ غَرَامَةُ الثَّمَنِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِلْوَكِيلِ شِرَاءُ الْمَعِيبِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا يَدْخُلُ الْمَعِيبُ فِي إطْلَاقِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَمِينُهُ فِي الشِّرَاءِ ، فَجَازَ لَهُ شِرَاءُ الْمَعِيبِ ، كَالْمُضَارِبِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْبَيْعَ بِإِطْلَاقِهِ يَقْتَضِي الصَّحِيحَ دُونَ الْمَعِيبِ ، فَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ فِيهِ ، وَيُفَارِقُ الْمُضَارَبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الرِّبْحُ ، وَالرِّبْحُ يَحْصُلُ مِنْ الْمَعِيبِ كَحُصُولِهِ مِنْ الصَّحِيحِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْوَكَالَةِ شِرَاءُ مَا يَقْتَنِي أَوْ يَدْفَعُ بِهِ حَاجَتَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ الْعَيْبُ مَانِعًا مِنْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ بِهِ وَمِنْ قِنْيَتِهِ ، فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ .
وَقَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ أَصْلَهُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } : لَا تَجُوزُ الْعَمْيَاءُ وَلَا مَعِيبَةٌ عَيْبًا يَضُرُّ بِالْعَمَلِ .
وَقَالَ هَاهُنَا : يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ شِرَاءُ الْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ .
( 3802 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ بِعَيْنِهَا ، فَاشْتَرَاهَا ، فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً ، احْتَمَلَ أَنَّ لَهُ الرَّدَّ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ مَوْصُوفَةٍ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الرَّدَّ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَطَعَ نَظَرَهُ بِالتَّعْيِينِ ، فَرُبَّمَا رَضِيَهُ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِهِ .
وَإِنْ عَلِمَ عَيْبَهُ قَبْلَ شِرَائِهِ ، فَهَلْ لَهُ شِرَاؤُهُ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَيْضًا ، مَبْنِيَّيْنِ عَلَى رَدِّهِ إذَا عَلِمَ عَيْبَهُ بَعْدَ شِرَائِهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : يَمْلِكُ رَدَّهُ .
فَلَيْسَ لَهُ شِرَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ إذَا جَازَ بِهِ الرَّدُّ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَأَنْ يَمْنَعَ مِنْ الشِّرَاءِ أَوْلَى .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ ثَمَّ .
فَلَهُ الشِّرَاءُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُوَكِّلِ قَطَعَ نَظَرَهُ وَاجْتِهَادَهُ فِي جَوَازِ الرَّدِّ ، فَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ .
( 3803 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ شَيْئًا بِإِذْنِهِ ، انْتَقَلَ الْمِلْكُ مِنْ الْبَائِعِ إلَى الْمُوَكِّلِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْوَكِيلِ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَكِيلِ ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهِ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْمُوَكِّلِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَبِلَ عَقْدًا لَغَيْرِهِ صَحَّ لَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ ، كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ ، وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَ لَهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِهِ .
غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَوْ وَكَّلَ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، فَاشْتَرَاهُ لَهُ ، لَمْ يَصِحَّ الشِّرَاءُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصِحُّ ، وَيَقَعُ لِلذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ لَهُمْ ، لِأَنَّهُمْ يَتَمَوَّلُونَهَا وَيَتَبَايَعُونَهَا ، فَصَحَّ تَوْكِيلُهُمْ فِيهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ .
وَلَنَا ، أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ الْعَقْدُ عَلَيْهِ ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ فِيهِ ، كَتَزْوِيجِ الْمَجُوسِيَّةِ .
وَبِهَذَا خَالَفَ سَائِرَ أَمْوَالِهِمْ .
وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ ، ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ فِي الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ .
وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ ، فَلِلْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ الْمُطَالَبَةُ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ دُونَهُ ، وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ مَجْلِسُ الصَّرْفِ وَالْخِيَارِ بِهِ دُونَ مُوَكِّلِهِ ، فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا دَيْنٌ لِلْمُوَكِّلِ يَصِحُّ قَبْضُهُ لَهُ ، فَمَلَكَ الْمُطَالَبَةَ بِهِ ، كَسَائِرِ دُيُونِهِ الَّتِي وَكَّلَ فِيهَا ، وَيُفَارِقُ مَجْلِسَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الْعَقْدِ ، فَتَعَلَّقَ بِالْعَاقِدِ ، كَالْإِيجَابِ ، وَالْقَبُولِ .
وَأَمَّا
الثَّمَنُ فَهُوَ حَقٌّ لِلْمُوَكِّلِ وَمَالٌ مِنْ أَمْوَالِهِ ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِهِ ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ ، وَهِيَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ ، وَقَبْضُ الْمَبِيعِ ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ ، وَضَمَانُ الدَّرْك .
فَأَمَّا ثَمَنُ مَا اشْتَرَاهُ إذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ أَصْلًا ، وَفِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ تَبَعًا ، كَالضَّامِنِ ، وَلِلْبَائِعِ مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، فَإِنْ أَبْرَأَ الْوَكِيلَ لَمْ يَبْرَأْ الْمُوَكِّلُ ، وَإِنْ أَبْرَأَ الْمُوَكِّلَ بَرِئَ الْوَكِيلُ أَيْضًا ، كَالضَّامِنِ وَالْمَضْمُونِ عَنْهُ سَوَاءٌ .
وَإِنْ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ ، فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا ، فَرَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ ، كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ .
إنْ تَلِفَ فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُوَكِّلِ .
وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا يَتَسَلَّفُ لَهُ أَلْفًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ، فَفَعَلَ ، مَلَكَ الْمُوَكِّلُ ثَمَنَهَا ، وَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ عَنْ مُوَكِّلِهِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
( 3804 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا : إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ ثَوْبًا لِيَبِيعَهُ ، فَفَعَلَ ، فَوَهَبَ لَهُ الْمُشْتَرِي مَنْدِيلًا ، فَالْمِنْدِيلُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ .
إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ هِبَةَ الْمِنْدِيلِ سَبَبُهَا الْبَيْعُ ، فَكَانَ الْمِنْدِيلُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ تَلْحَقُ بِهِ .
( 3805 ) فَصْلٌ : فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ ، إذَا ادَّعَى الْوَكَالَةَ ، وَأَقَامَ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ ، أَوْ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا فِيهَا رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، تَثْبُتُ بِذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْوَكَالَةُ بِمَالٍ ؛ فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُوَكِّلُ ، وَيُشْهِدُ عَلَى نَفْسِهِ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ ، إذَا كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِدَيْنٍ ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ .
نَقَلَهَا الْخِرَقِيِّ بِقَوْلِهِ : وَلَا تُقْبَلُ فِيمَا سِوَى الْأَمْوَالِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِأَقَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ إثْبَاتٌ لِلتَّصَرُّفِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ كَالرِّوَايَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ فِي الْمَالِ يُقْصَدُ بِهَا الْمَالُ ، فَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ، كَالْبَيْعِ وَالْقَرْضِ .
فَإِنْ شَهِدَا بِوَكَالَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَدْ عَزَلَهُ .
لَمْ تَثْبُتْ وَكَالَتُهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ تَثْبُتْ وَكَالَتُهُ بِذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِالْعَزْلِ رَجُلًا غَيْرَهُمَا ، لَمْ يَثْبُتْ الْعَزْلُ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمَا يَثْبُتُ بِهِ التَّوْكِيلُ .
وَمَتَى عَادَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِالتَّوْكِيلِ ، فَقَالَ : قَدْ عَزَلَهُ .
لَمْ يُحْكَمْ بِشَهَادَتِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا .
فَلَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِمَا رَجَعَ عَنْهُ الشَّاهِدُ .
وَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِمَا ، ثُمَّ عَادَ أَحَدُهُمَا ، فَقَالَ : قَدْ عَزَلَهُ بَعْدَ مَا وَكَّلَهُ .
لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ نَفَذَ بِالشَّهَادَةِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْعَزْلُ .
فَإِنْ قَالَا جَمِيعًا : قَدْ كَانَ عَزَلَهُ ؛ ثَبَتَ الْعَزْلُ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَمَّتْ فِي الْعَزْلِ ، كَتَمَامِهَا فِي التَّوْكِيلِ .
( 3806 ) فَصْلٌ : فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ يَوْمَ السَّبْتِ ، لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غَيْرُ التَّوْكِيلِ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَلَمْ تَكْمُلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِتَوْكِيلِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ يَوْمَ السَّبْتِ ، تَمَّتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ إخْبَارٌ عَنْ عَقْدٍ وَاحِدٍ ، وَيَشُقُّ جَمْعَ الشُّهُودِ لِيُقِرَّ عِنْدَهُمْ حَالَةً وَاحِدَةً ، فَجُوِّزَ لَهُ الْإِقْرَارُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ وَحْدَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَهُ بِالْوَكَالَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِهَا بِالْعَجَمِيَّةِ ، ثَبَتَتْ .
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْعَجَمِيَّةِ ، لَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْعَرَبِيَّةِ غَيْرُ التَّوْكِيلِ بِالْعَجَمِيَّةِ ، فَلَمْ تَكْمُلْ الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ : وَكَّلْتُك .
وَشَهِدَ الْآخَرُ ، أَنَّهُ قَالَ : أَذِنْت لَك فِي التَّصَرُّفِ .
أَوْ أَنَّهُ قَالَ : جَعَلْتُك وَكِيلًا .
أَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَالَ : جَعَلْتُك جَرْيًا .
لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُخْتَلِفٌ .
وَالْجَرْيُ : الْوَكِيلُ .
وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : أَشْهَدُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ .
وَقَالَ الْآخَرُ : أَشْهَدُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ تَمَّتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَحْكِيَا لَفْظَ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنَّمَا عَبَّرَا عَنْهُ بِلَفْظِهِمَا ، وَاخْتِلَافُ لَفْظِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ إذَا اتَّفَقَ مَعْنَاهُ .
وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدِي أَنَّهُ وَكَّلَهُ .
وَقَالَ الْآخَرُ : أَشْهَدُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ جَرْيُهُ .
أَوْ أَنَّهُ أَوْصَى إلَيْهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي حَيَاتِهِ .
ثَبَتَتْ الْوَكَالَةُ بِذَلِكَ .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ ، وَشَهِدَ
الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ وَزَيْدًا ، أَوْ شَهِدَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهِ ، وَقَالَ : لَا تَبِعْهُ حَتَّى تَسْتَأْمِرَنِي ، أَوْ تَسْتَأْمِرَ فُلَانًا .
لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَثْبَتَ اسْتِقْلَالَهُ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ .
وَالثَّانِيَ يَنْفِي ذَلِكَ ، فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ عَبْدِهِ وَجَارِيَتِهِ ، حَكَمَ بِالْوَكَالَةِ فِي الْعَبْدِ ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهِ ، وَزِيَادَةُ الثَّانِي لَا تَقْدَحُ فِي تَصَرُّفِهِ فِي الْأَوَّلِ ، فَلَا تَضُرُّهُ .
وَهَكَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهِ لِزَيْدٍ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِهِ لِزَيْدِ وَإِنْ شَاءَ لِعَمْرٍو .
( 3807 ) فَصْلٌ : وَلَا تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ وَالْعَزْلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً .
وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ لِلْمُخْبَرِ بِذَلِكَ ، إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ ، بِشَرْطِ الضَّمَانِ إنْ أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ .
وَيَثْبُتُ الْعَزْلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ رَسُولًا ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي هَذَا يَشُقُّ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ ، وَلِأَنَّهُ أَذِنَ فِي التَّصَرُّفِ وَمَنَعَ مِنْهُ ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي هَذَا شُرُوطُ الشَّهَادَةِ ، كَاسْتِخْدَامِ غُلَامِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَقْدٌ مَالِيٌّ ، فَلَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، كَالْبَيْعِ ، وَفَارَقَ الِاسْتِخْدَامَ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَقْدٍ .
وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ وَكَّلَ فُلَانًا الْحَاضِرَ ، فَقَالَ الْوَكِيلُ : مَا عَلِمْت هَذَا ، وَأَنَا أَتَصَرَّفُ عَنْهُ .
ثَبَتَتْ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنِّي لَمْ أَعْلَمْ إلَى الْآنَ ، وَقَبُولُ الْوَكَالَةِ يَجُوزُ مُتَرَاخِيًا ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّوْكِيلِ حُضُورُ الْوَكِيلِ وَلَا عِلْمُهُ ، فَلَا يَضُرُّ جَهْلُهُ بِهِ .
وَإِنْ قَالَ : مَا أَعْلَمُ صِدْقَ الشَّاهِدَيْنِ .
لَمْ تَثْبُتْ وَكَالَتُهُ ؛ لِقَدْحِهِ فِي شَهَادَتِهِمَا .
وَإِنْ قَالَ : مَا عَلِمْت .
وَسَكَتَ ، قِيلَ لَهُ : فَسِّرْ .
فَإِنْ فَسَّرَ بِالْأَوَّلِ ثَبَتَتْ وَكَالَتُهُ ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِالثَّانِي لَمْ تَثْبُتْ .
( 3808 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ بِالْوَكَالَةِ عَلَى الْغَائِبِ ، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ فُلَانًا الْغَائِبَ وَكَّلَنِي فِي كَذَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ .
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَصِحُّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي سَمَاعِ الْبَيِّنَةِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ حُضُورُهُ كَغَيْرِهِ .
وَإِذَا قَالَ لَهُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ : احْلِفْ أَنَّك تَسْتَحِقُّ مُطَالَبَتِي .
لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ طَعْنٌ فِي الشَّهَادَةِ .
وَإِنْ قَالَ : قَدْ عَزَلَك الْمُوَكِّلُ ، فَاحْلِفْ أَنَّهُ مَا عَزَلَك .
لَمْ يُسْتَحْلَفْ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَالْيَمِينُ لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ .
وَإِنْ قَالَ : أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مُوَكِّلَك قَدْ عَزَلَك .
سُمِعَتْ دَعْوَاهُ .
وَإِنْ طَلَبَ الْيَمِينَ مِنْ الْوَكِيلِ ، حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مُوَكِّلَهُ عَزَلَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى عَلَيْهِ .
وَإِنْ أَقَامَ الْخَصْمُ بَيِّنَةً بِالْعَزْلِ ، سُمِعَتْ ، وَانْعَزَلَ الْوَكِيلُ .
( 3809 ) فَصْلٌ : وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُرُّ بِهَا نَفْعًا ، وَلَا يَدْفَعُ بِهَا ضَرَرًا .
وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِيمَا لَمْ يُوَكِّلْهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا .
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ حَقًّا ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَهُ فِي قَبْضِ حَقٍّ ، فَشَهِدَ بِهِ لَهُ ، ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ قَبْضِهِ ، وَلِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُخَاصَمَةَ فِيهِ .
فَإِنْ شَهِدَ بِمَا كَانَ وَكِيلًا فِيهِ بَعْدَ عَزْلِهِ ، لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ، سَوَاءٌ كَانَ خَاصَمَ فِيهِ بِالْوَكَالَةِ أَوْ لَمْ يُخَاصِمْ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ كَانَ لَمْ يُخَاصِمْ فِيهِ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ وَلَمْ يُخَاصِمْ فِيهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِيهِ .
وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ بِعَقْدِ الْوَكَالَةِ صَارَ خَصْمًا فِيهِ ، فَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِيهِ ، كَمَا لَوْ خَاصَمَ فِيهِ ، وَفَارَقَ مَا لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيهِ .
( 3810 ) فَصْلٌ : إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ نَفْسَيْنِ ، فَشَهِدَا أَنَّ زَوْجَهَا وَكَّلَ فِي طَلَاقِهَا ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا ، وَهُوَ زَوَالُ حَقِّ الزَّوْجِ مِنْ الْبُضْعِ الَّذِي هُوَ مِلْكُهُمَا .
وَإِنْ شَهِدَا بِعَزْلِ الْوَكِيلِ فِي الطَّلَاقِ ، لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا ، وَهُوَ إبْقَاءُ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ .
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ابْنَيْ الرَّجُلِ لَهُ بِالْوَكَالَةِ ، وَلَا أَبَوَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ لَهُ حَقَّ التَّصَرُّفِ ، وَلَا يَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ حَقٌّ بِشَهَادَةِ ابْنِهِ وَلَا أَبِيهِ .
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ابْنَيْ الْمُوَكِّلِ ، وَلَا أَبَوَيْهِ بِالْوَكَالَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ عَلَى الْمُوَكِّلِ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَكِيلُ الْمُطَالَبَةَ ، فَقُبِلَتْ فِيهِ شَهَادَةُ قَرَابَةِ الْمُوَكِّلِ ، كَالْإِقْرَارِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ يَثْبُتُ بِهَا حَقٌّ لِأَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ ، فَلَمْ تُقْبَلْ ، كَشَهَادَةِ ابْنَيْ الْوَكِيلِ وَأَبَوَيْهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ لِأَبِيهِمَا نَائِبًا مُتَصَرِّفًا لَهُ ، وَفَارَقَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ ، فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَيْهِ مُتَمَحِّضَةٌ .
وَلَوْ ادَّعَى الْوَكِيلُ الْوَكَالَةَ ، فَأَنْكَرَهَا الْمُوَكِّلُ ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ ابْنَاهُ أَوْ أَبَوَاهُ ، ثَبَتَتْ الْوَكَالَةُ وَأُمْضِيَ تَصَرُّفُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ ادَّعَى الْمُوَكِّلُ أَنَّهُ تَصَرَّفَ بِوَكَالَتِهِ ، وَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَبَوَاهُ أَوْ ابْنَاهُ ، قُبِلَ أَيْضًا ؛ لِذَلِكَ .
وَإِنْ ادَّعَى وَكِيلٌ لِمُوَكِّلِهِ الْغَائِبِ حَقًّا ، وَطَالَبَ بِهِ ، فَادَّعَى الْخَصْمُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ عَزَلَهُ ، وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ ابْنَا الْمُوَكِّلِ ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ، وَثَبَتَ الْعَزْلُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا .
وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ الْخَصْمُ عَزْلَهُ ، لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِمَنْ لَا يَدَّعِيهَا .
فَإِنْ قَبَضَ
الْوَكِيلُ ، فَحَضَرَ الْمُوَكِّلُ ، وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَزَلَ الْوَكِيلَ ، وَأَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ ، وَشَهِدَ لَهُ ابْنَاهُ ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ حَقًّا لِأَبِيهِمَا .
وَلَوْ ادَّعَى مُكَاتَبٌ الْوَكَالَةَ ، فَشَهِدَ لَهُ سَيِّدُهُ ، أَوْ ابْنَا سَيِّدِهِ ، أَوْ أَبَوَاهُ ، لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ يَشْهَدُ لِعَبْدِهِ ، وَابْنَاهُ يَشْهَدَانِ لِعَبْدِ أَبِيهِمَا ، وَالْأَبَوَانِ يَشْهَدَانِ لِعَبْدِ ابْنِهِمَا .
فَإِنْ عَتَقَ ، فَأَعَادَ الشَّهَادَةَ ، فَهَلْ تُقْبَلُ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ .
( 3811 ) فَصْلٌ : إذَا حَضَرَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْآخَرَ وَكَّلَهُ ، ثُمَّ غَابَ الْمُوَكِّلُ ، وَحَضَرَ الْوَكِيلُ ، فَقَدَّمَ خَصْمًا لِمُوَكِّلِهِ ، وَقَالَ : أَنَا وَكِيلُ فُلَانٍ .
فَأَنْكَرَ الْخَصْمُ كَوْنَهُ وَكِيلَهُ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ .
لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ بِوَكَالَتِهِ .
وَإِنْ قُلْنَا : يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ .
وَكَانَ الْحَاكِمُ يَعْرِفُ الْمُوَكِّلَ بِعَيْنِهِ وَاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، صَدَّقَهُ ، وَمَكَّنَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ كَالْبَيِّنَةِ .
وَإِنْ عَرَفَهُ بِعَيْنِهِ دُونَ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ ، حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عِنْدَهُ بِالْوَكَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَثْبِيتَ نَسَبِهِ عِنْدَهُ بِقَوْلِهِ ، فَلَمْ يَقْبَلْ .
( 3812 ) فَصْلٌ : وَلَوْ حَضَرَ عِنْدَ الْحَاكِمِ رَجُلٌ ، فَادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ فُلَانٍ الْغَائِبِ ، فِي شَيْءٍ عَيَّنَهُ ، وَأَحْضَرَ بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِالْوَكَالَةِ ، سَمِعَهَا الْحَاكِمُ .
وَلَوْ ادَّعَى حَقًّا لِمُوَكِّلِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ وَكَالَتِهِ ، لَمْ يَسْمَعْ الْحَاكِمُ دَعْوَاهُ .
وَبِهِ قَالَ مَالِك وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَسْمَعُهَا إلَّا أَنْ يُقَدِّمَ خَصْمًا مِنْ خُصَمَاءِ الْمُوَكِّلِ ، فَيَدَّعِيَ عَلَيْهِ حَقًّا ، فَإِذَا أَجَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حِينَئِذٍ يَسْمَعُ الْحَاكِمُ الْبَيِّنَةَ ، فَحَصَلَ الْخِلَافُ بَيْنَنَا فِي حُكْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّ الْحَاكِمَ عِنْدَنَا يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكَالَةِ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ خَصْمٍ ، وَعِنْدَهُ لَا يَسْمَعُ .
وَالثَّانِي ، أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِمُوَكِّلِهِ قَبْلَ ثُبُوتِ وَكَالَتِهِ ، وَعِنْدَهُ تُسْمَعُ .
وَبَنَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ ، وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ بِالْوَكَالَةِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ ، وَأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تُلْزِمُ الْخَصْمَ ، مَا لَمْ يَجِبْ الْوَكِيلُ عَنْ دَعْوَى الْخَصْمِ أَنَّك لَسْت بِوَكِيلِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إثْبَاتٌ لِلْوَكَالَةِ ، فَلَمْ يَفْتَقِرْ إلَى حُضُورِ الْمُوَكَّلِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوَكَّلُ عَلَيْهِ جَمَاعَةً فَأُحْضِرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، فَإِنَّ الْبَاقِينَ لَا يُفْتَقَرُ إلَى حُضُورِهِمْ ، كَذَلِكَ هَاهُنَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْوَكَالَةِ أَنَّهَا لَا تُسْمَعُ إلَّا مِنْ خَصْمٍ يُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ مُوَكِّلِهِ ، وَهَذَا لَا يُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ وَكِيلٌ لِمَنْ يَدَّعِي لَهُ ، فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى لِمَنْ لَمْ يَدَّعِ وَكَالَتَهُ ، وَفِي هَذَا الْأَصْلِ جَوَابٌ عَمَّا ذَكَرَهُ .
( 3813 ) فَصْلٌ : وَلَوْ حَضَرَ رَجُلٌ ، وَادَّعَى عَلَى غَائِبٍ مَالًا فِي وَجْهِ وَكِيلِهِ ، فَأَنْكَرَهُ فَأَقَامَ بَيِّنَةً بِمَا ادَّعَاهُ ، حَلَّفَهُ الْحَاكِمُ ، وَحَكَمَ لَهُ بِالْمَالِ .
فَإِذَا حَضَرَ الْمُوَكِّلُ ، وَجَحَدَ الْوَكَالَةَ ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَزَلَهُ ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى حُضُورِ وَكِيلِهِ .
( 3814 ) فَصْلٌ : إذَا قَالَ : بِعْ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشْرَةٍ ، فَمَا زَادَ عَلَيْهَا فَهُوَ لَك .
صَحَّ ، وَاسْتَحَقَّ الزِّيَادَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ .
وَلَنَا ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ لَا يَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا ، وَلِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِهِ بِإِذْنِهِ ، فَصَحَّ شَرْطُ الرِّبْحِ لَهُ فِي الثَّانِي ، كَالْمُضَارِبِ وَالْعَامِلِ فِي الْمُسَاقَاةِ .
كِتَابُ الْإِقْرَارِ بِالْحُقُوقِ الْإِقْرَارُ : هُوَ الِاعْتِرَافُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } .
فِي آيٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ هَذَا .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا أَقَرَّ بِالزِّنَى ، فَرَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ الْغَامِدِيَّةُ ، وَقَالَ : { وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ ، فَإِنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى صِحَّةِ الْإِقْرَارَ .
وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَلَى وَجْهٍ يَنْفِي عَنْهُ التُّهْمَةَ وَالرِّيبَةَ ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَكْذِبُ عَلَى نَفْسِهِ كَذِبًا يُضِرُّ بِهَا ، وَلِهَذَا كَانَ آكَدَ مِنْ الشَّهَادَةِ ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا اعْتَرَفَ لَا تُسْمَعُ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ ، وَإِنَّمَا تُسْمَعُ إذَا أَنْكَرَ ، وَلَوْ كَذَّبَ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ لَمْ تُسْمَعْ ، وَإِنْ كَذَّبَ الْمُقِرَّ ثُمَّ صَدَّقَهُ سُمِعَ .
( 3815 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ إلَّا مِنْ عَاقِلٍ مُخْتَارٍ .
فَأَمَّا الطِّفْلُ ، وَالْمَجْنُونُ ، وَالْمُبَرْسَمُ ، وَالنَّائِمُ ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ ، فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُمْ .
لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ ؛ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ } .
فَنَصَّ عَلَى الثَّلَاثَةِ ، وَالْمُبَرْسَمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ .
وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ مِنْ غَائِبِ الْعَقْلِ ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمٌ ، كَالْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ .
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ ، فَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ ،
صَحَّ إقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا ، فِي الْيَتِيمِ : إذَا أُذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ ، فَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ .
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ اقْتَضَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ، جَازَ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فِيهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى : إنَّمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِيمَا أُذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِيهِ ، فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِحَالٍ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ بَالِغٍ ، فَأَشْبَهَ الطِّفْلَ ، وَلِأَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ ، فَأَشْبَهَ الطِّفْلَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَاقِلٌ مُخْتَارٌ ، يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ ، كَالْبَالِغِ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ فِيمَا مَضَى ، وَالْخَبَرُ مَحْمُولٌ عَلَى رَفْعِ التَّكْلِيفِ وَالْإِثْمِ .
فَإِنْ أَقَرَّ مُرَاهِقٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ هُوَ وَالْمُقَرُّ لَهُ فِي بُلُوغِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ بِبُلُوغِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الصِّغَرُ .
وَلَا يَحْلِفُ الْمُقِرُّ ؛ لِأَنَّنَا حَكَمْنَا بِعَدَمِ بُلُوغِهِ ، إلَّا أَنْ يَخْتَلِفَا بَعْدَ ثُبُوتِ بُلُوغِهِ ، فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا .
وَمَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبِ مُبَاحٍ أَوْ مَعْذُورٍ فِيهِ ، فَهُوَ كَالْمَجْنُونِ ، لَا يُسْمَعُ إقْرَارُهُ .
بِلَا خِلَافٍ .
وَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ ، كَالسَّكْرَانِ ، وَمَنْ شَرِبَ مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ عَامِدًا لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ .
وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَصِحَّ بِنَاءً عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِهِ .
وَهُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ تَجْرِي مَجْرَى الصَّاحِي .
وَلَنَا أَنَّهُ غَيْرُ عَاقِلٍ ، فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ ، كَالْمَجْنُونِ الَّذِي سَبَّبَ جُنُونَهُ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ ، وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ لَا يُوثَقُ بِصِحَّةِ مَا يَقُولُ ، وَلَا تَنْتَفِي عَنْهُ التُّهْمَةُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ ، فَلَمْ يُوجَدْ مَعْنَى الْإِقْرَارِ الْمُوجِبِ
لِقَبُولِ قَوْلِهِ .
وَأَمَّا الْمُكْرَهُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ .
} وَلِأَنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَلَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِغَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ، مِثْلُ أَنْ يُكْرَهَ عَلَى الْإِقْرَارِ لِرَجُلٍ ، فَأَقَرَّ لِغَيْرِهِ ، أَوْ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَالِ ، فَيُقِرَّ بِغَيْرِهِ ، أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ ، فَأَقَرَّ بِطَلَاقِ أُخْرَى ، أَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِ عَبْدٍ ، صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ ابْتِدَاءً .
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَدَاءِ مَالٍ ، فَبَاعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِيُؤَدِّيَ ذَلِكَ ، صَحَّ بَيْعُهُ .
نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكْرَهْ عَلَى الْبَيْعِ .
وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، سَوَاءٌ أَقَرَّ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِكْرَاهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلَالَةً عَلَى الْإِكْرَاهِ ، كَالْقَيْدِ وَالْحَبْسِ وَالتَّوْكِيلِ بِهِ ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَ تَدُلُّ عَلَى الْإِكْرَاهِ .
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ زَائِلَ الْعَقْلِ حَالَ إقْرَارِهِ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهَا .
وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِإِقْرَارِهِ ، لَمْ تَفْتَقِرْ صِحَّةُ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْ يَقُولُوا طَوْعًا فِي صِحَّةِ عَقْلِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ سَلَامَةُ الْحَالِ وَصِحَّةُ الشَّهَادَةِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ إقْرَارِ السَّفِيهِ وَالْمُفْلِسِ وَالْمَرِيضِ فِي أَبْوَابِهِ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ دُونَ مَوْلَاهُ .
وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ مِنْ الْعَبْدِ
إلَّا الْمَالَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَيَجِبُ الْمَالُ دُونَ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، وَهِيَ مَالُ السَّيِّدِ ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ ، كَجِنَايَةِ الْخَطَأِ .
وَأَمَّا إقْرَارُهُ بِمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ ، فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ، وَيُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَبِهِ قَالَ زُفَرُ وَالْمُزَنِيُّ وَدَاوُد وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ حَقَّ سَيِّدِهِ بِإِقْرَارِهِ ، فَأَشْبَهَ الْإِقْرَارَ بِقَتْلِ الْخَطَأِ ، وَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي أَنَّهُ يُقِرُّ لِرَجُلٍ لِيَعْفُوَ عَنْهُ ، وَيَسْتَحِقَّ أَخْذَهُ ، فَيَتَخَلَّصُ بِذَلِكَ مِنْ سَيِّدِهِ .
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ ، فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ ، كَمَا دُونَ النَّفْسِ .
وَبِهَذَا الْأَصْلِ يَنْتَقِضُ دَلِيلُ الْأَوَّلِ .
وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنْ لَا يَصِحُّ عَفْوُ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ عَلَى مَالٍ إلَّا بِاخْتِيَارِ سَيِّدِهِ ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى إيجَابِ الْمَالِ عَلَى سَيِّدِهِ بِإِقْرَارِ غَيْرِهِ ، فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ ، وَلَا شِبْهِ الْعَمْدِ ، وَلَا بِجِنَايَةِ عَمْدٍ مُوجِبُهَا الْمَالُ ، كَالْجَائِفَةِ وَالْمَأْمُومَةِ ، لِأَنَّهُ إيجَابُ حَقٍّ فِي رَقَبَتِهِ ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الْمَوْلَى .
وَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إيجَابُ حَقٍّ فِي مَالِهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مُوجِبُهَا الْمَالُ ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ ، وَيُقْبَلُ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ كَانَ مُوجِبُهَا الْقَطْعَ وَالْمَالَ ، فَأَقَرَّ بِهَا الْعَبْدُ ، وَجَبَ قَطْعُهُ ، وَلَمْ يَجِبْ الْمَالُ ، سَوَاءٌ كَانَ مَا أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ بَاقِيًا ، أَوْ تَالِفًا فِي يَدِ السَّيِّدِ أَوْ يَدِ الْعَبْدِ .
قَالَ أَحْمَدُ فِي عَبْدٍ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ دَرَاهِمَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ سَرَقَهَا مِنْ رَجُلٍ ، وَالرَّجُلُ يَدَّعِي ذَلِكَ ، وَسَيِّدُهُ
يُكَذِّبُهُ : فَالدَّرَاهِمُ لِسَيِّدِهِ ، وَيُقْطَعُ الْعَبْدُ ، وَيُتْبَعُ بِذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي وُجُوبِ الْمَالِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجْهَانِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شُبْهَةٌ ، فَيُدْرَأُ بِهَا الْقَطْعُ ، لِكَوْنِهِ حَدًّا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْنَ الَّتِي يُقِرُّ بِسَرِقَتِهَا لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ السَّرِقَةِ فِيهَا ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْقَطْعِ بِهَا .
وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِالرِّقِّ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالرِّقِّ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ ، وَالْعَبْدُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِحَالٍ ، وَلِأَنَّنَا لَوْ قَبِلْنَا إقْرَارَهُ ، أَضْرَرْنَا بِسَيِّدِهِ ، لِأَنَّهُ إذَا شَاءَ أَقَرَّ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ ، فَأَبْطَلَ مِلْكَهُ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ السَّيِّدُ لِرَجُلِ ، وَأَقَرَّ هُوَ لِآخَرَ ، فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ السَّيِّدُ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ السَّيِّدِ ، لَا فِي يَدِ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ مُنْفَرِدًا قُبِلَ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ مُنْفَرِدًا لَمْ يُقْبَلْ ، فَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُ الْعَبْدِ مُنْفَرِدًا فَكَيْفَ يُقْبَلُ مَعَ مُعَارَضَتِهِ لِإِقْرَارِ السَّيِّدِ ؟ .
وَلَوْ قُبِلَ إقْرَارُ الْعَبْدِ ، لَمَا قُبِلَ إقْرَارُ السَّيِّدِ ، كَالْحَدِّ وَجِنَايَةِ الْعَمْدِ .
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحُرِّ فِي صِحَّةِ إقْرَارِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ بِجِنَايَةٍ خَطَأً صَحَّ إقْرَارُهُ ، فَإِنْ عَجَزَ بِيعَ فِيهَا إنْ لَمْ يَفْدِهِ سَيِّدُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُسْتَسْعَى فِي الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ عَجَزَ بَطَلَ إقْرَارُهُ بِهَا ، سَوَاءٌ قُضِيَ بِهَا أَوْ لَمْ يُقْضَ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا .
وَعَنْهُ أَنَّهُ مُرَاعًى إنْ أَدَّى لَزِمَهُ ، وَإِنْ عَجَزَ بَطَلَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ إقْرَارٌ لَزِمَهُ فِي كِتَابَتِهِ ، فَلَا يَبْطُلُ بِعَجْزِهِ ، كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ .
وَعَلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِالْجِنَايَةِ ، كَالْحُرِّ .
( 3816 ) فَصْلٌ : وَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ لِكُلِّ مَنْ يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ .
فَإِذَا أَقَرَّ لِعَبْدٍ بِنِكَاحٍ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ تَعْزِيرِ الْقَذْفِ ، صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ ، صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ كَذَّبَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ دُونَ سَيِّدِهِ .
وَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِذَلِكَ ، وَالْعَفْوُ عَنْهُ ، وَلَيْسَ لِسَيِّدِهِ مُطَالَبَةٌ بِهِ وَلَا عَفْوٌ .
وَإِنْ كَذَّبَهُ الْعَبْدُ ، لَمْ يَقْبَلْ .
وَإِنْ أُقِرَّ لَهُ بِمَالٍ ، صَحَّ ، وَيَكُونُ لِسَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ كَيَدِ سَيِّدِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ قُلْنَا : يَمْلِكُ الْمَالَ .
صَحَّ الْإِقْرَارُ لَهُ .
وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَمْلِكُ .
كَانَ الْإِقْرَارُ لِمَوْلَاهُ ، يَلْزَمُ بِتَصْدِيقِهِ وَيَبْطُلُ بِرَدِّهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ لِبَهِيمَةٍ أَوْ دَارٍ ، لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لَهَا ، وَكَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْمَالَ مُطْلَقًا ، وَلَا يَدَ لَهَا .
وَإِنْ قَالَ : عَلَيَّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْبَهِيمَةِ .
لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا لَأَحَدٍ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لِمَنْ هِيَ ، وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ ذِكْرُ الْمُقَرِّ لَهُ .
وَإِنْ قَالَ : لِمَالِكِهَا أَوْ لِزَيْدٍ عَلَيَّ بِسَبَبِهَا أَلْفٌ .
صَحَّ الْإِقْرَارُ .
وَإِنْ قَالَ : بِسَبَبِ حَمْلِ هَذِهِ الْبَهِيمَةِ .
لَمْ يَصِحَّ ، إذْ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ شَيْءٍ بِسَبَبِ الْحَمْلِ .
( 3817 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَقَرَّ لِحَمْلِ امْرَأَةٍ بِمَالٍ ، وَعَزَاهُ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ ، صَحَّ ، وَكَانَ لِلْحَمْلِ .
وَإِنْ أَطْلَقَ ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ يَصِحُّ .
وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ ، فَصَحَّ لَهُ الْإِقْرَارُ الْمُطْلَقُ ، كَالطِّفْلِ .
فَعَلَى هَذَا ، إنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ، كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
وَإِنْ عَزَاهُ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ ، كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى حَسَبِ اسْتِحْقَاقِهِمَا لِذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ : لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ إلَّا أَنْ يَعْزِيَهُ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِغَيْرِهِمَا .
فَإِنْ وَلَدَتْ الْوَلَدَ مَيِّتًا ، وَكَانَ قَدْ عَزَا الْإِقْرَارَ إلَى إرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ ، عَادَتْ إلَى وَرَثَةِ الْمُوصِي وَمَوْرُوثِ الطِّفْلِ ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْإِقْرَارَ ، كُلِّفَ ذِكْرَ السَّبَبِ ، فَيُعْمَلُ بِقَوْلِهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ التَّفْسِيرُ بِمَوْتِهِ أَوْ غَيْرِهِ ، بَطَلَ إقْرَارُهُ ، كَمَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ لَا يَعْرِفُ مَنْ أَرَادَ بِإِقْرَارِهِ .
وَإِنْ عَزَا الْإِقْرَارَ إلَى جِهَةٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ ، فَقَالَ : لِهَذَا الْحَمْلُ عَلَيَّ أَلْفٌ أَقْرَضَنِيهَا ، أَوْ وَدِيعَةٌ أَخَذْتهَا مِنْهُ .
فَعَلَى قَوْلِ التَّمِيمِيِّ ، الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إقْرَارَهُ بِمَا يُسْقِطُهُ ، فَيَسْقُطُ مَا وَصَلَهُ بِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا تَلْزَمُنِي .
وَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ جَعَلْتهَا لَهُ .
أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، فَهِيَ عِدَّةٌ لَا يُؤْخَذُ بِهَا .
وَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَحَمْلٍ إلَّا إذَا تَيَقَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْإِقْرَارِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ لِمَسْجِدٍ أَوْ مَصْنَعٍ أَوْ طَرِيقٍ ، وَعَزَاهُ إلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ ، مِثْلِ أَنْ يَقُولَ : مِنْ غَلَّةِ وَقْفِهِ .
صَحَّ .
وَإِنْ أَطْلَقَ ، خُرِّجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ .
مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ ، وَاسْتَثْنَى مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلًا ، إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَ عَيْنًا مِنْ وَرِقٍ ، أَوْ وَرِقًا مِنْ عَيْنٍ ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَصْلَانِ : ( 3819 ) أَوَّلُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ، وَبِهَذَا قَالَ زُفَرُ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنْ اسْتَثْنَى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، جَازَ ، وَإِنْ اسْتَثْنَى عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ ، لَمْ يَجُزْ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَلُغَةِ الْعَرَبِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إلَّا قِيلًا سَلَامًا } .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ وَقَالَ آخَرُ : عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إلَّا أُوَارِي لَأَيًّا مَا أُبَيِّنُهَا وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَرْفُ اللَّفْظِ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيه لَوْلَاهُ .
وَقِيلَ : هُوَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، مُشْتَقٌّ مِنْ ثَنَيْت فُلَانًا عَنْ رَأْيِهِ .
إذَا صَرَفْته عَنْ رَأْيٍ كَانَ عَازِمًا عَلَيْهِ .
وَثَنَيْت عِنَانَ دَابَّتِي .
إذَا صَرَفْتهَا بِهِ عَنْ وِجْهَتِهَا الَّتِي كَانَتْ تَذْهَبُ إلَيْهَا .
وَغَيْرُ الْجِنْسِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْكَلَامِ ، فَإِذَا ذَكَرَهُ ، فَمَا صَرَفَ الْكَلَامَ عَنْ صَوْبِهِ ، وَلَا ثَنَاهُ عَنْ وَجْهِ اسْتِرْسَالِهِ ، فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ اسْتِثْنَاءً تَجَوُّزًا ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْتِدْرَاكٌ .
" وَإِلَّا " هَاهُنَا بِمَعْنَى " لَكِنْ " .
هَكَذَا قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ ؛ مِنْهُمْ ابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَحَكَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ .
وَالِاسْتِدْرَاكُ لَا يَأْتِي إلَّا بَعْدَ الْجَحْدِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ
يَأْتِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ إلَّا بَعْدَ النَّفْيِ ، وَلَا يَأْتِي بَعْدَهُ الْإِثْبَاتُ ، إلَّا أَنْ يُوجَدَ بَعْدَهُ جُمْلَةٌ .
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، فَلَا مَدْخَلَ لِلِاسْتِدْرَاكِ فِي الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ لِلْمُقِرِّ بِهِ ، فَإِذَا ذَكَرَ الِاسْتِدْرَاكَ بَعْدَهُ كَانَ بَاطِلًا ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ جُمْلَةٍ كَأَنْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا لِي عَلَيْهِ .
فَيَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ مُدَّعِيًا لَشَيْءٍ سِوَاهُ ، فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ ، وَتَبْطُلُ دَعْوَاهُ ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ بِغَيْرِ لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَسَجَدُوا إلَّا إبْلِيسَ } فَإِنَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِالسُّجُودِ غَيْرَهُمْ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ لَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ ، وَلَا عَاصِيًا بِتَرْكِهِ ، وَلَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } .
وَلَا قَالَ : { مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُكَ .
} وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا فَلِمَ أَنْكَسَهُ اللَّهُ وَأَهْبَطَهُ وَدَحَرَهُ ؟ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِالسُّجُودِ إلَّا الْمَلَائِكَةَ .
فَإِنْ قَالُوا : بَلْ قَدْ تَنَاوَلَ الْأَمْرُ الْمَلَائِكَةَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ ، فَدَخَلَ إبْلِيسُ فِي الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ مَعَهُمْ .
قُلْنَا : قَدْ سَقَطَ اسْتِدْلَالُكُمْ ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ إبْلِيسُ دَاخِلًا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ ، فَاسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْجِنْسِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لِمَنْ أَنْصَفَ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَعَلَى هَذَا ، مَتَى قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا .
لَزِمَهُ الْأَلْفُ ، وَسَقَطَ الِاسْتِثْنَاءُ ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، لَكِنْ لِي عَلَيْهِ ثَوْبٌ .
( 3820 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : إذَا اسْتَثْنَى عَيْنًا مِنْ وَرِقٍ ، أَوْ وَرِقًا مِنْ عَيْنٍ ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّتِهِ ؛ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَهُوَ
قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى : فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَاخْتَارَ الْخِرَقِيِّ صِحَّتَهُ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ أَحَدِهِمَا مَعْلُومٌ مِنْ الْآخَرِ ، وَيُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ، فَإِنَّ قَوْمًا يُسَمُّونَ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا ، وَآخَرُونَ يُسَمُّونَ ثَمَانِيَةَ دَرَاهِمَ دِينَارًا ، فَإِذَا اسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ ، عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْبِيرَ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ، فَإِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، فِي مَوْضِعٍ يُعَبِّرُ فِيهِ بِالدِّينَارِ عَنْ تِسْعَةٍ ، كَانَ مَعْنَاهُ : لَهُ عَلَيَّ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةً .
وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ ، لَمْ يَجُزْ إلْغَاؤُهُ ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، فَوَجَبَ تَصْحِيحُهُ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْوَرِقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا ، فَيَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ صِحَّةُ اسْتِثْنَاءِ الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ .
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِحَمْلِ رِوَايَةِ الصِّحَّةِ عَلَى مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْآخَرِ ، أَوْ يُعْلَمُ قَدْرُهُ مِنْهُ ، وَرِوَايَةِ الْبُطْلَانِ عَلَى مَا إذَا انْتَفَى ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 3821 ) فَصْلٌ : وَلَوْ ذَكَرَ نَوْعًا مِنْ جِنْسٍ وَاسْتَثْنَى نَوْعًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةُ آصُعٍ تَمْرًا بَرْنِيًّا ، إلَّا ثَلَاثَةً تَمْرًا مَعْقِلِيًّا .
لَمْ يَجُزْ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
وَيُخَالِفُ الْعَيْنَ وَالْوَرِقَ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ مِنْ الْآخَرِ ، وَلَا يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ .
وَيُحْتَمَلُ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ جَوَازُهُ ؛ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ مِنْ النَّوْعَيْنِ ، فَهُمَا كَالْعَيْنِ وَالْوَرِقِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ فِي الْعَيْنِ وَالْوَرِقِ غَيْرُ ذَلِكَ .
( 3822 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ مَا دَخَلَ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، فَجَائِزٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } .
وَقَالَ : { فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إلَّا إبْلِيسَ .
} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّهِيدِ : { يُكَفَّرُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كُلُّهَا إلَّا الدَّيْنَ .
} وَهَذَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرٌ ، وَفِي سَائِرِ كَلَامِ الْعَرَبِ .
فَإِذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ ، كَانَ مُقِرًّا بِالْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ ، فَإِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إلَّا عَشْرَةً .
كَانَ مُقِرًّا بِتِسْعِينَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِي اللَّفْظِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ لَمَا أَمْكَنَ إخْرَاجُهُ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْعَشَرَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ لَمَا قُبِلَ مِنْهُ إنْكَارُهَا .
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } .
إخْبَارٌ بِتِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ، فَالِاسْتِثْنَاءُ بَيَّنَ أَنَّ الْخَمْسِينَ الْمُسْتَثْنَاةَ غَيْرُ مُرَادَةٍ ، كَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَخْصُوصَ غَيْرُ مُرَادٍ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ ، وَإِنْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ إلَّا هَذَا الْبَيْتَ .
كَانَ مُقِرًّا بِمَا سِوَى الْبَيْتِ مِنْهَا .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : إلَّا ثُلُثَهَا ، أَوْ رُبُعَهَا .
صَحَّ ، وَكَانَ مُقِرًّا بِالْبَاقِي بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لَهُ ، وَهَذَا الْبَيْتُ لِي .
صَحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ ، لِكَوْنِهِ أَخْرَجَ بَعْضَ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ .
وَإِنْ قَالَ : لَهُ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدُ إلَّا هَذَا .
صَحَّ ، وَكَانَ مُقِرًّا بِمَنْ سِوَاهُ مِنْهُمْ .
وَإِنْ قَالَ : إلَّا وَاحِدًا .
صَحَّ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَصِحُّ مَجْهُولًا ، فَكَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ ، وَيُرْجَعُ فِي تَعْيِينِ الْمُسْتَثْنَى إلَيْهِ ،
لِأَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ بِهِ .
وَإِنْ عَيَّنَ مَنْ عَدَا الْمُسْتَثْنَى ، صَحَّ ، وَكَانَ الْبَاقِي لَهُ .
فَإِنْ هَلَكَ الْعَبِيدُ إلَّا وَاحِدًا ، فَذَكَرَ أَنَّهُ الْمُسْتَثْنَى ، قُبِلَ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا يُقْبَلُ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يُرْفَعُ بِهِ الْإِقْرَارُ كُلُّهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِهِ فِي حَيَاتِهِمْ لِمَعْنًى هُوَ مَوْجُودٌ بَعْدَ مَوْتِهِمْ ، فَقُبِلَ كَحَالَةِ حَيَاتِهِمْ ، وَلَيْسَ هَذَا رَفْعًا لِلْإِقْرَارِ ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُقَرّ بِهِ لِتَلَفِهِ ، لَا لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى التَّفْسِيرِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَيَّنَهُ فِي حَيَاتِهِمْ ، فَتَلِفَ بَعْدَ تَعْيِينِهِ .
وَإِنْ قُتِلَ الْجَمِيعُ إلَّا وَاحِدًا ، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِالْبَاقِي ، وَجْهًا وَاحِدًا .
وَإِنْ قُتِلَ الْجَمِيعُ ، فَلَهُ قِيمَةُ أَحَدِهِمْ ، وَيُرْجَعُ فِي التَّفْسِيرِ إلَيْهِ .
وَإِنْ قَالَ : غَصَبْتُك هَؤُلَاءِ الْعَبِيدَ إلَّا وَاحِدًا .
فَهَلَكُوا إلَّا وَاحِدًا ؛ قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِهِ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَسْتَحِقُّ قِيمَةَ الْهَالِكِينَ ، فَلَا يُفْضِي التَّفْسِيرُ بِالْبَاقِي إلَى سُقُوطِ الْإِقْرَارِ ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا فَصْلٌ ( 3823 ) : وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ بِسَائِرِ أَدَوَاتِهِ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِلَّا ، فَإِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ سِوَى دِرْهَمٍ ، أَوْ لَيْسَ دِرْهَمًا ، أَوْ خَلَا دِرْهَمًا ، أَوْ عَدَا دِرْهَمًا ، أَوْ مَا خَلَا أَوْ مَا عَدَا دِرْهَمًا ، أَوْ لَا يَكُونُ دِرْهَمًا أَوْ غَيْرَ دِرْهَمٍ .
بِفَتْحِ الرَّاءِ ، كَانَ مُقِرًّا بِتِسْعَةٍ .
وَإِنْ قَالَ : غَيْرُ دِرْهَمٍ ، بِضَمِّ رَائِهَا ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، كَانَ مُقِرًّا بِعَشْرَةٍ ، لِأَنَّهَا تَكُونُ صِفَةً لِلْعَشَرَةِ الْمُقَرِّ بِهَا ، وَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً .
فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ اسْتِثْنَاءً كَانَتْ مَنْصُوبَةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ
أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، لَزِمَهُ تِسْعَةٌ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ الِاسْتِثْنَاءَ لَكِنَّهُ رَفَعَهَا جَهْلًا مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ، لَا قَصْدًا لِلصِّفَةِ .
( 3824 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ ، فَإِنْ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ ، أَوْ فَصَلَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى بِكَلَامِ أَجْنَبِيٍّ ، لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَكَتَ أَوْ عَدَلَ عَنْ إقْرَارِهِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ، اسْتَقَرَّ حُكْمُ مَا أَقَرَّ بِهِ ، فَلَمْ يَرْتَفِعْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ ، وَيَنْتَظِرُ مَا يَتِمُّ بِهِ كَلَامُهُ ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالْعَطْفِ وَالْبَدَلِ وَنَحْوِهِ .
( 3825 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَفَعَ بَعْضَ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ ، وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ رَفَعَ الْكُلَّ ، فَلَوْ صَحَّ صَارَ الْكَلَامُ كُلُّهُ لَغْوًا غَيْرَ مُفِيدٍ ، فَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَدِرْهَمٌ إلَّا دِرْهَمًا .
أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَدِرْهَمَانِ إلَّا دِرْهَمَيْنِ .
أَوْ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ إلَّا نِصْفًا ، أَوْ إلَّا دِرْهَمًا .
أَوْ خَمْسَةٌ وَتِسْعُونَ إلَّا خَمْسَةً .
لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَلَزِمَهُ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيه مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، أَنَّهُ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ الْعَاطِفَةَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ ، وَتَجْعَلُ الْجُمْلَتَيْنِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا تَعَقَّبَ جُمَلًا مَعْطُوفًا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ ، عَادَ إلَى جَمِيعِهَا ، كَقَوْلِنَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا : } إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَادَ إلَى الْجُمْلَتَيْنِ ، فَإِذَا تَابَ الْقَاذِفُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } .
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لَمْ تُخْرِجْ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ جُمْلَتَيْنِ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْفَعُ إحْدَاهُمَا جَمِيعًا ، وَلَا نَظِيرَ لِهَذَا فِي كَلَامِهِمْ ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ تَجْعَلُ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ لَغْوًا ، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ شَيْئًا بِلَفْظٍ مُفْرَدٍ ، ثُمَّ رَفَعَهُ كُلَّهُ ، فَلَا يَصِحُّ ، كَمَا لَوْ اسْتَثْنَى مِنْهَا وَهِيَ غَيْرُ مَعْطُوفَةٍ عَلَى بَعْضِهَا ، فَأَمَّا الْآيَةُ وَالْخَبَرُ ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمْ يَرْفَعْ إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ ، إنَّمَا أَخْرَجَ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةٍ ، فَنَظِيرُهُ مَا
لَوْ قَالَ لِلْبَوَّابِ : مَنْ جَاءَ يَسْتَأْذِنُ فَأْذَنْ لَهُ ، وَأَعْطِهِ دِرْهَمًا ، إلَّا فُلَانًا .
وَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا مَا لَوْ قَالَ : أَكْرِمْ زَيْدًا وَعَمْرًا إلَّا عَمْرًا .
وَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمَانِ وَثَلَاثَةٌ إلَّا دِرْهَمَيْنِ .
لَمْ يَصِحَّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْجُمْلَةَ الْأُولَى كُلَّهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ : أَكْرِمْ زَيْدًا وَعَمْرًا إلَّا زَيْدًا .
وَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثَةٌ إلَّا دِرْهَمَيْنِ ، خُرِّجَ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى أَكْثَرَ الْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيه ، وَاسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ فَاسِدٌ ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ .
( 3826 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ ، وَعَطَفَ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ ، كَانَ مُضَافًا إلَيْهِ .
فَإِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً ، وَإِلَّا دِرْهَمَيْنِ .
كَانَ مُسْتَثْنِيًا لِخَمْسَةِ مُبْقِيًا لِخَمْسَةٍ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي غَيْرَ مَعْطُوفٍ عَلَى الْأَوَّلِ ، كَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ ، قَدْ جَاءَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ } .
فَإِذَا كَانَ صَدْرُ الْكَلَامِ إثْبَاتًا ، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ نَفْيًا وَالثَّانِي إثْبَاتًا ، فَإِنْ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً ثَالِثًا ، كَانَ نَفْيًا يَعُودُ كُلُّ اسْتِثْنَاءٍ إلَى مَا يَلِيهِ مِنْ الْكَلَامِ ، فَإِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إلَّا دِرْهَمًا .
كَانَ مُقِرًّا بِثَمَانِيَةٍ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ عَشْرَةً ، ثُمَّ نَفَى مِنْهَا ثَلَاثَةً وَأَثْبَتَ دِرْهَمًا ، وَبَقِيَ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْمَنْفِيَّةِ دِرْهَمَانِ مُسْتَثْنَيَانِ مِنْ الْعَشَرَةِ ، فَيَبْقَى مِنْهَا ثَمَانِيَةٌ ، وَسَنَزِيدُ لِهَذَا الْفَصْلِ فُرُوعًا فِي مَسْأَلَةِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ .
( 3827 ) فَصْلٌ : إذَا قَالَ : لَهُ هَذِهِ الدَّارُ هِبَةً ، أَوْ سُكْنَى ، أَوْ عَارِيَّةٌ كَانَ إقْرَارًا بِمَا أَبْدَلَ بِهِ كَلَامَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ بِآخِرِ كَلَامِهِ بَعْضَ مَا دَخَلَ فِي أَوَّلِهِ ، فَصَحَّ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِجُمْلَةٍ وَاسْتَثْنَى بَعْضَهَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي هَذَا وَجْهًا ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ، وَلَيْسَ هَذَا اسْتِثْنَاءً ، إنَّمَا هَذَا بَدَلٌ ، وَهُوَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ .
وَيُسَمَّى هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْبَدَلِ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ ، وَهُوَ أَنْ يُبْدِلَ مِنْ الشَّيْءِ بَعْضَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْءُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } .
فَأَبْدَلَ الْقِتَالَ مِنْ الشَّهْرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهِ .
وَقَالَ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنَّهُ قَالَ : { وَمَا أَنْسَانِيهُ إلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } .
أَيْ أَنْسَانِي ذِكْرَهُ .
وَإِنْ قَالَ : لَهُ هَذِهِ الدَّارُ ثُلُثُهَا .
أَوْ قَالَ : رُبْعُهَا .
صَحَّ ، وَيَكُونُ مُقِرًّا بِالْجُزْءِ الَّذِي أَبْدَلَهُ ، وَهَذَا بَدَلُ الْبَعْضِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاسْتِثْنَاءٍ .
وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى : { قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ } .
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } .
وَلَكِنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ ، فِي كَوْنِهِ يُخْرِجُ مِنْ الْكَلَامِ بَعْضَ مَا يَدْخُلُ فِيهِ لَوْلَاهُ ، وَيُفَارِقُهُ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ إبْدَالُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْدَلَ الْمُسْتَطِيعَ لِلْحَجِّ مِنْ النَّاسِ ، وَهُوَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِهِمْ ، وَأَبْدَلَ الْقِتَالَ مِنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ، وَهُوَ غَيْرُهُ ؟ وَمَتَى قَالَ : لَهُ هَذِهِ الدَّارُ سُكْنَى أَوْ عَارِيَّةٌ ثَبَتَ فِيهَا حُكْمُ ذَلِكَ ، وَلَهُ أَنْ لَا يُسْكِنَهُ إيَّاهَا ، وَأَنْ يَعُودَ فِيمَا أَعَارَهُ .
( 3828 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، فَقَالَ : قَدْ كَانَ لَهُ عَلَيَّ وَقَضَيْتُهُ .
لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إقْرَارًا ) حَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ .
اخْتَارَهُ الْقَاضِي ، وَقَالَ : لَمْ أَجِدْ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً بِغَيْرِ هَذَا .
وَالثَّانِيَةُ ، أَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْحَقِّ ، مُدَّعٍ لِقَضَائِهِ ، فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالْقَضَاءِ ؛ وَإِلَّا حَلَفَ غَرِيمُهُ وَأَخَذَ .
وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ ، وَادَّعَى الْقَضَاءَ ، فَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى الْقَضَاءَ بِكَلَامِ مُنْفَصِلٍ ، وَلِأَنَّهُ رَفَعَ جَمِيعَ مَا أَثْبَتَهُ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ .
وَلِلشَّافِعِي قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ قَوْلٌ مُتَّصِلٌ ، يُمْكِنُ صِحَّتُهُ ، وَلَا تَنَاقُضَ فِيهِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ كَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ ، وَفَارَقَ الْمُنْفَصِلَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ قَدْ اسْتَقَرَّ بِسُكُوتِهِ عَلَيْهِ ، فَلَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ ، وَلِذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ بَعْضُهُ بِاسْتِثْنَاءِ وَلَا غَيْرِهِ ، فَمَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِنْ دَعْوَى الْقَضَاءِ يَكُونُ دَعْوَى مُجَرَّدَةً ، لَا تُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةِ ، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ فَمُتَنَاقِضٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ .
( 3829 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ ، وَقَضَيْتُهُ مِنْهَا خَمْسِينَ .
فَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِيمَا إذَا قَالَ : وَقَضَيْتهَا .
وَإِنْ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ : لِي عَلَيْك مِائَةٌ .
فَقَالَ : قَضَيْتُك مِنْهَا خَمْسِينَ .
فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَكُونُ مُقِرًّا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْخَمْسِينَ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ قَضَاهَا فِي كَلَامِهِ مَا تَمْنَعُ بَقَاءَهَا ، وَهُوَ دَعْوَى الْقَضَاءِ ، وَبَاقِي الْمِائَةِ لَمْ يَذْكُرْهَا ، وَقَوْلُهُ : مِنْهَا .
يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا مِمَّا يَدَّعِيه ، وَيَحْتَمِلُ مِمَّا عَلَيَّ ، فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ
شَيْءٌ بِكَلَامٍ مُحْتَمِلٍ .
وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنْ يَلْزَمَهُ الْخَمْسُونَ الَّتِي ادَّعَى قَضَاءَهَا ؛ لِأَنَّ فِي ضِمْنِ دَعْوَى الْقَضَاءِ إقْرَارًا بِأَنَّهَا كَانَتْ عَلَيْهِ ، فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْقَضَاءِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ .
( 3830 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ .
وَسَكَتَ ، لَزِمَهُ الْأَلْفُ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَصْحَابِنَا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِ شَيْئًا فِي الْحَالِ ، إنَّمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فَجَازَ فِي زَمَنٍ مَاضٍ ، فَلَا يَثْبُتْ فِي الْحَالِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ لَمْ يَثْبُتْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْوُجُوبِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَرْفَعُهُ ، فَبَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَوْ تَنَازَعَا دَارًا ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَنَّهَا كَانَتْ مِلْكَهُ ، حُكِمَ بِهَا لَهُ ، إلَّا أَنَّهُ هَاهُنَا إنْ عَادَ فَادَّعَى الْقَضَاءَ أَوْ الْإِبْرَاءَ ، سُمِعَتْ دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ إقْرَارِهِ وَبَيْنَ مَا يَدَّعِيه .
( 3831 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ ، قَضَيْته إيَّاهَا .
لَزِمَهُ الْأَلْفُ ، وَلَمْ تُقْبَلْ دَعْوَى الْقَضَاءِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ مَا أَثْبَتَهُ بِدَعْوَى الْقَضَاءِ مُتَّصِلًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ : كَانَ لَهُ عَلَيَّ ، وَقَضَيْته .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى إنْ قَالَ : قَضَيْت جَمِيعَهُ .
لَمْ يُقْبَلْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَلَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَلَهُ الْيَمِينُ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ .
وَلَوْ قَالَ : قَضَيْت بَعْضَهُ .
قُبِلَ مِنْهُ ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ بَعْضَ مَا أَقَرَّ بِهِ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اسْتَثْنَاهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : قَضَيْت جَمِيعَهُ .
لِكَوْنِهِ رَفَعَ جَمِيعَ مَا هُوَ ثَابِتٌ ، فَأَشْبَهَ اسْتِثْنَاءَ الْكُلِّ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفٌ قَدْ قَضَاهُ ، فَإِنَّ كَوْنَهُ عَلَيْهِ يَقْتَضِي بَقَاءَهُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَاسْتِحْقَاقَ مُطَالَبَتِهِ بِهِ ، وَقَضَاؤُهُ يَقْتَضِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْهُ ، وَتَحْرِيمَ مُطَالَبَتِهِ بِهِ ، وَالْإِقْرَارُ بِهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ ، وَالْقَضَاءُ يَقْتَضِي رَفْعَهُ ، وَهَذَانِ ضِدَّانِ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : كَانَ لَهُ عَلَيَّ ، وَقَضَيْته .
فَإِنَّهُ أَخْبَرَ بِهِمَا فِي زَمَانَيْنِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْتَفِعَ مَا كَانَ ثَابِتًا ، وَيَقْضِيَ مَا كَانَ دَيْنًا ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ هَذَا فِي الْجَمِيعِ ، لَمْ يَصِحَّ فِي الْبَعْضِ ؛ لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ أَلْفٍ عَلَيْهِ وَقَدْ قَضَى بَعْضَهُ ، وَيُفَارِقُ الِاسْتِثْنَاءَ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } .
عِبَارَةٌ عَنْ تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ .
أَمَّا الْقَضَاءُ فَإِنَّمَا يَرْفَعُ جُزْءًا كَانَ ثَابِتًا ، فَإِذَا ارْتَفَعَ بِالْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْبَقَاءِ .
فَصْلٌ : وَإِنْ وَصَلَ إقْرَارَهُ بِمَا يُسْقِطُهُ ، فَقَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، أَوْ مِنْ ثَمَنِ طَعَامٍ اشْتَرَيْته فَهَلَكَ قَبْلَ قَبْضِهِ ، أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَاسِدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ ، أَوْ تَكَفَّلْت بِهِ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ .
لَزِمَهُ الْأَلْفُ ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِهِ .
ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ إذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ زُيُوفٌ .
فَفَسَّرَهُ بِرَصَاصٍ أَوْ نُحَاسٍ ، لَمْ يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّهُ رَفَعَ كُلَّ مَا اعْتَرَفَ بِهِ .
وَقَالَ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا : يُقْبَلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَزَا إقْرَارَهُ إلَى سَبَبِهِ ، فَقُبِلَ كَمَا لَوْ عَزَاهُ إلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ مَا أَقَرَّ بِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَالصُّورَةِ الَّتِي سَلَّمَهَا ، وَكَمَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا يَلْزَمُنِي .
أَوْ يَقُولُ : دَفَعَ جَمِيعَ مَا أَقَرَّ بِهِ .
فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ .
وَغَيْرُ خَافٍ تَنَاقُضُ كَلَامِهِ ؛ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَلْفٍ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يُتَصَوَّرُ ، وَإِقْرَارُهُ إخْبَارٌ بِثُبُوتِهِ ، فَيَتَنَافَيَانِ ، وَإِنْ سَلَّمَ ثُبُوتَ الْأَلْفِ عَلَيْهِ فَهُوَ مَا قُلْنَاهُ .
( 3832 ) فَصْلٌ : وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْ إقْرَارِهِ ، إلَّا فِيمَا كَانَ حَدًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَيُحْتَاطُ لِإِسْقَاطِهِ .
فَأَمَّا حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ ، كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ ، فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهَا .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
فَإِذَا قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ ، لَا بَلْ لِعَمْرٍو .
أَوْ ادَّعَى زَيْدٌ عَلَى مَيِّتٍ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْ تَرِكَتِهِ ، فَصَدَّقَهُ ابْنُهُ ، ثُمَّ ادَّعَاهُ عَمْرٌو ، فَصَدَّقَهُ ، حُكِمَ بِهِ لِزَيْدٍ وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ غَرَامَتُهُ لِعَمْرٍو .
وَهَذَا ظَاهِرُ أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَا يَغْرَمُ لِعَمْرٍو شَيْئًا .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَا عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ بِهِ ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ الْحُكْمُ مِنْ قَبُولِهِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ حَالَ بَيْنَ عَمْرٍو وَبَيْنَ مِلْكِهِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ ، فَلَزِمَهُ غُرْمُهُ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى آخَرَ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ ، أَوْ كَمَا لَوْ رَمَى بِهِ إلَى الْبَحْرِ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ .
وَإِنْ قَالَ : غَصَبْت هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ ، لَا بَلْ مِنْ عَمْرٍو .
أَوْ غَصَبْتهَا مِنْ زَيْدٍ ، وَغَصَبَهَا زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو .
حُكِمَ بِهَا لِزَيْدِ ، وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُهَا إلَيْهِ ، وَيَغْرَمُهَا لِعَمْرٍو .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَا يَضْمَنُ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ وَالرَّدِّ إلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، ثُمَّ لَمْ يَرُدَّ مَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ ، كَمَا لَوْ تَلِفَ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ ، فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلِ : اسْتَوْدَعْتُك هَذَا الثَّوْبَ .
قَالَ : صَدَقْت ، ثُمَّ قَالَ : اسْتَوْدَعَنِيهِ رَجُلٌ آخَرِ .
فَالثَّوْبُ لِلْأَوَّلِ ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ لِلْآخَرِ .
وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ بِكَلَامِ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ .
( 3833 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ : غَصَبْت هَذِهِ الدَّارَ مِنْ زَيْدٍ ، وَمِلْكُهَا لِعَمْرٍو .
لَزِمَهُ دَفْعُهَا إلَى زَيْدٍ ؛ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِأَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهَا فِي يَدِهِ بِحَقٍّ ، وَمِلْكُهَا لِعَمْرٍو لَا يُنَافِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ زَيْدٍ بِإِجَارَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ ، وَلَا يَغْرَمُ لِعَمْرِو شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ .
وَفَارَقَ هَذَا مَا إذَا قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ ، بَلْ لِعَمْرِو ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِلثَّانِيَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ ، فَكَانَ الثَّانِي رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ ؛ لِتَعَارُضِهِمَا ، وَهَا هُنَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَ إقْرَارَيْهِ .
وَإِنْ قَالَ : مِلْكُهَا لِعَمْرٍو ، وَغَصَبْتهَا مِنْ زَيْدٍ .
فَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ دَفْعُهَا إلَى عَمْرٍو ، وَيَغْرَمُهَا لِزَيْدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِهَا لِعَمْرٍو أَوَّلًا ، لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِالْيَدِ لِزَيْدِ .
وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ كَهَذَيْنِ .
وَلَوْ قَالَ : هَذَا الْأَلْفُ دَفَعَهُ إلَيَّ زَيْدٌ ، وَهُوَ لِعَمْرٍو .
أَوْ قَالَ : هُوَ لِعَمْرٍو دَفَعَهُ إلَيَّ زَيْدٌ .
فَكَذَلِكَ ، عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْقَوْلِ فِيهِ .
( 3834 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَالَ : غَصَبْتهَا مِنْ أَحَدِهِمَا .
أَوْ هِيَ لِأَحَدِهِمَا .
صَحَّ الْإِقْرَارُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ ، فَيَصِحُّ لِلْمَجْهُولِ ، وَيُطَالَبُ بِالْبَيَانِ ، فَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا دُفِعَتْ إلَيْهِ ، وَيَحْلِفُ لِلْآخَرِ إنْ ادَّعَاهَا ، وَلَا يَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لَهُ بِشَيْءٍ .
وَإِنْ قَالَ : لَا أَعْرِفُهُ عَيْنًا .
فَصَدَّقَاهُ ، نُزِعَتْ مِنْ يَدِهِ ، وَكَانَا خَصْمَيْنِ فِيهَا ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ ، وَتُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ .
فَإِنْ كَانَ لَأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ ، حُكِمَ لَهُ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ، أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا ، فَمَنْ قَرَعَ صَاحِبَهُ حَلَفَ ، وَسُلِّمَتْ إلَيْهِ .
وَإِنْ بَيَّنَ الْغَاصِبُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالِكَهَا ، قُبِلَ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ بَيَّنَهُ ابْتِدَاءً .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ، تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْهُ ، فَإِنْ حَلَفَ لَأَحَدِهِمَا ، لَزِمَهُ دَفْعُهَا إلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى تَعْيِينِهِ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَهُمَا جَمِيعًا ، فَسُلِّمَتْ إلَى أَحَدِهِمَا بِقُرْعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، لَزِمَهُ غُرْمُهَا لِلْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ نَكَلَ عَنْ يَمِينٍ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ ، فَقُضِيَ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ ادَّعَاهَا وَحْدَهُ .
( 3835 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ عَبْدَانِ ، فَقَالَ : أَحَدُ هَذَيْنِ لِزَيْدٍ .
طُولِبَ بِالْبَيَانِ ، فَإِنْ عَيَّنَ أَحَدَهُمَا فَصَدَّقَهُ زَيْدٌ أَخَذَهُ .
وَإِنْ قَالَ : هَذَا لِي ، وَالْعَبْدُ الْآخَرُ لِزَيْدٍ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ فِي الْعَبْدِ الَّذِي يُنْكِرُهُ .
وَإِنْ قَالَ زَيْدٌ : إنَّمَا لِي الْعَبْدُ الْآخَرُ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي يُنْكِرُهُ ، وَلَا يَدْفَعُ إلَى زَيْدٍ الْعَبْدَ الْمُقَرَّ بِهِ وَلَكِنْ يُقَرُّ فِي يَدِ الْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِهِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي الْآخَرِ ، يُنْزَعُ مِنْ يَدِهِ ، لِاعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ ، وَيَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ مَعْرُوفٌ ، فَأَشْبَهَ مِيرَاثَ مَنْ لَا يُعْرَفُ وَارِثُهُ .
فَإِنْ أَبَى التَّعْيِينَ ، فَعَيَّنَهُ الْمُقَرُّ لَهُ ، وَقَالَ : هَذَا عَبْدِي .
طُولِبَ بِالْجَوَابِ ، فَإِنْ أَنْكَرَ حَلَفَ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تَعْيِينِهِ لِلْآخَرِ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ يُقْضَى عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ ، فَهُوَ كَتَعْيِينِهِ .
( 3836 ) فَصْلٌ : وَلَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ ، ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ ، فَقَالَ : هَذَا الَّذِي أَقْرَرْت بِهِ .
فَقَالَ : لَيْسَ هُوَ هَذَا ، إنَّمَا هُوَ آخَرُ .
فَعَلَى الْمُقِرِّ الْيَمِينُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ سِوَاهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ هَذَا إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه .
وَإِنْ قَالَ : هَذَا لِي ، وَلِي عِنْدَك آخَرُ .
سَلَّمَ إلَيْهِ هَذَا ، وَحَلَفَ لَهُ عَلَى نَفْيِ الْآخَرِ .
وَكُلُّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمِلْكٍ ، فَكَذَّبَهُ ، بَطَلَ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْإِنْسَانِ مِلْكٌ لَا يَعْتَرِفُ بِهِ .
وَفِي الْمَالِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِهِ ، فَإِذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي ، يُؤْخَذُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ مَالِكٌ .
وَقِيلَ : يُؤْخَذُ فَيُحْفَظُ حَتَّى يَظْهَرَ مَالِكُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيه أَحَدٌ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ هَذَا .
فَإِنْ عَادَ أَحَدُهُمَا فَكَذَّبَ نَفْسَهُ ، دُفِعَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِيه ، وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَذَّبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، نَفْسَهُ ، فَرَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ ، وَادَّعَاهُ الْمُقَرُّ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُقِرِّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا بِتَلَفٍ أَوْ إبَاقٍ وَنَحْوِهِ ، بِغَيْرِ تَعَدٍّ مِنْ أَحَدِهِمَا ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ مِنْ يَمِينٍ وَلَا غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ بِتَعَدٍّ مِنْ أَحَدِهِمَا ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ بَاقِيًا .
فَإِذَا حَلَفَ ، سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ ، وَإِنْ كَانَ تَلَفُهُ .
بِتَعَدِّيهِ ، وَوَجَبَ لَهُ الضَّمَانُ عَلَى الْآخَرِ ، إنْ كَانَ تَلَفُهُ بِتَعَدٍّ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 3837 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَمَنْ أَقَرَّ بِعَشَرَةِ ، دَرَاهِمَ ، ثُمَّ سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ : زُيُوفًا أَوْ صِغَارًا أَوْ إلَى شَهْرٍ .
كَانَتْ عَشَرَةً جِيَادًا وَافِيَةً حَالَّةً ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ ، وَأَطْلَقَ ، اقْتَضَى إقْرَارُهُ الدَّرَاهِمَ الْوَافِيَةَ ، وَهِيَ دَرَاهِمُ الْإِسْلَامِ ، كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ ، وَكُلُّ دِرْهَمٍ سِتَّةُ دَوَانِقَ ، وَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ جِيَادًا ، حَالَّةً ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَأَطْلَقَ ، فَإِنَّهَا تَلْزَمُهُ كَذَلِكَ .
فَإِذَا سَكَتَ سُكُوتًا يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ فِيهِ ، أَوْ أَخَذَ فِي كَلَامٍ غَيْرِ مَا كَانَ فِيهِ ، اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ كَذَلِكَ .
فَإِنْ عَادَ ، فَقَالَ : زُيُوفًا .
يَعْنِي رَدِيئَةً .
أَوْ صِغَارًا .
وَهِيَ الدَّرَاهِمُ النَّاقِصَةُ ، مِثْلُ دَرَاهِمَ طَبَرِيَّةَ ، كَانَ كُلُّ دِرْهَمٍ مِنْهَا أَرْبَعَةَ دَوَانِقَ ، وَذَلِكَ ثُلُثَا دِرْهَمٍ .
أَوْ إلَى شَهْرٍ .
يَعْنِي مُؤَجَّلَةً ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَنْ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَيَرْفَعُهُ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِهَا دَيْنًا ، أَوْ وَدِيعَةً ، أَوْ غَصْبًا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلٍ فِي عَيْنٍ ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي سَلَامَتَهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَقَرَّ بِغَصْبِ عَبْدٍ ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ مَعِيبًا .
وَلَنَا ، أَنَّ إطْلَاقَ الِاسْمِ يَقْتَضِي الْوَازِنَةَ الْجِيَادَ ، فَلَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ، كَالدَّيْنِ ، وَيُفَارِقُ الْعَبْدَ ؛ فَإِنَّ الْعَيْبَ لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ اسْمِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا إنْ وَصَفَهَا بِذَلِكَ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ ، أَوْ سَكَتَ لِلتَّنَفُّسِ ، أَوْ اعْتَرَضَتْهُ سَعْلَةٌ ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، ثُمَّ وَصَفَهَا بِذَلِكَ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ ، قُبِلَ مِنْهُ .
وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ التَّأْجِيلُ .
وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيّ ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَقِّ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَمَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ قَضَيْته إيَّاهَا .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : لَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِالنَّاقِصَةِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ نَاقِصَةٌ .
قُبِلَ قَوْلُهُ .
وَإِنْ قَالَ : صِغَارًا .
وَلِلنَّاسِ دَرَاهِمُ صِغَارٌ ، قُبِلَ قَوْلُهُ أَيْضًا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَرَاهِمُ صِغَارٌ لَزِمَهُ وَازِنَةٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : دُرَيْهِمٌ .
لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَازِنٌ .
وَهَذَا قَوْلُ ابْنُ الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِمَا يَحْتَمِلُهُ بِكَلَامِ مُتَّصِلٍ ، فَقُبِلَ مِنْهُ ، كَاسْتِثْنَاءِ الْبَعْضِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْوَازِنَةِ وَالنَّاقِصَةِ ، وَالزُّيُوفِ وَالْجَيِّدَةِ ، وَكَوْنُهَا عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ الْحُلُولَ وَالتَّأْجِيلَ ، فَإِذَا وَصَفَهَا بِذَلِكَ ، تَقَيَّدَتْ بِهِ ، كَمَا لَوْ وَصَفَ الثَّمَنَ بِهِ ، فَقَالَ : بِعْتُك بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، مُؤَجَّلَةٍ نَاقِصَةٍ .
وَثُبُوتُهَا عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ حَالَةَ الْإِطْلَاقِ ، لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ تَقْيِيدِهَا بِهِ ، كَالثَّمَنِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ التَّأْجِيلَ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَهَا .
لَيْسَ بِصَحِيحِ ، وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُهُ ، فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ الْمُؤَجَّلَ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ ، فَإِذَا كَانَتْ ثَابِتَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، لَمْ تَقْتَضِ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ سَدَّ بَابِ الْإِقْرَارِ بِهَا عَلَى صِفَتِهَا .
وَعَلَى مَا ذَكَرُوهُ ، لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْإِقْرَارِ بِهَا إلَّا عَلَى وَجْهٍ يُؤَاخَذُ بِغَيْرِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَيَفْسُدُ بَابُ الْإِقْرَارِ .
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ " صِغَارًا " يَنْصَرِفُ إلَى الْمِقْدَارِ .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مِسَاحَةَ الدَّرَاهِمِ لَا تُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ وَلَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِمِسَاحَةٍ مُقَدَّرَةٍ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الصِّغَرُ وَالْكِبَرُ فِي الْوَزْنِ ،
فَيَرْجِعُ إلَى تَفْسِيرِ الْمُقِرِّ ، فَأَمَّا إنْ قَالَ : زُيُوفًا .
وَفَسَّرَهَا بِمَغْشُوشَةٍ ، أَوْ مَعِيبَةٍ عَيْبًا يَنْقُصُهَا ، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ ، وَإِنْ فَسَّرَهَا بِنُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ ، أَوْ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ ، لَمْ يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ لَيْسَتْ دَرَاهِمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، فَيَكُونُ تَفْسِيرُهُ بِهِ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ ، كَاسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ .
( 3838 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ وَأَطْلَقَ ، فِي بَلَدٍ أَوْزَانُهُمْ نَاقِصَةٌ ، كَطَبَرِيَّةَ ، كَانَ دِرْهَمُهُمْ أَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ ، وَخُوَارِزْمَ كَانَ دِرْهَمُهُمْ أَرْبَعَةَ دَوَانِيقَ وَنِصْفًا ، وَمَكَّةَ دِرْهَمُهُمْ نَاقِصٌ ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ ، أَوْ فِي بَلَدٍ دَرَاهِمُهُمْ مَغْشُوشَةٌ ، كَمِصْرِ وَالْمَوْصِلِ ، أَوْ بِدَنَانِيرَ فِي بَلَدٍ دَنَانِيرُهُمْ مَغْشُوشَةٌ .
فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَوَّلُهُمَا ، يَلْزَمُهُ مِنْ دَرَاهِمِ الْبَلَدِ وَدَنَانِيرِهِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ كَلَامِهِمْ يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِ بَلَدِهِمْ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْأَثْمَانِ .
وَالثَّانِي ، تَلْزَمُهُ الْوَازِنَةُ الْخَالِصَةُ مِنْ الْغِشِّ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الدَّرَاهِمِ فِي الشَّرْعِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا ، بِدَلِيلِ أَنَّ بِهَا تَقْدِيرَ نُصُبِ الزَّكَاةِ وَمَقَادِيرِ الدِّيَاتِ ، فَكَذَلِكَ إطْلَاقُ الشَّخْصِ .
وَفَارَقَ الْبَيْعَ ؛ فَإِنَّهُ إيجَابٌ فِي الْحَالِ ، فَاخْتَصَّ بِدَرَاهِمِ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُمَا فِيهِ ، وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ فَانْصَرَفَ إلَى دَرَاهِمِ الْإِسْلَامِ .
( 3839 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَقَرَّ بِدَرَاهِمَ ، وَأَطْلَقَ ، ثُمَّ فَسَّرَهَا بِسِكَّةِ الْبَلَدِ الَّذِي أَقَرَّ بِهَا فِيهِ ، قُبِلَ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، وَإِنْ فَسَّرَهَا بِسِكَّةٍ غَيْرِ سِكَّةِ الْبَلَدِ أَجْوَدَ مِنْهَا ، قُبِلَ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَغْلَظُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ مِثْلَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ أَدْنَى مِنْ سِكَّةِ الْبَلَدِ ، لَكِنَّهَا مُسَاوِيَةٌ فِي الْوَزْنِ ، احْتَمَلَ أَنْ لَا يُقْبَلَ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهَا يَقْتَضِي دَرَاهِمَ الْبَلَدِ وَنَقْدَهُ ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دُونَهَا ، كَمَا لَا يُقْبَلُ فِي الْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهَا نَاقِصَةُ الْقِيمَةِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ بِهَا ، كَالنَّاقِصَةِ وَزْنًا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا فَسَّرَهُ بِهِ .
وَفَارَقَ النَّاقِصَةَ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الشَّرْعِ الدَّرَاهِمَ ، لَا يَتَنَاوَلُهَا ، بِخِلَافِ هَذِهِ ، وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ مِقْدَارُ النِّصَابِ فِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ ، وَفَارَقَ الثَّمَنَ ؛ فَإِنَّهُ إيجَابٌ فِي الْحَالِ ، وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ .