الكتاب : المغني
المؤلف : أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد ، الشهير بابن
قدامة المقدسي
( 544 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ ، صَلَّوْا الظُّهْرَ فَالْعَصْرَ ، وَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ ، وَطَهُرَتْ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ ، صَلَّوْا الْمَغْرِبَ وَعِشَاءَ الْآخِرَةِ ) وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَرَبِيعَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : عَامَّةُ التَّابِعِينَ يَقُولُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ ، إلَّا الْحَسَنَ وَحْدَهُ قَالَ : لَا تَجِبُ إلَّا الصَّلَاةُ الَّتِي طَهُرَتْ فِي وَقْتِهَا وَحْدَهَا .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْأُولَى خَرَجَ فِي حَالِ عُذْرِهَا ، فَلَمْ تَجِبْ كَمَا لَوْ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ وَقْتِ الثَّانِيَةِ شَيْئًا .
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ إذَا أَدْرَكَ قَدْرَ خَمْسِ رَكَعَاتٍ مِنْ وَقْتِ الثَّانِيَةِ ، وَجَبَتْ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْخَمْسِ وَقْتٌ لِلصَّلَاةِ الْأُولَى فِي حَالِ الْعُذْرِ ، فَوَجَبَتْ بِإِدْرَاكِهِ ، كَمَا لَوْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَدْرَكَ دُونَ ذَلِكَ .
وَلَنَا مَا رَوَى الْأَثْرَمُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَغَيْرُهُمَا ، بِإِسْنَادِهِمْ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِرَكْعَةٍ : تُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ، فَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا .
وَلِأَنَّ وَقْتَ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لِلْأُولَى حَالَ الْعُذْرِ ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ الْمَعْذُورُ لَزِمَهُ فَرْضُهَا ، كَمَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ الثَّانِيَةِ .
( 545 ) فَصْلٌ : وَالْقَدْرُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْوُجُوبُ قَدْرُ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : قَدْرُ رَكْعَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلِأَنَّهُ إدْرَاكٌ تَعَلَّقَ بِهِ إدْرَاكُ الصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَكُنْ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ كَإِدْرَاكِ الْجُمُعَةِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : خَمْسُ رَكَعَاتٍ .
وَلَنَا أَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ تَجِبُ بِهِ الثَّانِيَةُ ، فَوَجَبَتْ بِهِ الْأُولَى ، كَالرَّكْعَةِ وَالْخَمْسِ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَلِأَنَّهُ إدْرَاكٌ فَاسْتَوَى فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ ، كَإِدْرَاكِ الْمُسَافِرِ صَلَاةَ الْمُقِيمِ ، فَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَإِنَّمَا اُعْتُبِرَتْ الرَّكْعَةُ بِكَمَالِهَا ؛ لِكَوْنِ الْجَمَاعَةِ شَرْطًا فِيهَا فَاعْتُبِرَ إدْرَاكُ رَكْعَةٍ كَيْ لَا يَفُوتَهُ شَرْطُهَا فِي مُعْظَمِهَا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا .
( 546 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُكَلَّفُ مِنْ وَقْتِ الْأُولَى مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ قَدْرًا تَجِبُ بِهِ ، ثُمَّ جُنَّ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً فَحَاضَتْ ، أَوْ نَفِسَتْ ، ثُمَّ زَالَ الْعُذْرُ بَعْدَ وَقْتِهَا ، لَمْ تَجِبْ الثَّانِيَةُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا .
وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ .
وَالْأُخْرَى : يَجِبُ وَيَلْزَمُ قَضَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهَا إحْدَى صَلَاتَيْ الْجَمْعِ ، فَوَجَبَتْ بِإِدْرَاكِ جُزْءٍ مِنْ وَقْتِ الْأُخْرَى ، كَالْأُولَى .
وَوَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ جُزْءًا مِنْ وَقْتِهَا ، وَلَا وَقْتِ تَبَعِهَا ، فَلَمْ تَجِبْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ وَقْتِ الْأُولَى شَيْئًا ، وَفَارَقَ مُدْرِكَ وَقْتِ الثَّانِيَةِ ، فَإِنَّهُ أَدْرَكَ وَقْتَ تَبَعِ الْأُولَى ، فَإِنَّ الْأُولَى تُفْعَلُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ مَتْبُوعَةً مَقْصُودَةً يَجِبُ تَقْدِيمُهَا ، وَالْبِدَايَةُ بِهَا ، بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ مَعَ الْأُولَى ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يُجَوِّزُ الْجَمْعَ إلَّا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ لَيْسَ وَقْتُ الْأُولَى عِنْدَهُ وَقْتًا لِلثَّانِيَةِ بِحَالٍ ، فَلَا يَكُونُ مُدْرِكًا لَشَيْءٍ مِنْ وَقْتِهَا ، وَوَقْتُ الثَّانِيَةِ وَقْتٌ لَهُمَا جَمِيعًا ، لِجَوَازِ فِعْلِ الْأُولَى فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ، وَمَنْ جَوَّزَ الْجَمْعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ تَقْدِيمَ الثَّانِيَةِ رُخْصَةً تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ ، وَتَرْكِ التَّفْرِيقِ ، وَمَتَى أَخَّرَ الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ كَانَتْ مَفْعُولَةً لَا وَاجِبَةً ، لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا ، وَلَا يَجِبُ نِيَّةُ جَمْعِهَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَرْكُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا ، فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا تَجِبَ صَلَاةٌ إلَّا بِإِدْرَاكِ وَقْتِهَا .
( 547 ) فَصْلٌ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَجِبُ عَلَى صَبِيٍّ ، وَلَا كَافِرٍ ، وَلَا حَائِضٍ ؛ إذْ لَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْقَضَاءِ بِهَذِهِ الْحَالِ مَعْنًى ، وَهَذَا الصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ .
فَأَمَّا الْحَائِضُ ، فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهَا فِي بَابِهَا ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنْ كَانَ أَصْلِيًّا لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي حَالِ كُفْرِهِ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } وَأَسْلَمَ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، وَبَعْدَهُ ، فَلَمْ يُؤْمَرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِقَضَاءٍ ، وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ تَنْفِيرًا عَنْ الْإِسْلَامِ ، فَعُفِيَ عَنْهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي خِطَابِهِ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ فِي حَالِ كُفْرِهِ ، مَعَ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا بَعْدَ إسْلَامِهِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذَا رِوَايَتَانِ .
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ ، فَذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ شَاقِلَا عَنْ أَحْمَدَ ، فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ ، رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : لَا يَلْزَمُهُ .
وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ فِي حَالِ كُفْرِهِ ، وَلَا فِي حَالِ إسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ .
وَلَوْ كَانَ قَدْ حَجَّ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهُ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ قَدْ حَبِطَ بِكُفْرِهِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } .
فَصَارَ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ .
وَالثَّانِيَةُ : يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ ، وَإِسْلَامِهِ قَبْلَ رِدَّتِهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ إنَّمَا يَحْبَطُ بِالْإِشْرَاكِ مَعَ الْمَوْتِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ } .
فَشَرَطَ الْأَمْرَيْنِ لِحُبُوطِ الْعَمَلِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ ، وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ وَقَدَرَ عَلَى التَّسَبُّبِ إلَى أَدَائِهَا ، فَلَزِمَهُ ذَلِكَ ، كَالْمُحْدِثِ .
وَلَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّةُ لَمْ يَلْزَمْهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً ثَالِثَةً ، أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِمَا تَرَكَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ فِي حَالٍ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهَا لِكُفْرِهِ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَ فِي إسْلَامِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَمُخَاطَبًا بِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ ، فَبَقِيَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِحَالِهِ .
قَالَ : وَهَذَا الْمَذْهَبُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الْحَجِّ إنْ كَانَ قَدْ حَجَّ ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ مِنْهُ بِفِعْلِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، كَالصَّلَاةِ الَّتِي صَلَّاهَا فِي إسْلَامِهِ ؛ وَلِأَنَّ الرِّدَّةِ لَوْ أَسْقَطَتْ حَجَّهُ وَأَبْطَلَتْهُ ، لَأَبْطَلَتْ سَائِرَ عِبَادَاتِهِ الْمَفْعُولَةِ قَبْلَ رِدَّتِهِ .
( 548 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ .
وَعَنْهُ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى مَنْ بَلَغَ عَشْرًا وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَعَلَى قَوْلِنَا إنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ، مَتَى صَلَّى فِي الْوَقْتِ ، ثُمَّ بَلَغَ فِيهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا ، وَفِي أَثْنَائِهَا ، فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُجْزِئُهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَتُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى وَظِيفَةَ الْوَقْتِ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ إعَادَتُهَا ، كَالْبَالِغِ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ، وَقَبْلَ سَبَبِ وُجُوبِهَا ، فَلَمْ تَجْزِهِ عَمَّا وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ ، وَلِأَنَّهُ صَلَّى
نَافِلَةً ، فَلَمْ تَجْزِهِ عَنْ الْوَاجِبِ ، كَمَا لَوْ نَوَى نَفْلًا ، وَلِأَنَّهُ بَلَغَ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ وَبَعْدَ فِعْلِهَا ، فَلَزِمَتْهُ إعَادَتُهَا كَالْحَجِّ ، وَوَظِيفَةُ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْبَالِغِ ظُهْرًا وَاجِبَةٌ ، وَلَمْ يَأْتِ بِهَا .
( 549 ) فَصْلٌ : وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ ، وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا تَرَكَ فِي حَالِ جُنُونِهِ ، إلَّا أَنْ يُفِيقَ وَقْتَ الصَّلَاةِ ، فَيَصِيرَ كَالصَّبِيِّ يَبْلُغُ .
وَلَا نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ ؛ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَشِبَّ ، وَعَنْ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَلِأَنَّ مُدَّتَهُ تَطُولُ غَالِبًا ، فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ يَشُقُّ ، فَعُفِيَ عَنْهُ .
( 550 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي حَالِ إغْمَائِهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ حُكْمُ النَّائِمِ ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَجِبُ قَضَاؤُهَا عَلَى النَّائِمِ ؛ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يُفِيقَ فِي جُزْءٍ مِنْ وَقْتِهَا ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ { سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُغْمَى عَلَيْهِ ، فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَضَاءٌ إلَّا أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ ، فَيُفِيقَ فِي وَقْتِهَا ، فَيُصَلِّيَهَا } .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ قَضَاهَا ، وَإِنْ زَادَتْ سَقَطَ فَرْضُ الْقَضَاءِ فِي الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي التَّكْرَارِ ، فَأَسْقَطَ الْقَضَاءَ ، كَالْجُنُونِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ ، أَنَّ عَمَّارًا غُشِيَ عَلَيْهِ أَيَّامًا لَا يُصَلِّي ، ثُمَّ اسْتَفَاقَ بَعْدَ ثَلَاثٍ ، فَقَالَ : هَلْ صَلَّيْتُ ؟ فَقِيلَ : مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ ثَلَاثٍ .
فَقَالَ : أَعْطُونِي وَضُوءًا ، فَتَوَضَّأَ ، ثُمَّ صَلَّى تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَرَوَى أَبُو مِجْلَزٍ ، أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ ، قَالَ : الْمُغْمَى عَلَيْهِ - يَتْرُكُ الصَّلَاةَ ، أَوْ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ - يُصَلِّي مَعَ كُلِّ صَلَاةٍ صَلَاةً مِثْلَهَا قَالَ : قَالَ عِمْرَانُ : زَعْمٌ ، وَلَكِنْ لِيُصَلِّهِنَّ جَمِيعًا .
وَرَوَى الْأَثْرَمُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي " سُنَنِهِ " .
وَهَذَا فِعْلُ الصَّحَابَةِ وَقَوْلُهُمْ ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمْ مُخَالِفًا ، فَكَانَ إجْمَاعًا .
وَلِأَنَّ الْإِغْمَاءَ لَا يُسْقِطُ فَرْضَ الصِّيَامِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ ، فَأَشْبَهَ النَّوْمَ .
فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ فَبَاطِلٌ يَرْوِيهِ الْحَاكِمُ بْنُ سَعْدٍ ، وَقَدْ نَهَى أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، عَنْ حَدِيثِهِ ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : تَرَكُوهُ .
وَفِي إسْنَادِهِ خَارِجَةُ بْنُ
مُصْعَبٍ .
وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ تَتَطَاوَلُ مُدَّتُهُ غَالِبًا ، وَقَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ صِيَامٌ ، وَلَا شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ ، وَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَالْإِغْمَاءُ بِخِلَافِهِ ، وَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ الْخَمْسِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ الزَّائِدِ عَلَيْهَا ، كَالنَّوْمِ .
( 551 ) فَصْلٌ : وَمَنْ شَرِبَ دَوَاءً فَزَالَ عَقْلُهُ بِهِ نَظَرْتَ ؛ فَإِنْ كَانَ زَوَالًا لَا يَدُومُ كَثِيرًا ، فَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَطَاوَلُ ، فَهُوَ كَالْجُنُونِ .
وَأَمَّا السُّكْرُ ، وَمَنْ شَرِبَ مُحَرَّمًا يُزِيلُ عَقْلَهُ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ التَّكْلِيفِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ فِي حَالِ زَوَالِ عَقْلِهِ .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالنَّوْمِ الْمُبَاحِ ، فَبِالسُّكْرِ الْمُحَرَّمِ أَوْلَى .
( 552 ) فَصْلٌ : وَمَا فِيهِ السُّمُومُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ ؛ إنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ شُرْبِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ الْهَلَاكَ بِهِ ، أَوْ الْجُنُونَ ، لَمْ يُبَحْ شُرْبُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ السَّلَامَةَ وَيُرْتَجَى مِنْهُ الْمَنْفَعَةُ ، فَالْأَوْلَى إبَاحَةُ شُرْبِهِ ، لِدَفْعِ مَا هُوَ أَخْطَرُ مِنْهُ ، كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُبَاحَ ؛ لِأَنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ ، فَلَمْ يُبَحْ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّدَاوِيَ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ يُخَافُ مِنْهُ ، وَقَدْ أُبِيحَ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ ، فَإِذَا قُلْنَا يَحْرُمُ شُرْبُهُ ، فَهُوَ كَالْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا يُبَاحُ ، فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَدْوِيَةِ الْمُبَاحَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْأَذَانِ الْأَذَانُ إعْلَامٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْأَذَانِ الْإِعْلَامُ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ : إعْلَامٌ ، وَ : { آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ } أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ ، فَاسْتَوَيْنَا فِي الْعِلْمِ .
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ : آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ أَيْ : أَعْلَمَتْنَا .
وَالْأَذَانُ الشَّرْعِيُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمَعْلُومُ الْمَشْرُوعُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لِلْإِعْلَامِ بِوَقْتِهَا .
وَفِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ، بِدَلِيلِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ } .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : { إذَا كُنْتَ فِي غَنَمِك ، أَوْ بَادِيَتِك ، فَأَذَّنْت بِالصَّلَاةِ ، فَارْفَعْ صَوْتَك بِالنِّدَاءِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ أُرَاهُ قَالَ : يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَغْبِطُهُمْ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ ، رَجُلٌ نَادَى بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ؛ وَرَجُلٌ يَؤُمُّ قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ ، وَعَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ } .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
( 553 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ ، هَلْ الْأَذَانُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِمَامَةِ ، أَوْ لَا ؟ فَرُوِيَ أَنَّ الْإِمَامَةَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ ، وَلَمْ يَتَوَلَّوْا الْأَذَانَ ، وَلَا يَخْتَارُونَ إلَّا الْأَفْضَلَ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَةَ يُخْتَارُ لَهَا مَنْ هُوَ أَكْمَلُ حَالًا وَأَفْضَلُ ، وَاعْتِبَارُ فَضِيلَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى فَضِيلَةِ مَنْزِلَتِهِ .
وَالثَّانِيَةُ : الْأَذَانُ أَفْضَلُ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فِي فَضِيلَتِهِ ، وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْإِمَامُ ضَامِنٌ ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ ، اللَّهُمَّ أَرْشِدْ الْأَئِمَّةَ ، وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ } .
أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ وَالْأَمَانَةُ أَعْلَى مِنْ الضَّمَانِ ، وَالْمَغْفِرَةُ أَعْلَى مِنْ الْإِرْشَادِ ، وَلَمْ يَتَوَلَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خُلَفَاؤُهُ ؛ لِضِيقِ وَقْتِهِمْ عَنْهُ ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " لَوْلَا الْخِلَافَةُ لَأَذَّنْتُ " .
وَهَذَا اخْتِيَارُ الْقَاضِي ، وَابْنِ أَبِي مُوسَى ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 554 ) فَصْلٌ : وَالْأَصْلُ فِي الْأَذَانِ ، مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ ، قَالَ : { حَدَّثَنِي أَبِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ ، قَالَ : لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيُضْرَبَ بِهِ لِجَمْعِ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ ، طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ ، فَقُلْت : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ ؟ فَقَالَ : وَمَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ قُلْتُ : نَدْعُو بِهِ إلَى الصَّلَاةِ .
قَالَ : أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : بَلَى ، فَقَالَ : تَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ،
اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
قَالَ : ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ ، ثُمَّ قَالَ : تَقُولُ إذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ ، فَقَالَ : إنَّهَا رُؤْيَا حَقٌّ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ ، فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ ، فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ ، فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ ، وَيُؤَذِّنُ بِهِ ، فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ ، فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ الَّذِي رَأَى .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
} رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ آخِرَهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مَشْرُوعٌ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ .
( 555 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ( وَيَذْهَبُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهَ ، إلَى أَذَانِ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ ، أَنَّ اخْتِيَارَ أَحْمَدَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، مِنْ الْأَذَانِ أَذَانُ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ كَمَا وَصَفَ الْخِرَقِيِّ .
وَجَاءَ فِي خَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، وَهُوَ خَمْسَ عَشْرَةَ كِلْمَةً ، لَا تَرْجِيعَ فِيهِ .
وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَإِسْحَاقُ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَمَنْ تَبِعَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ : الْأَذَانُ الْمَسْنُونُ أَذَانُ أَبِي مَحْذُورَةَ ، وَهُوَ مِثْلُ مَا وَصَفْنَا ، إلَّا أَنَّهُ يُسَنُّ التَّرْجِيعُ ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ الشَّهَادَتَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، يَخْفِضُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ ، ثُمَّ يُعِيدُهُمَا رَافِعًا بِهِمَا صَوْتَهُ ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : التَّكْبِيرُ فِي أَوَّلِهِ مَرَّتَانِ حَسْبُ ، فَيَكُونُ الْأَذَانُ عِنْدَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً .
وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى أَبُو مَحْذُورَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَّنَهُ الْأَذَانَ ، وَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ تَقُولُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
تَخْفِضُ بِهَا صَوْتَك ، ثُمَّ تَرْفَعُ صَوْتَك بِالشَّهَادَةِ .
أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
} ثُمَّ ذَكَرَ سَائِرَ
الْأَذَانِ .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ ابْنَ مُحَيْرِيزٍ ، قَالَ : كَانَ الْأَذَانُ الَّذِي يُؤَذِّنُ بِهِ أَبُو مَحْذُورَةَ ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، وَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَائِمًا ، سَفَرًا وَحَضَرًا ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَذَانِهِ بَعْدَ أَذَانِ أَبِي مَحْذُورَةَ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ : إلَى أَيِّ الْأَذَانِ يَذْهَبُ ؟ قَالَ : إلَى أَذَانِ بِلَالٍ ، رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، ثُمَّ وَصَفَهُ .
قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : أَلَيْسَ حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ بَعْدَ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ أَبِي مَحْذُورَةَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ ؟ فَقَالَ : أَلَيْسَ قَدْ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ؛ فَأَقَرَّ بِلَالًا عَلَى أَذَانِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ؟ وَهَذَا مِنْ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ ، فَإِنْ رَجَّعَ فَلَا بَأْسَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ فَإِنَّ الْأَمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَ أَبَا مَحْذُورَةَ بِذِكْرِ الشَّهَادَتَيْنِ سِرًّا ، لِيَحْصُلَ لَهُ الْإِخْلَاصُ بِهِمَا ، فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ فِي الْإِسْرَارِ بِهِمَا أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِمَا إعْلَانًا لِلْإِعْلَامِ ، وَخَصَّ أَبَا مَحْذُورَةَ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِمَا حِينَئِذٍ ، فَإِنَّ فِي الْخَبَرِ { أَنَّهُ كَانَ مُسْتَهْزِئًا يَحْكِي أَذَانَ مُؤَذِّنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَهُ ، فَدَعَاهُ ، فَأَمَرَهُ بِالْأَذَانِ ، قَالَ : وَلَا شَيْءَ
عِنْدِي أَبْغَضُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِمَّا يَأْمُرُنِي بِهِ } .
فَقَصَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُطْقَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ سِرًّا لِيُسْلِمَ بِذَلِكَ وَلَا يُوجَدُ هَذَا فِي غَيْرِهِ ، وَدَلِيلُ هَذَا الِاحْتِمَالِ كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ بِلَالًا ، وَلَا غَيْرَهُ مِمَّنْ كَانَ مُسْلِمًا ثَابِتَ الْإِسْلَامِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( 556 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَالْإِقَامَةُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةُ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ) وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْإِقَامَةُ مِثْلُ الْأَذَانِ ، وَيَزِيدُ الْإِقَامَةَ مَرَّتَيْنِ ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، { أَنَّ الَّذِي عَلَّمَهُ الْأَذَانَ أَمْهَلَ هُنَيْهَةً ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَى ابْنُ مُحَيْرِيزٍ ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ الْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ : الْإِقَامَةُ عَشْرُ كَلِمَاتٍ ، تَقُولُ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ { أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يَشْفَعَ الْأَذَانَ ، وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّمَا كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً ، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ ، قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ .
} أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ .
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، أَنَّهُ وَصَفَ الْإِقَامَةَ كَمَا ذَكَرْنَا ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِ : فَقَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا .
فَقَدْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : الصَّحِيحُ مِثْلُ مَا رَوَيْنَاهُ .
وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ : الصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ : " ثُمَّ اسْتَأْخَرَ غَيْرَ كَثِيرٍ ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ ، وَجَعَلَهَا وِتْرًا ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتْ
الصَّلَاةُ " .
وَهَذِهِ زِيَادَةُ بَيَانٍ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا ، وَتَقْدِيمُ الْعَمَلِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْمَشْرُوحَةِ .
وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي مَحْذُورَةَ فِي تَثْنِيَةِ الْإِقَامَةِ ، فَإِنْ ثَبَتَ كَانَ الْأَخْذُ بِخَبَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَذَانُ بِلَالٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوبَ تَقْدِيمِهِ فِي الْأَذَانِ ، وَكَذَا فِي الْإِقَامَةِ ، وَخَبَرُ أَبِي مَحْذُورَةَ مَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي التَّرْجِيعِ فِي الْإِقَامَةِ ، وَلِذَلِكَ عَمِلْنَا نَحْنُ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِخَبَرِهِ فِي الْأَذَانِ ، وَأَخَذَ بِأَذَانِهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَهُمَا يَرَيَانِ إفْرَادَ الْإِقَامَةِ .
( 557 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَتَرَسَّلُ فِي الْأَذَانِ وَيَحْدُرُ الْإِقَامَةَ ) التَّرَسُّلُ التَّمَهُّلُ وَالتَّأَنِّي .
مِنْ قَوْلِهِمْ : جَاءَ فُلَانٌ عَلَى رِسْلِهِ .
وَالْحَدْرُ : ضِدُّ ذَلِكَ ، وَهُوَ الْإِسْرَاعُ ، وَقَطْعُ التَّطْوِيلِ وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْأَذَانِ وَمُسْتَحَبَّاتِهِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْدُرْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ : إذَا أَذَّنْت فَتَرَسَّلْ ، وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذِمْ .
قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : وَأَصْلُ الْحَذْمِ فِي الْمَشْيِ إنَّمَا هُوَ الْإِسْرَاعُ ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ هَذَا كَأَنَّهُ يَهْوِي بِيَدَيْهِ إلَى خَلْفِهِ .
وَلِأَنَّ هَذَا مَعْنًى يَحْصُلُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ ، فَاسْتُحِبَّ ، كَالْإِفْرَادِ ، وَلِأَنَّ ، الْأَذَانَ إعْلَامُ الْغَائِبِينَ ، وَالتَّثْبِيتُ فِيهِ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ ، وَالْإِقَامَةَ إعْلَامُ الْحَاضِرِينَ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّثَبُّتِ فِيهَا .
( 558 ) فَصْلٌ : ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ ، أَنَّهُ حَالَ تَرَسُّلِهِ وَدَرَجِهِ ، لَا يَصِلُ الْكَلَامَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مُعْرَبًا ، بَلْ جَزْمًا .
وَحَكَاهُ عَنْ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ ، عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ .
قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ : شَيْئَانِ مَجْزُومَانِ كَانُوا لَا يُعْرِبُونَهُمَا ؛ الْأَذَانُ ، وَالْإِقَامَةُ ، قَالَ : وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى جَمَاعَتِهِمْ .
( 559 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَقُولُ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ : الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ .
مَرَّتَيْنِ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يَقُولَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ : الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ .
مَرَّتَيْنِ ، بَعْدَ قَوْلِهِ : حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ .
وَيُسَمَّى التَّثْوِيبَ .
وَبِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : التَّثْوِيبُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْفَجْرِ ، أَنْ يَقُولَ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، مَرَّتَيْنِ .
حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ .
مَرَّتَيْنِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى النَّسَائِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ ، قَالَ { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَلِّمْنِي سُنَّةَ الْأَذَانِ ، فَذَكَرَهُ ، إلَى أَنْ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ : فَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، قُلْت : الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ ، مَرَّتَيْنِ ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَمَا ذَكَرُوهُ ، فَقَالَ إِسْحَاقُ : هَذَا شَيْءٌ أَحْدَثَهُ النَّاسُ .
وَقَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا التَّثْوِيبُ الَّذِي كَرِهَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ .
وَهُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَمَّا سَمِعَهُ .
( 560 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ التَّثْوِيبُ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ ، سَوَاءٌ ثَوَّبَ فِي الْأَذَانِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ بِلَالٍ ، أَنَّهُ قَالَ : { أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْفَجْرِ ، وَنَهَانِي أَنْ أُثَوِّبَ فِي الْعِشَاءِ .
} رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ ، فَسَمِعَ رَجُلًا يُثَوِّبُ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ ، فَخَرَجَ ، فَقِيلَ لَهُ : أَيْنَ ؟ فَقَالَ : أَخْرَجَتْنِي الْبِدْعَةُ .
وَلِأَنَّ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَقْتٌ يَنَامُ فِيهِ عَامَّةُ النَّاسِ ، وَيَقُومُونَ إلَى الصَّلَاةِ عَنْ نَوْمٍ ، فَاخْتُصَّتْ بِالتَّثْوِيبِ ، لِاخْتِصَاصِهَا بِالْحَاجَةِ إلَيْهِ .
( 561 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ إلَّا لِعُذْرٍ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، أَنْ لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْأَذَانِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ .
قَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ : كُنَّا قُعُودًا مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْمَسْجِدِ يَمْشِي ، فَأَتْبَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بَصَرَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَدْرَكَهُ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ خَرَجَ ، لَمْ يَخْرُجْ لِحَاجَةٍ ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ ، فَهُوَ مُنَافِقٌ } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
فَأَمَّا الْخُرُوجُ لِعُذْرٍ فَمُبَاحٌ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ خَرَجَ مِنْ أَجْلِ التَّثْوِيبِ فِي غَيْرِ حِينِهِ .
وَكَذَلِكَ مَنْ نَوَى الرَّجْعَةَ ؛ لِحَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( 562 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ أَذَّنَ لِغَيْرِ الْفَجْرِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ، أَعَادَ إذَا دَخَلَ الْوَقْتُ ) .
( 563 ) فَصْلٌ : الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي أَنَّ الْأَذَانَ قَبْلَ الْوَقْتِ فِي غَيْرِ الْفَجْرِ لَا يُجْزِئُ .
وَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذَّنَ لِلصَّلَوَاتِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا ، إلَّا الْفَجْرَ .
وَلِأَنَّ الْأَذَانَ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِالْوَقْتِ ، فَلَا يُشْرَعُ قَبْلَ الْوَقْتِ ، لِئَلَّا يُذْهِبَ مَقْصُودَهُ .
( 564 ) فَصْلٌ : الْفَصْلُ الثَّانِي ، أَنَّهُ يُشْرَعُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ قَبْلَ وَقْتِهَا .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَمَنَعَهُ الثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ ، { أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْجِعَ فَيُنَادِيَ : أَلَا إنَّ الْعَبْدَ نَامَ ، أَلَا إنَّ الْعَبْدَ نَامَ } وَعَنْ بِلَالٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَك الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَيْهِ عَرْضًا } .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد .
وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ : إذَا كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ ، يُؤَذِّنُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَالْآخَرُ بَعْدَهُ ، فَلَا بَأْسَ ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ يُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِعْلَامِ بِالْوَقْتِ ، فَلَمْ يَجُزْ ، كَبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ يَحْصُلُ إعْلَامُ الْوَقْتِ بِأَحَدِهِمَا ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ ، فَثَبَتَ جَوَازُهُ وَرَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ ، قَالَ { لَمَّا كَانَ أَوَّلُ أَذَانِ الصُّبْحِ أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذَّنْتُ ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ : أُقِيمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ ، وَيَقُولُ : لَا .
حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ نَزَلَ ، فَبَرَزَ ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيَّ وَقَدْ تَلَاحَقَ أَصْحَابُهُ ، فَتَوَضَّأَ ، فَأَرَادَ بِلَالٌ أَنْ يُقِيمَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ أَخَا صُدَاءٍ قَدْ أَذَّنَ ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ قَالَ :
فَأَقَمْتُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ : وَهَذَا قَدْ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ ، فَإِنَّ زِيَادًا أَذَّنَ وَحْدَهُ .
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ ، قَالَ أَبُو دَاوُد : لَمْ يَرْوِهِ إلَّا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، والدراوردي ، فَخَالَفَاهُ ، وَقَالَا : مُؤَذِّنٌ لِعُمَرَ .
وَهَذَا أَصَحُّ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ : أَخْطَأَ فِيهِ ، يَعْنِي حَمَّادًا ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هُوَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ .
وَحَدِيثُهُمْ الْآخَرُ ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا يَقُومُ بِهِ وَلَا بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ ؛ لِضَعْفِهِ وَانْقِطَاعِهِ .
وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْفَجْرُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ ، لِيَنْتَبِهَ النَّاسُ ، وَيَتَأَهَّبُوا لِلْخُرُوجِ إلَى الصَّلَاةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي حَدِيثٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ؛ لِيَنْتَبِهَ نَائِمُكُمْ ، وَيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْوَقْتِ كَثِيرًا ، إذَا كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، فَيُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ بِلَالًا كَانَ بَيْنَ أَذَانِهِ وَأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَصْعَدَ هَذَا } .
وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا أَنْ لَا يُؤَذِّنَ قَبْلَ الْفَجْرِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مُؤَذِّنٌ آخَرُ يُؤَذِّنُ إذَا أَصْبَحَ .
كَفِعْلِ بِلَالٍ وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الْإِعْلَامُ بِالْوَقْتِ الْمَقْصُودِ بِالْأَذَانِ ، فَإِذَا كَانَا مُؤَذِّنَيْنِ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِالْوَقْتِ بِالثَّانِي ، وَبِقُرْبِهِ بِالْمُؤَذِّنِ الْأَوَّلِ .
فَصْلٌ : وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُؤَذِّنُ قَبْلَ الْوَقْتِ أَنْ يَجْعَلَ أَذَانَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي اللَّيَالِي كُلِّهَا ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ ، فَيَعْرِفُوا الْوَقْتَ بِأَذَانِهِ ، وَلَا يُؤَذِّنُ فِي الْوَقْتِ تَارَةً وَقَبْلَهُ أُخْرَى ، فَيَلْتَبِسَ عَلَى النَّاسِ وَيَغْتَرُّوا بِأَذَانِهِ ، فَرُبَّمَا صَلَّى بَعْضُ مَنْ سَمِعَهُ الصُّبْحَ بِنَاءً عَلَى أَذَانِهِ قَبْلَ وَقْتِهَا ، وَرُبَّمَا ، امْتَنَعَ الْمُتَسَحِّرُ مِنْ سَحُورِهِ ، وَالْمُتَنَفِّلُ مِنْ صَلَاتِهِ ، بِنَاءً عَلَى أَذَانِهِ وَمَنْ عَلِمَ لَا يَسْتَفِيدُ بِأَذَانِهِ فَائِدَةً ؛ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ .
وَلَا يُقَدِّمُ الْأَذَانَ كَثِيرًا تَارَةً وَيُؤَخِّرُهُ أُخْرَى ، فَلَا يُعْلَمُ الْوَقْتُ بِأَذَانِهِ ، فَتَقِلُّ فَائِدَتُهُ .
( 566 ) فَصْلٌ : قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : وَيَجُوزُ الْأَذَانُ لِلْفَجْرِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَخْرُجُ وَقْتُ الْعِشَاءِ الْمُخْتَارُ ، وَيَدْخُلُ وَقْتُ الدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ ؛ وَوَقْتُ رَمْيِ الْجَمْرَةِ ، وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَقَدْ رَوَى الْأَثْرَمُ ، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : كَانَ مُؤَذِّنُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ يُؤَذِّنُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي السَّحَرِ بِقَدْرِ مَا يَسِيرُ الرَّاكِبُ سِتَّةَ أَمْيَالٍ ، فَلَا يُنْكِرُ ذَلِكَ مَكْحُولٌ ، وَلَا يَقُولُ فِيهِ شَيْئًا .
( 567 ) فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ الْأَذَانُ قَبْلَ الْفَجْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ ، لِئَلَّا يَغْتَرَّ النَّاسُ بِهِ فَيَتْرُكُوا سَحُورَهُمْ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُكْرَهَ فِي حَقِّ مَنْ عَرَفَ عَادَتَهُ بِالْأَذَانِ فِي اللَّيْلِ ؛ لِأَنَّ بِلَالًا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ سَحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ ، لِيَنْتَبِهَ نَائِمُكُمْ وَيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ } .
( 568 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ، لِيَعْلَمَ النَّاسُ ، فَيَأْخُذُوا أُهْبَتَهُمْ لِلصَّلَاةِ .
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ قَالَ : كَانَ بِلَالٌ لَا يُؤَخِّرُ الْأَذَانَ عَنْ الْوَقْتِ ، وَرُبَّمَا أَخَّرَ الْإِقَامَةَ شَيْئًا .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : { كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ إذَا مَالَتْ الشَّمْسُ ، لَا يُؤَخِّرُ ، ثُمَّ لَا يُقِيمُ حَتَّى يَخْرُجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا خَرَجَ أَقَامَ حِينَ يَرَاهُ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ " .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ ، بِقَدْرِ الْوُضُوءِ وَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ ، يَتَهَيَّئُونَ فِيهَا ، وَفِي الْمَغْرِبِ يَفْصِلَ بِجَلْسَةٍ خَفِيفَةٍ .
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ لَا يُسَنُّ فِي الْمَغْرِبِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " مُسْنَدِهِ " بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا بِلَالُ ، اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِك وَإِقَامَتِك نَفَسًا ، يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ طَعَامِهِ فِي مَهَلٍ ، وَيَقْضِي حَاجَتَهُ فِي مَهَلٍ } .
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ : اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِك وَإِقَامَتِك قَدْرَ مَا يَفْرُغُ الْآكِلُ مِنْ أَكْلِهِ ، وَالشَّارِبُ مِنْ شُرْبِهِ ، وَالْمُعْتَصِرُ إذَا دَخَلَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَرَوَى تَمَّامٌ فِي " فَوَائِدِهِ " ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { جُلُوسُ الْمُؤَذِّنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي الْمَغْرِبِ سُنَّةٌ } .
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ : رَأَيْت أَحْمَدَ خَرَجَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ ، فَحِينَ انْتَهَى إلَى مَوْضِعِ الصَّفِّ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ ، فَجَلَسَ .
وَرَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ وَبِلَالٌ فِي الْإِقَامَةِ ،
فَقَعَدَ } وَقَالَ أَحْمَدُ : يَقْعُدُ الرَّجُلُ مِقْدَارَ رَكْعَتَيْنِ إذَا أُذِّنَ الْمَغْرِبُ .
قِيلَ مِنْ أَيْنَ ؟ قَالَ : مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ ابْتَدَرُوا السَّوَارِيَ وَصَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ وَلِأَنَّ الْأَذَانَ مُشَرَّعٌ لِلْإِعْلَامِ ، فَيُسَنُّ الِانْتِظَارُ لِيُدْرِكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَيَتَهَيَّئُوا لَهَا ، دَلِيلُهُ سَائِرُ الصَّلَوَاتِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَلَا يَسْتَحِبُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يُؤَذِّنَ إلَّا طَاهِرًا ، فَإِنْ أَذَّنَ جُنُبًا أَعَادَ ) الْمُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا مِنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْجَنَابَةِ جَمِيعًا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يُؤَذِّنُ إلَّا مُتَوَضِّئٌ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَرُوِيَ مَوْقُوفًا ، عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْمَرْفُوعِ .
فَإِنْ أَذَّنَ مُحْدِثًا جَازَ ، لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَالطَّهَارَةُ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ لَهُ .
وَإِنْ أَذَّنَ جُنُبًا ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يُعْتَدُّ بِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ .
وَالْأُخْرَى ، يُعْتَدُّ بِهِ .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ : هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْحَدَثَيْنِ ، فَلَمْ يُمْنَعُ صِحَّتُهُ كَالْآخَرِ .
وَوَجْهُ الْأُولَى مَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { حَقٌّ وَسُنَّةٌ أَنْ لَا يُؤَذِّنَ أَحَدٌ إلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ } ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَشْرُوعٌ لِلصَّلَاةِ ، فَأَشْبَهَ الْقُرْآنَ وَالْخُطْبَةَ .
( 570 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ الْأَذَانُ إلَّا مِنْ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ ذَكَرٍ ، فَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمَجْنُونُ ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ .
وَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّنْ يُشْرَعُ لَهُ الْأَذَانُ ، فَأَشْبَهَتْ الْمَجْنُونَ ، وَلَا الْخُنْثَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ رَجُلًا .
وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَالْبُلُوغُ لِلِاعْتِدَادِ بِهِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فِي الصَّبِيِّ ، وَوَجْهَيْنِ فِي الْفَاسِقِ : إحْدَاهُمَا : يُشْتَرَطُ ذَلِكَ ، وَلَا يُعْتَدُّ بِأَذَانِ صَبِيٍّ وَلَا فَاسِقٍ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ ، وَلَا يَحْصُلُ الْإِعْلَامُ بِقَوْلِهِمَا ، لِأَنَّهُمَا مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ وَلَا رِوَايَتُهُ .
وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ : { لِيُؤَذِّنْ لَكُمْ خِيَارُكُمْ } .
وَالثَّانِيَةُ : يُعْتَدُّ بِأَذَانِهِ .
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ عُمُومَتِي يَأْمُرُونَنِي أَنْ أُؤَذِّنَ لَهُمْ وَأَنَا غُلَامٌ ، وَلَمْ أَحْتَلِمْ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ شَاهِدٌ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ .
وَهَذَا مِمَّا يَظْهَرُ وَلَا يَخْفَى ، وَلَمْ يُنْكَرْ ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرٌ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ، فَاعْتُدَّ بِأَذَانِهِ ، كَالْعَدْلِ الْبَالِغِ .
وَلَا خِلَافَ فِي الِاعْتِدَادِ بِأَذَانِ مَنْ هُوَ مَسْتُورُ الْحَالِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنْ هُوَ ظَاهِرُ الْفِسْقِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ عَدْلًا أَمِينًا بَالِغًا لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَغُرَّهُمْ بِأَذَانِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ يُؤَذِّنُ عَلَى مَوْضِعٍ عَالٍ ، فَلَا يُؤْمَنُ مِنْهُ النَّظَرُ إلَى الْعَوْرَاتِ .
وَفِي الْأَذَانِ الْمُلَحَّنِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ مِنْهُ ، فَهُوَ كَغَيْرِ الْمُلَحَّنِ .
وَالْآخَرُ ، لَا يَصِحُّ ؛
لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَذِّنٌ يُطْرِبُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ ، فَإِنْ كَانَ أَذَانُك سَهْلًا سَمْحًا ، وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ } .
( 571 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ بَصِيرًا ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَعْرِفُ الْوَقْتَ ، فَرُبَّمَا غَلِطَ ، فَإِنْ أَذَّنَ الْأَعْمَى صَحَّ أَذَانُهُ فَإِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ كَانَ يُؤَذِّنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ابْنُ عَمْرٍو : كَانَ رَجُلًا أَعْمَى لَا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ " أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ بَصِيرٌ يُعَرِّفُهُ الْوَقْتَ ، أَوْ يُؤَذِّنَ بَعْدَ مُؤَذِّنٍ بَصِيرٍ ، كَمَا كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ بَعْدَ أَذَانِ بِلَالٍ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْأَوْقَاتِ ؛ لِيَتَحَرَّاهَا ، فَيُؤَذِّنَ فِي أَوَّلِهَا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَرُبَّمَا غَلِطَ وَأَخْطَأَ .
فَإِنْ أَذَّنَ الْجَاهِلُ صَحَّ أَذَانُهُ ، فَإِنَّهُ إذَا صَحَّ أَذَانُ الْأَعْمَى فَالْجَاهِلُ أَوْلَى .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا ، يُسْمِعُ النَّاسَ { وَاخْتَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ لِلْأَذَانِ } لِكَوْنِهِ صَيِّتًا ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ ؛ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْك } وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ ؛ لِأَنَّهُ أَرَقُّ لِسَامِعِهِ .
( 572 ) فَصْلٌ : وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْأَذَانِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَكَرِهَهُ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ : وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَلِأَنَّهُ قُرْبَةٌ لِفَاعِلِهِ ، لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ مُسْلِمٍ ، فَلَمْ يَسْتَأْجِرْهُ عَلَيْهِ كَالْإِمَامَةِ .
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ .
وَرَخَّصَ فِيهِ مَالِكٌ ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ ، يَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ ، فَجَازَ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ ، كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي جَوَازِ أَخْذِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ .
وَهَذَا قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةً إلَيْهِ ، وَقَدْ لَا يُوجَدُ مُتَطَوِّعٌ بِهِ ، وَإِذَا لَمْ يُدْفَعْ الرِّزْقُ فِيهِ يُعَطَّلُ ، وَيَرْزُقُهُ الْإِمَامُ مِنْ الْفَيْءِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُعَدُّ لِلْمَصَالِحِ ، فَهُوَ كَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْغُزَاةِ ، وَإِنْ وُجِدَ مُتَطَوِّعٌ بِهِ لَمْ يَرْزُقْ غَيْرَهُ ؛ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
( 573 ) فَصْلٌ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى الْإِقَامَةَ مَنْ تَوَلَّى الْأَذَانَ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ { أَنَّهُ رَأَى الْأَذَانَ فِي الْمَنَامِ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ ، فَأَذَّنَ بِلَالٌ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : أَنَا رَأَيْتُهُ ، وَأَنَا كُنْتُ أُرِيدُهُ .
قَالَ : أَقِمْ أَنْتَ } .
وَلِأَنَّهُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ .
فَأَشْبَهَ مَا لَوْ تَوَلَّاهُمَا مَعًا وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ { إنَّ أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ ، وَمَنْ أَذَّنَ فَهُوَ يُقِيمُ } .
وَلِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مِنْ الذِّكْرِ ، يَتَقَدَّمَانِ الصَّلَاةَ ، فَيُسَنُّ أَنْ يَتَوَلَّاهُمَا وَاحِدٌ ، كَالْخُطْبَتَيْنِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ ، وَهَذَا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ ، فَإِنْ سُبِقَ الْمُؤَذِّنُ بِالْأَذَانِ ، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُقِيمَ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : لَوْ أَعَادَ الْأَذَانَ كَمَا صَنَعَ أَبُو مَحْذُورَةَ ، كَمَا رَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ ، قَالَ : رَأَيْت رَجُلًا أَذَّنَ قَبْلَ أَبِي مَحْذُورَةَ قَالَ : فَجَاءَ أَبُو مَحْذُورَةَ فَأَذَّنَ ، ثُمَّ أَقَامَ .
أَخْرَجَهُ الْأَثْرَمُ .
فَإِنْ أَقَامَ مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ فَلَا بَأْسَ ، وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ؛ لِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ .
( 574 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقِيمَ فِي مَوْضِعِ أَذَانِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُقِيمَ فِي مَكَانِهِ ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ إلَّا حَدِيثَ بِلَالٍ : " لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ " يَعْنِي لَوْ كَانَ يُقِيمُ فِي مَوْضِعِ صَلَاتِهِ ، لَمَا خَافَ أَنْ يَسْبِقَهُ بِالتَّأْمِينِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُكَبِّرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْإِقَامَةِ ، وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ شُرِعَتْ لِلْإِعْلَامِ ، فَشُرِعَتْ فِي مَوْضِعِهِ ، لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الْإِعْلَامِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : كُنَّا إذَا سَمِعْنَا الْإِقَامَةَ تَوَضَّأْنَا ثُمَّ خَرَجْنَا إلَى الصَّلَاةِ .
إلَّا أَنْ يُؤَذِّنَ فِي الْمَنَارَةِ أَوْ مَكَان بَعِيدٍ مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَيُقِيمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، لِئَلَّا يَفُوتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ .
( 575 ) فَصْلٌ : وَلَا يُقِيمُ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ الْإِمَامُ ، فَإِنَّ بِلَالًا كَانَ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقِيمُ أُقِيمُ ؟ .
وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : الْمُؤَذِّنُ أَمْلَكُ بِالْأَذَانِ ، وَالْإِمَامُ أَمْلَكُ بِالْإِقَامَةِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَمَنْ صَلَّى بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ ، كَرِهْنَا لَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يُعِيدُ ) يُكْرَهُ تَرْكُ الْأَذَانِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ صَلَوَاتُهُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ ، وَأَمَرَ بِهِ ، قَالَ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ : { أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَرَجُلٌ نُوَدِّعُهُ ، فَقَالَ : إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمَا ، وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ : أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَهُ مَكْرُوهًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ إلَى الصَّلَاةِ ، فَأَشْبَهَ قَوْلَهُ : الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ : هُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا ، وَقَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ .
وَقَالَ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : هُوَ فَرْضٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِهِ مَالِكًا وَصَاحِبَهُ ، وَدَاوَمَ عَلَيْهِ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ ، وَمُدَاوَمَتُهُ عَلَى فِعْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ ، فَكَانَ فَرْضًا كَالْجِهَادِ فَعَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا ؛ إذَا قَامَ بِهِ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ؛ لِأَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكْتَفِي بِهِ .
وَإِنْ صَلَّى مُصَلٍّ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ ، فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ ، أَنَّهُمَا قَالَا : دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَصَلَّى بِنَا ، بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ فِي ذَلِكَ إلَّا عَطَاءً ، قَالَ : وَمَنْ نَسِيَ الْإِقَامَةَ يُعِيدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ قَالَ مَرَّةً : يُعِيدُ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ ، فَإِنْ مَضَى الْوَقْتُ فَلَا إعَادَةَ
عَلَيْهِ .
وَهَذَا شُذُوذٌ ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ أَحَدُ الْأَذَانَيْنِ ، فَلَمْ تَفْسُدْ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا ، كَالْآخَرِ .
( 577 ) فَصْلٌ : وَمَنْ أَوْجَبَ الْأَذَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا فَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ .
كَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي : لَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ غَيْرِ الْمِصْرِ مِنْ الْمُسَافِرِينَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا لِلصَّلَاةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا شُرِعَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِعْلَامِ بِالْوَقْتِ ، لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ إلَى الصَّلَاةِ ، وَيُدْرِكُوا الْجَمَاعَةَ ، وَيَكْفِي فِي الْمِصْرِ أَذَانٌ وَاحِدٌ ، إذَا كَانَ بِحَيْثُ يُسْمِعُهُمْ .
وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : يَكْفِي أَذَانٌ وَاحِدٌ فِي الْمَحَلَّةِ ، وَيَجْتَزِئُ بَقِيَّتُهُمْ بِالْإِقَامَةِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ ، فِي الَّذِي يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ : يُجْزِئُهُ أَذَانُ الْمِصْرِ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَسْوَدِ ، وَأَبِي مِجْلَزٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ : تَكْفِيهِ الْإِقَامَةُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ : إنْ شَاءَ أَقَامَ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ { : إذَا أَرَدْتَ الصَّلَاةَ فَأَحْسِنْ الْوُضُوءَ ، ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْأَذَانِ ، وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ النَّسَائِيّ : " فَأَقِمْ ، ثُمَّ كَبِّرْ " وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ .
وَالْأَفْضَلُ لِكُلِّ مُصَلٍّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ يُصَلِّي قَضَاءً أَوْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْأَذَانِ ، لَمْ يَجْهَرْ بِهِ .
وَإِنْ كَانَ فِي الْوَقْتِ ، فِي بَادِيَةٍ أَوْ نَحْوِهَا ، اُسْتُحِبَّ لَهُ الْجَهْرُ بِالْأَذَانِ ؛ لِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ : { إذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : سَمِعْت ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} وَعَنْ أَنَسٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُغِيرُ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ ، وَكَانَ إذَا سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ ، وَإِلَّا أَغَارَ ، فَسَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْفِطْرَةِ .
فَقَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجْتَ مِنْ النَّارِ ، فَنَظَرُوا فَإِذَا صَاحِبُ مَعَزٍ } أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
فَصْلٌ : وَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلْأُولَى ، ثُمَّ يُقِيمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ إقَامَةً ، وَإِنْ لَمْ يُؤَذِّنْ فَلَا بَأْسَ .
قَالَ الْأَثْرَمُ ؛ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ رَجُلٍ يَقْضِي صَلَاةً ، كَيْفَ يَصْنَعُ فِي الْأَذَانِ ؟ فَذَكَرَ حَدِيثَ هُشَيْمٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ الْمُشْرِكِينَ شَغَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، حَتَّى ذَهَبَ مِنْ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ ، قَالَ : فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ، وَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ ، فَصَلَّى الْعَصْرَ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ ، فَصَلَّى الْعِشَاءَ } قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ لَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ هُشَيْمٌ ، جَعَلَهَا إقَامَةً إقَامَةً .
قُلْت فَكَأَنَّك تَخْتَارُ حَدِيثَ هُشَيْمٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ هُوَ زِيَادَةٌ ، أَيُّ شَيْءٍ يَضُرُّهُ ؟ وَهَذَا فِي الْجَمَاعَةِ .
فَإِنْ كَانَ يَقْضِي وَحْدَهُ كَانَ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ أَدْنَى فِي حَقِّهِ ، لِأَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لِلْإِعْلَامِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِعْلَامِ هَاهُنَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ فَقَضَاهَا : لِيُؤَذِّنْ ، وَيُقِمْ مَرَّةً وَاحِدَةً ، يُصَلِّيهَا كُلَّهَا .
فَسَهَّلَ فِي ذَلِكَ ، وَرَآهُ حَسَنًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ ؛ وَلَهُ قَوْلَانِ آخَرَانِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ يُقِيمُ وَلَا يُؤَذِّنُ .
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ ؛ { حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ الصَّلَاةِ ، حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهَوِيٍّ مِنْ اللَّيْلِ ، قَالَ : فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا ، فَأَمَرَهُ فَأَقَامَ الظُّهْرَ ، فَصَلَّاهَا ، ثُمَّ أَمَرَهُ ، فَأَقَامَ الْعَصْرَ ، فَصَلَّاهَا } .
وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لِلْإِعْلَامِ بِالْوَقْتِ ، وَقَدْ فَاتَ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : إنْ رُجِيَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ أَذَّنَ ،
وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ مَشْرُوعٌ لِلْإِعْلَامِ ، فَلَا يُشْرَعُ إلَّا مَعَ الْحَاجَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُؤَذِّنُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَيُقِيمُ ؛ لِأَنَّ مَا سُنَّ لِلصَّلَاةِ فِي أَدَائِهَا سُنَّ فِي قَضَائِهَا ، كَسَائِرِ الْمَسْنُونَاتِ .
وَلَنَا ، حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، رَوَاهُ الْأَثْرَمُ ، وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا ، وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلزِّيَادَةِ ، وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ .
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، { أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَامُوا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بِلَالُ ، قُمْ فَأَذِّنْ النَّاسَ بِالصَّلَاةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَرَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَيْضًا .
قَالَ : { فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ ، فَصَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ فَصَلَّيْنَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ مِنْ الْفَوَائِتِ صَلَاةٌ وَقَدْ أُذِّنَ لِمَا قَبْلَهَا ، فَأَشْبَهَتْ الثَّانِيَةَ مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ ، وَقِيَاسُهُمْ مُنْتَقَضٌ بِهَذَا .
( 579 ) فَصْلٌ : فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ أُولَاهُمَا ، اُسْتُحِبَّ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلْأُولَى وَيُقِيمَ ، ثُمَّ يُقِيمَ لِلثَّانِيَةِ .
وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ فَهُمَا كَالْفَائِتَتَيْنِ ، لَا يَتَأَكَّدُ الْأَذَانُ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأُولَى مِنْهُمَا تُصَلَّى فِي غَيْرِ وَقْتِهَا ، وَالثَّانِيَةَ مَسْبُوقَةٌ بِصَلَاةٍ قَبْلَهَا .
وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا بَأْسَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمَجْمُوعَتَيْنِ : لَا يُقِيمُ لِلثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ { ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِمُزْدَلِفَةَ بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ .
صَحِيحٌ } .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُؤَذِّنُ لِلْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَيُقِيمُ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا صَلَاةٌ يُشْرَعُ لَهَا الْأَذَانُ ، وَهِيَ مَفْعُولَةٌ فِي وَقْتِهَا ، فَيُؤَذِّنُ لَهَا كَالْأُولَى .
وَلَنَا عَلَى الْجَمْعِ فِي وَقْتِ الْأُولَى ، مَا رَوَى جَابِرٌ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ ، بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ الْأُولَى مِنْهُمَا فِي وَقْتِهَا ، فَيُشْرَعُ لَهَا الْأَذَانُ كَمَا لَوْ لَمْ يَجْمَعْهُمَا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْجَمْعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ .
} رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِإِقَامَةٍ ، فَلَا بَأْسَ ؛ لِحَدِيثٍ آخَرَ ، وَلِأَنَّ الْأُولَى مَفْعُولَةٌ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا ، فَأَشْبَهَتْ الْفَائِتَةَ ، وَالثَّانِيَةَ مِنْهُمَا مَسْبُوقَةٌ بِصَلَاةٍ ، فَلَا يُشْرَعُ لَهَا الْأَذَانُ ، كَالثَّانِيَةِ مِنْ الْفَوَائِتِ ، وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ يُخَالِفُ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ ، وَقَدْ رَوَاهُ فِي " مُوَطَّئِهِ " وَذَهَبَ إلَى مَا سِوَاهُ .
( 580 ) فَصْلٌ : وَيُشْرَعُ الْأَذَانُ فِي السَّفَرِ لِلرَّاعِي وَأَشْبَاهِهِ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُقِيمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إقَامَةً ، إلَّا الصُّبْحَ ، فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ لَهَا وَيُقِيمُ ، وَكَانَ يَقُولُ : إنَّمَا الْأَذَانُ عَلَى الْأَمِيرِ ، وَالْإِقَامَةُ عَلَى الَّذِي يَجْمَعُ النَّاسَ ، وَعَنْهُ ، أَنَّهُ كَانَ لَا يُقِيمُ فِي أَرْضٍ تُقَامُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : إنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ ، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ وَبِهِ قَالَ عُرْوَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ : تُجْزِئُهُ الْإِقَامَةُ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ فِي الْمُسَافِرِينَ : إذَا كَانُوا رِفَاقًا أَذَّنُوا وَأَقَامُوا ، وَإِذَا كَانَ وَحْدَهُ أَقَامَ لِلصَّلَاةِ وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤَذِّنُ لَهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ ، وَعِمْرَانَ ، وَزِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ ، وَأَمَرَ بِهِ مَالِكَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ وَصَاحِبَهُ ، وَمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ فِي هَذَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْوَاحِدَ وَحْدَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ فِي كَلَامِهِ ، وَالْأَذَانُ مَعَ ذَلِكَ أَفْضَلُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ، وَحَدِيثِ أَنَسٍ ، وَرَوَى عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأْسِ الشَّظِيَّةِ لِلْجَبَلِ ، يُؤَذِّنُ لِلصَّلَاةِ ، وَيُصَلِّي ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اُنْظُرُوا إلَى عَبْدِي هَذَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ ، يَخَافُ مِنِّي ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ، وَأَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ بِأَرْضٍ فِي ( 1 ) فَأَقَامَ الصَّلَاةَ ، صَلَّى خَلْفَهُ مَلَكَانِ ، فَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يُرَى قُطْرَاهُ ( 2 ) يَرْكَعُونَ بِرُكُوعِهِ ، وَيَسْجُدُونَ بِسُجُودِهِ ، وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ،
إلَّا أَنَّهُ قَالَ : صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ .
( 581 ) فَصْلٌ : وَمَنْ دَخَلَ مَسْجِدًا قَدْ صُلِّيَ فِيهِ ، فَإِنْ شَاءَ أَذَّنَ وَأَقَامَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّهُ دَخَلَ مَسْجِدًا قَدْ صَلَّوْا فِيهِ ، فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي جَمَاعَةٍ .
وَإِنْ شَاءَ صَلَّى مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ ؛ فَإِنَّ عُرْوَةَ قَالَ : إذَا انْتَهَيْت إلَى مَسْجِدٍ قَدْ صَلَّى فِيهِ نَاسٌ أَذَّنُوا وَأَقَامُوا ، فَإِنَّ أَذَانَهُمْ وَإِقَامَتَهُمْ تُجْزِئُ عَمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ .
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، إلَّا أَنَّ الْحَسَنَ ، قَالَ : كَانَ أَحَبُّ إلَيْهِمْ أَنْ يُقِيمَ .
وَإِذَا أَذَّنَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُخْفِيَ ذَلِكَ وَلَا يَجْهَرَ بِهِ ؛ لِيَغُرَّ النَّاسَ بِالْأَذَانِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ .
( 582 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَأَنَسٌ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
وَهَلْ يُسَنُّ لَهُنَّ ذَلِكَ ؟ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ قَالَ : إنْ فَعَلْنَ فَلَا بَأْسَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْنَ فَجَائِزٌ .
وَقَالَ الْقَاضِي : : هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهَا الْإِقَامَةُ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَعَنْ جَابِرٍ : أَنَّهَا تُقِيمُ .
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ أَذَّنَّ وَأَقَمْنَ فَلَا بَأْسَ .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، أَنَّهَا كَانَتْ تُؤَذِّنُ وَتُقِيمُ .
وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أُمِّ وَرَقَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لَهَا أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا وَيُقَامَ ، وَتَؤُمَّ نِسَاءَ أَهْلِ دَارِهَا } .
وَقِيلَ : إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَرَوَى النَّجَّادُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ ، قَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ } .
وَلِأَنَّ الْأَذَانَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِعْلَامِ ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا ذَلِكَ ، وَالْأَذَانُ يُشْرَعُ لَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ ، وَلَا يُشْرَعُ لَهَا رَفْعُ الصَّوْتِ ، وَمَنْ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْأَذَانُ لَا يُشْرَعُ فِي حَقِّهِ الْإِقَامَةُ ، كَغَيْرِ الْمُصَلِّي ، وَكَمَنْ أَدْرَكَ بَعْضَ الْجَمَاعَةِ .
( 583 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَجْعَلُ أَصَابِعَهُ مَضْمُومَةً عَلَى أُذُنَيْهِ ) الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَجْعَلُ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَجْعَلَ الْمُؤَذِّنُ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ ، { أَنَّ بِلَالًا أَذَّنَ وَوَضَعَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ سَعْدٍ ، مُؤَذِّنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يَجْعَلَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ، وَقَالَ : إنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِك } .
وَرَوَى أَبُو طَالِبٍ ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَجْعَلَ يَدَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ ، عَلَى حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ .
وَضَمَّ أَصَابِعَهُ الْأَرْبَعَ وَوَضَعَهَا عَلَى أُذُنَيْهِ ، وَحَكَى أَبُو حَفْصٍ ، عَنْ ابْنِ بَطَّةَ ، قَالَ : سَأَلْت أَبَا الْقَاسِمِ الْخِرَقِيِّ عَنْ صِفَةِ ذَلِكَ ؟ فَأَرَانِيهِ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا ، فَضَمَّ أَصَابِعَهُ عَلَى رَاحَتَيْهِ ، وَوَضَعَهُمَا عَلَى أُذُنَيْهِ .
وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ الْقَاضِي بِمَا رَوَى أَبُو حَفْصٍ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ إذَا بَعَثَ مُؤَذِّنًا يَقُولُ لَهُ : اُضْمُمْ أَصَابِعَك مَعَ كَفَّيْك ، وَاجْعَلْهَا مَضْمُومَةً عَلَى أُذُنَيْك .
وَبِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ ، أَنَّهُ كَانَ يَضُمُّ أَصَابِعَهُ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ وَشُهْرَتِهِ وَعَمَلِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ ، وَأَيُّهُمَا فَعَلَ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ تَرَكَ الْكُلَّ فَلَا بَأْسَ .
( 584 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي إعْلَامِهِ ، وَأَعْظَمَ لِثَوَابِهِ ، كَمَا ذُكِرَ فِي خَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ ، وَلَا يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي رَفْعِ صَوْتِهِ زِيَادَةً عَلَى طَاقَتِهِ ؛ لِئَلَّا يَضُرَّ بِنَفْسِهِ ، وَيَنْقَطِعَ صَوْتُهُ : فَإِنْ أَذَّنَ لِعَامَّةِ النَّاسِ جَهَرَ بِجَمِيعِ الْأَذَانِ ، وَلَا يَجْهَرُ بِبَعْضٍ ، وَيُخَافِتُ بِبَعْضٍ ؛ لِئَلَّا يَفُوتَ مَقْصُودُ الْأَذَانِ ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ .
وَإِنْ أَذَّنَ لِنَفْسِهِ ، أَوْ لِجَمَاعَةٍ خَاصَّةٍ حَاضِرِينَ ، جَازَ أَنْ يُخَافِتَ وَيَجْهَرَ ، وَأَنْ يُخَافِتَ بِبَعْضٍ وَيَجْهَرَ بِبَعْضٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِ الْأَذَانِ .
فَلَا يَجْهَرَ بِشَيْءٍ مِنْهُ ؛ لِئَلَّا يَغُرَّ النَّاسَ بِأَذَانِهِ .
( 585 ) فَصْلٌ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ أَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ قُمْ فَأَذِّنْ } .
وَكَانَ مُؤَذِّنُو رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَذِّنُونَ قِيَامًا .
وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ قَاعِدًا قَالَ الْحَسَنُ الْعَبْدِيُّ : رَأَيْت أَبَا زَيْدٍ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ رِجْلُهُ أُصِيبَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، يُؤَذِّنُ قَاعِدًا رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
فَإِنْ أَذَّنَ قَاعِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ كَرِهَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَيَصِحُّ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِآكَدَ مِنْ الْخُطْبَةِ ، وَتَصِحُّ مِنْ الْقَاعِدِ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الْأَذَانِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ؟ فَسَهَّلَ فِيهِ ، وَقَالَ : أَمْرُ الْأَذَانِ عِنْدِي سَهْلٌ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ يُؤَذِّنُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُقِيمُ .
وَإِذَا أُبِيحَ التَّنَفُّلُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، فَالْأَذَانُ أَوْلَى .
فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ عَلَى شَيْءٍ مُرْتَفِعٍ ؛ لِيَكُونَ أَبْلَغَ لِتَأْدِيَةِ صَوْتِهِ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ قَالَتْ : كَانَ بَيْتِي مِنْ أَطْوَلِ بَيْتٍ حَوْلَ الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ عَلَيْهِ الْفَجْرَ ، فَيَأْتِي بِسَحَرٍ ، فَيَجْلِسُ عَلَى الْبَيْتِ يَنْظُرُ إلَى الْفَجْرِ فَإِذَا رَآهُ تَمَطَّى ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَعِينُك وَأَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ ، أَنْ يُقِيمُوا دِينَكَ .
قَالَتْ : ثُمَّ يُؤَذِّنُ .
وَفِي حَدِيثِ بَدْءِ الْأَذَانِ ، فَقَالَ { رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، رَأَيْت رَجُلًا ، كَأَنَّ عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ أَخْضَرَيْنِ ، فَقَامَ عَلَى الْمَسْجِدِ فَأَذَّنَ ، ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ مِثْلَهَا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ } .
( 587 ) فَصْلٌ : وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ وَكَرِهَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا يَقْتَدِي بِهِ فَعَلَ ذَلِكَ .
وَرَخَّصَ فِيهِ الْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ .
فَإِنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يَسِيرٍ جَازَ .
وَإِنْ طَالَ الْكَلَامُ بَطَلَ الْأَذَانُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْأَذَانِ ، فَلَا يُعْلَمُ أَنَّهُ أَذَانٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ سَكَتَ سُكُوتًا طَوِيلًا ، أَوْ نَامَ نَوْمًا طَوِيلًا ، أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ ، أَوْ أَصَابَهُ جُنُونٌ يَقْطَعُ الْمُوَالَاةَ ، بَطَلَ أَذَانُهُ .
وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ يَسِيرًا مُحَرَّمًا كَالسَّبِّ وَنَحْوِهِ ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : فِيهِ وَجْهَانِ ، أَحَدُهُمَا ، لَا يَقْطَعُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ ، فَأَشْبَهَ الْمُبَاحَ .
وَالثَّانِي ؛ يَقْطَعُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِيهِ .
وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا يُسْتَحَبُّ حَدْرُهَا ، وَأَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا .
قَالَ أَبُو دَاوُد : قُلْت لِأَحْمَدَ : الرَّجُلُ يَتَكَلَّمُ فِي أَذَانِهِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقُلْتُ لَهُ : يَتَكَلَّمُ فِي الْإِقَامَةِ ؟ فَقَالَ : لَا .
( 588 ) فَصْلٌ : وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى أَذَانِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ شَخْصَيْنِ ، كَالصَّلَاةِ .
وَالرِّدَّةُ تُبْطِلُ الْأَذَانَ إنْ وُجِدَتْ فِي أَثْنَائِهِ ، فَإِنْ وُجِدَتْ بَعْدَهُ ، فَقَالَ الْقَاضِي : قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الطَّهَارَةِ أَنْ تُبْطِلَ أَيْضًا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُبْطِلُ ؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ بَعْدَ فَرَاغِهِ ، وَانْقِضَاءِ حُكْمِهِ ، بِحَيْثُ لَا يُبْطِلُهُ شَيْءٌ مِنْ مُبْطِلَاتِهِ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ إذَا وُجِدَتْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا ، بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ ، فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِمُبْطِلَاتِهَا ، فَالْأَذَانُ أَشْبَهُ بِالصَّلَاةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ مِنْهُ بِالطَّهَارَةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( 589 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ الْأَذَانُ إلَّا مُرَتَّبًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ يَخْتَلُّ بِعَدَمِ التَّرْتِيبِ ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُرَتَّبًا ، لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ أَذَانٌ ، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ فِي الْأَصْلِ مُرَتَّبًا ، وَعَلَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ مُرَتَّبًا .
( 590 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَيُدِيرُ وَجْهَهُ عَلَى يَمِينِهِ إذَا قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَعَلَى يَسَارِهِ إذَا قَالَ : حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ .
وَلَا يُزِيلُ قَدَمَيْهِ ) الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ؛ فَإِنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يُؤَذِّنُونَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُدِيرَ وَجْهَهُ عَلَى يَمِينِهِ ، إذَا قَالَ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " وَعَلَى يَسَارِهِ ، إذَا قَالَ " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ " .
وَلَا يُزِيلُ قَدَمَيْهِ عَنْ الْقِبْلَةِ فِي الْتِفَاتِهِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو جُحَيْفَةَ ، قَالَ : رَأَيْت بِلَالًا يُؤَذِّنُ ، وَأَتَتَبَّعُ فَاهُ هَاهُنَا وَهَا هُنَا وَأُصْبُعَاهُ فِي أُذُنَيْهِ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي لَفْظٍ قَالَ : { أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ ، فَخَرَجَ بِلَالٌ فَأَذَّنَ ، فَلَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، الْتَفَتَ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَلَمْ يَسْتَدِرْ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ لَا يَسْتَدِيرُ ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ فَوْقَ الْمَنَارَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا ، عَنْ أَحْمَدَ ، فِيمَنْ أَذَّنَ فِي الْمَنَارَةِ رِوَايَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يَدُورُ لِلْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ ، فَكُرِهَ ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَدُورُ فِي مَجَالِهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْإِعْلَامُ بِدُونِهِ ، وَتَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ بِالْإِخْلَالِ بِأَدَبٍ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ ، وَلَوْ أَخَلَّ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَوْ مَشَى فِي أَذَانِهِ ، لَمْ يَبْطُلْ ، فَإِنَّ الْخُطْبَةَ آكَدُ مِنْ الْأَذَانِ ، وَلَا تَبْطُلُ بِهَذَا .
وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ الرَّجُلِ يُؤَذِّنُ وَهُوَ يَمْشِي ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، أَمْرُ الْأَذَانِ عِنْدِي سَهْلٌ .
وَسُئِلَ عَنْ الْمُؤَذِّنِ يَمْشِي وَهُوَ يُقِيمُ قَالَ : يُعْجِبُنِي أَنْ يَفْرُغَ ثُمَّ يَمْشِي .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ : وَفِي الْمُسَافِرِ
أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ ، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَ .
( 591 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ كَمَا يَقُولُ ) لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فَإِذَا سَمِعْتُمْ النِّدَاءَ ، فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَابْنُهُ ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ .
وَقَالَ غَيْرُ الْخِرَقِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْحَيْعَلَةِ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ؛ لِمَا رَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ ، قَالَ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ ، فَإِذَا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، قَالَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
} " وَرَوَى حَفْصُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ ، فَقَالَ أَحَدُكُمْ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ .
ثُمَّ قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
قَالَ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
ثُمَّ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ .
قَالَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ، ثُمَّ قَالَ : حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ .
قَالَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
ثُمَّ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ .
قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ أَكْبَرُ .
ثُمَّ قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
قَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
مِنْ قَلْبِهِ ، دَخَلَ الْجَنَّةَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ : هَذَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الْجِيَادِ - يَعْنِي هَذَا الْحَدِيثَ -
وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ ، أَوْ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
( 592 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي الْإِقَامَةِ مِثْلَ مَا يَقُولُ ، وَيَقُولَ عِنْدَ كَلِمَةِ الْإِقَامَةِ : أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا } .
وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْأَذَانِ .
( 593 ) فَصْلٌ : رَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ : وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، رَضِيتُ بِاَللَّهِ رَبًّا ، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ .
حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : { عَلَّمَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُولَ عِنْدَ أَذَانِ الْمَغْرِبِ : اللَّهُمَّ هَذَا إقْبَالُ لَيْلِكَ وَإِدْبَارُ نَهَارِكَ ، وَأَصْوَاتُ دُعَائِكَ ، فَاغْفِرْ لِي } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَى أَنَسٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُرَدُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، أَيْضًا
فَصْلٌ : وَإِذَا سَمِعَ الْأَذَانَ ، وَهُوَ فِي قِرَاءَةٍ ، قَطَعَهَا ، لِيَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ ، وَالْقِرَاءَةُ لَا تَفُوتُ .
وَإِنْ سَمِعَهُ فِي الصَّلَاةِ ، لَمْ يَقُلْ مِثْلَ قَوْلِهِ ؛ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْ الصَّلَاةِ بِمَا لَيْسَ مِنْهَا ، وَقَدْ رُوِيَ : " إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا " .
وَإِنْ قَالَهُ مَا عَدَا الْحَيْعَلَةَ لَمْ تَبْطُلْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ ، وَإِنْ قَالَ الدُّعَاءَ إلَى الصَّلَاةِ فِيهَا ، بَطَلَتْ ؛ لِأَنَّهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ .
( 595 ) فَصْلٌ : وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَذَّنَ ، فَقَالَ كَلِمَةً مِنْ الْأَذَانِ ، قَالَ مِثْلَهَا سِرًّا فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا ، لِيَكُونَ مَا يُظْهِرُهُ أَذَانًا وَدُعَاءً إلَى الصَّلَاةِ ، وَمَا يُسِرُّهُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ .
( 596 ) فَصْلٌ : قَالَ الْأَثْرَمُ : سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُسْأَلُ عَنْ الرَّجُلِ يَقُومُ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ مُبَادِرًا يَرْكَعُ ؟ فَقَالَ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رُكُوعُهُ بَعْدَمَا يَفْرُغُ الْمُؤَذِّنُ ، أَوْ يَقْرُبُ مِنْ الْفَرَاغِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ : إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْفِرُ حِينَ يَسْمَعُ الْأَذَانَ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ بِالْقِيَامِ .
وَإِنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ اُسْتُحِبَّ لَهُ انْتِظَارُهُ لِيَفْرُغَ ، وَيَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ جَمْعًا بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ .
وَإِنْ لَمْ يَقُلْ كَقَوْلِهِ وَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ ، فَلَا بَأْسَ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ .
( 597 ) فَصْلٌ : وَلَا يُسْتَحَبُّ الزِّيَادَةُ عَلَى مُؤَذِّنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي حُفِظَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ ، بِلَالٌ ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ .
إلَّا أَنْ تَدْعُوَ الْحَاجَةُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا فَيَجُوزَ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ مُؤَذِّنِينَ .
وَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى أَكْثَرَ مِنْهُ ، كَانَ مَشْرُوعًا ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ ؛ وَكَانَ الْوَاحِدُ يُسْمِعُ النَّاسَ ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ لِأَنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَحَدُهُمَا يُؤَذِّنُ بَعْدَ الْآخَرِ .
وَإِنْ كَانَ الْإِعْلَامُ لَا يَحْصُلُ بِوَاحِدٍ ، أَذَّنُوا عَلَى حَسَبِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ أَمَّا أَنْ يُؤَذِّنَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَنَارَةٍ أَوْ نَاحِيَةٍ ، أَوْ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ : قَالَ أَحْمَدُ إنْ أَذَّنَ عِدَّةٌ فِي مَنَارَةٍ فَلَا بَأْسَ ، وَإِنْ خَافُوا مِنْ تَأْذِينِ وَاحِدٍ بَعْدَ الْآخَرِ فَوَاتَ أَوَّلِ الْوَقْتِ ، أَذَّنُوا جَمِيعًا دَفْعَةً وَاحِدَةً .
( 598 ) فَصْلٌ : وَلَا يُؤَذِّنُ قَبْلَ الْمُؤَذِّنِ الرَّاتِبِ ، إلَّا أَنْ يَتَخَلَّفَ وَيُخَافُ فَوَاتِ وَقْتِ التَّأْذِينِ فَيُؤَذِّنَ غَيْرُهُ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ ، أَنَّهُ أَذَّنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ غَابَ بِلَالٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَهُ .
وَأَذَّنَ رَجُلٌ حِينَ غَابَ أَبُو مَحْذُورَةَ قَبْلَهُ .
فَأَمَّا مَعَ حُضُورِهِ فَلَا يَسْبِقُ بِالْأَذَانِ ، فَإِنَّ مُؤَذِّنِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُمْ يَسْبِقُهُمْ بِالْأَذَانِ .
( 599 ) فَصْلٌ : وَإِذَا تَشَاحَّ نَفْسَانِ فِي الْأَذَانِ قُدِّمَ أَحَدُهُمَا فِي الْخِصَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّأْذِينِ ، فَيُقَدَّمُ مَنْ كَانَ أَعْلَى صَوْتًا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ : { أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْك } .
وَقَدَّمَ أَبَا مَحْذُورَةَ لِصَوْتِهِ .
وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ مَنْ كَانَ أَبْلَغَ فِي مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ ، وَأَشَدَّ مُحَافَظَةً عَلَيْهِ ، وَمَنْ يَرْتَضِيهِ الْجِيرَانُ ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ يَبْلُغُهُمْ صَوْتُهُ وَمَنْ هُوَ أَعَفُّ عَنْ النَّظَرِ .
فَإِنْ تَسَاوَيَا مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ ، لَاسْتَهَمُوا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَمَّا تَشَاحَّ النَّاسُ فِي الْأَذَانِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ سَعْدٌ .
فَصْلٌ : وَيُكْرَهُ اللَّحْنُ فِي الْأَذَانِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَيَّرَ الْمَعْنَى .
فَإِنَّ مَنْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَنَصَبَ لَامَ " رَسُولُ " ، أَخْرَجَهُ عَنْ كَوْنِهِ خَبَرًا .
وَلَا يَمُدُّ لَفْظَةَ ، " أَكْبَرُ " لِأَنَّهُ يَجْعَلُ فِيهَا أَلِفًا ، فَيَصِيرُ جَمْعَ كَبَرٍ ، وَهُوَ الطَّبْلُ .
وَلَا تُسْقَطُ الْهَاءُ مِنْ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْمِ الصَّلَاةِ ، وَلَا الْحَاءُ مِنْ الْفَلَاحِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُؤَذِّنُ لَكُمْ مَنْ يُدْغِمُ الْهَاءَ قُلْنَا : وَكَيْفَ يَقُولُ ؟ قَالَ : يَقُولُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ } .
أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي الْأَفْرَادِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ أَلْثَغَ لُثْغَةً لَا تَتَفَاحَشُ ، جَازَ أَذَانُهُ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يَقُولُ " أَسْهَدُ " يَجْعَلُ الشِّينَ سِينًا .
وَإِنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَكْمَلَ وَأَحْسَنَ .
( 601 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَذَّنَ فِي الْوَقْتِ ، كُرِهَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِحَاجَةٍ ثُمَّ يَعُودَ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا اُحْتِيجَ إلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ فَلَا يُوجَدُ .
وَإِنْ أَذَّنَ قَبْلَ الْوَقْتِ لِلْفَجْرِ ، فَلَا بَأْسَ بِذَهَابِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى حُضُورِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ ، فِي الرَّجُلِ يُؤَذِّنُ فِي اللَّيْلِ ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ، فَيَدْخُلُ الْمَنْزِلَ ، وَيَدَعُ الْمَسْجِدَ : أَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ إذَا أَذَّنَ وَهُوَ مُتَوَضِّئٌ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ ، فَلَا أَرَى لَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُصَلِّيَ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ الْحَاجَةُ .
( 602 ) فَصْلٌ : وَإِنْ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ فِي بَيْتِهِ ، وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَلَا بَأْسَ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَلَا ؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ أَذَانُهُ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ ، فَيَأْتِيهِ السَّامِعُونَ لِلْأَذَانِ ، وَالْبَعِيدَ رُبَّمَا سَمِعَهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمَسْجِدَ ، فَيَغْتَرُّ بِهِ وَيَقْصِدُهُ ، فَيَضِيعُ عَنْ الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الَّذِي يُؤَذِّنُ فِي بَيْتِهِ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ طَرِيقٌ يُسْمِعُ النَّاسَ : أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .
وَقَالَ ، فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ ، فِيمَنْ يُؤَذِّنُ فِي بَيْتِهِ عَلَى سَطْحٍ : مَعَاذَ اللَّهِ ، مَا سَمِعْنَا أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا .
فَالْأَوَّلُ الْمُرَادُ بِهِ الْقَرِيبُ ، وَلِهَذَا كَانَ بِلَالٌ يُؤَذِّنُ عَلَى سَطْحِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، لَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ عَالِيًا .
وَالثَّانِي مَحْمُولٌ عَلَى الْبَعِيدِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
( 603 ) فَصْلٌ : إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ ، وَأَقَامَ ، لَمْ يُسْتَحَبَّ لِسَائِرِ النَّاسِ أَنْ يُؤَذِّنَ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ وَيُقِيمَ ، بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ ، وَلَكِنْ يَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا وَرَدَتْ بِهَذَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ إلَّا فِي الْحَالَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْخِرَقِيِّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } .
يَعْنِي نَحْوَهُ ، كَمَا أَنْشَدُوا أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنَّا رَسُولًا وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو أَيْ نَحْوَ عَمْرٍو .
وَتَقُولُ الْعَرَبُ : هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ يُشَاطِرُونَنَا .
إذَا كَانَتْ بُيُوتُهُمْ تُقَابِلُ بُيُوتَهُمْ .
وَقَالَ عَلِيٌّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : شَطْرَهُ قِبَلَهُ وَرُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ { قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا ، ثُمَّ إنَّهُ وُجِّهَ إلَى الْكَعْبَةِ فَمَرَّ رَجُلٌ ، وَكَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ وُجِّهَ إلَى الْكَعْبَةِ .
فَانْحَرَفُوا إلَى الْكَعْبَةِ } .
أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ .
( 604 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ ( وَإِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ وَهُوَ مَطْلُوبٌ ، ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ إلَى الْقِبْلَةِ ، وَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا رَاجِلًا وَرَاكِبًا ، يُومِئُ إيمَاءً عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ ، وَيَجْعَلُ سُجُودَهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ ، بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّلَاةِ إلَى الْقِبْلَةِ ، أَوْ احْتَاجَ إلَى الْمَشْيِ ، أَوْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ ؛ إمَّا لِهَرَبٍ مُبَاحٍ مِنْ عَدُوٍّ ، أَوْ سَيْلٍ ، أَوْ سَبُعٍ ، أَوْ حَرِيقٍ ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، مِمَّا لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ إلَّا بِالْهَرَبِ ، أَوْ الْمُسَابَقَةِ ، أَوْ الْتِحَامِ الْحَرْبِ ، وَالْحَاجَةِ إلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْمُطَارَدَةِ ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ ، رَاجِلًا وَرَاكِبًا إلَى الْقِبْلَةِ - إنْ أَمْكَنَ - ، أَوْ إلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْ .
وَإِذَا عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، أَوْمَأَ بِهِمَا ، وَيَنْحَنِي إلَى السُّجُودِ أَكْثَرَ مِنْ الرُّكُوعِ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْإِيمَاءِ ، سَقَطَ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ أَوْ غَيْرِهِمَا ، سَقَطَ ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ وَالْكَرِّ وَالْفَرِّ ، فَعَلَ ذَلِكَ .
وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا } .
وَرَوَى مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنْ { ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : فَإِنْ كَانَ خَوْفًا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّوْا رِجَالًا ، قِيَامًا عَلَى أَقْدَامِهِمْ ، أَوْ رُكْبَانًا ، مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا } .
قَالَ نَافِعٌ : لَا أَرَى ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ إلَّا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِذَا أَمْكَنَ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ إلَى الْقِبْلَةِ ، فَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَجِبْ الِاسْتِقْبَالُ فِيهِ ، كَبَقِيَّةِ أَجْزَائِهَا .
قَالَ : وَبِهِ أَقُولُ وَالثَّانِيَةُ
، يَجِبُ ؛ لِمَا رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا كَانَ فِي السَّفَرِ ، فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، ثُمَّ كَبَّرَ ، ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ ابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ مُسْتَقْبِلًا فَلَمْ يَجُزْ بِدُونِهِ ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فِي رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ .
وَتَمَامُ شَرْحِ هَذِهِ الصَّلَاةِ نَذْكُرُهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ .
( 605 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَسَوَاءٌ كَانَ مَطْلُوبًا أَوْ طَالِبًا يَخْشَى فَوَاتَ الْعَدُوِّ ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ، رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَنَّهُ إنْ كَانَ طَالِبًا ، فَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا صَلَاةَ آمِنٍ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي طَالِبِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَخَافُ فَوَاتَهُ ، فَرُوِيَ أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ ، كَالْمَطْلُوبِ سَوَاءً ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي إلَّا صَلَاةَ آمِنٍ .
وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا } .
فَشَرَطَ الْخَوْفَ ، وَهَذَا غَيْرُ خَائِفٍ .
وَلِأَنَّهُ آمِنٌ فَلَزِمَتْهُ صَلَاةُ الْآمِنِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَخْشَ فَوْتَهُمْ .
وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَنْ يَأْمَنُ رُجُوعَهُمْ عَلَيْهِ إنْ تَشَاغَلَ بِالصَّلَاةِ ، وَيَأْمَنُ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَأَمَّا الْخَائِفُ مِنْ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمَطْلُوبِ .
وَلَنَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، فِي " سُنَنِهِ " بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ ، قَالَ : { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ ، وَكَانَ نَحْوَ عُرَنَةَ أَوْ عَرَفَاتٍ ، قَالَ : اذْهَبْ فَاقْتُلْهُ .
فَرَأَيْتُهُ ، وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ ، فَقُلْت : إنِّي لَأَخَافُ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ ، فَانْطَلَقْتُ أَمْشِي ، وَأَنَا أُصَلِّي أُومِئُ إيمَاءً نَحْوَهُ ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ ، قَالَ لِي : مَنْ أَنْتَ ؟ قُلْت : رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ ، بَلَغَنِي أَنَّك تَجْمَعُ لِهَذَا الرَّجُلِ ، فَجِئْتُك لِذَلِكَ ، قَالَ : إنِّي لَعَلَى ذَلِكَ .
فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً ، حَتَّى إذَا أَمْكَنَنِي عَلَوْتُهُ بِسَيْفِي حَتَّى بَرَدَ } .
وَظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَانَ قَدْ عَلِمَ جَوَازَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ مُخْطِئًا ، وَهُوَ
رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَا يُخْبِرُهُ بِهِ ، وَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ حُكْمِهِ .
وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ سَابِقٍ الْبَرْبَرِيِّ ، عَنْ كِتَابِ الْحَسَنِ : أَنَّ الطَّالِبَ يَنْزِلُ فَيُصَلِّي بِالْأَرْضِ .
فَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : وَجَدْنَا الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، قَالَ شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ : لَا تُصَلُّوا الصُّبْحَ إلَّا عَلَى ظَهْرٍ .
فَنَزَلَ الْأَشْتَرُ فَصَلَّى عَلَى الْأَرْضِ ، فَمَرَّ بِهِ شُرَحْبِيلُ ، فَقَالَ ؛ مُخَالِفٌ ، خَالَفَ اللَّهُ بِهِ .
قَالَ : فَخَرَجَ الْأَشْتَرُ فِي الْفِتْنَةِ .
وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَأْخُذُ بِهَذَا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ ؛ وَلِأَنَّهَا إحْدَى حَالَتَيْ الْحَرْبِ ، أَشْبَهَتْ حَالَةَ الْهَرَبِ .
وَالْآيَةُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ لِأَنَّ مَدْلُولَهَا إبَاحَةُ الْقَصْرِ .
وَقَدْ أُبِيحَ الْقَصْرُ حَالَةَ الْأَمْنِ بِغَيْرِ خِلَافٍ ، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ ، ثُمَّ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ ، فَقَدْ أُبِيحَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِ خَوْفِ فِتْنَةِ الْكُفَّارِ ، لِلْخَوْفِ مِنْ سَبُعٍ أَوْ سَيْلٍ أَوْ حَرِيقٍ ، لِوُجُودِ مَعْنَى الْمَنْطُوقِ فِيهَا ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ ، لِأَنَّ فَوَاتَ الْكُفَّارِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ ، فَأُبِيحَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ عِنْدَ فَوْتِهِ ، كَالْحَالَةِ الْأُخْرَى .
( 606 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( وَلَهُ أَنْ يَتَطَوَّعَ فِي السَّفَرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ صَلَاةِ الْخَوْفِ ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إبَاحَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ لِكُلِّ مَنْ سَافَرَ سَفَرًا يَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ ، يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، يَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ .
وَأَمَّا السَّفَرُ الْقَصِيرُ وَهُوَ مَا لَا يُبَاحُ فِيهِ الْقَصْرُ ، فَإِنَّهُ تُبَاحُ فِيهِ الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ عِنْدَ إمَامِنَا ، وَاللَّيْثِ ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يُبَاحُ إلَّا فِي سَفَرٍ طَوِيلٍ ؛ لِأَنَّهُ رُخْصَةُ سَفَرٍ ، فَاخْتُصَّ بِالطَّوِيلِ كَالْقَصْرِ .
وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي التَّطَوُّعِ خَاصَّةً ، حَيْثُ تَوَجَّهَ بِكَ بَعِيرُكَ .
وَهَذَا مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ بِإِطْلَاقِهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ } وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَلِلْبُخَارِيِّ : { إلَّا الْفَرَائِضَ } .
وَلِمُسْلِمٍ ، وَأَبِي دَاوُد : { غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ } .
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَصِيرِ السَّفَرِ وَطَوِيلِهِ ، وَلِأَنَّ إبَاحَةَ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ تَخْفِيفٌ فِي التَّطَوُّعِ ، كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى قَطْعِهَا وَتَقْلِيلِهَا ، وَهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ ، وَالْقَصْرُ وَالْفِطْرُ يُرَاعَى فِيهِ الْمَشَقَّةُ ، وَإِنَّمَا تُوجَدُ غَالِبًا فِي الطَّوِيلِ .
قَالَ الْقَاضِي :
الْأَحْكَامُ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا الطَّوِيلُ مِنْ السَّفَرِ وَالْقَصِيرُ ثَلَاثَةٌ : التَّيَمُّمُ ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ ، وَالتَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ ، وَبَقِيَّةُ الرُّخَصِ تَخُصُّ الطَّوِيلَ ؛ الْفِطْرُ ، وَالْجَمْعُ ، وَالْمَسْحُ ثَلَاثًا .
( 607 ) فَصْلٌ : وَحُكْمُ الصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ حُكْمُ الصَّلَاةِ فِي الْخَوْفِ ، فِي أَنَّهُ يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، وَيَجْعَلُ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ .
قَالَ جَابِرٌ : { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ ، فَجِئْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ ، وَالسُّجُودُ أَخْفَضُ مِنْ الرُّكُوعِ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْبَعِيرِ وَالْحِمَارِ وَغَيْرِهِمَا .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ ، وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى خَيْبَرَ .
} .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .
لَكِنْ إنْ صَلَّى عَلَى حَيَوَانٍ نَجِسٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ طَاهِرَةٌ .
( 608 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي مَكَان وَاسِعٍ ، كَالْمُنْفَرِدِ فِي الْعِمَارِيَّةِ يَدُورُ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّلَاةِ إلَى الْقِبْلَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي صَلَاتِهِ ، وَيَسْجُدُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ .
وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ دُونَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، وَأَوْمَأَ بِهِمَا .
نَصَّ عَلَيْهِ .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْآمِدِيُّ : يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، كَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ الْعَامَّةَ تَعُمُّ مَا وُجِدَتْ فِيهِ الْمَشَقَّةُ وَغَيْرَهُ ، كَالْقَصْرِ وَالْجَمْعِ .
وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ سَقَطَ بِغَيْرِ خِلَافٍ .
وَإِنْ كَانَ يَعْجِزُ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ صَلَاتِهِ ، كَرَاكِبِ رَاحِلَةٍ لَا تُطِيعُهُ ، أَوْ كَانَ فِي قِطَارٍ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ .
وَإِنْ أَمْكَنَهُ افْتِتَاحُهَا إلَى الْقِبْلَةِ ، كَرَاكِبِ رَاحِلَةٍ مُنْفَرِدَةٍ تُطِيعُهُ ، فَهَلْ يَلْزَمُهُ افْتِتَاحُهَا إلَى الْقِبْلَةِ ؟ يُخَرَّجُ فِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يَلْزَمُهُ لِمَا رَوَى أَنَسٌ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا سَافَرَ ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ ، اسْتَقْبَلَ بِنَاقَتِهِ الْقِبْلَةَ ، فَكَبَّرَ ، ثُمَّ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وِجْهَةُ رِكَابِهِ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي " مُسْنَدِهِ " وَأَبُو دَاوُد .
وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ ، كَالصَّلَاةِ كُلِّهَا .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ ، أَشْبَهَ سَائِرَ أَجْزَائِهَا ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ مَشَقَّةٍ ، فَسَقَطَ ، وَخَبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْمَلُ عَلَى الْفَضِيلَةِ وَالنَّدْبِ .
( 609 ) فَصْلٌ : وَقِبْلَةُ هَذَا الْمُصَلِّي حَيْثُ كَانَتْ وِجْهَتُهُ ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهَا نَظَرْتَ ، فَإِنْ كَانَ عُدُولُهُ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ ،
جَازَ ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ ، وَإِنَّمَا جَازَ تَرْكُهَا لِلْعُذْرِ ، فَإِذَا عَدَلَ إلَيْهَا أَتَى بِالْأَصْلِ ، كَمَا لَوْ رَكَعَ فَسَجَدَ فِي مَكَانِ الْإِيمَاءِ .
وَإِنْ عَدَلَ إلَى غَيْرِهَا عَمْدًا ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ قِبْلَتَهُ عَمْدًا .
وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَغْلُوبًا ، أَوْ نَائِمًا ، أَوْ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا جِهَةُ سَفَرِهِ ، فَهُوَ عَلَى صَلَاتِهِ ، وَيَرْجِعُ إلَى جِهَةِ سَفَرِهِ عِنْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ .
لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ عَلَى ذَلِكَ .
فَأَشْبَهَ الْعَاجِزَ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ .
فَإِنْ تَمَادَى بِهِ ذَلِكَ بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ ، فَسَدَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ عَمْدًا .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَمِيعِ التَّطَوُّعَاتِ فِي هَذَا ، فَيَسْتَوِي فِيهِ النَّوَافِلُ الْمُطْلَقَةُ ، وَالسُّنَنُ الرَّوَاتِبُ ، وَالْمُعَيَّنَةُ ، وَالْوِتْرُ ، وَسُجُودُ التِّلَاوَةِ ، وَقَدْ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ عَلَى بَعِيرِهِ } ، { وَكَانَ يُسَبِّحُ عَلَى بَعِيرِهِ إلَّا الْفَرَائِضَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
( 610 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا الْمَاشِي فِي السَّفَرِ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا تُبَاحُ لَهُ الصَّلَاةُ فِي حَالِ مَشْيِهِ ؛ لِقَوْلِهِ : " وَلَا يُصَلِّي فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَرْضًا ، وَلَا نَافِلَةً ، إلَّا مُتَوَجِّهًا إلَى الْكَعْبَةِ " .
وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : : مَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ فِي الْمَاشِي : يُصَلِّي ، إلَّا عَطَاءً ، وَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يُصَلِّيَ الْمَاشِي .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَاشِيًا .
نَقَلَهَا مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ ، وَذَكَرَهَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ .
وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ يَنْحَرِفَ إلَى جِهَةِ سَيْرِهِ ، وَيَقْرَأَ وَهُوَ مَاشٍ ، وَيَرْكَعَ ثُمَّ يَسْجُدَ عَلَى الْأَرْضِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْآمِدِيُّ : يُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، كَالرَّاكِبِ ؛ لِأَنَّهَا حَالَةٌ أُبِيحَ فِيهَا تَرْكُ الِاسْتِقْبَالِ ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ كَالرَّاكِبِ .
وَعَلَى قَوْلِ الْقَاضِي : الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعِهِ عَنْ جِهَةِ سَيْرِهِ ، فَلَزِمَهُ ، كَالْوَقْفِ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّلَاةَ أُبِيحَتْ لِلرَّاكِبِ ، لِئَلَّا يَنْقَطِعَ عَنْ الْقَافِلَةِ فِي السَّفَرِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْمَاشِي ، وَلِأَنَّهُ إحْدَى حَالَتَيْ سَيْرِ الْمُسَافِرِ ، فَأُبِيحَتْ الصَّلَاةُ فِيهَا كَالْأُخْرَى .
وَلَنَا ، أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْقُولِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ كَثِيرٍ ، وَمَشْيٍ مُتَتَابِعٍ ، يَقْطَعُ الصَّلَاةَ ، وَيَقْتَضِي بُطْلَانَهَا ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الرَّاكِبِ ، فَلَمْ يَصِحَّ إلْحَاقُهُ بِهِ ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } .
عَامٌّ تُرِكَ فِي مَوْضِعِ الْإِجْمَاعِ ، بِشُرُوطٍ مَوْجُودَةٍ هَاهُنَا ، فَيَبْقَى وُجُوبُ الِاسْتِقْبَالِ فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الْعُمُومِ .
( 611 ) فَصْلٌ : وَإِذَا دَخَلَ الْمُصَلِّي بَلَدًا نَاوِيًا لِلْإِقَامَةِ فِيهِ ، لَمْ يُصَلِّ بَعْدَ دُخُولِهِ إلَيْهِ إلَّا صَلَاةَ الْمُقِيمِ .
وَإِنْ دَخَلَهُ مُجْتَازًا بِهِ ، غَيْرَ نَاوٍ لِلْإِقَامَةِ فِيهِ ، وَلَا نَازِلٍ بِهِ ، أَوْ نَازِلًا بِهِ ، ثُمَّ يَرْتَحِلُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ إقَامَةِ مُدَّةٍ يَلْزَمُهُ بِهَا إتْمَامُ الصَّلَاةِ ، اسْتَدَامَ الصَّلَاةَ مَا دَامَ سَائِرًا ، فَإِذَا نَزَلَ فِيهِ صَلَّى إلَى الْقِبْلَةِ ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ ، كَقَوْلِنَا فِي الْخَائِفِ إذَا أَمِنَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ .
وَلَوْ ابْتَدَأَهَا ، وَهُوَ نَازِلٌ إلَى الْقِبْلَةِ ، ثُمَّ أَرَادَ الرُّكُوبَ ، أَتَمَّ صَلَاتَهُ ، ثُمَّ رَكِبَ .
وَقِيلَ : يَرْكَبُ فِي الصَّلَاةِ وَيُتِمُّهَا إلَى جِهَةِ سَيْرِهِ ، كَالْآمِنِ إذَا خَافَ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَالَةَ الْخَوْفِ حَالَةُ ضَرُورَةٍ أُبِيحَ فِيهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ ، وَهَذِهِ رُخْصَةٌ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَيْهَا ، فَلَا يُبَاحُ فِيهَا غَيْرُ مَا نُقِلَ فِيهَا ، وَلَمْ يَرِدْ بِإِبَاحَةِ الرُّكُوبِ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى عَمَلٍ وَتَوَجُّهٍ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَلَا جِهَةِ سَيْرِهِ ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
( 612 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يُصَلِّي فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَرْضًا وَلَا نَافِلَةً إلَّا مُتَوَجِّهًا إلَى الْكَعْبَةِ ؛ فَإِنْ كَانَ يُعَايِنُهَا فَبِالصَّوَابِ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْهَا فَبِالِاجْتِهَادِ بِالصَّوَابِ إلَى جِهَتِهَا ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ ، فَاسْتَوَى فِيهِ الْفَرْضُ وَالنَّفَلُ ، كَالطَّهَارَةِ وَالسِّتَارَةِ ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } عَامٌّ فِيهِمَا جَمِيعًا .
ثُمَّ إنْ كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ ، فَفَرْضُهُ الصَّلَاةُ إلَى عَيْنِهَا .
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ ؛ إنْ خَرَجَ بَعْضُهُ عَنْ مُسَامَتَةِ الْكَعْبَةِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : النَّاسُ فِي اسْتِقْبَالِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ : مِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ الْيَقِينُ ، وَهُوَ مَنْ كَانَ مُعَايِنًا لِلْكَعْبَةِ ، أَوْ كَانَ بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا ، أَوْ نَاشِئًا بِهَا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ مُحْدَثٍ كَالْحِيطَانِ ، فَفَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا .
وَهَكَذَا إنْ كَانَ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ صِحَّةَ قِبْلَتِهِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ ، وَقَدْ رَوَى أُسَامَةُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، قِبَلَ الْقِبْلَةِ ، وَقَالَ : هَذِهِ الْقِبْلَةُ } .
الثَّانِي : مَنْ فَرْضُهُ الْخَبَرُ ، وَهُوَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ غَائِبًا عَنْ الْكَعْبَةِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ، وَوَجَدَ مُخْبِرًا يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ أَوْ مُشَاهَدَةٍ ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ ، وَعَلَى الْحَائِلِ مَنْ يُخْبِرُهُ ، أَوْ كَانَ غَرِيبًا نَزَلَ بِمَكَّةَ ، فَأَخْبَرَهُ أَهْلُ الدَّارِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ ، فَفَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إلَى مَحَارِيبِهِمْ وَقِبْلَتِهِمْ الْمَنْصُوبَةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِبَلَ يَنْصِبُهَا أَهْلُ
الْخِبْرَةِ وَالْمَعْرِفَةِ ، فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْخَبَرِ ، فَأَغْنَى عَنْ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْقِبْلَةِ ؛ أَمَّا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، صَارَ إلَى خَبَرِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ الِاجْتِهَادُ ، كَمَا يَقْبَلُ الْحَاكِمُ النَّصَّ مِنْ الثِّقَةِ ، وَلَا يَجْتَهِدُ .
الثَّالِثُ : مَنْ فَرْضُهُ الِاجْتِهَادُ ، وَهُوَ مَنْ عَدِمَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ ، وَهُوَ عَالِمٌ بِالْأَدِلَّةِ .
الرَّابِعُ : مَنْ فَرْضُهُ التَّقْلِيدُ ، وَهُوَ الْأَعْمَى وَمَنْ لَا اجْتِهَادَ لَهُ ، وَعَدِمَ الْحَالَتَيْنِ ، فَفَرْضُهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِينَ .
وَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَيْنِ وَسَائِرِ مَنْ بَعُدَ مِنْ مَكَّةَ طَلَبُ جِهَةِ الْكَعْبَةِ ، دُونَ إصَابَةِ الْعَيْنِ .
قَالَ أَحْمَدُ : مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ ، فَإِنْ انْحَرَفَ عَنْ الْقِبْلَةِ قَلِيلًا لَمْ يُعِدْ ، وَلَكِنْ يَتَحَرَّى الْوَسَطَ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ كَقَوْلِنَا ، وَالْآخَرِ : الْفَرْضُ إصَابَةُ الْعَيْنِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، فَلَزِمَهُ التَّوَجُّهُ إلَى عَيْنِهَا ، كَالْمُعَايِنِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَمِيعَ مَا بَيْنَهُمَا قِبْلَةٌ .
وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَرْضُ إصَابَةَ الْعَيْنِ ، لَمَا صَحَّتْ صَلَاةُ أَهْلِ الصَّفِّ الطَّوِيلِ عَلَى خَطٍّ مُسْتَوٍ ، وَلَا صَلَاةُ اثْنَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ يَسْتَقْبِلَانِ قِبْلَةً وَاحِدَةً ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْكَعْبَةِ مَعَ طُولِ الصَّفِّ إلَّا بِقَدْرِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : مَعَ الْبَعِيدِ يَتَّسِعُ الْمُحَاذِي .
قُلْنَا : إنَّمَا يَتَّسِعُ مَعَ تَقَوُّسِ الصَّفِّ ، أَمَّا مَعَ اسْتِوَائِهِ فَلَا .
وَشَطْرَ الْبَيْتِ : نَحْوَهُ وَقِبَلَهُ .
فَصْلٌ : فَأَمَّا مَحَارِيبُ الْكُفَّارِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ ، فَمَحَارِيبُهُمْ أَوْلَى ، إلَّا أَنْ نَعْلَمَ قِبْلَتَهُمْ كَالنَّصَارَى ، نَعْلَمُ أَنَّ قِبْلَتَهُمْ الْمَشْرِقُ ، فَإِذَا رَأَى مَحَارِيبَهُمْ فِي كَنَائِسِهِمْ عَلِمَ أَنَّهَا مُسْتَقْبِلَةٌ الْمَشْرِقَ .
وَإِنْ وَجَدَ مِحْرَابًا لَا يَعْلَمُ هَلْ هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ لِغَيْرِهِمْ ، اجْتَهَدَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ إنَّمَا يَجُوزُ بِمَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يُعْلَمُ وُجُودُ ذَلِكَ .
وَلَوْ رَأَى عَلَى الْمِحْرَابِ آثَارَ الْإِسْلَامِ ، لَمْ يُصَلِّ إلَيْهِ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْبَانِي لَهُ مُشْرِكًا مُسْتَهْزِئًا ، يَغُرُّ بِهِ الْمُسْلِمِينَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الِاحْتِمَالُ ، وَيَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ أَنَّهُ مِنْ مَحَارِيبِ الْمُسْلِمِينَ ، فَيَسْتَقْبِلَهُ .
( 614 ) فَصْلٌ : وَلَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلٍ عَالٍ يَخْرُجُ عَنْ مُسَامَتَةِ الْكَعْبَةِ ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى فِي مَكَان يَنْزِلُ عَنْ مُسَامَتَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُهَا وَمَا يُسَامِتُهَا مِنْ فَوْقِهَا وَتَحْتِهَا ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ زَالَتْ الْكَعْبَةُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ صَحَّتْ الصَّلَاةُ إلَى مَوْضِعِ جِدَارِهَا .
( 615 ) فَصْلٌ : وَالْمُجْتَهِدُ فِي الْقِبْلَةِ هُوَ الْعَالِمُ بِأَدِلَّتِهَا ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَدِلَّةَ شَيْءٍ كَانَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ ، وَإِنْ جَهِلَ غَيْرَهُ ، وَلِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِقْبَالِهَا بِدَلِيلِهِ ، فَكَانَ مُجْتَهِدًا فِيهَا كَالْفَقِيهِ ، وَلَوْ جَهِلَ الْفَقِيهُ أَدِلَّتَهَا أَوْ كَانَ أَعْمَى ، فَهُوَ مُقَلِّدٌ وَإِنْ عَلِمَ غَيْرَهَا .
وَأَوْثَقُ أَدِلَّتِهَا النُّجُومُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } .
وَآكَدُهَا الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ ، وَهُوَ نَجْمٌ خَفِيٌّ حَوْلَهُ أَنْجُمٌ دَائِرَةٌ كَفَرَاشَةِ الرَّحَى ، فِي أَحَدِ طَرَفَيْهَا الْفَرْقَدَانِ ، وَفِي الْآخَرِ الْجَدْيُ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أَنْجُمٌ صِغَارٌ ، مَنْقُوشَةٌ كَنُقُوشِ الْفَرَاشَةِ ، ثَلَاثَةٌ مِنْ فَوْقُ وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَسْفَلُ ، تَدُورُ هَذِهِ الْفَرَاشَةُ حَوْلَ الْقُطْبِ ، دَوَرَانَ فَرَاشَةِ الرَّحَى حَوْلَ سَفُّودِهَا ، فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَوْرَةً ، فِي اللَّيْلِ نِصْفُهَا وَفِي النَّهَارِ نِصْفُهَا ، فَيَكُونُ الْجَدْيُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي مَكَانِ الْفَرْقَدَيْنِ عِنْدَ غُرُوبِهَا ، وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى سَاعَاتِ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِهِ ، وَالْأَزْمِنَةِ ، لِمَنْ عَرَفَهَا ، وَعَلِمَ كَيْفِيَّةَ دَوَرَانِهَا ، وَحَوْلَهَا بَنَاتُ نَعْشٍ مِمَّا يَلِي الْفَرْقَدَيْنِ تَدُورُ حَوْلَهَا ، وَالْقُطْبُ لَا يَبْرَحُ مَكَانَهُ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ ، وَلَا يَتَغَيَّرُ كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ سَفُّودُ الرَّحَى بِدَوَرَانِهَا .
وَقِيلَ : إنَّهُ يَتَغَيَّرُ تَغَيُّرًا يَسِيرًا لَا يَتَبَيَّنُ ، وَلَا يُؤَثِّرُ ، وَهُوَ نَجْمٌ خَفِيٌّ يَرَاهُ حَدِيدُ النَّظَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَمَرُ طَالِعًا ، فَإِذَا قَوِيَ نُورُ الْقَمَرِ خَفِيَ ، فَإِذَا اسْتَدْبَرْتَهُ فِي الْأَرْضِ الشَّامِيَّةِ ، كُنْتَ مُسْتَقْبِلًا الْكَعْبَةَ .
وَقِيلَ : إنَّهُ يَنْحَرِفُ فِي دِمَشْقَ وَمَا قَارَبَهَا إلَى الْمَشْرِقِ قَلِيلًا ، وَكُلَّمَا قَرُبَ إلَى
الْمَغْرِبِ كَانَ انْحِرَافُهُ أَكْثَرَ .
وَإِنْ كَانَ بِحَرَّانَ وَمَا يُقَارِبُهَا اعْتَدَلَ ، وَجَعَلَ الْقُطْبَ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَدِلًا مِنْ غَيْرِ انْحِرَافٍ .
وَقِيلَ : أَعْدَلُ الْقِبَلِ قِبْلَةُ حَرَّانَ .
وَإِنْ كَانَ بِالْعِرَاقِ جَعَلَ الْقُطْبَ حَذْوَ ظَهْرِ أُذُنِهِ الْيُمْنَى عَلَى عُلُوِّهَا ، فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا بَابَ الْكَعْبَةِ إلَى الْمَقَامِ ، وَمَتَى اسْتَدْبَرَ الْفَرْقَدَيْنِ أَوْ الْجَدْيَ ، فِي حَالِ عُلُوِّ أَحَدِهِمَا وَنُزُولِ الْآخَرِ ، عَلَى الِاعْتِدَالِ ، كَانَ ذَلِكَ كَاسْتِدْبَارِ الْقُطْبِ .
وَإِنْ اسْتَدْبَرَهُ ، فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالِ ، كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْجِهَةِ ، فَإِذَا اسْتَدْبَرَ الشَّرْقِيَّ مِنْهَا ، كَانَ مُنْحَرِفًا إلَى الْغَرْبِ قَلِيلًا ، وَإِذَا اسْتَدْبَرَ الْغَرْبِيَّ كَانَ مُنْحَرِفًا إلَى الشَّرْقِ ، وَإِنْ اسْتَدْبَرَ بَنَاتَ نَعْشٍ ، كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْجِهَةِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّ انْحِرَافَهُ أَكْثَرُ فَصْلٌ : وَمَنَازِلُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا ، وَهِيَ : السَّرَطَانُ ، وَالْبُطَيْنُ ، وَالثُّرَيَّا ، وَالدَّبَرَانُ ، وَالْهَقْعَةُ ، وَالْهَنْعَةُ ، وَالذِّرَاعُ ، وَالنَّثْرَةُ ، وَالطَّرْفُ ، وَالْجَبْهَةُ ، وَالزُّبْرَةُ ، وَالصَّرْفَةُ ، وَالْعَوَّاءُ ، وَالسِّمَاكُ ، وَالْغَفْرُ ، وَالزُّبَانَى ، وَالْإِكْلِيلُ ، وَالْقَلْبُ ، وَالشَّوْلَةُ ، وَالنَّعَائِمُ ، وَالْبَلْدَةُ ، وَسَعْدٌ الذَّابِحُ ، وَسَعْدُ بُلَعَ ، وَسَعْدُ السُّعُودِ ، وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ ، وَالْفَرْعُ الْمُقَدَّمُ ؛ وَالْفَرْعُ الْمُؤَخَّرُ ، وَبَطْنُ الْحُوتِ .
مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَامِيَّةٌ تَطْلُعُ مِنْ وَسَطِ الْمَشْرِقِ أَوْ مَائِلَةً عَنْهُ إلَى الشَّمَالِ قَلِيلًا ، أَوَّلُهَا السَّرَطَانُ ، وَآخِرُهَا السِّمَاكُ .
وَمِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَمَانِيَّةٌ ، تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ مَا يَلِيهِ إلَى التَّيَامُنِ ، أَوَّلُهَا الْغَفْرُ ؛ وَآخِرُهَا بَطْنُ الْحُوتِ .
وَلِكُلِّ نَجْمٍ مِنْ الشَّامِيَّةِ رَقِيبٌ مِنْ الْيَمَانِيَّةِ ، إذَا طَلَعَ أَحَدُهُمَا غَابَ رَقِيبُهُ ، وَيَنْزِلُ الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ بِمَنْزِلَةٍ مِنْهَا قَرِيبًا مِنْهُ ، ثُمَّ
يَنْتَقِلُ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ إلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي يَلِيهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } .
وَالشَّمْسُ تَنْزِلُ بِكُلِّ مَنْزِلٍ مِنْهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَيَكُونُ عَوْدُهَا إلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلَتْ بِهِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلٍ كَامِلٍ مِنْ أَحْوَالِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ ، وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ يَكُونُ مِنْهَا فِيمَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَنْزِلًا ، وَمِنْ طُلُوعِهَا إلَى غُرُوبِهَا مِثْلُ ذَلِكَ ، وَوَقْتُ الْفَجْرِ مِنْهَا مَنْزِلَانِ ، وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ مَنْزِلٌ ، وَهُوَ نِصْفُ سُدُسِ سَوَادِ اللَّيْلِ ، وَسَوَادُ اللَّيْلِ اثْنَا عَشَرَ مَنْزِلًا ، وَكُلُّهَا تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ وَتَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ ، إلَّا أَنَّ أَوَائِلَ الشَّامِيَّةِ وَآخِرَ الْيَمَانِيَّةِ تَطْلُعُ مِنْ وَسَطِ الْمَشْرِقِ ، بِحَيْثُ إذَا طَلَعَ جَعَلَ الطَّالِعَ مِنْهَا مُحَاذِيًا لِكَتِفِهِ الْأَيْسَرِ كَانَ مُسْتَقْبِلًا لِلْكَعْبَةِ ، وَكَذَلِكَ آخِرُ الشَّامِيَّةِ .
وَأَوَّلُ الْيَمَانِيَّةِ يَكُونُ مُقَارِبًا لِذَلِكَ ، وَالْمُتَوَسِّطُ مِنْ الشَّامِيَّةِ ، وَهُوَ الذِّرَاعُ وَمَا يَلِيهِ مِنْ جَانِبَيْهِ ، يَمِيلُ مَطْلَعُهُ إلَى نَاحِيَةِ الشَّمَالِ ، وَالْمُتَوَسِّطُ مِنْ الْيَمَانِيَّةِ - نَحْوُ الْعَقْرَبِ ، وَالنَّعَائِمِ ، وَالْبَلْدَةِ ، وَالسُّعُودِ - تَمِيلُ مَطَالِعُهَا إلَى الْيَمِينِ ، فَالْيَمَانِيُّ مِنْهَا يَجْعَلُهُ مِنْ أَمَامِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى ، وَالشَّامِيُّ يَجْعَلُهُ خَلْفَ كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ قَرِيبًا مِنْهَا ، وَالْغَارِبُ مِنْهَا يَجْعَلُهُ عِنْدَ كَتِفِهِ الْأَيْمَنِ كَذَلِكَ .
وَإِنْ عَرَفَ الْمُتَوَسِّطَ مِنْهَا بِأَنْ يَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُفُقِ السَّمَاءِ سَبْعَةً مِنْ هَاهُنَا وَسَبْعَةً مِنْ هَاهُنَا ، اسْتَقْبَلَهُ ، وَلِكُلِّ نَجْمٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ نُجُومٌ تُقَارِبُهُ ، وَتَسِيرُ بِسَيْرِهِ ، مِنْ عَنْ يَمِينِهِ ، وَشِمَالِهِ ، يَكْثُرُ عَدَدُهَا ، حُكْمُهَا حُكْمُهُ ، وَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَيْهِ ، وَعَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ ، كَالنَّسْرَيْنِ والشعريين ، وَالنَّظْمِ
الْمُقَارِنِ لِلْهَقْعَةِ ، وَالسِّمَاكِ الرَّامِحِ ، وَالْفَكَّةِ ، وَغَيْرِهَا ، وَكُلُّهَا تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ وَتَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ ، وَسُهَيْلٌ نَجْمٌ كَبِيرٌ مُضِيءٌ يَطْلُعُ مِنْ نَحْوِ مَهَبِّ الْجَنُوبِ ، ثُمَّ يَسِيرُ حَتَّى يَصِيرَ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي ، ثُمَّ يَتَجَاوَزُهَا ، ثُمَّ يَغْرُبُ قَرِيبًا مِنْ مَهَبِّ الدَّبُورِ ، وَالنَّاقَةُ أَنْجُمٌ عَلَى صُورَةِ النَّاقَةِ ، تَطْلُعُ فِي الْمَجَرَّةِ مِنْ مَهَبِّ الصَّبَا ، ثُمَّ تَغِيبُ فِي مَهَبِّ الشَّمَالِ .
( 617 ) فَصْلٌ : وَالشَّمْسُ تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ ، وَتَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ ، وَتَخْتَلِفُ مَطَالِعُهَا وَمَغَارِبُهَا ، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ مَنَازِلِهَا ، وَتَكُونُ فِي الشِّتَاءِ فِي حَالِ تَوَسُّطِهَا فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي ، وَفِي الصَّيْفِ مُحَاذِيَةً لِقِبْلَتِهِ .
( 618 ) فَصْلٌ : وَالْقَمَرُ يَبْدُو أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ هِلَالًا فِي الْمَغْرِبِ ، عَنْ يَمِينِ الْمُصَلِّي ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ كُلَّ لَيْلَةٍ نَحْوَ الْمَشْرِقِ مَنْزِلًا ، حَتَّى يَكُونَ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَقْتَ الْمَغْرِبِ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي ، أَوْ مَائِلًا عَنْهَا قَلِيلًا ، ثُمَّ يَطْلُعُ لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الْمَشْرِقِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، بَدْرًا تَامًّا ، وَلَيْلَةَ إحْدَى وَعِشْرِينَ يَكُونُ فِي قِبْلَةِ الْمُصَلِّي ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا ، وَقْتَ الْفَجْرِ ، وَلَيْلَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ يَبْدُو عِنْدَ الْفَجْرِ كَالْهِلَالِ مِنْ الْمَشْرِقِ ، وَتَخْتَلِفُ مَطَالِعُهُ بِاخْتِلَافِ مَنَازِلِهِ .
( 619 ) فَصْلٌ : وَالرِّيَاحُ كَثِيرَةٌ يُسْتَدَلُّ مِنْهَا بِأَرْبَعٍ ، تَهُبُّ مِنْ زَوَايَا السَّمَاءِ ؛ الْجَنُوبُ تَهُبُّ مِنْ الزَّاوِيَةِ الَّتِي بَيْنَ الْقِبْلَةِ وَالْمَشْرِقِ ، مُسْتَقْبِلَةً بَطْنَ كَتِفِ الْمُصَلِّي الْأَيْسَرِ ، مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ إلَى يَمِينِهِ ، وَالشَّمَالُ مُقَابِلَتُهَا ، تَهُبُّ مِنْ الزَّاوِيَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالشَّمَالِ ؛ مَارَّةً إلَى مَهَبِّ الْجَنُوبِ .
وَالدَّبُورُ تَهُبُّ مِنْ الزَّاوِيَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْيَمَنِ ، مُسْتَقْبِلَةً شَطْرَ وَجْهِ الْمُصَلِّي الْأَيْمَنَ ، مَارَّةً إلَى
الزَّاوِيَةِ الْمُقَابِلَةِ لَهَا .
وَالصَّبَا مُقَابِلَتُهَا ، تَهُبُّ مِنْ ظَهْرِ الْمُصَلِّي .
وَرُبَّمَا هَبَّتْ الرِّيَاحُ بَيْنَ الْحِيطَانِ وَالْجِبَالِ فَتَدُورُ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا .
وَبَيْنَ كُلِّ رِيحَيْنِ رِيحٌ تُسَمَّى النَّكْبَاءَ ، لِتَنَكُّبِهَا طَرِيقَ الرِّيَاحِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَتُعْرَفُ الرِّيَاحُ بِصِفَاتِهَا وَخَصَائِصِهَا ، فَهَذَا أَصَحُّ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْقِبْلَةِ .
وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا الِاسْتِدْلَالَ بِالْمِيَاهِ ، وَقَالُوا : الْأَنْهَارُ الْكِبَارُ كُلُّهَا تَجْرِي عَنْ يَمْنَةِ الْمُصَلِّي إلَى يَسْرَتِهِ ، عَلَى انْحِرَافٍ قَلِيلٍ ، وَذَلِكَ مِثْلُ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنَّهْرَوَانِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْأَنْهَارِ الْمُحْدَثَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ بِحَسَبِ الْحَاجَاتِ إلَى الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ ، وَلَا بِالسَّوَاقِي وَالْأَنْهَارِ الصِّغَارِ ؛ لِأَنَّهَا لَا ضَابِطَ لَهَا ، وَلَا بِنَهْرَيْنِ يَجْرِيَانِ مِنْ يَسْرَةِ الْمُصَلِّي إلَى يَمِينِهِ ، أَحَدُهُمَا الْعَاصِي بِالشَّامِ ، وَالثَّانِي سَيْحُونُ بِالْمَشْرِقِ .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا يَنْضَبِطُ بِضَابِطٍ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَنْهَارِ الشَّامِ تَجْرِي عَلَى غَيْرِ السَّمْتِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ، فَالْأُرْدُنُّ يَجْرِي نَحْوَ الْقِبْلَةِ ، وَكَثِيرٌ مِنْهَا يَجْرِي نَحْوَ الْبَحْرِ ، حَيْثُ كَانَ مِنْهَا حَتَّى يَصُبَّ فِيهِ .
وَإِنْ اخْتَصَّتْ الدَّلَالَةُ بِمَا ذَكَرُوهُ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي الشَّامِ سِوَى الْعَاصِي ، وَالْفُرَاتُ حَدُّ الشَّامِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ .
فَمَنْ عَلِمَ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ فَهُوَ مُجْتَهِدٌ ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ أَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ بِأَدِلَّةٍ تَخْتَصُّ بِبَلْدَتِهِمْ ؛ مِنْ جِبَالِهَا ، وَأَنْهَارِهَا ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، مِثْلُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ جَبَلًا بِعَيْنِهِ يَكُونُ فِي قِبْلَتِهِمْ ، أَوْ عَلَى أَيْمَانِهِمْ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْجِهَاتِ .
وَكَذَلِكَ إنْ عَلِمَ مَجْرَى نَهْرٍ بِعَيْنِهِ .
فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، إذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ ، وَلَمْ يَجِدْ مُخْبِرًا ، فَفَرْضُهُ الصَّلَاةُ إلَى جِهَةٍ يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهَا .
فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ لِغَيْمٍ أَوْ ظُلْمَةٍ ، تَحَرَّى فَصَلَّى ، وَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ ؛ لِمَا نَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ ، وَلِأَنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَدِلَّتِهِ ، فَأَشْبَهَ الْحَاكِمَ وَالْعَالِمَ إذَا خَفِيَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ .
( 620 ) فَصْلٌ : إذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ ، ثُمَّ أَرَادَ صَلَاةً أُخْرَى ، لَزِمَهُ إعَادَةُ الِاجْتِهَادِ ، كَالْحَاكِمِ إذَا اجْتَهَدَ فِي حَادِثَةٍ ، ثُمَّ حَدَثَ مِثْلُهَا ، لَزِمَهُ إعَادَةُ الِاجْتِهَادِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
فَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ ، عَمِلَ بِالثَّانِي ، وَلَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى بِالْأَوَّلِ ، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ عَمِلَ بِالثَّانِي فِي الْحَادِثَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلَمْ يَنْقُضْ حُكْمَهُ الْأَوَّلَ .
وَهَذَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
فَإِنْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي الصَّلَاةِ ، اسْتَدَارَ إلَى الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ .
نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فِي رِوَايَةِ الْجَمَاعَةِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى ، وَالْآمِدِيُّ : لَا يَنْتَقِلُ ، وَيَمْضِي عَلَى اجْتِهَادِهِ الْأَوَّلِ ؛ لِئَلَّا يَنْقُضَ الِاجْتِهَادَ بِالِاجْتِهَادِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِهَا ، كَمَا لَوْ أَرَادَ صَلَاةً أُخْرَى ، وَلِأَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ إلَيْهَا ، كَسَائِرِ مَحَالِّ الْوِفَاقِ ، وَلَيْسَ هَذَا نَقْضًا لِلِاجْتِهَادِ ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ الْأُخْرَى ، وَإِنَّمَا يَكُونُ نَقْضًا لِلِاجْتِهَادِ أَنْ لَوْ أَلْزَمْنَاهُ إعَادَةَ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ ، وَلَمْ نَعْتَدَّ لَهُ بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ اجْتِهَادُهُ وَظَنُّهُ إلَى الْجِهَةِ الْأُولَى ، وَلَمْ يُؤَدِّهِ اجْتِهَادُهُ إلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى ، فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ جِهَةٌ أُخْرَى يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا .
وَإِنْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ فِي الصَّلَاةِ ، بِمُشَاهَدَةٍ أَوْ خَبَرٍ عَنْ يَقِينٍ ، اسْتَدَارَ إلَى جِهَةِ الصَّوَابِ ، وَبَنَى كَأَهْلِ قُبَاءَ لَمَّا أُخْبِرُوا بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ اسْتَدَارُوا إلَيْهَا وَبَنَوْا .
وَإِنْ شَكَّ فِي اجْتِهَادِهِ لَمْ يَزُلْ عَنْ جِهَتِهِ ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ ظَاهِرٌ ، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ .
وَإِنْ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ ، وَلَمْ يَعْرِفْ جِهَةَ الْقِبْلَةِ ، كَرَجُلٍ كَانَ يُصَلِّي إلَى جِهَةٍ ، فَرَأَى بَعْضَ مَنَازِلِ الْقَمَرِ فِي قِبْلَتِهِ ، وَلَمْ يَدْرِ أَهُوَ فِي الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ ، وَاحْتَاجَ إلَى الِاجْتِهَادِ ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدَامَتُهَا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، وَلَيْسَتْ لَهُ جِهَةٌ يَتَوَجَّهُ إلَيْهَا ، فَبَطَلَتْ ، لِتَعَذُّرِ إتْمَامِهَا .
( 621 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ ، لَمْ يَتْبَعْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا ، فَفَرْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الصَّلَاةُ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إلَيْهَا أَنَّهَا الْقِبْلَةُ ، لَا يَسَعُهُ تَرْكُهَا ، وَلَا تَقْلِيدُ صَاحِبِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، كَالْعَالِمَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي الْحَادِثَةِ .
وَلَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا اجْتَهَدَ ، فَأَرَادَ الْآخَرُ تَقْلِيدَهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَسَعُهُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَجْتَهِدَ ، سَوَاءٌ اتَّسَعَ الْوَقْتُ ، أَوْ كَانَ ضَيِّقًا يَخْشَى خُرُوجَ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، كَالْحَاكِمِ ، لَا يَسُوغُ لَهُ الْحُكْمُ فِي حَادِثَةٍ بِتَقْلِيدِ غَيْرِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ ، فِي الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ اجْتِهَادِهِ ، أَنَّ لَهُ تَقْلِيدَ غَيْرِهِ .
وَأَشَارَ إلَى قَوْلِ أَحْمَدَ ، فِيمَنْ هُوَ فِي مَدِينَةٍ ، فَتَحَرَّى ، فَصَلَّى لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ فِي بَيْتٍ يُعِيدُ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ ، قَالَ : فَقَدْ جَعَلَ فَرْضَ الْمَحْبُوسِ السُّؤَالَ ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَكَلَامُ أَحْمَدَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمَنْ فِي الْمِصْرِ الِاجْتِهَادُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّوَصُّلُ إلَى الْقِبْلَةِ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَحَارِيبِ ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَسَعَتِهِ ، مَعَ اتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ ، وَلِأَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي حَقِّهِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِضِيقِ الْوَقْتِ ، مَعَ إمْكَانِهِ ، كَسَائِرِ الشُّرُوطِ .
( 622 ) فَصْلٌ : وَإِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ رَجُلَيْنِ ، فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جِهَةٍ ، فَلَيْسَ لَأَحَدِهِمَا الِائْتِمَامُ بِصَاحِبِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْتَقِدُ خَطَأَ صَاحِبِهِ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ ، كَمَا لَوْ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا رِيحٌ ، وَاعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِنْ صَاحِبِهِ ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُصَلِّيَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِصَاحِبِهِ .
وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ ذَلِكَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ صَلَاةِ الْآخَرِ .
فَإِنَّ فَرْضَهُ التَّوَجُّهُ إلَى مَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ ، فَلَمْ يَمْنَعْ اقْتِدَاءَهُ بِهِ اخْتِلَافُ جِهَتِهِ ، كَالْمُصَلِّينَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ مُسْتَدِيرِينَ حَوْلَهَا ، وَكَالْمُصَلِّينَ حَالَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْمُصَلِّي فِي جُلُودِ الثَّعَالِبِ ، إذَا كَانَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } .
مَعَ كَوْنِ أَحْمَدَ لَا يَرَى طَهَارَتَهَا ، وَفَارَقَ مَا إذَا اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدَثَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ ، بِحَيْثُ لَوْ بَانَ لَهُ يَقِينًا حَدَثُ نَفْسِهِ ، لَزِمَتْهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ ؛ وَهَاهُنَا صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، بِحَيْثُ لَوْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ ، فَافْتَرَقَا .
فَأَمَّا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَمِيلُ يَمِينًا ، وَيَمِيلُ الْآخَرُ شِمَالًا ، مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِهَةِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِي أَنَّ لَأَحَدِهِمَا الِائْتِمَامَ بِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ ، وَقَدْ اتَّفَقَا فِيهَا .
( 623 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَتْبَعُ الْأَعْمَى أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ ) يَعْنِي إذَا اخْتَلَفَ مُجْتَهِدَانِ فِي الْقِبْلَةِ ، وَمَعَهُمَا أَعْمَى ، قَلَّدَ أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُهُمَا عِنْدَهُ وَأَصْدَقُهُمَا قَوْلًا ، وَأَشَدُّهُمَا تَحَرِّيًا ؛ لِأَنَّ الصَّوَابَ إلَيْهِ أَقْرَبُ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبَصِيرِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْأَدِلَّةَ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِهَا قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، فَرْضُهُ أَيْضًا التَّقْلِيدُ ، وَيُقَلِّدُ أَوْثَقَهُمَا فِي نَفْسِهِ ، فَإِنْ قَلَّدَ الْمَفْضُولَ ، فَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ ، فَلَمْ يَسُغْ لَهُ ذَلِكَ ، كَالْمُجْتَهِدِ إذَا تَرَكَ جِهَةَ اجْتِهَادِهِ ، وَالْأَوْلَى صِحَّتُهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِدَلِيلٍ لَهُ الْأَخْذُ بِهِ لَوْ انْفَرَدَ .
فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ ، كَمَا لَوْ اسْتَوَيَا ، وَلَا عِبْرَةَ بِظَنِّهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمَفْضُولَ مُصِيبٌ ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ تَقْلِيدِ الْأَفْضَلِ .
فَأَمَّا إنْ اسْتَوَيَا عِنْدَهُ ، فَلَهُ تَقْلِيدُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا ، كَالْعَامِّيِّ مَعَ الْعُلَمَاءِ فِي بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ .
( 624 ) فَصْلٌ : وَالْمُقَلِّدُ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ بِاجْتِهَادِ نَفْسِهِ ، إمَّا لِعَدَمِ بَصَرِهِ ، وَإِمَّا لِعَدَمِ بَصِيرَتِهِ ، وَهُوَ الْعَامِّيُّ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ التَّعَلُّمُ وَالصَّلَاةُ بِاجْتِهَادِهِ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ .
فَأَمَّا مَنْ يُمْكِنُهُ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ التَّعَلُّمُ ، فَإِنْ صَلَّى قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِهِ ، فَلَمْ يَصِحَّ بِالتَّقْلِيدِ كَالْمُجْتَهِدِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْعَامِّيَّ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ تَعَلُّمُ الْفِقْهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفِقْهَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مُدَّتَهُ تَطُولُ .
فَهُوَ كَاَلَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ الْأَدِلَّةِ فِي مَسْأَلَتِنَا .
وَإِنْ أَخَّرَ هَذَا التَّعَلُّمَ وَالصَّلَاةَ إلَى حَالٍ يَضِيقُ وَقْتُهَا عَنْ التَّعَلُّمِ وَالِاجْتِهَادِ ، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا ، صَحَّتْ صَلَاتُهُ بِالتَّقْلِيدِ ، كَاَلَّذِي يَقْدِرُ عَلَى تَعَلُّمِ الْفَاتِحَةِ ، فَيَضِيقُ الْوَقْتُ عَنْ تَعَلُّمِهَا .
( 625 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ بِهِ رَمَدٌ ، أَوْ عَارِضٌ يَمْنَعُهُ رُؤْيَةَ الْأَدِلَّةِ ، فَهُوَ كَالْأَعْمَى ، فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِاجْتِهَادِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَحْبُوسًا فِي مَكَان لَا يَرَى فِيهِ الْأَدِلَّةَ ، وَلَا يَجِدُ مُخْبِرًا إلَّا مُجْتَهِدًا آخَرَ فِي مَكَان يَرَى الْعَلَامَاتِ فِيهِ ، فَلَهُ تَقْلِيدُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَعْمَى .
( 626 ) فَصْلٌ : وَإِذَا شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِتَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ : قَدْ أَخْطَأْتَ الْقِبْلَةَ ، وَإِنَّمَا الْقِبْلَةُ هَكَذَا .
وَكَانَ يُخْبِرُ عَنْ يَقِينٍ ، مِثْلُ مَنْ يَقُولُ : قَدْ رَأَيْتُ الشَّمْسَ ، أَوْ الْكَوَاكِبَ ، وَتَيَقَّنْتُ أَنَّك مُخْطِئٌ .
فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ ، وَيَسْتَدِيرُ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَخْبَرَهُ أَنَّهَا جِهَةُ الْكَعْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي قَلَّدَهُ الْأَعْمَى ، لَزِمَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ ، فَالْأَعْمَى أَوْلَى .
وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنْ اجْتِهَادِهِ ، أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ أَخْبَرَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهِ أَوْثَقَ مِنْ الْأَوَّلِ ، مَضَى عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بِدَلِيلٍ يَقِينًا ، فَلَا يَزُولُ عَنْهُ بِالشَّكِّ .
وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَقُلْنَا : لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ الْأَفْضَلِ .
فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ قُلْنَا : عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ خَاصَّةً ، رَجَعَ إلَى قَوْلِهِ ، كَالْبَصِيرِ إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ .
فَصْلٌ : وَلَوْ شَرَعَ مُجْتَهِدٌ فِي الصَّلَاةِ بِاجْتِهَادِهِ ، فَعَمِيَ فِيهَا ، بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ عَلَى اجْتِهَادِ غَيْرِهِ ، فَاجْتِهَادُهُ أَوْلَى ، فَإِنْ اسْتَدَارَ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ .
وَإِنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ بِخَطَئِهِ عَنْ يَقِينٍ ، رَجَعَ إلَيْهِ .
وَإِنْ أَخْبَرَهُ عَنْ اجْتِهَادٍ ، لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَإِنْ شَرَعَ فِيهَا وَهُوَ أَعْمَى ، فَأَبْصَرَ فِي أَثْنَائِهَا ، فَشَاهَدَ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى صَوَابِ نَفْسِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَرَى الشَّمْسَ فِي قِبْلَتِهِ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، مَضَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَيْنِ قَدْ اتَّفَقَا .
وَإِنْ بَانَ لَهُ خَطَؤُهُ ، اسْتَدَارَ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّاهُ إلَيْهَا ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَبِنْ لَهُ صَوَابُهُ وَلَا خَطَؤُهُ ، بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَاجْتَهَدَ ؛ لِأَنَّ فَرْضَهُ الِاجْتِهَادُ ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَدَاءُ فَرْضِهِ بِالتَّقْلِيدِ ، كَمَا لَوْ كَانَ بَصِيرًا فِي ابْتِدَائِهَا .
وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا ، مَضَى فِي صَلَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا الدَّلِيلُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ فِيهَا .
( 628 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إعَادَةٌ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا صَلَّى بِالِاجْتِهَادِ إلَى جِهَةٍ ، ثُمَّ بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا ، لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ .
وَكَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ الَّذِي صَلَّى بِتَقْلِيدِهِ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
وَقَالَ فِي الْآخَرِ : يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ فِي شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ ، فَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ ، كَمَا لَوْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ ، أَوْ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أَوْ سِتَارَةٍ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ ، فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ، فَلَمْ نَدْرِ أَيْنَ الْقِبْلَةُ ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ حِيَالَهُ ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } } .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ إلَّا أَنَّهُ مِنْ حَدِيثِ أَشْعَثَ السَّمَّانِ ، وَفِيهِ ضَعْفٌ .
وَعَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : { كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ ، فَأَصَابَنَا غَيْمٌ ، فَتَحَيَّرْنَا فَاخْتَلَفْنَا فِي الْقِبْلَةِ ، فَصَلَّى كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا عَلَى حِدَةٍ ، وَجَعَلَ أَحَدُنَا يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ لِنَعْلَمَ أَمْكِنَتَنَا ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْمُرْنَا بِالْإِعَادَةِ ، وَقَالَ : قَدْ أَجْزَأَتْكُمْ صَلَاتُكُمْ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ، وَقَالَ : رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَالِمٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْد اللَّه الْعُمَرِيِّ ، عَنْ عَطَاءٍ .
وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ .
وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ : لَا يُرْوَى مَتْنُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهٍ يَثْبُتُ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " ، {
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَنَزَلَتْ : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ، فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
فَمَرَّ رَجُلٌ بِبَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ، وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً ، فَنَادَى : أَلَا إنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ .
فَمَالُوا كُلُّهُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ } .
وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْتَفِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَتْرُكُ إنْكَارَهُ إلَّا وَهُوَ جَائِزٌ .
وَقَدْ كَانَ مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ ، فَخَرَجَ عَنْ الْعَهْدِ ، كَالْمُصِيبِ ، وَلِأَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ لِلْعُذْرِ ، فَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، كَالْخَائِفِ يُصَلِّي إلَى غَيْرِهَا ، وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ عَجَزَ عَنْهُ ، فَأَشْبَهَ سَائِرَ الشُّرُوطِ .
وَأَمَّا الْمُصَلِّي قَبْلَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ بِغَيْرِ شَكٍّ ، وَلَمْ يُؤْمَرْ إلَّا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ ، وَسَائِرُ الشُّرُوطِ ، إذَا عَجَزَ عَنْهَا ، سَقَطَتْ ، كَذَا هَاهُنَا ، وَأَمَّا إذَا ظَنَّ وُجُودَهَا فَأَخْطَأَ ، فَلَيْسَتْ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ، فَنَظِيرُهُ : إذَا اجْتَهَدَ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْحَضَرِ ، فَأَخْطَأَ .
( 629 ) فَصْلٌ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْأَدِلَّةُ ظَاهِرَةً مَكْشُوفَةً فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ، أَوْ مَسْتُورَةً بِغَيْمٍ أَوْ شَيْءٍ يَسْتُرُهَا عَنْهُ ، بِدَلِيلِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ اسْتَتَرَتْ عَنْهُمْ بِالْغَيْمِ ، فَلَمْ يُعِيدُوا ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ فِي الْحَالَيْنِ ، وَعَجَزَ عَنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، فَاسْتَوَيَا فِي عَدَمِ الْإِعَادَةِ .
( 630 ) فَصْلٌ : وَإِنْ بَانَ لَهُ يَقِينُ الْخَطَأِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ، اسْتَدَارَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ ، وَبَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْهَا كَانَ صَحِيحًا ، فَجَازَ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَبِنْ لَهُ الْخَطَأُ .
وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً ، قَدْ أَدَّاهُمْ اجْتِهَادُهُمْ إلَى جِهَةٍ ، فَقَدَّمُوا أَحَدَهُمْ ، ثُمَّ بَانَ لَهُمْ الْخَطَأُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، اسْتَدَارُوا إلَى الْجِهَةِ الَّتِي بَانَ لَهُمْ الصَّوَابُ فِيهَا ، كَبَنِي سَلَمَةَ ، لَمَّا بَانَ لَهُمْ تَحَوُّلُ الْكَعْبَةِ .
وَإِنْ بَانَ لِلْإِمَامِ وَحْدَهُ ، أَوْ لِلْمَأْمُومِينَ دُونَهُ ، أَوْ لِبَعْضِهِمْ ، اسْتَدَارَ مَنْ بَانَ لَهُ الصَّوَابُ وَحْدَهُ ، وَيَنْوِي بَعْضُهُمْ مُفَارَقَةَ بَعْضٍ ، إلَّا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَقْتَدِيَ بِمَنْ خَالَفَهُ فِي الِاجْتِهَادِ .
وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُقَلِّدٌ ، تَبِعَ مَنْ قَلَّدَهُ وَانْحَرَفَ بِانْحِرَافِهِ .
وَإِنْ قَلَّدَ الْجَمِيعَ ، لَمْ يَنْحَرِفْ إلَّا بِانْحِرَافِ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ بِدَلِيلٍ يَقِينِيٍّ ، فَلَا يَنْحَرِفُ بِالشَّكِّ إلَّا مَنْ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ أَوْثَقِهِمْ ، فَإِنَّهُ يَنْحَرِفُ بِانْحِرَافِهِ .
( 631 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِذَا صَلَّى الْبَصِيرُ فِي حَضَرٍ ، فَأَخْطَأَ ، أَوْ الْأَعْمَى بِلَا دَلِيلٍ ، أَعَادَا ) .
أَمَّا الْبَصِيرُ إذَا صَلَّى إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ فِي الْحَضَرِ ، ثُمَّ بَانَ لَهُ الْخَطَأُ ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، سَوَاءٌ إذَا صَلَّى بِدَلِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَضَرَ لَيْسَ بِمَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ، لِأَنَّ مَنْ فِيهِ يَقْدِرُ عَلَى الْمَحَارِيبِ وَالْقِبَلِ الْمَنْصُوبَةِ ، وَيَجِدُ مَنْ يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ غَالِبًا ، فَلَا يَكُونُ لَهُ الِاجْتِهَادُ ، كَالْقَادِرِ عَلَى النَّصِّ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ ، فَإِنْ صَلَّى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَأَخْطَأَ ، لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ ؛ لِتَفْرِيطِهِ .
وَإِنْ أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ ، فَأَخْطَأَهُ ، فَقَدْ غَرَّهُ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ خَبَرَهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ .
فَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا ، لَا يَجِدُ مَنْ يُخْبِرُهُ ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ : هُوَ كَالْمُسَافِرِ ، يَتَحَرَّى فِي مَحْبِسِهِ ، وَيُصَلِّي ، مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ وَالْمَحَارِيبِ ، فَهُوَ كَالْمُسَافِرِ .
وَأَمَّا الْأَعْمَى ، فَإِنْ كَانَ فِي حَضَرٍ ، فَهُوَ كَالْبَصِيرِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْخَبَرِ وَالْمَحَارِيبِ ، فَإِنَّ الْأَعْمَى إذَا لَمَسَ الْمِحْرَابَ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مِحْرَابٌ ، وَأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِ ، فَهُوَ كَالْبَصِيرِ .
وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ بَابَ الْمَسْجِدِ إلَى الشَّمَالِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْجِهَاتِ ، جَازَ لَهُ الِاسْتِدْلَال بِهِ ، وَمَتَى أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ .
وَحُكْمُ الْمُقَلِّدِ حُكْمُ الْأَعْمَى فِي هَذَا .
وَإِنْ كَانَ الْأَعْمَى ، أَوْ الْمُقَلِّدُ مُسَافِرًا ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُخْبِرُهُ ، وَلَا مُجْتَهِدًا يُقَلِّدُهُ ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ يُعِيدُ ، سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، فَلَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ وَإِنْ أَصَابَ ، كَانَ كَالْمُجْتَهِدِ إذَا صَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ ، وَفِي الْإِعَادَةِ رِوَايَتَانِ ، سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ :
إحْدَاهُمَا : يُعِيدُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِيَةُ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ ، فَأَشْبَهَ الْمُجْتَهِدَ وَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ غَيْرِ مَا أَتَى بِهِ ، فَسَقَطَ عَنْهُ ، كَسَائِرِ الْعَاجِزِينَ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ ، وَلِأَنَّهُ عَادِمٌ لِلدَّلِيلِ ، فَأَشْبَهَ الْمُجْتَهِدَ ، فِي الْغَيْمِ وَالْحَبْسِ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : إنْ أَخْطَأَ أَعَادَ ، وَإِنْ أَصَابَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ .
وَحُكْمُ الْمُقَلِّدِ لِعَدَمِ بَصِيرَتِهِ كَعَادِمِ بَصَرِهِ .
فَأَمَّا إنْ وَجَدَ مَنْ يُقَلِّدُهُ ، أَوْ مَنْ يُخْبِرُهُ ، فَلَمْ يَسْتَخْبِرْهُ وَلَمْ يُقَلِّدْ ، أَوْ خَالَفَ الْمُخْبِرَ وَالْمُجْتَهِدَ ، وَصَلَّى ، فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ .
وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ إذَا صَلَّى مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ ، فَأَصَابَ ، أَوْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى جِهَةٍ ، فَصَلَّى إلَى غَيْرِهَا ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ ؛ سَوَاءٌ أَخْطَأَ أَوْ أَصَابَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِمَا أُمِرَ بِهِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إلَى الْكَعْبَةِ ، مَعَ عِلْمِهِ بِهَا .
( 632 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَتْبَعُ دَلَالَةَ مُشْرِكٍ بِحَالٍ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ ، وَلَا رِوَايَتُهُ ، وَلَا شَهَادَتُهُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعِ أَمَانَةٍ ) وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تَأْتَمِنُوهُمْ بَعْدَ إذْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .
وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْفَاسِقِ ؛ لِقِلَّةِ دِينِهِ ، وَتَطَرُّقِ التُّهْمَةِ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ .
وَلَا يَقْبَلُ خَبَرُ الصَّبِيِّ لِذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ مَأْثَمٌ بِكَذِبِهِ ، فَتَحَرُّزُهُ مِنْ الْكَذِبِ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ .
وَقَالَ التَّمِيمِيُّ ؛ يُقْبَلُ خَبَرُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ .
وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ حَالَ الْمُخْبِرِ ، فَإِنْ شَكَّ فِي إسْلَامِهِ وَكُفْرِهِ ، لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَهُ ، كَمَا لَوْ وَجَدَ مَحَارِيبَ لَا يَعْلَمُ هَلْ هِيَ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عَدَالَتَهُ وَفِسْقَهُ ، قَبِلَ خَبَرَهُ ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُسْلِمِ يُبْنَى عَلَى الْعَدَالَةِ ، مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهَا ، وَيَقْبَلُ خَبَرَ سَائِرُ النَّاسِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْبَالِغِينَ الْعُقَلَاءِ ، سَوَاءٌ كَانُوا رِجَالًا أَوْ نِسَاءً ، وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنْ أَخْبَارِ الدِّينِ ، فَأَشْبَهَ الرِّوَايَةَ .
وَيَقْبَلُ مِنْ الْوَاحِدِ كَذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
آدَابُ الْمَشْيِ إلَى الصَّلَاةِ يُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ ، إذَا أَقْبَلَ إلَى الصَّلَاةِ ، أَنْ يُقْبِلَ بِخَوْفٍ وَوَجَلٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ ، وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، وَإِنْ سَمِعَ الْإِقَامَةَ لَمْ يَسْعَ إلَيْهَا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا } .
وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، قَالَ : { بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ ، فَلَمَّا صَلَّى ، قَالَ : مَا شَأْنُكُمْ قَالُوا : اسْتَعْجَلْنَا إلَى الصَّلَاةِ .
قَالَ : فَلَا
تَفْعَلُوا ، إذَا أَتَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَفِي رِوَايَةٍ " فَاقْضُوا " .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : وَلَا بَأْسَ إذَا طَمِعَ أَنْ يُدْرِكَ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى أَنْ يُسْرِعَ شَيْئًا ، مَا لَمْ يَكُنْ عَجَلَةً تُقَبَّحُ ، جَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعَجِّلُونَ شَيْئًا إذَا خَافُوا فَوَاتَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَارِبَ بَيْنَ خُطَاهُ ، لِتَكْثُرَ حَسَنَاتُهُ ، فَإِنَّ كُلَّ خُطْوَةٍ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، فِي " مُسْنَدِهِ " ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : { أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَأَنَا مَعَهُ ، فَقَارَبَ فِي الْخُطَى ، ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرِي لِمَ فَعَلْتُ هَذَا ؟ لِتَكْثُرَ خُطَانَا فِي طَلَبِ الصَّلَاةِ } .
وَيُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى الْمَسْجِدِ ، فَلَا يُشَبِّكَنَّ يَدَيْهِ ، فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
( 633 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا ، وَفِي لِسَانِي نُورًا ، وَاجْعَلْ فِي سَمْعِي نُورًا ، وَاجْعَلْ فِي بَصَرِي نُورًا ، وَاجْعَلْ مِنْ خَلْفِي نُورًا ، وَمِنْ أَمَامِي نُورًا ، وَاجْعَلْ مِنْ فَوْقِي نُورًا ، وَمِنْ تَحْتِي نُورًا ، وَأَعْطِنِي نُورًا } .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي " السُّنَنِ " ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الصَّلَاةِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ
إنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْكَ ، وَأَسْأَلُكَ بِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا ، فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا ، وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً ، وَخَرَجْتُ اتِّقَاءَ سُخْطِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ ، فَأَسْأَلُكَ أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ النَّارِ ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي ، إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ .
أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ .
وَيَقُولُ : بِسْمِ اللَّهِ { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } إلَى قَوْلِهِ : { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } } .
( 634 ) فَصْلٌ : فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَقَالَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ ، أَوْ أَبِي أُسَيْدَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ .
وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِكَ } ، وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي ، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك ، وَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَقَالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي ، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
ثُمَّ يَجْلِسُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، وَيَشْتَغِلُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، أَوْ يَسْكُتُ ، وَلَا يَخُوضُ فِي حَدِيثِ الدُّنْيَا ، وَلَا يُشَبِّكُ أَصَابِعَهُ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَنَّ ؛ فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنْ الشَّيْطَانِ ،
وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَزَالُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ ، فِي " الْمُسْنَدِ "
( 635 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْهَا بِنَافِلَةٍ ، سَوَاءٌ خَشِيَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَمْ لَمْ يَخْشَ .
وَبِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَعُرْوَةُ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ دَخَلَ وَالْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ ، وَمَكْحُولٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ رَكَعَهُمَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَرْكَعُهُمَا إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَلِأَنَّ مَا يَفُوتُهُ مَعَ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِمَّا يَأْتِي بِهِ ، فَلَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ ، كَمَا لَوْ خَافَ فَوَاتَ الرَّكْعَةِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : الْحُجَّةُ عِنْدَ التَّنَازُعِ السُّنَّةُ ، فَمَنْ أَدْلَى بِهَا فَقَدْ فَلَحَ ، وَمَنْ اسْتَعْمَلَهَا فَقَدْ نَجَا .
قَالَ : وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، فَرَأَى نَاسًا يُصَلُّونَ ، فَقَالَ : أَصَلَاتَانِ مَعًا ؟ } .
وَرَوَى نَحْوَ ذَلِكَ أَنَسٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَرْجِسَ ، وَابْنُ بُحَيْنَةَ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُنَّ كُلَّهُنَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ " التَّمْهِيدِ " .
قَالَ : وَكُلُّ هَذَا إنْكَارٌ مِنْهُ لِهَذَا الْفِعْلِ .
فَأَمَّا إنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي النَّافِلَةِ ، وَلَمْ يَخْشَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ ، أَتَمَّهَا ، وَلَمْ يَقْطَعْهَا ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } .
وَإِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ ، فَعَلَى رِوَايَتَيْنِ ؛ إحْدَاهُمَا ، يُتِمُّهَا ؛
لِذَلِكَ .
وَالثَّانِيَةُ ، يَقْطَعُهَا ؛ لِأَنَّ مَا يُدْرِكُهُ مِنْ الْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَكْثَرُ ثَوَابًا مِمَّا يَفُوتُهُ بِقَطْعِ النَّافِلَةِ ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ سَبْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً .
( 636 ) فَصْلٌ : قِيلَ لِأَحْمَدَ : قَبْلَ التَّكْبِيرِ يَقُولُ شَيْئًا ؟ قَالَ : لَا .
يَعْنِي لَيْسَ قَبْلَهُ دُعَاءٌ مَسْنُونٌ ، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ ، وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ بَعْدَ الْعِبَادَةِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } .
بَابُ صِفَةِ الصَّلَاةِ .
رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ ، قَالَ سَمِعْت أَبَا حُمَيْدٍ السَّاعِدِيَّ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو قَتَادَةَ ، فَقَالَ أَبُو حُمَيْدٍ ؛ أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالُوا : فَاعْرِضْ .
قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يَرْفَعُ يَدَيْهِ ، حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ، حَتَّى يَقِرَّ كُلُّ عَظْمٍ فِي مَوْضِعِهِ مُعْتَدِلًا .
ثُمَّ يَقْرَأُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ، فَيَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ، ثُمَّ يَرْكَعُ ، وَيَضَعُ رَاحَتَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، ثُمَّ يَعْتَدِلُ ، فَلَا يُصَوِّبُ رَأْسَهُ وَلَا يُقْنِعُهُ ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، وَيَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ .
ثُمَّ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ مَنْكِبَيْهِ مُعْتَدِلًا ، ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ .
ثُمَّ يَهْوِي إلَى الْأَرْضِ ، فَيُجَافِي يَدَيْهِ عَنْ جَنْبَيْهِ ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، وَيُثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا ، وَيَفْتَحُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ إذَا سَجَدَ ، وَيَسْجُدُ ، ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَيَرْفَعُ وَيُثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى ، فَيَقْعُدُ عَلَيْهَا ، حَتَّى يَرْجِعَ كُلُّ عَظْمٍ إلَى مَوْضِعِهِ ، ثُمَّ يَصْنَعُ فِي الْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ إذَا قَامَ مِنْ الرَّكْعَةِ كَبَّرَ ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ، كَمَا كَبَّرَ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ ، حَتَّى إذَا كَانَتْ السَّجْدَةُ الَّتِي فِيهَا التَّسْلِيمُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى ، وَقَعَدَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ .
قَالُوا : صَدَقْتَ ، هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، قَالَ : { فَإِذَا رَكَعَ أَمْكَنَ يَدَيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ ، ثُمَّ
هَصَرَ ظَهْرَهُ ، فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ اسْتَوَى قَائِمًا حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ ، وَإِذَا سَجَدَ سَجَدَ غَيْرَ مُفْتَرِشٍ ، وَلَا قَابِضَهُمَا ، وَاسْتَقْبَلَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ الْقِبْلَةَ ، فَإِذَا جَلَسَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَلَسَ عَلَى الْيُسْرَى ، وَنَصَبَ الْأُخْرَى ، فَإِذَا كَانَتْ السَّجْدَةُ الَّتِي فِيهَا التَّسْلِيمُ أَخَّرَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى ، وَجَلَسَ مُتَوَرِّكًا عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ ، وَقَعَدَ عَلَى مَقْعَدَتِهِ } .
( 637 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُومَ إلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ .
وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : عَلَى هَذَا أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقُومُ إذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ، وَسَالِمٌ ، وَأَبُو قِلَابَةَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَعَطَاءٌ ، يَقُومُونَ فِي أَوَّلِ بَدْوَةٍ مِنْ الْإِقَامَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقُومُ إذَا قَالَ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ ، فَإِذَا قَالَ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ .
كَبَّرَ .
وَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ يُكَبِّرُونَ إذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ .
وَبِهِ قَالَ سُوَيْد بْنُ غَفَلَةَ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ بِلَالٍ : لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ .
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُكَبِّرُ قَبْلَ فَرَاغِهِ .
وَلَا يُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا أَنْ يُكَبِّرَ إلَّا بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْإِقَامَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ ، وَيَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي يُوسُفَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَعَلَيْهِ جُلُّ الْأَئِمَّةِ فِي الْأَمْصَارِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ يَقُومُ عِنْدَ قَوْلِهِ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ ؛ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ ، وَمَقْصُودُهُ الْإِعْلَامُ لِيَقُومُوا ، فَيُسْتَحَبُّ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْقِيَامِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ ، وَتَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ ، وَلَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَفْرُغَ الْمُؤَذِّنُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُكَبِّرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ ، أَنَّهُ كَانَ يُعَدِّلُ الصُّفُوفَ بَعْدَ إقَامَةِ الصَّلَاةِ ، وَيَقُولُ فِي الْإِقَامَةِ مِثْلَ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ ، فَرَوَى أَنَسٌ ، قَالَ : { أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ ، فَقَالَ : أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ، وَتَرَاصُّوا ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْهُ قَالَ ، { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ
قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا ، عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ : اسْتَوُوا وَاعْتَدِلُوا } .
وَفِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ بِلَالًا أَخَذَ فِي الْإِقَامَةِ ، فَلَمَّا أَنْ قَالَ : قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا } .
وَقَالَ فِي سَائِرِ الْإِقَامَةِ كَنَحْوِ حَدِيثِ عُمَرَ فِي الْأَذَانِ ، فَأَمَّا حَدِيثُهُمْ ، فَإِنَّ بِلَالًا كَانَ يُقِيمُ فِي مَوْضِعِ أَذَانِهِ ، وَإِلَّا فَلَيْسَ بَيْنَ لَفْظِ الْإِقَامَةِ وَالْفَرَاغِ مِنْهَا مَا يَفُوتُ بِلَالًا " آمِينَ " ، مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّمَا يَقُومُ الْمَأْمُومُونَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَقَامِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ .
فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ : أَذْهَبُ إلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : { خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَقَمْنَا الصُّفُوفَ } .
إسْنَادٌ جَيِّدٌ ؛ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد ، سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ : يَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الصُّفُوفُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْإِمَامُ ، فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقِفَ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : { كَانَتْ الصَّلَاةُ تُقَامُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْخُذُ النَّاسُ مَصَافَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَامَهُ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
فَإِنْ أُقِيمَتْ ، وَالْإِمَامُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ ، وَلَمْ يَعْلَمُوا قُرْبَهُ ، لَمْ يَقُومُوا ؛ لِمَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِلْبُخَارِيِّ : " قَدْ خَرَجْتُ " ، وَخَرَجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ قِيَامًا لِلصَّلَاةِ ، فَقَالَ : " مَا لِي أَرَاكُمْ سَامِدِينَ ؟ " .
( 638 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ ، يَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينِهِ ، فَيَقُولُ : اسْتَوُوا .
رَحِمَكُمْ اللَّهُ .
وَعَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَدِيثِ ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، قَالَ : { صَلَّيْت إلَى جَنْبِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَوْمًا ، فَقَالَ : هَلْ تَدْرِي لِمَ صُنِعَ هَذَا الْعُودُ ؟ قُلْت : لَا وَاَللَّهِ .
فَقَالَ : لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ أَخَذَهُ بِيَمِينِهِ ، فَقَالَ : اعْتَدِلُوا ، وَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ .
ثُمَّ أَخَذَهُ بِيَسَارِهِ ، وَقَالَ : اعْتَدِلُوا ، وَسَوُّوا صُفُوفَكُمْ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَعَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سَوُّوا صُفُوفَكُمْ ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
( 639 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ( وَإِذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِقَوْلِ : " اللَّهُ أَكْبَرُ " .
عِنْدَ إمَامِنَا ، وَمَالِكٍ .
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَطَاوُسٌ ، وَأَيُّوبُ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، يَقُولُونَ : افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ .
وَعَلَى هَذَا عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : تَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ : اللَّهُ الْأَكْبَرُ .
لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَمْ تُغَيِّرْهُ عَنْ بِنْيَتِهِ وَمَعْنَاهُ ، وَإِنَّمَا أَفَادَتْ التَّعْرِيفَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَنْعَقِدُ بِكُلِّ اسْمٍ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ ، كَقَوْلِهِ : اللَّهُ عَظِيمٌ .
أَوْ كَبِيرٌ ، أَوْ جَلِيلٌ .
وَسُبْحَانَ اللَّهِ .
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
وَنَحْوِهِ .
قَالَ الْحَاكِمُ : لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ ، أَشْبَهَ قَوْلَهُ : اللَّهُ أَكْبَرُ .
وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِالْخُطْبَةِ ، حَيْثُ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَفْظُهَا .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ } .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
{ وَقَالَ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ : إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي حَدِيثِ رِفَاعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ ، فَيَقُولَ : اللَّهُ أَكْبَرُ } .
{ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِقَوْلِهِ : اللَّهُ أَكْبَرُ } .
لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ عُدُولٌ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ ، وَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ دَلَالَةَ الْأَخْبَارِ ، فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ ، ثُمَّ يَبْطُلُ بِقَوْلِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي .
وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى الْخُطْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا لَفْظٌ بِعَيْنِهِ فِي جَمِيعِ خُطَبِهِ ، وَلَا أَمْرٌ بِهِ ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْكَلَامِ فِيهَا وَالتَّلَفُّظِ بِمَا شَاءَ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ ، وَالصَّلَاةُ بِخِلَافِهِ ، وَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ عُدُولٌ عَنْ الْمَنْصُوصِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ : اللَّهُ الْعَظِيمُ .
وَقَوْلُهُمْ : لَمْ تُغَيَّرْ بِنْيَتُهُ وَلَا مَعْنَاهُ .
لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْ التَّنْكِيرِ إلَى التَّعْرِيفِ ، وَكَانَ مُتَضَمِّنًا لَإِضْمَارٍ أَوْ تَقْدِيرٍ .
فَزَالَ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ " اللَّهُ أَكْبَرُ " التَّقْدِيرُ : مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .
وَلَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا فِي كَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي الْمُتَعَارَفِ فِي كَلَامِ الْفُصَحَاءِ إلَّا هَكَذَا ، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ التَّكْبِيرِ يَنْصَرِفُ إلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا ، كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ التَّسْمِيَةِ يَنْصَرِفُ إلَى قَوْلِ " بِسْمِ اللَّهِ " دُونَ غَيْرِهِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا لَيْسَ مِثْلًا لَهَا .
( 640 ) فَصْلٌ : وَالتَّكْبِيرُ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ ، لَا تَنْعَقِدُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ ، سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا ، وَهَذَا قَوْلُ رَبِيعَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْحَكَمُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : مَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ ، أَجْزَأَتْهُ تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ } .
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ بِدُونِهِ .
( 641 ) فَصْلٌ : وَلَا يَصِحُّ التَّكْبِيرُ إلَّا مُرَتَّبًا ، فَإِنْ نَكَسَهُ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ تَكْبِيرًا .
وَيَجِبُ عَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يُسْمِعَهُ نَفْسَهُ إمَامًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ عَارِضٌ مِنْ طَرَشٍ ، أَوْ مَا يَمْنَعُهُ السَّمَاعَ ، فَيَأْتِيَ بِهِ بِحَيْثُ لَوْ كَانَ سَمِيعًا أَوْ لَا عَارِضَ بِهِ سَمِعَهُ ، وَلِأَنَّهُ ذِكْرٌ مَحَلُّهُ اللِّسَانُ ، وَلَا يَكُونُ كَلَامًا بِدُونِ الصَّوْتِ ، وَالصَّوْتُ مَا يَتَأَتَّى سَمَاعُهُ ، وَأَقْرَبُ السَّامِعِينَ إلَيْهِ نَفْسُهُ ، فَمَتَى لَمْ يَسْمَعْهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أَتَى بِالْقَوْلِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ .
( 642 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ ، بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمَأْمُومُونَ لِيُكَبِّرُوا ، فَإِنَّهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ التَّكْبِيرُ إلَّا بَعْدَ تَكْبِيرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إسْمَاعُهُمْ ، جَهَرَ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ لِيَسْمَعَهُمْ ، أَوْ لِيَسْمَعَ مَنْ لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ ، قَالَ : { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ خَلْفَهُ ، فَإِذَا كَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبَّرَ أَبُو بَكْرٍ ؛ لِيُسْمِعَنَا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
( 643 ) فَصْلٌ : وَيُبَيِّنُ التَّكْبِيرَ ، وَلَا يَمُدُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْمَدِّ ، فَإِنْ فَعَلَ بِحَيْثُ تَغَيَّرَ الْمَعْنَى ، مِثْلُ أَنْ يَمُدَّ الْهَمْزَةَ الْأُولَى ، فَيَقُولَ : آللَّهُ .
فَيَجْعَلَهَا اسْتِفْهَامًا ، أَوْ يَمُدَّ أَكْبَرَ .
فَيَزِيدَ أَلِفًا ، فَيَصِيرَ جَمْعَ كَبَرٍ ، وَهُوَ الطَّبْلُ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَتَغَيَّرُ بِهِ .
وَإِنْ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ وَأَجَلُّ .
وَنَحْوَهُ ، لَمْ يُسْتَحَبَّ .
نَصَّ عَلَيْهِ ، وَانْعَقَدَتْ الصَّلَاةُ بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى .
فَصْلٌ : وَلَا يُجْزِئُهُ التَّكْبِيرُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُجْزِئُهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } .
وَهَذَا قَدْ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ .
وَلَنَا ، مَا تَقَدَّمَ مِنْ النُّصُوصِ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا ، وَهَذَا يَخُصُّ مَا ذَكَرُوا .
فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ ، لَزِمَهُ تَعَلُّمُ التَّكْبِيرِ بِهَا ، فَإِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ كَبَّرَ بِلُغَتِهِ .
ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ " : لَا يُكَبِّرُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأَخْرَسِ ، كَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ لَا يُعَبِّرُ عَنْهَا بِغَيْرِهَا .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ ذِكْرُ اللَّهِ ، وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَحْصُلُ بِكُلِّ لِسَانٍ ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ ، فَإِذَا عَبَّرَ عَنْهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا ، وَالذِّكْرُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ ذِكْرًا .
( 645 ) فَصْلٌ : فَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ أَوْ عَاجِزًا عَنْ التَّكْبِيرِ بِكُلِّ لِسَانٍ ، سَقَطَ عَنْهُ ، وَقَالَ الْقَاضِي : عَلَيْهِ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ يَلْزَمُهُ النُّطْقُ بِتَحْرِيكِ لِسَانِهِ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ الْآخَرُ .
وَلَا يَصِحُّ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ عَجَزَ عَنْهُ ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ فِي مَوْضِعِهِ كَالْقِرَاءَةِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ تَحْرِيكُ لِسَانِهِ بِالتَّكْبِيرِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ضَرُورَةً يُوقَفُ التَّكْبِيرُ عَلَيْهَا ، فَإِذَا سَقَطَ التَّكْبِيرُ سَقَطَ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ ، كَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ الْقِيَامُ ، سَقَطَ عَنْهُ النُّهُوضُ إلَيْهِ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ .
وَلِأَنَّ تَحْرِيكَ اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ عَبَثٌ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِهِ ، فَلَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ ، كَالْعَبَثِ بِسَائِرِ جَوَارِحِهِ .
( 646 ) فَصْلٌ : وَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالتَّكْبِيرِ قَائِمًا .
فَإِنْ انْحَنَى إلَى الرُّكُوعِ بِحَيْثُ يَصِيرُ رَاكِعًا قَبْلَ إنْهَاءِ التَّكْبِيرِ ، لَمْ تَنْعَقِدْ صَلَاتُهُ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ نَافِلَةً ؛ لِسُقُوطِ الْقِيَامِ فِيهَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الرُّكُوعِ غَيْرُ صِفَةِ الْقُعُودِ ، وَلَمْ يَأْتِ التَّكْبِيرَ قَائِمًا وَلَا قَاعِدًا .
وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ قَاعِدًا ، كَانَ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالتَّكْبِيرِ قَبْلَ وُجُودِ الرُّكُوعِ مِنْهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : إنْ كَبَّرَ فِي الْفَرِيضَةِ ، فِي حَالِ انْحِنَائِهِ إلَى الرُّكُوعِ ، انْعَقَدَتْ نَفْلًا ؛ لِأَنَّهَا امْتَنَعَ وُقُوعُهَا فَرْضًا ، وَأَمْكَنَ جَعْلُهَا نَفْلًا ، فَأَشْبَهَ مَنْ أَحْرَمَ بِفَرِيضَةٍ ، فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا .
( 647 ) فَصْلٌ : وَلَا يُكَبِّرُ الْمَأْمُومُ حَتَّى يَفْرُغَ إمَامُهُ مِنْ التَّكْبِيرِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُكَبِّرُ مَعَهُ ، كَمَا يَرْكَعُ مَعَهُ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالرُّكُوعُ مِثْلُ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَرْكَعُ بَعْدَهُ ، إلَّا أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالرُّكُوعِ مَعَهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ .
فَإِنْ كَبَّرَ قَبْلَ إمَامِهِ ، لَمْ يَنْعَقِدْ تَكْبِيرُهُ ، وَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ التَّكْبِيرِ بَعْدَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ .
( 648 ) فَصْلٌ : وَالتَّكْبِيرُ مِنْ الصَّلَاةِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ .
لَيْسَ هُوَ مِنْهَا ؛ بِدَلِيلِ إضَافَتِهِ إلَيْهَا ، بِقَوْلِهِ : { تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ } ، وَلَا يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى نَفْسِهِ .
وَلَنَا ، قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ : { إنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد .
وَمَا ذَكَرُوهُ غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ أَجْزَاءَ الشَّيْءِ تُضَافُ إلَيْهِ ، كَيَدِ الْإِنْسَانِ وَرَأْسِهِ وَأَطْرَافِهِ .
( 649 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَنْوِي بِهَا الْمَكْتُوبَةَ ، يَعْنِي بِالتَّكْبِيرَةِ .
وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي وُجُوبِ النِّيَّةِ لِلصَّلَاةِ ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِهَا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } .
وَالْإِخْلَاصُ عَمَلُ الْقَلْبِ ، وَهُوَ النِّيَّةُ ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } .
وَمَعْنَى النِّيَّةِ الْقَصْدُ ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ .
وَإِنْ لَفَظَ بِمَا نَوَاهُ ، كَانَ تَأْكِيدًا .
فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مَكْتُوبَةً ، لَزِمَتْهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا ؛ ظُهْرًا ، أَوْ عَصْرًا ، أَوْ غَيْرَهُمَا ، فَيَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ شَيْئَيْنِ ؛ الْفِعْلِ ، وَالتَّعْيِينِ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ يُغْنِي عَنْهَا ؛ لِكَوْنِ الظُّهْرِ مَثَلًا لَا يَكُونُ إلَّا فَرْضًا مِنْ الْمُكَلَّفِ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَةَ قَدْ تَكُونُ نَفْلًا ، كَظُهْرِ الصَّبِيِّ وَالْمُعَادَةِ ، فَيَفْتَقِرُ إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ؛ الْفِعْلِ ، وَالتَّعْيِينِ ، وَالْفَرْضِيَّةِ .
وَيَحْتَمِلُ هَذَا كَلَامَ الْخِرَقِيِّ ؛ لِقَوْلِهِ : " يَنْوِي بِهَا الْمَكْتُوبَةَ " أَيْ الْوَاجِبَةَ الْمُعَيَّنَةَ .
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ هُنَا لِلْمَعْهُودِ ، أَيْ أَنَّهَا الْمَكْتُوبَةُ الْحَاضِرَةُ .
وَقَالَ الْقَاضِي : ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، أَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّعْيِينِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى الْمَفْرُوضَةَ انْصَرَفَتْ النِّيَّةُ إلَى الْحَاضِرَةِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ هُنَا لِلْمَعْهُودِ ، كَمَا ذَكَرْنَا ، وَالْحُضُورُ لَا يَكْفِي عَنْ النِّيَّةِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يُغْنِ عَنْ نِيَّةِ الْمَكْتُوبَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ ، فَلَا تَتَعَيَّنُ إحْدَاهُنَّ بِدُونِ
التَّعْيِينِ .
فَأَمَّا الْفَائِتَةُ ، فَإِنْ عَيَّنَهَا بِقَلْبِهِ أَنَّهَا ظُهْرُ الْيَوْمِ ، لَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةِ الْقَضَاءِ ، وَلَا الْأَدَاءِ ، بَلْ لَوْ نَوَاهَا أَدَاءً ، فَبَانَ أَنَّ وَقْتَهَا قَدْ خَرَجَ وَقَعَتْ قَضَاءً مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ .
وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ ، فَنَوَاهَا قَضَاءً ، فَبَانَ أَنَّهَا فِي وَقْتِهَا ، وَقَعَتْ أَدَاءً مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ ، كَالْأَسِيرِ إذَا تَحَرَّى وَصَامَ شَهْرًا ، يُرِيدُ بِهِ شَهْرَ رَمَضَانَ ، فَوَافَقَهُ ، أَوْ مَا بَعْدَهُ ، أَجْزَأَهُ .
وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ عَلَيْهِ ظُهْرًا فَائِتَةً ، فَقَضَاهَا فِي وَقْتِ ظُهْرِ الْيَوْمِ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ ظُهْرِ الْيَوْمِ ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مُعَيَّنَةٌ ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ فِي نِيَّةِ الْوَقْتِ ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ ، كَمَا إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْوَقْتَ قَدْ خَرَجَ ، فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ ، أَوْ كَمَا لَوْ نَوَى ظُهْرَ أَمْسِ ، وَعَلَيْهِ ظُهْرُ يَوْمٍ قَبْلَهُ .
وَالثَّانِي : لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ عَيْنَ الصَّلَاةِ ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى قَضَاءَ عَصْرٍ ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الظُّهْرِ .
وَلَوْ نَوَى ظُهْرَ الْيَوْمِ فِي وَقْتِهَا ، وَعَلَيْهِ فَائِتَةٌ ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْهَا ، وَيَتَخَرَّجُ فِيهَا كَاَلَّتِي قَبْلَهَا .
فَأَمَّا إنْ كَانَتْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ ، فَنَوَى صَلَاةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ ، لَمْ يُجْزِئْهُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ؛ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ .
وَلَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ يَوْمٍ لَا يَعْلَمُ عَيْنَهَا ، لَزِمَهُ خَمْسُ صَلَوَاتٍ ؛ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ أَدَّى الْفَائِتَةَ .
وَلَوْ نَسِيَ صَلَاةً لَا يَدْرِي أَظُهْرٌ هِيَ أَمْ عَصْرٌ ، لَزِمَهُ صَلَاتَانِ ، فَإِنْ صَلَّى وَاحِدَةً يَنْوِي أَنَّهَا الْفَائِتَةُ ، لَمْ يُجْزِئْهُ ؛ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ .
( 650 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا النَّافِلَةُ ، فَتَنْقَسِمُ إلَى مُعَيَّنَةٍ ، كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ ، وَالِاسْتِسْقَاءِ ، وَالتَّرَاوِيحِ ، وَالْوِتْرِ ، وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ ، فَيَفْتَقِرُ إلَى التَّعْيِينِ أَيْضًا ، وَإِلَى مُطْلَقَةٍ ، كَصَلَاةِ
اللَّيْلِ ، فَيُجْزِئُهُ نِيَّةُ الصَّلَاةِ لَا غَيْرُ ؛ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ فِيهَا .
( 651 ) فَصْلٌ : وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةٍ مُتَرَدِّدَةٍ بَيْنَ إتْمَامِهَا وَقَطْعِهَا ، لَمْ تَصِحَّ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَزْمٌ جَازِمٌ ، وَمَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ .
وَإِنْ تَلَبَّسَ بِهَا بِنِيَّةٍ صَحِيحَةٍ ، ثُمَّ نَوَى قَطْعَهَا ، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا ، بَطَلَتْ .
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ صَحَّ دُخُولُهُ فِيهَا ، فَلَمْ تَفْسُدْ بِنِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْهَا كَالْحَجِّ .
وَلَنَا ، أَنَّهُ قَطَعَ حُكْمَ النِّيَّةِ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ ، فَفَسَدَتْ ، كَمَا لَوْ سَلَّمَ يَنْوِي الْخُرُوجَ مِنْهَا ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ قَطَعَهَا بِمَا حَدَثَ ، فَفَسَدَتْ لِذَهَابِ شَرْطِهَا ، وَفَارَقَتْ الْحَجَّ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِمَحْظُورَاتِهِ ، وَلَا بِمُفْسِدَاتِهِ ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ .
فَأَمَّا إنْ تَرَدَّدَ فِي قَطْعِهَا ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِيهَا بِنِيَّةٍ مُتَيَقَّنَةٍ ، فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ .
وَقَالَ الْقَاضِي : يَحْتَمِلُ أَنْ تَبْطُلَ .
وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ النِّيَّةِ شَرْطٌ مَعَ التَّرَدُّدِ لَا يَكُونُ مُسْتَدِيمًا لَهَا ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى قَطْعَهَا
( 652 ) فَصْلٌ : وَالْوَاجِبُ اسْتِصْحَابُ حُكْمِ النِّيَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْوِي قَطْعَهَا .
وَلَوْ ذَهَلَ عَنْهَا وَعَزَبَتْ عَنْهُ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي صِحَّتِهَا ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ ، بِدَلِيلِ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ ، وَلَهُ حُصَاصٌ ، فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ ، يَقُولُ : اُذْكُرْ كَذَا ، اُذْكُرْ كَذَا ، حَتَّى يَظَلَّ أَحَدُكُمْ أَنْ لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَاهُ مَالِكٌ ، فِي " الْمُوَطَّأِ " .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا ، فَقِيلَ لَهُ : إنَّك لَمْ تَقْرَأْ .
فَقَالَ : إنِّي جَهَّزْتُ جَيْشًا لِلْمُسْلِمِينَ ، حَتَّى بَلَغْتُ بِهِ وَادِيَ الْقُرَى
( 653 ) فَصْلٌ : فَإِنْ شَكَّ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ ، هَلْ نَوَى أَوْ لَا ؟ أَوْ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، اسْتَأْنَفَهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا شَكَّ فِيهِ ؛ فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَوَى أَوْ كَبَّرَ قَبْلَ قَطْعِهَا ، أَوْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ ، فَلَهُ الْبِنَاءُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مُبْطِلٌ لَهَا .
وَإِنْ عَمِلَ فِيهَا عَمَلًا مَعَ الشَّكِّ ، فَقَالَ الْقَاضِي : تَبْطُلُ .
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ عَرِيَ عَنْ النِّيَّةِ وَحُكْمِهَا ، فَإِنَّ اسْتِصْحَابَ حُكْمِهَا مَعَ الشَّكِّ لَا يُوجَدُ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا تَبْطُلُ ، وَيَبْنِي أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُزِيلُ حُكْمَ النِّيَّةِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ لَمْ يُحْدِثْ عَمَلًا ، فَإِنَّهُ يَبْنِي ، وَلَوْ زَالَ حُكْمُ النِّيَّةِ لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ ، كَمَا لَوْ نَوَى قَطْعَهَا .
وَإِنْ شَكَّ هَلْ نَوَى فَرْضًا أَوْ نَفْلًا ؟ أَتَمَّهَا نَفْلًا ، إلَّا أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ نَوَى الْفَرْضَ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ عَمَلًا .
وَإِنْ ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ إحْدَاثِ عَمَلٍ ، خُرِّجَ فِيهِ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
فَإِنْ شَكَّ ، هَلْ أَحْرَمَ بِظُهْرٍ أَوْ عَصْرٍ ؟ فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ شَكَّ ؛ فِي النِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ شَرْطٌ ، وَقَدْ زَالَ بِالشَّكِّ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُتِمَّهَا نَفْلًا ، كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ ، فَبَانَ أَنَّهُ قَبْلَ وَقْتِهِ .
( 654 ) فَصْلٌ : وَإِذَا أَحْرَمَ بِفَرِيضَةٍ ، ثُمَّ نَوَى نَقْلَهَا إلَى فَرِيضَةٍ أُخْرَى ، بَطَلَتْ الْأُولَى ، لِأَنَّهُ قَطَعَ نِيَّتَهَا ، وَلَمْ تَصِحَّ الثَّانِيَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا مِنْ أَوَّلِهَا .
فَإِنْ نَقَلَهَا إلَى نَفْلٍ لِغَيْرِ غَرَضٍ ، فَقَالَ الْقَاضِي : لَا يَصِحُّ ، رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَقَالَ فِي " الْجَامِعِ " : يُخَرَّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : يُكْرَهُ ، وَيَصِحُّ ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ يَدْخُلُ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَحْرَمَ بِفَرْضٍ فَبَانَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهُ ، وَصِحَّةُ نَقْلِهَا إذَا كَانَ لِغَرَضٍ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْوَجْهَيْنِ .
فَأَمَّا إنْ نَقَلَهَا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ ، مِثْلُ مَنْ أَحْرَمَ بِهَا مُنْفَرِدًا ، فَحَضَرَتْ جَمَاعَةٌ ، فَجَعَلَهَا نَفْلًا لِيُصَلِّيَ فَرْضَهُ فِي جَمَاعَةٍ .
فَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ .
وَقَالَ الْقَاضِي : فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ النَّفَلَ مِنْ أَوَّلِهَا .
وَالثَّانِيَةُ ، يَصِحّ ؛ لِأَنَّهُ لِفَائِدَةٍ ، وَهِيَ تَأْدِيَةُ فَرْضِهِ فِي الْجَمَاعَةِ مُضَاعَفَةً لِلثَّوَابِ ، بِخِلَافِ مَنْ نَقَلَهَا لِغَيْرِ غَرَضٍ ، فَإِنَّهُ أَبْطَلَ عَمَلَهُ لِغَيْرِ سَبَبٍ وَلَا فَائِدَةٍ .
( 655 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَإِنْ تَقَدَّمَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ وَبَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ مَا لَمْ يَفْسَخْهَا أَجْزَأَهُ ) قَالَ أَصْحَابُنَا : يَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى التَّكْبِيرِ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ ، وَإِنْ طَالَ الْفَصْلُ أَوْ فَسَخَ نِيَّتَهُ بِذَلِكَ ، لَمْ يُجْزِئْهُ .
وَحَمَلَ الْقَاضِي كَلَامَ الْخِرَقِيِّ عَلَى هَذَا ، وَفَسَّرَهُ بِهِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ يُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ النِّيَّةِ لِلتَّكْبِيرِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } .
فَقَوْلُهُ ( مُخْلِصِينَ ) حَالٌ لَهُمْ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ ، فَإِنَّ الْحَالَ وَصْفُ هَيْئَةِ الْفَاعِلِ وَقْتَ الْفِعْلِ ، وَالْإِخْلَاصُ هُوَ النِّيَّةُ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } .
وَلِأَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَخْلُوَ الْعِبَادَةُ عَنْهَا ، كَسَائِرِ شُرُوطِهَا .
وَلَنَا ، أَنَّهَا عِبَادَةٌ فَجَازَ تَقْدِيمُ نِيَّتِهَا عَلَيْهَا ، كَالصَّوْمِ ، وَتَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الْفِعْلِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مَنْوِيًّا ، وَلَا يُخْرِجُ الْفَاعِلَ عَنْ كَوْنِهِ مُخْلِصًا ، بِدَلِيلِ الصَّوْمِ ، وَالزَّكَاةِ إذَا دَفَعَهَا إلَى وَكِيلِهِ ، كَسَائِرِ الْأَفْعَالِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ .
( 656 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ ، أَوْ إلَى حَذْوِ مَنْكِبَيْهِ ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ أَبِي حُمَيْدٍ وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ ، قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يُحَاذِيَ بِهِمَا مَنْكِبَيْهِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ ، وَبَعْدَمَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، وَلَا يَرْفَعُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي رَفْعِهِمَا إلَى فُرُوعِ أُذُنَيْهِ أَوْ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَبْلُغَ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ، وَإِنَّمَا خُيِّرَ لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالرَّفْعُ إلَى حَذْوِ الْمَنْكِبَيْنِ ؛ فِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ ، رَوَاهُ عَلِيٌّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ ، وَالرَّفْعُ إلَى حَذْوِ الْأُذُنَيْنِ .
رَوَاهُ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ ، وَمَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَقَالَ بِهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَمَيْلُ أَحْمَدَ إلَيَّ الْأَوَّلِ أَكْثَرُ ، قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إلَى أَيْنَ يَبْلُغُ بِالرَّفْعِ ؟ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَذْهَبُ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ إلَى حَذْوِ أُذُنَيْهِ فَحَسَنٌ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ رُوَاةَ الْأَوَّلِ أَكْثَرُ وَأَقْرَبُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَوَّزَ الْآخَرَ لِأَنَّ صِحَّةَ رِوَايَتِهِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً .
( 657 ) فَصْلٌ : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمُدَّ أَصَابِعَهُ وَقْتَ الرَّفْعِ ، وَيَضُمَّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا } .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : السُّنَّةُ أَنْ يُفَرِّقَ أَصَابِعَهُ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنْشُرُ أَصَابِعَهُ لِلتَّكْبِيرِ } .
وَلَنَا ، مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَحَدِيثُهُمْ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا خَطَأٌ ، وَالصَّحِيحُ مَا رَوَيْنَاهُ .
ثُمَّ لَوْ صَحَّ كَانَ مَعْنَاهُ مَدَّ أَصَابِعِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ : أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا : هَذَا الضَّمُّ .
وَضَمَّ أَصَابِعَهُ .
وَهَذَا النَّشْرُ .
وَمَدَّ أَصَابِعَهُ .
وَهَذَا التَّفْرِيقُ .
وَفَرَّقَ أَصَابِعَهُ .
وَلِأَنَّ النَّشْرَ لَا يَقْتَضِي التَّفْرِيقَ كَنَشْرِ الثَّوْبِ ، وَلِهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ ، وَلَا تَفْرِيقَ فِيهِ .
( 658 ) فَصْلٌ : وَيَبْتَدِئُ رَفْعَ يَدَيْهِ مَعَ ابْتِدَاءِ التَّكْبِيرِ ، وَيَكُونُ انْتِهَاؤُهُ مَعَ انْقِضَاءِ تَكْبِيرِهِ ، وَلَا يَسْبِقُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَإِذَا انْقَضَى التَّكْبِيرُ حَطَّ يَدَيْهِ ، فَإِنْ نَسِيَ رَفْعَ الْيَدَيْنِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ التَّكْبِيرِ ، لَمْ يَرْفَعْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحِلُّهَا .
وَإِنْ ذَكَرَهُ فِي أَثْنَاءِ التَّكْبِيرِ رَفَعَ ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ بَاقٍ .
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُ يَدَيْهِ إلَى الْمَنْكِبَيْنِ رَفَعَهُمَا قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ .
وَإِنْ أَمْكَنَهُ رَفْعُ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى رَفَعَهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ رَفْعُهُمَا إلَّا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَسْنُونِ رَفَعَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ وَزِيَادَةٍ مَغْلُوبٍ عَلَيْهَا .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَقَوْلِنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ جَمِيعِهِ .
( 659 ) فَصْلٌ : وَإِنْ كَانَتْ يَدَاهُ فِي ثَوْبِهِ ، رَفَعَهُمَا بِحَيْثُ يُمْكِنُ ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ ، قَالَ { : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّتَاءِ ، فَرَأَيْتُ أَصْحَابَهُ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ فِي الصَّلَاةِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ ،
قَالَ : ثُمَّ جِئْتُ فِي زَمَانٍ فِيهِ بَرْدٌ شَدِيدٌ فَرَأَيْتُ النَّاسَ عَلَيْهِمْ جُلُّ الثِّيَابِ ، تَتَحَرَّكُ أَيْدِيهِمْ تَحْتَ الثِّيَابِ .
رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَفِي رِوَايَةٍ ؛ فَرَأَيْتُهُمْ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى صُدُورِهِمْ .
( 660 ) فَصْلٌ : وَالْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ وَالْمُنْفَرِدُ فِي هَذَا سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ الْفَرِيضَةُ وَالنَّافِلَةُ ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تَفْرِيقَ فِيهَا .
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَذَكَرَ الْقَاضِي فِيهَا رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ إحْدَاهُمَا ، تَرْفَعُ ؛ لِمَا رَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ ، وَحَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَانَتَا تَرْفَعَانِ أَيْدِيَهُمَا .
وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ ، وَلِأَنَّ مَنْ شُرِعَ فِي حَقِّهِ التَّكْبِيرُ شُرِعَ فِي حَقِّهِ الرَّفْعُ كَالرَّجُلِ ، فَعَلَى هَذَا تَرْفَعُ قَلِيلًا .
قَالَ أَحْمَدُ : رَفْعٌ دُونَ الرَّفْعِ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يُشْرَعُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّجَافِي ، وَلَا يُشْرَعُ ذَلِكَ لَهَا ، بَلْ تَجْمَعُ نَفْسَهَا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَسَائِرِ صَلَاتِهَا .
( 661 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( ثُمَّ يَضَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى كُوعِهِ الْيُسْرَى ) أَمَّا وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ ، فَمِنْ سُنَّتِهَا فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَأَبِي مِجْلَزٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ .
وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ إرْسَالُ الْيَدَيْنِ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَالْحَسَنِ .
وَلَنَا : مَا رَوَى قَبِيصَةُ بْنُ هُلْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَؤُمُّنَا فَيَأْخُذُ شِمَالَهُ بِيَمِينِهِ } ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
وَعَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : كَانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ذِرَاعِهِ الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ .
قَالَ أَبُو حَازِمٍ : لَا أَعْلَمُهُ إلَّا يَنْمِي ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِ وَهُوَ وَاضِعٌ شِمَالَهُ عَلَى يَمِينِهِ فَأَخَذَ يَمِينَهُ فَوَضَعَهَا عَلَى شِمَالِهِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
وَرَوَاهُمَا الْأَثْرَمُ .
وَفِي ( الْمُسْنَدِ ) ، عَنْ غُطَيْفٍ ، قَالَ : مَا نَسِيتُ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَلَمْ أَنْسَ أَنِّي { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ فِي الصَّلَاةِ } .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَضَعَهَا عَلَى كُوعِهِ ، وَمَا يُقَارِبُهُ ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ ، أَنَّهُ وَصَفَ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي وَصْفِهِ : ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى وَالرُّسْغِ وَالسَّاعِدِ .
( 662 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَجْعَلُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ ) اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي مَوْضِعِ وَضْعِهِمَا ، فَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهُ يَضَعُهُمَا تَحْتَ سُرَّتِهِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مِجْلَزٍ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مِنْ السُّنَّةِ وَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد .
وَهَذَا يَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ ؛ أَنَّهُ يَضَعُهُمَا فَوْقَ السُّرَّةِ .
وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِمَا رَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ قَالَ { : رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى صَدْرِهِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى } .
وَعَنْهُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَرْوِيٌّ ، ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاسِعٌ
( 663 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَقُولُ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدُّكَ ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَكَانَ مَالِكٌ لَا يَرَاهُ ، بَلْ يُكَبِّرُ وَيَقْرَأُ ؛ لِمَا رَوَى أَنَسٌ ، قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَفْتَتِحُونَ الصَّلَاةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِمَا سَنَذْكُرُهُ ، وَعَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَفْتِحُ بِهِ فِي صَلَاتِهِ ، يَجْهَرُ بِهِ لِيَسْمَعَهُ النَّاسُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَرَادَ بِهِ الْقِرَاءَةَ ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ } .
وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِالْفَاتِحَةِ .
وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ ، وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ أَنَسٌ الِاسْتِفْتَاحُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَإِنَّ أَحْمَدَ ذَهَبَ إلَى الِاسْتِفْتَاحِ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ ، وَقَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَفْتَحَ بِبَعْضِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الِاسْتِفْتَاحِ ، كَانَ حَسَنًا .
أَوْ قَالَ " جَائِزًا " ، وَكَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، إلَى الِاسْتِفْتَاحِ بِمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ كَبَّرَ ، ثُمَّ قَالَ : وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ، أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، أَنَا عَبْدُك ، ظَلَمْتُ نَفْسِي ، وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي ، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا ، لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ ، لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا ، لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْك } .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَبَّرَ فِي الصَّلَاةِ أَسْكَتَ إسْكَاتَةً .
حَسِبْته قَالَ : هُنَيْهَةً .
بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، أَرَأَيْتَ إسْكَاتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ ، مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْمَاءِ وَالْبَرَدِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَتْ عَائِشَةُ ، قَالَتْ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلَاةَ ، قَالَ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ، وَبِحَمْدِكَ ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدُّكَ ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ .
} رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَرَوَاهُ أَنَسٌ ، وَإِسْنَادُ حَدِيثِهِ
كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَعَمِلَ بِهِ السَّلَفُ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْتَفْتِحُ بِهِ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَوَى الْأَسْوَدُ ، أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ عُمَرَ ، فَسَمِعَهُ كَبَّرَ ، فَقَالَ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدُّكَ ، وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ .
فَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ أَحْمَدُ ، وَجَوَّزَ الِاسْتِفْتَاحَ بِغَيْرِهِ ، لِكَوْنِهِ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ : بَعْضُهُمْ يَقُولُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ .
وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَتْرُوكٌ ، فَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَسْتَفْتِحُ بِهِ كُلِّهِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَفْتِحُونَ بِأَوَّلِهِ .
( 664 ) فَصْلٌ : قَالَ أَحْمَدُ : وَلَا يَجْهَرُ الْإِمَامُ بِالِافْتِتَاحِ .
وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْهَرْ بِهِ ، وَإِنَّمَا جَهَرَ بِهِ عُمَرُ ، لِيُعَلِّمَ النَّاسَ .
وَإِذَا نَسِيَ الِاسْتِفْتَاحَ ، أَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا حَتَّى شَرَعَ فِي الِاسْتِعَاذَةِ ، لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحِلُّهَا .
وَكَذَلِكَ إنْ نَسِيَ التَّعَوُّذَ حَتَّى شَرَعَ فِي الْقِرَاءَةِ ، لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ لِذَلِكَ .
( 665 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ ( ثُمَّ يَسْتَعِيذُ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ سُنَّةٌ .
وَبِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ ، وَعَطَاءٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَسْتَعِيذُ ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ اسْتَفْتَحَ ، ثُمَّ يَقُولُ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، مِنْ هَمْزِهِ ، وَنَفْخِهِ ، وَنَفْثِهِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا أَشْهَرُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } .
وَحَدِيثُ أَنَسٍ قَدْ مَضَى جَوَابُهُ .
وَصِفَةُ الِاسْتِعَاذَةِ : أَنْ يَقُولَ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَقُولُ ؛ أَعُوذُ بِاَللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ؛ لِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَهَذَا مُتَضَمِّنٌ لَزِيَادَةٍ ، وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْهُ : أَنَّهُ يَزِيدُ بَعْدَ ذَلِكَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
وَهَذَا كُلُّهُ وَاسِعٌ ، وَكَيْفَمَا اسْتَعَاذَ فَهُوَ حَسَنٌ ، وَيُسِرُّ الِاسْتِعَاذَةَ ، وَلَا يَجْهَرُ بِهَا ، لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا .
( 666 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( ثُمَّ يَقْرَأُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ ، وَرُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهَا ، لَا تَصِحُّ إلَّا بِهَا فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَدَ .
نَقَلَهُ عَنْهُ الْجَمَاعَةُ .
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ ، وَتُجْزِئُ قِرَاءَةُ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ ، مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ : { ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ } وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { : فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } وَقَوْلِهِ { : فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } .
وَلِأَنَّ الْفَاتِحَةَ وَسَائِرَ الْقُرْآنِ سَوَاءٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ ، فَكَذَا فِي الصَّلَاةِ .
وَلَنَا مَا رَوَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ ، فَكَانَتْ مُعَيَّنَةً كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ .
وَأَمَّا خَبَرُهُمْ ، فَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ : ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ } ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى الْفَاتِحَةِ ، وَمَا تَيَسَّرَ مَعَهَا ، مِمَّا زَادَ عَلَيْهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ الْفَاتِحَةَ .
وَأَمَّا الْآيَةُ ، فَتَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَاتِحَةَ وَمَا تَيَسَّرَ مَعَهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْفَاتِحَةِ ، لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِقِيَامِ
اللَّيْلِ ، فَنَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهَا ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ كَانَ مُسِيئًا بِخِلَافِ بَقِيَّةِ السُّوَرِ .
( 667 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَيَبْتَدِئُهَا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .
مَشْرُوعَةٌ فِي الصَّلَاةِ ، فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ ، وَأَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ : لَا يَقْرَؤُهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ ؛ لِحَدِيثِ أَنَسٍ .
وَعَنْ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ ، قَالَ : سَمِعَنِي أَبِي وَأَنَا أَقُولُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
فَقَالَ : أَيْ بُنَيَّ ، مُحْدَثٌ ؟ إيَّاكَ وَالْحَدَثَ .
قَالَ : وَلَمْ أَرَ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَبْغَضَ إلَيْهِ الْحَدَثُ فِي الْإِسْلَامِ - يَعْنِي مِنْهُ .
فَإِنِّي صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ ، فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَقُولُهَا ، فَلَا تَقُلْهَا ، إذَا صَلَّيْتَ فَقُلْ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَلَنَا ، مَا رُوِيَ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ ، أَنَّهُ قَالَ : { صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَقَرَأَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
ثُمَّ قَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ ، وَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ .
وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ { ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَعَدَّهَا آيَةً ، وَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } اثْنَيْنِ } .
فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ ، فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ .
ثُمَّ نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يُسْمَعُ مِنْهُمْ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ .
وَرَوَى شُعْبَةُ ، وَشَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ : سَمِعْت أَنَسَ
بْنَ مَالِكٍ ، قَالَ { صَلَّيْت خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ فَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْهَرُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
وَفِي لَفْظٍ : فَكُلُّهُمْ يُخْفِي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
وَفِي لَفْظٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يُسِرُّ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ .
رَوَاهُ ابْنُ شَاهِينَ .
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا أَيْضًا ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ وَلِأَنَّ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) يُسْتَفْتَحُ بِهَا سَائِرُ السُّوَرِ ، فَاسْتِفْتَاحُ الْفَاتِحَةِ بِهَا أَوْلَى ، لِأَنَّهَا أَوَّلُ الْقُرْآنِ وَفَاتِحَتُهُ ، وَقَدْ سَلَّمَ مَالِكٌ هَذَا ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ : لَا يَقْرَأُ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ ، وَيَسْتَفْتِحُ بِهَا بَقِيَّةَ السُّوَرِ .
مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( وَلَا يَجْهَرُ بِهَا ) يَعْنِي ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) .
وَلَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْجَهْرَ بِهَا غَيْرُ مَسْنُونٍ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ .
وَذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعَمَّارٍ .
وَبِهِ يَقُولُ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَيُرْوَى عَنْ عَطَاءٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، الْجَهْرُ بِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ قَرَأَهَا فِي الصَّلَاةِ وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ قَالَ : مَا أَسْمَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْمَعْنَاكُمْ ، وَمَا أَخْفَى عَلَيْنَا أَخْفَيْنَاهُ عَلَيْكُمْ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَنَسٍ ، { أَنَّهُ صَلَّى وَجَهَرَ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
وَقَالَ : أَقْتَدِي بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّهَا آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ ، فَيَجْهَرُ بِهَا الْإِمَامُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ ، كَسَائِرِ آيَاتِهَا .
وَلَنَا ، حَدِيثُ أَنَسٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغَفَّلِ .
وَعَنْ عَائِشَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي .
وَذَكَرَ الْخَبَرَ .
} أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، وَلَمْ يَجْهَرْ بِهَا .
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ حَالَ الْإِسْرَارِ ، كَمَا سَمِعَ الِاسْتِفْتَاحَ وَالِاسْتِعَاذَةَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ إسْرَارِهِ بِهِمَا ، وَقَدْ رَوَى أَبُو قَتَادَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانًا فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ } .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ جَهَرَ بِهَا ، وَسَائِرُ أَخْبَارِ الْجَهْرِ ضَعِيفَةٌ ؛ فَإِنَّ رُوَاتَهَا هُمْ رُوَاةُ الْإِخْفَاءِ ، وَإِسْنَادُ الْإِخْفَاءِ صَحِيحٌ ثَابِتٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ فِيهِ ، فَدَلَّ عَلَى ضَعْفِ رِوَايَةِ الْجَهْرِ ، وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ الدَّارَقُطْنِيّ قَالَ : لَمْ يَصِحَّ فِي الْجَهْرِ حَدِيثٌ .
( 669 ) فَصْلٌ : وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ ؛ هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ ، أَوْ لَا ؟ فَعَنْهُ أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ .
وَذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ ، وَأَبُو حَفْصٍ .
وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : مَنْ تَرَكَ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) فَقَدْ تَرَكَ مِائَةً وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً .
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ : هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ ؛ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَرَأْتُمْ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَاقْرَءُوا : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
فَإِنَّهَا أُمُّ الْكِتَابِ ، وَإِنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي ، وَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آيَةٌ مِنْهَا } .
وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، أَثْبَتُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ بِخَطِّهَا ، وَلَمْ يُثْبِتُوا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ سِوَى الْقُرْآنِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ ، أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ ، وَلَا آيَةً مِنْ غَيْرِهَا ، وَلَا يَجِبُ قِرَاءَتُهَا فِي الصَّلَاةِ .
وَهِيَ الْمَنْصُورَةُ عِنْدَ أَصْحَابِهِ ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيِّ .
وَاخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهَا ، فَقِيلَ عَنْهُ : هِيَ آيَةٌ مُفْرَدَةٌ كَانَتْ تَنْزِلُ بَيْنَ سُورَتَيْنِ ، فَصْلًا بَيْنَ السُّوَرِ .
وَعَنْهُ : إنَّمَا هِيَ بَعْضُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ .
كَذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْبَدٍ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " إلَّا فِي سُورَةِ { إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، وَلِعَبْدِي
مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ : الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : حَمِدَنِي عَبْدِي .
فَإِذَا قَالَ : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي .
فَإِذَا قَالَ : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ .
قَالَ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي .
فَإِذَا قَالَ : إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ .
قَالَ اللَّهُ : هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ .
فَإِذَا قَالَ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .
قَالَ : هَذَا لِعَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
فَلَوْ كَانَتْ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) آيَةً لَعَدَّهَا ، وَبَدَأَ بِهَا ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّنْصِيفُ ، لِأَنَّ آيَاتِ الثَّنَاءِ تَكُونُ أَرْبَعًا وَنِصْفًا ، وَآيَاتِ الدُّعَاءِ اثْنَتَيْنِ وَنِصْفًا .
وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ يَتَحَقَّقُ التَّنْصِيفُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادِ بْنِ سَمْعَانَ : { يَقُولُ عَبْدِي إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
فَيَذْكُرُنِي عَبْدِي } .
قُلْنَا : ابْنُ سَمْعَانَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ، لَا يُحْتَجُّ بِهِ .
قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيّ .
وَاتِّفَاقُ الرُّوَاةِ عَلَى خِلَافِ رِوَايَتِهِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ .
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { سُورَةٌ هِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِقَارِئِهَا ، أَلَا وَهِيَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } .
وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً سِوَى " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " ، وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ سُورَةَ الْكَوْثَرِ ثَلَاثُ آيَاتٍ ، بِدُونِ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) وَلَوْ كَانَتْ مِنْهَا لَكَانَتْ أَرْبَعًا ، وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ الْآيِ تَجْرِي مَجْرَى الْآيِ أَنْفُسِهَا ، فِي أَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي ذَلِكَ تَوَاتُرٌ .
فَأَمَّا قَوْلُ أُمِّ سَلَمَةَ فَمِنْ رَأْيِهَا ، وَلَا يُنْكَرُ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ .
عَلَى أَنَّنَا نَقُولُ : هِيَ آيَةٌ مُفْرَدَةٌ لِلْفَصْلِ
بَيْنَ السُّوَرِ .
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ ، عَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي بِلَالٍ ، قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : رَاجَعْتُ فِيهِ نُوحًا فَوَقَفَهُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رَفْعَهُ كَانَ وَهْمًا مِنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ .
وَأَمَّا إثْبَاتُهَا بَيْنَ السُّوَرِ فِي الْمُصْحَفِ ، فَلِلْفَصْلِ بَيْنَهَا ، وَلِذَلِكَ أُفْرِدَتْ سَطْرًا عَلَى حِدَتِهَا .
فَصْلٌ : يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ مُرَتَّبَةً مُشَدَّدَةً ، غَيْرَ مَلْحُونٍ فِيهَا لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى ، فَإِنْ تَرَكَ تَرْتِيبَهَا ، أَوْ شَدَّةً مِنْهَا ، أَوْ لَحَنَ لَحْنًا يُحِيلُ الْمَعْنَى ، مِثْلُ أَنْ يَكْسِرَ كَافَ ( إيَّاكَ ) ، أَوْ يَضُمَّ تَاءَ ( أَنْعَمْتَ ) ، أَوْ يَفْتَحَ أَلِفَ الْوَصْلِ فِي ( اهْدِنَا ) ، لَمْ يَعْتَدَّ بِقِرَاءَتِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ غَيْرِ هَذَا .
ذَكَرَ الْقَاضِي نَحْوَ هَذَا فِي ( الْمُجَرَّدِ ) ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ الْقَاضِي فِي ( الْجَامِعِ ) : لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ شَدَّةٍ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي خَطِّ الْمُصْحَفِ ، هِيَ صِفَةٌ لِلْحَرْفِ ، وَيُسَمَّى تَارِكُهَا قَارِئًا .
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ الْمُشَدَّدَ أُقِيمَ مَقَامَ حَرْفَيْنِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ شَدَّةَ رَاءِ ( الرَّحْمَنِ ) أُقِيمَتْ مَقَامَ اللَّازِمِ ، وَشَدَّةَ لَامِ ( الَّذِينَ ) أُقِيمَتْ مَقَامَ اللَّازِمِ أَيْضًا ، فَإِذَا أَخَلَّ بِهَا أَخَلَّ بِالْحَرْفِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَغَيَّرَ الْمَعْنَى ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ أَظْهَرَ الْمُدْغَمَ ، مِثْلُ مَنْ يَقُولُ " الرَّحْمَنِ " مُظْهِرًا لِلَّامِ ، فَهَذَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْإِدْغَامَ ، وَهُوَ مَعْدُودٌ لَحْنًا لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى .
قَالَ : وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ ، أَنَّهُ إذَا لَيَّنَهَا ، وَلَمْ يُحَقِّقْهَا عَلَى الْكَمَالِ ، أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ .
وَلَعَلَّهُ إنَّمَا أَرَادَ فِي ( الْجَامِعِ ) هَذَا الْمَعْنَى ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ مُتَّفِقًا .
وَلَا يُسْتَحَبُّ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّشْدِيدِ ، بِحَيْثُ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ حَرْفٍ سَاكِنٍ ؛ لِأَنَّهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أُقِيمَتْ مَقَامَ حَرْفٍ سَاكِنٍ ؛ فَإِذَا زَادَهَا عَلَى ذَلِكَ زَادَهَا عَمَّا أُقِيمَتْ مَقَامَهُ ، فَيَكُونُ مَكْرُوهًا .
وَفِي ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ثَلَاثُ شَدَّاتٍ ، وَفِيمَا عَدَاهَا إحْدَى عَشْرَةَ تَشْدِيدَةً ، بِغَيْرِ اخْتِلَافٍ
( 671 ) فَصْلٌ : وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ ، يُسْمِعُهَا نَفْسَهُ ، أَوْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَسْمَعُهَا لَوْ كَانَ سَمِيعًا ، كَمَا قُلْنَا فِي التَّكْبِيرِ ، فَإِنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَيْسَ بِقِرَاءَةٍ .
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مُرَتَّلَةً مُعْرَبَةً ، يَقِفُ فِيهَا عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ ، وَيُمَكِّنُ حُرُوفَ الْمَدِّ وَاللِّينِ ، مَا لَمْ يُخْرِجْهُ ذَلِكَ إلَى التَّمْطِيطِ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } .
وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، { أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : كَانَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } .
رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فِي ( مُسْنَدِهِ ) وَعَنْ أَنَسٍ ، قَالَ : { كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدًّا ثُمَّ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ .
} أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
فَإِنْ انْتَهَى ذَلِكَ إلَى التَّمْطِيطِ وَالتَّلْحِينِ كَانَ مَكْرُوهًا ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا جَعَلَ الْحَرَكَاتِ حُرُوفًا .
قَالَ أَحْمَدُ : يُعْجِبُنِي مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ السَّهْلَةُ .
وَقَالَ : قَوْلُهُ : { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } قَالَ : يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي خَبَرٍ آخَرَ : " أَحْسَنُ النَّاسِ قِرَاءَةً ، مَنْ إذَا سَمِعْتَ قِرَاءَتَهُ رَأَيْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ " .
وَرُوِيَ : ( إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ ، فَاقْرَءُوهُ بِحُزْنٍ )
( 672 ) فَصْلٌ : فَإِنْ قَطَعَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ بِذِكْرٍ ؛ مِنْ دُعَاءٍ ، أَوْ قِرَاءَةٍ ، أَوْ سُكُوتٍ يَسِيرٍ ، أَوْ فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ الْفَاتِحَةِ فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ ، قَالَ : آمِينَ .
وَلَا تَنْقَطِعُ قِرَاءَتُهُ ؛ لِقَوْلِ أَحْمَدَ : إذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ سَأَلَ ، وَإِذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ عَذَابٍ اسْتَعَاذَ .
وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ اسْتَأْنَفَ قِرَاءَتَهَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ مَأْمُورًا بِهِ ، كَالْمَأْمُومِ يَشْرَعُ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ ، ثُمَّ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ ، فَيُنْصِتُ لَهُ ، فَإِذَا سَكَتَ الْإِمَامُ أَتَمَّ قِرَاءَتَهَا ، وَأَجْزَأَتْهُ .
أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السُّكُوتُ نِسْيَانًا ، أَوْ نَوْمًا ، أَوْ لِانْتِقَالِهِ إلَى غَيْرِهَا غَلَطًا ، لَمْ يَبْطُلْ ، فَمَتَى ذَكَرَ أَتَى بِمَا بَقِيَ مِنْهَا .
فَإِنْ تَمَادَى فِيمَا هُوَ فِيهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ ، أَبْطَلَهَا ، وَلَزِمَهُ اسْتِئْنَافُهَا ، كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ بِذَلِكَ .
فَإِنْ نَوَى قَطْعَ قِرَاءَتِهَا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَهَا ، لَمْ تَنْقَطِعْ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مُخَالِفٌ لِنِيَّتِهِ ، وَالِاعْتِبَارُ بِالْفِعْلِ لَا بِالنِّيَّةِ .
وَكَذَا إنْ سَكَتَ مَعَ النِّيَّةِ سُكُوتًا يَسِيرًا ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالنِّيَّةِ ، فَوُجُودُهَا كَعَدَمِهَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي ( الْجَامِعِ ) ، أَنَّهُ مَتَى سَكَتَ مَعَ النِّيَّةِ أَبْطَلَهَا ، وَمَتَى عَدَلَ إلَى قِرَاءَةِ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ عَمْدًا ، أَوْ دُعَاءٍ غَيْرِ مَأْمُورٍ بِهِ ، بَطَلَتْ قِرَاءَتُهُ .
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ .
وَإِنْ قَدَّمَ آيَةً مِنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا عَمْدًا ، أَبْطَلَهَا .
وَإِنْ كَانَ غَلَطًا ، رَجَعَ إلَى مَوْضِعِ الْغَلَطِ فَأَتَمَّهَا .
وَالْأَوْلَى ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِرَاءَةِ وُجُودُهَا ، لَا نِيَّتُهَا ، فَمَتَى قَرَأَهَا مُتَوَاصِلَةً تَوَاصُلًا قَرِيبًا صَحَّتْ ، كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ غَلَطٍ .
( 673 ) فَصْلٌ : وَيَجِبُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ : أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْ الصَّلَاةِ .
وَنَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِمَا رُوِيَ ، عَنْ عَلِيٍّ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : اقْرَأْ فِي الْأُولَيَيْنِ ، وَسَبِّحْ فِي الْأُخْرَيَيْنِ .
وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَوْ وَجَبَتْ فِي بَقِيَّةِ الرَّكَعَاتِ ، لَسُنَّ الْجَهْرُ بِهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ ، كَالْأُولَيَيْنِ .
وَعَنْ الْحَسَنِ : أَنَّهُ إنْ قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَجْزَأَهُ ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } .
وَعَنْ مَالِكٍ ، أَنَّهُ إنْ قَرَأَ فِي ثَلَاثٍ ، أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهَا مُعْظَمُ الصَّلَاةِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو قَتَادَةَ { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ ، وَيُطَوِّلُ الْأُولَى ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا ، وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ { .
وَقَالَ : صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } .
وَعَنْهُ ، وَعَنْ عُبَادَةَ ، قَالَا : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ } .
رَوَاهُمَا إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ .
وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ كَيْفَ يُصَلِّي الرَّكْعَةَ الْأُولَى ، ثُمَّ قَالَ : ( وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا ) .
فَيَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ .
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ : ( مَنْ صَلَّى رَكْعَةً ، فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا فَلَمْ يُصَلِّ .
إلَّا خَلْفَ الْإِمَامِ ) رَوَاهُ مَالِكٌ ، فِي "
الْمُوَطَّأِ " .
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ يَرْوِيهِ الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ ، قَالَ الشَّعْبِيُّ : كَانَ كَذَّابًا .
ثُمَّ هُوَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ .
وَقَدْ خَالَفَهُ عُمَرُ ، وَجَابِرٌ ، وَالْإِسْرَارُ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ ؛ بِدَلِيلِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ .
( 674 ) فَصْلٌ : وَلَا تُجْزِئُهُ الْقِرَاءَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَلَا إبْدَالُ لَفْظِهَا بِلَفْظٍ عَرَبِيٍّ ، سَوَاءٌ أَحْسَنَ قِرَاءَتَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ لَمْ يُحْسِنْ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ ذَلِكَ .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : أَنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يُحْسِنْ الْعَرَبِيَّةَ .
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } .
وَلَا يُنْذَرُ كُلُّ قَوْمٍ إلَّا بِلِسَانِهِمْ وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { قُرْآنًا عَرَبِيًّا } .
وقَوْله تَعَالَى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } .
وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ ؛ لَفْظَهُ ، وَمَعْنَاهُ ، فَإِذَا غُيِّرَ خَرَجَ عَنْ نَظْمِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ قُرْآنًا وَلَا مِثْلَهُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَفْسِيرًا لَهُ ، وَلَوْ كَانَ تَفْسِيرُهُ مِثْلَهُ لَمَا عَجَزُوا عَنْهُ لَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، أَمَّا الْإِنْذَارُ ، فَإِنَّهُ إذَا فَسَّرَهُ لَهُمْ كَانَ الْإِنْذَارُ بِالْمُفَسَّرِ دُونَ التَّفْسِيرِ .
( 675 ) فَصْلٌ : فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ الْقِرَاءَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ ، لَزِمَهُ التَّعَلُّمُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَوْ خَشِيَ فَوَاتَ الْوَقْتِ ، وَعَرَفَ مِنْ الْفَاتِحَةِ آيَةً ، كَرَّرَهَا سَبْعًا .
قَالَ الْقَاضِي : لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ مِنْهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا .
وَكَذَلِكَ إنْ أَحْسَنَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، كَرَّرَهُ بِقَدْرِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَقِيَّةِ الْآيِ مِنْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ يَسْقُطُ فَرْضُهَا بِقِرَاءَتِهَا ، فَيَعْدِلُ عَنْ تَكْرَارِهَا إلَى غَيْرِهَا ، كَمَنْ وَجَدَ بَعْضَ الْمَاءِ ، فَإِنَّهُ يَغْسِلُ بِهِ ، وَيَعْدِلُ إلَى التَّيَمُّمِ .
وَذَكَرَ الْقَاضِي هَذَا الِاحْتِمَالَ فِي " الْجَامِعِ " .
وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ ، كَمَا ذَكَرْنَا .
فَأَمَّا إنْ عَرَفَ بَعْضَ آيَةٍ ، لَمْ يَلْزَمْهُ تَكْرَارُهَا ، وَعَدَلَ إلَى غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الَّذِي لَا يُحْسِنُ الْقُرْآنَ أَنْ يَقُولَ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) وَغَيْرَهَا .
وَهِيَ بَعْضُ آيَةٍ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِتَكْرَارِهَا .
وَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْهَا ، وَكَانَ يَحْفَظُ غَيْرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ ، قَرَأَ مِنْهُ بِقَدْرِهَا إنْ قَدَرَ ، لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَك قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ ، وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ ، وَهَلِّلْهُ ، وَكَبِّرْهُ } وَلِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهَا ، فَكَانَ أَوْلَى .
وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ بِعَدَدِ آيَاتِهَا .
وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ حُرُوفِهَا ؟ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا ، لَا يُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّ الْآيَاتِ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَكْفِي عَدَدُ الْحُرُوفِ دُونَهَا ، فَأَشْبَهَ مَنْ فَاتَهُ صَوْمُ يَوْمٍ طَوِيلٍ ، فَلَا يُعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ فِي يَوْمٍ عَلَى قَدْرِ سَاعَاتِ الْأَدَاءِ .
وَالثَّانِي : يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَرْفَ مَقْصُودٌ ؛ بِدَلِيلِ تَقْدِيرِ الْحَسَنَاتِ بِهِ ، وَيُخَالِفُ الصَّوْمَ ، إذْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمِقْدَارِ فِي السَّاعَاتِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ .
فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ إلَّا آيَةً ، كَرَّرَهَا سَبْعًا .
فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ ، وَلَا أَمْكَنَهُ التَّعَلُّمُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، لَزِمَهُ أَنْ يَقُولَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، قَالَ { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ ، فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مِنْهُ .
فَقَالَ : قُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ قَالَ : هَذَا لِلَّهِ .
فَمَا لِي ؟ قَالَ : تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ، وَارْحَمْنِي ، وَارْزُقْنِي
، وَاهْدِنِي ، وَعَافِنِي } .
وَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْخَمْسِ الْأُوَلِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا زَادَهُ عَلَيْهَا حِينَ طَلَبَ الزِّيَادَةَ .
وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، أَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسِ كَلِمَتَيْنِ ، حَتَّى تَكُونَ مَقَامَ سَبْعِ آيَاتٍ .
وَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ ذَلِكَ جَوَابًا لِقَوْلِهِ : عَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي .
وَالسُّؤَالُ كَالْمُعْتَادِ فِي الْجَوَابِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : يُجْزِئُكَ هَذَا .
وَتُفَارِقُ الْقِرَاءَةَ مِنْ غَيْرِ الْفَاتِحَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ ، فَأَشْبَهَ التَّيَمُّمَ .
فَإِنْ لَمْ يُحْسِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ كُلَّهَا ، قَالَ مَا يُحْسِنُ مِنْهَا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ تَكْرَارُ مَا يُحْسِنُ مِنْهَا بِقَدْرِهَا ، كَمَنْ يُحْسِنُ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْزِئَهُ التَّحْمِيدُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ ، وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ ، وَهَلِّلْهُ ، وَكَبِّرْهُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد .
( 676 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( فَإِذَا قَالَ : وَلَا الضَّالِّينَ ، قَالَ : آمِينَ ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ التَّأْمِينَ عِنْدَ فَرَاغِ الْفَاتِحَةِ سُنَّةٌ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ .
رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ ، وَعَطَاءٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ : لَا يَحْسُنْ التَّأْمِينُ لِلْإِمَامِ ؛ لِمَا رَوَى مَالِكٌ ، عَنْ سُمَيٍّ ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا قَالَ الْإِمَامُ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فَقُولُوا : آمِينَ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ } .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُهَا .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا ، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَالَ : وَلَا الضَّالِّينَ .
قَالَ : آمِينَ ، وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ } ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ : وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ .
وَقَالَ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَقَدْ قَالَ بِلَالٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ ) .
وَحَدِيثُهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ تَعْرِيفُهُمْ مَوْضِعَ تَأْمِينِهِمْ ، وَهُوَ عَقِيبَ قَوْلِ الْإِمَامِ : ( وَلَا الضَّالِّينَ ) .
لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تَأْمِينِ الْإِمَامِ ، لِيَكُونَ تَأْمِينُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُوَافِقًا لِتَأْمِينِ الْمَلَائِكَةِ ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا مُصَرَّحًا بِهِ ، كَمَا قُلْنَا ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، فِي " مُسْنَدِهِ " .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إذَا
قَالَ الْإِمَامُ : وَلَا الضَّالِّينَ .
فَقُولُوا : آمِينَ .
فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَقُولُ : آمِينَ .
وَالْإِمَامُ يَقُولُ : آمِينَ .
فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ : ( إذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ ) .
يَعْنِي إذَا شَرَعَ فِي التَّأْمِينِ ( 677 ) فَصْلٌ : وَيُسَنُّ أَنْ يَجْهَرَ بِهِ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْقِرَاءَةِ ، وَإِخْفَاؤُهَا فِيمَا يُخْفِي فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ : يُسَنُّ إخْفَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ .
فَاسْتُحِبَّ إخْفَاؤُهُ كَالتَّشَهُّدِ .
وَلَنَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : آمِينَ .
وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ ، } وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالتَّأْمِينِ عِنْدَ تَأْمِينِ الْإِمَامِ ، فَلَوْ لَمْ يَجْهَرْ بِهِ لَمْ يُعَلِّقْ عَلَيْهِ ، كَحَالَةِ الْإِخْفَاءِ .
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِآخِرِ الْفَاتِحَةِ ، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ وَيُجْهَرُ بِهِ ، وَدُعَاءُ التَّشَهُّدِ تَابِعٌ لَهُ .
فَيَتْبَعُهُ فِي الْإِخْفَاءِ ، وَهَذَا تَابِعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَيَتْبَعُهَا فِي الْجَهْرِ .
فَصْلٌ : فَإِنْ نَسِيَ الْإِمَامُ التَّأْمِينَ أَمَّنَ الْمَأْمُومُ ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ ؛ لِيُذَكِّرَ الْإِمَامَ ، فَيَأْتِيَ بِهِ ، لِأَنَّهُ سُنَّةٌ قَوْلِيَّةٌ إذَا تَرَكَهَا الْإِمَامُ أَتَى بِهَا الْمَأْمُومُ ، كَالِاسْتِعَاذَةِ ، وَإِنْ أَخْفَاهَا الْإِمَامُ جَهَرَ بِهَا الْمَأْمُومُ ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَإِنْ تَرَكَ التَّأْمِينَ نِسْيَانًا ، أَوْ عَمْدًا ، حَتَّى شَرَعَ فِي قِرَاءَةِ السُّورَةِ ، لَمْ يَأْتِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَاتَ مَحِلُّهَا .
( 679 ) فَصْلٌ : فِي " آمِينْ " لُغَتَانِ : قَصْرُ الْأَلِفِ ، وَمَدُّهَا ، مَعَ التَّخْفِيفِ فِيهِمَا ، قَالَ الشَّاعِرُ : تَبَاعَدَ مِنِّي فُطْحُلٌ إذْ دَعْوَتُهُ أَمِينَ فَزَادَ اللَّهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا وَأَنْشَدُوا فِي الْمَمْدُودِ : يَا رَبِّ لَا تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدًا وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ آمِينَا وَمَعْنَى " آمِينَ
" اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِي .
قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَقِيلَ : هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَلَا يَجُوزُ التَّشْدِيدُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ يُحِيلُ مَعْنَاهَا ، فَيَجْعَلُهُ بِمَعْنَى قَاصِدِينَ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } .
( 680 ) فَصْلٌ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْكُتَ الْإِمَامُ عَقِيبَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ سَكْتَةً يَسْتَرِيحُ فِيهَا ، وَيَقْرَأُ فِيهَا مَنْ خَلْفَهُ الْفَاتِحَةَ ، كَيْ لَا يُنَازِعُوهُ فِيهَا .
وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَإِسْحَاقَ .
وَكَرِهَهُ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، وَابْنُ مَاجَهْ أَنَّ ، سَمُرَةَ ، حَدَّثَ ، أَنَّهُ حَفِظَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكْتَتَيْنِ ؛ سَكْتَةً إذَا كَبَّرَ ، وَسَكْتَةً إذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عِمْرَانُ ، فَكَتَبَا فِي ذَلِكَ إلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، فَكَانَ فِي كِتَابِهِ إلَيْهِمَا ، أَنَّ سَمُرَةَ قَدْ حَفِظَ .
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : لِلْإِمَامِ سَكْتَتَانِ ، فَاغْتَنِمُوا فِيهِمَا الْقِرَاءَةَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَإِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ .
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ : أَمَّا أَنَا فَأَغْتَنِمُ مِنْ الْإِمَامِ اثْنَتَيْنِ ، إذَا قَالَ ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) .
فَأَقْرَأُ عِنْدَهَا ، وَحِينَ يَخْتِمُ السُّورَةَ ، فَأَقْرَأُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِهَارِ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ .
رَوَاهُ الْأَثْرَمُ .
( 681 ) مَسْأَلَةٌ : قَالَ : ( ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً فِي ابْتِدَائِهَا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّهُ يُسَنُّ قِرَاءَةُ سُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ ، وَيَجْهَرُ بِهَا فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ بِالْفَاتِحَةِ ، وَيُسِرُّ فِيمَا يُسِرُّ بِهَا فِيهِ .
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَإِنَّ أَبَا قَتَادَةَ رَوَى { ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ ، وَيُسْمِعُ الْآيَةَ أَحْيَانًا ، وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ ، يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : فِي الظُّهْرِ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ بِأُمِّ الْكِتَابِ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَى أَبُو بَرْزَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ مِنْ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ .
وَقَدْ اشْتَهَرَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسُّورَةِ مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ ، وَنُقِلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا ، وَأَمَرَ بِهِ مُعَاذًا ، فَقَالَ : اقْرَأْ بِالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَبِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَيُسَنُّ أَنْ يَفْتَتِحَ السُّورَةَ بِقِرَاءَةِ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ، وَافَقَ مَالِكٌ عَلَى هَذَا ؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ : لَا يَقْرَأُ ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ ، وَيَسْتَفْتِحُ بِهَا فِي بَقِيَّةِ السُّوَرِ .
وَيُسِرُّ بِهَا فِي السُّورَةِ كَمَا يُسِرُّ بِهَا فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ ، وَالْخِلَافُ هَاهُنَا كَالْخِلَافِ ثَمَّ ، وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ
( 682 ) فَصْلٌ : وَيَقْرَأُ بِمَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ .
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَخْتَارُ قِرَاءَةَ نَافِعٍ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ .
قَالَ : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِرَاءَةُ عَاصِمٍ ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ .
وَأَثْنَى عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ .
وَلَمْ يَكْرَهْ قِرَاءَةَ أَحَدٍ مِنْ الْعَشْرِ ، إلَّا قِرَاءَةَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَسْرِ وَالْإِدْغَامِ ، وَالتَّكَلُّفِ ، وَزِيَادَةِ الْمَدِّ .
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ } وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أُنْزِلَ الْقُرْآنُ بِالتَّفْخِيمِ وَالتَّثْقِيلِ ، نَحْوُ الْجُمُعَةِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، وَنُقِلَ عَنْهُ التَّسْهِيلُ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّ قِرَاءَتَهُمَا فِي الصَّلَاةِ جَائِزَةٌ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : إمَامٌ كَانَ يُصَلِّي بِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ أُصَلِّي خَلْفَهُ ؟ قَالَ : لَا يَبْلُغُ بِهِ هَذَا كُلَّهُ ، وَلَكِنَّهَا لَا تُعْجِبُنِي قِرَاءَةُ حَمْزَةَ .
( 683 ) فَصْلٌ : فَأَمَّا مَا يَخْرُجُ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهَا ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْرَأَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ ثَبَتَ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ ، وَهَذِهِ لَمْ يَثْبُتْ التَّوَاتُرُ بِهَا ، فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهَا قُرْآنًا ، فَإِنْ قَرَأَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِمَّا صَحَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ ، وَاتَّصَلَ إسْنَادُهَا ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ؛ إحْدَاهُمَا ، لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ لِذَلِكَ .
وَالثَّانِيَةُ : تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِقِرَاءَتِهِمْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ صَحِيحَةً بِغَيْرِ شَكٍّ .
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ } وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ وَهِشَامَ ابْنَ حَكِيمٍ حِينَ اخْتَلَفَا فِي
قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، فَقَالَ : { اقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ } .
وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَبْلَ جَمْعِ عُثْمَانَ الْمُصْحَفَ يَقْرَءُونَ بِقِرَاءَاتٍ لَمْ يُثْبِتْهَا فِي الْمُصْحَفِ ، وَيُصَلُّونَ بِهَا ، لَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ تَحْرِيمَ ذَلِكَ ، وَلَا بُطْلَانَ صَلَاتِهِمْ بِهِ
( 684 ) فَصْلٌ : وَلَا تُكْرَهُ قِرَاءَةُ أَوَاخِرِ السُّوَرِ وَأَوْسَاطِهَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ .
نَقَلَهَا عَنْ أَحْمَدَ جَمَاعَةٌ ؛ لِأَنَّ أَبَا سَعِيدٍ ، قَالَ : أُمِرْنَا أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ، وَمَا تَيَسَّرَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُخْرُجْ ، فَنَادِ فِي الْمَدِينَةِ ، أَنَّهُ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِقُرْآنٍ ، وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُد وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الزِّيَادَةُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، آخِرَ آلِ عِمْرَانَ وَآخِرَ الْفُرْقَانِ ، رَوَاهُ الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، قَالَ : كَانَ أَصْحَابُنَا يَقْرَءُونَ فِي الْفَرِيضَةِ مِنْ السُّورَةِ بَعْضَهَا ، ثُمَّ يَرْكَعُ ، ثُمَّ يَقُومُ ، فَيَقْرَأُ فِي سُورَةٍ أُخْرَى .
وَقَوْلُ أَبِي بَرْزَةَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الصُّبْحِ مِنْ السِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ } .
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْتَصِرُ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ ، يُكْرَهُ ذَلِكَ .
نَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ ، عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ بِآخِرِ سُورَةٍ .
وَقَالَ : سُورَةٌ أَعْجَبُ إلَيَّ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ : وَكَانَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَرَابَةٌ يُصَلِّي بِهِ ، فَكَانَ يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ مِنْ الْفَجْرِ بِآخِرِ السُّورَةِ ، فَلَمَّا أَكْثَرَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : تَقَدَّمْ أَنْتَ فَصَلِّ .
فَقُلْت لَهُ : هَذَا يُصَلِّي بِك مُنْذُ كَمْ ، قَالَ : دَعْنَا مِنْهُ ، يَجِيءُ بِآخِرِ السُّوَرِ .
وَكَرِهَهُ وَلَعَلَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَحَبَّ اتِّبَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ .
وَكَرِهَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ أَوْ بَعْضِ سُورَةٍ مِنْ أَوَّلِهَا ، فَأَعْجَبَهُ مُوَافَقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَمْ يُعْجِبْهُ مُخَالَفَتُهُ .
وَنُقِلَ عَنْهُ ، فِي الرَّجُلِ يَقْرَأُ مِنْ أَوْسَطِ السُّوَرِ وَآخِرِهَا ، فَقَالَ : أَمَّا آخِرُ السُّوَرِ فَأَرْجُو ، وَأَمَّا أَوْسَطُهَا فَلَا وَلَعَلَّهُ ذَهَبَ فِي آخِرِ السُّورَةِ ، إلَى مَا رُوِيَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْحَابِهِ .
وَلَمْ يُنْقَلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَوْسَطِهَا .
وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ الْأَثْرَمُ ، قَالَ : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : الرَّجُلُ يَقْرَأُ آخِرَ السُّورَةِ فِي الرَّكْعَةِ ؟ قَالَ : أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ فِي هَذَا رُخْصَةٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ ، وَغَيْرِهِ ؟ وَأَمَّا قِرَاءَةُ بَعْضِ السُّورَةِ مِنْ أَوَّلِهَا فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَكْرُوهٍ ؛ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى ذِكْرِ مُوسَى وَهَارُونَ ، ثُمَّ أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ ، فَرَكَعَ ، وَقَرَأَ سُورَةَ الْأَعْرَافِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ، فَرَّقَهَا مَرَّتَيْنِ .
} رَوَاهُ النَّسَائِيّ
( 685 ) فَصْلٌ : وَلَا بَأْسَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ السُّوَرِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ } .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَقَدْ عَرَفْت النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرُنُ بَيْنَهُنَّ .
فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ ، سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَكَانَ عُثْمَانُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَكْعَةٍ .
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ .
وَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى سُورَةٍ مَعَ الْفَاتِحَةِ ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا كَانَ يُصَلِّي أَكْثَرَ صَلَاتِهِ ، وَأَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَقْرَأَ فِي صَلَاتِهِ كَذَلِكَ .
وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا ، يُكْرَهُ ؛ لِذَلِكَ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مُطْلَقٌ فِي الصَّلَاةِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَرْضَ .
وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَكْتُوبَةِ بِالسُّورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ .
وَإِنْ قَرَأَ فِي رَكْعَةٍ سُورَةً ، ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الثَّانِيَةِ ، فَلَا بَأْسَ ؛ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ ، أَنَّهُ { سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذَا زُلْزِلَتْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا .
} ( 686 ) فَصْلٌ : وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِسُورَةٍ بَعْدَ السُّورَةِ الَّتِي قَرَأَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فِي النَّظْمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا ؟ قَالَ : ذَلِكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ .
وَفَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَنْ يَقْرَأَ سُورَةً ، ثُمَّ يَقْرَأَ
بَعْدَهَا أُخْرَى ، هِيَ قَبْلَهَا فِي النَّظْمِ .
فَإِنْ قَرَأَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ .
قَالَ أَحْمَدُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : لَا بَأْسَ بِهِ ، أَلَيْسَ يُعَلَّمُ الصَّبِيُّ عَلَى هَذَا ؟ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا : أَعْجَبُ إلَيَّ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ الْبَقَرَةِ إلَى أَسْفَلَ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَحْنَفَ قَرَأَ بِالْكَهْفِ فِي الْأُولَى ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِيُوسُفَ .
وَذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ عُمَرَ الصُّبْحَ بِهِمَا ، اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ .
( 687 ) فَصْلٌ : إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ ، قَالَ أَحْمَدُ ، رَحِمَهُ اللَّهُ : يَثْبُتُ قَائِمًا ، وَيَسْكُتُ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهِ نَفَسُهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ ، وَلَا يَصِلُ قِرَاءَتَهُ بِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ ، جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ ؛ سَكْتَةٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ الْقِرَاءَةِ } .
وَهَذَا هُوَ حَدِيثُ سَمُرَةَ .
كَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَغَيْرُهُ .
( 688 ) مَسْأَلَةٌ : ( فَإِذَا فَرَغَ كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ ) أَمَّا الرُّكُوعُ فَوَاجِبٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } .
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْقَادِرِ عَلَيْهِ .
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَرَوْنَ أَنْ يَبْتَدِئَ الرُّكُوعَ بِالتَّكْبِيرِ ، وَأَنْ يُكَبِّرَ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ ، مِنْهُمْ : ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَجَابِرٌ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَقَيْسُ بْنُ عَبَّادٍ ، وَمَالِكٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَابْنُ جَابِرٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَعَوَامُّ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْأَمْصَارِ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَسَالِمٍ ، وَالْقَاسِمِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُتِمُّونَ التَّكْبِيرَ .
وَلَعَلَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعَلِّمْهُ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ ، وَلَوْ كَانَ مِنْهَا لَعَلَّمَهُ إيَّاهُ .
وَلَمْ تَبْلُغْهُمْ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَنَا ، مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ، قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ، ثُمَّ يَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنْ الرُّكُوعِ ، ثُمَّ يَقُولُ ، وَهُوَ قَائِمٌ : رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا .
وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الْجُلُوسِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا .
} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا .
وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ ، وَيَقُولُ ، أَنَا أَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .