الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
( 6838 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَتُسَاوِي جِرَاحُ الْمَرْأَةِ جِرَاحَ الرَّجُلِ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ ، فَإِنْ جَاوَزَ الثُّلُثَ ، فَعَلَى النِّصْفِ ) وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْأَعْرَجُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ ، وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ يَسْتَوِيَانِ إلَى النِّصْفِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ .
وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَاللَّيْثُ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُمَا شَخْصَانِ تَخْتَلِفُ دِيَتُهُمَا ، فَاخْتَلَفَ أَرْشُ أَطْرَافِهِمَا ، كَالْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، فَكَانَ مِنْ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الرَّجُلِ ، كَالْيَدِ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ قَالَ : تُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ، فَإِذَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ ، فَهِيَ عَلَى النِّصْفِ ؛ لِأَنَّهَا تُسَاوِيه فِي الْمُوضِحَةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ ، حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا } أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ .
وَهُوَ نَصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى مَا سِوَاهُ .
وَقَالَ رَبِيعَةُ : قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : كَمْ فِي إصْبَعِ الْمَرْأَةِ ؟ قَالَ : عَشْرٌ .
قُلْت : فَفِي إصْبَعَيْنِ ؟ قَالَ : عِشْرُونَ .
قُلْت : فَفِي ثَلَاثِ أَصَابِعَ ؟ قَالَ : ثَلَاثُونَ .
قُلْت : فَفِي أَرْبَعٍ ؟ قَالَ : عِشْرُونَ .
قَالَ : قُلْت : لَمَّا عَظُمَتْ مُصِيبَتُهَا .
قَلَّ عَقْلُهَا
، قَالَ : هَكَذَا السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي .
وَهَذَا مُقْتَضَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ .
وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ ، إلَّا عَنْ عَلِيٍّ ، وَلَا نَعْلَمُ ثُبُوتَ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ مَا دُونَ الثُّلُثِ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، بِدَلِيلِ الْجَنِينِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى .
فَأَمَّا الثُّلُثُ نَفْسُهُ ، فَهَلْ يَسْتَوِيَانِ فِيهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَسْتَوِيَانِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ حَدَّ الْقِلَّةِ ؛ وَلِهَذَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ } .
وَحَتَّى لِلْغَايَةِ ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَا قَبْلَهَا ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } .
وَلِأَنَّ الثُّلُثَ فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ .
}
( 6839 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا دِيَةُ نِسَاءِ سَائِرِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : تُسَاوِي دِيَاتُهُنَّ دِيَاتِ رِجَالِهِمْ إلَى الثُّلُثِ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { عَقْلُ الْمَرْأَةِ مِثْلُ عَقْلِ الرَّجُلِ ، حَتَّى يَبْلُغَ الثُّلُثَ مِنْ دِيَتِهَا } .
وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ دِيَةُ امْرَأَةٍ ، فَسَاوَتْ دِيَةُ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ دِينِهَا ، كَالْمُسْلِمِينَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُسَاوِيَ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى قَدْرِ ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ التَّنْصِيفُ فِي الْأَصْلِ ، وَهُوَ دِيَةُ الْمُسْلِمِ .
( 6840 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَدِيَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ قِيمَتُهُمَا ، بَالِغَةً مَا بَلَغَ ذَلِكَ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا مَضَى .
وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الْقِنِّ مِنْ الْعَبِيدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : أَجْمَعَ عَوَامُّ الْفُقَهَاءِ ، عَلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فِي جِنَايَتِهِ ، وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ ، إلَّا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُكَاتَبِ : يُؤَدِّي بِقَدْرِ مَا أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ دِيَةَ الْحُرِّ ، وَمَا بَقِيَ دِيَةُ الْعَبْدِ .
وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، فِي " سُنَنِهِ " ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " مُسْنَدِهِ " ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : حَدّ ثِنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ " حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُكَاتَبِ يَقْتُلُ ، أَنَّهُ يُؤَدَّى مَا أَدَّى مِنْ كِتَابَتِهِ دِيَةَ الْحُرِّ ، وَمَا بَقِيَ دِيَةُ الْعَبْدِ } .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَإِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ ، وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا أَوْ مُعَارِضًا بِمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ .
( 6841 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَدِيَةُ الْجَنِينِ إذَا سَقَطَ مِنْ الضَّرْبَةِ مَيِّتًا ، وَكَانَ مِنْ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ ، غُرَّةٌ ، عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ ، قِيمَتُهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ ، كَأَنَّهُ سَقَطَ حَيًّا ) يُقَالُ : غُرَّةُ عَبْدٍ بِالصِّفَةِ .
وَغُرَّةُ عَبْدٍ بِالْإِضَافَةِ .
وَالصِّفَةُ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ اسْمٌ لِلْعَبْدِ نَفْسِهِ ، قَالَ مُهَلْهَلٌ : كُلُّ قَتِيلٍ فِي كُلَيْبٍ غُرَّهْ حَتَّى يَنَالَ الْقَتْلُ آلَ مُرَّهْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُصُولٌ خَمْسَةٌ : ( 6842 ) الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ غُرَّةً .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَطَاءٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : شَهِدْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ .
قَالَ : لِتَأْتِينَ بِمِنْ يَشْهَدُ مَعَك .
فَشَهِدَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { اقْتَتَلَتْ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ ، فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ ، فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا ، فَاخْتَصَمُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا ، وَوَرِثَهَا وَلَدُهَا وَمَنْ مَعَهُمْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالْغُرَّةُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ ؛ سُمِّيَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْغُرَّةِ الْخِيَارُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْخَبَرِ : أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ .
قُلْنَا : هَذَا لَا يَثْبُتُ ، رَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ ، وَوَهَمَ فِيهِ .
قَالَهُ أَهْلُ النَّقْلِ .
وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ
الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ إنَّمَا فِيهِ : عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ .
فَأَمَّا قَوْلُ الْخِرَقِيِّ : مِنْ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ .
فَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ جَنِينَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لَا يَكُونُ إلَّا حُرًّا مُسْلِمًا ، فَمَتَى كَانَ الْجَنِينُ حُرًّا مُسْلِمًا ، فَفِيهِ الْغُرَّةُ ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كَافِرَةً أَوْ أَمَةً ، مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ كِتَابِيَّةً ، فَإِنَّ جَنِينَهَا مِنْهُ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ ، وَفِيهِ الْغُرَّةُ ، وَلَا يَرِثُ مِنْهَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ ، وَوَلَدُ السَّيِّدِ مِنْ أَمَتِهِ وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ مِنْ أَمَةٍ حُرٌّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ وُطِئَتْ الْأَمَةُ بِشُبْهَةٍ ، فَوَلَدُهَا حُرٌّ ، وَفِيهِ الْغُرَّةُ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ الْجَنِينُ مَحْكُومًا بِرِقِّهِ ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الْغُرَّةُ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهِ .
وَأَمَّا جَنِينُ الْكِتَابِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ إذَا كَانَ مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ ، فَفِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَمْ أَحْفَظْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ .
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ جَنِينَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ مَضْمُونٌ بِعُشْرِ دِيَةِ أُمِّهِ ، فَكَذَلِكَ جَنِينُ الْكَافِرَةِ ، إلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ يَرَوْنَ أَنَّ دِيَةَ الْكَافِرَةِ كَدِيَةِ الْمُسْلِمَةِ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُمْ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ ، فَإِنْ كَانَ أَبَوَا الْجَنِينِ كَافِرَيْنِ مُخْتَلِفًا دِينُهُمَا ، كَوَلَدِ الْكِتَابِيِّ مِنْ الْمَجُوسِيَّةِ ، وَالْمَجُوسِيِّ مِنْ الْكِتَابِيَّةِ ، اعْتَبَرْنَاهُ بِأَكْثَرِهِمَا دِيَةً ، فَنُوجِبُ فِيهِ عُشْرَ دِيَةِ كِتَابِيَّةٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُسْلِمَةِ مِنْ الْكَافِرَةِ مُعْتَبَرٌ بِأَكْثَرِهِمَا دِيَةً ، كَذَا هَاهُنَا .
وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ كَوْنِ الْجَنِينِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا .
وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ كِتَابِيَّةٍ حَامِلًا مِنْ كِتَابِيٍّ ، فَأَسْلَمَ أَحَدُ
أَبَوَيْهِ ، ثُمَّ أَسْقَطَتْهُ ، فَفِيهِ الْغُرَّةُ .
فِي قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ، وَالْقَاضِي .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ اسْتِقْرَارِ الْجِنَايَةِ ، وَالْجَنِينُ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ عِنْدَ اسْتِقْرَارِهَا .
وَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، وَأَبِي الْخَطَّابِ : فِيهِ عُشْرُ دِيَةِ كِتَابِيَّةٍ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ فِي حَالِ الْغُرَّةِ .
وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَ أَمَةٍ فَأُعْتِقَتْ ، ثُمَّ أَلْقَتْ الْجَنِينَ ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ وَالْقَاضِي ، فِيهِ غُرَّةٌ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ ، فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ عَبْدًا .
وَيُمْكِنُ مَنْعُ كَوْنِهِ عَبْدًا وَيُمْكِنُ مَنْعَ كَوْنِهِ صَارَ حُرًّا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ تَلَفُهُ بِالْجِنَايَةِ ، وَبَعْدَ تَلَفِهِ لَا يُمْكِنُ تَحْرِيرُهُ .
وَعَلَى قَوْلِ هَذَيْنِ ، يَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهِ لِسَيِّدِهِ .
وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ لِلسَّيِّدِ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْغُرَّةِ أَوْ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ إنْ كَانَتْ أَكْثَرَ ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الزِّيَادَةَ ، لِأَنَّهَا زَادَتْ بِالْحُرِّيَّةِ الْحَاصِلَةِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلِّ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ حَصَلَ بِإِعْتَاقِهِ ، فَلَا يَضْمَنُ لَهُ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ ثُمَّ مَاتَ بِسِرَايَةِ الْجِنَايَةِ ، كَانَ لَهُ أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَةِ حُرٍّ أَوْ نِصْفِ قِيمَتِهِ ، وَمَا فَضَلَ عَنْ حَقِّ السَّيِّدِ لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ .
فَأَمَّا إنْ ضَرَبَ بَطْنَ الْأَمَةِ ، فَأَعْتَقَ السَّيِّدُ جَنِينَهَا وَحْدَهُ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ أَسْقَطَتْهُ حَيًّا لَوَقْتٍ يَعِيشُ مِثْلُهُ ، فَفِيهِ دِيَةُ حُرٍّ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَإِنْ كَانَ لَوَقْتٍ [ لَا ] يَعِيشُ مِثْلُهُ ، فَفِيهِ غُرَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، عَلَيْهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ .
وَإِنْ أَسْقَطَتْهُ مَيِّتًا ، فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّنَا لَا نَعْلَمُ كَوْنَهُ
حَيًّا حَالَ إعْتَاقِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ الْغُرَّةُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَيَاتِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقَ أُمَّهُ .
( 6843 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : إنَّ الْغُرَّةَ إنَّمَا تَجِبُ إذَا سَقَطَ مِنْ الضَّرْبَةِ ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِأَنْ يَسْقُطَ عَقِيبَ الضَّرْبِ ، أَوْ بِبَقَائِهَا مُتَأَلِّمَةً إلَى أَنْ يَسْقُطَ .
وَلَوْ قَتَلَ حَامِلًا لَمْ يَسْقُطْ جَنِينُهَا ، أَوْ ضَرَبَ مَنْ [ فِي ] جَوْفِهَا حَرَكَةٌ أَوْ انْتِفَاخٌ ، فَسَكَّنَ الْحَرَكَةَ وَأَذْهَبَهَا ، لَمْ يَضْمَنْ الْجَنِينَ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَحُكِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، أَنَّ عَلَيْهِ الْغُرَّةَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتَلَ الْجَنِينَ ، فَلَزِمَتْهُ الْغُرَّةُ ، كَمَا لَوْ أُسْقِطَتْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَلَدِ إلَّا بِخُرُوجِهِ ، وَلِذَلِكَ لَا تَصِحُّ لَهُ وَصِيَّةٌ وَلَا مِيرَاثٌ ، وَلِأَنَّ الْحَرَكَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَرِيحٍ فِي الْبَطْنِ سَكَنَتْ ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ .
وَأَمَّا إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ، فَقَدْ تَحَقَّقَ ، وَالظَّاهِرُ تَلَفُهُ مِنْ الضَّرْبَةِ ، فَيَجِبُ ضَمَانُهُ ، سَوَاءٌ أَلْقَتْهُ فِي حَيَاتِهَا ، أَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَالَ مَالِكٌ : وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنْ أَلْقَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ، لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى أَعْضَائِهَا ، وَبِمَوْتِهَا سَقَطَ حُكْمُ أَعْضَائِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ جَنِينٌ تَلِفَ بِجِنَايَتِهِ ، وَعُلِمَ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ ، فَوَجَبَ ضَمَانُهُ ، كَمَا لَوْ سَقَطَ فِي حَيَاتِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ حَيًّا ضَمِنَهُ ، فَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ مَيِّتًا ، كَمَا لَوْ أَسْقَطَتْهُ فِي حَيَاتِهَا ، وَمَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ ، لَكَانَ إذَا سَقَطَ مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ ، لَمْ يَضْمَنْهُ كَأَعْضَائِهَا ، وَلِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مَوْرُوثٌ ، فَلَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ أُمِّهِ ، كَمَا لَوْ خَرَجَ حَيًّا .
فَأَمَّا إنْ ظَهَرَ بَعْضُهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ ، وَلَمْ يَخْرُجْ بَاقِيه ، فَفِيهِ الْغُرَّةُ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا تَجِبُ الْغُرَّةُ حَتَّى تُلْقِيَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَوْجَبَ الْغُرَّةَ فِي الْجَنِينِ الَّذِي أَلْقَتْهُ الْمَرْأَةُ ؛ وَهَذِهِ لَمْ تُلْقِ شَيْئًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَنَا ، أَنَّهُ قَاتِلٌ لِجَنِينِهَا ، فَلَزِمَتْهُ الْغُرَّةُ ، كَمَا لَوْ ظَهَرَ جَمِيعُهُ ، وَيُفَارِقُ مَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَقَّنْ قَتْلَهُ وَلَا وُجُودَهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَلْقَتْ يَدًا ، أَوْ رِجْلًا ، أَوْ رَأْسًا ، أَوْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ ، وَجَبَتْ الْغُرَّةُ ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ مِنْ جَنِينٍ .
وَإِنْ أَلْقَتْ رَأْسَيْنِ ، أَوْ أَرْبَعَ أَيْدٍ ، لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ غُرَّةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَنِينٍ وَاحِدٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَنِينَيْنِ ، فَلَمْ تَجِبْ الزِّيَادَةُ مَعَ الشَّكِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ؛ وَكَذَلِكَ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ ، فَإِنْ أَسْقَطَتْ مَا لَيْسَ فِيهِ صُورَةُ آدَمِيٍّ فَلَا شَيْءَ فِيهِ ، لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ جَنِينٌ .
وَإِنْ أَلْقَتْ مُضْغَةً ، فَشَهِدَ ثِقَاتٌ مِنْ الْقَوَابِلِ أَنَّ فِيهِ صُورَةً خَفِيَّةً ، فَفِيهِ غُرَّةٌ ، وَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ لَوْ بَقِيَ تَصَوَّرَ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَصَحُّهُمَا ، لَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَصَوَّرْ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ ، كَالْعَلَقَةِ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، فَلَا نَشْغَلُهَا بِالشَّكِّ .
وَالثَّانِي ، فِيهِ غُرَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ تَصَوَّرَ .
وَهَذَا يَبْطُلُ بِالنُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ .
،
( 6844 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْغُرَّةَ عَبْدٌ أَوْ أُمَّةٌ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ عُرْوَةُ ، وَطَاوُسٌ ، وَمُجَاهِدٌ : عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ أَوْ فَرَسٌ ؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ اسْمُ لِذَلِكَ ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ } .
وَجَعَلَ ابْنُ سِيرِينَ مَكَانَ الْفَرَسِ مِائَةَ شَاةٍ ، وَنَحْوَهُ قَالَ الشَّعْبِيُّ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَعَلَ فِي وَلَدِهَا مِائَةَ شَاةٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، أَنَّهُ قَضَى فِي الْجَنِينِ إذَا أُمْلِصَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا ، فَإِذَا كَانَ مُضْغَةً ، فَأَرْبَعِينَ ، فَإِذَا كَانَ عَظْمًا سِتِّينَ ، فَإِذَا كَانَ الْعَظْمُ قَدْ كُسِيَ لَحْمًا فَثَمَانِينَ ، فَإِنْ تَمَّ خَلْقُهُ وَكُسِيَ شَعْرُهُ فَمِائَةَ دِينَارٍ .
قَالَ قَتَادَةُ : إذَا كَانَ عَلَقَةً فَثُلُثُ غُرَّةٍ ، وَإِذَا كَانَ مُضْغَةً فَثُلُثَيْ غُرَّةٍ .
وَلَنَا ، { قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ بِعَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ } ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاضِيَةٌ عَلَى مَا خَالَفَهَا .
وَذِكْرُ الْفَرَسِ وَالْبَغْلِ فِي الْحَدِيثِ وَهْمٌ انْفَرَدَ بِهِ عِيسَى بْنُ يُونُسَ ، عَنْ سَائِرِ الرُّوَاةِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَهَمَ فِيهِ ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ فِي الْبَغْلِ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَكَذَلِكَ فِي الْفَرَسِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِيهِ ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ بِهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا خَالَفَهُ .
وَقَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، تَحَكُّمٌ بِتَقْدِيرِ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ ، وَكَذَلِكَ قَتَادَةُ ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ مِنْ قَوْلِهِمَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ تَلْزَمُهُ الْغُرَّةُ ، فَإِنْ أَرَادَ دَفْعَ بَدَلِهَا وَرَضِيَ
الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ ، جَازَ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ ، فَجَازَ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَأَيُّهُمَا امْتَنَعَ مِنْ قَبُولِ الْبَدَلِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا ، فَلَا يُقْبَلُ بَدَلُهَا إلَّا بِرِضَاهُمَا .
وَتَجِبُ الْغُرَّةُ سَالِمَةٌ مِنْ الْعُيُوبِ ، وَإِنْ قَلَّ الْعَيْبُ ؛ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ وَجَبَ بِالشَّرْعِ ، فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهِ الْمَعِيبُ ، كَالشَّاةِ فِي الزَّكَاةِ ، وَلِأَنَّ الْغُرَّةَ الْخِيَارُ ، وَالْمَعِيبُ لَيْسَ مِنْ الْخِيَارِ .
وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا هَرِمَةٌ ، وَلَا ضَعِيفَةٌ ، وَلَا خُنْثَى ، وَلَا خَصِيٌّ ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ .
وَلَا يَتَقَدَّرُ سِنُّهَا ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَا يُقْبَلُ فِيهَا مَنْ لَهُ دُونَ سَبْعِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مِنْ يَكْفُلُهُ لَهُ وَيَحْضُنُهُ ، وَلَيْسَ مِنْ الْخِيَارِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِيهَا غُلَامٌ بَلَغَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ ، وَلَا ابْنَةُ عِشْرِينَ ؛ لِأَنَّهَا تَتَغَيَّرُ .
وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُقْبَلَ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْكَفَالَةِ بَاطِلٌ بِمَنْ لَهُ فَوْقَ السَّبْعِ ، وَلِأَنَّ بُلُوغَهُ قِيمَةَ الْكَبِيرِ مَعَ صِغَرِهِ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خِيَارٌ ، وَلَمْ يَشْهَدْ لِمَا ذَكَرُوهُ نَصٌّ ، وَلَا لَهُ نَظِيرٌ يُقَاسُ عَلَيْهِ ، وَالشَّابُّ الْبَالِغُ أَكْمَلُ مِنْ الصَّبِيِّ عَقْلًا وَبِنْيَةً ، وَأَقْدَرُ عَلَى التَّصَرُّفِ ، وَأَنْفَعُ فِي الْخِدْمَةِ ، وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ ، وَكَوْنُهُ لَا يَدْخُلُ عَلَى النِّسَاءِ إنْ أُرِيدَ بِهِ النِّسَاءُ الْأَجْنَبِيَّاتُ ، بِلَا حَاجَةٍ إلَى دُخُولِهِ عَلَيْهِنَّ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ سَيِّدَتُهُ ، فَلَيْسَ بِصَحِيحِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } إلَى قَوْلِهِ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ
جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } .
ثُمَّ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى النِّسَاءِ ، لَحَصَلَ مِنْ نَفْعِهِ أَضْعَافُ مَا يَحْصُلُ مِنْ دُخُولِهِ ، وَفَوَاتُ شَيْءٍ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْهُ لَا يُعَدُّ فَوَاتًا ، كَمَنْ اشْتَرَى بِدِرْهَمِ مَا يُسَاوِي عَشْرَةً ، لَا يُعَدُّ فَوَاتًا وَلَا خُسْرَانًا ، وَلَا يُعْتَبَرُ لَوْنُ الْغُرَّةِ .
وَذُكِرَ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ ، أَنَّ الْغُرَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا بَيْضَاءَ ، وَلَا يُقْبَلُ عَبْدٌ أَسْوَدُ ، وَلَا جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِعَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ، وَأَطْلَقَ مَعَ غَلَبَةِ السَّوَادِ عَلَى عَبِيدِهِمْ وَإِمَائِهِمْ ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَجِبُ دِيَةً ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ لَوْنُهُ ، كَالْإِبِلِ فِي الدِّيَةِ .
( 6845 ) الْفَصْلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْغُرَّةَ قِيمَتُهَا نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَهِيَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَزَيْدٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَرَبِيعَةُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ فِي الْجِنَايَاتِ ، وَهُوَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ وَدِيَةُ السِّنِّ ، فَرَدَدْنَاهُ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ وَجَبَ فِي الْأُنْمُلَةِ ثَلَاثُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ ، وَذَلِكَ دُونَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ .
قُلْنَا : الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُرَّةً قِيمَتُهَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ ، وَهُوَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ .
وَإِذَا كَانَ أَبَوَا الْجَنِينِ كِتَابِيَّيْنِ ، فَفِيهِ غُرَّةٌ قِيمَتُهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْغُرَّةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْمُسْلِمِ .
وَفِي جَنِينِ الْمَجُوسِيَّةِ غُرَّةٌ قِيمَتُهَا أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا .
وَإِذَا تَعَذَّرَ وُجُودُ غُرَّةٍ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ ، وَجَبَتْ الدَّرَاهِمُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ .
وَإِذَا اتَّفَقَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ مِنْ الْأُصُولِ كُلِّهَا ، بِأَنْ تَكُونَ قِيمَتُهَا خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ وَخَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَلَا كَلَامَ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَةُ الْإِبِلِ ، فَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِهَا ، مِثْلُ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْإِبِلِ أَرْبَعِينَ دِينَارًا أَوْ أَرْبَعمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهَا تُقَوَّمُ بِالْإِبِلِ ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ .
وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا ، تُقَوَّمُ بِالذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ ، فَجَعَلَ قِيمَتَهَا خَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ اخْتَلَفَا ، قُوِّمَتْ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ بِهِ ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ جَمِيعًا ، قَوَّمَهَا مَنْ هِيَ عَلَيْهِ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْخِيَرَةَ إلَى الْجَانِي فِي دَفْعِ مَا شَاءَ مِنْ الْأُصُولِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُقَوَّمَ بِأَدْنَاهُمَا عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِذَلِكَ .
وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْغُرَّةَ ، انْتَقَلَ إلَى خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ .
عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ .
وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ ، يَنْتَقِلُ إلَى خَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ .
( 6846 ) الْفَصْلُ الْخَامِسُ : أَنَّ الْغُرَّةَ مَوْرُوثَةٌ عَنْ الْجَنِينِ ، كَأَنَّهُ سَقَطَ حَيًّا ؛ لِأَنَّهَا دِيَةٌ لَهُ ، وَبَدَلٌ عَنْهُ ، فَيَرِثُهَا وَرَثَتُهُ ، كَمَا لَوْ قُتِلَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ اللَّيْثُ : لَا تُورَثُ ، بَلْ تَكُونُ بَدَلَهُ لِأُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ كَعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا ، فَأَشْبَهَ يَدَهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهَا دِيَةُ آدَمِيٍّ حُرٍّ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَوْرُوثَةً عَنْهُ ، كَمَا لَوْ وَلَدَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ ، وَقَوْلُهُ : إنَّهُ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهَا .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عُضْوًا لَدَخَلَ بَدَلُهُ فِي دِيَةِ أُمِّهِ ، كَيَدِهَا ، وَلَمَّا مُنِعَ مِنْ الْقِصَاصُ مِنْ أُمِّهِ ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِهِ ، وَلَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِقَتْلِهِ ، وَلَمَا صَحَّ عِتْقُهُ دُونَهَا ، وَلَا عِتْقُهَا دُونَهُ ، وَلَا تَصَوُّرُ حَيَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ تُضْمَنُ بِالدِّيَةِ تُورَثُ ، كَدِيَةِ الْحَيِّ .
فَعَلَى هَذَا ، إذَا أَسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، ثُمَّ مَاتَتْ ، فَإِنَّهَا تَرِثُ نَصِيبَهَا مِنْ دِيَته ، ثُمَّ يَرِثُهَا وَرَثَتُهُ .
وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ ثُمَّ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا لَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَهَا ، ثُمَّ مَاتَتْ ، فَإِنَّهَا تَرِثُ نَصِيبَهَا مِنْ دِيَتِهِ ، ثُمَّ يَرِثُهَا وَرَثَتُهَا .
وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ ، ثُمَّ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ، لَمْ يَرِثْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ .
وَإِنْ خَرَجَ حَيًّا ، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَهُ ثُمَّ مَاتَ ، أَوْ مَاتَتْ ثُمَّ خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ ، وَرِثَهَا ، ثُمَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ .
وَإِنْ اخْتَلَفَ وُرَّاثُهُمَا فِي أَوَّلِهِمَا مَوْتًا ، فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْغَرْقَى .
عَلَى مَا ذُكِرَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْخِرَقِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ، إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَابْنُهَا ، أَنْ يَحْلِفَ وَرَثَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَخْتَصُّوا بِمِيرَاثِهِ ، وَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، أَوْ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ ، ثُمَّ أَلْقَتْ آخَرَ حَيًّا ،
فَفِي الْمَيِّتِ غُرَّةٌ ، وَفِي الْحَيِّ الْأَوَّلِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، إذَا كَانَ سُقُوطُهُ لَوَقْتٍ يَعِيشُ مِثْلُهُ ، وَيَرِثُهُمَا الْآخَرُ ، ثُمَّ يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ إنْ مَاتَ .
وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ قَدْ مَاتَتْ بَعْدَ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ الثَّانِي ، فَإِنَّ دِيَةَ الْأَوَّلِ تَرِثُ مِنْهَا الْأُمُّ وَالْجَنِينُ الثَّانِي ، ثُمَّ إذَا مَاتَتْ الْأُمُّ ، وَرِثَهَا الثَّانِي ثُمَّ يَصِيرُ مِيرَاثُهُ لِوَرَثَتِهِ .
وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ بَعْدَهُمَا ، وَرِثَتْهُمَا جَمِيعًا .
( 6847 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ ، فَأَلْقَتْ أَجِنَّةً ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ غُرَّةٌ .
وَبِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
قَالَ : وَلَا أَحْفَظُ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافَهُمْ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ آدَمِيٍّ ، فَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِهِ ، كَالدِّيَاتِ .
وَإِنْ أَلْقَتْهُمْ أَحْيَاءَ فِي وَقْتٍ يَعِيشُونَ فِي مِثْلِهِ ثُمَّ مَاتُوا ، فَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ دِيَةٌ كَامِلَةٌ .
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ حَيًّا فَمَاتَ ، وَبَعْضُهُمْ مَيِّتًا ، فَفِي الْحَيِّ دِيَةٌ ، وَفِي الْمَيِّتِ غُرَّةٌ .
( 6848 ) فَصْلٌ : وَتَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ الْجَنِينِ إذَا مَاتَ مَعَ أُمِّهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهَا خَطَأً أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ؛ لِمَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ ، عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ .
وَإِنْ كَانَ قَتْلُ الْأُمِّ عَمْدًا ، أَوْ مَاتَ الْجَنِينُ وَحْدَهُ ، لَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ : إنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ .
وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْجَنِينِ لَيْسَتْ بِعَمْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُهُ لِيَكُونَ مَقْصُودًا بِالضَّرْبِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَهَذَا دُونَ الثُّلُثِ .
وَإِذَا مَاتَ وَحْدَهُ أَوْ مِنْ جِنَايَةِ عَمْدٍ ، فِدْيَةُ أُمِّهِ عَلَى قَاتِلِهَا ، فَكَذَلِكَ دِيَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا يَحْمِلُ بَعْضَ دِيَتِهَا الْجَانِي وَبَعْضَهَا غَيْرُهُ ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ عَلَى الْقَاتِلِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ عَمْدًا ، فَسَرَتْ الْجِنَايَةُ إلَى النَّفْسِ .
( 6849 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْجَنِينُ مَمْلُوكًا ، فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْجَنِينُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ) .
وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَ جَنِينُ الْأَمَةِ مَمْلُوكًا ، فَسَقَطَ مِنْ الضَّرْبَةِ مَيِّتًا ، فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ .
هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَبِنَحْوِهِ قَالَ النَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ عُشْرِ غُرَّةٍ ، وَهُوَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ .
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ : يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا ، وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى ؛ لِأَنَّ الْغُرَّةَ وَاجِبَةٌ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ هِيَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ ، وَعُشْرُ دِيَةِ الْأُنْثَى ، وَهَذَا مُتْلَفٌ ، فَاعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِ بِأُمِّهِ ، وَلِأَنَّهُ جَنِينٌ مَضْمُونٌ ، تَلِفَ بِالضَّرْبَةِ ، فَكَانَ فِيهِ نِصْفُ عُشْرِ الْوَاجِبِ فِيهِ إذَا كَانَ ذَكَرًا كَبِيرًا ، وَعُشْرُ الْوَاجِبِ إذَا كَانَ أُنْثَى ، كَجَنِينِ الْحُرَّةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُفْضِي إلَى أَنْ يَجِبَ فِي الْجَنِينِ الْمَيِّتِ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَتِهِ إذَا كَانَ حَيًّا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ جَنِينٌ مَاتَ بِالْجِنَايَةِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ ضَمَانُهُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ ، كَجَنِينِ الْحُرَّةِ ، وَدَلِيلُهُمْ نَقْلِبُهُ عَلَيْهِمْ ، فَنَقُولُ : جَنِينٌ مَضْمُونٌ ، تَلِفَ بِالْجِنَايَةِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ عُشْرَ مَا يَجِبُ فِي أُمِّهِ ، كَجَنِينِ الْحُرَّةِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ ، مُعَارَضٌ بِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ يُفْضِي إلَى تَفْضِيلِ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ ، وَهُوَ خِلَافُ الْأُصُولِ وَلِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ بِنَفْسِهِ ، لَوَجَبَتْ قِيمَتُهُ كُلُّهَا ، كَسَائِرِ الْمَضْمُونَاتِ بِالْقِيمَةِ ، وَلِأَنَّ مُخَالَفَتَهُمْ أَشَدُّ مِنْ مُخَالَفَتِنَا ؛ لِأَنَّنَا اعْتَبَرْنَاهُ إذَا كَانَ مَيِّتًا بِأُمِّهِ ، وَإِذَا كَانَ حَيًّا بِنَفْسِهِ ، فَجَازَ
أَنْ تَزِيدَ قِيمَةُ الْمَيِّتِ عَلَى الْحَيِّ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ ، كَمَا جَازَ أَنْ يَزِيدَ الْبَعْضُ عَلَى الْكُلِّ فِي أَنَّ مَنْ قَطَعَ أَطْرَافَ إنْسَانٍ الْأَرْبَعَةَ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ كُلِّهَا ، وَهُمْ فَضَّلُوا الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِهَةِ ، وَأَوْجَبُوا فِيمَا يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ عُشْرَ قِيمَتِهِ تَارَةً ، وَنِصْفَ عُشْرِهَا أُخْرَى ، وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ قِيمَةَ أُمِّهِ مُعْتَبَرَةٌ يَوْمَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا .
وَهَذَا مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : تُقَوَّمُ حِينَ أُسْقِطَتْ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ بِالِاسْتِقْرَارِ .
وَيَتَخَرَّجُ لَنَا وَجْهٌ كَذَلِكَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْجِنَايَةِ وَحَالِ الِاسْتِقْرَارِ مَا يُوجِبُ تَغْيِيرَ بَدَلِ النَّفْسِ ، فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِحَالِ الْجِنَايَةِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَ عَبْدًا ، ثُمَّ نَقَصَتْ السُّوقُ ؛ لِكَثْرَةِ الْجَلْبِ ، ثُمَّ مَاتَ ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ الْجِنَايَةِ ، وَلِأَنَّ قِيمَتَهَا تَتَغَيَّرُ بِالْجِنَايَةِ وَتَنْقُصُ ، فَلَمْ تُقَوَّمْ فِي حَالِ نَقْصِهَا الْحَاصِلِ بِالْجِنَايَةِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهَا فَمَاتَتْ مِنْ سِرَايَتِهَا ، أَوْ قَطَعَ يَدَهَا فَمَرِضَتْ بِذَلِكَ ، ثُمَّ انْدَمَلَتْ جِرَاحَتُهَا .
( 6850 ) فَصْلٌ : وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ مَوْلَاهَا ، حُكْمُهُ حُكْمُ وَلَدِ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ ، وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ عَبْدًا بِحَالٍ .
فَأَمَّا جَنِينُ الْمُعْتَقِ بَعْضُهَا ، فَهُوَ كَهِيَ ، فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ مِثْلُ مَا فِيهَا ، فَإِذَا كَانَ نِصْفُهَا حُرًّا ، فَنِصْفُهُ حُرٌّ ، فِيهِ نِصْفُ غُرَّةٍ لِوَرَثَتِهِ ، وَفِي النِّصْفِ الْبَاقِي نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ لِسَيِّدِهِ .
( 6851 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَطِئَ أَمَةً بِشُبْهَةٍ ، أَوْ غُرَّ بِأَمَةٍ فَتَزَوَّجَهَا وَأَحْبَلَهَا ، فَضَرَبَهَا ضَارِبٌ ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا ، فَهُوَ حُرٌّ ، وَفِيهِ غُرَّةٌ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ ، وَعَلَى الْوَاطِئِ عُشْرُ قِيمَتِهَا لِسَيِّدِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا اعْتِقَادُ الْحُرِّيَّةِ ، لَكَانَ هَذَا الْجَنِينُ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهِ ، عَلَى ضَارِبِهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ، فَلَمَّا انْعَتَقَ بِسَبَبِ الْوَطْءِ ، فَقَدْ حَالَ بَيْنَ سَيِّدِهَا وَبَيْنَ هَذَا الْقَدْرِ ، فَأَلْزَمْنَاهُ ذَلِكَ لِلسَّيِّدِ ، سَوَاءٌ كَانَ بِقَدْرِ الْغُرَّةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا ، أَوْ أَقَلَّ .
( 6852 ) فَصْلٌ : إذَا سَقَطَ جَنِينُ ذِمِّيَّةٍ ، قَدْ وَطِئَهَا مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، وَجَبَ فِيهِ الْيَقِينُ ، وَهُوَ مَا فِي جَنِينِ الذِّمِّيِّ ، فَإِنْ أُلْحِقَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالذِّمِّيِّ ، فَقَدْ وَفَّى مَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أُلْحِقَ بِمُسْلِمٍ ، فَعَلَيْهِ تَمَامُ الْغُرَّةِ .
وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَ نَصْرَانِيَّةٍ ، فَأَسْقَطَتْ ، وَادَّعَتْ أَوْ ادَّعَى وَرَثَتُهُ أَنَّهُ مِنْ مُسْلِمٍ حَمَلَتْ بِهِ مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زِنًى ، فَاعْتَرَفَ الْجَانِي ، فَعَلَيْهِ غُرَّةٌ كَامِلَةٌ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، فَاعْتَرَفَ أَيْضًا ، فَالْغُرَّةُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ أَنْكَرَتْ ، حَلَفَتْ ، وَعَلَيْهَا مَا فِي جَنِينِ الذِّمِّيَّيْنِ ، وَالْبَاقِي عَلَى الْجَانِي ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِ ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا .
وَإِنْ اعْتَرَفْت الْعَاقِلَةُ دُونَ الْجَانِي ، فَالْغُرَّةُ عَلَيْهَا مَعَ دِيَةِ أُمِّهِ .
وَإِنْ أَنْكَرَ الْجَانِي وَالْعَاقِلَةُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ ، مَعَ أَيْمَانِهِمْ أَنَّنَا لَا نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْجَنِينَ مِنْ مُسْلِمٍ ، وَلَا تَلْزَمُهُمْ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتِّ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى النَّفْيِ فِي فِعْلِ الْغَيْرِ ، فَإِذَا حَلَفُوا ، وَجَبَتْ دِيَةُ ذِمِّيٍّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ وَلَدَهَا تَابِعٌ لَهَا ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي وَحْدَهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَلَوْ كَانَتْ النَّصْرَانِيَّةُ امْرَأَةَ مُسْلِمٍ ، فَادَّعَى الْجَانِي أَنَّ الْجَنِينَ مِنْ ذِمِّيٍّ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ زِنًى ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الْجَنِينِ ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ مَحْكُومٌ بِإِسْلَامِهِ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ .
( 6853 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ ، فَحَمَلَتْ بِمَمْلُوكٍ ، فَضَرَبَهَا أَحَدُهُمَا فَأَسْقَطَتْ ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ آدَمِيًّا ، وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ ، وَيَسْقُطُ ضَمَانُ نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ .
وَإِنْ أَعْتَقَهَا الضَّارِبُ بَعْدَ ضَرْبِهَا ، وَكَانَ مُعْسِرًا ، ثُمَّ أَسْقَطَتْ ، عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهَا وَمِنْ وَلَدِهَا ، وَعَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْأُمِّ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ غُرَّةٍ مِنْ أَجْلِ النِّصْفِ الَّذِي صَارَ حُرًّا ، يُورَثُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْجَنِينِ ، تَرِثُ أُمُّهُ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا فِيهَا مِنْ الْحُرِّيَّةِ .
وَالْبَاقِي لِبَاقِي وَرَثَتِهِ .
هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي ، وَقِيَاسُ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ ، لَا يَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ ضَمَانُ مَا أَعْتَقَهُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَالِاعْتِبَارُ فِي الضَّمَانِ بِحَالِ الْجِنَايَةِ ، وَهِيَ الضَّرْبُ ، وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا قِيمَةَ الْأُمِّ حَالَ الضَّرْبِ .
وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَهَذَا أَصَحُّ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ حَصَلَ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَضْمُونٍ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَرَحَ حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ مَاتَ بِالسِّرَايَةِ ، وَلِأَنَّ مَوْتَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ بِالضَّرْبِ ، فَلَا يَتَجَدَّدُ ضَمَانُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا ، سَرَى الْعِتْقُ إلَيْهَا وَإِلَى جَنِينِهَا ، وَفِي الضَّمَانِ الْوَجْهَانِ ؛ فَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ .
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، عَلَيْهِ ضَمَانُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْ الْجَنِينِ بِنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ ، وَلَا يَضْمَنُ أُمَّهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَهَا بِإِعْتَاقِهَا ، فَلَا يَضْمَنُهَا بِتَلَفِهَا .
وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقَ الشَّرِيكَ الَّذِي لَمْ يَضْرِبْ ، وَكَانَ مُعْسِرًا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّ
الْعِتْقَ لَمْ يَسْرِ إلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْ الْجَنِينِ نِصْفُ غُرَّةٍ ، يَرِثُهَا وَرَثَتُهُ عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي .
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ ، يَكُونُ لِسَيِّدِهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي ضَمَانِ الْأُمِّ إذَا مَاتَتْ مِنْ الضَّرْبَةِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُوسِرًا ، سَرَى الْعِتْقُ إلَيْهِمَا ، وَصَارَا حُرَّيْنِ ، وَعَلَى الْمُعْتَقِ ضَمَانُ نِصْفِ الْأُمِّ ، وَلَا يَضْمَنُ نِصْفَ الْجَنِينِ ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْأُمِّ ، كَمَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا ، وَعَلَى الضَّارِبِ ضَمَانُ الْجَنِينِ بِغُرَّةِ مَوْرُوثَةٍ عَنْهُ ، عَلَى قَوْلِ الْقَاضِي .
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، يَضْمَنُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ بِنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حَالَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا ضَمَانُ الْأُمِّ ، فَفِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، فِيهَا دِيَةُ حُرَّةٍ ، لِسَيِّدِهَا مِنْهَا أَقَلُّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ دِيَتِهَا أَوْ قِيمَتِهَا .
وَعَلَى الْآخَرِ ، يَضْمَنُهَا بِقِيمَتِهَا لِسَيِّدِهَا ، كَمَا تَقَدَّمَ مَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ ، ثُمَّ أُعْتِقَ وَمَاتَ .
( 6854 ) فَصْلٌ : وَلَوْ ضَرَبَ بَطْنَ أَمَتِهِ ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا ، ثُمَّ أَسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، لَمْ يَضْمَنْهُ .
فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً فِي ابْتِدَائِهَا ، فَلَمْ يَضْمَنْ سِرَايَتهَا ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ مَاتَ ، وَلِأَنَّ مَوْتَ الْجَنِينِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ حَصَلَ بِالضَّرْبَةِ فِي مَمْلُوكِهِ .
وَلَمْ يَتَجَدَّدْ بَعْدَ الْعِتْقِ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ .
وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ، عَلَيْهِ غُرَّةٌ ، لَا يَرِثُ مِنْهَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ بِحَالِ اسْتِقْرَارِهَا .
وَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ لِشَرِيكَيْنِ ، فَضَرَبَاهَا ، ثُمَّ أَعْتَقَاهَا مَعًا ، فَوَضَعَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ لِشَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَنَى عَلَى الْجَنِينِ ، وَنِصْفُهُ لَهُ ، فَسَقَطَ عَنْهُ ضَمَانُهُ ، وَلَزِمَ ضَمَانُ نِصْفِهِ الَّذِي لِشَرِيكِهِ بِنِصْفِ عُشْرِ قِيمَةِ أُمِّهِ ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ .
وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْغُرَّةِ ، لِلْأُمِّ مِنْهَا الثُّلُثُ ، وَبَاقِيهَا لِلْوَرَثَةِ ، وَلَا يَرِثُ الْقَاتِلُ مِنْهَا شَيْئًا .
( 6855 ) فَصْلٌ : إذَا ضَرَبَ ابْنُ الْمُعْتَقَةِ الَّذِي أَبُوهُ عَبْدٌ بَطْنَ امْرَأَةٍ ، ثُمَّ أُعْتِقَ أَبُوهُ ، ثُمَّ أَسْقَطَتْ جَنِينًا وَمَاتَتْ ، احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ دِيَتُهُمَا فِي مَالِ الْجَانِي ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى مَوْلَى الْأُمِّ وَعَصَبَاتِهِ ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ .
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ، عَلَى مَوْلَى الْأَبِ وَأَقَارِبِهِ ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْإِسْقَاطِ .
وَإِنْ ضَرَبَ ذِمِّيٌّ بَطْنَ امْرَأَتِهِ الذِّمِّيَّةِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، ثُمَّ أَسْقَطَتْ ، لَمْ تَحْمِلْهُ عَاقِلَتُهُ .
وَإِنْ مَاتَتْ مَعَهُ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَاقِلَتَهُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حِينَ الْجِنَايَةِ ذِمِّيًّا ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ الْإِسْقَاطِ مُسْلِمٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَقْلُهُ ، فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الْجِنَايَةِ ، وَيَكُونَ فِي الْجَنِينِ مَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ الْكَافِر لِأَنَّهُ حِينَ الْجِنَايَة مَحْكُوم بِكُفْرِهِ ، وَعَلَى قِيَاس قَوْلِ ابْنِ حَامِد تَجِبُ فِيهِ غُرَّةٌ كَامِلَةٌ ، وَيَكُون عَقْلُهُ وَعَقْلُ أُمِّهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ، اعْتِبَارًا بِحَالِ الِاسْتِقْرَارِ .
( 6856 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ ضَرَبَ بَطْنَهَا ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا حَيًّا ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ الضَّرْبَةِ ، فَفِيهِ دِيَةُ حُرٍّ إنْ كَانَ حُرًّا ، أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ مَمْلُوكًا ، إذَا كَانَ سُقُوطُهُ لِوَقْتِ يَعِيشُ لِمِثْلِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ فِي الْجَنِينِ ، يَسْقُطُ حَيًّا مِنْ الضَّرْبِ ، دِيَةً كَامِلَةً ، مِنْهُمْ ؛ زَيْدُ بْن ثَابِتٍ ، وَعُرْوَةُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَمَالِك ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جِنَايَتِهِ بَعْدَ وِلَادَتِهِ ، فِي وَقْتٍ يَعِيشُ لِمِثْلِهِ ، فَأَشْبَهَ قَتْلَهُ بَعْدَ وَضْعِهِ .
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : ( 6857 ) الْفَصْل الْأَوَّل : أَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَن بِالدِّيَةِ إذَا وَضَعَتْهُ حَيًّا ، وَمَتَى عُلِمَتْ حَيَاتُهُ ، ثَبَتَ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ ، سَوَاءٌ ثَبَتَتْ بِاسْتِهْلَالِهِ ، أَوْ ارْتِضَاعِهِ ، أَوْ بِنَفَسِهِ ، أَوْ عُطَاسِهِ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَمَارَات الَّتِي تُعْلَمُ بِهَا حَيَاتُهُ .
هَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ إلَّا بِالِاسْتِهْلَالِ .
وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَمَالِك ، وَإِسْحَاقَ .
وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ، وَجَابِرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ ، وَرِثَ وَوُرِثَ } .
مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ إذَا لَمْ يَسْتَهِلّ .
وَالِاسْتِهْلَالُ : الصِّيَاحُ .
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْقَاسِمُ ، وَالنَّخَعِيّ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ ، إلَّا مَسَّهُ الشَّيْطَانُ ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا ، إلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا } .
فَلَا يَجُوزُ غَيْرُ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَصْلُ فِي تَسْمِيَةِ الصِّيَاحِ اسْتِهْلَالًا ، أَنَّ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا الْهِلَالَ صَاحُوا ، وَأَرَاهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَسُمِّيَ صِيَاحُ الْمَوْلُودِ اسْتِهْلَالًا ؛ لِأَنَّهُ فِي ظُهُورِهِ بَعْدَ خَفَائِهِ كَالْهِلَالِ ، وَصِيَاحُهُ كَصِيَاحِ مِنْ يَتَرَاءَاهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عُلِمَتْ حَيَاتُهُ ، فَأَشْبَهَ الْمُسْتَهِلَّ ، وَالْخَبَرُ يَدُلُّ بِمَعْنَاهُ وَتَنْبِيهِهِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ ؛ لِأَنَّ شُرْبَهُ اللَّبَنَ أَدُلّ عَلَى حَيَاتِهِ مِنْ صِيَاحِهِ ، وَعُطَاسُهُ صَوْتٌ مِنْهُ كَصِيَاحِهِ ، وَأَمَّا الْحَرَكَة وَالِاخْتِلَاجُ الْمُنْفَرِدُ ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ ؛ الْحَيَاةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَحَرَّك بِالِاخْتِلَاجِ وَسَبَبٍ أُخَرِ ، وَهُوَ خُرُوجَهُ مِنْ مَضِيقٍ ، فَإِنَّ اللَّحْمَ يَخْتَلِجُ سِيَّمَا إذَا عُصِرَ ثُمَّ تُرِك ، فَلَمْ تَثْبُتْ بِذَلِكَ حَيَاتُهُ .
( 6858 ) الْفَصْلُ الثَّانِي : أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ ضَمَانُهُ إذَا عُلِمَ مَوْتُهُ بِسَبَبِ الضَّرْبَةِ ، وَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِسُقُوطِهِ فِي الْحَالِ وَمَوْتِهِ أَوْ بَقَائِهِ ، مُتَأَلِّمًا إلَى أَنْ يَمُوتَ ، أَوْ بَقَاءِ أُمِّهِ مُتَأَلِّمَةً إلَى أَنْ تُسْقِطَهُ ، فَيُعْلَمَ بِذَلِكَ مَوْتُهُ بِالْجِنَايَةِ ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ رَجُلًا فَمَاتَ عَقِيبَ ضَرْبِهِ ، أَوْ بَقِيَ ضَمِنًا حَتَّى مَاتَ .
وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا ، فَجَاءَ آخَرُ فَقَتَلَهُ ، وَكَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ، فَعَلَى الثَّانِي الْقِصَاصُ إذَا كَانَ عَمْدًا ، أَوْ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ، بَلْ كَانَتْ حَرَكَتُهُ كَحَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ ، فَالْقَاتِلُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، وَعَلَى الثَّانِي الْأَدَبُ .
وَإِنْ وَقَعَ الْجَنِينُ حَيًّا ، ثُمَّ بَقِيَ زَمَنًا سَالِمًا لَا أَلَمَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ الضَّارِبُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ مِنْ جِنَايَتِهِ .
( 6859 ) الْفَصْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِيهِ إذَا كَانَ سُقُوطُهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
فَصَاعِدًا ، فَإِنْ كَانَ لِدُونِ ذَلِكَ ، فَفِيهِ غُرَّةٌ ، كَمَا لَوْ سَقَطَ مُتَأَلِّمًا .
وَبِهَذَا قَالَ الْمُزَنِيّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ؛ لِأَنَّنَا عَلِمْنَا حَيَاتَهُ ، وَقَدْ تَلِفَ مِنْ جِنَايَتِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ تُعْلَمْ فِيهِ حَيَاةٌ يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ بِهَا ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ ، كَمَا لَوْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ، وَكَالْمَذْبُوحِ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّنَا عَلِمْنَا حَيَاتَهُ .
قُلْنَا : وَإِذَا سَقَطَ مَيِّتًا وَلَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، فَقَدْ عَلِمْنَا حَيَاتَهُ أَيْضًا .
( 6860 ) فَصْلٌ : وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى إنْسَانٍ أَنَّهُ ضَرَبَهَا ، فَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا ، فَأَنْكَرَ الضَّرْبَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الضَّرْبِ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِالضَّرْبِ ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ ، وَأَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ أَسْقَطَتْ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَتِّ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ .
وَإِنْ ثَبَتَ الْإِسْقَاطُ وَالضَّرْبُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ ، فَادَّعَى أَنَّهَا أَسْقَطَتْهُ مِنْ غَيْرِ ضَرْبِهِ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَتْ أَسْقَطَتْ عَقِيبَ ضَرْبِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِنْهُ ، لِوُجُودِهِ عَقِيبَ شَيْءٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ .
وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهَا ضَرَبَتْ نَفْسَهَا ، أَوْ شَرِبَتْ دَوَاءً ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهَا ، فَحَصَلَ الْإِسْقَاطُ بِهِ ، فَأَنْكَرَتْهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ .
وَإِنْ أَسْقَطَتْ بَعْدَ الضَّرْبِ بِأَيَّامٍ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَتْ مُتَأَلِّمَةً إلَى حِينِ الْإِسْقَاطِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَأَلِّمَةً ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ إنْسَانًا فَلَمْ يَبْقَ مُتَأَلِّمًا وَلَا ضَمِنًا ، وَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ التَّأَلُّمِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ .
وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَلِّمَةً فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ ، فَادَّعَى أَنَّهَا بَرِئَتْ ، وَزَالَ أَلَمُهَا ، وَأَنْكَرَتْ ذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ .
وَإِنْ ثَبَتَ إسْقَاطُهَا مِنْ الضَّرْبَةِ ، فَادَّعَتْ سُقُوطَهُ حَيًّا ، وَأَنْكَرَهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، إلَّا أَنْ تَقُومَ لَهَا بَيِّنَةٌ بِاسْتِهْلَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ .
وَإِنْ ثَبَتَتْ حَيَاتُهُ ، فَادَّعَتْ أَنَّهُ لِوَقْتٍ يَعِيشُ مِثْلَهُ ، وَأَنْكَرَهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ
جِهَتِهَا ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، فَقُبِلَ قَوْلُهَا فِيهِ ، كَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَوُجُودِ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا .
وَإِنْ أَقَامَتْ بَيِّنَةً بِاسْتِهْلَالِهِ ، وَأَقَامَ الْجَانِي بَيِّنَةً بِعَدَمِ اسْتِهْلَالِهِ ، قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ ، فَتُقَدَّمُ عَلَى النَّافِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُثْبِتَةَ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ .
وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ مَاتَ عَقِيبَ إسْقَاطِهِ ، وَادَّعَى أَنَّهُ عَاشَ مُدَّةً ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ حَيَاتِهِ .
وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً بِدَعْوَاهُ ، قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْجَانِي ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ .
وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ عَاشَ مُدَّةً فَادَّعَتْ أَنَّهُ بَقِيَ مُتَأَلِّمًا حَتَّى مَاتَ ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّأَلُّمِ .
وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ ، قُدِّمَتْ بَيِّنَتُهَا ؛ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ .
وَيُقْبَلُ فِي اسْتِهْلَالِ الْجَنِينِ ، وَسُقُوطِهِ ، وَبَقَائِهِ مُتَأَلِّمًا ، وَبَقَاءِ أُمِّهِ مُتَأَلِّمَةً ، قَوْلُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ الْوِلَادَةَ إلَّا النِّسَاءُ ، وَالِاسْتِهْلَالُ يَتَّصِلُ بِهَا ، وَهُنَّ يَشْهَدْنَ حَالَ الْمَرْأَةِ وَوِلَادَتَهَا ، وَحَالَ الطِّفْلِ ، وَيَعْرِفْنَ عِلَلَهُ وَأَمْرَاضَهُ ، وَقُوَّتَهُ وَضَعْفَهُ ، دُونَ الرِّجَالِ .
وَإِنْ اعْتَرَفَ الْجَانِي بِاسْتِهْلَالِهِ ، أَوْ مَا يُوجِبُ فِيهِ دِيَةً كَامِلَةً ، لَمْ تَحْمِلْهُ الْعَاقِلَةُ ، وَكَانَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْجَانِي ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ فِيهِ الْغُرَّةَ ، فَعَلَى الْعَاقِلَةِ غُرَّةٌ ، وَبَاقِي الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ .
( 6861 ) فَصْلٌ : وَإِنْ انْفَصَلَ مِنْهَا جَنِينَانِ ، ذَكَرٌ وَأُنْثَى ، فَاسْتَهَلَّ أَحَدُهُمَا ، وَاتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُسْتَهِلِّ ، فَقَالَ الْجَانِي : هُوَ الْأُنْثَى .
وَقَالَ وَارِثُ الْجَنِينِ : هُوَ الذَّكَرُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاسْتِهْلَالِ مِنْ الذَّكَرِ ، وَبَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الزَّائِدِ عَلَى دِيَةِ الْأُنْثَى ، فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ ، قُدِّمَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ ، وَجَبَتْ دِيَةُ الذَّكَرِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَدْ قَامَتْ بِاسْتِهْلَالِهِ ، وَالْبَيِّنَةُ الْمُعَارِضَةُ لَهَا نَافِيَةٌ لَهُ ، وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ دِيَةُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى .
قُلْنَا : لَا تَجِبُ دِيَةُ الْأُنْثَى ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَهَا لَمْ يَدَّعِهَا ، وَهُوَ مُكَذِّبٌ لِلْبَيِّنَةِ الشَّاهِدَةِ بِهَا .
وَإِنْ ادَّعَى الِاسْتِهْلَالَ مِنْهُمَا ، ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ ، فَاعْتَرَفَ الْجَانِي بِاسْتِهْلَالِ الذَّكَرِ ، فَأَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ ، فَإِذَا حَلَفُوا ، كَانَتْ عَلَيْهِمْ دِيَةُ الْأُنْثَى وَغُرَّةٌ ، إنْ كَانَتْ تَحْمِلُ الْغُرَّةَ ، وَعَلَى الضَّارِبِ تَمَامُ دِيَةِ الذَّكَرِ ، وَهُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِاعْتِرَافِهِ .
وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا اسْتَهَلَّ ، وَلَمْ يُعْرَفْ بِعَيْنِهِ ، لَزِمَ الْعَاقِلَةَ دِيَةُ أُنْثَى ؛ لِأَنَّهَا مُتَيَقِّنَةٌ ، وَتَمَامُ دِيَةِ الذَّكَرِ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْهُ ، فَلَمْ يَجِبْ بِالشَّكِّ ، وَيَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الَّذِي لَمْ يَسْتَهِلَّ .
( 6862 ) فَصْلٌ : إذَا ضَرَبَهَا ، فَأَلْقَتْ يَدًا ، ثُمَّ أَلْقَتْ جَنِينًا ، فَإِنْ كَانَ إلْقَاؤُهُمَا مُتَقَارِبًا ، أَوْ بَقِيت الْمَرْأَةُ مُتَأَلِّمَةً إلَى أَنْ أَلْقَتْهُ ، دَخَلَتْ الْيَدُ فِي ضَمَانِ الْجَنِينِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الضَّرْبَ قَطَعَ يَدَهُ ، وَسَرَى إلَى نَفْسِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَسَرَى الْقَطْعُ إلَى نَفْسِهِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْجَنِينُ سَقَطَ مَيِّتًا ، أَوْ حَيًّا لَا يَعِيشُ لِمِثْلِهِ ، فَفِيهِ غُرَّةٌ ، وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا لِوَقْتٍ يَعِيشُ لِمِثْلِهِ ، فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، وَإِنْ بَقِيَ
حَيًّا فَلَمْ يَمُتْ ، فَعَلَى الضَّارِبِ ضَمَانُ الْيَدِ بِدِيَتِهَا ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَانْدَمَلَتْ .
وَقَالَ الْقَاضِي ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : يُسْأَلُ الْقَوَابِلُ ، فَإِنْ قُلْنَ : إنَّهَا يَدُ مَنْ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ الْحَيَاةُ ؛ فَفِيهَا نِصْفُ الْغُرَّةِ ، وَإِنْ قُلْنَ : يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ ؛ فَفِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْجَنِينَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِيهِ إذَا كَانَ حَيًّا قَبْلَ وِلَادَتِهِ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ ، أَقَلُّهَا شَهْرَانِ ، عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ ، فِي أَنَّهُ تُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَأَقَلُّ مَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ شَهْرَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْيَى إذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَالْكَلَامُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الضَّرْبَةِ وَالْإِسْقَاطِ مُدَّةٌ تُزِيلُ ظَنَّ سُقُوطِهِ بِهَا ، فَيُعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ وُجُودِ الْحَيَاةِ فِيهِ ، وَأَمَّا إنْ أَلْقَتْ الْيَدَ ، وَزَالَ الْأَلَمُ ، ثُمَّ أَلْقَتْ الْجَنِينَ ، ضَمِنَ الْيَدَ وَحْدَهَا ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَطَعَ يَدًا فَانْدَمَلَتْ ، ثُمَّ مَاتَ صَاحِبُهَا ، ثُمَّ نَنْظُرُ ؛ فَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ، أَوْ لِوَقْتٍ لَا يَعِيشُ مِثْلَهُ ، فَفِي الْيَدِ نِصْفُ غُرَّةٍ ؛ لِأَنَّ فِي جَمِيعِهِ غُرَّةً ، فَفِي يَدِهِ نِصْفُ دِيَتِهِ ، وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا لِوَقْتٍ يَعِيشُ لِمِثْلِهِ ، ثُمَّ مَاتَ ، أَوْ عَاشَ ، وَكَانَ بَيْنَ إلْقَاءِ الْيَدِ وَبَيْنَ إلْقَائِهِ مُدَّةٌ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ لَمْ تُخْلَقْ فِيهَا ، أُرِيَ الْقَوَابِلَ هَاهُنَا ، فَإِنْ قُلْنَ : إنَّهَا يَدُ مَنْ لَمْ تُخْلَقْ فِيهَا الْحَيَاةُ .
وَجَبَ نِصْفُ غُرَّةٍ ، وَإِنْ قُلْنَ : إنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ ، وَمَضَى لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ .
فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ قِيلَ : إنَّهَا يَدُ مَنْ خُلِقَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ ، وَلَمْ تَمْضِ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ .
وَجَبَ فِيهِ نِصْفُ غُرَّةٍ ؛ لِأَنَّهَا يَدُ مَنْ لَا يَجِبُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ غُرَّةٍ ، فَأَشْبَهَتْ يَدَ مَنْ لَمْ
يُنْفَخْ فِيهِ رُوحٌ ، وَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَيْهِنَّ ، وَجَبَ نِصْفُ الْغُرَّةِ ؛ لِأَنَّهُ الْيَقِينُ ، وَمَا زَادَ مَشْكُوكٌ فِيهِ ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ .
( 6863 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَعَلَى كُلِّ مَنْ ضَرَبَ مِمَّنْ ذَكَرْت ، عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الْجَنِينُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْجَبَ عَلَى ضَارِبِ بَطْنِ الْمَرْأَةِ تُلْقِي جَنِينًا الرَّقَبَةَ مَعَ الْغُرَّةِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ حِينَ أَوْجَبَ الْغُرَّةَ .
وَلَنَا ، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { : وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
وَقَالَ : { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } .
وَهَذَا الْجَنِينُ ، إنْ كَانَ مِنْ مُؤْمِنَيْنِ ، أَوْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ ، فَهُوَ مَحْكُومٌ بِإِيمَانِهِ تَبَعًا ، يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْمُؤْمِنُونَ ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ مِنْهُ شَيْئًا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَهُوَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ، وَلِأَنَّهُ نَفْسٌ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الرَّقَبَةُ كَالْكَبِيرِ ، وَتَرْكُ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَهَا ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } .
وَذَكَرَ الدِّيَةَ فِي مَوَاضِعَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَضَى بِدِيَةِ الْمَقْتُولَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلَةِ } ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ ، كَذَا هَاهُنَا ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ أَغْنَتْ عَنْ ذِكْرِ الْكَفَّارَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، فَاكْتُفِيَ بِهَا .
وَإِنْ أَلْقَتْ الْمَضْرُوبَةُ أَجِنَّةً ، فَفِي كُلِّ جَنِينٍ كَفَّارَةٌ ، كَمَا أَنَّ فِي كُلِّ جَنِينٍ غُرَّةً أَوْ دِيَةً .
وَإِنْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي ضَرْبِ امْرَأَةٍ ،
فَأَلْقَتْ جَنِينًا ، فَدِيَتُهُ أَوْ الْغُرَّةُ عَلَيْهِمْ بِالْحِصَصِ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفَّارَةٌ ، كَمَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ رَجُلًا وَاحِدًا .
وَإِنْ أَلْقَتْ أَجِنَّةً ، فَدِيَاتُهُمْ عَلَيْهِمْ بِالْحِصَصِ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ جَنِينٍ كَفَّارَةٌ ، فَلَوْ ضَرَبَ ثَلَاثَةٌ بَطْنَ امْرَأَةٍ ، فَأَلْقَتْ ثَلَاثَةَ أَجِنَّةً ، فَعَلَيْهِمْ تِسْعُ كَفَّارَاتٍ ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ .
( 6864 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا شَرِبَتْ الْحَامِلُ دَوَاءً ، فَأَلْقَتْ بِهِ جَنِينًا ، فَعَلَيْهَا غُرَّةٌ ، لَا تَرِثُ مِنْهَا شَيْئًا ، وَتُعْتِقُ رَقَبَةً لَيْسَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ نَعْلَمُهُ ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ قَوْلِ مَنْ لَمْ يُوجِبْ عِتْقَ الرَّقَبَةِ ، عَلَى مَا قَدَّمْنَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ الْجَنِينَ بِفِعْلِهَا وَجِنَايَتِهَا ، فَلَزِمَهَا ضَمَانُهُ بِالْغُرَّةِ ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهَا ، وَلَا تَرِثُ مِنْ الْغُرَّةِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ ، وَتَكُونُ الْغُرَّةُ لِسَائِرِ وَرَثَتِهِ ، وَعَلَيْهَا عِتْقُ رَقَبَةٍ ؛ كَمَا قَدَّمْنَا .
وَلَوْ كَانَ الْجَانِي الْمُسْقِطُ لِلْجَنِينِ أَبَاهُ ، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ ، فَعَلَيْهِ غُرَّةٌ ، لَا يَرِثُ مِنْهَا شَيْئًا ، وَيُعْتِقُ رَقَبَةً .
وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَغَيْرِهِمَا .
( 6865 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَنَى عَلَى بَهِيمَةٍ ، فَأَلْقَتْ جَنِينَهَا ، فَفِيهِ مَا نَقَصَهَا ، فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، أَنَّ فِيهِ عُشْرَ قِيمَةِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى حَيَوَانٍ يَمْلِك بَيْعَهُ أَسْقَطَتْ جَنِينَهُ ، أَشْبَهَ جَنِينَ الْأَمَةِ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْأَمَةِ تُقَدَّرُ مِنْ قِيمَتِهَا ، فَفِي يَدِهَا نِصْفُ قِيمَتِهَا ، وَفِي مُوضِحَتِهَا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهَا ، بِقَدْرِ جَنِينِهَا مِنْ قِيمَتِهَا ، كَبَعْضِ أَعْضَائِهَا ، وَالْبَهِيمَةُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا قَدْرُ نَقْصِهَا ، فَكَذَلِكَ فِي جَنِينِهَا ، وَلِأَنَّ الْأَمَةَ آدَمِيَّةٌ ، أُلْحِقَتْ بِالْأَحْرَارِ فِي تَقْدِيرِ أَعْضَائِهَا مِنْ دِيَتِهَا ، وَالْبَهِيمَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ .
( 6866 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِذَا رَمَى ثَلَاثَةٌ بِالْمَنْجَنِيقِ ، فَرَجَعَ الْحَجَرُ ، فَقَتَلَ رَجُلًا ، فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فِي مَالِهِ أَمَّا عِتْقُ رَقَبَةٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُشَارِكٌ فِي إتْلَافِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَبَعَّضُ ، فَكَمُلَتْ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ يَقْتُلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَقْتُلَ وَاحِدًا مِنْ غَيْرِهِمْ .
فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ عِتْقُ رَقَبَةٍ ، كَمَا ذَكَرْنَا ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُ الثُّلُثَ فَمَا زَادَ ، سَوَاءٌ قَصَدُوا رَمْيَ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ ، أَوْ رَمْيَ جَمَاعَةٍ ، أَوْ لَمْ يَقْصِدُوا ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُمْ إنْ لَمْ يَقْصِدُوا قَتْلَ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ ، فَهُوَ خَطَأٌ دِيَتُهُ دِيَةُ الْخَطَإِ ، وَإِنْ قَصَدُوا رَمْيَ جَمَاعَةٍ أَوْ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ بِالْمَنْجَنِيقِ لَا يَكَادُ يُفْضِي إلَى إتْلَافِهِ ، فَتَكُونُ دِيَتُهُ مُغَلَّظَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ ، إلَّا أَنَّهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ دِيَةَ شِبْهِ الْعَمْدِ ، فَلَا تَحْمِلُهُ هَاهُنَا .
الثَّانِي : أَنْ يُصِيبَ رَجُلًا مِنْهُمْ ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ أَيْضًا ، وَلَا تَسْقُطُ عَمَّنْ أَصَابَهُ الْحَجَرُ ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي قَتْلِ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ ، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ بِالْمُشَارَكَةِ فِي نَفْسِهِ ، كَوُجُوبِهَا بِالْمُشَارَكَةِ فِي قَتْلِ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا الدِّيَةُ ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ، أَحَدُهَا ، أَنَّ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ دِيَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُشَارِكٌ فِي قَتْلِ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ خَطَأً ، فَلَزِمَتْهُ دِيَتُهَا ، كَالْأَجَانِبِ .
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فِي أَنَّ جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ خَطَأً يَحْمِل عَقْلَهَا عَاقِلَتُهُ الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَا قَابَلَ فِعْلَ الْمَقْتُولِ سَاقِطٌ ، لَا يَضْمَنُهُ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّهُ شَارَكَ فِي إتْلَافِ حَقِّهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا قَابَلَ فِعْلَهُ ، كَمَا لَوْ شَارَكَ فِي قَتْلِ بَهِيمَتِهِ أَوْ عَبْدِهِ .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " ، وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
الثَّالِثُ : أَنْ يُلْغَى فِعْلُ الْمَقْتُولِ فِي نَفْسِهِ ، وَتَجِبَ دِيَتُهُ بِكَمَالِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِينَ نِصْفَيْنِ .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : هَذَا قِيَاسُ الْمَذْهَبِ ، بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْمُتَصَادِمَيْنِ .
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَحْسَنُ ، وَأَصَحُّ فِي النَّظَرِ ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَارِضَةِ وَالْقَابِضَةِ وَالْوَاقِصَةِ ، قَالَ الشَّعْبِيُّ : وَذَلِكَ أَنَّ ثَلَاثَ جَوَارٍ اجْتَمَعْنَ فَأَرِنَّ ، فَرَكِبَتْ إحْدَاهُنَّ عَلَى عُنُقِ أُخْرَى ، وَقَرَصَتْ الثَّالِثَةُ الْمَرْكُوبَةَ ، فَقَمَصَتْ ، فَسَقَطَتْ الرَّاكِبَةُ ، فَوُقِصَتْ عُنُقُهَا ، فَمَاتَتْ ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَضَى بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا عَلَى عَوَاقِلِهِنَّ ، وَأَلْغَى الثُّلُثَ الَّذِي قَابَلَ فِعْلَ الْوَاقِصَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَعَانَتْ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهَا .
وَهَذِهِ شَبِيهَةٌ بِمَسْأَلَتِنَا ، وَلِأَنَّ الْمَقْتُولَ مُشَارِكٌ فِي الْقَتْلِ ، فَلَمْ تَكْمُلْ الدِّيَةُ عَلَى شَرِيكَيْهِ ، كَمَا لَوْ قَتَلُوا وَاحِدًا مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَإِنْ رَجَعَ الْحَجَرُ ، فَقَتَلَ اثْنَيْنِ مِنْ الرُّمَاةِ ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، تَجِبُ دِيَتُهُمَا عَلَى عَوَاقِلِهِمَا أَثْلَاثًا ، وَعَلَى كُلّ وَاحِدٍ كَفَّارَتَانِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي : تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَيِّ مِنْهُمْ ، لِكُلِّ مَيِّتٍ ثُلُثُ دِيَتِهِ ، وَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَيِّتَيْنِ ثُلُثُ دِيَةِ صَاحِبِهِ ، وَيُلْغَى فِعْلُهُ فِي نَفْسِهِ .
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ ، عَلَى عَاقِلَةِ الْحَيِّ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَيِّتَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَيِّتَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِصَاحِبِهِ .
( 6867 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، فَالدِّيَةُ حَالَّةٌ فِي أَمْوَالِهِمْ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْهُمْ ، يَكُونُ فِعْلُ الْمَقْتُولِ فِي نَفْسِهِ هَدَرًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ شَيْءٌ ، وَيَكُونُ بَاقِي الدِّيَةِ فِي أَمْوَالِ شُرَكَائِهِ حَالًّا ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الدِّيَاتِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ، وَهَذَا لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ ، وَالْقَدْرُ اللَّازِمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ دُونَ الثُّلُثِ .
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ فِيهَا رِوَايَةً أُخْرَى : أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُهَا ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِعْلٌ وَاحِدٌ ، أَوْجَبَ دِيَةً تَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخْتَصُّ بِمُوجَبِ فِعْلِهِ دُونَ فِعْلِ شُرَكَائِهِ ، وَحَمْلُ الْعَاقِلَةِ إنَّمَا شُرِعَ لِلتَّخْفِيفِ عَنْ الْجَانِي فِيمَا يَشُقُّ وَيَثْقُلُ ، وَمَا دُونَ الثُّلُثِ يَسِيرٌ ، عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ ، وَاَلَّذِي يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُ فِعْلٌ وَاحِدٌ .
قُلْنَا : بَلْ هِيَ أَفْعَالٌ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ غَيْرُ فِعْلِ الْآخَرِ ، وَإِنَّمَا مُوجِبُ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَرَحَهُ كُلُّ وَاحِدٍ جُرْحًا فَاتَتْ النَّفْسُ بِجَمِيعِهَا .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَالضَّمَانُ يَتَعَلَّقُ بِمَنْ مَدَّ الْحِبَالَ ، وَرَمَى الْحَجَرَ دُونَ مَنْ وَضَعَهُ فِي الْكِفَّةِ ، وَأَمْسَكَ الْخَشَبَةَ ، اعْتِبَارًا بِالْمُبَاشِرِ .
كَمَنْ وَضَعَ سَهْمًا فِي قَوْسِ رَجُلٍ ، وَرَمَاهُ صَاحِبُ الْقَوْسِ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّامِي دُونَ الْوَاضِعِ .
( 6868 ) فَصْلٌ : إذَا سَقَطَ رَجُلٌ فِي بِئْرٍ ، فَسَقَطَ عَلَيْهِ آخَرُ فَقَتَلَهُ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ فَضَمِنَهُ ، كَمَا لَوْ رَمَى عَلَيْهِ حَجَرًا ، ثُمَّ يُنْظَر ؛ فَإِنْ كَانَ عَمَدَ رَمْيَ نَفْسِهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مِمَّا يَقْتُلُ غَالِبًا ، فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ ، وَإِنْ وَقَعَ خَطَأً ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مُخَفَّفَةً .
وَإِنْ مَاتَ الثَّانِي بِوُقُوعِهِ عَلَى الْأَوَّلِ ، فَدَمُهُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ بِفِعْلِهِ .
وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ اللَّخْمِيُّ ، أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَقُودُ أَعْمَى ، فَوَقَعَا فِي بِئْرٍ ؛ خَرَّ الْبَصِيرُ ، وَوَقَعَ الْأَعْمَى فَوْقَ الْبَصِيرِ ، فَقَتَلَهُ ، فَقَضَى عُمَرُ بِعَقْلِ الْبَصِيرِ عَلَى الْأَعْمَى ، فَكَانَ الْأَعْمَى يُنْشِدُ فِي الْمَوْسِمِ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَقِيتُ مُنْكَرَا هَلْ يَعْقِلُ الْأَعْمَى الصَّحِيحَ الْمُبْصِرَا خَرَّا مَعًا كِلَاهُمَا تَكَسَّرَا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَشُرَيْحٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى ضَمَانُ الْبَصِيرِ ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي قَادَهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَقَعَا فِيهِ ، وَكَانَ سَبَبَ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ قَصْدًا لَمْ يَضْمَنْهُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَكَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْأَعْمَى ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ بِقَصْدِهِ .
لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ ، فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْقَائِدِ لِوَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْأَعْمَى ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ ، كَمَا لَوْ حَفَرَ لَهُ بِئْرًا فِي دَارِهِ بِإِذْنِهِ ، فَتَلِفَ بِهَا .
الثَّانِي : أَنَّهُ فِعْلٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، مَأْمُورٌ بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي سَابِلَةٍ يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهَا .
( 6869 ) فَصْل : فَإِنْ سَقَطَ رَجُلٌ فِي بِئْرٍ ، فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ ، فَوَقَعَا مَعًا ، فَدَمُ الْأَوَّلِ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ فِعْلِهِ ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ الثَّانِي إنَّ مَاتَ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِجَذْبَتِهِ .
فَإِنْ تَعَلَّقَ الثَّانِي بِثَالِثِ ، فَمَاتُوا جَمِيعًا ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الثَّالِثِ ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي دِيَتُهُ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ جَذَبَهُ وَبَاشَرَهُ بِالْجَذْبِ ، وَالْمُبَاشَرَةُ تَقْطَعُ حُكْمَ السَّبَبِ ، كَالْحَافِرِ مَعَ الدَّافِعِ ، وَالثَّانِي دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ جَذَبَ الثَّانِيَ الْجَاذِبَ لِلثَّالِثِ ، فَصَارَ مُشَارِكًا لِلثَّانِي فِي إتْلَافِهِ .
وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بِجَذْبَتِهِ ، وَإِنْ هَلَكَ بِسُقُوطِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ ، فَقَدْ هَلَكَ بِجَذْبَةِ الْأَوَّلِ وَجَذْبَةِ نَفْسِهِ لِلثَّالِثِ ، فَسَقَطَ فِعْلُ نَفْسِهِ ، كَالْمُصْطَدَمِينَ ، وَتَجِبُ دِيَتُهُ بِكَمَالِهَا عَلَى الْأَوَّلِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : يَجِبُ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ دِيَتِهِ ، وَيُهْدَرُ نِصْفُهَا فِي مُقَابِلَةِ فِعْلِ نَفْسِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ وُجُوبُ نِصْفِ دِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ ، كَمَا قُلْنَا فِيمَا إذَا رَمَى ثَلَاثَةٌ بِالْمَنْجَنِيقِ ، فَقَتَلَ الْحَجَرُ أَحَدَهُمْ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ إذَا مَاتَ بِوُقُوعِهِمَا عَلَيْهِ ، فَفِيهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جَذْبَتِهِ وَجَذْبَةِ الثَّانِي لِلثَّالِثِ ، فَتَجِبُ دِيَتُهُ كُلُّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي : وَيُلْغَى فِعْلُ نَفْسِهِ ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
وَعَلَى الثَّانِي : يُهْدَرُ نِصْفُ دِيَتِهِ الْمُقَابِلُ لِفِعْلِ نَفْسِهِ ، وَيَجِبُ نِصْفُهَا عَلَى الثَّانِي : وَعَلَى الثَّالِثِ ، يَجِبُ نِصْفُهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ .
وَإِنْ جَذَبَ الثَّالِثُ رَابِعًا ، فَمَاتَ جَمِيعُهُمْ بِوُقُوعِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّابِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا فِي
نَفْسِهِ وَلَا غَيْرِهِ ، وَفِي دِيَتِهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ؛ أَنَّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ الْمُبَاشِرِ لِجَذْبِهِ .
وَالثَّانِي : عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ مِنْ جَذْبِ الثَّلَاثَةِ ، فَكَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ مَاتَ بِجَذْبَتِهِ وَجَذْبَةِ الثَّانِي وَجَذْبَةِ الثَّالِثِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّهُ يُلْغَى فِعْلُ نَفْسِهِ ، وَتَجِبُ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ نِصْفَيْنِ .
الثَّانِي : يَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا ثُلُثَاهَا ، وَيَسْقُطُ مَا قَابَلَ فِعْلَ نَفْسِهِ ، الثَّالِثُ : يَجِبُ ثُلُثهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ .
وَأَمَّا الْجَاذِبُ الثَّانِي : فَقَدْ مَاتَ بِالْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ ، وَفِيهِ هَذِهِ الْأَوْجُهُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَوَّلِ سَوَاءً .
وَأَمَّا الثَّالِثُ : فَفِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ ، وَوَجْهَانِ آخَرَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّ دِيَتَهُ بِكَمَالِهَا عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِجَذْبِهِ ، فَسَقَطَ فِعْلُ غَيْرِهِ بِفِعْلِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ نِصْفَهَا ، وَيَسْقُطُ النِّصْفُ الثَّانِي فِي مُقَابَلَةِ فِعْلِهِ فِي نَفْسِهِ .
( 6870 ) فَصْلٌ : وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَمَاتُوا ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ مَوْتُهُمْ بِغَيْرِ وُقُوعِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْبِئْرُ عَمِيقًا يَمُوتُ الْوَاقِعُ فِيهِ بِنَفْسِ الْوُقُوعِ ، أَوْ كَانَ فِيهِ مَاءٌ يُغْرِقُ الْوَاقِعَ فَيَقْتُلُهُ ، أَوْ أَسَدٌ يَأْكُلُهُمْ ، فَلَيْسَ عَلَى بَعْضِهِمْ ضَمَانُ بَعْضٍ ؛ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ فِعْلِ بَعْضِهِمْ فِي هَلَاكِ بَعْضٍ ، وَإِنْ شَكَكْنَا فِي ذَلِكَ ، لَمْ يَضْمَنْ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا نَشْغَلُهَا بِالشَّكِّ .
وَإِنْ كَانَ مَوْتُهُمْ بِوُقُوعِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَدَمُ الرَّابِعِ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَفْعَلْ فِيهِ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا هَلَكَ بِفِعْلِهِ ، وَعَلَيْهِ دِيَةُ الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِ ، وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَيْهِ وَعَلَى
الثَّالِثِ نِصْفَيْنِ ، وَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا .
( 6871 ) فَصْلٌ : وَإِنْ هَلَكُوا بِأَمْرٍ فِي الْبِئْرِ ، مِثْلِ أَسَدٍ كَانَ فِيهِ ، وَكَانَ الْأَوَّلُ جَذَبَ الثَّانِي ، وَالثَّانِي جَذَبَ الثَّالِثَ ، وَالثَّالِثُ جَذَبَ الرَّابِعَ ، فَقَتَلَهُمْ الْأَسَدُ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّابِعِ ، وَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّالِثِ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي الثَّانِي : عَلَى عَوَاقِلِ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا ، وَدَمُ الْأَوَّلِ هَدَرٌ ، عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ الثَّانِي .
وَأَمَّا دِيَةُ الثَّالِثِ ، فَعَلَى الثَّانِي : فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ، وَفِي الْآخَرِ ، عَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي نِصْفَيْنِ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى مَسْأَلَةَ الزُّبْيَةِ ، وَقَدْ رَوَى حَنَشٌ الصَّنْعَانِيُّ ، { أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ، حَفَرُوا زُبْيَةً لِلْأَسَدِ ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى رَأْسِهَا ، فَهَوَى فِيهَا وَاحِدٌ ، فَجَذَبَ ثَانِيًا ، فَجَذَبَ الثَّانِي ثَالِثًا ، ثُمَّ جَذَبَ الثَّالِثُ رَابِعًا ، فَقَتَلَهُمْ الْأَسَدُ ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : لِلْأَوَّلِ رُبْعُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ ثَلَاثَةٌ ، وَلِلثَّانِي ثُلُثُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ اثْنَانِ ، وَلِلثَّالِثِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، لِأَنَّهُ هَلَكَ فَوْقَهُ وَاحِدٌ ، وَلِلرَّابِعِ كَمَالُ الدِّيَةِ .
وَقَالَ : فَإِنِّي أَجْعَلُ الدِّيَةَ عَلَى مَنْ حَضَرَ رَأْسَ الْبِئْرِ .
فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هُوَ كَمَا قَالَ } .
رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ .
قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ حَنَشٍ ، بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى .
قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : فَذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى ذَلِكَ تَوْقِيفًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَالْقِيَاسُ مَا ذَكَرْنَاهُ .
( 6872 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ الضَّمَانُ بِالسَّبَبِ ، كَمَا يَجِبُ بِالْمُبَاشَرَةِ ، فَإِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقٍ لِغَيْرِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، أَوْ وَضَعَ فِي ذَلِكَ حَجَرًا أَوْ حَدِيدَةً ، أَوْ صَبَّ فِيهِ مَاءً ، أَوْ وَضَعَ فِيهِ قِشْرَ بِطِّيخٍ أَوْ نَحْوَهُ ، وَهَلَكَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانِهِ فَضَمِنَهُ ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ .
رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ ، أَنَّهُ ضَمَّنَ رَجُلًا حَفَرَ بِئْرًا ، فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَمَاتَ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَبِهِ قَالَ النَّخَعِيّ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَحَمَّادٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَإِنْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا ، وَحَفَرَ آخَرُ بِئْرًا ، أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا ، فَعَثَرَ بِالْحَجَرِ ، فَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ ، أَوْ عَلَى السِّكِّينِ ، فَهَلَكَ ، فَالضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ دُونَ الْحَافِرِ وَنَاصِبِ السِّكِّينِ ؛ لِأَنَّ وَاضِعَ الْحَجَرِ كَالدَّافِعِ لَهُ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْحَافِرُ وَالدَّافِعُ فَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ وَحْدَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَلَوْ وَضَعَ رَجُلٌ حَجَرًا ، ثُمَّ حَفَرَ عِنْدَهُ آخَرُ بِئْرًا ، أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا ، فَعَثَرَ بِالْحَجَرِ ، فَسَقَطَ عَلَيْهِمَا ، فَهَلَكَ ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَاحْتَمَلَ أَنْ يَضْمَنَ الْحَافِرُ وَنَاصِبُ السِّكِّينِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا مُتَأَخِّرٌ عَنْ فِعْلِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ زِقٌّ فِيهِ مَائِعٌ وَهُوَ وَاقِفٌ ، فَحَلَّ وِكَاءَهُ إنْسَانٌ ، وَأَمَالَهُ آخَرُ ، فَسَالَ مَا فِيهِ ، كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْآخِرِ مِنْهُمَا .
وَإِنْ وَضَعَ إنْسَانٌ حَجَرًا أَوْ حَدِيدَةً فِي مِلْكِهِ ، أَوْ حَفَرَ فِيهِ بِئْرًا ، فَدَخَلَ إنْسَانٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَهَلَكَ بِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ ، وَإِنَّمَا الدَّاخِلُ هَلَكَ بِعُدْوَانِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي مِلْكِهِ ، وَنَصَبَ أَجْنَبِيٌّ فِيهِ سِكِّينًا ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَعَثَرَ رَجُلٌ بِالْحَجَرِ
، فَوَقَعَ عَلَى السِّكِّينِ أَوْ فِي الْبِئْرِ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ وَنَاصِبِ السِّكِّينِ ، لِتَعَدِّيهِمَا ، إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ الضَّمَانُ بِوَاضِعِ الْحَجَرِ ؛ لِانْتِفَاءِ عُدْوَانِهِ .
وَإِنْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي عُدْوَانٍ تَلِفَ بِهِ شَيْءٌ ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ .
وَإِنْ وَضَعَ اثْنَانِ حَجَرًا ، وَوَاحِدٌ حَجَرًا ، فَعَثَرَ بِهِمَا إنْسَانٌ ، فَهَلَكَ ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ أَثْلَاثًا ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ حَصَلَ مِنْ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا ، فَوَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَفْعَالُهُمْ ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ وَاحِدٌ جُرْحَيْنِ ، وَجَرَحَهُ اثْنَانِ جُرْحَيْنِ ، فَمَاتَ بِهِمَا .
وَقَالَ زُفَرُ : عَلَى الِاثْنَيْنِ النِّصْفُ ، وَعَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ وَحْدَهُ النِّصْفُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مُسَاوٍ لَفِعْلِهِمَا .
وَإِنْ حَفَرَ إنْسَانٌ بِئْرًا ، وَنَصَبَ آخَرُ سِكِّينًا ، فَوَقَعَ إنْسَانٌ فِي الْبِئْرِ عَلَى السِّكِّينِ ، فَمَاتَ ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ .
وَهَذَا قِيَاسُ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَنَصَّ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَى الْمُمْسِكِ وَالْقَاتِلِ ، الْحَافِرُ كَالْمُمْسِكِ ، وَنَاصِبُ السِّكِّينِ كَالْقَاتِلِ ، فَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَى جَمِيعِ الْمُتَسَبِّبِينَ فِي الْمَسَائِلِ السَّابِقَةِ .
( 6873 ) فَصْلٌ : وَإِنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِإِذْنِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهَا .
وَإِنْ حَفَرَهَا فِي مَوَاتٍ ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهَا .
وَكَذَلِكَ إنْ وَضَعَ حَجَرًا ، أَوْ نَصَبَ شَرَكًا ، أَوْ شَبَكَةً ، أَوْ مِنْجَلًا ، لِيَصِيدَ بِهَا .
وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَنْ هَلَكَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ .
وَسَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِيهِ ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ الْإِذْنُ
فِيمَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ لَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ ؛ لِتَعَدِّيهِ .
وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا ، فَحَفَرَ فِي مَكَان مِنْهَا مَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ ؛ كَذَلِكَ .
وَإِنْ حَفَرَ فِي مَوْضِعٍ لَا ضَرَرَ فِيهِ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ حَفَرَهَا لِنَفْسِهِ ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهَا ، سَوَاءٌ حَفَرَهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِ إذْنِهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ حَفَرَهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِي الِانْتِفَاعِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ فِيهِ ، وَيُقْطِعَهُ لِمَنْ يَبِيعُ فِيهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَلِفَ بِحَفْرِ حُفْرَةٍ فِي حَقٍّ مُشْتَرَكٍ ، بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ ، لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهِمْ ، فَضَمِنَ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْإِمَامُ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ فِي هَذَا ، وَإِنَّمَا يَأْذَنُ فِي الْقُعُودِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ ، وَتُمْكِنُ إزَالَتُهُ فِي الْحَالِ ، فَأَشْبَهَ الْقُعُودَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلِأَنَّ الْقُعُودَ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، بِخِلَافِ الْحَفْرِ .
وَإِنْ حَفَرَ الْبِئْرَ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ ، مِثْلُ أَنْ يَحْفِرَهُ لِيَنْزِلَ فِيهِ مَاءُ الْمَطَرِ مِنْ الطَّرِيقِ ، أَوْ لِتَشْرَبَ مِنْهُ الْمَارَّةُ ، وَنَحْوُهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ بِفِعْلِهِ ، غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهِ ، فَأَشْبَهَ بَاسِطَ الْحَصِيرِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا : لَا يَضْمَنُ ، فَإِنَّ أَحْمَدَ قَالَ ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ : إذَا أَحْدَثَ بِئْرًا لِمَاءِ الْمَطَرِ ، فَفِيهِ نَفْعٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، أَرْجُو أَنْ لَا يَضْمَنَ وَالثَّانِيَةُ : يَضْمَنُ .
أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ افْتَأَتَ عَلَى الْإِمَامِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي سِوَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ
إلَيْهِ ، وَيَشُقُّ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ فِيهِ ، وَتَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ ، فَفِي وُجُوبِ اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ فِيهِ تَفْوِيتٌ لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ، لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يُوجَدُ مَنْ يَتَحَمَّلُ كُلْفَةَ اسْتِئْذَانِهِ وَكُلْفَةَ الْحَفْرِ مَعًا ، فَتَضِيعُ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ ، فَوَجَبَ إسْقَاطُ اسْتِئْذَانِهِ ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، مِنْ بَسْطِ حَصِيرٍ فِي مَسْجِدٍ ، أَوْ تَعْلِيقِ قِنْدِيلٍ فِيهِ ، أَوْ وَضْعِ سِرَاجٍ ، أَوْ رَمِّ شَعَثٍ فِيهِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ .
وَحُكْمُ الْبِنَاءِ فِي الطَّرِيقِ حُكْمُ الْحَفْرِ فِيهَا ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ وَالْخِلَافِ ، وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى بَنَى بِنَاءً يَضُرُّ ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ فِي طَرِيقٍ ضَيِّقٍ ، أَوْ فِي وَاسِعٍ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ ، أَوْ بَنَى لِنَفْسِهِ ، فَقَدْ تَعَدَّى ، وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ ، وَإِنْ بَنَى فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ ، فِي مَوْضِعٍ لَا يَضُرُّ الْبِنَاءُ فِيهِ ، لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ ، كَبِنَاءِ مَسْجِدٍ يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ فِي زَاوِيَةٍ وَنَحْوِهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُعْتَبَرَ إذْنُ الْإِمَامِ فِي الْبِنَاءِ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْحَفْرِ ؛ لِأَنَّ الْحَفْرَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِنَفْعِ الطَّرِيقِ وَإِصْلَاحِهَا ، وَإِزَالَةِ الطِّينِ وَالْمَاءِ مِنْهَا ، بِخِلَافِ الْبِنَاءِ ، فَجَرَى حَفْرُهَا مَجْرَى تَنْقِيَتِهَا ، وَحَفْرِ هِدْفَةٍ مِنْهَا ، وَقَلْعِ حَجَرٍ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ ، وَوَضْعِ الْحَصَا فِي حُفْرَةٍ مِنْهَا لِيَمْلَأَهَا وَيُسَهِّلَهَا بِإِزَالَةِ الطِّينِ وَنَحْوِهِ مِنْهَا ، وَتَسْقِيفِ سَاقِيَةٍ فِيهَا ، وَوَضْعِ حَجَرٍ فِي طِينٍ فِيهَا لِيَطَأَ النَّاسُ عَلَيْهِ أَوْ يَعْبُرُوا عَلَيْهِ ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبَاحٌ ، لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ .
لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُعْتَبَرَ اسْتِئْذَانُ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ لَا يَعُمُّ وُجُودُهَا ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
وَإِنْ سَقَفَ مَسْجِدًا
، أَوْ فَرَشَ بَارِيَّةً فِيهِ ، أَوْ نَصَبَ عَلَيْهِ بَابًا ، أَوْ جَعَلَ فِيهِ رَفًّا لِيَنْفَعَ أَهْلَهُ ، أَوْ عَلَّقَ فِيهِ قِنْدِيلًا ، أَوْ بَنَى فِيهِ حَائِطًا ، فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، ضَمِنَ ، فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ الْجِيرَانُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ فِعْلٌ أَحْسَنَ بِهِ ، وَلَمْ يَتَعَدَّ فِيهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ ، كَمَا لَوْ أَذِنَ فِيهِ الْإِمَامُ وَالْجِيرَانُ ، وَلِأَنَّ هَذَا مَأْذُونٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُرْفِ ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالتَّبَرُّعِ بِهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ ، فَلَمْ يَجِبْ ضَمَانٌ ، كَالْمَأْذُونِ فِيهِ نُطْقًا .
( 6874 ) فَصْلٌ : وَإِنْ حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا فِي مِلْكِ إنْسَانٍ ، بِغَيْرِ إذْنِهِ ، أَوْ فِي طَرِيقٍ يَتَضَرَّرُ بِهِ ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ سَيِّدُهُ ، ثُمَّ تَلِفَ بِهَا شَيْءٌ ، ضَمِنَهُ الْعَبْدُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الضَّمَانُ عَلَى سَيِّدِهِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هِيَ الْحَفْرُ فِي حَالِ رِقِّهِ ، وَكَانَ ضَمَانُ جِنَايَتِهِ حِينَئِذٍ عَلَى سَيِّدِهِ ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِعِتْقِهِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَ فِي حَالِ رِقِّهِ ، ثُمَّ سَرَى جُرْحُهُ بَعْدَ عِتْقِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ التَّلَفَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ وُجِدَ بَعْدَ إعْتَاقِهِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى سَيْفًا فِي حَالِ رِقِّهِ ، ثُمَّ قَتَلَ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ وُجِدَ حَالَ رِقِّهِ ، وَهَاهُنَا حَصَلَ بَعْدَ عِتْقِهِ .
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي نَصْبِ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الضَّمَانُ .
( 6875 ) فَصْلٌ : وَإِذَا حَفَرَ إنْسَانٌ بِئْرًا فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، بِغَيْرِ إذْنِهِ ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ جَمِيعَهُ .
وَهَذَا قِيَاسُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَضْمَنُ مَا قَابَلَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ ، فَلَوْ كَانَ لَهُ شَرِيكَانِ ، لَضَمِنَ ثُلُثَيْ التَّالِفِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَدَّى فِي نَصِيبِ شَرِيكَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِجِهَتَيْنِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ نِصْفَيْنِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَهُ وَاحِدٌ جُرْحًا ، وَجَرَحَهُ آخَرُ جُرْحَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ ، فَضَمِنَ الْوَاقِعَ فِيهَا ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَالشَّرِكَةُ أَوْجَبَتْ تَعَدِّيهِ بِجَمِيعِ الْحَفْرِ ، فَكَانَ مُوجِبًا لِجَمِيعِ الضَّمَانِ .
وَيَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ ، بِمَا لَوْ حَفَرَهُ فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ ، فَإِنَّ لَهُ فِيهَا حَقًّا ، وَمَعَ ذَلِكَ يَضْمَنُ الْجَمِيعَ .
وَالْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَذِنَ لَهُ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فِي الْحَفْرِ دُونَ بَعْضٍ ، كَالْحُكْمِ فِيمَا إذَا حَفَرَ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ لِكَوْنِهِ لَا يُبَاحُ الْحَفْرُ وَلَا التَّصَرُّفُ حَتَّى يَأْذَنَ الْجَمِيعُ .
( 6876 ) فَصْلٌ : وَإِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي مِلْكِ إنْسَانٍ ، أَوْ وَضَعَ فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ ، فَأَبْرَأَهُ الْمَالِكُ مِنْ ضَمَانِ مَا يَتْلَفُ بِهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا : يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَوْ أَذِنَ فِيهِ ابْتِدَاءً لَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ ، فَإِذَا أَبْرَأَهُ مِنْ الضَّمَانِ ، وَأَذِنَ فِيهِ ، زَالَ عَنْهُ الضَّمَانُ ، كَمَا لَوْ اقْتَرَنَ الْإِذْنُ بِالْحَفْرِ .
وَالْآخَرُ ، لَا يَنْتَفِي عَنْهُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ، فَلَا يَزُولُ حُكْمُهُ بِالْإِبْرَاءِ ، كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ ، وَلِأَنَّ حُصُولَ الضَّمَانِ بِهِ لِكَوْنِهِ تَعَدَّى بِحَفْرِهِ ، وَالْإِبْرَاءُ لَا يُزِيلُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ مَا مَضَى لَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ عَنْ الصِّفَةِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لَيْسَ يَحِقُّ لِلْمَالِكِ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ غَيْرُ الْمَالِكِ ، وَلِأَنَّهُ إبْرَاءٌ مِمَّا لَمْ يَجِبْ ، فَلَمْ يَصِحّ ، كَالْإِبْرَاءِ مِنْ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الْبَيْعِ .
( 6877 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا ، فَحَفَرَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَعَلِمَ الْأَجِيرُ ذَلِكَ ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ ، وَلَيْسَ لَهُ فِعْلُ ذَلِكَ بِأُجْرَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ، فَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهِ ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ ، فَتَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِهِ ، كَالْإِثْمِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَحْفِرَ لَهُ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا ، أَوْ لِيَبْنِيَ لَهُ فِيهَا بِنَاءً ، فَتَلِفَ الْأَجِيرُ بِذَلِكَ ، لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُسْتَأْجِرُ ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَيُشْبِهُ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْبِئْرُ جُبَارٌ } .
وَلِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْهُ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ الْأَجِيرُ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ فِعْلًا أَفْضَى إلَى تَلَفِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ فَعَلَهُ تَبَرُّعًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ عَبْدًا اسْتَأْجَرَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ صَبِيًّا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ ، فَيَضْمَنَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِاسْتِعْمَالِهِ ، مُتَسَبِّبٌ إلَى إتْلَافِ حَقِّ غَيْرِهِ .
( 6878 ) فَصْلٌ : فَإِنْ حَفَرَ إنْسَانٌ فِي مِلْكِهِ بِئْرًا ، فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ ، فَهَلَكَ بِهِ ، وَكَانَ الدَّاخِلُ دَخَلَ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا عُدْوَانَ مِنْهُ .
وَإِنْ دَخَلَ بِإِذْنِهِ ، وَالْبِئْرُ بَيِّنَةٌ مَكْشُوفَةٌ ، وَالدَّاخِلُ بَصِيرٌ يُبْصِرُهَا ، فَلَا ضَمَانَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ هُوَ الَّذِي أَهْلَك نَفْسَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قُدِّمَ إلَيْهِ سَيْفٌ ، فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ أَعْمَى ، أَوْ كَانَتْ فِي ظُلْمَةٍ لَا يُبْصِرُهَا الدَّاخِلُ ، أَوْ غَطَّى رَأْسَهَا ، فَلَمْ يَعْلَمْ الدَّاخِلُ بِهَا حَتَّى وَقَعَ فِيهَا ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ شُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيّ ، وَحَمَّادٌ ، وَمَالِكٌ .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : لَا يَضْمَنُهُ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبِهِ ، فَضَمِنَهُ ، كَمَا لَوْ قَدَّمَ لَهُ طَعَامًا مَسْمُومًا فَأَكَلَهُ ، وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ صَاحِبُ الدَّارِ : مَا أَذِنْت لَك فِي الدُّخُولِ .
وَادَّعَى وَلِيُّ الْهَالِكِ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ .
وَإِنْ قَالَ : كَانَتْ مَكْشُوفَةً .
وَقَالَ الْآخَرُ : كَانَتْ مُغَطَّاةً .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَلِيِّ الْوَاقِعِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْشُوفَةً لَمْ يَسْقُطْ فِيهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، فَلَا تَشْتَغِلُ بِالشَّكِّ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ تَغْطِيَتِهَا .
( 6879 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ حَائِطًا مَائِلًا إلَى الطَّرِيقِ ، أَوْ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَتَلِفَ بِهِ شَيْءٌ ، أَوْ سَقَطَ عَلَى شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ ، ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْبِنَاءِ فِي هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ ، أَوْ هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ ، وَلِأَنَّهُ يُعَرِّضُهُ لِلْوُقُوعِ عَلَى غَيْرِهِ فِي مِلْكِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَصَبَ فِيهِ مِنْجَلًا يَصِيدُ بِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَإِنْ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ مُسْتَوِيًا ، أَوْ مَائِلًا إلَى مِلْكِهِ ، فَسَقَطَ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْدَامٍ وَلَا مَيْلٍ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ فِيمَا تَلِفَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ بِبِنَائِهِ ، وَلَا حَصَلَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ بِإِبْقَائِهِ .
وَإِنْ مَالَ وُقُوعُهُ إلَى مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ بِنَائِهِ مَائِلًا فِي مِلْكِهِ .
وَإِنْ مَال قَبْلَ وُقُوعِهِ إلَى هَوَاءِ الطَّرِيقِ ، أَوْ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ ، أَوْ مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْضُهُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ بِبِنَائِهِ ، وَلَا فَرَّطَ فِي تَرْكِ نَقْضِهِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَقَطَ مِنْ غَيْرِ مَيْلٍ .
وَإِنْ أَمْكَنَهُ نَقْضُهُ فَلَمْ يَنْقُضْهُ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ حَالَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنْ يُطَالَبَ بِنَقْضِهِ .
وَالثَّانِي : أَنْ لَا يُطَالَبَ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ ، لَمْ يَضْمَنْ ، فِي الْمَنْصُوصِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ ، وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ ، وَالْمَيْلُ حَادِثٌ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَقَعَ قَبْلَ مَيْلِهِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِيهِ وَجْهًا آخَر ، أَنَّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِتَرْكِهِ مَائِلًا ، فَضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ ، كَمَا لَوْ بَنَاهُ مَائِلًا إلَى ذَلِكَ
ابْتِدَاءً ، وَلِأَنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِنَقْضِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ ، ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ، لَمْ يَضْمَنْ بِالْمُطَالَبَةِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَائِلًا ، أَوْ كَانَ مَائِلًا إلَى مِلْكِهِ .
وَأَمَّا إنْ طُولِبَ بِنَقْضِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ ، فَقَدْ تَوَقَّفَ أَحْمَدُ عَنْ الْجَوَابِ فِيهَا .
وَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَضْمَنُ .
وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَنَحْوَهُ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الِاسْتِحْسَانُ أَنْ يَضْمَنَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْجَوَازِ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَمَيْلُ الْحَائِطِ يَمْنَعُهُمْ ذَلِكَ ، فَلَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِإِزَالَتِهِ ، فَإِذَا لَمْ يُزِلْهُ ضَمِنَ ، كَمَا لَوْ وَضَعَ عِدْلًا عَلَى الْحَائِطِ نَفْسِهِ ، فَوَقَعَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، فَطُولِبَ بِرَفْعِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى عَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّهُ بَنَاهُ فِي مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِفِعْلِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يُطَالِبْهُ بِنَقْضِهِ ، أَوْ سَقَطَ قَبْلَ مَيْلِهِ ، أَوْ لَمْ يُمْكِنْهُ نَقْضُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ ، لَمْ تُشْتَرَطْ الْمُطَالَبَةُ ، كَمَا لَوْ بَنَاهُ مَائِلًا إلَى غَيْرِ مِلْكِهِ .
فَإِنْ قُلْنَا : عَلَيْهِ الضَّمَانُ إذَا طُولِبَ ؛ فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ تُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا كَانَ مَيْلُهُ إلَى الطَّرِيقِ ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّ الْمُرُورِ ، فَكَانَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ ، كَمَا لَوْ مَال الْحَائِطُ إلَى مِلْكِ جَمَاعَةٍ ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْمُطَالَبَةُ ، وَإِذَا طَالَبَ وَاحِدٌ ، فَاسْتَأْجَلَهُ صَاحِبُ الْحَائِطِ ، أَوْ أَجَّلَهُ لَهُ الْإِمَامُ ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَمْلِكُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إسْقَاطَهُ .
وَإِنْ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لِمُسْتَأْجِرِ الدَّارِ ، أَوْ مُرْتَهِنِهَا ، أَوْ مُسْتَعِيرِهَا ، أَوْ مُسْتَوْدَعِهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ
النَّقْضَ ، وَلَيْسَ الْحَائِطُ مِلْكًا لَهُمْ .
وَإِنْ طُولِبَ الْمَالِكُ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِرْجَاعُ الدَّارِ ، وَنَقْضُ الْحَائِطِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِعَدَمِ تَفْرِيطِهِ ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ اسْتِرْجَاعُهَا ، كَالْمُعِيرِ ، وَالْمُودِعِ ، وَالرَّاهِنِ إذَا أَمْكَنَهُ فِكَاكُ الرَّهْنِ ، فَلَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ النَّقْضُ .
وَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، لَسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ ، فَطُولِبَ هُوَ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمُطَالَبَةِ ، وَإِنْ طُولِبَ وَلِيُّهُ أَوْ وَصِيُّهُ ، فَلَمْ يَنْقُضْهُ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ مَالُهُ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُتَصَرِّفِ ، كَالْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ .
وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ ، فَطُولِبَ أَحَدُهُمْ بِنَقْضِهِ ، احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ نَقْضُهُ بِدُونِ إذْنِهِمْ ، فَهُوَ كَالْعَاجِزِ عَنْ نَقْضِهِ .
وَالثَّانِي : يَلْزَمُهُ بِحِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّقْضِ بِمُطَالَبَةِ شُرَكَائِهِ ، وَإِلْزَامِهِمْ النَّقْضَ ، فَصَارَ بِذَلِكَ مُفَرِّطًا .
وَأَمَّا إنْ كَانَ مَيْلُ الْحَائِط إلَى مِلْكِ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ ، إمَّا وَاحِدٌ وَإِمَّا جَمَاعَةٌ ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، إلَّا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ لِلْمَالِكِ ، أَوْ سَاكِنِ الْمِلْكِ الَّذِي مَالَ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ ، فَأَيُّهُمْ طَالَبَ ، وَجَبَ النَّقْضُ بِمُطَالَبَتِهِ ، كَمَا لَوْ طَالَبَ وَاحِدٌ بِنَقْضِ الْمَائِلِ إلَى الطَّرِيقِ ، إلَّا أَنَّهُ مَتَى طَالَبَ ، ثُمَّ أَجَّلَهُ صَاحِبُ الْمِلْكِ ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاكِنُ الدَّارِ الَّتِي مَال إلَيْهَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ ، وَهُوَ يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ .
وَإِنْ مَالَ إلَى دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ ، فَالْحَقُّ لِأَهْلِ الدَّرْبِ ، وَالْمُطَالَبَةُ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُمْ ، وَيَلْزَمُ النَّقْضُ بِمُطَالَبَةِ أَحَدِهِمْ ، وَلَا يَبْرَأَ بِإِبْرَائِهِ وَتَأْجِيلِهِ ، إلَّا أَنْ
يَرْضَى بِذَلِكَ جَمِيعُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِجَمِيعِهِمْ .
( 6880 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ بِنَقْضِهِ ، فَبَاعَهُ مَائِلًا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى بَائِعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكٍ لَهُ ، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَالَبْ بِنَقْضِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَهُ وَأَقْبَضَهُ .
وَإِنْ قُلْنَا بِلُزُومِ الْهِبَةِ ، زَالَ الضَّمَانُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ .
وَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ ، وَكَانَ التَّالِفُ بِهِ آدَمِيًّا ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، فَإِنْ أَنْكَرَتْ عَاقِلَتُهُ كَوْنَ الْحَائِطِ لِصَاحِبِهِمْ ، لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْعَقْلُ ، إلَّا أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ ، فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ .
وَإِنْ اعْتَرَفَ صَاحِبُ الْحَائِطِ ، لَزِمَهُ الضَّمَانُ دُونَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا .
وَكَذَلِكَ إنْ أَنْكَرُوا مُطَالَبَتَهُ بِنَقْضِهِ ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ فِي يَدِ صَاحِبِهِمْ ، وَهُوَ سَاكِنٌ فِي الدَّارِ ، لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الظَّاهِرِ وَالظَّاهِرُ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُقُوقُ ، وَإِنَّمَا تُرَجَّحُ بِهِ الدَّعْوَى .
( 6881 ) فَصْلٌ : وَإِنْ لَمْ يَمِلْ الْحَائِطُ ، لَكِنْ تَشَقَّقَ ، فَإِنْ لَمْ يُخْشَ سُقُوطُهُ ، لِكَوْنِ شُقُوقِهِ بِالطُّولِ ، لَمْ يَجِبْ نَقْضُهُ ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي هَذَا حُكْمَ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَفْ سُقُوطُهُ ، فَأَشْبَهَ الصَّحِيحَ ، وَإِنْ خِيفَ وُقُوعُهُ ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ شُقُوقُهُ بِالْعَرْضِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَائِلِ ؛ لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ ، فَأَشْبَهَ الْمَائِلَ .
( 6882 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَخْرَجَ إلَى الطَّرِيقِ النَّافِذِ جَنَاحًا ، أَوْ سَابَاطًا ، فَسَقَطَ ، أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ ، فَأَتْلَفْهُ ، فَعَلَى الْمُخْرِجِ ضَمَانُهُ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : إنْ وَقَعَتْ خَشَبَةٌ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً عَلَى حَائِطِهِ ، وَجَبَ ضَمَانُ مَا أَتْلَفَتْ ، وَإِنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً عَلَى حَائِطِهِ ، وَجَبَ نِصْفُ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِمَا وَضَعَهُ عَلَى مِلْكِهِ وَمِلْكِ غَيْره ، فَانْقَسَمَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا .
وَلَنَا ، أَنَّهُ تَلِفَ بِمَا أَخْرَجَهُ إلَى حَقِّ الطَّرِيقِ ، فَضَمِنَهُ ، كَمَا لَوْ بَنَى حَائِطَهُ مَائِلًا إلَى الطَّرِيقِ فَأَتْلَفَ ، أَوْ أَقَامَ خَشَبَةً فِي مِلْكِهِ مَائِلَةً إلَى الطَّرِيقِ ، أَوْ كَمَا لَوْ سَقَطَتْ الْخَشَبَةُ الَّتِي لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً عَلَى الْحَائِطِ ، وَلِأَنَّهُ إخْرَاجٌ يَضْمَنُ بِهِ الْبَعْضَ ، فَضَمِنَ بِهِ الْكُلَّ ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّهُ تَلِفَ بِعُدْوَانِهِ ، فَضَمِنَهُ ، كَمَا لَوْ وَضَعَ الْبِنَاءَ عَلَى أَرْضِ الطَّرِيقِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عُدْوَانِهِ ، وُجُوبُ ضَمَانِ الْبَعْضِ ، وَلَوْ كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَضْمَنْ بِهِ ، كَسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ خَشَبَةٌ ، لَوْ انْقَصَفَ الْخَارِجُ مِنْهَا ، وَسَقَطَ فَأَتْلَفَ ، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَ ، فَيَجِبُ أَنْ يَضْمَنَ مَا أَتْلَفَ جَمِيعُهَا ، كَسَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَجِبُ الضَّمَانُ فِيهَا ، وَلِأَنَّنَا لَمْ نَعْلَمْ مَوْضِعًا يَجِبُ الضَّمَانُ كُلُّهُ بِبَعْضِ الْخَشَبَةِ ، وَيَجِبُ نِصْفُهُ بِجَمِيعِهَا .
وَإِنْ كَانَ إخْرَاجُ الْجَنَاحِ إلَى دَرْبٍ غَيْرِ نَافِذٍ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ ، ضَمِنَ مَا أَتْلَفَهُ ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِهِمْ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ .
( 6883 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَخْرَجَ مِيزَابًا إلَى الطَّرِيقِ ، فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ أَوْ شَيْءٍ فَأَتْلَفَهُ ، ضَمِنَهُ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِإِخْرَاجِهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ ، كَمَا لَوْ أَخْرَجَهُ إلَى مِلْكِهِ .
وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ : إنْ سَقَطَ كُلُّهُ ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِمَا وَضَعَهُ عَلَى مِلْكِهِ وَمِلْكِ غَيْرِهِ .
وَإِنْ انْقَصَفَ الْمِيزَابُ ، فَسَقَطَ مِنْهُ مَا خَرَجَ عَنْ الْحَائِطِ ، ضَمِنَ جَمِيعَ مَا تَلِفَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ .
وَلَنَا ، مَا سَبَقَ فِي الْجَنَاحِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إخْرَاجَهُ مُبَاحٌ ، فَإِنَّهُ أَخْرَجَ إلَى هَوَاءِ مِلْكِ غَيْرِهِ شَيْئًا يَضُرُّ بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْرَجَهُ إلَى مِلْكِ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَأَمَّا إنْ أَخْرَجَ إلَى مِلْكِ آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ شَيْئًا مِنْ جَنَاحٍ ، أَوْ سَابَاطٍ ، أَوْ مِيزَابٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، فَهُوَ مُتَعَدٍّ ، وَيَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِهِ .
لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
( 6884 ) فَصْلٌ : وَإِذَا بَالَتْ دَابَّتُهُ فِي طَرِيقٍ ، فَزَلِقَ بِهِ حَيَوَانٌ ، فَمَاتَ بِهِ ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ الضَّمَانُ ، إذَا كَانَ رَاكِبًا لَهَا ، أَوْ قَائِدًا ، أَوْ سَائِقًا لَهَا ؛ لِأَنَّهُ تَلَفٌ حَصَلَ مِنْ جِهَةِ دَابَّتِهِ الَّتِي يَدُهُ عَلَيْهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَنَتْ بِيَدِهَا أَوْ فَمِهَا .
وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ ، أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَتْ بِرِجْلِهَا ، وَكَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَدٌ عَلَيْهَا ، وَيُفَارِقُ هَذَا مَا أَتْلَفَتْ بِيَدِهَا وَفَمِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ حِفْظُهُمَا .
( 6885 ) فَصْلٌ : وَإِذَا وَضَعَ جَرَّةً عَلَى سَطْحِهِ أَوْ حَائِطِهِ ، أَوْ حَجَرًا ، فَرَمَتْهُ الرِّيحُ عَلَى إنْسَانٍ ، فَقَتَلَهُ ، أَوْ شَيْءٍ أَتْلَفَهُ ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ، وَوَضْعُهُ لَهُ كَانَ فِي مِلْكِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَضْمَنَ إذَا وَضَعَهَا مُتَطَرِّفَةً ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَ إلَى إلْقَائِهَا ، وَتَعَدَّى بِوَضْعِهَا ، فَأَشْبَهَ مَنْ بَنَى حَائِطَهُ مَائِلًا .
( 6886 ) فَصْلٌ : وَإِنْ سَلَّمَ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ إلَى السَّابِحِ ، لِيُعَلِّمَهُ السِّبَاحَةَ ، فَغَرِقَ ، فَالضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ السَّابِحِ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ لِيَحْتَاطَ فِي حِفْظِهِ ، فَإِذَا غَرِقَ نُسِبَ إلَى التَّفْرِيطِ فِي حِفْظِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يَضْمَنَهُ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ لِمَصْلَحَتِهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ ، كَمَا إذَا ضَرَبَ الْمُعَلِّمُ الصَّبِيَّ ضَرْبًا مُعْتَادًا ، فَتَلِفَ بِهِ .
فَأَمَّا الْكَبِيرُ إذَا غَرِقَ ، فَلَيْسَ عَلَى السَّابِحِ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُفَرِّطْ ، لِأَنَّ الْكَبِيرَ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، لَا يُنْسَبُ التَّفْرِيطُ فِي هَلَاكِهِ إلَى غَيْرِهِ .
( 6887 ) فَصْلٌ : وَإِذَا طَلَبَ إنْسَانًا بِسَيْفِ مَشْهُورٍ ، فَهَرَبَ مِنْهُ ، فَتَلِفَ فِي هَرَبِهِ ، ضَمِنَهُ ، سَوَاءٌ وَقَعَ مِنْ شَاهِقٍ ، أَوْ انْخَسَفَ بِهِ سَقْفٌ ، أَوْ خَرَّ فِي بِئْرٍ ، أَوْ لَقِيَهُ سَبْعٌ فَافْتَرَسَهُ ، أَوْ غَرِقَ فِي مَاءٍ ، أَوْ احْتَرَقَ بِنَارٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَطْلُوبُ صَبِيًّا أَوْ كَبِيرًا ، أَعْمَى أَوْ بَصِيرًا ، عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَضْمَنُ الْبَالِغَ الْعَاقِلَ الْبَصِيرَ ، إلَّا أَنْ يُخْسَفَ بِهِ سَقْفٌ ، فَإِنَّ فِيهِ وَفِي الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْأَعْمَى قَوْلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ هَلَكَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ الطَّالِبُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَطْلُبْهُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ هَلَكَ بِسَبَبِ عُدْوَانِهِ ، فَضَمِنَهُ ، كَمَا لَوْ حَفَرَ لَهُ بِئْرًا ، أَوْ نَصَبَ سِكِّينًا ، أَوْ سَمَّ طَعَامَهُ وَوَضَعَهُ فِي مَنْزِلِهِ .
وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الْأُصُولِ ، وَلِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى إهْلَاكِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ انْخَسَفَ مِنْ تَحْتِهِ سَقْفٌ ، أَوْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا .
وَإِنْ طَلَبَهُ بِشَيْءِ يُخِيفُهُ بِهِ ، كَاللَّيْثِ وَنَحْوِهِ ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ طَلَبِهِ بِسَيْفِ مَشْهُورٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ .
( 6888 ) فَصْلٌ : وَلَوْ شَهَرَ سَيْفًا فِي وَجْهِ إنْسَانٍ ، أَوْ دَلَّاهُ مِنْ شَاهِقٍ ، فَمَاتَ مِنْ رَوْعَتِهِ ، أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ .
وَإِنْ صَاحَ بِصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ صَيْحَةً شَدِيدَةً ، فَخَرَّ مِنْ سَطْحٍ أَوْ نَحْوِهِ ، فَمَاتَ ، أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ ، أَوْ تَغَفَّلَ عَاقِلًا فَصَاحَ بِهِ ، فَأَصَابَهُ ذَلِكَ ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ ، تَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ .
فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا ، فَهُوَ شِبْهُ عَمْدٍ ، وَإِلَّا فَهُوَ خَطَأٌ .
وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ فِي الصَّبِيِّ ، وَلَهُ فِي الْبَالِغِ قَوْلَانِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ سَبَبُ إتْلَافِهِ ، فَضَمِنَهُ ، كَالصَّبِيِّ .
( 6889 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَدَّمَ إنْسَانًا إلَى هَدَفٍ يَرْمِيهِ النَّاسُ ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ ، فَضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي قَدَّمَهُ ؛ لِأَنَّ الرَّامِيَ كَالْحَافِرِ ، وَاَلَّذِي قَدَّمَهُ كَالدَّافِعِ ، فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
وَإِنْ عَمَدَ الرَّامِي رَمْيَهُ ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ ، وَذَاكَ مُتَسَبِّبٌ ، فَأَشْبَهَ الْمُمْسِكَ وَالْقَاتِلَ .
وَإِنْ لَمْ يُقَدِّمْهُ أَحَدٌ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّامِي ، وَتَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُ إنْ كَانَ خَطَأً ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ .
( 6890 ) فَصْلٌ : وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ أَوْ جَرْحٍ ، أَوْ سَرِقَةٍ قَدْ تُوجِبُ الْقَطْعَ ، أَوْ زِنًى يُوجِبُ الرَّجْمَ أَوْ الْجَلْدَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، فَاقْتُصَّ مِنْهُ ، أَوْ قُطِعَ بِالسَّرِقَةِ ، أَوْ حُدَّ فَأَفْضَى إلَى تَلَفِهِ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ ، لَزِمَهُمَا ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِشَهَادَتِهِمَا ، كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْفِعْلِ ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي مَالِهِمَا ، لَا تَحْمِلُهُ عَاقِلَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا ، وَهَذَا يَثْبُت بِاعْتِرَافِهِمَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَهُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ ، فَقَطَعَهُ ، ثُمَّ أَتَيَا بِآخَرَ ، فَقَالَا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، لَيْسَ ذَاكَ السَّارِقَ ، إنَّمَا هَذَا هُوَ السَّارِقُ ، فَأَغْرَمَهُمَا دِيَةَ الْأَوَّلِ ، وَقَالَ : لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُكُمَا .
وَلَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُمَا فِي الثَّانِي .
وَإِنْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ ، فَقَتَلَهُ ، فَصَارَ الْأَمْرُ إلَى الدِّيَةِ ، فَهِيَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا كَالشَّرِيكَيْنِ ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ امْرَأَةً فَزَنَى بِهَا ، فَحَمَلَتْ فَمَاتَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ ، ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ بِسَبَبِ فِعْلِهِ ، وَتَحْمِلُهَا الْعَاقِلَةُ ، إلَّا أَنْ لَا يَثْبُتَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِرَافِهِ ، فَتَكُونَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ اعْتِرَافًا .
فَصْلٌ : إذَا بَعَثَ السُّلْطَانُ إلَى امْرَأَةٍ لِيُحْضِرَهَا ، فَأَسْقَطَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، ضَمِنَهُ بِغُرَّةٍ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ إلَى امْرَأَةٍ مُغَيَّبَةٍ ، كَانَ يُدْخَلُ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ : يَا وَيْلَهَا ، مَالَهَا وَلِعُمَرَ فَبَيْنَمَا هِيَ فِي الطَّرِيقِ إذْ فَزِعَتْ ، فَضَرَبَهَا الطَّلْقُ ، فَأَلْقَتْ وَلَدًا ، فَصَاحَ الصَّبِيُّ صَيْحَتَيْنِ ، ثُمَّ مَاتَ ، فَاسْتَشَارَ عُمَرُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارَ بَعْضُهُمْ أَنْ لَيْسَ عَلَيْك شَيْءٌ ، إنَّمَا أَنْتَ وَالٍ وَمُؤَدِّبٌ .
وَصَمَتَ عَلِيٌّ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُ يَا أَبَا الْحَسَنِ ؟ فَقَالَ : إنْ كَانُوا قَالُوا بِرَأْيِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ رَأْيُهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا قَالُوا فِي هَوَاكَ فَلَمْ يَنْصَحُوا لَك ، إنَّ دِيَتَهُ عَلَيْك ؛ لِأَنَّك أَفْزَعْتَهَا فَأَلْقَتْهُ .
فَقَالَ عُمَرُ : أَقْسَمْت عَلَيْك أَنْ لَا تَبْرَحَ حَتَّى تَقْسِمَهَا عَلَى قَوْمِك .
وَلَوْ فَزِعَتْ الْمَرْأَةُ فَمَاتَتْ ، لَوَجَبَتْ دِيَتُهَا أَيْضًا .
وَوَافَقَ الشَّافِعِيُّ فِي ضَمَانِ الْجَنِينِ ، وَقَالَ : لَا تُضْمَنُ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ إلَى هَلَاكِهَا فِي الْعَادَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهَا نَفْسٌ هَلَكَتْ بِإِرْسَالِهِ إلَيْهَا ، فَضَمِنَهَا ، كَجَنِينِهَا ، أَوْ نَفْسٌ هَلَكَتْ بِسَبَبِهِ ، فَغَرِمَهَا ، كَمَا لَوْ ضَرَبَهَا فَمَاتَتْ .
وَقَوْلُهُ : إنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ عَادَةً .
قُلْنَا : لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْإِسْقَاطِ ، وَالْإِسْقَاطُ سَبَبٌ لِلْهَلَاكِ عَادَةً ، ثُمَّ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الضَّمَانِ كَوْنُهُ سَبَبًا مُعْتَادًا ، فَإِنَّ الضَّرْبَةَ وَالضَّرْبَتَيْنِ بِالسَّوْطِ ، لَيْسَتْ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ فِي الْعَادَةِ ، وَمَتَى أَفْضَتْ إلَيْهِ وَجَبَ الضَّمَانُ .
وَإِنْ اسْتَعْدَى إنْسَانٌ عَلَى امْرَأَةٍ ، فَأَلْقَتْ جَنِينَهَا ، أَوْ مَاتَتْ فَزَعًا ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الْمُسْتَعْدِي الضَّمَانُ ، إنْ كَانَ ظَالِمًا لَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الظَّالِمَةَ ، فَأَحْضَرَهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَهَا ؛ لِأَنَّهَا سَبَبُ إحْضَارِهَا
بِظُلْمِهَا ، فَلَا يَضْمَنُهَا غَيْرُهَا ، وَلِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ، فَلَمْ يَضْمَنْ مَا تَلِفَ بِهِ ، كَالْقِصَاصِ ، وَيَضْمَنُ جَنِينَهَا ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِفِعْلِهِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ اقْتَصَّ مِنْهَا .
( 6892 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أَخَذَ طَعَامَ إنْسَانٍ أَوْ شَرَابَهُ فِي بَرِّيَّةٍ ، أَوْ مَكَان لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى طَعَامٍ وَشَرَابٍ ، فَهَلَكَ بِذَلِكَ ، أَوْ هَلَكَتْ بَهِيمَتُهُ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ هَلَاكِهِ .
وَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى طَعَامٍ وَشَرَابٍ لِغَيْرِهِ ، فَطَلَبِهِ مِنْهُ ، فَمَنَعَهُ إيَّاهُ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ ، فَمَاتَ بِذَلِكَ ، ضَمِنَهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ ، صَارَ أَحَقَّ بِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ ، وَلَهُ أَخْذُهُ قَهْرًا ، فَإِذَا مَنَعَهُ إيَّاهُ ، تَسَبَّبَ إلَى إهْلَاكِهِ بِمَنْعِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ ، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهُ ، كَمَا لَوْ أَخَذَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَهَلَكَ بِذَلِكَ .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، أَنَّ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي يَقْتُلُ مِثْلُهُ غَالِبًا .
وَقَالَ الْقَاضِي : تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، فَيَكُونُ شِبْهَ الْعَمْدِ .
وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ مِنْهُ ، لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ تَسَبَّبَ بِهِ إلَى هَلَاكِهِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ رَأَى إنْسَانًا فِي مَهْلَكَةٍ ، فَلَمْ يُنْجِهِ مِنْهَا ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ ، لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ ، وَقَدْ أَسَاءَ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : قِيَاسُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وُجُوبُ ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْجِهِ مِنْ الْهَلَاكِ مَعَ إمْكَانِهِ ، فَيَضْمَنُهُ ، كَمَا لَوْ مَنَعَهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يُهْلِكْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا فِي هَلَاكِهِ ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ ، وَقِيَاسُ هَذَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنَعَهُ مَنْعًا كَانَ سَبَبًا فِي هَلَاكِهِ ، فَضَمِنَهُ بِفِعْلِهِ الَّذِي تَعَدَّى بِهِ ، وَهَاهُنَا لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا يَكُونُ سَبَبًا .
فَصْلٌ : وَمَنْ ضَرَبَ إنْسَانًا حَتَّى أَحْدَثَ ، فَإِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِيهِ بِثُلُثِ الدِّيَةِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ : لَا أَعْرِفُ شَيْئًا يَدْفَعُهُ .
وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِإِتْلَافِ مَنْفَعَةٍ أَوْ عُضْوٍ ، أَوْ إزَالَةِ جَمَالٍ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إلَى إيجَابِ الثُّلُثِ ؛ لِقَضِيَّةِ عُثْمَانَ ؛ لِأَنَّهَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهَا ، فَيَكُونَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ قَضَاءَ الصَّحَابِيِّ بِمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَوْقِيفٌ .
وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ رِيحًا أَوْ غَائِطًا أَوْ بَوْلًا .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا أَفْزَعَهُ حَتَّى أَحْدَثَ .
( 6894 ) فَصْلٌ : إذَا ادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ عَبْدًا ، أَوْ ضَرَبَ مَلْفُوفًا فَقَدَّهُ ، أَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ حَائِطًا ، أَوْ ادَّعَى أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا ، وَأَنْكَرَ وَلِيُّهُ ذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ مَعَ يَمِينِهِ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، وَمَا ادَّعَاهُ مُحْتَمَلٌ ، فَلَا نَزُولُ عَنْ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْأَصْلَ حَيَاةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَحُرِّيَّتُهُ ، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِبَقَائِهِ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ مَنْ كَانَ مُسْلِمًا ، وَادَّعَى أَنَّهُ ارْتَدَّ قَبْلَ قَتْلِهِ .
وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ .
وَهَكَذَا لَوْ قَتَلَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إنْسَانًا ، وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا ، وَأَنْكَرَ وَلِيُّهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ الْإِسْلَامِ ، وَلِذَلِكَ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِ لَقِيطِهَا .
وَإِنْ قَطَعَ عُضْوًا وَادَّعَى شَلَلَهُ ، أَوْ قَلَعَ عَيْنًا وَادَّعَى عَمَاهَا ، وَأَنْكَرَ الْوَلِيُّ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ سَاعِدًا وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفٌّ ، أَوْ قَطَعَ سَاقًا وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَدَمٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَصِيرًا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَكَذَلِكَ عَلَى قِيَاسِهِ إذَا اخْتَلَفَا فِي شَلَلِ الْعُضْوِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ وَمُعَامِلَتِهِ ، وَصِفَةُ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ، أَنَّهُ كَانَ يُتْبِعُ الشَّخْصَ بَصَرَهُ ، وَيَتَوَقَّى مَا يَتَوَقَّاهُ الْبَصِيرُ ، وَيَتَجَنَّبُ الْبِئْرَ وَأَشْبَاهَهُ فِي طَرِيقِهِ ، وَيَعْدِلُ فِي الْعَطَفَاتِ خَلْفَ مَنْ يَطْلُبُهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِيهِ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي إسْلَامِ
الْمَقْتُولِ وَحَيَاتِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : لَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ لَا تَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ الْجَانِي ، فَإِيجَابُهَا عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِهَا عَلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الْأَصْلُ ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِسَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي سَلَّمُوهَا .
فَإِنْ قَالُوا هَاهُنَا : مَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَصْلَ وُجُودُ الْبَصَرِ .
قُلْنَا : الظَّاهِرُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ ، وَلِهَذَا رَجَّحْنَا قَوْلَ مِنْ يَدَّعِي حُرِّيَّتَهُ وَإِسْلَامَهُ .
( 6895 ) فَصْلٌ : وَإِنْ زَادَ فِي الْقِصَاصِ مِنْ الْجِرَاحِ ، وَقَالَ : إنَّمَا حَصَلَتْ الزِّيَادَةُ بِاضْطِرَابِهِ .
وَأَنْكَرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاضْطِرَابِ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ .
وَالثَّانِي ؛ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقْتَصِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، وَمَا يَدَّعِيهِ مُحْتَمِلٌ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ فَإِنَّ الْجُرْحَ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ الْمَانِعِ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ ، الْأَصْلُ عَدَمُهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَنْفِيهِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا وَادَّعَى أَنَّهُ جَرَحَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ ، أَوْ قَتَلَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهُ مَعَ أَهْلِهِ ، أَوْ قَتَلَ بَهِيمَةً وَادَّعَى أَنَّهَا صَالَتْ عَلَيْهِ .
الْجِرَاحُ تَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ ؛ أَحَدِهِمَا ، الشِّجَاجُ ، وَهِيَ مَا كَانَ فِي رَأْسٍ أَوْ وَجْهٍ .
النَّوْعُ الثَّانِي : مَا كَانَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ ، وَيَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، قَطْعُ عُضْوٍ .
وَالثَّانِي : قَطْعُ لَحْمٍ .
وَالْمَضْمُونُ فِي الْآدَمِيِّ ضَرْبَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، مَا ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِي : تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ ، كَتَفْوِيتِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعَقْلِ .
( 6896 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَنْ أَتْلَفَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَفِيهِ الدِّيَةُ ، وَمَا فِيهِ شَيْئَانِ ، فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ كُلَّ عُضْوٍ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ إلَّا وَاحِدًا كَاللِّسَانِ ، وَالْأَنْفِ ، وَالذَّكَرِ وَالصُّلْبِ ، فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ؛ لِأَنَّ إتْلَافَهُ إذْهَابُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ ، وَإِذْهَابُهَا كَإِتْلَافِ النَّفْسِ ، وَمَا فِيهِ مِنْهُ شَيْئَانِ ؛ كَالْيَدَيْنِ ، وَالرِّجْلَيْنِ ، وَالْعَيْنَيْنِ ، وَالْأُذُنَيْنِ ، وَالْمَنْخِرَيْنِ ، وَالشَّفَتَيْنِ ، وَالْخُصْيَتَيْنِ ، وَالثَّدْيَيْنِ ، وَالْأَلْيَتَيْنِ ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ كَامِلَةً ؛ لِأَنَّ فِي إتْلَافِهِمَا إذْهَابَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفٌ ؛ لِأَنَّ فِي إتْلَافِهِ إذْهَابَ نِصْفِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ .
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لَهُ ، وَكَانَ فِي كِتَابِهِ : وَفِي الْأَنْفِ إذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ ، وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَغَيْرُهُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَقَالَ : كِتَابُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ،
وَمَا فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْد الْعُلَمَاء إلَّا قَلِيلًا .
( 6897 ) فَصْلٌ : وَمَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ ، فَفِيهَا الدِّيَةُ ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ ، وَهُوَ أَجْفَانُ الْعَيْنَيْنِ وَأَهْدَابُهَا .
وَمَا فِيهِ مِنْهُ عَشَرَةٌ ؛ فَفِيهَا الدِّيَةُ ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عُشْرُهَا ، وَهِيَ أَصَابِعُ الْيَدَيْنِ وَأَصَابِعُ الرِّجْلَيْنِ .
وَمَا فِيهِ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ ، فَفِيهَا الدِّيَةُ ، وَفِي الْوَاحِدِ ثُلُثُهَا .
وَهُوَ الْمَنْخِرَانِ ، وَالْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا .
وَعَنْهُ ، فِي الْمَنْخِرَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْحَاجِزِ حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنْخِرَيْنِ شَيْئَانِ مِنْ جِنْسٍ ، فَكَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، كَالشَّفَتَيْنِ .
وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ شَيْءٌ مِنْ جِنْسٍ يَزِيدُ عَلَى الدِّيَةِ إلَّا الْأَسْنَانُ ، فَإِنَّ فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ ، فَتَزِيدُ عَلَى الدِّيَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إلَّا الدِّيَةُ ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ مَا فِي الْبَدَنِ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَ بِإِيجَابِ خَمْسٍ فِي كُلِّ سِنٍّ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ .
( 6898 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ ، إذَا أُصِيبَتَا خَطَأً ، الدِّيَةَ ، وَفِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ } .
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَسَدِ مِنْهُمَا إلَّا شَيْئَانِ ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي كَذَلِكَ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : وَفِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ } .
رَوَاهُ مَالِكٌ ، فِي " مُوَطَّئِهِ " .
وَلِأَنَّ الْعَيْنَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْجَوَارِحِ نَفْعًا وَجَمَالًا ؛ فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا كَالْيَدَيْنِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا كَبِيرَتَيْنِ أَوْ صَغِيرَتَيْنِ ، أَوْ مَلِيحَتَيْنِ أَوْ قَبِيحَتَيْنِ ، أَوْ صَحِيحَتَيْنِ أَوْ مَرِيضَتَيْنِ ، أَوْ حَوْلَاوَيْنِ أَوْ رَمِصَتَيْنِ .
فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا بَيَاضٌ لَا يَنْقُصُ الْبَصَرَ ، لَمْ تَنْقُصْ الدِّيَةُ ، وَإِنْ نَقَصَ الْبَصَرَ نَقَصَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِهِ .
وَفِي ذَهَابِ الْبَصَرِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عُضْوَيْنِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ بِذَهَابِهِمَا ، وَجَبَتْ بِإِذْهَابِ نَفْعِهِمَا ، كَالْيَدَيْنِ إذَا أَشَلَّهُمَا .
وَفِي ذَهَاب بَصَرِ أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدًا وَاحِدَةً ، وَلَيْسَ فِي إذْهَابِهِمَا بِنَفْعِهَا أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ ، كَالْيَدَيْنِ .
( 6899 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَنَى عَلَى رَأْسِهِ جِنَايَةً ذَهَبَ بِهَا بَصَرُهُ ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ بِهَا ، فَدَاوَاهَا ، فَذَهَبَ بِالْمُدَاوَاةِ ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِسَبَبِ فِعْلِهِ .
وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَهَابِ الْبَصَرِ ، رُجِعَ إلَى اثْنَيْنِ عَدْلَيْنِ مُسْلِمَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ ؛ لِأَنَّ لَهُمَا طَرِيقًا إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ ، لَمُشَاهَدَتِهِمَا الْعَيْنَ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْبَصَرِ ، وَمَعْرِفَةً بِحَالِهَا ، بِخِلَافِ السَّمْعِ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَهْلُ الْخِبْرَةِ ، أَوْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ ، اُعْتُبِرَ بِأَنْ يُوقَفَ فِي عَيْنِ الشَّمْسِ ، وَيُقَرَّبَ الشَّيْءُ مِنْ عَيْنِهِ فِي أَوْقَاتِ غَفْلَتِهِ ؛ فَإِنْ طَرَفَ عَيْنَهُ ، وَخَافَ مِنْ الَّذِي يُخَوَّفُ بِهِ ، فَهُوَ كَاذِبٌ ، وَإِلَّا حُكِمَ لَهُ .
وَإِذَا عُلِمَ ذَهَابُ بَصَرِهِ ، وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ : لَا يُرْجَى عَوْدُهُ .
وَجَبَتْ الدِّيَةُ .
وَإِنْ قَالُوا : يُرْجَى عَوْدُهُ إلَى مُدَّةٍ عَيَّنُوهَا ، اُنْتُظِرَ إلَيْهَا ، وَلَمْ يُعْطَ الدِّيَةَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ ، فَإِنْ عَادَ الْبَصَرُ ، سَقَطَتْ عَنْ الْجَانِي ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ ، اسْتَقَرَّتْ الدِّيَةُ .
وَإِنْ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَوْدِ ، اسْتَقَرَّتْ الدِّيَةُ ، سَوَاءٌ مَاتَ فِي الْمُدَّةِ أَوْ بَعْدَهَا .
فَإِنْ ادَّعَى الْجَانِي عَوْدَ بَصَرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَأَنْكَرَ وَارِثُهُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ .
وَإِنْ جَاءَ أَجْنَبِيٌّ ، فَقَلَعَ عَيْنَهُ فِي الْمُدَّةِ ، اسْتَقَرَّتْ عَلَى الْأَوَّلِ الدِّيَةُ أَوْ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ الْبَصَرَ فَلَمْ يَعُدْ ، وَعَلَى الثَّانِي حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ عَيْنًا لَا ضَوْءَ لَهَا ، يُرْجَى عَوْدُهَا .
وَإِنْ قَالَ الْأَوَّلُ : عَادَ ضَوْءُهَا .
وَأَنْكَرَ الثَّانِي : فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَعَهُ ، فَإِنْ صَدَّقَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْأَوَّلَ ، سَقَطَ حَقُّهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ عَلَى الثَّانِي .
وَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ : يُرْجَى عَوْدُهُ
، لَكِنْ لَا نَعْرِفُ لَهُ مُدَّةً .
وَجَبَتْ الدِّيَةُ أَوْ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ انْتِظَارَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ يُفْضِي إلَى إسْقَاطِ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ ، وَالظَّاهِرُ فِي الْبَصَرِ عَدَمُ الْعَوْدِ ، وَالْأَصْلُ يُؤَيِّدُهُ ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْوَاجِبِ سَقَطَ ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ ، وَجَبَ رَدُّ مَا أَخَذَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا .
( 6900 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فَنَقَصَ ضَوْءُ عَيْنَيْهِ ، فَفِي ذَلِكَ حُكُومَةٌ .
وَإِنَّ ادَّعَى نَقْصَ ضَوْئِهِمَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ .
وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ إحْدَاهُمَا نَقَصَتْ ، عُصِبَتْ الْمَرِيضَةُ ، وَأُطْلِقَتْ الصَّحِيحَةُ ، وَنُصِبَ لَهُ شَخْصٌ فَيُبَاعِدُ عَنْهُ ، فَكُلَّمَا قَالَ : رَأَيْتُهُ .
فَوَصَفَ لَوْنَهُ ، عُلِمَ صِدْقُهُ ، حَتَّى تَنْتَهِيَ ، فَإِذَا انْتَهَتْ عُلِمَ مَوْضِعُهَا ، ثُمَّ تُشَدُّ الصَّحِيحَةُ ، وَتُطْلَقُ الْمَرِيضَةُ ، وَيُنْصَبُ لَهُ شَخْصٌ ، ثُمَّ يَذْهَبُ حَتَّى تَنْتَهِيَ رُؤْيَتُهُ ، ثُمَّ يُدَارُ الشَّخْصُ إلَى جَانِبٍ آخَرَ ، فَيُصْنَعُ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَعْلَمُهُ عِنْدَ الْمَسَافَتَيْنِ ، وَيُذْرَعَانِ ، وَيُقَابَلُ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ كَانَتَا سَوَاءً ، فَقَدْ صَدَقَ ، وَيُنْظَرُ كَمْ بَيْنَ مَسَافَةِ رُؤْيَةِ الْعَلِيلَةِ وَالصَّحِيحَةِ ، وَيُحْكَمُ لَهُ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمَسَافَتَانِ ، فَقَدْ كَذَبَ ، وَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَّرَ مَسَافَةَ رُؤْيَةِ الْمَرِيضَةِ لِيَكْثُرَ الْوَاجِبُ لَهُ ، فَيُرَدَّدُ حَتَّى تَسْتَوِيَ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا ، مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ ، مَا قَالَهُ عَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِعَيْنِهِ فَعُصِبَتْ ، وَأَعْطَى رَجُلًا بَيْضَةً ، فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يَنْظُرُ ، حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ ، ثُمَّ أَمَرَ فَخُطَّ عِنْدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَمَرَ بِعَيْنِهِ فَعُصِبَتْ الْأُخْرَى ، وَفُتِحَتْ الصَّحِيحَةُ ، وَأَعْطَى رَجُلًا بَيْضَةً ، فَانْطَلَقَ بِهَا وَهُوَ يُبْصِرُ حَتَّى انْتَهَى بَصَرُهُ ، ثُمَّ خُطَّ عِنْدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ حُوِّلَ إلَى مَكَان آخَرَ ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَوَجَدُوهُ سَوَاءً ، فَأَعْطَاهُ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ بَصَرِهِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَإِذَا زَعَمَ أَهْلُ الطِّبِّ أَنَّ بَصَرَهُ يَقِلُّ إذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ ، وَيَكْثُرُ إذَا قَرُبَتْ ، وَأَمْكَنَ هَذَا فِي الْمُذَارَعَةِ ، عُمِلَ
عَلَيْهِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ إذَا قَالُوا : إنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ يُبْصِرُ إلَى مِائَةِ ذِرَاعٍ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُبْصِرَ إلَى مِائَتَيْ ذِرَاعٍ ، احْتَاجَ لِلْمِائَةِ الثَّانِيَةِ إلَى ضِعْفَيْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْمِائَةِ الْأُولَى مِنْ الْبَصَرِ .
فَعَلَى هَذَا ، إذَا أَبْصَرَ بِالصَّحِيحَةِ إلَى مِائَتَيْنِ ، وَأَبْصَرَ بِالْعَلِيلَةِ إلَى مِائَةٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ نَقَصَ ثُلُثَا بَصَرِ عَيْنِهِ ؛ فَيَجِبُ لَهُ ثُلُثَا دِيَتِهَا .
وَهَذَا لَا يَكَادُ يَنْضَبِطُ فِي الْغَالِبِ ، وَكُلُّ مَا لَا يَنْضَبِطُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ .
وَإِنْ جَنَى عَلَى عَيْنَيْهِ ، فَنَدَرَتَا ، أَوْ احْوَلَّتَا ، أَوْ عَمِشَتَا ، فَفِي ذَلِكَ حُكُومَةٌ ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ يَدَهُ فَاعْوَجَّتْ .
وَالْجِنَايَةُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ ، كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْبَالِغِ وَالْعَاقِلِ ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْبَالِغَ خَصْمٌ لِنَفْسِهِ ، وَالْخَصْمُ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلِيُّهُمَا ، فَإِذَا تَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِمَا لَمْ يَحْلِفَا ، وَلَمْ يَحْلِفْ الْوَلِيُّ عَنْهُمَا ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ ، حَلَفَا حِينَئِذٍ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا الْفَصْلِ كُلِّهِ كَمَذْهَبِنَا .
( 6901 ) فَصْلٌ : وَفِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَاللَّيْثُ ، وَقَتَادَةُ ، وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ مَسْرُوقٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : فِيهَا نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ } .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ } .
يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، سَوَاءٌ قَلَعَهُمَا وَاحِدٌ ، أَوْ اثْنَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، أَوْ فِي وَقْتَيْنِ ، وَقَالِعُ الثَّانِيَةِ قَالِعُ عَيْنِ أَعْوَرَ ، فَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَةٌ ، لَوَجَبَ فِيهِمَا دِيَةٌ وَنِصْفٌ ، وَلِأَنَّ مَا ضُمِنَ بِنِصْفِ الدِّيَةِ مَعَ بَقَاءِ نَظِيرِهِ ، ضُمِنَ بِهِ مَعَ ذَهَابِهِ ، كَالْأُذُنِ .
وَيَحْتَمِلُ هَذَا كَلَامُ الْخِرَقِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ : وَفِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ .
وَلَنَا ، أَنَّ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيًّا ، وَابْنَ عُمَرَ ، قَضَوْا فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ بِالدِّيَةِ .
وَلَمْ نَعْلَمْ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفًا ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّ قَلْعَ عَيْنِ الْأَعْوَرِ يَتَضَمَّنُ إذْهَابَ الْبَصَرِ كُلِّهِ ، فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَهُ مِنْ الْعَيْنَيْنِ ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِالْعَيْنَيْنِ ، فَإِنَّهُ يَرَى الْأَشْيَاءَ الْبَعِيدَةَ ، وَيُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ اللَّطِيفَةَ ، وَيَعْمَلُ أَعْمَالَ الْبُصَرَاءِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا وَشَاهِدًا ، وَيُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ وَفِي الْأُضْحِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ الْعَوْرَاءُ مَخْسُوفَةً ، فَوَجَبَ فِي بَصَرِهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، كَذَا فِي الْعَيْنَيْنِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ صَحَّ هَذَا ، لَمْ يَجِبْ فِي إذْهَابِ بَصَرِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ .
قُلْنَا : لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ دِيَةِ الْعَيْنَيْنِ نَقْصُ دِيَةِ الثَّانِي ؛ بِدَلِيلِ مَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِمَا فَاحْوَلَّتَا ، أَوْ عَمِشَتَا ، أَوْ
نَقَصَ ضَوْءُهُمَا ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَرْشُ النَّقْصِ ، وَلَا تَنْقُصُ دِيَتُهُمَا بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّ النَّقْصَ الْحَاصِلَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَنْقِيصِ أَحْكَامِهِ ، وَلَا هُوَ مَضْبُوطٌ فِي تَفْوِيتِ النَّفْعِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَنْقِيصِ الدِّيَةِ ، كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا .
( 6902 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَ صَحِيحٍ نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ قَلَعَ الْعَيْنَ الَّتِي لَا تُمَاثِلُ عَيْنَهُ الصَّحِيحَةَ ، أَوْ قَلَعَ الْمُمَاثِلَةَ لِلصَّحِيحَةِ خَطَأً ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَإِنْ قَلَعَ الْمُمَاثِلَةَ لِعَيْنِهِ الصَّحِيحَةِ عَمْدًا ، فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ .
وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَالِكٌ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
وَقَالَ فِي الْأُخْرَى : عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَلَا قِصَاصَ .
وَقَالَ الْمُخَالِفُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى : لَهُ الْقِصَاصُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
وَإِنْ اخْتَارَ الدِّيَةَ ، فَلَهُ نِصْفُهَا ؛ لِلْخَبَرِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَلَعَهَا غَيْرُهُ لَمْ يَجِبْ فِيهَا إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفُهَا ، كَالْعَيْنِ الْأُخْرَى .
وَلَنَا ، أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَضَيَا بِمِثْلِ مَذْهَبِنَا ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا مُخَالِفًا فِي الصَّحَابَةِ ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
( 6903 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَلَعَ الْأَعْوَرُ عَيْنَيْ صَحِيحِ الْعَيْنَيْنِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةٌ ، عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً .
وَذَكَرَ الْقَاضِي : أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ دِيَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا فِي الْعَيْنِ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا قَلَعَ عَيْنِ الْأَعْوَرِ ، وَالْأُخْرَى فِي الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهَا عَيْنُ أَعْوَرَ .
وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ } .
وَلِأَنَّهُ قَلَعَ عَيْنَيْنِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثُرُ مِنْ الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَالِعُ صَحِيحًا ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَهُ .
وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ فِي إحْدَى عَيْنَيْهِ لَا يَجْعَلُ الْأُخْرَى عَيْنَ أَعْوَرَ ، عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِقَلْعِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ قَضِيَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ ، صِرْنَا إلَيْهَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهَا ، فَفِيمَا عَدَا مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ ، يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا ، وَالْبَقَاءُ عَلَيْهِمَا ، فَإِنْ كَانَ قَلَعَهُمَا عَمْدًا ، فَاخْتَارَ الْقِصَاصَ ، فَلَيْسَ لَهُ إلَّا قَلْعُ عَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ بَصَرَهُ كُلَّهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ إذْهَابِ بَصَرِهِ ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَضَاءِ الصَّحَابَةِ أَنَّ عَيْنَ الْأَعْوَرِ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنَيْنِ .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ لَهُ الْقِصَاصَ مِنْ الْعَيْنِ ، وَنِصْفَ الدِّيَةِ لِلْعَيْنِ الْأُخْرَى ، وَهُوَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 6904 ) فَصْل : وَإِنْ قَطَعَ يَدَ أَقْطَعَ ، أَوْ رِجْلَ أَقْطَعَ الرِّجْلِ ، فَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، أَوْ الْقِصَاصُ مِنْ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ أَمْكَنَ الْقِصَاصُ مِنْ مِثْلِهِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ دِيَةُ مِثْلِهِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَ مَنْ لَهُ أُذُنٌ وَاحِدَةٌ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ الْأُولَى إنْ كَانَتْ قُطِعَتْ ظُلْمًا وَأَخَذَ دِيَتَهَا ، أَوْ قُطِعَتْ قِصَاصًا ، فَفِيهَا نِصْفُ دِيَتِهَا ، وَإِنْ قُطِعَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَفِي الْبَاقِيَةِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ عَطَّلَ مَنَافِعَهُ مِنْ الْعُضْوَيْنِ جُمْلَةً ، فَأَشْبَهَ قَلْعَ عَيْنِ الْأَعْوَرِ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ الْعُضْوَيْنِ اللَّذَيْنِ تَحْصُلُ بِهِمَا مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ ، وَلَا يَقُومُ مَقَامَ الْعُضْوَيْنِ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، وَكَمَا لَوْ كَانَتْ الْأُولَى أُخِذَتْ قِصَاصًا ، أَوْ فِي غَيْرِ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى عَيْنِ الْأَعْوَرِ لَوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّ عَيْنَ الْأَعْوَرِ حَصَلَ بِهَا مَا يَحْصُلُ بِالْعَيْنَيْنِ ، وَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْأَحْكَامِ إلَّا تَفَاوُتًا يَسِيرًا ، بِخِلَافِ أَقْطَعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ .
وَالثَّانِي ؛ أَنَّ عَيْنَ الْأَعْوَرِ لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ فِيهَا بِاخْتِلَافِ صِفَةِ ذَهَابِ الْأُولَى .
وَهَا هُنَا اخْتَلَفَا .
الثَّالِثُ ؛ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ وَالتَّعْيِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَمْرٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ ، وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ فَيُصَارُ إلَيْهِ ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ فَيُقَاسُ عَلَيْهِ ، فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ تَحَكُّمٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ ، فَيَجِبُ اطِّرَاحُهُ .
وَإِنْ قُطِعَتْ أُذُنُ مِنْ قُطِعَتْ أُذُنُهُ ، أَوْ مَنْخِرُ مَنْ قُطِعَتْ مَنْخِرُهُ ، لَمْ يَجِبْ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ أُذُنٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْأُخْرَى ، بِخِلَافِ الْعَيْنَيْنِ .
( 6905 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الْأَشْفَارِ الْأَرْبَعَةِ الدِّيَةُ ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ ) .
يَعْنِي أَجْفَانَ الْعَيْنَيْنِ ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ ، فَفِي جَمِيعِهَا الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ فِيهَا مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذِي عَدَدٍ تَجِبُ فِي جَمِيعِهِ الدِّيَةُ ، تَجِبُ فِي الْوَاحِدِ مِنْهَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الدِّيَةِ ، كَالْيَدَيْنِ وَالْأَصَابِعِ .
وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَأَبُو هَاشِمٍ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ مَالِكٍ فِي جَفْنِ الْعَيْنِ وَحِجَاجِهَا الِاجْتِهَادُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ تَقْدِيرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّقْدِيرُ لَا يَثْبُتُ قِيَاسًا .
وَلَنَا أَنَّهَا أَعْضَاءٌ فِيهَا جَمَالٌ ظَاهِرٌ ، وَنَفْعٌ كَامِلٌ ؛ فَإِنَّهَا تُكِنُّ الْعَيْنَ ، وَتَحْفَظُهَا ، وَتَقِيهَا الْحَرَّ وَالْبَرْدَ ، وَتَكُونُ كَالْغَلَقِ عَلَيْهَا ، يُطْبِقُهُ إذَا شَاءَ ، وَيَفْتَحُهُ إذَا شَاءَ ، وَلَوْلَاهَا لَقَبُحَ مَنْظَرُهُ ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ ، كَالْيَدَيْنِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَثْبُتُ قِيَاسًا .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ فِي أَحَدِهَا رُبْعَ الدِّيَةِ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ ، أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْأَعْلَى ثُلُثَا دِيَةِ الْعَيْنِ ، وَفِي الْأَسْفَلِ ثُلُثُهَا ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ نَفْعًا .
وَلَنَا ، أَنَّ كُلَّ ذِي عَدَدٍ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي جَمِيعِهِ ، تَجِبُ بِالْحِصَّةِ فِي الْوَاحِدِ مِنْهُ ، كَالْيَدَيْنِ وَالْأَصَابِعِ ، وَمَا ذَكَرَهُ يَبْطُلُ بِالْيُمْنَى مَعَ الْيُسْرَى وَالْأَصَابِعِ .
وَإِنْ قَلَعَ الْعَيْنَيْنِ بِأَشْفَارِهِمَا ، وَجَبَتْ دِيَتَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا ، فَوَجَبَتْ بِإِتْلَافِهِمَا جُمْلَةً دِيَتَانِ ، كَالْيَدَيْنِ ، وَالرِّجْلَيْنِ .
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي أَشْفَارِ عَيْنِ الْأَعْمَى ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ بَصَرِهِ عَيْبٌ فِي غَيْرِ الْأَجْفَانِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الدِّيَةِ فِيهَا ، كَذَهَابِ الشَّمِّ ، لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ
الدِّيَةِ فِي الْأَنْفِ ( 6906 ) فَصْلٌ : وَتَجِبُ فِي أَهْدَابِ الْعَيْنَيْنِ بِمُفْرَدِهَا الدِّيَةُ ، وَهُوَ الشَّعْرُ الَّذِي عَلَى الْأَجْفَانِ ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا رُبْعُهَا .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِ حُكُومَةٌ .
وَلَنَا ، أَنَّ فِيهَا جَمَالًا وَنَفْعًا ، فَإِنَّهَا تَقِي الْعَيْنَيْنِ ، وَتَرُدُّ عَنْهُمَا ، وَتُحَسِّنُ الْعَيْنَ وَتُجَمِّلُهَا ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الدِّيَةُ كَالْأَجْفَانِ ، فَإِنْ قَطَعَ الْأَجْفَانَ بِأَهْدَابِهَا ، لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ يَزُولُ تَبَعًا لِزَوَالِ الْأَجْفَانِ ، فَلَمْ تُفْرَدْ بِضَمَانٍ ، كَالْأَصَابِعِ إذَا قَطَعَ الْيَدَ وَهِيَ عَلَيْهَا .
( 6907 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ ) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَقَالَ فِي الْأُخْرَى : فِيهِمَا حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ فِيهِمَا بِتَقْدِيرٍ ، وَلَا يَثْبُتُ التَّقْدِيرُ بِالْقِيَاسِ .
وَلَنَا ، أَنَّ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { : وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ } .
وَلِأَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا قَضَيَا فِيهِمَا بِالدِّيَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى فِي الْأُذُنِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا .
قُلْنَا : لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَلِأَنَّ مَا كَانَ فِي الْبَدَنِ مِنْهُ عُضْوَانِ ، كَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، كَالْيَدَيْنِ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِمَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوَيْنِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِيهِمَا ، وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا ، كَالْيَدَيْنِ ، وَإِنْ قُطِعَ بَعْضُ إحْدَاهُمَا ، وَجَبَ بِقَدْرِ مَا قُطِعَ مِنْ دِيَتِهَا ، فَفِي نِصْفِهَا نِصْفُ دِيَتِهَا ، وَفِي رُبْعِهَا رُبْعُهَا ، وَعَلَى هَذَا الْحِسَابُ ، سَوَاءٌ قُطِعَ مِنْ أَعْلَى الْأُذُنِ أَوْ أَسْفَلِهَا ، أَوْ اخْتَلَفَ فِي الْجَمَالِ ، أَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ ، كَمَا أَنَّ الْأَسْنَانَ وَالْأَصَابِعَ تَخْتَلِف فِي الْجَمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ ، وَدِيَاتُهَا سَوَاءٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ أَنَّ فِي شَحْمَةِ الْأُذُنِ ثُلُثَ الدِّيَةِ .
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ .
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي أُذُنِ الْأَصَمِّ ؛ لِأَنَّ الصَّمَمَ نَقْصٌ فِي غَيْرِ الْأُذُنِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي دِيَتِهَا .
كَالْعَمَى لَا يُؤَثِّرُ فِي دِيَةِ الْأَجْفَانِ .
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .
( 6908 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَنَى عَلَى أُذُنِهِ فَاسْتَحْشَفَتْ ، وَاسْتِحْشَافُهَا كَشَلَلِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ .
وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : فِي ذَلِكَ دِيَتُهَا ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَتْ دِيَتُهُ بِقَطْعِهِ ، وَجَبَتْ بِشَلَلِهِ ، كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ .
وَلَنَا ، أَنَّ نَفْعَهَا بَاقٍ بَعْدَ اسْتِحْشَافِهَا وَجَمَالَهَا ، فَإِنَّ نَفْعَهَا جَمْعُ الصَّوْتِ ، وَمَنْعُ دُخُولِ الْمَاءِ وَالْهَوَامِّ فِي صِمَاخِهِ ، وَهَذَا بَاقٍ بَعْدَ شَلَلِهَا ، فَإِنْ قَطَعَهَا قَاطِعٌ بَعْدَ اسْتِحْشَافِهَا ، فَفِيهَا دِيَتُهَا ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ أُذُنًا فِيهَا جَمَالُهَا وَنَفْعُهَا ، فَوَجَبَتْ دِيَتُهَا كَالصَّحِيحَةِ ، وَكَمَا لَوْ قَلَعَ عَيْنًا عَمْشَاءَ أَوْ حَوْلَاءَ .
( 6909 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي السَّمْعِ إذَا ذَهَبَ مِنْ الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ ) لَا خِلَافَ فِي هَذَا .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ فِي السَّمْعِ الدِّيَةَ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ .
وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَهْلُ الشَّامِ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ ، وَمَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَلَا أَعْلَم عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافًا لَهُمْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : وَفِي السَّمْعِ الدِّيَةُ } .
وَرَوَى أَبُو الْمُهَلَّبِ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِحَجَرٍ فِي رَأْسِهِ ، فَذَهَبَ سَمْعُهُ وَعَقْلُهُ وَلِسَانُهُ وَنِكَاحُهُ ، فَقَضَى عُمَرُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ ، وَالرَّجُلُ حَيٌّ .
وَلِأَنَّهَا حَاسَّةٌ تَخْتَصُّ بِنَفْعٍ ، فَكَانَ فِيهَا الدِّيَةُ ، كَالْبَصَرِ .
وَإِنْ ذَهَبَ السَّمْعُ مِنْ إحْدَى الْأُذُنَيْنِ ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ الْبَصَرُ مِنْ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ .
وَإِنْ قَطَعَ أُذُنَهُ ، فَذَهَبَ سَمْعُهُ ، وَجَبَتْ دِيَتَانِ ؛ لِأَنَّ السَّمْعَ فِي غَيْرِهِمَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَلَعَ أَجْفَانَ عَيْنَيْهِ فَذَهَبَ بَصَرُهُ ، بِخِلَافِ الْعَيْنِ إذَا قُلِعَتْ فَذَهَبَ بَصَرُهُ .
فَإِنَّ الْبَصَرَ فِي الْعَيْنِ ، فَأَشْبَهَ الْبَطْشَ الذَّاهِبَ بِقَطْعِ الْيَد .
( 6910 ) فَصْلٌ : وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي ذَهَابِ سَمْعِهِ ، فَإِنَّهُ يُتَغَفَّلُ وَيُصَاحُ بِهِ ، وَيُنْظَرُ اضْطِرَابُهُ ، وَيُتَأَمَّلُ عِنْدَ صَوْتِ الرَّعْدِ وَالْأَصْوَاتِ الْمُزْعِجَةِ ، فَإِنْ ظَهَرَ مِنْهُ انْزِعَاجٌ ، أَوْ الْتِفَاتٌ ، أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى السَّمْعِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْأَمَارَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَمِيعٌ ، فَغُلِّبَتْ جَنَبَةُ الْمُدَّعِي ، وَحُلِّفَ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ مِنْهُ اتِّفَاقًا ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ غَيْرُ سَمِيعٍ ، وَحَلَفَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ احْتَرَزَ وَتَصَبَّرَ .
وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ فِي إحْدَاهُمَا ، سُدَّتْ الْأُخْرَى ، وَتُغُفِّلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
فَإِنْ ادَّعَى نُقْصَانَ السَّمْعِ فِيهِمَا ، فَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، فَيُحَلِّفُهُ الْحَاكِمُ ، وَيُوجِبُ حُكُومَةً .
وَإِنْ ادَّعَى نَقْصَهُ فِي إحْدَاهُمَا ، سَدَدْنَا الْعَلِيلَةَ ، وَأَطْلَقْنَا الصَّحِيحَةَ ، وَأَقَمْنَا مَنْ يُحَدِّثُهُ وَهُوَ يَتَبَاعَدُ إلَى حَيْثُ يَقُولُ : إنِّي لَا أَسْمَعُ .
فَإِذَا قَالَ إنِّي لَا أَسْمَعُ .
غَيَّرَ عَلَيْهِ الصَّوْتَ وَالْكَلَامَ فَإِنْ بَانَ أَنَّهُ يَسْمَعُ ، وَإِلَّا فَقَدْ كَذَبَ ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى آخِرِ سَمَاعِهِ ، قَدَّرَ الْمَسَافَةَ ، وَسَدَّ الصَّحِيحَةَ ، وَأُطْلِقَتْ الْمَرِيضَةُ ، وَحَدَّثَهُ وَهُوَ يَتَبَاعَدُ ، حَتَّى يَقُولَ : إنِّي لَا أَسْمَعُ .
فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ، غَيَّرَ عَلَيْهِ الْكَلَامَ ، فَإِنْ تَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ ، لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ تَتَغَيَّرْ صِفَتُهُ ، حَلَفَ ، وَقُبِلَ قَوْلُهُ ، وَمُسِحَتْ الْمَسَافَتَانِ ، وَنُظِرَ مَا نَقَصَتْ الْعَلِيلَةُ ، فَوَجَبَ بِقَدْرِهِ .
فَإِنْ قَالَ : إنِّي أَسْمَعُ الْعَالِي ، وَلَا أَسْمَعُ الْخَفِيَّ .
فَهَذَا لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ ، فَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ .
( 6911 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ : إنَّهُ يُرْجَى عَوْدُ سَمْعِهِ إلَى مُدَّةٍ .
اُنْتُظِرَ إلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ غَايَةٌ ، لَمْ
يُنْتَظَرْ .
وَمَتَى عَادَ السَّمْعُ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَخْذِ الدِّيَةِ ، سَقَطَتْ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ ، رُدَّتْ .
عَلَى مَا قُلْنَا فِي الْبَصَرِ .
( 6912 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَفِي قَرْعِ الرَّأْسِ إذَا لَمْ يَنْبُتْ الشَّعْرُ الدِّيَةُ .
وَفِي شَعْرِ اللِّحْيَةِ الدِّيَةُ ، إذَا لَمْ يَنْبُتْ .
وَفِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةُ إذَا لَمْ تَنْبُتْ ) هَذِهِ الشُّعُورُ الثَّلَاثَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دِيَةٌ .
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا مَعَهَا شَعْرًا رَابِعًا ، وَهُوَ أَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا .
فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةٌ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَمِمَّنْ أَوْجَبَ فِي الْحَاجِبَيْنِ الدِّيَةَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَشُرَيْحٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الشَّعْرِ : فِيهِ الدِّيَةُ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : فِيهِ حُكُومَةٌ .
وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافُ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ ؛ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ ، كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ ، فَوَجَبَ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ كَأُذُنِ الْأَصَمِّ ، وَأَنْفِ الْأَخْشَمِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّ الْحَاجِبَ يَرُدُّ الْعَرَقَ عَنْ الْعَيْنِ وَيُفَرِّقُهُ ، وَهُدْبُ الْعَيْنِ يَرُدُّ عَنْهَا وَيَصُونُهَا ، فَجَرَى مَجْرَى أَجْفَانِهَا .
وَيَنْتَقِضُ مَا ذَكَرُوهُ بِالْأَصْلِ الَّذِي قِسْنَا عَلَيْهِ ، وَيُفَارِقُ الْيَدَ الشَّلَّاءَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ جَمَالُهَا كَامِلًا ( 6913 ) فَصْلٌ : وَفِي أَحَدِ الْحَاجِبَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، فَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا ، كَالْيَدَيْنِ .
وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ ، أَوْ ذَهَابِ شَيْءٍ مِنْ الشُّعُورِ الْمَذْكُورَةِ ، مِنْ الدِّيَةَ بِقِسْطِهِ مِنْ دِيَتِهِ ، يُقَدَّرُ بِالْمِسَاحَةِ ، كَالْأُذُنَيْنِ ، وَمَارِنِ الْأَنْفِ .
وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الشُّعُورِ بَيْن كَوْنِهَا كَثِيفَةً أَوْ خَفِيفَةً ، أَوْ جَمِيلَةً أَوْ قَبِيحَةً ، أَوْ كَوْنِهَا مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ؛ لِأَنَّ سَائِرَ مَا فِيهِ الدِّيَةُ مِنْ الْأَعْضَاءِ ، لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِيهِ بِذَلِكَ .
وَإِنْ أَبْقَى مِنْ لِحْيَتِهِ مَا لَا جَمَالَ فِيهِ ، أَوْ
مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الشَّعْرِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يُؤْخَذُ بِالْقِسْطِ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ يَجِبُ فِي بَعْضِهِ بِحِصَّتِهِ ، فَأَشْبَهَ الْأُذُنَ وَمَارِنَ الْأَنْفِ .
وَالثَّانِي : تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً ؛ لِأَنَّهُ أَذْهَبَ الْمَقْصُودَ كُلَّهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَذْهَبَ ضَوْءَ الْعَيْنَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ جِنَايَتَهُ رُبَّمَا أَحْوَجَتْ إلَى إذْهَابِ الْبَاقِي ، لِزِيَادَتِهِ فِي الْقُبْحِ عَلَى ذَهَابِ الْكُلِّ ، فَتَكُونُ جِنَايَتُهُ سَبَبًا لِذَهَابِ الْكُلِّ ، فَأَوْجَبَتْ دِيَتَهُ ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ بِسِرَايَةِ الْفِعْلِ ، أَوْ كَمَا لَوْ احْتَاجَ فِي دَوَاءِ شَجَّةِ الرَّأْسِ إلَى مَا ذَهَبَ بِضَوْءِ عَيْنِهِ .
( 6914 ) فَصْلٌ : وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ إلَّا بِذَهَابِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُرْجَى عَوْدُهُ ، مِثْلُ أَنْ يَقْلِبَ عَلَى رَأْسِهِ مَاءً حَارًّا ، فَتَلِفَ مَنْبَتُ الشَّعْرِ ، فَيَنْقَلِعَ بِالْكُلِّيَّةِ ، .
بِحَيْثُ لَا يَعُودُ وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُهُ إلَى مُدَّةٍ ، اُنْتُظِرَ إلَيْهَا .
وَإِنْ عَادَ الشَّعْرُ قَبْلَ أَخْذِ الدِّيَةِ ، لَمْ تَجِبْ ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ أَخْذِهَا ، رَدَّهَا .
وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي ذَهَابِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ ، فِيمَا يُرْجَى عَوْدُهُ ، وَفِيمَا لَا يُرْجَى ( 6915 ) فَصْلٌ : وَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشُّعُورِ ؛ لِأَنَّ إتْلَافَهَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَحَلِّهَا ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ ، فَلَا تُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ ، فَلَا يَجِبُ الْقِصَاص فِيهِ .
( 6916 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الْمَشَامِّ الدِّيَةُ ) يَعْنِي الشَّمَّ ، فِي إتْلَافِهِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ حَاسَّةٌ ، تَخْتَصُّ بِمَنْفَعَتِهِ ، فَكَانَ فِيهَا الدِّيَةُ ، كَسَائِرِ الْحَوَاسِّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
قَالَ الْقَاضِي : فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : وَفِي الْمَشَامِّ الدِّيَةُ } .
فَإِنْ ادَّعَى ذَهَابَ شَمِّهِ ، اغْتَفَلْنَاهُ بِالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ أَوْ الْمُنْتِنَةِ ، فَإِنْ هَشَّ لِلطَّيِّبِ ، وَتَنَكَّرَ لِلْمُنْتِنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَبِنْ مِنْهُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، كَقَوْلِهِمْ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي السَّمْعِ .
وَإِنْ ادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ نَقْصَ شَمِّهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْأَقْرَاءِ ، وَيَجِبُ لَهُ مِنْ الدِّيَةِ مَا تُخْرِجُهُ الْحُكُومَةُ .
وَإِنْ ذَهَبَ شَمُّهُ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ أَخْذِ الدِّيَةِ ، سَقَطَتْ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَخْذِهَا رَدَّهَا ؛ لِأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَهَبَ .
وَإِنْ رُجِيَ عَوْدُ شَمِّهِ إلَى مُدَّةٍ ، اُنْتُظِرَ إلَيْهَا .
وَإِنْ ذَهَبَ شَمُّهُ مِنْ أَحَدِ مَنْخِرَيْهِ ، فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ بَصَرُهُ مِنْ إحْدَى عَيْنَيْهِ .
( 6917 ) فَصْلٌ : وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ إذَا كَانَ قُطِعَ مَارِنُهُ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَهُمْ .
حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَمَّنْ يَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : وَفِي الْأَنْفِ إذَا أُوعِبَ جَدْعًا الدِّيَةُ } .
وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ ، فِي " الْمُوَطَّإِ " { إذَا أُوعِيَ جَدْعًا } .
يَعْنِي إذَا : اُسْتُوْعِبَ وَاسْتُؤْصِلَ ، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ فِيهِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ ، لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِنْهُ إلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ ، فَكَانَتْ فِيهِ الدِّيَةُ ، كَاللِّسَانِ ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ فِي مَارِنِهِ ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ .
هَكَذَا قَالَ الْخَلِيلُ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ طَاوُسٍ ، أَنَّهُ قَالَ : كَانَ فِي كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَفِي الْأَنْفِ ، إذَا أُوعِبَ مَارِنُهُ جَدْعًا الدِّيَةُ } .
وَلِأَنَّ الَّذِي يُقْطَعُ فِيهِ ذَلِكَ ، فَانْصَرَفَ الْخَبَرُ إلَيْهِ .
فَإِنْ قُطِعَ بَعْضُهُ ، فَفِيهِ بِقَدْرِهِ مِنْ الدِّيَةِ ، يُمْسَحُ وَيُعْرَفُ قَدْرُ ذَلِكَ مِنْهُ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْأُذُنَيْنِ .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَإِنْ قُطِعَ أَحَدُ الْمَنْخِرَيْنِ ، فَفِيهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَفِي الْمَنْخِرَيْنِ ثُلُثَاهَا ، وَفِي الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا الثُّلُثُ : قَالَ أَحْمَدُ : فِي الْوَتَرَةِ الثُّلُثُ ، وَفِي الْخَرَمَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثُ .
وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَارِنَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ مِنْ جِنْسٍ ، فَتَوَزَّعَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِهَا ، كَسَائِرِ مَا فِيهِ عَدَدٌ مِنْ جِنْسٍ ، مِنْ الْيَدَيْنِ ، وَالْأَصَابِعِ ، وَالْأَجْفَانِ الْأَرْبَعَةِ .
وَحَكَى أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا آخَرَ ، أَنَّ فِي الْمَنْخِرَيْنِ الدِّيَةَ ، وَفِي الْحَاجِزِ بَيْنَهُمَا حُكُومَةٌ ؛ لِقَوْلِ أَحْمَدَ : فِي كُلِّ زَوْجَيْنِ مِنْ الْإِنْسَانِ الدِّيَةُ .
وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛
لِأَنَّ الْمَنْخِرَيْنِ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ لَهُمَا ثَالِثٌ ، فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهُ بِقَطْعِ الْمَنْخِرَيْنِ أَذْهَبَ الْجَمَالَ كُلَّهُ ، وَالْمَنْفَعَةَ ، فَأَشْبَهَ قَطْعَ الْيَدَيْنِ .
فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فِي قَطْعِ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ قَطَعَ مَعَهُ الْحَاجِزَ ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، وَإِنْ قَطَعَ نِصْفَ الْحَاجِزِ أَوْ أَقَلَّ ، أَوْ أَكْثَرَ ، لَمْ يَزِدْ عَلَى حُكُومَةٍ .
وَعَلَى الْأَوَّلِ ، فِي قَطْعِ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ وَنِصْفِ الْحَاجِزِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِي قَطْعِ جَمِيعِهِ مَعَ الْمَنْخِرِ ثُلُثَا الدِّيَةِ ، وَفِي قَطْعِ جُزْءٍ مِنْ الْحَاجِزِ أَوْ أَحَدِ الْمَنْخِرَيْنِ بِقَدْرِهِ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ ، يُقَدَّرُ بِالْمِسَاحَةِ ، فَإِنْ شَقَّ الْحَاجِزَ بَيْنَ الْمَنْخِرَيْنِ ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، فَإِنْ بَقِيَ مُنْفَرِجًا ، فَالْحُكُومَةُ فِيهِ أَكْثَرُ .
( 6918 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ الْمَارِنَ مَعَ الْقَصَبَةِ ، فَفِيهِ الدِّيَةُ ، فِي قِيَاسِ الْمَذْهَبِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ فِي الْمَارِنِ ، وَحُكُومَةٌ فِي الْقَصَبَةِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَارِنَ وَحْدَهُ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ ، فَوَجَبَتْ الْحُكُومَةُ فِي الزَّائِدِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْقَصَبَةَ وَحْدَهَا مَعَ قَطْعِ لِسَانِهِ .
وَلَنَا ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : وَفِي الْأَنْفِ إذَا أُوعِبَ جَدْعًا الدِّيَةُ } .
وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ ، فَلَمْ يَجِبْ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ ، كَالذَّكَرِ إذَا قُطِعَ مِنْ أَصْلِهِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِهَذَا ، وَيُفَارِقُ مَا إذَا قُطِعَ لِسَانُهُ وَقَصَبَتُهُ ؛ لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ ، فَلَا تَدْخُلُ دِيَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ .
وَأَمَّا الْعُضْوُ الْوَاحِدُ ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِبَ فِي جَمِيعِهِ مَا يَجِبُ فِي بَعْضِهِ ، كَالذَّكَرِ تَجِبُ فِي حَشَفَتِهِ الدِّيَةُ الَّتِي تَجِبُ فِي جَمِيعِهِ ، وَأَصَابِعِ الْيَدِ يَجِبُ فِيهَا مَا يَجِبُ فِي الْيَدِ مِنْ الْكُوعِ ، وَكَذَلِكَ أَصَابِعُ الرِّجْلِ ، وَفِي الثَّدْيِ كُلِّهِ مَا فِي حَلَمَتِهِ .
فَأَمَّا إنْ قَطَعَ الْأَنْفَ وَمَا تَحْتَهُ مِنْ اللَّحْمِ ، فَفِي اللَّحْمِ حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَنْفِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ وَاللَّحْمَ الَّذِي تَحْتَهُ .
( 6919 ) فَصْلٌ : فَإِنْ ضَرَبَ أَنْفَهُ فَأَشَلَّهُ ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ .
وَإِنْ قَطَعَهُ قَاطِعٌ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَفِيهِ دِيَتُهُ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْأُذُنِ .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ هَاهُنَا كَقَوْلِهِ فِي الْأُذُنِ ، عَلَى مَا مَضَى شَرْحُهُ وَتِبْيَانُهُ .
وَإِنْ ضَرَبَهُ فَعَوَجَهُ ، أَوْ غَيَّرَ لَوْنَهُ ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ .
فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا .
وَفِي قَطْعِهِ بَعْدَ ذَلِكَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، وَإِنْ قَطَعَهُ إلَّا جِلْدَةً بَقِيَ مُعَلَّقًا بِهَا فَلَمْ يَلْتَحِمْ ، وَاحْتِيجَ إلَى قَطْعِهِ ، فَفِيهِ دِيَةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ جَمِيعَهُ ، بَعْضَهُ بِالْمُبَاشَرَةِ ، وَبَاقِيَهُ بِالتَّسَبُّبِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ سَرَى قَطْعُ بَعْضِهِ إلَى قَطْعِ جَمِيعِهِ .
وَإِنْ رَدَّهُ فَالْتَحَمَ ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِنْ .
وَإِنْ أَبَانَهُ فَرَدَّهُ فَالْتَحَمَ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَيْسَ فِيهِ إلَّا حُكُومَةٌ ، كَاَلَّتِي قَبْلَهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهِ دِيَةٌ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ أَبَانَ أَنْفَهُ ، فَلَزِمَتْهُ دِيَتُهُ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَلْتَحِمْ ، وَلِأَنَّ مَا أُبِينَ قَدْ نَجُسَ ، فَلَزِمَهُ أَنْ يُبِينَهُ بَعْدَ الْتِحَامِهِ .
وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، مَنَعَ نَجَاسَتَهُ ، وَوُجُوبَ إبَانَتِهِ ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْآدَمِيِّ كَجُمْلَتِهِ ، بِدَلِيلِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَجُمْلَتُهُ طَاهِرَةٌ ، وَكَذَلِكَ أَجْزَاؤُهُ .
( 6920 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَطَعَ أَنْفَهُ ، فَذَهَبَ شَمُّهُ ، فَعَلَيْهِ دِيَتَانِ ؛ لِأَنَّ الشَّمَّ فِي غَيْرِ الْأَنْفِ ، فَلَا تَدْخُلُ دِيَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ، كَالسَّمْعِ مَعَ الْأُذُنِ وَالْبَصَرِ مَعَ أَجْفَانِ الْعَيْنَيْنِ ، وَالنُّطْقِ مَعَ الشَّفَتَيْنِ .
وَإِنْ قَطَعَ أَنْفَ الْأَخْشَمِ ، وَجَبَتْ دِيَتُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ فِي غَيْرِ الْأَنْفِ فَأَشْبَهَ مَا ذَكَرْنَا .
( 6921 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ ) لَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَنَّ فِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةَ ، وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ } .
وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا ، فِيهِمَا جَمَالٌ ظَاهِرٌ ، وَمَنْفَعَةٌ كَامِلَةٌ ، فَإِنَّهُمَا طَبَقٌ عَلَى الْفَم يَقِيَانِهِ مَا يُؤْذِيهِ ، وَيَسْتُرَانِ الْأَسْنَانَ ، وَتَرُدَّانِ الرِّيقَ ، وَيَنْفُخُ بِهِمَا ، وَيَتِمُّ بِهِمَا الْكَلَامُ ، فَإِنَّ فِيهِمَا بَعْضَ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ ، فَتَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، كَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ .
وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ .
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّ فِي الْعُلْيَا ثُلُثَ الدِّيَةِ ، وَفِي السُّفْلَى الثُّلُثَيْنِ ؛ لِأَنَّ هَذَا يُرْوَى عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .
وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالزُّهْرِيُّ .
وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بِهَا أَعْظَمُ ، لِأَنَّهَا الَّتِي تَدُورُ ، وَتَتَحَرَّكُ ، وَتَحْفَظُ الرِّيقَ وَالطَّعَامَ ، وَالْعُلْيَا سَاكِنَةٌ لَا حَرَكَةَ فِيهَا .
وَلَنَا ، قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ وَجَبَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ ذِي عَدَدٍ وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ سُوِّيَ بَيْنَ جَمِيعِهِ فِيهَا ، كَالْأَصَابِعِ وَالْأَسْنَانِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِزِيَادَةِ النَّفْعِ ، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ ( 6922 ) فَصْلٌ : فَإِنْ ضَرَبَهُمَا فَأَشَلَّهُمَا ، وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَنْفَعَتَهُمَا ، فَوَجَبَتْ دِيَتُهُمَا ، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَيْهِ ، وَإِنْ تَقَلَّصَتَا فَلَمْ تَنْطَبِقَا عَلَى الْأَسْنَانِ ، أَوْ اسْتَرْخَتَا فَصَارَتَا لَا تَنْفَصِلَانِ عَنْ الْأَسْنَانِ ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ عَطَّلَ
مَنْفَعَتَهُمَا وَجَمَالَهُمَا .
وَإِنْ تَقَلَّصَتَا بَعْضَ التَّقَلُّصِ ، وَجَبَتْ الْحُكُومَةُ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُمَا لَمْ تَبْطُلْ بِالْكُلِّيَّةِ ( 6923 ) فَصْلٌ : حَدُّ الشَّفَةِ السُّفْلَى مِنْ أَسْفَلِ مَا تَجَافَى عَنْ الْأَسْنَانِ وَاللِّثَةِ مِمَّا ارْتَفَعَ عَنْ جِلْدَةِ الذَّقَنِ ، وَحَدُّ الْعُلْيَا مِنْ فَوْقِ مَا تَجَافَى عَنْ الْأَسْنَانِ وَاللِّثَةِ إلَى اتِّصَالِهِ بِالْمَنْخِرَيْنِ وَالْحَاجِزِ ، وَحَدُّهُمَا طُولًا طُولُ الْفَمِ إلَى حَاشِيَةِ الشِّدْقَيْنِ ، وَلَيْسَتْ حَاشِيَةُ الشِّدْقَيْنِ مِنْهُمَا .
( 6924 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَفِي اللِّسَانِ الْمُتَكَلَّمِ بِهِ الدِّيَةُ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي لِسَانِ النَّاطِقِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { : وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ } .
وَلِأَنَّ فِيهِ جَمَالًا وَمَنْفَعَةً ، فَأَشْبَهَ الْأَنْفَ ؛ فَأَمَّا الْجَمَالُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ الْجَمَالِ ، فَقَالَ : فِي اللِّسَانِ } .
وَيُقَالُ : جَمَالُ الرَّجُلِ فِي لِسَانِهِ ، { وَالْمَرْءُ بِأَصْغَرَيْهِ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ } .
وَيُقَالُ مَا الْإِنْسَانُ لَوْلَا اللِّسَانُ إلَّا صُورَةً مُمَثَّلَةً ، أَوْ بَهِيمَةً مُهْمَلَةً .
وَأَمَّا النَّفْعُ ، فَإِنَّ بِهِ تُبَلَّغُ الْأَغْرَاضُ ، وَتُسْتَخْلَصُ الْحُقُوقُ ، وَتُدْفَعُ الْآفَاتُ ، وَتُقْضَى بِهِ الْحَاجَاتُ ، وَتَتِمُّ الْعِبَادَاتُ ؛ فِي الْقِرَاءَةِ ، وَالذِّكْرِ ، وَالشُّكْرِ ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَالتَّعْلِيمِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، وَبِهِ يَذُوقُ الطَّعَامَ ، وَيَسْتَعِينُ فِي مَضْغِهِ وَتَقْلِيبِهِ ، وَتَنْقِيَةِ الْفَمِ ، وَتَنْظِيفِهِ ، فَهُوَ أَعْظَمُ الْأَعْضَاءِ نَفْعًا ، وَأَتَمُّهَا جَمَالًا ، فَإِيجَابُ الدِّيَةِ فِي غَيْرِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى إيجَابِهَا فِيهِ .
وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي لِسَانِ النَّاطِقِ ، فَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِذَهَابِ نَفْعِهِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ ، وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ .
( 6925 ) فَصْلٌ : وَفِي الْكَلَامِ الدِّيَةُ ، فَإِذَا جَنَى عَلَيْهِ فَخَرِسَ ، وَجَبَتْ دِيَتُهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَتْ الدِّيَةُ بِإِتْلَافِهِ ، تَعَلَّقَتْ بِإِتْلَافِ مَنْفَعَتِهِ ، كَالْيَدِ .
فَأَمَّا إنْ جَنَى عَلَيْهِ ، فَأَذْهَبَ ذَوْقَهُ ، فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : فِيهِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الذَّوْقَ حَاسَّةٌ ، فَأَشْبَهَ الشَّمَّ .
وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي أَنَّ لِسَانَ الْأَخْرَسِ لَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ .
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، عَلَى أَنَّ فِيهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ .
وَلَوْ وَجَبَ فِي الذَّوْقِ دِيَةٌ ، لَوَجَبَتْ فِي ذَهَابِهِ مَعَ ذَهَابِ اللِّسَانِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : قَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا نَصَّ لَهُ فِيهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : قَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ حُكُومَةً ، وَإِنْ ذَهَبَ الذَّوْقُ بِذَهَابِهِ .
وَالصَّحِيحُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ فِي إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ لِسَانَ الْأَخْرَسِ لَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ فِيهِ ؛ إجْمَاعًا عَلَى أَنَّهَا لَا تَكْمُلُ فِي ذَهَابِ الذَّوْقِ بِمُفْرَدِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ لَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ فِيهِ بِمَنْفَعَتِهِ ، لَا تَكْمُلُ بِمَنْفَعَتِهِ دُونَهُ ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ .
وَلَا تَفْرِيعَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ .
فَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ ، فَإِذَا ذَهَبَ ذَوْقُهُ كُلُّهُ ، فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، وَإِنْ نَقَصَ نَقْصًا غَيْرَ مُقَدَّرٍ ، بِأَنْ يُحِسَّ الْمَذَاقَ كُلَّهُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ عَلَى الْكَمَالِ ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ ، كَمَا لَوْ نَقَصَ بَصَرُهُ نَقْصًا لَا يَتَقَدَّرُ ، وَإِنْ كَانَ نَقْصًا يَتَقَدَّرُ ، بِأَنْ لَا يُدْرَكَ بِأَحَدِ الْمَذَاقِ الْخَمْسِ ، وَهِيَ : الْحَلَاوَةُ ، وَالْمَرَارَةُ ، وَالْحُمُوضَةُ ، وَالْمُلُوحَةُ ، وَالْعُذُوبَةُ ، وَيُدْرَكَ بِالْبَاقِي ، فَفِيهِ خُمْسُ الدِّيَةِ ، وَفِي اثْنَتَيْنِ خُمُسَاهَا ، وَفِي ثَلَاثٍ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا .
وَإِنْ لَمْ يُدْرَكْ بِوَاحِدَةٍ ، وَنَقَصَ
الْبَاقِي ، فَعَلَيْهِ خُمْسُ الدِّيَةِ ، وَحُكُومَةٌ لِنَقْصِ الْبَاقِي .
وَإِنْ قَطَعَ لِسَانَ أَخْرَسَ ، فَذَهَبَ ذَوْقُهُ ، فَفِيهِ الدِّيَةُ ؛ لِإِتْلَافِهِ الذَّوْقَ .
وَإِنْ جَنَى عَلَى لِسَانِ نَاطِقٍ ، فَأَذْهَبْ كَلَامَهُ وَذَوْقَهُ ، فَفِيهِ دِيَتَانِ .
وَإِنْ قَطَعَهُ ، فَذَهَبَا مَعًا ، فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يَذْهَبَانِ تَبَعًا لِذَهَابِهِ فَوَجَبَتْ دِيَتُهُ دُونَ دِيَتِهِمَا ، كَمَا لَوْ قَتَلَ إنْسَانًا ، لَمْ تَجِبْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَلَوْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهُ مَعَ بَقَائِهِ ، فَفِي كُلِّ مَنْفَعَةٍ دِيَةٌ .
( 6926 ) فَصْلٌ : وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْكَلَامِ ، وَجَبَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ ، يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِحُرُوفِ الْمُعْجَمِ ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ حَرْفًا سِوَى " لَا " ، فَإِنَّ مَخْرَجَهَا مَخْرَجُ اللَّازِمِ وَالْأَلِفِ ، فَمَهْمَا نَقَصَ مِنْ الْحُرُوف ، وَجَبَ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَتِمُّ بِجَمِيعِهَا ، فَالذَّاهِبُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِوَضُهُ مِنْ الدِّيَةِ كَقَدْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ ، فَفِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ رُبْعُ سُبْعِ الدِّيَةِ ، وَفِي الْحَرْفَيْنِ نِصْفُ سُبْعِهَا ، وَفِي الْأَرْبَعَةِ سُبْعُهَا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا خَفَّ مِنْ الْحُرُوفِ عَلَى اللِّسَانِ وَمَا ثَقُلَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الْمُقَدَّرُ لَمْ يُخْتَلَفْ لِاخْتِلَافِ قَدْرِهِ ، كَالْأَصَابِعِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُقَسَّمَ الدِّيَةُ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي لِلِّسَانِ فِيهَا عَمَلٌ ، وَدُونَ الشَّفَةِ ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ ؛ الْبَاءُ ، وَالْمِيمُ ، وَالْفَاءُ ، وَالْوَاوُ .
وَدُونَ حُرُوفِ الْحَلْقِ السِّتَّةِ ؛ الْهَمْزَةِ ، وَالْهَاءِ ، وَالْحَاءِ ، وَالْخَاءِ ، وَالْعَيْنِ ، وَالْغَيْنِ .
فَهَذِهِ عَشْرَةٌ ، بَقِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَرْفًا لِلِّسَانِ ، تَنْقَسِمُ دِيَتُهُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِقَطْعِ اللِّسَانِ ، وَذَهَابِ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَحْدَهَا مَعَ بَقَائِهِ ، فَإِذَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِيهَا بِمُفْرَدِهَا ، وَجَبَ فِي بَعْضِهَا بِقِسْطِهِ مِنْهَا ، فَفِي الْوَاحِدِ نِصْفُ تُسْعِ الدِّيَةِ ، وَفِي الِاثْنَيْنِ تُسْعُهَا ، وَفِي الثَّلَاثَة سُدُسُهَا .
وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَإِنْ جَنَى عَلَى شَفَتِهِ ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْحُرُوفِ ، وَجَبَ فِيهِ بِقَدْرِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ ذَهَبَ بَعْضُ حُرُوفِ الْحَلْقِ بِجِنَايَتِهِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ بِقَدْرِهِ مِنْ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ ، وَجْهًا وَاحِدًا .
وَإِنْ ذَهَبَ حَرْفٌ فَعَجَزَ عَنْ كَلِمَةٍ ، لَمْ يَجِبْ غَيْرُ أَرْشِ الْحَرْفِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ لِمَا تَلِفَ .
وَإِنْ ذَهَبَ حَرْفٌ ، فَأَبْدَلَ مَكَانَهُ حَرْفًا آخَرَ ، كَأَنَّهُ يَقُولُ : دِرْهَمٌ .
فَصَارَ يَقُولُ : دِلْهَمٌ .
أَوْ : دِغْهَمٌ
.
أَوْ : دِيْهَمٌ .
فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْحَرْفِ الذَّاهِبِ ؛ لِأَنَّ مَا تَبَدَّلَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الذَّاهِبِ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَا غَيْرِهَا ؛ فَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ فَذَهَبَ الْبَدَلُ ، وَجَبَتْ دِيَتُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ .
وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ شَيْءٌ مِنْ الْكَلَامِ ، لَكِنْ حَصَلَتْ فِيهِ عَجَلَةٌ أَوْ تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ لِمَا حَصَلَ مِنْ النَّقْصِ وَالشَّيْنِ ، وَلَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بَاقِيَةٌ .
وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ جَانٍ آخَرُ ، فَأَذْهَبَ كَلَامَهُ ، فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى عَيْنِهِ جَانٍ فَعَمِشَتْ ، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهَا آخَرُ ، فَذَهَبَ بِبَصَرِهَا .
وَإِنْ أَذْهَبَ الْأَوَّلُ بَعْضَ الْحُرُوفِ ، وَأَذْهَبَ الثَّانِي بَقِيَّةَ الْكَلَامِ ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِسْطِهِ ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ الْأَوَّلُ بِبَصَرِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ ، وَذَهَبَ الْآخَرُ بِبَصَرِ الْأُخْرَى .
وَإِنْ كَانَ أَلْثَغَ مِنْ غَيْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ ، فَذَهَبَ إنْسَانٌ بِكَلَامِهِ كُلِّهِ ، فَإِنْ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْ زَوَالِ لُثْغَتِهِ ، فَفِيهِ بِقِسْطِ مَا ذَهَبَ مِنْ الْحُرُوفِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْيُوسٍ مِنْ زَوَالِهَا ، كَالصَّبِيِّ ، فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ زَوَالُهَا .
وَكَذَلِكَ الْكَبِيرُ إذَا أَمْكَنَ إزَالَةُ لُثْغَتِهِ بِالتَّعْلِيمِ .
( 6927 ) فَصْلٌ : إذَا قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ ، فَذَهَبَ بَعْضُ كَلَامِهِ ، فَإِنْ اسْتَوَيَا ، مِثْلُ أَنْ يَقْطَعَ رُبْعَ لِسَانِهِ ، فَيَذْهَبَ رُبْعُ كَلَامِهِ ، وَجَبَ رُبْعُ الدِّيَةِ بِقَدْرِ الذَّاهِبِ مِنْهُمَا ، كَمَا لَوْ قَلَعَ إحْدَى عَيْنَيْهِ فَذَهَبَ بَصَرُهَا .
وَإِنْ ذَهَبَ مِنْ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ الْآخَرِ ، كَأَنْ قَطَعَ رُبْعَ لِسَانِهِ ، فَذَهَبَ نِصْفُ كَلَامِهِ ، أَوْ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ ، فَذَهَبَ رُبْعُ كَلَامِهِ ، وَجَبَ بِقَدْرِ الْأَكْثَرِ ، وَهُوَ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي الْحَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللِّسَانِ وَالْكَلَامِ مَضْمُونٌ بِالدِّيَةِ مُنْفَرِدًا ، فَإِذَا انْفَرَدَ نِصْفُهُ بِالذَّهَابِ ، وَجَبَ النِّصْفُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ذَهَبَ نِصْفُ الْكَلَامِ ، وَلَمْ يَذْهَبْ مِنْ اللِّسَانِ شَيْءٌ ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَلَوْ ذَهَبَ نِصْفُ اللِّسَانِ ، وَلَمْ يَذْهَبْ مِنْ الْكَلَامِ شَيْءٌ ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ .
وَإِنْ قَطَعَ رُبْعَ اللِّسَانِ ، فَذَهَبَ نِصْفُ الْكَلَامِ ، وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ ، فَإِنْ قَطَعَ آخَرُ بَقِيَّةَ اللِّسَانِ ، فَذَهَبَتْ بَقِيَّةُ الْكَلَامِ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ؛ أَحَدُهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ .
هَذَا قَوْلُ الْقَاضِي .
وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ السَّالِمَ نِصْفُ اللِّسَانِ ، وَبَاقِيَهُ أَشَلُّ ، بِدَلِيلِ ذَهَابِ نِصْفِ الْكَلَامِ .
وَالثَّانِي : عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَحُكُومَةٌ لِلرُّبْعِ الْأَشَلِّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُهُ أَشَلَّ ، لَكَانَتْ فِيهِ حُكُومَةٌ أَوْ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، فَإِذَا كَانَ بَعْضُهُ أَشَلَّ ، فَفِي ذَلِكَ الْبَعْضِ حُكُومَةٌ أَيْضًا .
الثَّالِثُ : عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ .
وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ لِسَانِهِ ، فَذَهَبَ رُبْعُ وَنِصْفُ كَلَامِهِ ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ أَوَّلًا .
وَلَا يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ بَعْضَهُ أَشَلُّ ؛ لِأَنَّ الْعُضْوَ مَتَى كَانَ فِيهِ بَعْضُ النَّفْعِ ، لَمْ يَكُنْ بَعْضُهُ أَشَلَّ ، كَالْعَيْنِ إذَا كَانَ
بَصَرُهَا ضَعِيفًا ، وَالْيَدِ إذَا كَانَ بَطْشُهَا نَاقِصًا .
وَإِنْ قَطَعَ نِصْفَ لِسَانِهِ ، فَذَهَبَ رُبْعُ كَلَامِهِ ، فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَتِهِ ، فَإِنْ قَطَعَ الْآخَرُ بَقِيَّتَهُ ، فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ .
وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَالْآخَرُ ، عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْ إلَّا نِصْفَ لِسَانِهِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْكَلَامِ ، فَلَزِمَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دِيَتِهِ ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْكَلَامِ بِقَطْعِ نِصْفِ اللِّسَانِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَذْهَبَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْكَلَامِ مَعَ بَقَاءِ اللِّسَانِ ، لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ ، فَلَأَنْ تَجِبَ بِقَطْعِ نِصْفِ اللِّسَانِ فِي الْأَوَّلِ أَوْلَى ، وَلَوْ لَمْ يَقْطَعْ الثَّانِي نِصْفَ اللِّسَانِ ، لَكِنْ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً أَذْهَبَتْ بَقِيَّةَ كَلَامِهِ مَعَ بَقَاءِ لِسَانِهِ ، لَكَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ دِيَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مَا فِيهِ الدِّيَةُ ، فَكَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى صَحِيحٍ ، فَذَهَبَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ كَلَامِهِ ، مَعَ بَقَاءِ لِسَانِهِ .
( 6928 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَطَعَ بَعْضَ لِسَانِهِ عَمْدًا ، فَاقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنْ مِثْلِ مَا جَنَى عَلَيْهِ بِهِ ، فَذَهَبَ مِنْ كَلَامِ الْجَانِي مِثْلُ مَا ذَهَبَ مِنْ كَلَامِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ ، فَقَدْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ، وَلَا شَيْءَ فِي الزَّائِدِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سِرَايَةِ الْقَوَدِ ، وَسِرَايَةُ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ .
وَإِنْ ذَهَبَ أَقَلُّ ، فَلِلْمُقْتَصِّ دِيَةُ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ بَدَلَهُ .
( 6929 ) فَصْلٌ : وَإِذَا قَطَعَ لِسَانَ صَغِيرٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ لِطُفُولِيَّتِهِ ، وَجَبَتْ دِيَتُهُ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ لِسَانٌ لَا كَلَامَ فِيهِ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ ، كَلِسَانِ الْأَخْرَسِ .
وَلَنَا ، أَنَّ ظَاهِرَهُ السَّلَامَةُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ الْكَلَامَ فَوَجَبَتْ بِهِ الدِّيَةُ كَالْكَبِيرِ ، وَيُخَالِفُ الْأَخْرَسَ ؛ فَإِنَّهُ عُلِمَ أَنَّهُ أَشَلُّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَعْضَاءَهُ لَا يَبْطِشُ بِهَا ، وَتَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ .
وَإِنْ بَلَغَ حَدًّا يَتَكَلَّمُ مِثْلُهُ ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ ، فَقَطَعَ لِسَانَهُ ، لَمْ تَجِبْ فِيهِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ ، وَيَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ .
وَإِنْ كَبِرَ فَنَطَقَ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ ، وَجَبَ فِيهِ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ الْحُرُوفِ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ نَاطِقًا .
وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ إلَى حَدٍّ يَتَحَرَّك بِالْبُكَاءِ وَغَيْرِهِ ، فَلَمْ يَتَحَرَّكْ ، فَقَطَعَهُ قَاطِعٌ ، فَلَا دِيَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَتَحَرَّكَ .
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَى حَدٍّ يَتَحَرَّكُ ، فَفِيهِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ سَلَامَتُهُ .
وَإِنْ قَطَعَ لِسَانَ كَبِيرٍ ، وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ أَخْرَسَ ، فَفِيهِ مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي شَلَلِ الْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى .
( 6930 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ ، فَذَهَبَ كَلَامُهُ أَوْ ذَوْقُهُ ، ثُمَّ عَادَ ، لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ ، وَلَوْ ذَهَبَ لَمْ يَعُدْ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ الدِّيَةَ رَدَّهَا .
وَإِنْ قَطَعَ لِسَانَهُ ، فَعَادَ ، لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا رَدَّهَا .
قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِعَوْدِهِ ، وَاخْتِصَاصُ هَذَا بِعَوْدِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هِبَةٌ مُجَدَّدَةٌ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَادَ مَا وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ ، فَوَجَبَ رَدُّ الدِّيَةِ ، كَالْأَسْنَانِ وَسَائِرِ مَا يَعُودُ .
وَإِنْ قَطَعَ إنْسَانٌ نِصْفَ لِسَانِهِ ، فَذَهَبَ كَلَامُهُ كُلُّهُ ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ بَقِيَّتَهُ ، فَعَادَ كَلَامُهُ ، لَمْ يَجِبْ رَدُّ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي كَانَ بِاللِّسَانِ قَدْ ذَهَبَ ، وَلَمْ يَعُدْ إلَى اللِّسَانِ ، وَإِنَّمَا عَادَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ ، بِخِلَافِ الَّتِي قَبْلَهَا .
وَإِنْ قَطَعَ لِسَانَهُ ، فَذَهَبَ كَلَامُهُ ، ثُمَّ عَادَ اللِّسَانُ دُونَ الْكَلَامِ ، لَمْ يَرُدَّ الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ مَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِيهِ بِانْفِرَادِهِ .
وَإِنْ عَادَ كَلَامُهُ دُونَ لِسَانِهِ ، لَمْ يَرُدَّهَا أَيْضًا ؛ لِذَلِكَ .
( 6931 ) فَصْلٌ : وَإِذَا كَانَ لِلِسَانِهِ طَرَفَانِ ، فَقَطَعَ أَحَدَهُمَا ، فَذَهَبَ كَلَامُهُ ، فَفِيهِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ الْكَلَامِ بِمُفْرَدِهِ يُوجِبُ الدِّيَةَ .
وَإِنْ ذَهَبَ بَعْضُ الْكَلَامِ ، نَظَرْت ؛ فَإِنْ كَانَ الطَّرَفَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ ، وَكَانَ مَا قَطَعَهُ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ الْكَلَامِ ، وَجَبَ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْبَرَ ، وَجَبَ الْأَكْثَرُ ، عَلَى مَا مَضَى ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنْ الْكَلَامِ شَيْءٌ ، وَجَبَ بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْ اللِّسَانِ مِنْ الدِّيَةِ .
وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْحَرِفًا عَنْ سَمْتِ اللِّسَانِ ، فَهُوَ خِلْقَةٌ زَائِدَةٌ ، وَفِيهِ حُكُومَةٌ .
وَإِنْ قَطَعَ جَمِيعَ اللِّسَانِ ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّرَفَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُنْحَرِفًا عَنْ سَمْتِ اللِّسَانِ ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ وَحُكُومَةٌ فِي الْخِلْقَةِ الزَّائِدَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عَيْبٌ وَنَقْصٌ يُرَدُّ بِهَا الْمَبِيعُ ، وَيَنْقُصُ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ كَالسِّلْعَةِ فِي الْيَدِ .
وَرُبَّمَا عَادَ الْقَوْلَانِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْحُكُومَةَ لَا يَخْرُجُ بِهَا شَيْءٌ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَيْبًا .
( 6932 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ، إذَا قُلِعَتْ مِمَّنْ قَدْ أَثْغَرَ ، وَالْأَضْرَاسُ وَالْأَنْيَابُ كَالْأَسْنَانِ ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ دِيَةَ الْأَسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ فِي كُلِّ سِنٍّ .
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُعَاوِيَةَ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَعُرْوَةَ ، وَعَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : فِي الْأَسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
فَأَمَّا الْأَضْرَاسُ وَالْأَنْيَابُ ، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا مِثْلُ الْأَسْنَانِ ؛ وَمِنْهُمْ عُرْوَةُ وَطَاوُسٌ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُعَاوِيَةَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَضَى فِي الْأَضْرَاسِ بِبَعِيرٍ بَعِيرٍ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّهُ قَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا ، لَجَعَلْت فِي الْأَضْرَاسِ بَعِيرَيْنِ بَعِيرَيْنِ ، فَتِلْكَ الدِّيَةُ سَوَاءٌ .
وَرَوَى ذَلِكَ مَالِكٌ ، فِي " مُوَطَّئِهِ " وَعَنْ عَطَاءٍ نَحْوُهُ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ ، أَنَّ فِي جَمِيعِ الْأَسْنَانِ وَالْأَضْرَاسِ الدِّيَةَ .
فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ سَعِيدٍ ؛ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ ، وَوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ ، فَيَكُونُ فِي الْأَسْنَانِ سِتُّونَ بَعِيرًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ اثْنَيْ عَشَرَ سِنًّا ، أَرْبَعُ ثَنَايَا ، وَأَرْبَعُ رُبَاعِيَّاتٍ ، وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ ، فِيهَا خَمْسٌ خَمْسٌ ، وَفِيهِ عِشْرُونَ ضِرْسًا ، فِي
كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةٌ ، خَمْسَةٌ مِنْ فَوْقُ ، وَخَمْسَةٌ مِنْ أَسْفَلَ ، فَيَكُونُ فِيهَا أَرْبَعُونَ بَعِيرًا ، فِي كُلِّ ضِرْسٍ بَعِيرَانِ ، فَتَكْمُلُ الدِّيَةُ .
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ هَذَا ، أَنَّهُ ذُو عَدَدٍ يَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ ، فَلَمْ تَزِدْ دِيَتُهُ عَلَى دِيَةِ الْإِنْسَانِ ، كَالْأَصَابِعِ ، وَالْأَجْفَانِ ، وَسَائِرِ مَا فِي الْبَدَنِ ، وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِل عَلَى مَنْفَعَةِ جِنْسٍ ، فَلَمْ تَزِدْ دِيَتُهَا عَلَى الدِّيَةِ ، كَسَائِرِ مَنَافِعِ الْجِنْسِ ، وَلِأَنَّ الْأَضْرَاسَ تَخْتَصُّ بِالْمَنْفَعَةِ دُونَ الْجَمَالِ ، وَالْأَسْنَانُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ وَجَمَالٌ ، فَاخْتَلَفَا فِي الْأَرْشِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الْأَصَابِعُ سَوَاءٌ ، وَالْأَسْنَانُ سَوَاءٌ ، الثَّنِيَّةُ وَالضِّرْسُ سَوَاءٌ } ، هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ " .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَقَوْلُهُ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ : فِي { الْأَسْنَانِ خَمْسٌ خَمْسٌ .
} وَلَمْ يُفَصِّلْ ، يَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْأَضْرَاسُ ؛ لِأَنَّهَا أَسْنَانٌ ، وَلِأَنَّ كُلَّ دِيَةٍ وَجَبَتْ فِي جُمْلَةٍ كَانَتْ مَقْسُومَةً عَلَى الْعَدَدِ دُونَ الْمَنَافِعِ ، كَالْأَصَابِعِ ، وَالْأَجْفَانِ ، وَالشَّفَتَيْنِ ، وَقَدْ أَوْمَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى هَذَا ، فَقَالَ : لَا أَعْتَبِرُهَا بِالْأَصَابِعِ فَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى ، فَلَا بُدَّ مِنْ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ فِيهِ ، فَمَنْ ذَهَبَ إلَى قَوْلِنَا ، خَالَفَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى قَوْلِهِمْ ، خَالَفَ التَّسْوِيَةَ الثَّابِتَةَ ، بِقِيَاسِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مَعَ مُوَافَقَةِ الْأَخْبَارِ وَقَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْلَى .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ ، أَنَّ فِي كُلِّ ضِرْسٍ بَعِيرًا ، فَيُخَالِفُ الْقِيَاسَيْنِ جَمِيعًا ، وَالْأَخْبَارَ ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ ثَمَانِينَ بَعِيرًا ، وَيُخَالِفُ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الْمُتَجَانِسَةِ .
وَإِنَّمَا يَجِبُ هَذَا الضَّمَانُ فِي سِنِّ مَنْ قَدْ ثُغِرَ ، وَهُوَ
الَّذِي أَبْدَلَ أَسْنَانَهُ ، وَبَلَغَ حَدًّا إذَا قُلِعَتْ سِنُّهُ لَمْ يَعُدْ بَدَلُهَا .
وَيُقَالُ : ثُغِرَ ، وَاثَّغَرَ ، وَاتَّغَرَ .
إذَا كَانَ كَذَلِكَ .
فَأَمَّا سِنُّ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُثْغَرْ ، فَلَا يَجِبُ بِقَلْعِهَا فِي الْحَالِ شَيْءٌ .
هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ عَوْدُ سِنِّهِ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا فِي الْحَالِ شَيْءٌ ، كَنَتْفِ شَعْرِهِ ، وَلَكِنْ يُنْتَظَرُ عَوْدُهَا ؛ فَإِنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَيْأَسُ مِنْ عَوْدِهَا ، وَجَبَتْ دِيَتُهَا .
قَالَ أَحْمَدُ ، يَتَوَقَّفُ سَنَةً ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ فِي نَبَاتِهَا .
وَقَالَ الْقَاضِي : إذَا سَقَطَتْ أَخَوَاتُهَا وَلَمْ تَعُدْ هِيَ ، أُخِذَتْ الدِّيَةُ .
وَإِنْ نَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى ، لَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا ، كَمَا لَوْ نُتِفَ شَعْرُهُ فَعَادَ مِثْلُهُ .
لَكِنْ إنْ عَادَتْ قَصِيرَةً أَوْ مُشَوَّهَةً فَفِيهَا حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا .
وَإِنْ أَمْكَنَ تَقْدِيرُ نَقْصِهَا عَنْ نَظِيرَتِهَا ، فَفِيهَا مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ مَا نَقَصَ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ فِيهَا ثُلْمَةٌ أَمْكَنَ تَقْدِيرُهَا ، فَفِيهَا بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ مِنْهَا ، كَمَا لَوْ كَسَرَ مِنْ سِنِّهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ .
وَإِنْ نَبَتَتْ أَكْبَرَ مِنْ أَخَوَاتِهَا ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْبٌ .
وَقِيلَ فِيهَا وَجْهٌ آخَرُ ، لَا شَيْءَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا زِيَادَةٌ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْنٌ حَصَلَ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ ، فَأَشْبَهَ نَقْصَهَا .
وَإِنْ نَبَتَتْ مَائِلَةً عَنْ صَفِّ الْأَسْنَانِ ، بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا فَفِيهَا دِيَتُهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَذَهَابِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ يُنْتَفَعُ بِهَا ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ ؛ لِلشَّيْنِ الْحَاصِلِ بِهَا ، وَنَقْصِ نَفْعِهَا .
وَإِنْ نَبَتَتْ صَفْرَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ أَوْ مُتَغَيِّرَةً ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ ؛ لِنَقْصِ جَمَالِهَا .
وَإِنْ نَبَتَتْ سَوْدَاءَ أَوْ خَضْرَاءَ ، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ ، حَكَاهُمَا الْقَاضِي ؛ إحْدَاهُمَا ، فِيهَا دِيَتُهَا .
وَالثَّانِيَةُ ، فِيهَا حُكُومَةٌ ،
كَمَا لَوْ سَوَّدَهَا مِنْ غَيْرِ قَلْعِهَا .
وَإِنْ مَاتَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْيَأْسِ مِنْ عَوْدِ سِنِّهِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، لَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ عَاشَ لَعَادَتْ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ نُتِفَ شَعْرُهُ .
وَالثَّانِي : فِيهَا الدِّيَةُ لِأَنَّهُ قَلَعَ سِنًّا وَأَيِسَ مِنْ عَوْدِهَا ، فَوَجَبَتْ دِيَتُهَا ، كَمَا لَوْ مَضَى زَمَنٌ تَعُودُ فِي مِثْلِهِ فَلَمْ تَعُدْ .
وَإِنْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ قَدْ ثُغِرَ ، وَجَبَتْ دِيَتُهَا فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا لَا تَعُودُ ، فَإِنْ عَادَتْ ، لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَخَذَهَا رَدَّهَا .
وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَرُدُّ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّهَا لَا تَعُودُ ، فَمَتَى عَادَتْ كَانَتْ هِبَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مُجَدَّدَةً ، فَلَا يَسْقُطُ بِذَلِكَ مَا وَجَبَ لَهُ بِقَلْعِ سِنِّهِ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ كَالْمَذْهَبَيْنِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ عَادَ لَهُ فِي مَكَانِهَا مِثْلُ الَّتِي قُلِعَتْ ، فَلَمْ يَجِبْ لَهُ شَيْءٌ ، كَاَلَّذِي لَمْ يُثْغَرْ .
وَإِنْ عَادَتْ نَاقِصَةً ، أَوْ مُشَوَّهَةً ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ سِنِّ الصَّغِيرِ إذَا عَادَتْ ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ قَلَعَ سِنَّ مَنْ لَمْ يُثْغَرْ ، فَمَضَتْ مُدَّةٌ يَيْأَسُ مِنْ عَوْدِهَا ، وَحُكِمَ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ ، فَعَادَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ، سَقَطَتْ الدِّيَةُ ، وَرُدَّتْ إنْ كَانَتْ أُخِذَتْ ، كَسِنِّ الْكَبِيرِ إذَا عَادَتْ .
( 6933 ) فَصْلٌ : وَتَجِبُ دِيَةُ السِّنِّ فِيمَا ظَهَرَ مِنْهَا مِنْ اللَّثَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى سِنًّا ، وَمَا فِي اللِّثَةِ مِنْهَا يُسَمَّى سِنْخًا ، فَإِذَا كُسِرَ السِّنُّ ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَلَعَ السِّنْخَ ، فَفِي السِّنِّ دِيَتُهَا ، وَفِي السِّنْخِ حُكُومَةٌ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ إنْسَانٌ أَصَابِعَ رَجُلٍ ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ كَفَّهُ .
وَإِنْ قَلَعَهَا الْآخَرُ بِسِنْخِهَا ، لَمْ يَجِبْ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهَا ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْيَدَ مِنْ كُوعِهَا .
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَرَّتَيْنِ ، فَكَسَرَ السِّنَّ ، ثُمَّ عَادَ فَقَلَعَ السِّنْخَ ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا وَحُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّ دِيَتَهَا وَجَبَتْ بِالْأَوَّلِ ، ثُمَّ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالثَّانِي حُكُومَةٌ ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ الْأَصَابِعَ ، ثُمَّ قَطَعَ الْكَفَّ .
وَإِنْ كَسَرَ بَعْضَ الظَّهْرِ ، فَفِيهِ مِنْ دِيَةِ السِّنِّ بِقَدْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ النِّصْفُ ، وَجَبَ نِصْفُ الْأَرْشِ ، وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ الثُّلُثَ ، وَجَبَ الثُّلُثُ .
وَإِنْ جَاءَ آخَرُ فَكَسَرَ بَقِيَّتَهَا ، فَعَلَيْهِ بَقِيَّةُ الْأَرْشِ .
فَإِنْ قَلَعَ الثَّانِي بَقِيَّتَهَا بِسِنْخِهَا ، نَظَرْنَا ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَسَرَهَا عَرْضًا ، فَلَيْسَ عَلَى الثَّانِي لِلسِّنْخِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمَا قَلَعَهُ مِنْ ظَاهِرِ السِّنِّ ، فَصَارَ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ مِنْ كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِهِ أُنْمُلَةً ، ثُمَّ قَطَعَ الثَّانِي يَدَهُ مِنْ الْكُوعِ .
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَسَرَ نِصْفَ السِّنِّ طُولًا دُونَ سِنْخِهِ ، فَجَاءَ الثَّانِي فَقَطَعَ الْبَاقِيَ بِالسِّنْخِ كُلِّهِ ، فَعَلَيْهِ دِيَةُ النِّصْفِ الْبَاقِي ، وَحُكُومَةٌ لِنِصْفِ السِّنْخِ الَّذِي بَقِيَ لَمَّا كَسَرَهُ الْأَوَّلُ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَوَّلُ إصْبَعَيْنِ مِنْ يَدٍ ، ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي : فَقَطَعَ الْكَفَّ كُلَّهُ .
فَإِنْ اخْتَلَفَ الثَّانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فِيمَا قَلَعَهُ الْأَوَّلُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ سَلَامَةُ السِّنِّ .
وَإِنَّ انْكَشَفَتْ اللِّثَةُ عَنْ بَعْضِ السِّنِّ فَالدِّيَةُ فِي قَدْرِ
الظَّاهِرِ عَادَةً ، دُون مَا انْكَشَفَ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الظَّاهِرِ ، اُعْتُبِرَ ذَلِكَ بِأَخَوَاتِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ يُعْتَبَرُ بِهِ ، وَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ .
( 6934 ) فَصْلٌ : وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا مُضْطَرِبَةً لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ ، وَكَانَتْ مَنَافِعُهَا بَاقِيَةً ؛ مِنْ الْمَضْغِ ، وَضَغْطِ الطَّعَامِ وَالرِّيقِ ، وَجَبَتْ دِيَتُهَا .
وَكَذَلِكَ إنْ ذَهَبَ بَعْضُ مَنَافِعِهَا ، وَبَقِيَ بَعْضُهَا ؛ لِأَنَّ جَمَالَهَا وَبَعْضَ مَنَافِعِهَا بَاقٍ ، فَكَمَلَ دِيَتُهَا ، كَالْيَدِ الْمَرِيضَةِ ، وَيَدِ الْكَبِيرِ .
وَإِنْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهَا كُلُّهَا ، فَهِيَ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ .
عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِنْ قَلَعَ سِنًّا فِيهَا دَاءٌ أَوْ أَكَلَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا ، وَجَبَ فِيهَا دِيَةُ السِّنِّ الصَّحِيحَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَالْيَدِ الْمَرِيضَةِ ، وَإِنْ سَقَطَ مِنْ أَجْزَائِهَا شَيْءٌ ، سَقَطَ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ الذَّاهِبِ مِنْهَا ، وَوَجَبَ الْبَاقِي .
وَإِنْ كَانَ إحْدَى ثَنِيَّتَيْهِ قَصِيرَةً ، نَقَصَ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ نَقْصِهَا ، كَمَا لَوْ نَقَصَتْ بِكَسْرِهَا .
( 6935 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَنَى عَلَى سِنِّهِ جَانٍ ، فَاضْطَرَبَتْ ، وَطَالَتْ عَلَى الْأَسْنَانِ ، وَقِيلَ : إنَّهَا تَعُودُ إلَى مُدَّةٍ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ .
اُنْتُظِرَتْ إلَيْهَا ، فَإِنْ ذَهَبَتْ وَسَقَطَتْ ، وَجَبَتْ دِيَتُهَا ، وَإِنْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ ، فَلَا شَيْءَ فِيهَا ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى يَدِهِ فَمَرِضَتْ ثُمَّ بَرِئَتْ ، وَإِنْ بَقِيَ فِيهَا اضْطِرَابٌ فَفِيهَا حُكُومَةٌ .
وَإِنْ قَلَعَهَا قَالِعٌ ، فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا كَامِلَةً ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ حُكُومَةٌ لِجِنَايَتِهِ ، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ تَعُدْ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ .
وَإِنْ قَلَعَهَا قَالِعٌ فَعَلَيْهِ دِيَتُهَا ، كَمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ قَالُوا : يُرْجَى عَوْدُهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مُدَّةٍ ، وَجَبَتْ الْحُكُومَةُ فِيهَا ؛ لِئَلَّا يُفْضِيَ إلَى إهْدَارِ الْجِنَايَةِ .
فَإِنْ عَادَتْ ، سَقَطَتْ الْحُكُومَةُ ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِهَا .
( 6936 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَلَعَ قَالِعٌ سِنَّهُ ، فَرَدَّهَا صَاحِبُهَا ، فَنَبَتَتْ فِي مَوْضِعِهَا ، لَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي ، تَجِبُ دِيَتُهَا .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَوْجِيهَهُمَا فِيمَا إذَا قُطِعَ أَنْفُهُ فَرَدَّهُ ، فَالْتَحَمَ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ ، يَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ ؛ لِنَقْصِهَا إنْ نَقَصَتْ ، أَوْ ضَعْفِهَا إنَّ ضَعُفَتْ .
وَإِنْ قَلَعَهَا قَالِعٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَبَتْ دِيَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا سِنٌّ ذَاتُ جَمَالٍ وَمَنْفَعَةٍ ، فَوَجَبَتْ دِيَتُهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ تَنْقَلِعْ .
وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي يَنْبَنِي حُكْمُهَا عَلَى وُجُوبِ قَلْعِهَا ، فَإِنْ قُلْنَا : يَجِبُ قَلْعُهَا .
فَلَا شَيْءَ عَلَى قَالِعِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْسَنَ بِقَلْعِهِ مَا يَجِبُ قَلْعُهُ ، وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَجِبُ قَلْعُهَا .
احْتَمَلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِدِيَتِهَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُؤْخَذَ بِدِيَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَبَتْ لَهُ دِيَتُهَا مَرَّةً ، فَلَا تَجِبُ ثَانِيَةً ، وَلَكِنْ فِيهَا حُكُومَةٌ .
فَأَمَّا إنْ جَعَلَ مَكَانَهَا سِنًّا أُخْرَى ، أَوْ سِنَّ حَيَوَانٍ ، أَوْ عَظْمًا ، فَنَبَتَتْ ، وَجَبَ دِيَتُهَا ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ سِنَّهُ ذَهَبَتْ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَوَجَبَتْ دِيَتُهَا ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجْعَلْ مَكَانَهَا شَيْئًا .
وَإِنْ قُلِعَتْ هَذِهِ الثَّانِيَةُ لَمْ تَجِبْ دِيَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ سِنًّا لَهُ ، وَلَا هِيَ مِنْ بَدَنِهِ ، وَلَكِنْ يَجِبُ فِيهَا حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ أَزَالَتْ جَمَالَهُ وَمَنْفَعَتَهُ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ خَاطَ جُرْحَهُ بِخَيْطِ ، فَالْتَحَمَ ، فَقَطَعَ إنْسَانٌ الْخَيْطَ ، فَانْفَتَحَ الْجُرْحُ ، وَزَالَ الْتِحَامُهُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ مَا لَيْسَ مِنْ بَدَنِهِ ، أَشْبَهَ مَا لَوْ قَلَعَ الْأَنْفَ الذَّهَبَ الَّذِي جَعَلَهُ الْمَجْدُوعُ مَكَانَ أَنْفِهِ .
( 6937 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَنَى عَلَى سِنِّهِ فَسَوَّدَهَا ، فَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، تَجِبُ دِيَتُهَا كَامِلَةً .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ .
وَيُرْوَى هَذَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَشُرَيْحٌ وَالزُّهْرِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ إنْ أَذْهَبَ مَنْفَعَتَهَا مِنْ الْمَضْغِ عَلَيْهَا وَنَحْوِهِ ، فَفِيهَا دِيَتُهَا ، وَإِنْ لَمْ يُذْهِبْ نَفْعَهَا ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ .
وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِمَنْفَعَتِهَا ، فَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهَا ، كَمَا لَوْ اصْفَرَّتْ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ ، فَكَمَلَتْ دِيَتُهَا ، كَمَا لَوْ قَطَعَ أُذُنَ الْأَصَمِّ وَأَنْفَ الْأَخْشَمِ .
فَأَمَّا إنْ اصْفَرَّتْ أَوْ احْمَرَّتْ ، لَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْهِبْ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ .
وَإِنْ اخْضَرَّتْ ، احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كَتَسْوِيدِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِجَمَالِهَا ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَجِبَ فِيهَا إلَّا حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ جَمَالِهَا بِتَسْوِيدِهَا أَكْثَرُ ، فَلَمْ يُلْحَقْ بِهِ غَيْرُهُ ، كَمَا لَوْ حَمَّرَهَا .
فَعَلَى قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ دِيَتَهَا ، مَتَى قُلِعَتْ بَعْدَ تَسْوِيدِهَا ، فَفِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا أَوْ حُكُومَةٌ ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يُوجِبْ فِيهَا إلَّا حُكُومَةً ، يَجِبُ فِي قَلْعِهَا دِيَتُهَا ، كَمَا لَوْ صَفَّرَهَا .
( 6938 ) فَصْلٌ : وَإِنْ جَنَى عَلَى سِنِّهِ ، فَذَهَبَتْ حِدَّتُهَا وَكَّلَتْ ، فَفِي ذَلِكَ حُكُومَةٌ ، وَعَلَى قَالِعِهَا بَعْدَ ذَلِكَ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا سِنٌّ صَحِيحَةٌ ، كَامِلَةٌ ، فَكَمَلَتْ دِيَتُهَا ، كَالْمُضْطَرِبَةِ ، وَإِنْ ذَهَبَ مِنْهَا جُزْءٌ ، فَفِي الذَّاهِبِ بِقَدْرِهِ ، وَإِنْ قَلَعَهَا قَالِعٌ ، نَقَصَ مِنْ دِيَتِهَا بِقَدْرِ مَا ذَهَبَ ، كَمَا لَوْ كُسِرَ مِنْهَا جُزْءٌ .
( 6939 ) فَصْلٌ : وَفِي اللَّحْيَيْنِ الدِّيَةُ ، وَهُمَا الْعَظْمَانِ اللَّذَانِ فِيهِمَا الْأَسْنَانُ السُّفْلَى ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا نَفْعًا وَجَمَالًا ، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُمَا ، فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، كَسَائِرِ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا ، كَالْوَاحِدِ مِمَّا فِي الْبَدَنِ مِنْهُ شَيْئَانِ .
وَإِنْ قَلَعَهُمَا بِمَا عَلَيْهِمَا مِنْ الْأَسْنَانِ ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهُمَا وَدِيَةُ الْأَسْنَانِ ، وَلَمْ تَدْخُلْ دِيَةُ الْأَسْنَانِ فِي دِيَتِهِمَا ، كَمَا تَدْخُلُ دِيَةُ الْأَصَابِعِ فِي دِيَةِ الْوَجْهِ ؛ لَوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ ؛ أَحَدُهَا ، أَنَّ الْأَسْنَانَ مَغْرُوزَةٌ فِي اللَّحْيَيْنِ ، غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِهِمَا ، بِخِلَافِ الْأَصَابِعِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّحْيَيْنِ وَالْأَسْنَانِ يَنْفَرِدُ بِاسْمِهِ ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي اسْمِ الْآخَرِ ، بِخِلَافِ الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ ، فَإِنَّ اسْمَ الْيَدِ يَشْمَلُهُمَا .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ اللَّحْيَيْنِ يُوجَدَانِ قَبْلَ وُجُودِ الْأَسْنَانِ فِي الْخِلْقَةِ ، وَتَبْقَيَانِ بَعْدَ ذَهَابِهَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ ، وَمَنْ تَقَلَّعَتْ أَسْنَانُهُ عَادَتْ ، بِخِلَافِ الْأَصَابِعِ وَالْكَفِّ .
( 6940 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِي الْيَدَيْنِ ، وَوُجُوبِ نِصْفِهَا فِي إحْدَاهُمَا .
رُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ } .
وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { : وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ } .
وَلِأَنَّ فِيهَا جَمَالًا ظَاهِرًا ، وَمَنْفَعَةً كَامِلَةً ، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِنْ جِنْسِهِمَا غَيْرُهُمَا ، فَكَانَ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، كَالْعَيْنَيْنِ .
وَالْيَدُ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الدِّيَةُ مِنْ الْكُوعِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا ، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ { : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
كَانَ الْوَاجِبُ قَطْعَهُمَا مِنْ الْكُوعِ ، وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ يَجِبُ فِيهِ مَسْحُ الْيَدَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ .
فَإِنْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ ، مِثْلُ أَنْ يَقْطَعَهَا مِنْ الْمَرْفِقِ ، أَوْ نِصْفِ السَّاعِدِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ .
وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ .
وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ ، أَنَّهُ يَجِبُ مَعَ دِيَةِ الْيَدِ حُكُومَةٌ لِمَا زَادَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْيَدِ لَهَا إلَى الْكُوعِ ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ فِي الْيَدِ ، مِنْ الْبَطْشِ وَالْأَخْذِ وَالدَّفْعِ بِالْكَفِّ ، وَمَا زَادَ تَابِعٌ لِلْكَفِّ ، وَالدِّيَةُ تَجِبُ فِي قَطْعِهَا مِنْ الْكُوعِ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، فَتَجِبُ فِي الزَّائِدِ حُكُومَةٌ ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ بَعْدَ قَطْعِ الْكَفِّ ، قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي .
وَلَنَا ، أَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ إلَى الْمَنْكِبِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى .
{ : وَأَيْدِيكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } .
وَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّيَمُّمِ مَسَحَتْ الصَّحَابَةُ إلَى
الْمَنَاكِبِ .
وَقَالَ ثَعْلَبٌ : الْيَدُ إلَى الْمَنْكِبِ .
وَفِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يُسَمَّى يَدًا ، فَإِذَا قَطَعَهَا مِنْ فَوْقِ الْكُوعِ ، فَمَا قَطَعَ إلَّا يَدًا ، فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهَا ، فَأَمَّا قَطْعُهَا فِي السَّرِقَةِ ؛ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ ، وَقَطْعُ بَعْضِ الشَّيْءِ يُسَمَّى قَطْعًا لَهُ ، كَمَا يُقَالُ : قَطَعَ ثَوْبَهُ .
إذَا قَطَعَ جَانِبًا مِنْهُ .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي قَطْعِهَا مِنْ الْكُوعِ .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ تَجِبُ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ مُنْفَرِدَةً ، وَلَا يَجِبُ بِقَطْعِهَا مِنْ الْكُوعِ أَكْثَرُ مِمَّا يَجِبُ فِي قَطْعِ الْأَصَابِعِ ، وَالذَّكَرُ يَجِبُ فِي قَطْعِهِ مِنْ أَصْلِهِ مِثْلُ مَا يَجِبُ بِقَطْعِ حَشَفَتِهِ .
فَأَمَّا إذَا قَطَعَ الْيَدَ مِنْ الْكُوعِ ، ثُمَّ قَطَعَهَا مِنْ الْمَرْفِقِ ، وَجَبَ فِي الْمَقْطُوعِ ثَانِيًا حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ بِالْقَطْعِ الْأَوَّلِ ، فَوَجَبَتْ بِالثَّانِي حُكُومَةٌ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأَصَابِعَ ثُمَّ قَطَعَ الْكَفَّ ، أَوْ قَطَعَ حَشَفَةَ الذَّكَرِ ثُمَّ قَطَعَ بَقِيَّتَهُ ، أَوْ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ اثْنَانِ ( 6941 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَنَى عَلَيْهَا فَأَشَلَّهَا ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَتُهَا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَنْفَعَتَهَا ، فَلَزِمَتْهُ دِيَتُهَا ، كَمَا لَوْ أَعْمَى عَيْنَهُ مَعَ بَقَائِهَا ، أَوْ أَخْرَسَ لِسَانَهُ .
وَإِنْ جَنَى عَلَى يَدِهِ فَعَوَجَهَا ، أَوْ نَقَصَ قُوَّتَهَا ، أَوْ شَانَهَا ، فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ لِنَقْصِهَا .
وَإِنْ كَسَرَهَا ثُمَّ انْجَبَرَتْ مُسْتَقِيمَةً ، وَجَبَتْ حُكُومَةٌ لِشَيْنِهَا إنْ شَانَهَا ذَلِكَ ، وَإِنْ عَادَتْ مُعْوَجَّةً ، فَالْحُكُومَةُ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ شَيْنَهَا أَكْثَرُ .
وَإِنْ قَالَ الْجَانِي : أَنَا أَكْسِرُهَا ثُمَّ أَجْبُرُهَا مُسْتَقِيمَةً .
لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ ثَانِيَةٌ .
فَإِنْ كَسَرَهَا تَعَدِّيًا ثُمَّ جَبَرَهَا فَاسْتَقَامَتْ ، لَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْ الْحُكُومَةِ فِي اعْوِجَاجِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتَقَرَّ حِينَ انْجَبَرَتْ عَوْجَاءَ ، وَهَذِهِ جِنَايَةٌ ثَانِيَةٌ ، وَالْجَبْرُ
الثَّانِي لَهَا دُونَ الْأُولَى ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا إذَا ذَهَبَ ضَوْءُ عَيْنِهِ ثُمَّ عَادَ ؛ لِأَنَّنَا تَبَيَّنَّا أَنَّ الضَّوْءَ لَمْ يَذْهَبْ ، وَإِنَّمَا حَالَ دُونَهُ حَائِلٌ ، وَهَا هُنَا بِخِلَافِهِ ، وَتَجِبُ الْحُكُومَةُ فِي الْكَسْرِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ ثَانِيَةٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ ضَرَرَ الْعِوَجِ مِنْهَا ، فَكَانَ نَفْعًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ بِقَطْعِ سِلْعَةٍ أَزَالَهَا عَنْهُ .
( 6942 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ لَهُ كَفَّانِ فِي ذِرَاعٍ ، أَوْ يَدَانِ عَلَى عَضُدٍ ، وَإِحْدَاهُمَا بَاطِشَةٌ دُونَ الْأُخْرَى ، أَوْ إحْدَاهُمَا أَكْثَرُ بَطْشًا ، أَوْ فِي سَمْتِ الذِّرَاعِ وَالْأُخْرَى مُنْحَرِفَةٌ عَنْهُ ، أَوْ إحْدَاهُمَا تَامَّةٌ وَالْأُخْرَى نَاقِصَةٌ ، فَالْأُولَى هِيَ الْأَصْلِيَّةُ ، وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ ، فَفِي الْأَصْلِيَّةِ دِيَتُهَا وَالْقِصَاصُ بِقَطْعِهَا عَمْدًا ، وَالْأُخْرَى زَائِدَةٌ فِيهَا حُكُومَةٌ ، سَوَاءٌ قَطَعَهَا مُفْرَدَةً أَوْ قَطَعَهَا مَعَ الْأَصْلِيَّةِ .
وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ، لَا شَيْءَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا عَيْبٌ ، فَهِيَ كَالسِّلْعَةِ فِي الْيَدِ .
وَإِنْ اسْتَوَيَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ ، فَإِنْ كَانَتَا غَيْرَ بَاطِشَتَيْنِ ، فَفِيهِمَا ثُلُثُ دِيَةِ الْيَدِ أَوْ حُكُومَةٌ ، وَلَا تَجِبُ دِيَةُ الْيَدِ كَامِلَةً ؛ لِأَنَّهُمَا لَا نَفْعَ لَهُ فِيهِمَا ، فَهُمَا كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ .
وَإِنْ كَانَتَا بَاطِشَتَيْنِ ، فَفِيهِمَا جَمِيعًا دِيَةُ الْيَدِ .
وَهَلْ تَجِبُ حُكُومَةٌ مَعَ ذَلِكَ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الزَّائِدَةَ هَلْ فِيهَا حُكُومَةٌ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ قَطَعَ إحْدَاهُمَا ، فَلَا قَوَدَ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ هِيَ الزَّائِدَةَ ، فَلَا تُقْطَعَ الْأَصْلِيَّةُ بِهَا ، وَفِيهَا نِصْفُ مَا فِيهِمَا إذَا قُطِعَتَا لِتَسَاوِيهِمَا .
وَإِنْ قَطَعَ إصْبَعًا مِنْ إحْدَاهُمَا ، وَجَبَ أَرْشُ نِصْفِ إصْبَعٍ ، وَفِي الْحُكُومَةِ وَجْهَانِ .
وَإِنْ قَطَعَ ذُو الْيَدِ الَّتِي لَهَا طَرَفَانِ يَدًا مُفْرَدَةً ، وَجَبَ الْقِصَاصُ فِيهِمَا ، عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقْصٌ لَا يَمْنَعُ الْقِصَاصَ ، كَالسِّلْعَةِ فِي الْيَدِ .
وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ : لَا يَجِبُ ؛ لِئَلَّا يَأْخُذَ يَدَيْنِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا تُقْطَعُ إحْدَاهُمَا ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ الْأَصْلِيَّةَ فَنَأْخُذَهَا ، وَلَا نَأْخُذُ زَائِدَةً بِأَصْلِيَّةٍ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ قَدَمَانِ فِي رِجْلٍ وَاحِدَةٍ ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْيَدَيْنِ .
فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الْقَدَمَيْنِ أَطْوَلَ مِنْ الْأُخْرَى ، وَكَانَ الطَّوِيلُ مُسَاوِيًا لِلرِّجْلِ الْأُخْرَى ، فَهُوَ
الْأَصْلِيُّ ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَنْهَا ، وَالْآخَرُ مُسَاوٍ لِلرِّجْلِ الْأُخْرَى ، فَهُوَ الْأَصْلِيُّ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي كُلِّ رِجْلٍ قَدَمَانِ ، يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ عَلَى الطَّوِيلَتَيْنِ مَشْيًا مُسْتَقِيمًا ، فَهُمَا الْأَصْلِيَّانِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ، فَقُطِعَا ، وَأَمْكَنَهُ الْمَشْيُ عَلَى الْقَصِيرَتَيْنِ ، فَهُمَا الْأَصْلِيَّانِ ، وَالْآخَرَانِ زَائِدَانِ .
وَإِنْ أَشَلَّ الطَّوِيلَتَيْنِ ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمَا الْأَصْلِيَّانِ ، فَإِنْ قَطَعَهُمَا قَاطِعٌ ، فَأَمْكَنَهُ الْمَشْيُ عَلَى الْقَصِيرَتَيْنِ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا الْأَصْلِيَّانِ ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ، فَالطَّوِيلَانِ هُمَا الْأَصْلِيَّانِ .
( 6943 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَفِي الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةُ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ) أَمَّا ثَدْيَا الْمَرْأَةِ ، فَفِيهِمَا دِيَتُهُمَا .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا ، وَفِي الْوَاحِدِ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ فِي ثَدْيِ الْمَرْأَةِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَفِي الثَّدْيَيْنِ الدِّيَةَ ، وَمِمَّنْ حَفِظْنَا ذَلِكَ عَنْهُ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَقَتَادَةُ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلِأَنَّ فِيهِمَا جَمَالًا وَمَنْفَعَةً فَأَشْبَهَا الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ .
وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عُضْوَيْنِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِيهِمَا ، وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا ، كَالْيَدَيْنِ .
وَفِي قَطْعِ حَلَمَتَيْ الثَّدْيَيْنِ دِيَتُهُمَا .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَرَوَى نَحْوَ هَذَا الشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ : إنْ ذَهَبَ اللَّبَنُ ، وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا ، وَإِلَّا وَجَبَتْ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ شَيْنِهِ .
وَنَحْوَهُ قَالَ قَتَادَةُ : إذَا ذَهَبَ الرَّضَاعُ بِقَطْعِهِمَا ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ ذَهَبَ مِنْهُمَا مَا تَذْهَبُ الْمَنْفَعَةُ بِذَهَابِهِ ، فَوَجَبَتْ دِيَتُهُمَا ، كَالْأَصَابِعِ مَعَ الْكَفِّ ، وَحَشَفَةِ الذَّكَرِ ، وَبَيَانُ ذَهَابِ الْمَنْفَعَةِ أَنَّ بِهِمَا يَشْرَبُ الصَّبِيُّ وَيَرْتَضِعُ فَهُمَا كَالْأَصَابِعِ فِي الْكَفِّ .
وَإِنْ قَطَعَ الثَّدْيَيْنِ كُلَّهُمَا ، فَلَيْسَ فِيهِمَا إلَّا دِيَةٌ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ كُلَّهُ .
وَإِنْ حَصَلَ مَعَ قَطْعِهِمَا جَائِفَةٌ ، وَجَبَ فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ مَعَ دِيَتِهِمَا .
وَإِنْ حَصَلَ جَائِفَتَانِ ، وَجَبَتْ دِيَةٌ وَثُلُثَانِ .
وَإِنْ ضَرَبَهُمَا فَأَشَلَّهُمَا ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ ، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَيْهِ .
وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِمَا ، فَأَذْهَبَ لَبَنَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشُلَّهُمَا ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا : فِيهِمَا حُكُومَةٌ .
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ
.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَجِبَ دِيَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِنَفْعِهِمَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَشَلَّهُمَا ؛ وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَقَتَادَةَ وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِمَا مِنْ صَغِيرَةٍ ثُمَّ وَلَدَتْ ، فَلَمْ يَنْزِلْ لَهَا لَبَنٌ ، سُئِلَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ ، فَإِنْ قَالُوا : إنَّ الْجِنَايَةَ سَبَبُ قَطْعِ اللَّبَنِ ، فَعَلَيْهِ مَا عَلَى مَنْ ذَهَبَ بِاللَّبَنِ بَعْدَ وُجُودِهِ .
وَإِنْ قَالُوا : يَنْقَطِعُ بِغَيْرِ الْجِنَايَةِ .
لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَرْشُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، فَلَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ بِالشَّكِّ .
وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِمَا ، فَنَقَصَ لَبَنُهُمَا ، أَوْ جَنَى عَلَى ثَدْيَيْنِ نَاهِدَيْنِ فَكَسَرَهُمَا ، أَوْ صَارَ بِهِمَا مَرَضٌ ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ ؛ لِنَقْصِهِ الَّذِي نَقَصَهُمَا ( 6944 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا ثَدْيَا الرَّجُلِ ، وَهُمَا الثُّنْدُوَتَانِ ، فَفِيهِمَا الدِّيَةُ .
وَبِهَذَا قَالَ إِسْحَاقُ وَحُكِيَ ذَلِكَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ : فِيهِمَا حُكُومَةٌ .
وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِالْجَمَالِ مِنْ غَيْر مَنْفَعَةٍ ، فَلَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَ الْعَيْنَ الْقَائِمَةَ وَالْيَدَ الشَّلَّاءَ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : فِي حَلَمَةِ الرَّجُلِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ : فِيهِ ثُمُنُ الدِّيَةِ .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الدِّيَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ ، وَجَبَ فِيهِ مِنْ الرَّجُلِ ، كَالْيَدَيْنِ وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِي الْبَدَنِ ، يَحْصُلُ بِهِمَا الْجَمَالُ ، لَيْسَ فِي الْبَدَنِ غَيْرُهُمَا مِنْ جِنْسِهِمَا ، فَوَجَبَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ كَالْيَدَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَالَ ، فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ ، كَالشُّعُورِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَأُذُنَيْ الْأَصَمِّ وَأَنْفِ الْأَخْشَمِ عِنْدَ الْجَمِيعِ ، وَيُفَارِقُ الْعَيْنَ الْقَائِمَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا جَمَالٌ كَامِلٌ ، وَلِأَنَّهَا عُضْوٌ قَدْ ذَهَبَ مِنْهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ ، فَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهُ ، كَالْيَدَيْنِ إذَا
شَلَّتَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
( 6945 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الْأَلْيَتَيْنِ الدِّيَةُ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْم يَقُولُونَ : فِي الْأَلْيَتَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا .
مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ مِنْ جِنْسٍ ، فِيهِمَا جَمَالٌ ظَاهِرٌ ، وَمَنْفَعَةٌ كَامِلَةٌ ، فَإِنَّهُ يُجْلَسُ عَلَيْهِمَا كَالْوِسَادَتَيْنِ ، فَوَجَبَ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُهَا ، كَالْيَدَيْنِ .
وَالْأَلْيَتَانِ : هُمَا مَا عَلَا وَأَشْرَفَ مِنْ الظَّهْرِ عَنْ اسْتِوَاءِ الْفَخِذَيْنِ .
وَفِيهِمَا الدِّيَةُ إذَا أُخِذَتَا إلَى الْعَظْمِ الَّذِي تَحْتَهُمَا ، وَفِي ذَهَابِ بَعْضِهِمَا بِقَدْرِهِ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِيهِ ، وَجَبَ فِي بَعْضِهِ بِقَدْرِهِ ، فَإِنْ جُهِلَ الْمِقْدَارُ ، وَجَبَتْ حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ نَقْصٌ لَمْ يُعْرَفْ قَدْرُهُ .
( 6946 ) فَصْلٌ : وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ إذَا كُسِرَ فَلَمْ يَنْجَبِرْ ؛ لِمَا رُوِيَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { : وَفِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ } .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّهُ قَالَ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ .
وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : لَيْسَ فِي كَسْرِ الصُّلْبِ دِيَةٌ ؛ إلَّا أَنْ يُذْهِبَ مَشْيَهُ أَوْ جِمَاعَهُ ، فَتَجِبُ الدِّيَةُ لِتِلْكَ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ عُضْوٌ لَمْ تَذْهَبْ مَنْفَعَتُهُ ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ .
وَلَنَا ، الْخَبَرُ ، وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُ ، فِيهِ جَمَالٌ وَمَنْفَعَةٌ ، فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ فِيهِ بِمُفْرَدِهِ ، كَالْأَنْفِ .
وَإِنْ ذَهَبَ مَشْيُهُ بِكَسْرِ صُلْبِهِ ، فَفِيهِ ، الدِّيَةُ فِي قَوْلِ الْجَمِيع .
وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ ؛ لِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ تَلْزَمُ كَسْرَ الصُّلْبِ غَالِبًا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَطَعَ رِجْلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ مَشْيُهُ ، لَكِنْ ذَهَبَ جِمَاعُهُ ، فَفِيهِ الدِّيَةُ أَيْضًا .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَقْصُودٌ ، فَأَشْبَهَ ذَهَابَ مَشْيِهِ .
وَإِنْ ذَهَبَ جِمَاعُهُ وَمَشْيُهُ ، وَجَبَتْ دِيَتَانِ ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي رِوَايَة ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ تَجِبُ الدِّيَةُ بِذَهَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةً ، فَإِذَا اجْتَمَعَتَا وَجَبَتْ دِيَتَانِ ، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : فِيهِمَا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا نَفْعُ عُضْوٍ وَاحِدٍ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ ، كَمَا لَوْ قَطَعَ لِسَانَهُ فَذَهَبَ كَلَامُهُ وَذَوْقُهُ .
وَإِنْ جَبَرَ صُلْبُهُ ، فَعَادَتْ إحْدَى الْمَنْفَعَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى ، لَمْ يَجِبْ إلَّا دِيَةٌ ، إلَّا أَنْ تَنْقُصَ الْأُخْرَى ، فَتَجِبَ حُكُومَةٌ
لِنَقْصِهَا ، أَوْ تَنْقُصَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، فَيَكُونَ فِيهِ حُكُومَةٌ لِذَلِكَ .
وَإِنْ ادَّعَى ذَهَابَ جِمَاعِهِ ، وَقَالَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ : إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجِنَايَةِ يَذْهَبُ بِالْجِمَاعِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ .
وَإِنْ كَسَرَ صُلْبَهُ ، فَشَلَّ ذَكَرُهُ ، اقْتَضَى كَلَامُ أَحْمَدَ ، وُجُوبَ دِيَتَيْنِ ؛ لِكَسْرِ الصُّلْبِ وَاحِدَةٌ وَلِلذَّكَرِ أُخْرَى .
وَفِي قَوْلِ الْقَاضِي ، وَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، يَجِبُ فِي الذَّكَرِ دِيَةٌ ، وَحُكُومَةٌ لِكَسْرِ الصُّلْبِ .
وَإِنْ أَشَلَّ رِجْلَيْهِ ، فَفِيهِمَا دِيَةٌ أَيْضًا .
وَإِنْ أَذْهَبَ مَاءَهُ دُونَ جِمَاعِهِ ، احْتَمَلَ وُجُوبَ الدِّيَةِ .
وَهَذَا يُرْوَى عَنْ مُجَاهِدٍ .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ ، فَوَجَبَتْ الدِّيَةُ ، كَمَا لَوْ ذَهَبَ بِجِمَاعِهِ ، أَوْ كَمَا لَوْ قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ أَوْ رَضَّهُمَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الدِّيَةُ كَامِلَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِالْمَنْفَعَةِ كُلِّهَا .
( 6947 ) مَسْأَلَة ؛ قَالَ : ( وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي الذَّكَرِ الدِّيَةَ .
{ وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ } .
وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ وَاحِدٌ فِيهِ الْجَمَالُ وَالْمَنْفَعَةُ ، فَكَمَلَتْ فِيهِ الدِّيَةُ ، كَالْأَنْفِ وَاللِّسَانِ ، وَفِي شَلَلِهِ دِيَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِنَفْعِهِ وَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَشَلَّ لِسَانَهُ .
وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي ذَكَرِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ .
فَأَمَّا ذَكَرُ الْعِنِّينِ ، فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى وُجُوبِ الدِّيَةِ فِيهِ ؛ لِعُمُومِ الْحَدِيثِ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْيُوسٍ مِنْ جِمَاعِهِ .
وَهُوَ عُضْوٌ سَلِيمٌ فِي نَفْسِهِ ، فَكَمَلَتْ دِيَتُهُ ، كَذَكَرِ الشَّيْخِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ ؛ لِذَلِكَ .
وَالثَّانِيَةُ ؛ لَا تَكْمُلُ دِيَتُهُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ قَتَادَةَ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ الْإِنْزَالُ وَالْإِحْبَالُ وَالْجِمَاعُ ، وَقَدْ عُدِمَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي حَالِ الْكَمَالِ ، فَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهُ كَالْأَشَلِّ ، وَبِهَذَا فَارَقَ ذَكَرَ الصَّبِيِّ وَالشَّيْخِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ ، فَعَنْهُ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ .
وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِلْخَبَرِ ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ الذَّكَرِ الْجِمَاعُ ، وَهُوَ بَاقٍ فِيهِ .
وَالثَّانِيَةُ ، لَا تَجِبُ فِيهِ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَقَتَادَةَ وَإِسْحَاقَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي ذَكَرِ الْعِنِّينِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَحْصِيلُ النَّسْلِ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَلَمْ تَكْمُلْ دِيَتُهُ ، كَالْأَشَلِّ ، وَالْجِمَاعُ يَذْهَبُ فِي الْغَالِبِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَهَائِمَ يَذْهَبُ جِمَاعُهَا بِخِصَائِهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَكَرِ الْعِنِّينِ ، وَذَكَرِ الْخَصِيِّ ، أَنَّ الْجِمَاعَ فِي ذَكَرِ الْعِنِّينِ أَبْعَدُ مِنْهُ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ ، وَالْيَأْسُ
مِنْ الْإِنْزَالِ مُتَحَقِّقٌ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ دُونَ ذَكَرِ الْعِنِّينِ .
فَعَلَى قَوْلِنَا : لَا تَكْمُلُ الدِّيَةُ فِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ ؛ إنْ قَطَعَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَيَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، أَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ ، ثُمَّ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ ، لَزِمَتْهُ دِيَتَانِ ، وَإِنْ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ ، ثُمَّ قَطَعَ الذَّكَرَ ، لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْأُنْثَيَيْنِ ، وَفِي الذَّكَرِ حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرُ خَصِيٍّ .
قَالَ الْقَاضِي : وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا .
وَإِنْ قَطَعَ نِصْفَ الذَّكَرِ بِالطُّولِ ، فَفِيهِ نِصْفُ الدِّيَةِ .
ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا .
وَالْأَوْلَى أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ كَامِلَةً لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِمَنْفَعَةِ الْجِمَاعِ بِهِ ، فَكَمَلَتْ دِيَتُهُ ، كَمَا لَوْ أَشَلَّهُ أَوْ كَسَرَ صُلْبَهُ فَذَهَبَ جِمَاعُهُ .
وَإِنْ قَطَعَ قِطْعَةً مِنْهُ مِمَّا دُونَ الْحَشَفَةِ ، وَكَانَ الْبَوْلُ يَخْرُجُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ؛ وَجَبَ بِقَدْرِ الْقِطْعَة مِنْ جَمِيعِ الذَّكَرِ مِنْ الدِّيَةِ .
وَإِنْ خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْ مَوْضِعِ الْقَطْعِ ، وَجَبَ الْأَكْثَرُ مِنْ حِصَّةِ الْقِطْعَةِ مِنْ الدِّيَةِ ، أَوْ الْحُكُومَةِ .
وَإِنْ ثَقَبَ ذَكَرَهُ فِيمَا دُونَ الْحَشَفَةِ ، فَصَارَ الْبَوْلُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّقْبِ ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ ؛ لِذَلِكَ .
( 6948 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ ) لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { : وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ } .
وَلِأَنَّ فِيهِمَا الْجَمَالَ وَالْمَنْفَعَةَ ، فَإِنَّ النَّسْلَ يَكُونُ بِهِمَا ، فَكَانَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، كَالْيَدَيْنِ .
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّهُ قَالَ : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةَ ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةَ .
وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّ فِي الْيُسْرَى ثُلُثَيْ الدِّيَةِ ، وَفِي الْيُمْنَى ثُلُثَهَا ؛ لِأَنَّ نَفْعَ الْيُسْرَى أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّ النَّسْلَ يَكُونُ بِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ مَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي شَيْئَيْنِ مِنْهُ ، وَجَبَ فِي أَحَدِهِمَا نِصْفُهَا ، كَالْيَدَيْنِ ، وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، وَلِأَنَّهُمَا ذَوَا عَدَدٍ تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ ، فَاسْتَوَتْ دِيَتُهُمَا ، كَالْأَصَابِعِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يُنْتَقَضُ بِالْأَصَابِعِ وَالْأَجْفَانِ ، تَسْتَوِي دِيَاتُهَا مَعَ اخْتِلَافِ نَفْعِهَا ، ثُمَّ يُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَهُ .
وَإِنْ رَضَّ أُنْثَيَيْهِ ، أَوْ أَشَلَّهُمَا ، كَمَلَتْ دِيَتُهُمَا ، كَمَا لَوْ أَشَلَّ يَدَيْهِ أَوْ ذَكَرَهُ .
وَإِنْ قَطَعَ أُنْثَيَيْهِ ، فَذَهَبَ نَسْلُهُ ، لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعُهُمَا ، فَلَمْ تَزْدَدْ الدِّيَةُ بِذَهَابِهِ مَعَهُمَا ، كَالْبَصَرِ مَعَ ذَهَابِ الْعَيْنَيْنِ ، وَالْبَطْشِ مَعَ ذَهَابِ الرِّجْلَيْنِ .
وَإِنْ قَطَعَ إحْدَاهُمَا ، فَذَهَبَ النَّسْلُ ، لَمْ يَجِبْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْف الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهُ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ .
مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ ) أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ فِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةَ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفَهَا .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ .
وَبِهِ قَالَ قَتَادَةُ وَمَالِكٌ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ ، وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحَدِيثَ وَالْمَعْنَى فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَفِي تَفْصِيلِهَا مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْيَدَيْنِ ، سَوَاءً ، وَمَفْصِلُ الْكَعْبَيْنِ هَاهُنَا مِثْلُ مَفْصِلِ الْكُوعَيْنِ فِي الْيَدَيْنِ .
( 6950 ) فَصْلٌ : وَفِي قَدَمِ الْأَعْرَجِ وَيَدِ الْأَعْسَمِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الْعَرَجَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْقَدَمِ ، وَالْعَسَمُ : الِاعْوِجَاجُ فِي الرُّسْغِ .
وَلَيْسَ ذَلِكَ عَيْبًا فِي قَدَمٍ وَلَا كَفٍّ ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ كَمَالَ الدِّيَةِ فِيهِمَا .
وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ، أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الدِّيَةِ ، كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ لَمْ تَبْطُلْ مَنْفَعَتُهُمَا ، فَلَمْ تَنْقُصْ دِيَتُهُمَا ، بِخِلَافِ الْيَدِ الشَّلَّاءِ .
( 6951 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ ، وَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْهَا ثُلُثُ عَقْلِهَا ، إلَّا الْإِبْهَامَ ، فَإِنَّهَا مَفْصِلَانِ ، فَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ) هَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْم ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ .
وَبِهِ قَالَ مَسْرُوقٌ وَعُرْوَةُ وَمَكْحُولٌ وَالشَّعْبِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْقِلٍ ، وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ مُخَالِفًا .
إلَّا رِوَايَةً عَنْ عُمَرَ ، أَنَّهُ قَضَى فِي الْإِبْهَامِ بِثُلُثِ غُرَّةٍ ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ ، وَفِي الْوُسْطَى بِعَشْرٍ ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا بِتِسْعٍ ، وَفِي الْخِنْصَرِ بِسِتٍّ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا أُخْبِرَ بِكِتَابٍ كَتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآلِ حَزْمٍ : { وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ مِمَّا هُنَالِكَ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ } .
أَخَذَ بِهِ وَتَرَكَ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ : فِي الْإِبْهَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا عَشْرٌ ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا ثَمَانٍ ، وَفِي الَّتِي تَلِيهَا سَبْعٌ .
وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : دِيَةُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ لِكُلِّ إصْبَعٍ .
} أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : هَذِهِ وَهَذِهِ سَوَاءٌ } .
يَعْنِي الْإِبْهَامَ وَالْخِنْصَرَ .
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { : وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ } .
وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ ذُو عَدَدٍ تَجِبُ فِيهِ
الدِّيَةُ ، فَكَانَ سَوَاءً فِي الدِّيَةِ ، كَالْأَسْنَانِ ، وَالْأَجْفَانِ ، وَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ .
وَدِيَةُ كُلِّ إصْبَعٍ مَقْسُومَةٌ عَلَى أَنَامِلِهَا ، وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ ثَلَاثُ أَنَامِلَ إلَّا الْإِبْهَامَ ، فَإِنَّهَا أُنْمُلَتَانِ ، فَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْ غَيْرِ الْإِبْهَامِ ثُلُثُ عَقْلِ الْإِبْهَامِ ثَلَاثَةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثٌ ، وَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْ الْإِبْهَامِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ، نِصْفُ دِيَتِهَا .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ قَالَ : الْإِبْهَامُ أَيْضًا ثَلَاثُ أَنَامِلَ ، إحْدَاهَا بَاطِنَةٌ .
وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحِ ، فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ بِالظَّاهِرِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي كُلِّ إصْبَعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ } .
يَقْتَضِي وُجُوبَ الْعَشْرِ فِي الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْإِصْبَعُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الِاسْمُ دُونَ مَا بَطَنَ مِنْهَا ، كَمَا أَنَّ السِّنَّ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبُ دِيَتِهَا هِيَ الظَّاهِرَةُ مِنْ لَحْمِ اللِّثَةِ دُونَ سِنْخِهَا .
وَالْحُكْمُ فِي أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ سَوَاءٌ ؛ لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِيهِمَا ، وَحُصُولِ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِمَا .
( 6952 ) فَصْلٌ : وَفِي الْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ حُكُومَةٌ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، أَنَّ فِيهَا ثُلُثَ دِيَةِ الْإِصْبَعِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ ، عَلَى رِوَايَةِ إيجَابِ الثُّلُثِ فِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِالتَّوْقِيفِ ، أَوْ بِمُمَاثَلَتِهِ لِمَا فِيهِ تَوْقِيفٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ هَاهُنَا ، لِأَنَّ الْيَدَ الشَّلَّاءَ يَحْصُلُ بِهَا الْجَمَالُ ، وَالْإِصْبَعُ الزَّائِدَةُ لَا جَمَالَ فِيهَا فِي الْغَالِبِ ، وَلِأَنَّ جَمَالَ الْيَدِ الشَّلَّاءِ لَا يَكَادُ يَخْتَلِفُ ، وَالْإِصْبَعُ الزَّائِدَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَالِّهَا وَصِفَتِهَا وَحُسْنِهَا وَقُبْحِهَا ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى الْيَدِ ؟ ، .
( 6953 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الْبَطْنِ إذَا ضُرِبَ فَلَمْ يَسْتَمْسِكْ الْغَائِطُ الدِّيَةُ ، وَفِي الْمَثَانَةِ إذَا لَمْ يَسْتَمْسِكْ الْبَوْلُ الدِّيَةُ ) وَبِهَذَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَلَمْ أَعْلَمْ فِيهِ مُخَالِفًا ، إلَّا أَنَّ ابْنَ أَبِي مُوسَى ذَكَرَ فِي الْمَثَانَةِ رِوَايَةً أُخْرَى ، فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمَحَلَّيْنِ عُضْوٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ كَبِيرَةٌ ، لَيْسَ فِي الْبَدَنِ مِثْلُهُ ، فَوَجَبَ فِي تَفْوِيتِ مَنْفَعَتِهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ الْمَذْكُورَةِ ، فَإِنَّ نَفْعَ الْمَثَانَةِ حَبْسُ الْبَوْلِ ، وَحَبْسُ الْبَطْنِ الْغَائِطَ مَنْفَعَةٌ مِثْلُهَا ، وَالنَّفْعُ بِهِمَا كَثِيرٌ ، وَالضَّرَرُ بِفَوَاتِهِمَا عَظِيمٌ ، فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الدِّيَةُ ، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ .
وَإِنْ فَاتَتْ الْمَنْفَعَتَانِ بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَجَبَ عَلَى الْجَانِي دِيَتَانِ ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ .
( 6954 ) مَسْأَلَةٌ ؛ قَالَ : ( وَفِي ذَهَابِ الْعَقْلِ الدِّيَةُ ) لَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا .
وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ بَلَغَنَا قَوْلُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ .
{ وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ } .
وَلِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْمَعَانِي قَدْرًا ، وَأَعْظَمُ الْحَوَاسِّ نَفْعًا .
فَإِنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ مِنْ الْبَهِيمَةِ ، وَيَعْرِفُ بِهِ حَقَائِقَ الْمَعْلُومَاتِ ، وَيَهْتَدِي إلَى مَصَالِحِهِ ، وَيَتَّقِي مَا يَضُرُّهُ ، وَيَدْخُلُ بِهِ فِي التَّكْلِيفِ ، وَهُوَ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ الْوِلَايَاتِ ، وَصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ ، فَكَانَ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ أَحَقَّ مِنْ بَقِيَّةِ الْحَوَاسِّ ، فَإِنْ نَقَصَ عَقْلُهُ نَقْصًا مَعْلُومًا ، مِثْلُ أَنْ صَارَ يُجَنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا ، فَعَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ ، وَجَبَ بَعْضُهَا فِي بَعْضِهِ بِقَدْرِهِ ، كَالْأَصَابِعِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ، مِثْلُ أَنْ صَارَ مَدْهُوشًا ، أَوْ يَفْزَعُ مِمَّا لَا يُفْزَعُ مِنْهُ ، وَيَسْتَوْحِشُ إذَا خَلَا ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ ، فَتَجِبُ فِيهِ حُكُومَةٌ .
( 6955 ) فَصْلٌ : فَإِنْ أَذْهَبَ عَقْلَهُ بِجِنَايَةٍ لَا تُوجِبُ أَرْشًا ، كَاللَّطْمَةِ ، وَالتَّخْوِيفِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَفِيهِ الدِّيَةُ لَا غَيْرُ .
وَإِنْ أَذْهَبَهُ بِجِنَايَةٍ تُوجِبُ أَرْشًا ، كَالْجِرَاحِ ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ ، وَجَبَتْ الدِّيَةُ ، وَأَرْشُ الْجُرْحِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : يَدْخُلُ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا فِي الْأَكْثَرِ ، فَإِنْ كَانَتْ الدِّيَةُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْشِ الْجُرْحِ ، وَجَبَتْ وَحْدَهَا ، وَإِنْ كَانَ أَرْشُ الْجُرْحِ أَكْثَرَ ، كَأَنْ قَطَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ، فَذَهَبَ عَقْلُهُ ، وَجَبَتْ دِيَةُ الْجُرْحِ ، وَدَخَلَتْ دِيَةُ الْعَقْلِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ الْعَقْلِ تَخْتَلُّ مَعَهُ مَنَافِعُ الْأَعْضَاءِ ، فَدَخَلَ أَرْشُهَا فِيهِ ، كَالْمَوْتِ .
وَلَنَا ، أَنَّ هَذِهِ جِنَايَةٌ أَذْهَبَتْ مَنْفَعَةً مِنْ غَيْرِ مَحَلِّهَا مَعَ بَقَاءِ النَّفْسِ ، فَلَمْ يَتَدَاخَلْ الْأَرْشَانِ ، كَمَا لَوْ أَوْضَحَهُ فَذَهَبَ بَصَرُهُ أَوْ سَمْعُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى أُذُنِهِ أَوْ أَنْفِهِ ، فَذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ شَمُّهُ ، لَمْ يَدْخُلْ أَرْشُهُمَا فِي دِيَةِ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ ، مَعَ قُرْبِهِمَا مِنْهُمَا ، فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ أَرْشُ الْجُرْحِ فِي دِيَةِ الْعَقْلِ ، لَمْ يَجِبْ أَرْشُهُ إذَا زَادَ عَلَى دِيَةِ الْعَقْلِ ، كَمَا أَنَّ دِيَةَ الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا مَعَ الْقَتْلِ لَا يَجِبُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ دِيَةِ النَّفْسِ .
وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ : إنَّ مَنَافِعَ الْأَعْضَاءِ تَبْطُلُ بِذَهَابِ الْعَقْلِ ، فَإِنَّ الْمَجْنُونَ تُضْمَنُ مَنَافِعُهُ وَأَعْضَاؤُهُ بَعْدَ ذَهَابِ عَقْلِهِ بِمَا تُضْمَنُ بِهِ مَنَافِعُ الصَّحِيحِ وَأَعْضَاؤُهُ ، وَلَوْ ذَهَبَتْ مَنَافِعُهُ وَأَعْضَاؤُهُ ، لَمْ تُضْمَنْ ، كَمَا لَا تُضْمَنُ مَنَافِعُ الْمَيِّتِ وَأَعْضَاؤُهُ ، وَإِذَا جَازَ أَنْ تُضْمَنَ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، جَازَ ضَمَانُهَا مَعَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَأَذْهَبَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ بِجِرَاحَةٍ فِي غَيْرِ
مَحَلِّهَا .
( 6956 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ ، فَأَذْهَبَ عَقْلَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَكَلَامَهُ ، وَجَبَ أَرْبَعُ دِيَاتٍ مَعَ أَرْشِ الْجُرْحِ .
قَالَ أَبُو قِلَابَةَ : رَمَى رَجُلٌ رَجُلًا بِحَجَرٍ ، فَذَهَبَ عَقْلُهُ وَبَصَرُهُ وَسَمْعُهُ وَلِسَانُهُ ، فَقَضَى فِيهِ عُمَرُ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ وَهُوَ حَيٌّ .
وَلِأَنَّهُ أَذْهَبَ مَنَافِعَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا دِيَةٌ ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ دِيَاتُهَا ، كَمَا لَوْ أَذْهَبَهَا بِجِنَايَاتٍ .
فَإِنْ مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ ، لَمْ تَجِبْ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ دِيَاتِ الْمَنَافِعِ كُلَّهَا تَدْخُلُ فِي دِيَةِ النَّفْسِ ، كَدِيَاتِ الْأَعْضَاءِ .
( 6957 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الصَّعَرِ الدِّيَةُ ، وَالصَّعَرُ : أَنْ يَضْرِبَهُ ، فَيَصِيرَ وَجْهُهُ فِي جَانِبٍ ) أَصْلُ الصَّعَرِ ، دَاءٌ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ فِي عُنُقِهِ ، فَيَلْتَوِي عُنُقُهُ ، وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } .
أَيْ : لَا تُعْرِضْ عَنْهُمْ بِوَجْهِك تَكَبُّرًا ، كَإِمَالَةِ وَجْهِ الْبَعِيرِ الَّذِي بِهِ الصَّعَرُ ، فَمَنْ جَنَى عَلَى إنْسَانٍ جِنَايَةً ، فَعَوِجَ عُنُقَهُ ، حَتَّى صَارَ وَجْهُهُ فِي جَانِبٍ ، فَعَلَيْهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ فِيهِ إلَّا حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ إذْهَابُ جَمَالٍ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ .
وَلَنَا مَا رَوَى مَكْحُولٌ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، أَنَّهُ قَالَ : وَفِي الصَّعَرِ الدِّيَةُ .
وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ ، فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ أَذْهَبَ الْجَمَالَ وَالْمَنْفَعَةَ ، فَوَجَبَتْ فِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ، كَسَائِرِ الْمَنَافِعِ .
وَقَوْلُهُمْ : لَمْ يَذْهَبْ بِمَنْفَعَتِهِ .
غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى النَّظَرِ أَمَامَهُ ، وَاتِّقَاءِ مَا يَحْذَرُهُ إذَا مَشَى ، وَإِذَا نَابَهُ أَمْرٌ ، أَوْ دَهَمَهُ عَدُوٌّ ، لَمْ يُمْكِنْهُ الْعِلْمُ بِهِ ، وَلَا اتِّقَاؤُهُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ لَيُّ عُنُقِهِ لِيَعْرِفَ مَا يُرِيدُ نَظَرَهُ ، وَيَتَعَرَّفَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرّهُ .
( 6958 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ ، فَصَارَ الِالْتِفَاتُ عَلَيْهِ شَاقًّا ، أَوْ ابْتِلَاعُ الْمَاءِ ، أَوْ غَيْرُهُ ، فَفِيهِ حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ بِالْمَنْفَعَةِ كُلِّهَا ، وَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا .
وَإِنْ صَارَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ ازْدِرَادُ رِيقِهِ ، فَهَذَا لَا يَكَادُ يَبْقَى ، فَإِنْ بَقِيَ مَعَ ذَلِكَ ، فَفِيهِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ لَيْسَ لَهَا مِثْلٌ فِي الْبَدَنِ .
( 6959 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ ثُلُثُ دِيَتِهَا ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ الْقَائِمَةُ ، وَالسِّنُّ السَّوْدَاءُ ) الْيَدُ الشَّلَّاء : الَّتِي ذَهَبَ مِنْهَا مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ .
وَالْعَيْنُ الْقَائِمَةُ : الَّتِي ذَهَبَ بَصَرُهَا وَصُورَتُهَا بَاقِيَةٌ كَصُورَةِ الصَّحِيحَةِ .
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِمَا ، وَفِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ ، فَعَنْهُ ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ ثُلُثُ دِيَتِهَا .
رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَمُجَاهِدٍ .
وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ مِائَةُ دِينَارٍ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَدَ ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ حُكُومَةٌ .
وَهَذَا قَوْلُ مَسْرُوقٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَالنُّعْمَانِ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ دِيَةٍ كَامِلَةٍ ، لِكَوْنِهَا قَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا ، وَلَا مُقَدَّرَ فِيهَا ، فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ فِيهَا ، كَالْيَدِ الزَّائِدَةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا بِثُلُثِ الدِّيَةِ ، وَفِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ إذَا قُطِعَتْ ثُلُثُ دِيَتِهَا ، وَفِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ إذَا قُلِعَتْ ثُلُثُ دِيَتِهَا .
} رَوَاهُ النَّسَائِيّ ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْعَيْنِ وَحْدَهَا مُخْتَصَرًا .
وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَاهُ قَتَادَةُ عَنْ خِلَاسٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ يَحْيَى بْن يَعْمُرَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخِطَابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ إذَا خَسَفَتْ ، وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ إذَا قُطِعَتْ ، وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ إذَا كُسِرَتْ ، ثُلُثَ دِيَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ .
وَلِأَنَّهَا كَامِلَةُ الصُّورَةِ ، فَكَانَ فِيهَا مُقَدَّرٌ كَالصَّحِيحَةِ ، وَقَوْلُهُمْ : لَا يُمْكِنُ إيجَابُ مُقَدَّرٍ .
مَمْنُوعٌ ؛ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا التَّقْدِيرَ وَبَيَّنَّاهُ .
( 6960 ) فَصْلٌ : قَالَ
الْقَاضِي : قَوْلُ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ ، ثُلُثُ دِيَتِهَا .
مَحْمُولٌ عَلَى سِنٍّ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهَا ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعَضَّ بِهَا الْأَشْيَاءَ ، أَوْ كَانَتْ تَفَتَّتَتْ ، فَأَمَّا إنْ كَانَتْ مَنْفَعَتُهَا بَاقِيَةً ، وَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا إلَّا لَوْنُهَا ، فَفِيهَا كَمَالُ دِيَتِهَا ، سَوَاءٌ قَلَّتْ مَنْفَعَتُهَا ، بِأَنْ عَجَزَ عَنْ عَضِّ الْأَشْيَاءِ الصُّلْبَةِ بِهَا أَوْ لَمْ يَعْجِزْ ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةُ الْمَنْفَعَةِ ، فَكَمَلَتْ دِيَتُهَا ، كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ سَوَّدَهَا إلَّا حُكُومَةٌ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ مَا يُوَافِقُ ظَاهِرَ كَلَامِهِ ؛ لِظَاهِرِ الْأَخْبَارِ ، وَقَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلِأَنَّهُ ذَهَبَ جَمَالُهَا بِتَسْوِيدِهَا ، فَكَمَلَتْ دِيَتُهَا عَلَى مَنْ سَوَّدَهَا ، كَمَا لَوْ سَوَّدَ وَجْهَهُ .
وَلَمْ يَجِبْ عَلَى مُتْلِفِهَا أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ دِيَتِهَا كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَكَالسِّنِّ إذَا كَانَتْ بَيْضَاءَ فَانْقَلَعَتْ ، وَنَبَتَ مَكَانَهَا سَوْدَاءُ ، لِمَرَضٍ فِيهَا ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ وَأَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ ، سَلَّمُوا أَنَّهَا لَا تَكْمُلُ دِيَتُهَا .
( 6961 ) فَصْلٌ : فَإِنْ نَبَتَتْ أَسْنَانُ صَبِيٍّ سَوْدَاءَ ثُمَّ ثُغِرَ ثُمَّ عَادَتْ سَوْدَاءَ ، فَدِيَتُهَا تَامَّةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا جِنْسٌ خُلِقَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ خُلِقَ أَسْوَدَ الْجِسْمِ وَالْوَجْهِ جَمِيعًا .
وَإِنْ نَبَتَتْ أَوَّلًا بَيْضَاءَ ، ثُمَّ ثُغِرَ ، ثُمَّ عَادَتْ سَوْدَاءَ ، سُئِلَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ ، فَإِنْ قَالُوا : لَيْسَ السَّوَادُ لِعِلَّةٍ وَلَا مَرَضٍ ، فَفِيهَا أَيْضًا كَمَالُ دِيَتِهَا ، وَإِنْ قَالُوا : ذَلِكَ لِمَرَضٍ فِيهَا .
فَعَلَى قَالِعِهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا ، أَوْ حُكُومَةٌ .
وَقَدْ سَلَّمَ الْقَاضِي ، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَتْ سَوْدَاءَ مِنْ ابْتِدَاءِ الْخِلْقَةِ هَكَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ قَدْ يَكُونُ فِي فِيهِ مِنْ ابْتِدَاءِ خِلْقَتِهِ ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي بَعْضِ دِيَتِهَا ، كَمَا لَوْ كَانَ طَارِئًا .
فَصْل : وَفِي لِسَانِ الْأَخْرَسِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا ، كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي الْيَدِ الشَّلَّاءِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ عُضْوٍ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ ، وَبَقِيَتْ صُورَتُهُ ، كَالرِّجْلِ الشَّلَّاءِ ، وَالْإِصْبَعِ وَالذَّكَرِ إذَا كَانَ أَشَلَّ ، وَذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ إذَا قُلْنَا : لَا تَكْمُلُ دِيَتُهُمَا .
وَأَشْبَاهِ هَذَا ، فَكُلُّهُ يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ؛ فِيهِ ثُلُثُ دِيَتِهِ .
وَالْأُخْرَى ، حُكُومَةٌ .
( 6963 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْيَدُ أَوْ الرِّجْلُ أَوْ الْإِصْبَعُ أَوْ السِّنُّ الزَّوَائِدُ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا حُكُومَةٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : هَذَا فِي مَعْنَى الْيَدِ الشَّلَّاءِ ، فَتَكُونُ عَلَى قِيَاسِهَا ، يُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ فِي هَذَا ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمُقَدَّرِ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ هَذَا عَلَى الْعُضْوِ الَّذِي ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ وَبَقِيَ جَمَالُهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزَّوَائِدَ لَا جَمَالَ فِيهَا ، إنَّمَا هِيَ شَيْنٌ فِي الْخِلْقَةِ ، وَعَيْبٌ يُرَدُّ بِهِ الْمَبِيعُ ، وَتَنْقُصُ بِهِ الْقِيمَةُ ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْجَمَالُ ؟ ثُمَّ لَوْ حَصَلَ بِهِ جَمَالٌ مَا ، لَكِنَّهُ يُخَالِفُ جَمَالَ الْعُضْوِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ تَمَامُ الْخِلْقَةِ ، وَيَخْتَلِفُ فِي نَفْسِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، فَوَجَبَتْ فِيهِ الْحُكُومَةُ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ شَيْءٌ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
( 6964 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي قَطْعِ الذَّكَرِ بَعْدَ حَشَفَتِهِ ، وَقَطْعِ الْكَفِّ بَعْدَ أَصَابِعِهِ ؛ فَرَوَى أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ ، فِيهِ ثُلُثُ دِيَتِهِ ، وَكَذَلِكَ شَحْمَةُ الْأُذُنِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حُكُومَةٌ .
وَالصَّحِيحُ فِي هَذَا ، أَنَّ فِيهِ حُكُومَةً ؛ لِعَدَمِ التَّقْدِيرِ فِيهِ ، وَامْتِنَاعِ قِيَاسِهِ عَلَى مَا فِيهِ تَقْدِيرٌ ، لِأَنَّ الْأَشَلَّ بَقِيَتْ صُورَتُهُ ، وَهَذَا لَمْ تَبْقَ صُورَتُهُ ، إنَّمَا بَقِيَ بَعْضُ مَا فِيهِ الدِّيَةُ ، أَوْ أَصْلُ مَا فِيهِ الدِّيَةُ .
فَأَمَّا قَطْعُ الذِّرَاعِ بَعْدَ قَطْعِ الْكَفِّ ، وَالسَّاقِ بَعْدَ قَطْعِ الْقَدَمِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الْحُكُومَةُ فِيهِ ، وَجْهًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ إيجَابَ ثُلُثِ دِيَةِ الْيَدِ فِيهِ ، يُفْضِي إلَى أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ فِيهِ مَعَ بَقَاءِ الْكَفِّ وَالْقَدَمِ وَذَهَابِهِمَا وَاحِدًا ، مَعَ تَفَاوُتِهِمَا وَعَدَمِ النَّصِّ فِيهِمَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 6965 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَفِي إسْكَتَيْ الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ ) الْإِسْكَتَانِ : هُمَا اللَّحْمُ الْمُحِيطُ بِالْفَرْجِ مِنْ جَانِبَيْهِ ، إحَاطَةَ الشَّفَتَيْنِ بِالْفَمِ .
وَأَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُونَ : الشُّفْرَانِ حَاشِيَتَا الْإِسْكَتَيْنِ ، كَمَا أَنَّ أَشْفَارَ الْعَيْنِ أَهْدَابُهَا .
وَفِيهِمَا دِيَةُ الْمَرْأَةِ إذَا قُطِعَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَهُ الثَّوْرِيُّ ، إذَا لَمْ يُقْدَرْ عَلَى جِمَاعِهَا .
وَقَضَى بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ إذَا بَلَغَ الْعَظْمَ ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا جَمَالًا وَمَنْفَعَةً ، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ غَيْرُهُمَا مِنْ جِنْسِهِمَا ، فَوَجَبَتْ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، كَسَائِرِ مَا فِيهِ مِنْهُ شَيْئَانِ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي غَيْرِهِمَا .
وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِمَا فَأَشَلَّهُمَا ، وَجَبَتْ دِيَتُهُمَا ، كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى شَفَتَيْهِ فَأَشَلَّهُمَا .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِمَا غَلِيظَتَيْنِ أَوْ دَقِيقَتَيْنِ ، قَصِيرَتَيْنِ أَوْ طَوِيلَتَيْنِ ، مِنْ بِكْرٍ أَوْ ثَيِّبٍ ، أَوْ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ ، مَخْفُوضَةٍ أَوْ غَيْرِ مَخْفُوضَةٍ ؛ لِأَنَّهُمَا عُضْوَانِ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، فَاسْتَوَى فِيهِمَا جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا ، كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّتْقَاءِ وَغَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ الرَّتَقَ عَيْبٌ فِي غَيْرِهِمَا ، فَلَمْ يَنْقُصْ دِيَتَهُمَا ، كَمَا أَنَّ الصَّمَمَ لَمْ يَنْقُصْ دِيَةَ الْأُذُنَيْنِ .
وَالْخَفْضُ : هُوَ الْخِتَانُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ .
( 6966 ) فَصْلٌ : وَفِي رَكَبِ الْمَرْأَةِ حُكُومَةٌ ، وَهُوَ عَانَةُ الْمَرْأَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي عَانَةِ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُقَدَّرَ فِيهِ ، وَلَا هُوَ نَظِيرٌ لِمَا قُدِّرَ فِيهِ ، فَإِنْ أُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ مَعَ فَرْجِ الْمَرْأَةِ أَوْ ذَكَرِ الرَّجُلِ ، فَفِيهِ الْحُكُومَةُ مَعَ الدِّيَةِ ، كَمَا لَوْ أُخِذَ مَعَ الْأَنْفِ وَالشَّفَتَيْنِ شَيْءٌ مِنْ اللَّحْمِ الَّذِي حَوْلَهُمَا .
( 6967 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَفِي مُوضِحَةِ الْحُرِّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ، وَالْمُوضِحَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ ، وَهِيَ الَّتِي تُبْرِزُ الْعَظْمَ ) هَذِهِ مِنْ شِجَاجِ الرَّأْسِ أَوْ الْوَجْهِ ، وَلَيْسَ فِي الشِّجَاجِ مَا فِيهِ قِصَاصٌ سِوَاهَا ، وَلَا يَجِبُ الْمُقَدَّرُ فِي أَقَلَّ مِنْهَا ، وَهِيَ الَّتِي تَصِلُ إلَى الْعَظْمِ ، سُمِّيَتْ مُوضِحَةً ؛ لِأَنَّهَا أَبْدَتْ وَضَحَ الْعَظْمِ ، وَهُوَ بَيَاضُهُ .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أَرْشَهَا مُقَدَّرٌ .
قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : { وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ } .
وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { فِي الْمَوَاضِحِ خَمْسٌ خَمْسٌ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ : فِي مُوضِحَةِ الْحُرِّ .
يَحْتَرِزُ بِهِ مِنْ مُوضِحَةِ الْعَبْدِ .
وَقَوْلُهُ : سَوَاءٌ كَانَ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ .
يَعْنِي أَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ ؛ لِأَنَّهَا دُونَ ثُلُثِ الدِّيَةِ ، وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ ، وَيَخْتَلِفَانِ فِيمَا زَادَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مُوضِحَةَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ مُوضِحَةِ الرَّجُلِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ جِرَاحَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ جِرَاحِ الرَّجُلِ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ .
وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعُمُومُ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ هَاهُنَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ ، وَفِيهِ كِفَايَةٌ .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُوضِحَةَ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَبِهِ قَالَ شُرَيْحٌ ، وَمَكْحُولٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَرَبِيعَةُ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ .
وَرُوِيَ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّهُ قَالَ : تُضَعَّفُ مُوضِحَةُ الْوَجْهِ عَلَى مُوضِحَةِ الرَّأْسِ ، فَيَجِبُ فِي مُوضِحَةِ الْوَجْهِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ ؛ لِأَنَّ شَيْنَهَا أَكْثَرُ .
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ .
وَمُوضِحَةُ الرَّأْسِ يَسْتُرُهَا الشَّعْرُ وَالْعِمَامَةُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا كَانَتْ فِي الْأَنْفِ أَوْ فِي اللَّحْيِ الْأَسْفَلِ ، فَفِيهَا حُكُومَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَبْعُدُ عَنْ الدِّمَاغِ ، فَأَشْبَهَتْ مُوضِحَةَ سَائِرِ الْبَدَنِ .
وَلَنَا عُمُومُ الْأَحَادِيثِ ، وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْمُوضِحَةُ فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ سَوَاءٌ .
وَلِأَنَّهَا مُوضِحَةٌ ، فَكَانَ أَرْشُهَا خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ ، كَغَيْرِهَا مِمَّا سَلَّمُوهُ ، وَلَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الشَّيْنِ ، بِدَلِيلِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ لِمَالِكٍ لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ الْمُوضِحَةَ فِي الصَّدْرِ أَكْثَرُ ضَرَرًا ، وَأَقْرَبُ إلَى الْقَلْبِ ، وَلَا مُقَدَّرَ فِيهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَنَّهُ قَالَ : مُوضِحَةُ الْوَجْهِ أَحْرَى أَنْ يُزَادَ فِي دِيَتِهَا .
وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا أَكْثَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهَا أَوْلَى بِإِيجَابِ الدِّيَةِ ، فَإِنَّهُ إذَا وَجَبَ فِي مُوضِحَةِ الرَّأْسِ مَعَ قِلَّةِ شَيْنِهَا وَاسْتِتَارِهَا بِالشَّعْرِ وَغِطَاءِ الرَّأْسِ ، خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ، فَلَأَنْ يَجِبَ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الظَّاهِرِ ، الَّذِي هُوَ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ ، وَعُنْوَانُ الْجَمَالِ أَوْلَى .
وَحَمْلُ كَلَامِ أَحْمَدَ عَلَى هَذَا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا يُخَالِفُ الْخَبَرَ وَالْأَثَرَ وَقَوْلَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَمَصِيرُهُ إلَى التَّقْدِيرِ بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ ، وَلَا قِيَاسٍ صَحِيحٍ .
( 6968 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ ، وَالْبَارِزَةِ وَالْمَسْتُورَةِ بِالشَّعْرِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ .
وَحَدُّ الْمُوضِحَةِ مَا أَفْضَى إلَى الْعَظْمِ ، وَلَوْ بِقَدْرِ إبْرَةٍ .
ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَالْقَاضِي .
فَإِنْ
شَجَّهُ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً ، بَعْضُهَا مُوضِحَةٌ ، وَبَعْضُهَا دُونَ الْمُوضِحَةِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ مُوضِحَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْضَحَ الْجَمِيعَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشُ مُوضِحَةٍ ، فَلَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ فِي الْإِيضَاحِ فِي الْبَعْضِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَوْلَى ، وَهَكَذَا لَوْ شَجَّهُ شَجَّةً بَعْضُهَا هَاشِمَةٌ ، وَبَاقِيهَا دُونَهَا ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ هَاشِمَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مُنَقِّلَةً وَمَا دُونَهَا ، أَوْ مَأْمُومَةً .
وَمَا دُونَهَا ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُنَقِّلَةٍ أَوْ مَأْمُومَةٍ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
( 6969 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ فِي مُوضِحَةِ غَيْرِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ مُقَدَّرٌ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ إمَامُنَا ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَلَا يَكُونُ فِي الْبَدَنِ مُوضِحَةٌ .
يَعْنِي لَيْسَ فِيهَا مُقَدَّرٌ .
قَالَ : وَعَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ إلَّا اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ ، قَالَ : الْمُوضِحَةُ تَكُونُ فِي الْجَسَدِ أَيْضًا .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي جِرَاحَةِ الْجَسَدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ جِرَاحَةِ الرَّأْسِ .
وَحُكِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، قَالَ : فِي الْمُوضِحَةِ فِي سَائِرِ الْجَسَدِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا .
وَلَنَا ، أَنَّ اسْمَ الْمُوضِحَةِ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِرَاحَةِ الْمَخْصُوصَةِ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ ، وَقَوْلُ الْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ : الْمُوضِحَةُ فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ سَوَاءٌ .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَاقِيَ الْجَسَدِ بِخِلَافِهِ ، وَلِأَنَّ الشَّيْنَ فِيمَا فِي الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ أَكْثَرُ وَأَخْطَرُ مِمَّا فِي سَائِرِ الْبَدَنِ ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ ، ثُمَّ إيجَابُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْبَدَنِ يُفْضِي إلَى أَنْ يَجِبَ فِي مُوضِحَةِ الْعُضْوِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَتِهِ ، مِثْلُ أَنْ يُوضِحَ أُنْمُلَةً دِيَتُهَا ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ ، وَدِيَةُ الْمُوضِحَةِ خَمْسَةٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ ، فَتَحَكُّمٌ لَا نَصَّ فِيهِ ، وَلَا قِيَاسَ يَقْتَضِيهِ ، فَيَجِبُ اطِّرَاحُهُ .
( 6970 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ ، وَجَرَّ السِّكِّينَ إلَى قَفَاهُ ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَةٍ ، وَحُكُومَةٌ لِجُرْحِ الْقَفَا ؛ لِأَنَّ الْقَفَا لَيْسَ بِمَوْقِعٍ لِلْمُوضِحَةِ .
وَإِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ ، وَمَدَّهَا إلَى وَجْهِهِ ، فَعَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا ، أَنَّهَا مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ وَالرَّأْسَ سَوَاءٌ فِي الْمُوضِحَةِ ، فَصَارَ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ .
وَالثَّانِي ؛ هُمَا مُوضِحَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْضَحَهُ فِي عُضْوَيْنِ ، فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمُ نَفْسِهِ ، كَمَا لَوْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ وَنَزَلَ إلَى الْقَفَا .
( 6971 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَوْضَحَهُ فِي رَأْسِهِ مُوضِحَتَيْنِ ، بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا مُوضِحَتَانِ .
فَإِنْ أَزَالَ الْحَاجِزَ الَّذِي بَيْنَهُمَا ، وَجَبَ أَرْشُ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ الْجَمِيعُ بِفِعْلِهِ مُوضِحَةً ، فَصَارَ كَمَا لَوْ أَوْضَحَ الْكُلَّ مِنْ غَيْرِ حَاجِزٍ يَبْقَى بَيْنَهُمَا .
وَإِنْ انْدَمَلَتَا ، ثُمَّ أَزَالَ الْحَاجِزَ بَيْنَهُمَا ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ ثَلَاثِ مَوَاضِحَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَرْشُ الْأُولَيَيْنِ بِالِانْدِمَالِ ، ثُمَّ لَزِمَتْهُ دِيَةُ الثَّالِثَةِ .
وَإِنْ تَآكَلَ مَا بَيْنَهُمَا قَبْلَ انْدِمَالِهِمَا فَزَالَ ، لَمْ يَلْزَمْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ سِرَايَةَ فِعْلِهِ كَفِعْلِهِ .
وَإِنْ انْدَمَلَتْ إحْدَاهُمَا وَزَالَ الْحَاجِزُ بِفِعْلِهِ ، أَوْ سِرَايَةِ الْأُخْرَى ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ .
وَإِنْ أَزَالَ الْحَاجِزَ أَجْنَبِيٌّ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ ، وَعَلَى الثَّانِي أَرْشُ مُوضِحَةٍ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا لَا يَنْبَنِي عَلَى فِعْلِ الْآخَرِ ، فَانْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ جِنَايَتِهِ .
وَإِنْ أَزَالَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، وَجَبَ عَلَى الْأَوَّلِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِجِنَايَتِهِ لَا يَسْقُطُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ .
فَإِنْ اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الْجَانِي : أَنَا شَقَقْت مَا بَيْنَهُمَا .
وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ : بَلْ أَنَا .
أَوْ : أَزَالَهَا آخَرُ سِوَاكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ أَرْشِ مُوضِحَتَيْنِ قَدْ وُجِدَ .
وَالْجَانِي يَدَّعِي زَوَالَهُ ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يُنْكِرُهُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ، وَالْأَصْلُ مَعَهُ .
وَإِنْ أَوْضَحَ مُوضِحَتَيْنِ ، ثُمَّ قَطَعَ اللَّحْمَ الَّذِي بَيْنَهُمَا فِي الْبَاطِنِ ، وَتَرَكَ الْجِلْدَ الَّذِي فَوْقَهُمَا فَفِيهَا وَجْهَانِ ؛ أَحَدُهُمَا ، يَلْزَمُهُ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ ؛ لِانْفِصَالِهِمَا فِي الظَّاهِرِ .
وَالثَّانِي : أَرْشُ مُوضِحَةٍ ؛ لِاتِّصَالِهِمَا فِي الْبَاطِنِ .
وَإِنْ جَرَحَهُ جِرَاحًا وَاحِدَةً ، وَأَوْضَحَهُ فِي طَرَفَيْهَا ، وَبَاقِيهَا