كتاب : تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق
المؤلف : فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي
الْغَيْرِ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ اشْتَرَى جَارِيَةً ، وَهِيَ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ عِدَّةَ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ عِدَّتِهَا يَوْمٌ أَوْ بَعْضُ يَوْمٍ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ فَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ا هـ ( قَوْلُهُ : فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ) يَعْنِي إذَا اشْتَرَى أَمَةً مُعْتَدَّةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ ا هـ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ حَالَةِ الْحَيْضِ ) تَقَدَّمَ فِي آخِرِ الصَّفْحَةِ السَّابِقَةِ ا هـ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُمَا يَمْتَدَّانِ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالصَّوْمُ قَدْ يَمْتَدُّ فِي الْفَرْضِ إلَى شَهْرٍ فَلَوْ حَرُمَ الدَّوَاعِي لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ شَرْعًا وَالنَّفَلُ تَابِعٌ لِلْفَرْضِ فَأُعْطِيَ حُكْمُهُ ا هـ ( فَرْعٌ ) قَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْزِلَ عَنْ فِرَاشِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْبِهُ فِعْلَ الْيَهُودِ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ ا هـ ذَكَرَهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( لَهُ أَمَتَانِ أُخْتَانِ قَبَّلَهُمَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَ وَطْءُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَدَوَاعِيهِ حَتَّى يَحْرُمَ فَرْجُ الْأُخْرَى بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ عِتْقٍ ) ، وَلَوْ قَالَ حُرِّمَتَا حَتَّى يَحْرُمَ فَرْجُ إحْدَاهُمَا كَانَ الْأَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَحْرُمَانِ عَلَيْهِ لَا إحْدَاهُمَا فَحَسْبُ ، وَإِنَّمَا حُرِّمَتَا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا أَوْ وَطْئًا لَا يَجُوزُ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَطْئًا ، وَعَقْدًا ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ وَطْئًا ، وَعَقْدًا ، وَلَا يُعَارَضُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لِلْمُحَرَّمِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سُئِلَ عَنْهُمَا فَقَالَ حَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ ، وَأَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ فَتَلَا الْآيَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ الْحُكْمُ لِلْمُحَرَّمِ ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الدَّوَاعِي ؛ لِأَنَّ الدَّوَاعِيَ إلَى الْوَطْءِ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ أَوْ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُطْلَقٌ فَيَتَنَاوَلُهُ الْوَطْءُ فَصَارَ كَأَنَّهُ وَطِئَهُمَا فَعِنْدَ ذَلِكَ تَحْرُمَانِ فَكَذَا هَذَا ، وَمَسُّهُمَا بِشَهْوَةٍ أَوْ النَّظَرُ إلَى فَرْجِهِمَا كَتَقْبِيلِهِمَا حَتَّى يَحْرُمَا عَلَيْهِ إلَّا إذَا حَرُمَ فَرْجُ إحْدَاهُمَا بِمَا ذُكِرَ لِزَوَالِ الْجَمْعِ بِتَحْرِيمِ فَرْجِ إحْدَاهُمَا عَلَيْهِ وَتَمْلِيكُ الْبَعْضِ كَتَمْلِيكِ الْكُلِّ ، وَكَذَا إعْتَاقُ الْبَعْضِ كَإِعْتَاقِ الْكُلِّ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ يَتَجَزَّأُ لَكِنَّهُ يَحْرُمُ بِهِ الْفَرْجُ ؛ لِأَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَكِتَابَةُ إحْدَاهُمَا كَإِعْتَاقِهَا ؛ لِأَنَّ فَرْجَهَا يَحْرُمُ بِالْكِتَابَةِ فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ وَبِرَهْنِ إحْدَاهُمَا وَإِجَارَتِهَا ، وَتَدْبِيرِهَا لَا تَحِلُّ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ فَرْجَهَا لَا يَحْرُمُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ، وَقَوْلُهُ حَتَّى يَحْرُمَ فَرْجُ الْأُخْرَى
بِمِلْكٍ أَرَادَ بِهِ التَّمْلِيكَ بِأَنْ يَمْلِكَ رَقَبَتَهَا مِنْ إنْسَانٍ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ، وَكَالصُّلْحِ وَالْخُلْعِ وَالْمَهْرِ ، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ أَوْ نِكَاحٍ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ أَمَّا إذَا زَوَّجَ إحْدَاهُمَا نِكَاحًا فَاسِدًا لَا تَحِلُّ لَهُ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ فَرْجَهَا لَمْ يَصِرْ حَرَامًا عَلَيْهِ بِهَذَا الْعَقْدِ الْمُجَرَّدِ إلَّا إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فَحِينَئِذٍ تَحِلُّ لَهُ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ تَجِبُ عَلَيْهَا بِالدُّخُولِ فَيَحْرُمُ عَلَى الْمَوْلَى فَرْجُهَا فَلَمْ يَصِرْ جَامِعًا ، وَلَوْ وَطِئَ إحْدَاهُمَا دُونِ الْأُخْرَى حَلَّ لَهُ وَطْءُ الْمَوْطُوءَةِ دُونَ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بِوَطْءِ الْأُخْرَى لَا بِوَطْءِ الْمَوْطُوءَةِ وَكُلُّ امْرَأَتَيْنِ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأُخْتَيْنِ فِيمَا ذَكَرْنَا .
( قَوْلُهُ : وَكَذَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الدَّوَاعِي ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ، وَلَوْ قَبَّلَهُمَا جَمِيعًا بِشَهْوَةٍ فَقَدْ بَاشَرَ حَرَامًا وَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ وَطْئِهِمَا ا هـ ثُمَّ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعِنْدَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُمَا أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَالْأَصْلُ فِي الْأَبْضَاعِ الْحِلُّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْحِلِّ ، وَقَدْ وُجِدَ ، وَهُوَ مِلْكُ الْيَمِينِ ، وَأَرَادَ بِآيَةِ الْإِحْلَالِ قَوْله تَعَالَى { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ، وَأَرَادَ بِآيَةِ التَّحْرِيمِ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مَعَ الْمُبِيحِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْمُحَرَّمُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ يَجِبُ تَرْكُهُ وَالْمُبَاحَ لَا يَجِبُ فِعْلُهُ ا هـ أَتْقَانِيٌّ
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَكُرِهَ تَقْبِيلُ الرَّجُلِ ، وَمُعَانَقَتُهُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ وَاحِدٌ جَازَ كَالْمُصَافَحَةِ ) ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ فَمَ الرَّجُلِ أَوْ يَدَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ يُعَانِقَهُ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِالتَّقْبِيلِ وَالْمُعَانَقَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَانَقَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ الْحَبَشَةِ ، وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ ، وَقَالَ لَا أَدْرِي بِمَاذَا أُسَرُّ بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ ، وَعَانَقَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ } ، وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَفِي الْكَافِي كَانَ الْأَعْرَابُ يُقَبِّلُونَ أَطْرَافَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَنْ عَطَاءٍ رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الْمُعَانَقَةِ فَقَالَ أَوَّلُ مَنْ عَانَقَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بِمَكَّةَ فَأَقْبَلَ إلَيْهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ فَلَمَّا كَانَ بِالْأَبْطَحِ قِيلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَرْكَبَ بِبَلْدَةٍ فِيهَا إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ فَنَزَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ ، وَمَشَى إلَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ وَاعْتَنَقَهُ فَكَانَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ عَانَقَ ، وَلَهُمَا مَا رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { قُلْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَنْحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ قَالَ لَا قُلْنَا أَيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضًا قَالَ لَا قُلْنَا أَيُصَافِحُ بَعْضُنَا بَعْضًا قَالَ نَعَمْ } وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { نَهَى عَنْ الْمُكَامَعَةِ ، وَهِيَ الْمُعَانَقَةُ } وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { نَهَى عَنْ الْمُكَاعَمَةِ ، وَهِيَ التَّقْبِيلُ } ، وَمَا رَوَاهُ
مَنْسُوخٌ بِهِ ، وَقَالُوا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا غَيْرُ الْإِزَارِ ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِمَا قَمِيصٌ أَوْ جُبَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الشَّيْخُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَالشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفَّقَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَقَالَ الْمَكْرُوهُ مِنْ الْمُعَانَقَةِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشَّهْوَةِ ، وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ فَجَائِزٌ وَرَخَّصَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَقْبِيلَ يَدِ الْعَالِمِ أَوْ الْمُتَوَرِّعِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ ، وَقَبَّلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ عَيْنَيْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا قُبِضَ ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ تَقْبِيلُ يَدِ الْعَالِمِ أَوْ يَدِ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ سُنَّةٌ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ ، وَمَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّالُ مِنْ تَقْبِيلِ يَدِ نَفْسِهِ إذَا لَقِيَ الْغَيْرَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ فَلَا رُخْصَةَ فِيهِ ، وَمَا يَفْعَلُونَ مِنْ تَقْبِيلِ الْأَرْضِ بَيْنَ يَدَيْ الْعُلَمَاءِ فَحَرَامٌ وَالْفَاعِلُ وَالرَّاضِي بِهِ آثِمَانِ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عِبَادَةَ الْوَثَنِ ، وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهَذَا السُّجُودِ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِهِ التَّحِيَّةَ ، وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ كُفْرٌ ، وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّ التَّقْبِيلَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ قُبْلَةِ الرَّحْمَةِ كَقُبْلَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ، وَقَبَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقُبْلَةِ التَّحِيَّةِ كَقُبْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَقُبْلَةِ الشَّفَقَةِ كَقُبْلَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدَيْهِ ، وَقُبْلَةِ الْمَوَدَّةِ كَقُبْلَةِ الرَّجُلِ أَخَاهُ عَلَى الْجَبْهَةِ ، وَقُبْلَةِ الشَّهْوَةِ كَقُبْلَةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ قُبْلَةَ الدِّيَانَةِ ، وَهِيَ قُبْلَةُ الْحَجَرِ
الْأَسْوَدِ وَأَمَّا الْقِيَامُ لِلْغَيْرِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَرَجَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا فَقُمْنَا لَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا } ، وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَكْرَهُ الْقِيَامَ ، وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ كَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ يَقُومُ لَهُ ، وَلَا يَقُومُ لِلْفُقَرَاءِ وَطَلَبَةِ الْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَتَوَقَّعُونَ مِنِّي التَّعْظِيمَ فَلَوْ تَرَكْت تَعْظِيمَهُمْ تَضَرَّرُوا وَالْفُقَرَاءُ وَطَلَبَةُ الْعِلْمِ لَا يَطْمَعُونَ مِنِّي فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَطْمَعُونَ فِي جَوَابِ السَّلَامِ وَالتَّكَلُّمِ مَعَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَتَضَرَّرُونَ بِتَرْكِ الْقِيَامِ لَهُمْ ، وَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ لِمَا رَوَيْنَا ؛ وَلِأَنَّهَا سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ مُتَوَارَثَةٌ فِي الْبَيْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ صَافَحَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ وَحَرَّكَ يَدَهُ فِي يَدِهِ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُ } ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ : وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ ) أَيْ فِي شَرْحِ الْآثَارِ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُكَامَعَةِ ) فِيهِ أَنَّهُ نَهَى الْمُكَامَعَةِ هُوَ أَنْ يُضَاجِعَ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا حَاجِزَ بَيْنَهُمَا وَالْكَمِيعُ الضَّجِيعُ وَزَوْجُ الْمَرْأَةِ كَمِيعُهَا قَالَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ ا هـ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ، وَتَفْسِيرُ الْمُكَامَعَةِ بِالْمُعَانَقَةِ فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ وَغَيْرِهِ كَامَعَ امْرَأَتَهُ ضَاجَعَهَا ، وَكَاعَمَ الْمَرْأَةَ قَبَّلَهَا ، وَقَالَ فِي الْفَائِقِ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُكَاعَمَةِ وَالْمُكَامَعَةِ أَيْ عَنْ مُلَاثَمَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ ، وَمُضَاجَعَتِهِ إيَّاهُ لَا سِتْرَ بَيْنَهُمَا ا هـ ( قَوْلُهُ : أَوْ يَدِ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ سُنَّةٌ ) قُلْت كَذَلِكَ يَجُوزُ تَقْبِيلُ يَدِ الْوَالِدَيْنِ وَالشَّيْخِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ ا هـ عَيْنِيٌّ ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ ) أَيْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَقُبْلَةِ الشَّفَقَةِ كَقُبْلَةِ الْوَلَدِ وَالِدَيْهِ ) أَيْ عَلَى الرَّأْسِ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَقُبْلَةِ الْمَوَدَّةِ كَقُبْلَةِ الرَّجُلِ أَخَاهُ ) أَيْ أَوْ أُخْتَهُ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : عَلَى الْجَبْهَةِ ) عَلَى الْخَدِّ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَقُبْلَةِ الشَّهْوَةِ كَقُبْلَةِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ ) أَيْ عَلَى الْفَمِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَأَمَّا الْقِيَامُ لِلْغَيْرِ إلَخْ ) ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ أَوْ وَاحِدٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْ الْأَشْرَافِ قَالُوا إنْ دَخَلَ عَلَيْهِ عَالِمٌ أَوْ أَبُوهُ أَوْ أُسْتَاذُهُ جَازَ أَنْ يَقُومَ لِأَجْلِهِ ، وَفِي سِوَى ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ا هـ كَاكِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ ) أَيْ الْحَكِيمِ السَّمَرْقَنْدِيِّ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَحَرَّكَ يَدَهُ فِي يَدِهِ تَنَاثَرَتْ ذُنُوبُهُ ) الَّذِي
وَقَفْتُ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ نُسَخِ هَذَا الشَّرْحِ وَحَرَّكَ فِي يَدِهِ تَنَاثَرَتْ إلَخْ وَوَقَفْت عَلَى نُسْخَةٍ كَمَا أَصْلَحْت هُنَا فَلْيُرَاجَعْ لَفْظُ الْحَدِيثِ ا هـ وَاَلَّذِي وَقَفْت عَلَيْهِ فِي نُسْخَةِ الشَّارِحِ بِخَطِّهِ وَحَرَّكَ فِي يَدِهِ تَنَاثَرَتْ ا هـ قَوْلُهُ : فِي غَالِبِ نُسَخِ هَذَا الشَّرْحِ أَيْ ، وَفِي الْكَافِي لِلنَّسَفِيِّ وَحَرَّكَ يَدَهُ تَنَاثَرَتْ ا هـ
( فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ ) قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( كُرِهَ بَيْعُ الْعَذِرَةِ لَا السِّرْقِينِ ) ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ السِّرْقِينِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ نَجَسُ الْعَيْنِ فَلَا يَكُونُ مَالًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْعَذِرَةِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ قَبْلَ الدَّبْغِ ، وَلَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَمَوَّلُوا السِّرْقِينَ وَانْتَفَعُوا بِهِ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ وَالْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَإِنَّهُمْ يُلْقُونَهُ فِي الْأَرَاضِي لِاسْتِكْثَارِ الرَّيْعِ بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِالِانْتِفَاعِ بِهَا ، وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهَا مَخْلُوطَةً بِرَمَادٍ ، وَتُرَابٍ غَالِبٍ عَلَيْهَا بِالْإِلْقَاءِ فِي الْأَرْضِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعَذِرَةِ الْخَاصَّةِ جَائِزٌ .
( فَصْلٌ فِي الْبَيْعِ ) ( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَمَوَّلُوا السِّرْقِينَ إلَخْ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ، وَلَنَا أَنَّ السِّرْقِينَ مَالٌ فَجَازَ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ مَالٌ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَيُتَمَوَّلُ أَيْ يُدَّخَرُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ ، وَقَدْ تَمَوَّلَ الْمُسْلِمُونَ السِّرْقِينَ وَانْتَفَعُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ ، وَمَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ كَانَ مَالًا فَجَازَ بَيْعُهُ ا هـ ( قَوْلُهُ : بِرَمَادٍ وَتُرَابٍ ) الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ ا هـ ( قَوْلُهُ : فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ بَيْعُهَا ) وَنَجَاسَةُ الْعَيْنِ تَمْنَعُ الْأَكْلَ ، وَلَا تَمْنَعُ الِانْتِفَاعَ فَجَازَ بَيْعُ ذَلِكَ ا هـ غَايَةٌ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْعَذِرَةِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُكْرَهُ ، وَفِي الثَّانِيَةِ لَا يُكْرَهُ فَعَلَى قِيَاسِ الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يُكْرَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهُ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَالصَّحِيحُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ ) فِي الْهِدَايَةِ ، وَكَذَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَخْلُوطِ لَا بِغَيْرِ الْمَخْلُوطِ فِي الصَّحِيحِ ا هـ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ قَوْلُهُ : لَا بِغَيْرِ الْمَخْلُوطِ فِي الصَّحِيحِ احْتَرَزَ بِالصَّحِيحِ عَنْ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعَذِرَةِ يَجُوزُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَخْلُوطَةً وَالرِّوَايَتَانِ نَقَلَهُمَا الْفَقِيهُ قَبْلَ هَذَا ا هـ قَوْلُهُ : فِي الْهِدَايَةِ أَيْ ، وَفِي الْكَافِي مِثْلُهُ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( لَهُ شِرَاءُ أَمَةٍ قَالَ بَكْرٌ وَكَّلَنِي زَيْدٌ بِبَيْعِهَا ) مَعْنَاهُ أَنَّ جَارِيَةً لِإِنْسَانٍ فَرَأَى آخَرَ يَبِيعُهَا فَقَالَ الْبَائِعُ وَكَّلَنِي مَوْلَاهَا حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا ، وَيَطَأَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ صَحِيحٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ، وَكَذَا إذَا قَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ أَوْ ، وَهَبَنِي إيَّاهَا أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ ، وَهُوَ الْفُرُوجُ بِأَنْ زُفِّتَ إلَيْهِ امْرَأَةٌ ، وَقَالَ النِّسَاءُ هِيَ امْرَأَتُك حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَلَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ غَيْرَ ثِقَةٍ فِيمَا إذَا ادَّعَى الْمِلْكَ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ وَسِعَهُ ؛ لِأَنَّ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا تُشْتَرَطُ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَا يَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يَقُومُ مَقَامَ الْيَقِينِ ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْهُ صَاحِبُ الْيَدِ بِشَيْءٍ مِنْ الْوَكَالَةِ أَوْ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِ فَإِنْ كَانَ عَرَفَهَا أَنَّهَا لِغَيْرِهِ لَا يَشْتَرِيهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ إلَيْهِ أَوْ وَكَّلَهُ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْأَوَّلِ دَلِيلُ الْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهَا لِلْأَوَّلِ وَسِعَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا ، وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ فَاسِقًا ؛ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ وُجُودِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا مَعَ ذَلِكَ صَحَّ لِاعْتِمَادِهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهَا عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لَمْ
يَقْبَلْهَا ، وَلَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَسْأَلَ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا مِلْكَ لَهُ فَيَعْلَمُ أَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ ، وَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهَا أَذِنَ لَهُ ، وَهُوَ ثِقَةٌ قَبِلَ قَوْلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثِقَةً يُعْتَبَرُ فِيهِ أَكْبَرُ الرَّأْيِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ لَمْ يَشْتَرِهَا لِقِيَامِ الْمَانِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَهَا رَجُلٌ أَنَّ زَوْجَهَا الْغَائِبَ مَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، وَكَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ أَوْ أَتَاهَا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ زَوْجِهَا بِطَلَاقٍ ، وَلَا تَدْرِي أَنَّهُ كِتَابُهُ أَمْ لَا إلَّا أَنَّهُ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهَا أَنَّهُ حَقٌّ بَعْدَمَا تَحَرَّتْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَعْتَدَّ ثُمَّ تَتَزَوَّجَ ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارَ فَلَا مُنَازِعَ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ النِّكَاحِ لَا تَمْنَعُ مَا يَطْرَأُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ لِرَجُلٍ طَلَّقَنِي زَوْجِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَكَذَلِكَ الْمُطَلَّقَةُ الثَّلَاثُ إذَا قَالَتْ انْقَضَتْ عِدَّتِي ، وَتَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِي ثُمَّ طَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجُهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ الْجَارِيَةُ كُنْتُ أَمَةً لِفُلَانٍ فَأَعْتَقَنِي حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ أَخْبَرَهَا مُخْبِرٌ أَنْ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ فَاسِدًا أَوْ كَانَ الزَّوْجُ حِينَ تَزَوَّجَهَا مُرْتَدًّا أَوْ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَكَذَا إذَا أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ أَنَّك تَزَوَّجَتْهَا ، وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ أَوْ أُخْتُك مِنْ الرَّضَاعِ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِأُخْتِهَا ، وَلَا بِأَرْبَعٍ سِوَاهَا حَتَّى يَشْهَدَ بِذَلِكَ عَدْلَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفَسَادٍ مُقَارَنٍ وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَإِنْكَارِ فَسَادِهِ فَيَثْبُتُ الْمُنَازَعُ بِالظَّاهِرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ صَغِيرَةً فَأُخْبَرَ الزَّوْجُ أَنَّهَا ارْتَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ أَوْ
أُخْتِهِ بَعْدَ النِّكَاحِ حَيْثُ يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَاطِعَ طَارَ وَالْإِقْدَامُ الْأَوَّلُ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْمُنَازِعُ فَافْتَرَقَا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَدُورُ الْفَرْقُ ، وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً صَغِيرَةً لَا تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ فَلَمَّا كَبُرَتْ لَقِيَهَا رَجُلٌ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَقَالَتْ أَنَا حُرَّةُ الْأَصْلِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِتَحَقُّقِ الْمُنَازِعِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْمُنَافِي طَارِئًا .
( قَوْلُهُ : إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَمْلِكُ مِثْلَ ذَلِكَ ) أَيْ كَكِتَابٍ فِي يَدِ جَاهِلٍ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي آبَائِهِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَكَدِرَةٍ فِي يَدِ فَقِيرٍ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا ا هـ ( قَوْلُهُ : لِاعْتِمَادِهِ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ ) أَيْ ، وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَالتَّنَزُّهُ أَفْضَلُ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَلَمْ يَشْتَرِهَا حَتَّى يَسْأَلَ ) أَيْ إذَا أَتَاهُ عَبْدٌ أَوْ جَارِيَةٌ بِجَارِيَةٍ فَأَرَادَ بَيْعَ الْجَارِيَةِ فَلَا يَشْتَرِ قَبْلَ السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ مَوْلَاهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ ، وَقَبُولِهِ مِنْهُ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهَا أَذِنَ لَهُ ، وَهُوَ ثِقَةٌ إلَخْ ) فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ وَقَبُولِهِ مِنْهُ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَمْلُوكِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِلْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَافٍ لِلْمِلْكِ ، وَإِذَا أَخْبَرَ أَنَّ مَوْلَاهُ قَدْ أَذِنَ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَهُوَ إخْبَارٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْمُنَازَعَةِ فَيُقْبَلُ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : لِقِيَامِ الْمَانِعِ ) أَيْ ، وَهُوَ الرِّقُّ ا هـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ عَنْ التَّصَرُّفِ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَهَا رَجُلٌ ثِقَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا إلَخْ ) فِي الْهِدَايَةِ ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَخْبَرَهَا ثِقَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا إلَخْ ا هـ ( قَوْلُهُ : فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَعْتَدَّ ثُمَّ تَتَزَوَّجَ ) ، وَهَذَا فِي الْإِخْبَارِ ، وَأَمَّا فِي الشَّهَادَةِ فَلَا يَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ اثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ أَلَا تَرَى إلَى مَا ذَكَرَ الْأُسْرُوشَنِيُّ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ فُصُولِهِ إذَا شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالزَّوْجُ غَائِبٌ لَا يُقْبَلُ لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَصْمِ ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا يُقْبَلُ ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ دَعْوَى الْمَرْأَةِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ ، وَهَذَا فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي أَمَّا إذَا قَالُوا
لِامْرَأَةِ الْغَائِبِ إنَّ زَوْجَك طَلَّقَك أَوْ أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ وَاحِدٌ عَدْلٌ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا حَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ آخَرَ كَذَا فِي الْفُصُولِ هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : حَيْثُ يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهِ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الدَّيَّانَةِ فَيُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَدُورُ الْفَرْقُ ) أَيْ بَيْنَ قَبُولِ قَوْلِ الْوَاحِدِ ، وَعَدَمِ قَبُولِهِ يَعْنِي إذَا كَانَ الْإِخْبَارُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْمُنَازَعَةِ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ ، وَإِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْمُنَازَعَةِ لَا يُقْبَلُ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : فَقَالَتْ ) وَلَوْ قَالَتْ إنَّ سَيِّدِي قَدْ أَعْتَقَنِي حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : لِتَحْقِيقِ الْمُنَازَعِ ) أَيْ ، وَهُوَ ذُو الْيَدِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَكُرِهَ لِرَبِّ الدَّيْنِ أَخْذُ ثَمَنِ خَمْرٍ بَاعَهَا مُسْلِمٌ لَا كَافِرٌ ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ لِشَخْصٍ مُسْلِمٍ دَيْنٌ عَلَى مُسْلِمٍ فَبَاعَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ خَمْرًا ، وَأَخَذَ ثَمَنَهَا ، وَقَضَى بِهِ الدَّيْنَ لَا يَحِلُّ لِلدَّائِنِ أَنْ يَأْخُذَ ثَمَنَ الْخَمْرِ بِدَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ كَافِرًا جَازَ لَهُ أَخْذُهُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَبَقِيَ الثَّمَنُ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ الْبَائِعِ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي صَحَّ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ، وَمَلَكَهُ الْبَائِعُ فَيَحِلُّ الْأَخْذُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَفِي النِّهَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ هَذَا إذَا كَانَ الْقَضَاءُ وَالِاقْتِضَاءُ بِالتَّرَاضِي فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِأَنْ قَضَى عَلَيْهِ بِهَذَا الثَّمَنِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِكَوْنِهِ ثَمَنَ الْخَمْرِ يَطِيبُ لَهُ ذَلِكَ بِقَضَائِهِ ، وَهُوَ مُشْكِلٌ فَإِنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ فَكَيْفَ يَطِيبُ لَهُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا لَا يَرَى نُفُوذَ قَضَاءِ الْقَاضِي بَاطِنًا ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ ظَاهِرًا فَقَطْ عِنْدَهُ ، وَعَلَى هَذَا إذَا مَاتَ مُسْلِمٌ ، وَتَرَكَ ثَمَنَ خَمْرٍ بَاعَهَا هُوَ لَا يَحِلُّ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَأْخُذُوا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَغْصُوبِ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا كَسْبُ الْمُغَنِّيَةِ كَالْمَغْصُوبِ لَمْ يَحِلَّ أَخْذُهُ ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ مَاتَ رَجُلٌ ، وَكَسْبُهُ مِنْ بَيْعِ الْبَاذَقِ أَوْ الظُّلْمِ أَوْ أَخْذِ الرِّشْوَةِ يَتَوَرَّعُ الْوَرَثَةُ ، وَلَا يَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ، وَهُوَ أَوْلَى لَهُمْ ، وَيَرُدُّونَهَا عَلَى أَرْبَابِهَا إنْ عَرَفُوهُمْ ، وَإِلَّا تَصَدَّقُوا بِهَا ؛ لِأَنَّ سَبِيلَ الْكَسْبِ الْخَبِيثِ التَّصَدُّقُ إذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَى صَاحِبِهِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَاحْتِكَارُ قُوتِ الْآدَمِيِّ وَالْبَهِيمَةِ فِي بَلَدٍ يَضُرُّ بِأَهْلِهِ ) أَيْ يُكْرَهُ الِاحْتِكَارُ فِي الْقُوتِ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ } ؛ وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ ، وَفِي الِامْتِنَاعِ عَنْ الْبَيْعِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ ، وَتَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ فَيُكْرَهُ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَتْ الْبَلْدَةُ صَغِيرَةً بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَضُرَّ بِأَنْ كَانَ الْمِصْرُ كَبِيرًا ؛ لِأَنَّهُ حَابِسٌ مِلْكَهُ عَنْ غَيْرِ إضْرَارٍ بِغَيْرِهِ ، وَتَلَقِّي الْجَلْبِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ وَتَخْصِيصُ الِاحْتِكَارِ بِالْأَقْوَاتِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كُلّ مَا ضَرَّ بِالْعَامَّةِ حَبْسُهُ فَهُوَ احْتِكَارٌ ، وَإِنْ كَانَ ثِيَابًا أَوْ دَرَاهِمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِحَقِيقَةِ الضَّرَرِ إذْ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْكَرَاهَةِ ، وَهُمَا اعْتَبَرَا الضَّرَرَ الْمُتَعَارَفَ الْمَعْهُودَ ثُمَّ الْمُدَّةُ إذَا قَصُرَتْ لَا تَكُونُ احْتِكَارًا لِعَدَمِ الضَّرَرِ ، وَإِذَا طَالَتْ تَكُونُ احْتِكَارًا مَكْرُوهًا لِتَحَقُّقِ الضَّرَرِ ثُمَّ قِيلَ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ } ، وَقِيلَ بِالشَّهْرِ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَهُ قَلِيلٌ عَاجِلٌ وَالشَّهْرُ ، وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ ، وَقَدْ مَرَّ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ بَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْعِزَّةَ وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَبَّصَ الْقَحْطَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ، وَقِيلَ الْمُدَّةُ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا ، وَأَمَّا الْإِثْمُ فَيَحْصُلُ ، وَإِنْ قَلَّتْ الْمُدَّةُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الطَّعَامِ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ .
( قَوْلُهُ : إذَا كَانَ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ ) قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الِاحْتِكَارُ فِي كُلِّ مَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ احْتِكَارُهُ ، وَقَالَ الِاحْتِكَارُ أَنْ يَحْبِسَهُ عِنْدَهُ أَكْثَرَ السَّنَةِ فَإِنْ حَبَسَهُ عِنْدَهُ شَهْرًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَإِثْمُهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْبِسُهُ ، وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ الْحُكْرَةُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ الَّذِي هُوَ قُوتُ النَّاسِ وَالْقَتُّ الَّذِي هُوَ قُوتُ الْبَهَائِمِ ، وَلَيْسَ فِي الثِّيَابِ حُكْرَةٌ ، وَلَا فِي الْأُرْزِ ، وَلَا فِي الْعَسَلِ ، وَلَا فِي السَّمْنِ ، وَلَا فِي الزَّيْتِ حُكْرَةٌ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الزَّيْتِ حُكْرَةٌ إلَى هُنَا لَفْظُ الْكَرْخِيِّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الْحُكْرَةِ بِلَا فَصْلٍ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُ بِحُكْرَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَالْحِنْطَةِ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَدْهَانَ وَالْعَسَلَ لَيْسَ بِهَا قِوَامُ الْأَبْدَانِ فَلَا يَضُرُّ عَدَمُهَا كَمَا فِي سِوَاهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ اللَّازِمَةَ الدَّائِمَةَ فِي الْأَقْوَاتِ دُونَ غَيْرِهَا فَلَا يُكْرَهُ حَبْسُ غَيْرِ الْأَقْوَاتِ قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ ، وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ حَبْسَ الْأُرْزِ لَيْسَ بِاحْتِكَارٍ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي لَا يَتَقَوَّتُونَ بِهِ ، وَأَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ قُوتُهُمْ مِثْلُ طَبَرِسْتَانَ فَهُوَ احْتِكَارٌ ، وَأَمَّا الثِّيَابُ فَلِأَنَّ قِوَامَ الْأَبْدَانِ وَبَقَاءَ الْحَيَاةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا ، قَالَهُ الْأَتْقَانِيُّ .
( قَوْلُهُ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي كِتَابِ تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ } قَالَ الْفَقِيهُ إنَّمَا أَرَادَ بِالْجَالِبِ الَّذِي يَشْتَرِي الطَّعَامَ لِلْبَيْعِ فَيَجْلِبُهُ إلَى بَلَدِهِ فَيَبِيعُهُ فَهُوَ مَرْزُوقٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَيَنَالُهُ بَرَكَةُ دُعَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُحْتَكِرُ يَشْتَرِي الطَّعَامَ لِلْمَنْعِ ، وَيَضُرُّ بِالنَّاسِ ؛ وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَجُزْ وَلِهَذَا { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَلَقِّي الْجَلْبِ ، وَعَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ } ا هـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قِيلَ اللَّعْنُ عَلَى قِسْمَيْنِ أَحَدِهِمَا الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْكَافِرِ وَالثَّانِي الْإِلْقَاءُ عَنْ دَرَجَةِ الْأَبْرَارِ ، وَمَقَامِ الصَّالِحِينَ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ الْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُؤْمِنُ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ كَذَا فِي الْكِفَايَةِ ا هـ ( قَوْلُهُ : ثُمَّ قِيلَ هِيَ ) أَيْ مُدَّةُ الِاحْتِكَارِ الَّتِي يُمْنَعُ مِنْهَا ا هـ غَايَةٌ قَوْلُهُ : وَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ آجِلٌ ) ، وَقَدْ رَوَيْنَا قَبْلُ عَنْ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَدَّرَ مُدَّةَ الِاحْتِكَارِ بِأَكْثَرَ السَّنَةِ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَأْثَمِ إلَخْ ) يَعْنِي أَنَّ إثْمَ مَنْ تَرَبَّصَ الْقَحْطَ أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ مَنْ تَرَبَّصَ عِزَّةَ الطَّعَامِ ، وَهِيَ الْغَلَاءُ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ الْمُدَّةُ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا ) يَعْنِي أَنَّ تَقْدِيرَ مُدَّةِ الِاحْتِكَارِ لِلْمُعَاقَبَةِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُعَزِّرَ الْإِمَامُ الْمُحْتَكِرَ ، وَيُهَدِّدَهُ أَمَّا الْإِثْمُ فَيَحْصُلُ ،
وَإِنْ قَلَّتْ مُدَّةُ الِاحْتِكَارِ ا هـ غَايَةُ الْبَيَانِ ( قَوْلُهُ : غَيْرُ مَحْمُودَةٍ ) أَيْ بِطَرِيقِ الِاحْتِكَارِ ، وَأَمَّا الِاسْتِرْبَاحُ فِيهِ بِلَا احْتِكَارٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الشَّاهِيَةِ ا هـ
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( لَا غَلَّةَ ضَيْعَتِهِ ، وَمَا جَلَبَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ ) أَيْ لَا يُكْرَهُ احْتِكَارُ غَلَّةِ أَرْضِهِ أَوْ احْتِكَارُ مَا جَلَبَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ فَلَا يَكُونُ احْتِكَارًا أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَزْرَعَ ، وَلَا يَجْلِبَ فَكَذَا لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ ، وَهَذَا فِي الْمَجْلُوبِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَامَّةِ يَتَعَلَّقُ بِمَا جُلِبَ وَجُمِعَ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي فِنَائِهِ ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِمَا فِي بَلَدٍ آخَرَ فَإِذَا نَقَلَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ كَانَ لَهُ حَبْسُهُ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ فَصَارَ كَغَلَّةِ ضَيْعَتِهِ وَالْجَامِعُ عَدَمُ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ إذْ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَنْقُلَ كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَزْرَعَ فَكَذَا لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ ذَلِكَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُكْرَهُ لَهُ حَبْسُ مَا جَلَبَهُ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْعَامَّةِ ؛ وَلِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ حُصُولُهُ لَهُمْ بِأَنْ يَجْلِبَهُ غَيْرُهُ لَهُمْ أَوْ يَجْلِبُوهُ هُمْ ؛ لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا نَقَلَهُ هُوَ وَجَلَبَهُ فَكَانَ بِحَبْسِهِ مُبْطِلًا حَقَّهُمْ فِي النَّقْلِ وَالْجَلْبِ فَصَارَ كَمَا إذَا حَبَسَ الْمَجْلُوبَ إلَى الْمِصْرِ أَوْ فِنَائِهِ بِخِلَافِ مَا زَرَعَهُ فِي ضَيْعَتِهِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ نَقَلَهُ مِنْ مَوْضِعٍ يُجْلَبُ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ فِي الْغَالِبِ يُكْرَهُ حَبْسُهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَامَّةِ تَعَلَّقَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ فِنَاءِ الْمِصْرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ يُنْقَلُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ هُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا نَقَلَهُ مِنْ بَلَدٍ بَعِيدِ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالْحَمْلِ مِنْهُ إلَى الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْهِمْ فَصَارَ كَغَلَّةِ ضَيْعَتِهِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَا يُسَعِّرُ السُّلْطَانُ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى أَرْبَابُ الطَّعَامِ عَنْ الْقِيمَةِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُسَعِّرُوا فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ } ؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ حَقُّ الْبَائِعِ فَكَانَ إلَيْهِ تَقْدِيرُهُ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِحَقِّهِ إلَّا إذَا كَانَ أَرْبَابُ الطَّعَامِ يَتَحَكَّمُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَيَتَعَدُّونَ تَعَدِّيًا فَاحِشًا ، وَعَجَزَ السُّلْطَانُ عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِالتَّسْعِيرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى رَجُلٍ فَتَعَدَّى عَنْ ذَلِكَ فَبَاعَهُ بِثَمَنٍ فَوْقَهُ أَجَازَهُ الْقَاضِي ، وَهَذَا لَا يُشْكِلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَلَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى قَوْمٍ بِعَيْنِهِمْ لَا يَكُونُ حَجْرًا بَلْ يَكُونُ فَتْوَى فِي ذَلِكَ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَوْ السُّلْطَانِ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِعُقُوبَتِهِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ ، وَلَا بِالتَّسْعِيرِ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَبِيعَ مَا فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ ، وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّعَةِ ، وَيَنْهَاهُ عَنْ الِاحْتِكَارِ ، وَيَعِظُهُ ، وَيَزْجُرُهُ عَنْهُ فَإِذَا رُفِعَ إلَيْهِ ثَانِيًا فَعَلَ بِهِ كَذَلِكَ وَهَدَّدَهُ ، وَإِنْ رُفِعَ إلَيْهِ ثَالِثًا حَبَسَهُ ، وَعَزَّرَهُ حَتَّى يَمْتَنِعَ عَنْهُ ، وَيَزُولَ الضَّرَرُ عَنْ النَّاسِ ، وَلَا يُسَعِّرُ إلَّا إذَا أَبَوْا أَنْ يَبِيعُوهُ إلَّا بِغَبَنٍ فَاحِشٍ ضِعْفِ الْقِيمَةِ ، وَعَجَزَ عَنْ صِيَانَةِ حُقُوقِهِمْ إلَّا بِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْبَيْعِ بِالْكُلِّيَّةِ قِيلَ لَا يَبِيعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ ، وَهُمَا يَرَيَانِهِ كَمَا فِي بَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ ،
وَقِيلَ يَبِيعُهُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرَى الْحَجْرَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ عَامٍّ كَمَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْحَجْرِ ، وَمَنْ بَاعَ مِنْهُمْ بِمَا قَدَّرَهُ الْإِمَامُ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْبَيْعِ هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ ، وَفِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ أَنَّ الْبَائِعَ إنْ كَانَ يَخَافُ إذَا نَقَصَ أَنْ يَضُرَّ بِهِ الْإِمَامُ لَا يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُكْرَهِ وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ يَعْنِي بِمَا تُحِبُّ فَحِينَئِذٍ بِأَيِّ شَيْءٍ بَاعَهُ يَحِلُّ ، وَلَوْ اصْطَلَحَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى سِعْرِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَشَاعَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَاشْتَرَى رَجُلٌ مِنْهُمْ خُبْزًا بِدِرْهَمٍ أَوْ لَحْمًا فَأَعْطَاهُ الْبَائِعُ نَاقِصًا وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالنُّقْصَانِ إذَا عَرَفَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ فِي الْخُبْزِ دُونَ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّ سِعْرَ الْخُبْزِ يَظْهَرُ عَادَةً فِي الْبُلْدَانِ وَسِعْرَ اللَّحْمِ لَا يَظْهَرُ إلَّا نَادِرًا فَيَكُونُ شَارِطًا فِي الْخُبْزِ مِقْدَارًا مُعَيَّنًا بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ دُونَ اللَّحْمِ وَلَوْ خَافَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ الْهَلَاكَ أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ الْمُحْتَكَرِينَ ، وَفَرَّقَهُ فَإِذَا وَجَدُوا رَدُّوا مِثْلَهُ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَجْرِ ، وَإِنَّمَا هُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُمْ كَمَا فِي حَالِ الْمَخْمَصَةِ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْمُخْتَارِ .
( قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ : وَلَا يُسَعِّرُ السُّلْطَانُ إلَخْ ) ، وَقَالَ مَالِكٌ يَجِبُ التَّسْعِيرُ عَلَى الْوَالِي دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْعَامَّةِ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَقُوتِ أَهْلِهِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّعَةِ ) أَيْ فِي قُوتِهِ ، وَقُوتِ أَهْلِهِ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : قِيلَ لَا يَبِيعُ ) أَيْ الْقَاضِي عَلَى الْمُحْتَكِرِ طَعَامَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ا هـ ( قَوْلُهُ : كَمَا فِي بَيْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ ) أَيْ الْمُفْلِسِ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْبَيْعِ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَقِيلَ يَبِيعُهُ بِالْإِجْمَاعِ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ، وَقِيلَ يَبِيعُهُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ قَالَ ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا إذَا خَافَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ الْهَلَاكَ أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ الْمُحْتَكِرِينَ ، وَفَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا وَجَدُوا رَدُّوا مِثْلَهُ ، وَلَيْسَ هَذَا حَجْرًا ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلضَّرُورَةِ ، وَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَالِ غَيْرِهِ وَخَافَ الْهَلَاكَ جَازَ لَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَجَازَ بَيْعُ الْعَصِيرِ مِنْ خَمَّارٍ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَقُومُ بِعَيْنِهِ بَلْ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ بِخِلَافِ بَيْعِ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَقُومُ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ إعَانَةً لَهُمْ ، وَتَسْبِيبًا ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْعُدْوَانِ وَالْمَعْصِيَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْعَصِيرَ يُصْلِحُ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا جَائِزٌ شَرْعًا فَيَكُونُ الْفَسَادُ إلَى اخْتِيَارِهِ .( قَوْلُهُ : وَقَالَا لَا يَنْبَغِي ) أَيْ لَا يَجُوزُ وَبِهِ قَالَتْ الثَّلَاثَةُ ا هـ
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَإِجَارَةُ بَيْتٍ لِيَتَّخِذَهُ بَيْتَ نَارٍ أَوْ بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً أَوْ يُبَاعُ فِيهِ خَمْرٌ بِالسَّوَادِ ) أَيْ جَازَ إجَارَةُ الْبَيْتِ لِيَتَّخِذَهُ مَعْبَدًا لِلْكُفَّارِ وَالْمُرَادُ بِبَيْتِ النَّارِ مَعْبَدُ الْمَجُوسِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْرِيَهُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ، وَلَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ وَلِهَذَا يَجِبُ الْأَجْرُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ ، وَلَا مَعْصِيَةَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِيهِ لِقَطْعِ نِسْبَتِهِ عَنْهُ فَصَارَ كَبَيْعِ الْجَارِيَةِ لِمَنْ لَا يَسْتَبْرِئُهَا أَوْ يَأْتِيهَا مِنْ دُبُرِهَا أَوْ بَيْعِ الْغُلَامِ مِنْ لُوطِيٍّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ آجَرَهُ لِلسُّكْنَى جَازَ ، وَهُوَ لَا بُدَّ لَهُ فِيهِ مِنْ عِبَادَتِهِ ، وَإِنَّمَا قَيَّدَهُ بِالسَّوَادِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْمَعْبَدِ ، وَإِظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فِي الْأَمْصَارِ لِظُهُورِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فِيهَا فَلَا يُعَارَضُ بِإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ بِخِلَافِ السَّوَادِ قَالُوا هَذَا فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ غَالِبَ أَهْلِهَا أَهْلُ ذِمَّةٍ ، وَأَمَّا فِي سَوَادِ غَيْرِهَا فِيهِ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ ظَاهِرَةٌ فَلَا يُمَكَّنُونَ فِيهَا فِي الْأَصَحِّ .
قَوْلُهُ : لِقَطْعِ نِسْبَتِهِ عَنْهُ ) قَالَ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِيخَانْ فِي شَرْحِهِ أَصْلُ هَذَا إذَا بَاعَ الْعَصِيرَ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ ، وَلَا يُكْرَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : أَوْ بَيْعُ الْغُلَامِ مِنْ لُوطِيٍّ ) قَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ فِي بُيُوعِ فَتَاوَاهُ رَجُلٌ لَهُ عَبْدٌ أَمْرَدُ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ فَاسِقٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْصِي اللَّهَ فِيهِ غَالِبًا يُكْرَهُ هَذَا الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ا هـ غَايَةٌ ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ ذَكَرَ فِي بَابِ بُيُوعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ الْمُحِيطِ الْمُسْلِمُ الْفَاسِقُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا أَمْرَدَ ، وَكَانَ مِمَّنْ يَعْتَادُ اتِّبَاعَ الْأَمْرَدِ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَحَمْلُ خَمْرٍ لِذِمِّيٍّ بِأَجْرٍ ) أَيْ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا هُوَ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَعَنَ فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً ، وَعَدَّ مِنْهَا حَامِلَهَا ، وَلَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى الْحَمْلِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ ، وَلَا تَسَبُّبٍ لَهَا ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ الْمَعْصِيَةُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ ، وَلَيْسَ الشُّرْبُ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ حَمْلَهَا قَدْ يَكُونُ لِلْإِرَاقَةِ أَوْ التَّخْلِيلِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِعَصْرِ الْعِنَبِ أَوْ قَطْفِهِ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَمْلِ الْمَقْرُونِ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا آجَرَهُ دَابَّةً لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا الْخَمْرَ أَوْ آجَرَهُ نَفْسَهُ لِيَرْعَى لَهُ الْخَنَازِيرَ فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ ، وَفِي الْمُحِيطِ لَا يُكْرَهُ بَيْعُ الزَّنَانِيرِ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَالْقَلَنْسُوَةِ مِنْ الْمَجُوسِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إذْلَالٌ لَهُمَا وَبَيْعُ الْمُكَعَّبِ الْمُفَضَّضِ لِلرِّجَالِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِيَلْبَسَهُ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ لَهُ عَلَى لُبْسِ الْحَرَامِ ، وَلَوْ أَنَّ إسْكَافًا أَمَرَهُ إنْسَانٌ أَنْ يَتَّخِذَ لَهُ خُفًّا عَلَى زِيِّ الْمَجُوسِ أَوْ الْفَسَقَةِ أَوْ خَيَّاطًا أَمَرَهُ إنْسَانٌ أَنْ يَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا عَلَى زِيِّ الْفُسَّاقِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَسْبِيبٌ فِي التَّشَبُّهِ بِالْمَجُوسِ وَالْفَسَقَةِ .
( قَوْلُهُ : وَقَالَا هُوَ مَكْرُوهٌ ) قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ قِيَاسٌ ، وَقَوْلُهُمَا اسْتِحْسَانٌ ا هـ غَايَةٌ ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَيُكْرَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَعَدَّ مِنْهَا حَامِلَهَا ) ، وَإِنَّمَا لُعِنَ الْحَامِلُ لِإِعَانَتِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : الْمُقِرُّونَ بِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ ) أَيْ ، وَهُوَ شُرْبُ الْخَمْرِ ، وَلَا كَلَامَ لَنَا فِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ ا هـ غَايَةٌ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَبَيْعُ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ ، وَأَرَاضِيِهَا ) يَعْنِي يَجُوزُ أَمَّا الْبِنَاءُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِمَنْ بَنَاهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَنَى فِي الْمُسْتَأْجَرِ أَوْ الْوَقْفِ صَارَ الْبِنَاءُ مِلْكًا لَهُ وَجَازَ لَهُ بَيْعُهُ ، وَأَمَّا أَرْضُهَا فَالْمَذْكُورُ هُنَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ أَرَاضِيَهَا مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا لِظُهُورِ آثَارِ الْمِلْكِ فِيهَا ، وَهُوَ اخْتِصَاصُهُمْ بِهَا شَرْعًا ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رَبْعٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَرَاضِيَهَا تُمْلَكُ ، وَتَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ ، وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ بَيْعَ أَرَاضِيِهَا وَالدُّورِ الَّتِي فِيهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَرَاضِيِهَا لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا ، وَلَا تُؤَجَّرُ بُيُوتُهَا } ؛ وَلِأَنَّ الْحَرَمَ وَقْفُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَيُكْرَهُ إجَارَةُ أَرْضِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَكَلَ أُجُورَ أَرْضِ مَكَّةَ فَكَأَنَّمَا أَكَلَ الرِّبَا } ؛ وَلِأَنَّ أَرَاضِيَ مَكَّةَ كَانَتْ تُدْعَى فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَمَنِ الْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ السَّوَائِبُ مَنْ احْتَاجَ إلَيْهَا سَكَنَهَا ، وَمَنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا أَسْكَنَ غَيْرَهُ فِيهَا ، وَمَنْ وَضَعَ دِرْهَمًا عِنْدَ بَقَّالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ مَا شَاءَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَّكَهُ الدِّرْهَمَ فَقَدْ أَقْرَضَهُ إيَّاهُ ، وَقَدْ شَرَطَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا يُرِيدُ مِنْ التَّوَابِلِ وَالْبُقُولِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ نَفْعٌ ، وَهُوَ بَقَاءُ دِرْهَمِهِ وَكِفَايَتُهُ لِلْحَاجَاتِ ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ لَخَرَجَ مِنْ سَاعَتِهِ ، وَلَمْ يَبْقَ فَيَصِيرُ فِي مَعْنَى قَرْضٍ جَرَّ نَفْعًا ، وَهُوَ
مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُودِعَهُ إيَّاهُ ثُمَّ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَإِنْ ضَاعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ .
( قَوْلُهُ : وَمَنْ وَضَعَ دِرْهَمًا عِنْدَ بَقَّالٍ إلَخْ ) قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ وَكُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً لَا يَجُوزُ مِثْلَ أَنْ يُقْرِضَ دَرَاهِمَ غَلَّةٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ صِحَاحًا أَوْ يُقْرِضَ قَرْضًا عَلَى أَنْ يَبِيعَ بِهِ بَيْعًا ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ كُلَّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا ، وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدَنَا أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُوجِبَةً بِعَقْدِ الْقَرْضِ مَشْرُوطَةً فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَشْرُوطَةٍ فِيهِ فَاسْتَقْرَضَ غَلَّةً فَقَضَاهُ صِحَاحًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ جَازَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ شَيْئًا ، وَلَمْ يَكُنْ شَرَطَ الْبَيْعَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ جَازَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ إلَى هُنَا لَفْظُ الْكَرْخِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَمْلِيكُ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ فَإِذَا جَرَّ نَفْعًا صَارَ كَأَنَّهُ اسْتَزَادَ فِيهِ الرِّبَا فَلَا يَجُوزُ ؛ وَلِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ وَجَرُّ الْمَنْفَعَةِ يُخْرِجُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ مَشْرُوطَةً فِي الْعَقْدِ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فِيهِ يَكُونُ الْمُقْتَرِضُ مُتَبَرِّعًا بِهَا فَصَارَ كَالرُّجْحَانِ الَّذِي دَفَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْرِضُ فَإِذَا خَرَجَ عَطَاؤُهُ أَعْطَاهُ أَجْوَدَ مِمَّا أَخَذَ قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ وَاَلَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَقْرَضَ رَجُلًا مَالًا ثُمَّ جَاءَ لِيَقْبِضَهُ فَلَمْ يَقِفْ فِي ظِلِّ حَائِطِهِ وَوَقَفَ فِي الشَّمْسِ حَتَّى خَرَجَ إلَيْهِ فَلَا أَصْلَ لَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَفْقَهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ تَحْتَ الْحَائِطِ لَيْسَ بِمَنْفَعَةٍ تُمْلَكُ ، وَلَا أَوْجَبَهَا الْقَرْضُ ، وَلَوْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ لَمُنِعَ مِنْ الْجُلُوسِ فِي سِرَاجِهِ ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِهِ ، وَهَذَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَلَهُ ) أَيْ لِلْمُقْرِضِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَتَعْشِيرُ الْمُصْحَفِ وَنَقْطُهُ ) ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالْآيَ تَوْقِيفِيَّةٌ لَيْسَ لِلرَّأْيِ فِيهَا مَدْخَلٌ فَبِالتَّعْشِيرِ حُفِظَ الْآيُ وَبِالنَّقْطِ حُفِظَ الْإِعْرَابُ فَكَانَا حَسَنَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ الْعَجَمِيَّ الَّذِي يَحْفَظُ الْقُرْآنَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِرَاءَةِ إلَّا بِالنَّقْطِ فَكَانَ حَسَنًا ، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ جَرِّدُوا الْقُرْآنَ فَذَاكَ فِي زَمَنِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْقُلُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أُنْزِلَ ، وَكَانَتْ الْقِرَاءَةُ سَهْلَةً عَلَيْهِمْ ، وَكَانُوا يَرَوْنَ النَّقْطَ مُخِلًّا بِحِفْظِ الْإِعْرَابِ وَالتَّعْشِيرَ بِحِفْظِ الْآيِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَجَمِيُّ فِي زَمَانِنَا فَيُسْتَحْسَنُ لِعَجْزِ الْعَجَمِيِّ عَنْ التَّعَلُّمِ إلَّا بِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَا بَأْسَ بِكِتَابَةِ أَسَامِي السُّوَرِ ، وَعَدِّ الْآيِ فَهُوَ ، وَإِنْ كَانَ مُحْدَثًا فَمُسْتَحْسَنٌ ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَتَحْلِيَتُهُ ) أَيْ يَجُوزُ تَحْلِيَةُ الْمُصْحَفِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِهِ كَمَا فِي نَقْشِ الْمَسْجِدِ ، وَتَزْيِينِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِيهِ إذَا كَانَتْ التَّحْلِيَةُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ غَيْرِ مُمَوَّهٍ .( قَوْلُهُ : وَعَلَى هَذَا لَا بَأْسَ بِكِتَابَةِ أَسَامِي السُّوَرِ إلَخْ ) قَالَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ لِأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ يَقُولُ لَا يُكْرَهُ مَا يُكْتَبُ فِي تَرَاجِمِ السُّوَرِ حَسْبَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبَانَةً عَنْ مَعْنَى السُّورَةِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كِتَابَةِ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَائِلِهَا لِلْفَصْلِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَدُخُولُ ذِمِّيٍّ مَسْجِدًا ) أَيْ جَازَ إدْخَالُ الذِّمِّيِّ جَمِيعَ الْمَسَاجِدِ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } ؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَخْلُو عَنْ الْجَنَابَةِ فَوَجَبَ تَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عَنْهُ ، وَعَدَّى مَالِكٌ إلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ ، وَهِيَ النَّجَاسَةُ ؛ لِأَنَّ كُلَّهَا تُنَزَّهُ عَنْهَا ، وَلَنَا أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَضَرَبَ لَهُمْ خَيْمَةً فِيهِ فَقَالَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَجَاسَتِهِمْ شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا نَجَاسَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ دَخَلَ فِي حَالِ كُفْرِهِ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّجَاسَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ هِيَ الْخُبْثُ فِي اعْتِقَادِهِمْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ قَبِيحٍ رِجْسٌ ، وَهُوَ النَّجَسُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَزْلَامَ وَالْمَيْسِرَ سُمِّيَتْ فِي الْقُرْآنِ رِجْسًا لِقُبْحِهَا وَالْمُرَادُ بِالْمَنْعِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ عَنْ قُرْبَانِهِمْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مَنْعُهُمْ عَنْ الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ ، وَكَانَ الْحُكْمُ لَهُمْ فَيَفْعَلُونَ مَا أَرَادُوا ، وَلَمَّا أَعْلَى اللَّهُ تَعَالَى كَلِمَتَهُ وَنَصَرَ دِينَهُ ، وَفَتَحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْفَتْحِ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ ، وَمُنِعُوا مِنْ دُخُولِهِ لِقَصْدِ الطَّوَافِ بِالْكُلِّيَّةِ .
( قَوْلُهُ : وَالْمُرَادُ بِالْمَنْعِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ إلَخْ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْآيَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنْ يُمْنَعُوا مِنْ تَوَلِّي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ ، وَيُعْزَلُونَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَلَى طَوَافِهِمْ عُرَاةً كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَمَرَ اللَّهُ بِتَنْزِيهِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَنْ ذَلِكَ لَا أَنَّ نَفْسَ الدُّخُولِ مَمْنُوعٌ يَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا حَدَّثَ الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّحِيحِ بِإِسْنَادِهِ إلَى حُمَيْدٍ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنْ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ أَلَا لَا يَحُجَّنَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَعِيَادَتُهُ ) أَيْ تَجُوزُ عِيَادَةُ الذِّمِّيِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { يَهُودِيًّا مَرِضَ بِجِوَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قُومُوا بِنَا نَعُودُ جَارَنَا الْيَهُودِيَّ فَعَادَهُ ، وَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، وَقَالَ قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَنَظَرَ الْمَرِيضُ إلَى أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ أَجِبْهُ فَأَجَابَهُ وَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ مَاتَ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَ بِي نَسَمَةً مِنْ النَّارِ } ؛ وَلِأَنَّ الْعِيَادَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبِرِّ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ } ، وَلَا بَأْسَ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَى الذِّمِّيِّ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ ، وَعَلَيْكُمْ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَزِدْ حِينَ رَدَّ عَلَى الْيَهُودِيِّ ، وَلَا يَبْدَؤُهُ بِالسَّلَامِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْظِيمَهُ ، وَتَكْرِيمَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةً إلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِبُدَاءَتِهِ بِهِ ، وَلَا يَدْعُو لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَلَوْ دَعَا لَهُ بِالْهُدَى جَازَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ اللَّهُمَّ أَهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ، وَلَوْ دَعَا لَهُ بِطُولِ الْعُمُرِ قِيلَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ التَّمَادِيَ عَلَى الْكُفْرِ ، وَقِيلَ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ فِي طُولِ عُمُرِهِ نَفْعًا لِلْمُسْلِمِينَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَيَكُونُ دُعَاءً لَهُمْ ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الدُّعَاءُ لَهُ بِالْعَافِيَةِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ، وَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا قِيلَ لَا يَعُودُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَقِيلَ يَعُودُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ ، وَتَرْغِيبَهُ فِيهِ وَتَأْلِيفَهُ ، وَقَدْ نُدِبْنَا إلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِي عِيَادَةِ الْفَاسِقِ أَيْضًا
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ وَالْعِيَادَةُ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِذَا مَاتَ الْكَافِرُ قَالَ لِوَالِدِهِ أَوْ قَرِيبِهِ فِي تَعْزِيَتِهِ أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْك خَيْرًا مِنْهُ ، وَأَصْلَحَك أَيْ أَصْلَحَك بِالْإِسْلَامِ وَرَزَقَك وَلَدًا مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّ الْخَيْرِيَّةَ بِهِ تَظْهَرُ ، وَيَقُولُ فِي تَعْزِيَةِ الْمُسْلِمِ أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك ، وَأَحْسَنَ عَزَاءَك وَرَحِمَ مَيِّتَك ، وَكَثَّرَ عَدَدَك قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَخِصَاءُ الْبَهَائِمِ ) أَيْ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ وَالْمَوْجُوءُ هُوَ الْخَصِيُّ ؛ وَلِأَنَّ لَحْمَهُ يَطِيبُ بِهِ ، وَيَتْرُكُ النِّطَاحَ فَكَانَ حَسَنًا .( قَوْلُهُ : وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَمْدُ اللَّهِ إلَخْ ) قَالَ مُحَمَّدٌ وَبِهِ نَأْخُذُ لَا نَرَى بِعِيَادَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس بَأْسًا كَذَا فِي كِتَابِ الْآثَارِ لِمُحَمَّدٍ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْمَجُوسِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِعِيَادَتِهِ ، وَلَكِنَّ الْمَشَايِخَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ( قَوْلُهُ : ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْإِسْلَامِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِ وَنِكَاحُهُمْ بِخِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَأَحْسَنَ عَزَاءَك ) قَالَ فِي الْمَصَابِيحِ ، وَعَزَّيْته تَعْزِيَةً قُلْت لَهُ أَحْسَنَ اللَّهُ عَزَاءَك أَيْ رَزَقَك اللَّهُ الصَّبْرَ الْحَسَنَ وَالْعَزَاءُ مِثْلُ سَلَامٍ اسْمٌ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ سَلَّمَ سَلَامًا ، وَكَلَّمَ كَلَامًا ، وَتَعَزَّى هُوَ تَصَبَّرَ وَشِعَارُهُ أَنْ يَقُولَ إنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَالْمَوْجُوءُ هُوَ الْخَصِيُّ ) فِيهِ نَظَرٌ تَقَدَّمَ فِي الْأُضْحِيَّةِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَإِنْزَاءُ الْحَمِيرِ عَلَى الْخَيْلِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَكِبَ الْبَغْلَ وَاقْتَنَاهُ ، وَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَمَا فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَتْحَ بَابِهِ ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ النَّهْيِ كَانَ لِأَجْلِ تَكْثِيرِ الْخَيْلِ .( قَوْلُهُ : كَانَ لِأَجْلِ تَكْثِيرِ الْخَيْلِ ) ، وَكَانَتْ الْخَيْلُ فِي بَنِي هَاشِمٍ قَلِيلَةً فَأَحَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَكْثُرَ فِيهِمْ ا هـ أَتْقَانِيٌّ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَبُولُ هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِ وَاسْتِعَارَةُ دَابَّتِهِ وَكُرِهَ كِسْوَتُهُ الثَّوْبَ ، وَهَدِيَّتُهُ النَّقْدَيْنِ ) يَعْنِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْكُلُّ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لَكِنْ جُوِّزَ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ لِلضَّرُورَةِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ كَالضِّيَافَةِ لِيَجْتَمِعَ إلَيْهِ الْمُجَاهِزُونَ ، وَيَجْلِبَ قُلُوبَ الْمُعَامِلِينَ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ ، وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا مَلَكَ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ { سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ فَقَبِلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، وَقَبِلَ هَدِيَّةَ بَرِيرَةَ فَقَالَ هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ ، وَعَلَى هَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أَسِيد أَنَّهُ قَالَ دَعَوْت رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ عَبْدٌ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ كَالدَّرَاهِمِ وَالثِّيَابِ فَبَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ .
( قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ ، وَقَبُولُ هَدِيَّةِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ إلَخْ ) قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ مِنْ مُخْتَصَرِهِ لَوْ أَهْدَى الْمَأْذُونُ هَدِيَّةً أَوْ دَعَا رَجُلًا إلَى مَنْزِلِهِ فَغَدَّاهُ أَوْ أَعَارَ رَجُلًا دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا أَوْ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّجُلِ الْحُرِّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إنْ عَطِبَتْ الدَّابَّةُ تَحْتَهُ أَوْ تَخَرَّقَ الثَّوْبُ مِنْ لُبْسِهِ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْبَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ مِنْ الْعَبْدِ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ ا هـ وَبَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَبْدِ يَتَصَدَّقُ بِالشَّيْءِ قَالَ بِالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ ، وَلَا بَأْسَ بِصَدَقَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ بِالطَّعَامِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَيْسَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَنْ يَهَبَ دِرْهَمًا ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ ، وَلَا يَكْسُو ثَوْبًا ، وَإِنَّمَا أَسْتَحْسِنُ مِنْ ذَلِكَ فِي الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أَسِيد أَنَّهُ قَالَ ) أَيْ قَالَ أَعْرَسْت ، وَأَنَا عَبْدٌ فَدَعَوْت إلَخْ ا هـ غَايَةٌ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَاسْتِخْدَامُ الْخَصِيِّ ) أَيْ يُكْرَهُ اسْتِخْدَامُ الْخَصِيِّ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْرِيضَ النَّاسِ عَلَى الْخِصَاءِ ، وَهُوَ مُثْلَةٌ ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْهَا فَتَحْرُمُ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالدُّعَاءُ بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك ) أَيْ يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَلِلْمَسْأَلَةِ عِبَارَتَانِ بِمَعْقِدِ وَبِمَقْعَدِ فَالْأُولَى مِنْ الْعَقْدِ وَالثَّانِيَةُ مِنْ الْقُعُودِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، وَلَا شَكَّ فِي كَرَاهِيَةِ الثَّانِيَةِ لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَاهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَا الْأُولَى ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ عِزَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْعَرْشِ وَالْعَرْشُ حَادِثٌ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يَكُونُ حَادِثًا ضَرُورَةً وَاَللَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ تَعَلُّقِ عِزِّهِ بِالْحَادِثِ بَلْ عِزُّهُ قَدِيمٌ ؛ لِأَنَّهُ صِفَتُهُ وَجَمِيعُ صِفَاتِهِ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا فِي الْأَزَلِ ، وَلَنْ يَزَالَ فِي الْأَبَدِ ، وَلَمْ يَزْدَدْ شَيْئًا مِنْ الْكَمَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْأَزَلِ بِحُدُوثِ الْعَرْشِ وَغَيْرِهِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَبِهِ أَخَذَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك ، وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِك وَبِاسْمِك الْأَعْظَمِ وَجَدِّك الْأَعْلَى ، وَكَلِمَاتِك التَّامَّةِ } وَالْأَحْوَطُ الِامْتِنَاعُ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فِيمَا يُخَالِفُ الْقَطْعِيَّ إذْ الْمُتَشَابِهُ يَثْبُتُ بِالْقَطْعِيِّ ، وَلَوْ جُعِلَ الْعِزُّ صِفَةً لِلْعَرْشِ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الْعَرْشَ مَوْصُوفٌ فِي الْقُرْآنِ بِالْمَجْدِ وَالْكَرَمِ فَكَذَا بِالْعِزِّ ، وَلَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّهُ مَوْضِعُ الْهَيْبَةِ ، وَإِظْهَارُ كَمَالِ الْقُدْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ .
( قَوْلُهُ : لِاسْتِحَالَةِ مَعْنَاهَا عَلَى اللَّهِ ) أَيْ ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَا هُوَ بَاطِلٌ ، وَهُوَ الْقُعُودُ ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ عَلَى الْعَرْشِ ، وَذَلِكَ قَوْلُ الْمُجَسِّمَةِ ، وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إلَخْ ) قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا أَكْرَهُ هَذَا أَوْ أَكْرَهُ بِحَقِّ فُلَانٍ وَبِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ الْبَيْتِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَهَذَا النَّحْوِ إلَى هُنَا لَفْظُ الْكَرْخِيِّ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ) وَبِهِ قَالَتْ الثَّلَاثَةُ ا هـ عَيْنِيٌّ
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَبِحَقِّ فُلَانٍ ) أَيْ يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ بِحَقِّ فُلَانٍ ، وَكَذَا بِحَقِّ أَنْبِيَائِك ، وَأَوْلِيَائِك أَوْ بِحَقِّ رُسُلِك أَوْ بِحَقِّ الْبَيْتِ أَوْ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا يَخُصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ بِحَقِّ اللَّهِ أَوْ بِاَللَّهِ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ شَرْعًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَكُلِّ لَهْوٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ لَعِبِ ابْنِ آدَمَ حَرَامٌ إلَّا ثَلَاثَةً مُلَاعَبَةَ الرَّجُلِ أَهْلَهُ ، وَتَأْدِيبَهُ لِفَرَسِهِ ، وَمُنَاضَلَتَهُ بِقَوْسِهِ } وَأَبَاحَ الشَّافِعِيُّ الشِّطْرَنْجَ مِنْ غَيْرِ قِمَارٍ ، وَلَا إخْلَالٍ بِحِفْظِ الْوَاجِبَاتِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْحِيذَ الْخَاطِرِ ، وَتَذْكِيَةَ نَارِ الْإِفْهَامِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا ، وَمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرَّ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ الشِّطْرَنْجَ فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَعِبٌ يَصُدُّ صَاحِبَهُ عَنْ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ ، وَعَنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ غَالِبًا فَيَكُونُ حَرَامًا كَالنَّرْدَشِيرِ وَالنَّرْدِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ } رَوَاهُ مَالِكٌ ، وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا ، وَأَمَّا مَنْفَعَتُهُ الَّتِي ذَكَرَهَا فَمَغْلُوبَةٌ تَابِعَةٌ وَالْعِبْرَةُ لِلْغَالِبِ فِي التَّحْرِيمِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فَاعْتَبَرَ الْغَالِبَ فِي التَّحْرِيمِ ، وَهَلْ رُئِيَ مَنْ يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ يُصَلِّي فَضْلًا عَنْ الْجَمَاعَةِ ، وَإِنْ صَلَّى فَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ فَكَانَ فِي إبَاحَتِهِ إعَانَةُ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ ثُمَّ إنْ كَانَ يُقَامِرُ بِهِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ ، وَكَانَ مُتَأَوِّلًا ، وَلَمْ يَصُدَّهُ ذَلِكَ عَنْ الصَّلَاةِ لَمْ تَسْقُطْ عَدَالَتُهُ ، وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ بَأْسًا لِيُشْغِلَهُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ ، وَكَرِهَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَحْقِيرًا لَهُمْ ، وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ
بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ ، وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ كَيْفَ أُسَلِّمُ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ ضَرَبَ عَلَى رُءُوسِهِمْ ، وَلَا بَأْسَ بِالْمُسَابَقَةِ فِي الرَّمْيِ وَالْفَرَسِ وَالْإِبِلِ إنْ شُرِطَ الْمَالُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ سَبَقَتْنِي فَلَكَ كَذَا ، وَإِنْ سَبَقْتُك فَلَا شَيْءَ لِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا سَبَقَ إلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ } رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ وَحَرُمَ لَوْ شُرِطَ الْمَالُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ إنْ سَبَقَ فَرَسُك أَعْطَيْتُك كَذَا ، وَإِنْ سَبَقَ فَرَسِي فَاعْطِنِي كَذَا إلَّا إذَا أَدْخَلَا ثَالِثًا بَيْنَهُمَا ، وَقَالَا لِلثَّالِثِ إنْ سَبَقْتنَا فَالْمَالَانِ لَك ، وَإِنْ سَبَقْنَاك فَلَا شَيْءَ لَنَا عَلَيْك ، وَلَكِنْ أَيُّهُمَا سَبَقَ صَاحِبَهُ أَخَذَ الْمَالَ الْمَشْرُوطَ ، وَكَذَا الْمُتَفَقِّهَةُ إذَا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا الَّذِي مَعَهُ الصَّوَابُ صَحَّ ، وَإِنْ شَرْطَاهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْمُسَابَقَةِ .
( قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ وَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ إلَخْ ) أَمَّا النَّرْدُ فَحَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ فَإِنْ قَامَرَ بِهِ فَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْقِمَارَ ، وَإِنْ لَمْ يُقَامِرْ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : كَالنَّرْدَشِيرِ وَالنَّرْدِ ) كَذَا هُوَ بِخَطِّ الشَّارِحِ وَالنَّرْدُ هُوَ النَّرْدَشِيرُ قَالَ فِي مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ النَّرْدُ مَعْرُوفٌ قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ هُوَ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ } ا هـ ، وَفِي نِهَايَةِ ابْنِ الْأَثِيرِ النَّرْدُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ وَشِيرُ بِمَعْنَى حُلْوٍ ا هـ وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ وَالنَّرْدُ مَعْرُوفٌ شَيْءٌ يُلْعَبُ بِهِ ، وَلَيْسَ بِعَرَبِيٍّ ، وَهُوَ النَّرْدَشِيرُ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ بَأْسًا إلَخْ ) ، وَأَوْرَدَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ سُؤَالًا وَجَوَابًا فَقَالَ فَإِنْ قِيلَ إذَا لَعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعَلُّمَ الْحَرْبِ قِيلَ لَهُ يَكُونُ وِزْرُهُ أَشَدَّ ؛ لِأَنَّهُ اتَّخَذَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ؛ لِأَنَّهُ يَرْتَكِبُ الْمَعْصِيَةَ ، وَيُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ الطَّاعَةَ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَلَا بَأْسَ بِالْمُسَابَقَةِ إلَخْ ) تَرْجَمَ الشَّيْخُ الشَّلَبِيُّ هُنَا فَقَالَ ( فَصْلٌ فِي الْمُسَابَقَةِ ) ( قَوْلُهُ : لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْمُسَابَقَةِ ) وَسَيَأْتِي أَحْكَامُ الْمُسَابَقَةِ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا فِي مَسَائِلَ شَتَّى آخِرَ الْكِتَابِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَجَعْلُ الرَّايَةِ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ ) أَيْ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّهْوِ وَصُورَتُهُ أَنْ يُجْعَلُ فِي عُنُقِهِ طَوْقٌ مُسَمَّرٌ بِمِسْمَارٍ عَظِيمٍ يَمْنَعُهُ مِنْ تَحْرِيكِ رَأْسِهِ ، وَهُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَ الظَّلَمَةِ ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةُ الْكُفَّارِ فَيَحْرُمُ كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } ، وَفِي النِّهَايَةِ أَنَّهُ عَلَامَةٌ بِأَنَّهُ آبِقٌ ، وَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ فِي زَمَانِنَا لِغَلَبَةِ الْإِبَاقِ خُصُوصًا فِي الْهُنُودِ ، وَكَانَ فِي زَمَانِهِمْ مَكْرُوهًا لِقِلَّةِ الْإِبَاقِ .( قَوْلُهُ : صُورَتُهُ أَنْ يُجْعَلَ فِي عُنُقِهِ طَوْقٌ ) أَيْ مِنْ حَدِيدٍ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ، وَفِي شَرْحِ الْعَيْنِيِّ بِخَطِّهِ طَوْقٌ مِنْ خَشَبٍ ا هـ قَوْلُهُ : مِنْ حَدِيدٍ ، وَكَذَا فِي شَرْحِ مُنْلَا مِسْكِينٍ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَحَلُّ قَيْدِهِ ) أَيْ جَازَ قَيْدُ الْعَبْدِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِبَاقِ وَالتَّمَرُّدِ ، وَهُوَ سُنَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْفُسَّاقِ بِخِلَافِ الرَّايَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ } .( قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ وَحَلُّ قَيْدِهِ ) وَاَلَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ وَحَلُّ عَقْدِهِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَالْحُقْنَةُ ) أَيْ جَازَتْ الْحُقْنَةُ لِلتَّدَاوِي وَجَازَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلضَّرُورَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ ، وَإِذَا أَصَابَ الدَّوَاءُ الدَّاءَ بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَحْمَدُ وَرُوِيَ أَنَّ { الْأَعْرَابَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَدَاوَى قَالَ نَعَمْ عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً أَوْ دَوَاءً إلَّا دَاءً وَاحِدًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا هُوَ قَالَ الْهَرَمُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ التَّدَاوِيَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرِقُونَ ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ ، وَلَا يَكْتَوُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ ، وَأَحْمَدُ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إنِّي أُبَرْسَمُ ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ إنْ شِئْتِ صَبَرْت ، وَلَك الْجَنَّةُ ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْت اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَافِيَك فَقَالَتْ أَصْبِرُ فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا } رَوَاهُ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ ، وَلَنَا مَا رَوَيْنَا وَرَوَى الْبُخَارِيُّ ، وَأَحْمَدُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى دَاءً إلَّا أَنْزَلَ شِفَاءً } وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَدَاوَى وَاحْتَجَمَ وَقَالَ جَابِرٌ إنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ مَرَّتَيْنِ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ ، وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ تَدَاوَى إذَا كَانَ يَرَى أَنَّ الشَّافِيَ هُوَ اللَّهُ دُونَ الدَّوَاءِ ، وَأَنَّ الدَّوَاءَ جَعَلَهُ سَبَبًا لِذَلِكَ
وَالْمُعَافِي فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ ، وَمَا رَوَاهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّدَاوِي فَذَاكَ إذَا كَانَ يَرَى الشِّفَاءَ مِنْ الدَّوَاءِ ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَالَجْ لَمَا سَلِمَ وَنَحْنُ نَقُولُ لَا يَجُوزُ لِمِثْلِ هَذَا التَّدَاوِي ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحُقْنَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِالْأَشْيَاءِ الطَّاهِرَةِ ، وَلَا يَجُوزُ بِالنَّجَسِ كَالْخَمْرِ ، وَكَذَا كُلُّ تَدَاوٍ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالطَّاهِرِ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا ، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَيَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْعِظَامِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الذَّكِيَّةِ أَوْ مِنْ الْمَيْتَةِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ مِنْ الْمَيْتَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَتْ يَابِسَةً لَيْسَ فِيهَا دُسُومَةً ، وَمِنْ الذَّكِيَّةِ يَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ إلَّا عَظْمَ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ الْخِنْزِيرُ لِنَجَاسَتِهِ وَالْآدَمِيُّ لِكَرَامَتِهِ إذْ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِأَجْزَائِهِ ، وَلَا بَأْسَ بِالرُّقَى ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَمَا جَاءَ فِيهِ مِنْ النَّهْيِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى رُقَى الْجَاهِلِيَّةِ إذْ كَانُوا يَرْقُونَ بِكَلِمَاتِ كُفْرٍ أَلَا تَرَى إلَى مَا يُرْوَى عَنْ { عُرْوَةَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَرْقِي فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ فَقَالَ اعْرِضُوا عَلَى رُقَاكُمْ لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إنَّ { الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتُّوَلَةَ شِرْكٌ
} رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتُّوَلَةُ ضَرْبٌ مِنْ السَّحَرِ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ هُوَ تَحْبِيبُ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا ، وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرُّقَى فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنْ الْعَقْرَبِ فَإِنَّك نَهَيْت عَنْ الرُّقَى قَالَ فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ فَقَالَ مَا أَرَى بَأْسًا مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ الْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْت أَنْفُثُ عَلَيْهِ ، وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ يَدِي } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمُسْلِمٌ ، وَأَحْمَدُ وَالتَّدَاوِي لَا يَمْنَعُ التَّوَكُّلَ ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ طَبِيبٌ بِالدَّوَاءِ فَلَمْ يَتَدَاوَ حَتَّى مَاتَ لَا يَأْثَمُ بِخِلَافِ مَا إذَا جَاعَ ، وَلَمْ يَأْكُلْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ حَيْثُ يَأْثَمُ ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْجُوعِ بِالْأَكْلِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فَإِنَّ اللَّهَ أَجْرَى الْعَادَةَ بِإِزَالَةِ الْجُوعِ ، وَخَلْقُ الشِّبَعِ عِنْدَ الْأَكْلِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أَصْلًا بِخِلَافِ الْمَرَضِ عِنْدَ التَّدَاوِي فَإِنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ كَالْخَمْرِ وَالْبَوْلِ إذَا أَخْبَرَهُ طَبِيبٌ مُسْلِمٌ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً ، وَلَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ مِنْ الْمُبَاحِ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَالْحُرْمَةُ تَرْتَفِعُ لِلضَّرُورَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَدَاوِيًا بِالْحَرَامِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَهُ فِي دَاءٍ عُرِفَ لَهُ دَوَاءٌ غَيْرُ الْمُحَرَّمِ .
قَوْلُهُ : وَلَا يَجُوزُ بِالنَّجَسِ إلَخْ ) إذَا سَالَ الدَّمُ مِنْ أَنْفِ إنْسَانٍ فَيَكْتُبُ بِالدَّمِ عَلَى جَبْهَتِهِ ، وَأَنْفِهِ يَجُوزُ لِلِاسْتِشْفَاءِ وَالْمُعَالَجَةِ ، وَلَوْ كَتَبَ بِالْبَوْلِ إنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً لَا بَأْسَ بِهِ لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَسْقُطُ عِنْدَ الِاسْتِشْفَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَطْشَانَ يَجُوزُ لَهُ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْجَائِعَ يَحِلُّ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ا هـ وَلْوَالِجِيٌّ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ الْكَرَاهِيَةِ ، وَذَكَرَ الْوَلْوَالِجِيُّ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ مِنْ الْكَرَاهِيَةِ مَا نَصُّهُ التَّدَاوِي بِلَبَنِ الْأَتَانِ إذَا أَشَارُوا إلَيْهِ لَا بَأْسَ بِهِ هَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ لَبَنَ الْأَتَانِ حَرَامٌ وَالِاسْتِشْفَاءَ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَكَذَا كُلُّ تَدَاوٍ إلَخْ ) ذَكَرَ الشَّارِحُ قُبَيْلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ، وَعِشْرُونَ دَلْوًا أَنَّ التَّدَاوِيَ بِالطَّاهِرِ الْحَرَامِ كَلَبَنِ الْأَتَانِ لَا يَجُوزُ فَمَا ظَنُّك بِالنَّجَسِ ا هـ ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ سَيَأْتِي فِي آخِرِ الْمَقَالَةِ نَقْلًا عَنْ النِّهَايَةِ مَا يُخَالِفُ هَذَا ا هـ ( قَوْلُهُ : قَالَ إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ إلَخْ ) ، وَهَذَا إذَا فَعَلَ الْحُقْنَةَ لِلدَّوَاءِ فَإِنْ فَعَلَ لِأَجْلِ السَّمْنِ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْهُزَالَ إذَا تَنَاهَى بِهِ يُورِثُ السُّلَّ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَالتُّوَلَةُ ) كَذَا ضَبَطَهُ الشَّارِحُ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَالتَّدَاوِي لَا يَمْنَعُ التَّوَكُّلَ ) قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى أَنَّ التَّوَكُّلَ الْمَأْمُورَ بِهِ بَعْدَ كَسْبِ الْأَسْبَابِ ثُمَّ التَّوَكُّلُ بَعْدَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْأَسْبَابِ يَعْنِي أَنَّ التَّوَكُّلَ مَعَ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ لَا مَعَ قَطْعِ الْأَسْبَابِ لَكِنْ بَعْدَ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ يَعْتَمِدُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى الْأَسْبَابِ ، وَالْحُقْنَةُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ا هـ
أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ إلَخْ ) هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ النِّهَايَةِ نَقَلَهُ عَنْهَا أَيْضًا فِي الْأَشْرِبَةِ ، وَذَكَرَ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ عَزَاهُ إلَى الذَّخِيرَةِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَرِزْقُ الْقَاضِي ) أَيْ حَلَّ رِزْقُ الْقَاضِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ أُعِدَّ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَاضِي مَحْبُوسٌ لِمَصَالِحِهِمْ وَالْحَبْسُ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ فَكَانَ رِزْقُهُ فِيهِ كَرِزْقِ الْمُقَاتِلَةِ وَالزَّوْجَةِ يُعْطَى مِنْهُ مَا يَكْفِيهِ ، وَأَهْلَهُ عَلَى هَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ إلَى مَكَّةَ ، وَفَرَضَ لَهُ وَبَعَثَ عَلِيًّا ، وَمُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ ، وَفَرَضَ لَهُمَا } ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَالْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ يَأْخُذُونَ كِفَايَتَهُمْ فَكَانَ إجْمَاعًا ، وَهَذَا إذَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ حَلَالًا جُمِعَ بِحَقٍّ ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا بِأَنْ جُمِعَ بِبَاطِلٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَخْذُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْغَيْرِ فَيَجِبُ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ إنْ كَانَ الْقَاضِي مُحْتَاجًا فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بَلْ يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ مَا عَلَيْهِ إلَّا بِهِ إذْ اشْتِغَالُهُ بِالْكَسْبِ يَمْنَعُهُ عَنْ إقَامَةِ مَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ يَأْخُذُ مِنْهُ كِفَايَتَهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَفْرُغُ بِالنَّفَقَةِ الدَّائِمَةِ ، وَفِيهِ صِيَانَةٌ لِلْحُكْمِ عَنْ أَنْ يَهُونَ عِنْدَ الْمُلُوكِ وَنَظَرًا لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُ مِنْ الْمُحْتَاجِينَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْقَطَعَ زَمَانًا يَتَعَذَّرُ رَدُّهُ عِنْدَ تَوْلِيَةِ الْمُحْتَاجِ هَذَا إذَا أَعْطَوْهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، وَمُعَاقَدَةٍ كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ بِشَرْطٍ ، وَمُعَاقَدَةٍ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ طَاعَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الطَّاعَاتِ ، وَتَسْمِيَتُهُ رِزْقًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ مُقَدَّرٌ بِالْكِفَايَةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَجْرٍ ، وَقَدْ جَرَى الرَّسْمُ بِإِعْطَائِهِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ كَانَ يُؤْخَذُ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ ، وَهُوَ يُعْطَى مِنْهُ ، وَفِي زَمَانِنَا يُؤْخَذُ الْخَرَاجُ
فِي آخِرِ السَّنَةِ وَالْمَأْخُوذُ مِنْ الْخَرَاجِ خَرَاجُ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ فِي الصَّحِيحِ ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَلَوْ أَخَذَ الرِّزْقَ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ ثُمَّ عُزِلَ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ قِيلَ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ حِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ ، وَقِيلَ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الزَّوْجَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .( قَوْلُهُ : وَفَرَضَ لَهُ ) أَيْ كُلَّ سَنَةٍ بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةٍ ا هـ غَايَةٌ قَوْلُهُ : وَقِيلَ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ إلَخْ ) إذَا اسْتَعْجَلَتْ نَفَقَةَ السَّنَةِ فَمَاتَ الزَّوْجُ فِي بَعْضِ السَّنَةِ رَدَّتْ مَا بَقِيَ مِنْ النَّفَقَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْخَصَّافُ فِي نَفَقَاتِهِ وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ كَذَا ذَكَرَ الشَّهِيدُ وَفَخْرُ الدِّينِ قَاضِيخَانْ ا هـ غَايَةٌ ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجِبُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ ا هـ غَايَةٌ
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَسَفَرُ الْأَمَةِ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِلَا مَحْرَمٍ ) أَيْ يَجُوزُ لَهُمَا السَّفَرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْرَمِ لِعَامَّةِ الرِّجَالِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ وَالْمَسِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ فَكَمَا يَجُوزُ لِلْحُرَّةِ أَنْ تُسَافِرَ مَعَ الْمَحْرَمِ فَكَذَا هِيَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَأُمُّ الْوَلَدِ أَمَةٌ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهَا ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَةٌ رَقَبَةً ، وَكَذَا مُعْتَقَةُ الْبَعْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهَا كَالْمُكَاتَبَةِ عِنْدَهُ ، وَفِي الْكَافِي قَالُوا هَذَا فِي زَمَانِهِمْ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الصَّلَاحِ فِيهِ ، وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا ، لِغَلَبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ فِيهِ ، وَمِثْلُهُ فِي النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَشِرَاءُ مَا لَا بُدَّ لِلصَّغِيرِ مِنْهُ وَبَيْعُهُ لِلْعَمِّ وَالْأُمِّ وَالْمُلْتَقِطِ لَوْ فِي حِجْرِهِمْ ) أَيْ يَجُوزُ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ أَنْ يَشْتَرُوا لِلصَّغِيرِ ، وَيَبِيعُوا مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي حِجْرِهِمْ ، وَذَلِكَ مِثْلُ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ لَتَضَرَّرَ الصَّغِيرُ ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ ، وَأَصْلُهُ أَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الصَّغِيرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ نَوْعٍ هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ فَيَمْلِكُهُ كُلُّ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ وَلِيًّا كَانَ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ، وَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ مُمَيِّزًا وَنَوْعٍ هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ فَلَا يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، وَنَوْعٍ هُوَ مُتَرَدِّدٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْعًا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِلِاسْتِرْبَاحِ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا الْأَبُ وَالْجَدُّ وَوَصِيُّهُمَا ، وَيَمْلِكُونَهُ سَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي أَيْدِيهِمْ ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي وَاسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ ، وَفِيهِ نَوْعٌ رَابِعٌ ، وَهُوَ الْإِنْكَاحُ فَيَجُوزُ مِنْ كُلِّ عَصَبَةٍ ، وَمِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ عِنْدَ عَدَمِهِمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .( قَوْلُهُ : وَذَلِكَ مِثْلُ الْبَيْعِ إلَخْ ) سَيَجِيءُ فِي الْوَصِيَّةِ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَتَّجِرُ فِي مَالِ الصَّغِيرِ ، وَتَقَدَّمَ فِي الْمُزَارَعَةِ أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكَانِ زِرَاعَةَ مَالِ الصَّغِيرِ ا هـ وَأَمَّا إقْرَاضُ مَالِ الْيَتِيمِ فَمَذْكُورٌ فِي مَسَائِلَ شَتَّى ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَتُؤَجِّرُهُ أُمُّهُ فَقَطْ ) مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّغِيرَ لَا يُؤَجِّرُهُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ إلَّا الْأُمُّ فَإِنَّهَا تُؤَجِّرُهُ إذَا كَانَ فِي حِجْرِهَا ، وَلَا يُؤَجِّرُهُ الْأَخُ ، وَلَا الْعَمُّ ، وَلَا الْمُلْتَقِطُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأُمَّ تَمْلِكُ إتْلَافَ مَنَافِعِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِأَنْ تَسْتَخْدِمَهُ ، وَلَا يَمْلِكُهُ هَؤُلَاءِ ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْقُدُورِيِّ يَجُوزُ أَنْ يُؤَجِّرَهُ الْمُلْتَقِطُ ، وَيُسَلِّمَهُ فِي صِنَاعَةٍ فَجَعَلَهُ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا أَقْرَبُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً وَنَفْعًا مَحْضًا لِلصَّغِيرِ ، وَلَوْ آجَرَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِالضَّرَرِ إلَّا إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ نَفْعًا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَيَجِبُ الْمُسَمَّى ، وَهُوَ نَظِيرُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا آجَرَ نَفْسَهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَإِنْ كَانَ الصَّغِيرُ فِي يَدِ الْعَمِّ فَآجَرَتْهُ أُمُّهُ صَحَّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْحِفْظِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ .( قَوْلُهُ : وَلَوْ آجَرَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ لَا يَصِحُّ ) أَيْ لَا يَلْزَمُ ا هـ نِهَايَةٌ .
( كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ) قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( هِيَ أَرْضٌ تَعَذَّرَ زَرْعُهَا لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهَا أَوْ لِغَلَبَتِهِ عَلَيْهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ بَعِيدَةٌ مِنْ الْعَامِرِ ) هَذَا تَفْسِيرُ الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرْضِ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مَوَاتًا إذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِبُطْلَانِ الِانْتِفَاعِ بِهَا تَشْبِيهًا لَهَا بِالْحَيَوَانِ إذَا مَاتَ وَبَطَلَ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْحَيَاةِ فَظَاهِرٌ وَالْمُرَادُ مِنْ الْحَيَاةِ هُنَا الْحَيَاةُ النَّامِيَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وَقَوْلُهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ أَيْ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، وَكَمَالُهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَمْلُوكًا لِأَحَدٍ ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ كَانَ مِلْكُهُ بَاقِيًا فِيهَا لِعَدَمِ مَا يُزِيلُهُ فَلَا تَكُونُ مَوَاتًا ثُمَّ إنْ عُرِفَ الْمَالِكُ فَهِيَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ كَانَتْ لُقَطَةً يَتَصَرَّفُ فِيهَا الْإِمَامُ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي جَمِيعِ اللُّقَطَاتِ وَالْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ ، وَلَوْ ظَهَرَ لَهَا مَالِكٌ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَهَا وَضَمِنَ لَهُ مَنْ زَرَعَهَا إنْ نَقَصَتْ بِالزِّرَاعَةِ ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَمَا كَانَ مِنْهَا عَادِيًا أَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فِي الْإِسْلَامِ لَا يُعْرَفُ لَهُ مَالِكٌ بِعَيْنِهِ فَمُرَادُهُ بِالْعَادِيِّ مَا قَدِمَ خَرَابُهُ كَأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى عَادٍ لِخَرَابِهِ مِنْ عَهْدِهِمْ وَجَعَلَ الْمَمْلُوكَ فِي الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَالِكُهُ مِنْ الْمَوَاتِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ كَالْمَوَاتِ حَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْإِمَامُ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي الْمَوَاتِ لَا ؛ لِأَنَّهُ مَوَاتٌ حَقِيقَةً عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَوْلُهُ : بَعِيدَةٌ مِنْ الْعَامِرِ هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحَدُّ الْبُعْدِ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَان بِحَيْثُ لَوْ ، وَقَفَ إنْسَانٌ فِي أَقْصَى الْعَامِرِ فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَوَاتٌ ، وَإِنْ كَانَ يُسْمَعُ فَلَيْسَ
بِمَوَاتٍ ؛ لِأَنَّهُ فِنَاءُ الْعَامِرِ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِرَعْيِ مَوَاشِيهِمْ وَطَرْحِ حَصَائِدِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ انْتِفَاعُهُمْ مُنْقَطِعًا عَنْهُ ظَاهِرًا فَلَا يَكُونُ مَوَاتًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْتَبَرُ حَقِيقَةٌ الِانْتِفَاعِ حَتَّى لَا يَجُوزَ إحْيَاءُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُ الْقَرْيَةِ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا ، وَيَجُوزُ إحْيَاءُ مَا لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْعَامِرِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ اعْتَمَدَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَمَنْ أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ مَلَكَهُ ) ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا يَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إذْنُ الْإِمَامِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ عَمَّرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ فَكَانَ أَحَقَّ بِهِ كَالْمَاءِ وَالْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ وَالرِّكَازِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ } ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَرَاضِيَ كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ ثُمَّ صَارَتْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَصَارَتْ فَيْئًا ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْفَيْءِ أَحَدٌ دُونَ رَأْيِ الْإِمَامِ كَالْغَنَائِمِ بِخِلَافِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ مِنْ الصَّيْدِ ، وَأَمْثَالِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ فَلَمْ تَكُنْ فِي حُكْمِ الْفَيْءِ ، وَمَرْوِيُّهُمَا كَانَ إذْنًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نَصْبَ شَرْعٍ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } فَإِنَّهُ تَحْرِيضٌ مِنْهُ بِالسَّلَبِ لَا نَصْبُ شَرْعٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ثُمَّ إذَا أَحْيَاهَا فَهَلْ هِيَ خَرَاجِيَّةٌ أَوْ عُشْرِيَّةٍ فَهِيَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ
فِي السِّيَرِ وَبَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ فِيهِ ، وَلَوْ تَرَكَهَا بَعْدَ الْإِحْيَاءِ وَزَرَعَهَا غَيْرُهُ قِيلَ الثَّانِي أَحَقُّ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَلَكَ اسْتِغْلَالَهَا دُونَ رَقَبَتِهَا وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ رَقَبَتَهَا بِالْإِحْيَاءِ فَلَا تَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ بِالتَّرْكِ ، وَلَوْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً ثُمَّ أُحِيطَ الْإِحْيَاءُ بِجَوَانِبِهِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ عَلَى التَّعَاقُبِ تَعَيَّنَ طَرِيقُ الْأَوَّلِ فِي الْأَرْضِ الرَّابِعَةِ فِي الْمَرْوِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْيَا الْجَوَانِبَ الثَّلَاثَةَ تَعَيَّنَ الْجَانِبُ الرَّابِعُ لِلِاسْتِطْرَاقِ ، وَيَمْلِكُ الذِّمِّيُّ بِالْإِحْيَاءِ كَالْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ .
( كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ ) مُنَاسَبَةُ هَذَا الْكِتَابِ بِكِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي مَسَائِلَ هَذَا الْكِتَابِ مَا يُكْرَهُ ، وَمَا لَا يُكْرَهُ ا هـ أَتْقَانِيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ أَوْ لِغَلَبَتِهِ عَلَيْهَا ) أَيْ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بِأَنْ تَصِيرَ الْأَرْضُ سَبْخَةً أَوْ يَغْلِبَ عَلَيْهَا الرِّمَالُ ا هـ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ) أَيْ صَارَتْ خَرَابًا وَانْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْهَا وَارْتِفَاقُ النَّاسِ بِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَرْعَى وَالِاحْتِطَابِ ا هـ ( قَوْلُهُ : فَلَا يَكُونُ مَوَاتًا ) أَيْ حَتَّى لَا يَمْلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : ثُمَّ إنْ عُرِفَ الْمَالِكُ فَهِيَ لَهُ ) أَيْ أَوْ لِوَارِثِهِ إنْ عُرِفَ ا هـ قَوْلُهُ : لِخَرَابِهِ مِنْ عَهْدِهِمْ ) أَيْ لَا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى عَادٍ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ أَرَاضِي الْمَوَاتِ لَمْ تَكُنْ لِعَادٍ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : بِحَيْثُ لَوْ ، وَقَفَ إنْسَانٌ ) أَيْ جَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : فَلَا يَكُونُ ) أَيْ الْقَرِيبُ عَلَى مَذْهَبِهِ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ اعْتَمَدَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ ) يَعْنِي أَخَذَ بِقَوْلِهِ ، وَهُوَ أَنَّ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ لَا يَكُونُ مَوَاتًا ، وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْقُدُورِيُّ أَيْضًا ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ ، وَمَنْ أَحْيَاهُ ) أَيْ بِأَنْ كَرِيهَ وَسَقَاهُ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ، وَقَدْ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : وَقَالَا يَمْلِكُهُ مَنْ أَحْيَاهُ إلَخْ ) وَالشَّافِعِيُّ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : كَانَ إذْنًا مِنْهُ ) أَيْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : لَا نَصْبَ شَرْعٍ ) حَتَّى يَكُونَ عَامًّا ا هـ غَايَةٌ قَوْلُهُ : حَتَّى يَكُونَ عِلْمًا أَيْ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ ا هـ .
غَايَةٌ كُلُّ مَا نُقِلَ عَنْ الشَّارِعِ عَلَى وَجْهَيْنِ شَرْعٍ ، وَإِذْنٍ بِشَرْعٍ فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ ، وَأَنَّهُ كَثِيرُ النَّظِيرِ وَالثَّانِي قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ لَيْسَ لِلْقَاتِلِ عِنْدَنَا مَا لَمْ يَقُلْ الْإِمَامُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ثُمَّ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ } عِنْدَهُمَا شَرْعٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذْنٌ بِالشَّرْعِ ا هـ مُشْكِلَاتُ خُوَاهَرْزَادَهْ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَإِنْ حَجَّرَ لَا ) أَيْ إنْ حَجَّرَ الْأَرْضَ لَا يَمْلِكُهَا بِالتَّحْجِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ جَعْلُهَا صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ وَالتَّحْجِيرُ لِلْإِعْلَامِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَجْرِ ، وَهُوَ الْمَنْعُ لِلْغَيْرِ بِوَضْعِ عَلَامَةٍ مِنْ حَجَرٍ أَوْ بِحَصَادِ مَا فِيهَا مِنْ الْحَشِيشِ وَالشَّوْكِ وَنَفْيِهِ عَنْهَا وَجَعْلِهِ حَوْلَهَا أَوْ بِإِحْرَاقِ مَا فِيهَا مِنْ الشَّوْكِ وَغَيْرِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فَبَقِيَتْ مُبَاحَةً عَلَى حَالِهَا لَكِنَّهُ هُوَ أَوْلَى بِهَا ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَإِذَا لَمْ يُعَمِّرْهَا فِيهَا أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ وَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ دَفَعَهَا إلَيْهِ لِيُعَمِّرَهَا فَيَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ مَنْفَعَةُ الْعُشْرِ أَوْ الْخَرَاجِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ فَلَا فَائِدَةَ فِي تَرْكِهَا فِي يَدِهِ ، وَإِنَّمَا قَدَّرَ بِثَلَاثِ سِنِينَ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ لِمُتَحَجِّرِ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ ؛ وَلِأَنَّ مُدَّةَ الِانْتِظَارِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَامَّةً حَتَّى تَشْمَلَ جَمِيعَ الْمُتَحَجِّرِينَ ، وَذَلِكَ بِالتَّقْدِيرِ بِثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْمُتَحَجِّرَ لَهُ أَنْ يَحْتَجِرَ أَيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَأَقْصَى دَارِ الْإِسْلَامِ يُقْطَعُ فِي سَنَةِ فَيُقَدَّرُ بِثَلَاثِ سِنِينَ سَنَةٍ لِلذَّهَابِ وَسَنَةٍ لِلْإِيَابِ وَسَنَةٍ لِتَدْبِيرِ مَصَالِحِهِ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُحْيِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ سِنِينَ ، وَهَذَا مِنْ طَرِيقِ الدِّيَانَةِ ، وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَإِذَا أَحْيَاهَا غَيْرُهُ قَبْلَ مُضِيِّهَا مَلَكَهَا لِتَحَقُّقِ سَبَبِ الْمِلْكِ مِنْهُ دُونَ الْأَوَّلِ وَنَظِيرُهُ الِاسْتِيَامُ وَحَفْرُ الْمَعْدِنِ ، وَإِنْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فَهُوَ تَحْجِيرٌ ، وَلَيْسَ بِإِحْيَاءٍ ، وَكَذَا إذَا جَعَلَ الشَّوْكَ حَوْلَهَا ، وَلَوْ كَرَبَهَا أَوْ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْمُسَنَّاةَ أَوْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا فَهُوَ إحْيَاءٌ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ ، وَذَكَرَ فِي
الْهِدَايَةِ ، وَلَوْ كَرَبَهَا وَسَقَاهَا فَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إحْيَاءٌ ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدَهُمَا يَكُونُ تَحْجِيرًا ، وَلَوْ سَقَاهَا مَعَ حَفْرِ الْأَنْهَارِ كَانَ إحْيَاءً لِوُجُودِ الْفِعْلَيْنِ ، وَلَوْ حَوَّطَهَا وَسَنَّمَهَا بِحَيْثُ يَعْصِمُ الْمَاءَ يَكُونُ إحْيَاءً ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْبِنَاءِ ، وَكَذَا إذَا بَذَرَهَا .( قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ : وَإِنْ حَجَّرَ ) بِالتَّشْدِيدِ ، وَيَجُوزُ فِيهِ التَّخْفِيفُ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُ الْغَيْرِ مِنْ الْإِحْيَاءِ ، وَفِي الْمَبْسُوطِ اشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ مِنْ الْحَجْرِ ، وَهُوَ الْمَنْعُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَعْلَمَ فِي مَوْضِعِ الْمَوَاتِ عَلَامَةً فَكَأَنَّهُ مَنَعَ الْغَيْرَ مِنْ إحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَسُمِّيَ فِعْلُهُ تَحْجِيرًا ا هـ مُجْتَبَيْ ( قَوْلُهُ : وَهُوَ الْمَنْعُ ) أَيْ لَا مِنْ الْحَجْرِ بِفَتْحِ الْجِيمِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ا هـ مُجْتَبَيْ قَوْلُهُ : وَنَظِيرُهُ الِاسْتِيَامُ ) أَيْ عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ ، وَلَوْ فَعَلَ يَجُوزُ الْعَقْدُ ا هـ ( قَوْلُهُ : أَوْ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْمُسَنَّاةَ ) وَالْمُسَنَّاةُ مَا تُبْنَى لِلسَّيْلِ لِتَرُدَّ الْمَاءَ ا هـ غَايَةٌ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَلَا يَجُوزُ إحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنْ الْعَامِرِ ) لِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِمْ إلَيْهِ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَصَارَ كَالنَّهْرِ وَالطَّرِيقِ ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَ مَا لَا غِنَى لِلْمُسْلِمِينَ عَنْهُ كَالْمِلْحِ وَالْآبَارِ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا الْمَاءُ .( قَوْلُهُ : تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا ) التَّحْقِيقُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ا هـ مِنْ خَطِّ الشَّارِحِ ( قَوْلُهُ : عَلَى مَا بَيَّنَّا ) أَيْ أَوَّلَ الْبَابِ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَعَلَى هَذَا قَالُوا إلَخْ ) هَكَذَا قَالَ فِي الْكَافِي ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مَا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا } ؛ وَلِأَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْبِئْرِ إلَّا بِمَا حَوْلَهَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقِفَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ لِيَسْتَقِيَ الْمَاءَ ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ مَا يُرَكِّبُ عَلَيْهِ الْبَكَرَةَ ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ حَوْضًا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ ، وَإِلَى مَوْضِعٍ تَقِفُ فِيهِ مَوَاشِيهِ حَالَةَ الشُّرْبِ وَبَعْدَهُ فَقَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا ثُمَّ قِيلَ الْأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَجْمَعُ الْجَوَانِبَ الْأَرْبَعَةَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ كَيْ لَا يَحْفِرَ آخَرُ بِئْرًا بِجَانِبِهَا فَيَتَحَوَّلُ مَاءُ الْبِئْرِ الْأُولَى إلَى الثَّانِيَةِ ، وَلَا يَنْدَفِعُ هَذَا الضَّرَرُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَيُقَدَّرُ بِأَرْبَعِينَ كَيْ لَا تَتَعَطَّلَ عَلَيْهِ الْمَصَالِحُ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبِئْرُ لِلْعَطَنِ أَوْ لِلنَّاضِحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَتْ لِلْعَطَنِ فَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّاضِحِ فَحَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا } ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ وَحَاجَةُ بِئْرِ النَّاضِحِ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَوْضِعٍ يَسِيرُ فِيهِ النَّاضِحُ ، وَهُوَ الْبَعِيرُ ، وَقَدْ يَطُولُ الرِّشَاءُ ، وَفِي بِئْرِ الْعَطَنِ يَسْتَقِي بِيَدِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا ، وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ
الْعَامَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ يُرَجَّحُ عَلَى الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَلِهَذَا رَجَحَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ عَلَى قَوْلِهِ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } ، وَعَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } وَرَجَّحَ أَصْحَابُنَا كُلُّهُمْ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ عَلَى خَبَرِ الْعَرَايَا } وَلَا يُقَالُ الْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ الْبِئْرُ لِلْعَطَنِ بِدَلِيلِ سِيَاقِهِ عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ ذِكْرُ الْعَطَنِ فِيهِ لِلتَّغْلِيبِ لَا لِلتَّقْيِيدِ بِهِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى { وَذَرُوا الْبَيْعَ } ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا } يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الِاشْتِغَالِ وَالْمَنَافِعِ ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْبَيْعِ أَوْ الْأَكْلِ لِكَوْنِهِ غَالِبًا ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ ، وَعَمَلُهُ فِي مَوْضِعِ الْبِئْرِ خَاصَّةً فَلَا يَسْتَحِقُّ فِيمَا وَرَاءَهُ ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ فَبِقَدْرِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْآثَارُ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالشَّكِّ ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَقِي مِنْ بِئْرِ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ ، وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا ؛ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُدِيرَ الْبَعِيرَ حَوْلَ الْبِئْرِ ، وَلَا يَحْتَاجَ إلَى الزِّيَادَةِ .
( قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ : وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ فَلَهُ حَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ) قَالَ الْوَلْوَالِجِيُّ وَالتَّقْدِيرُ بِأَرْبَعِينَ فِي دِيَارِهِمْ ؛ لِأَنَّ أَرَاضِيَهُمْ صَلْبَةٌ أَمَّا أَرَاضِيُنَا رَخْوَةٌ فَيُزَادُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ مَتَى احْتَاجَ إلَيْهِ حَتَّى لَا تَتَعَطَّلَ مَنْفَعَةُ بِئْرِهِ لَعَلَّ يُحْيِيَ آخَرَ فَيُحْيِيَ بِئْرًا فَوْقَ الْأَرْبَعِينَ فَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ إلَيْهِ لِرِخْوِهِ ا هـ ، وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا لِلْعَطَنِ فِي أَرْضٍ مَيِّتَةٍ فَمِلْكُهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يَمْلِكُهَا فَلَهُ حَرِيمُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَبْلُ يَتَجَاوَزُ أَرْبَعِينَ فَيَكُونُ لَهُ إلَى مَا يَتَنَاهَى إلَيْهِ الْحَبْلُ ، وَإِنْ كَانَ بِئْرٌ نَاضِحٌ فَحَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَبْلُ يَتَجَاوَزُ السِّتِّينَ فَيَكُونُ لَهُ إلَى مُنْتَهَى حَبْلِهَا إلَى هُنَا لَفْظُ الطَّحَاوِيِّ ا هـ ، وَكَتَبَ عَلَى قَوْلِهِ فَلَهُ حَرِيمُهَا مَا نَصُّهُ حَرِيمُ الْبِئْرِ نَوَاحِيهِ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مَا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ) عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ ا هـ غَايَةٌ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْعَطَنُ وَالْمَعْطَنُ مُنَاخُ الْإِبِلِ ، وَمَبْرَكُهَا ا هـ ( قَوْلُهُ : شَفِيرُ الْبِئْرِ ) قَالَ فِي الْمُغْرِبِ وَشَفِيرُ الْبِئْرِ أَوْ النَّهْرِ حَرْفُهُ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبِئْرُ لِلْعَطَنِ أَوْ لِلنَّاضِحِ ) وَالْمُرَادُ مِنْ بِئْرِ الْعَطَنِ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا بِالْيَدِ ، وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ الَّتِي يُسْتَقَى مِنْهَا بِالْبَعِيرِ كَذَا قَالُوا ا هـ غَايَةٌ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ قَرِيبًا فِي كَلَامِ الشَّارِحِ ا هـ
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَحَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةٍ ) أَيْ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ لِمَا رَوَيْنَا ؛ وَلِأَنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَوْضِعٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ ، وَمِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي إلَيْهِ ، وَمِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي مِنْهُ إلَى الْمَزْرَعَةِ فَقَدَّرَهُ الشَّارِعُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي الْمَقَادِيرِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ثُمَّ قِيلَ هُوَ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ ، وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَالذِّرَاعُ هِيَ الْمُكَسَّرَةُ ، وَهُوَ سِتُّ قَبَضَاتٍ ، وَكَانَ ذِرَاعُ الْمِلْكِ سَبْعُ قَبَضَاتٍ فَكُسِرَ مِنْهُ قَبْضَةٌ ، وَفِي الْكَافِي قِيلَ إنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَا لِصَلَابَتِهَا ، وَفِي أَرَاضِيِنَا يُزَادُ لِرَخَاوَتِهَا لِئَلَّا يَتَحَوَّلَ الْمَاءُ إلَى الثَّانِيَةِ فَتَتَعَطَّلُ الْأُولَى .قَوْلُهُ : وَالذِّرَاعُ هِيَ الْمُكَسَّرَةُ ) أَيْ ، وَهِيَ ذِرَاعُ الْعَامَّةِ ، وَهِيَ ذِرَاعُ الْكِرْبَاسِ أَقْصَرُ مِنْ ذِرَاعِ الْمِسَاحَةِ الَّتِي هِيَ ذِرَاعُ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ ذِرَاعَ الْمِسَاحَةِ سَبْعُ قَبَضَاتٍ مَعَ ارْتِفَاعِ الْإِبْهَامِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، وَذِرَاعَ الْكِرْبَاسِ سَبْعُ قَبَضَاتٍ بِدُونِ ارْتِفَاعِ الْإِبْهَامِ ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ خُوَاهَرْزَادَهْ وَبَعْضُهُمْ اخْتَارَ ذِرَاعَ الْمِسَاحَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَلْيَقُ بِالْمَمْسُوحَاتِ هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُنَا ذِرَاعَ الْمِسَاحَةِ ، وَلَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمِسَاحَةِ ذَكَرُوا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الذِّرَاعَ هِيَ الْهَاشِمِيَّةُ ، وَهِيَ ثَمَانُ قَبَضَاتٍ وَالْقَبْضَةُ أَرْبَعُ أَصَابِعَ وَالْأُصْبُعُ سِتُّ شُعَيْرَاتِ بُطُونُ بَعْضِهَا مُلَاصِقَةٌ لِظُهُورِ بَعْضٍ وَالشُّعَيْرَةُ سِتُّ شَعَرَاتٍ مِنْ شَعْرِ الْبِرْذَوْنِ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ : بِمَا ذَكَرْنَا ) أَيْ مِنْ الْأَرْبَعِينَ فِي الْبِئْرِ وَالْخَمْسِمِائَةِ فِي الْعَيْنِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( فَمَنْ حَفَرَ فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْبِئْرِ ضَرُورَةَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فَكَانَ الْحَافِرُ مُتَعَدِّيًا بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِذَا حَفَرَ رَجُلٌ فِي حَرِيمِهِ كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَكْبِسَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ ، وَيُزِيلَ تَعَدِّيَهُ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّانِي بِحَفْرِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مِلْكَهُ بِالْحَفْرِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُؤَاخِذُهُ بِهِ قِيلَ بِكَبْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ تَعَدِّيهِ كَمَا إذَا وَضَعَ شَيْئًا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَقِيلَ يُضَمِّنَّهُ النُّقْصَانَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ الْكَبْسَ بَلْ يَكْبِسُهُ بِنَفْسِهِ كَمَا إذَا هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُؤَاخِذَهُ بِقِيمَتِهِ لَا بِبِنَاءِ الْجِدَارِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَمَا عَطِبَ فِي الْبِئْرِ الْأُولَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَفْرِهَا أَمَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمَا ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَيَجْعَلُ الْحَفْرَ تَحْجِيرًا ، وَلَهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْمِلْكُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَمَا عَطِبَ فِي الثَّانِيَةِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِحَفْرِهِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَلَوْ حَفَرَ الثَّانِي بِئْرًا فِي مُنْتَهَى حَرِيمِ الْبِئْرِ الْأُولَى بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَذَهَبَ مَاءُ الْبِئْرِ الْأُولَى ، وَتَحَوَّلَ إلَى الثَّانِيَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي فِعْلِهِ وَالْمَاءُ تَحْتَ الْأَرْضِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْمُخَاصَمَةُ بِسَبَبِهِ كَمَنْ بَنَى حَانُوتًا بِجَنْبِ حَانُوتِ غَيْرِهِ فَكَسَدَ الْأَوَّلُ بِسَبَبِهِ وَلِلثَّانِي الْحَرِيمُ مِنْ الْجَوَانِبِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْجَانِبِ الْأَوَّلِ لِسَبْقِ مِلْكِ الْأَوَّلِ فِيهِ .
( قَوْلُهُ : فَإِذَا حَفَرَ رَجُلٌ إلَخْ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ فَلَوْ احْتَفَرَ آخَرُ بِئْرًا فِي حَرِيمِ الْأَوَّلِ فَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَكْبِسَهَا تَبَرُّعًا ، وَيُصْلِحَ مَا أَفْسَدَ مِنْ الْأَرْضِ ، وَلَوْ أَرَادَ مُؤَاخَذَةَ الثَّانِي بِذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ لَكِنْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قِيلَ يُؤْمَرُ الْحَافِرُ الثَّانِي بِكَبْسِ بِئْرٍ حَفَرَهَا إزَالَةً لِجِنَايَةِ حَفْرِهِ كَمَا إذَا أَلْقَى كُنَاسَةً فِي أَرْضِ غَيْرِهِ تَعَدِّيًا يُؤْمَرُ بِرَفْعِهَا ، وَقِيلَ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ كَمَا يَكْبِسُهُ بِنَفْسِهِ تُقَوَّمُ الْأَرْضُ بِلَا حَفْرٍ ، وَمَعَ الْحَفْرِ فَيُضَمِّنُهُ نُقْصَانَ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا إذَا هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ حَيْثُ يُضَمِّنُهُ نُقْصَانَ الْهَدْمِ ثُمَّ يَبْنِيهِ بِنَفْسِهِ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي ، وَلَفْظُ الْخَصَّافِ فِي الْبَابِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ أَدَبِ الْقَاضِي ، وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ حَفَرَ فِي أَرْضِهِ حُفْرَةً أَضَرَّ ذَلِكَ بِحَفْرِهِ أَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ النُّقْصَانُ فِي ذَلِكَ ، وَيَسْتَحْلِفُهُ الْقَاضِي عَلَى الْحَاصِلِ بِاَللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْك الَّذِي ادَّعَاهُ ، وَهُوَ كَذَا وَكَذَا ، وَلَا يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ إلَى هُنَا لَفْظُ الْخَصَّافِ ثُمَّ لَا ضَمَانَ فِيمَا عَطِبَ فِي الْبِئْرِ الْأُولَى سَوَاءٌ أَحْيَاهَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ، وَهَذَا لَا يُشْكِلُ عَلَى قَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ وَلِهَذَا مَلَكَ الْبِئْرَ فِي الْحَالَيْنِ فَإِذَا كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْحَفْرِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فَلَا يَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْ حَفْرِهِ كَمَا لَوْ حَفَرَ فِي دَارِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا إشْكَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ حَفَرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَمَّا إذَا كَانَ حَفَرَهَا بِلَا إذْنِ الْإِمَامِ فَفِيهِ إشْكَالٌ عَلَى قَوْلِهِ وَحَلُّهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ وِلَايَةُ التَّحْجِيرِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْإِحْيَاءُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيُجْعَلُ حَفْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ تَحْجِيرًا لَا إحْيَاءً
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَ مَا لَهُ فِعْلُهُ فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فَلَا يَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ، وَمَا عَطِبَ فِي الْبِئْرِ الثَّانِي يَضْمَنُهُ هُوَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْحَفْرِ فَإِنَّهُ حَفَرَ فِي مِلْكِ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا حَفَرَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : كَمَا إذَا هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ ) قَالَ فِي الْقُنْيَةِ بَعْدَ أَنْ رَقَمَ لِبُرْهَانِ الدِّينِ صَاحِبِ الْمُحِيطِ هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ فَيُقَوَّمُ جِدَارُهُ مَعَ جُدْرَانِهَا ، وَيُقَوَّمُ بِدُونِ هَذَا الْجِدَارِ فَيَضْمَنُ فَصْلَ مَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ رَقَمَ لِلْأَجْنَاسِ ، وَقَالَ هَدَمَ حَائِطَ مَسْجِدٍ يُؤْمَرُ بِتَسْوِيَتِهِ ، وَإِصْلَاحِهِ ، وَفِي حَائِطِ الدَّارِ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ إنْ هَدَمَ حَائِطًا مُتَّخَذًا مِنْ خَشَبٍ أَوْ عَتِيقًا مِنْ رَهْصٍ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ حَدِيثًا يُؤْمَرُ بِإِعَادَتِهِ كَمَا كَانَ وَفِي دُرَرِ الْفِقْهِ يُؤَاخَذُ فِي هَدْمِ الْحَائِطِ بِالْبِنَاءِ لَا بِالنُّقْصَانِ ثُمَّ رَقَمَ لِلْمُحِيطِ ، وَقَالَ يُؤَاخَذُ بِالْقِيمَةِ ، وَقِيلَ بِالْبِنَاءِ ا هـ قَالَ الْإِمَامُ قَاضِيخَانْ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كُتُبِ الْحَظْرِ مِنْ فَتَاوَاهُ رَجُلٌ حَفَرَ بِئْرًا فِي فِنَاءِ قَوْمٍ رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِتَسْوِيَتِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ ، وَلَوْ هَدَمَ حَائِطَ الْمَسْجِدِ كَذَلِكَ أُمِرَ بِتَسْوِيَتِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ ، وَلَوْ هَدَمَ حَائِطًا لِدَارِ رَجُلٍ مِلْكًا لَهُ أَوْ حَفَرَ فِيهَا بِئْرًا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ ، وَلَا يُؤْمَرُ بِالتَّسْوِيَةِ ، وَلَا بِبِنَاءِ الْحَائِطِ ا هـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ إذَا هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ وَالْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْحَائِطِ وَالنَّقْضُ لِلضَّامِنِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ النَّقْضَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إنْ كَانَ الْحَائِطُ جَدِيدًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَإِنْ كَانَ خَلَقًا عَتِيقًا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ؛
لِأَنَّهُ لَوْ أَعَادَهُ لَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ الْأَوَّلِ وَضَمَانُ الْعُدْوَانِ مُقَيَّدٌ بِالْمِثْلِ ا هـ أُسْرُوشَنِيٌّ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَلِلْقَنَاةِ حَرِيمٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ ) الْقَنَاةُ مَجْرَى الْمَاءِ تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَلَمْ يُقَدَّرْ حَرِيمُهُ بِشَيْءٍ يُمْكِنُ ضَبْطُهُ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ ، وَقِيلَ هَذَا عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا حَرِيمَ لَهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهَا نَهْرٌ فِي الْحَقِيقَةِ فَتُعْتَبَرُ بِالنَّهْرِ قَالُوا عِنْدَ ظُهُورِ الْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ عَيْنٍ فَوَّارَةٍ فَيُقَدَّرُ حَرِيمُهَا بِخَمْسِمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمُ شَجَرٍ يُغْرَسُ فِي الْأَرْضِ الْمَوَاتِ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ حَتَّى لَا يَمْلِكَ غَيْرُهُ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرًا فِي حَرِيمِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْحَرِيمِ لِجُذَاذِ ثَمَرِهِ وَلِلْوَضْعِ فِيهِ وَرُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا غَرَسَ شَجَرَةً فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ فَجَاءَ آخَرُ فَأَرَادَ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرَةً أُخْرَى بِجَنْبِهَا فَاخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ الْحَرِيمِ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ ، وَأَطْلَقَ لِلْآخَرِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ } .( قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ وَلِلْقَنَاةِ حَرِيمٌ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ ) يَعْنِي إذَا أَخْرَجَ قَنَاةً فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فَلَهَا مِنْ الْحَرِيمِ مَا لِلْبِئْرِ كَذَا قَالَ فِي الْأَصْلِ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا ، وَقَالَ فِي الشَّامِلِ الْقَنَاةُ لَهَا حَرِيمٌ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الشَّرْعِ ، وَقَالَ الْمَشَايِخُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ قَوْلُهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا حَرِيمَ لَهَا ا هـ غَايَةٌ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَمَا عَدَلَ عَنْهُ الْفُرَاتُ ، وَلَمْ يَحْتَمِلْ عَوْدَهُ إلَيْهِ فَهُوَ مَوَاتٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَجَازَ إحْيَاؤُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِعَامِرٍ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَإِنْ احْتَمَلَ عَوْدَهُ إلَيْهِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ مَوَاتًا ) لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَامَّةِ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ رُجُوعِ الْمَاءِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ حَقُّهُمْ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَا حَرِيمَ لِلنَّهْرِ ) ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا لَهُ حَرِيمٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ لِلْحَاجَةِ وَصَاحِبُ النَّهْرِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَصَاحِبِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَشْيِ عَلَى حَافَّتَيْ النَّهْرِ لِيُجْرِيَ الْمَاءَ إذَا احْتَبَسَ بِشَيْءٍ وَقَعَ فِيهِ إذْ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ فِي وَسَطِ الْمَاءِ وَكَذَا يَحْتَاجُ إلَى مَوْضِعٍ يُلْقِي عَلَيْهِ الطِّينَ عِنْدَ الْكَرْيِ كَمَا فِي النَّقْلِ إلَى أَسْفَلِهِ ، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى ، وَلَهُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ فِي الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُلْحِقُ بِهِمَا مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِمَا مُتَحَقَّقَةٌ فِي الْحَالِ إذْ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا لَا يَتَأَتَّى بِدُونِ الْحَرِيمِ ، وَفِي النَّهْرِ مَوْهُومَةٌ بِاعْتِبَارِ الْكَرْيِ فَلَعَلَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَصْلًا نَعَمْ يَلْحَقُهُ بَعْضُ الْحَرَجِ فِي نَقْلِ الطِّينِ وَالْمَشْيِ فِي وَسَطِ النَّهْرِ إلَى أَسْفَلِهِ لَكِنَّهُ دُونَ الْحَرَجِ فِيهِمَا فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِهِمَا إذْ شَرْطُ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ نَظِيرَ الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَنَى قَصْرًا فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ لِذَلِكَ حَرِيمًا ، وَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِلْقَاءِ الْكُنَاسَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِالْقَصْرِ بِدُونِ الْحَرِيمِ ، وَلَا يُقَاسُ عَلَى الْبِئْرِ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَيْهِ دُونَ حَاجَةِ صَاحِبِ الْبِئْرِ إلَى الْحَرِيمِ فَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ فَإِنْ تَنَازَعَ فِي
الْحَرِيمِ صَاحِبُ الْأَرْضِ وَصَاحِبُ النَّهْرِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقُولُ حَرِيمُ النَّهْرِ مِلْكِي كَانَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمٌ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَرِيمِ ، وَعَدَمِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْيَدِ فِي الْحَرِيمِ ، وَعَدَمِ ثُبُوتِهَا فِيهِ فَمَنْ كَانَتْ يَدُهُ ثَابِتَةً فِيهِ كَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَرِيمِ لِاسْتِمْسَاكِ مَائِهِ بِهِ وَالِاسْتِعْمَالُ يَدٌ فِيهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي ثَوْبٍ ، وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ كَانَ الْقَوْلُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ يَدٍ بِالِاسْتِعْمَالِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَرِيمَ أَشْبَهَ بِالْأَرْضِ صُورَةً ، وَمَعْنًى لِاتِّحَادِ الْمَقْصُودِ فِيهِمَا وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ مَا هُوَ أَشْبَهَ بِهِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي مِصْرَاعِ بَابٍ لَيْسَ هُوَ فِي يَدِهِمَا وَالْمِصْرَاعُ الْآخَرُ مُرَكَّبٌ عَلَى بَابِ دَارِ أَحَدِهِمَا كَانَ الْقَوْلُ لَهُ فَكَذَا هَذَا ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ النَّهْرِ مُسْتَعْمِلًا لَهُ بِإِمْسَاكِ مَائِهِ بِهِ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَيْضًا مُسْتَعْمِلًا لَهُ بِدَفْعِ الْمَاءِ بِهِ عَنْ أَرْضِهِ فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَتَرَجَّحَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَكَانَ الْحَرِيمُ لَهُ فَيَغْرِسُ مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْأَشْجَارِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَهُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ تَعَلَّقَ لَهُ بِهِ حَقٌّ حَيْثُ يُسْتَمْسَكُ مَاؤُهُ بِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ لَهُ إبْطَالُهُ كَمَا إذَا كَانَ حَائِطٌ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَ حَائِطَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نَهْرٌ لِرَجُلٍ إلَى جَنْبِهِ مُسَنَّاةٌ ، وَأَرْضٌ لِآخَرَ خَلْفَ الْمُسَنَّاةِ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ
لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ غَرْسٌ ، وَلَا طِينٌ مُلْقًى لِصَاحِبِ النَّهْرِ فَادَّعَى صَاحِبُ الْأَرْضِ الْمُسَنَّاةَ وَادَّعَاهَا صَاحِبُ النَّهْرِ أَيْضًا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَا لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَرِيمٌ لِمَلْقَى طِينِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَنْكَشِفُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْضِعُ الْخِلَافِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَرِيمُ مُوَازِيًا لِلْأَرْضِ لَا فَاصِلَ بَيْنَهُمَا ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْحَرِيمُ مَشْغُولًا بِحَقِّ أَحَدِهِمَا مُعَيَّنًا مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَشْجَارٌ ، وَلَا يَدْرِي مَنْ غَرَسَهَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا ، وَكَذَا قِيلَ إلْقَاءُ الطِّينِ عَلَى الْخِلَافِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ مَا لَمْ يَفْحُشْ ثُمَّ إذَا كَانَ الْحَرِيمُ لِأَحَدِهِمَا أَيِّهِمَا كَانَ لَا يَمْنَعُ الْآخَرَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُبْطِلُ حَقَّ مَالِكِهِ كَالْمُرُورِ فِيهِ ، وَإِلْقَاءِ الطِّينِ عَلَيْهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِذَلِكَ جَرَتْ الْعَادَةُ وَلَا يَغْرِسُ فِيهِ إلَّا الْمَالِكُ ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حَقَّهُ ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ آخُذُهُ بِقَوْلِهِ فِي الْغَرْسِ وَبِقَوْلِهِمَا فِي إلْقَاءِ الطِّينِ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَرِيمُهُ قَدْرُ نِصْفِ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِقْدَارُ بَطْنِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ ، وَذَكَرَ فِي كَشْفِ الْغَوَامِضِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي نَهْرٍ كَبِيرٍ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْكَرْيِ فِي كُلِّ حِينٍ أَمَّا الْأَنْهَارُ الصِّغَارُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَرْيِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَهَا حَرِيمٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ : ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ ) كَذَا هُوَ فِي الْكَافِي ، وَفِي خَطِّ الشَّارِحِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ فَتَأَمَّلْ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَقَالَا ) هِيَ ا هـ غَايَةٌ قَوْلُهُ : هِيَ أَيْ الْمُسَنَّاةُ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَغَيْرُ ذَلِكَ ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْجَامِعِ ا هـ .
( مَسَائِلُ الشِّرْبِ ) قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( هُوَ نَصِيبُ الْمَاءِ ) أَيْ الشِّرْبُ بِالْكَسْرِ نَصِيبُ الْمَاءِ وَالصَّوَابُ نَصِيبٌ مِنْ الْمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } أَيْ نَصِيبٍ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( الْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَلِكُلٍّ أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَهُ ، وَيَتَوَضَّأَ بِهِ ، وَيَشْرَبَهُ وَيَنْصِبَ الرَّحَى عَلَيْهِ ، وَيُكْرِيَ نَهْرًا مِنْهَا إلَى أَرْضِهِ إنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ ) أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا يَدٌ عَلَى الْخُصُوصِ ؛ لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ مُحْرِزًا وَالْمِلْكُ بِالْإِحْرَازِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِأَحَدٍ كَانَ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ وَالنَّارِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْمُرَادُ بِالْمَاءِ مَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ فَإِذَا أُحْرِزَ فَقَدْ مُلِكَ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَالصَّيْدِ إذَا أُحْرِزَ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ وَشَرَطَ لِجَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ بِأَنْ يَمِيلَهُ بِالْكَرْيِ أَوْ نَصْبِ الرَّحَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْمُبَاحِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْهَوَاءِ وَالْمُرَادُ بِالْكَلَأِ الْحَشِيشُ الَّذِي يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْبِتَهُ أَحَدٌ ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَزْرَعَهُ ، وَيَسْقِيَهُ فَيَمْلِكُهُ مَنْ قَطَعَهُ ، وَأَحْرَزَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالنَّارِ الِاسْتِضَاءَةُ بِضَوْئِهَا ، وَالِاصْطِلَاءُ بِهَا ، وَأَلَّا يُقَادَ مِنْ لَهَبِهَا ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ إنْ كَانَتْ فِي الصَّحْرَاءِ بِخِلَافِ مَا لَوْ
أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمْرَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ فَكَانَ لَهُ مَنْعُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ .
( مَسَائِلُ الشِّرْبِ ) ( قَوْلُهُ : وَالصَّوَابُ إلَخْ ) أَقُولُ كَانَ الشَّارِحُ سَامَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَوَهَّمَ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَى اللَّامِ كَغُلَامِ زَيْدٍ وَنَصِيبِ زَيْدٍ فَبَادَرَ إلَى تَخْطِئَةِ الْمُصَنِّفِ لِعَدَمِ ظُهُورِ اسْتِقَامَتِهِ حِينَئِذٍ إذْ الْمَاءُ لَا نَصِيبَ لَهُ ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الشَّارِحِ فَإِنَّ الْإِضَافَةَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَيْسَتْ بِمَعْنَى اللَّامِ بَلْ بِمَعْنَى مِنْ لِصِدْقِ تَعْرِيفِهَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ بَعْضًا مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَصَالِحًا لِحَمْلِهِ عَلَيْهِ كَخَاتَمِ حَدِيدٍ وَبَابِ سَاجٍ فَالْخَاتَمُ بَعْضُ الْحَدِيدِ وَالْبَابُ بَعْضُ السَّاجِ وَالنَّصِيبُ بَعْضُ الْمَاءِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ الْمُضَافِ ، وَهُوَ الْحَدِيدُ وَالسَّاجُ وَالْمَاءُ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ فَيُقَالُ الْخَاتَمُ حَدِيدٌ وَالْبَابُ سَاجٌ وَالنَّصِيبُ مَاءٌ فَظَهَرَ لَك أَنَّ مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الصَّوَابُ ، وَمَا قَالَهُ الشَّارِحُ مِنْ الْخَطَأِ الْعُجَابِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ا هـ ( قَوْلُهُ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ } إلَخْ ) شَرِكَةُ إبَاحَةٍ لَا شَرِكَةُ مِلْكٍ فَمَنْ سَبَقَ إلَى أَخْذِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي وِعَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَأَحْرَزَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، وَهُوَ مِلْكٌ لَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ يَجُوزُ لَهُ تَمْلِيكُهُ بِجَمِيعِ وُجُوهِ التَّمْلِيكِ ، وَهُوَ مَوْرُوثٌ عَنْهُ ، وَيَجُوزُ فِيهِ وَصَايَاهُ كَمَا يَجُوزُ فِي أَمْلَاكِهِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَالْمُرَادُ بِالنَّارِ الِاسْتِضَاءَةُ وَالِاصْطِلَاءُ بِهَا ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَمَّا الشَّرِكَةُ فِي النَّارِ فَبَيَانُهُ مَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ فِي شَرْحِ كِتَابِ الشِّرْبِ ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا أَوْقَدَ نَارًا فِي مَفَازَةٍ فَإِنَّ هَذِهِ النَّارَ تَكُونُ شَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ أَجْمَعَ حَتَّى لَوْ جَاءَ إنْسَانٌ ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَضِيءَ بِضَوْءِ هَذِهِ النَّارِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَخِيطَ ثَوْبًا لَهُ حَوْلَ النَّارِ
أَوْ يَصْطَلِيَ بِهَا فِي زَمَانِ الْبَرْدِ أَوْ يَتَّخِذَ مِنْهُ سِرَاجًا لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ النَّارِ مَنْعُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَوْقَدَ النَّارَ فِي مَوْضِعٍ مَمْلُوكٍ لَهُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ لَا بِالنَّارِ فَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ فَتِيلَةِ سِرَاجِهِ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْجَمْرَةِ فَإِنَّ لِصَاحِبِ النَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَلَوْ أَطْلَقْنَاهُ لِلنَّاسِ لَمْ يَبْقَ لَهُ نَارٌ يَصْطَلِي بِهَا ، وَيَخْبِزُ بِهَا ، وَهَذَا الْأَوْجَهُ لَهُ ا هـ حُكْمُ الْكَلَأِ ذَكَرَهُ الشَّارِحُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَالْمَرَاعِي ، وَإِجَارَتِهَا ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَفِي الْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْآبَارِ وَالْحِيَاضِ لِكُلٍّ شُرْبُهُ وَسَقْيُ دَوَابِّهِ لَا أَرْضِهِ ، وَإِنْ خِيفَ تَخْرِيبُ النَّهْرِ لِكَثْرَةِ الْبَقَرِ يَمْنَعُ ) ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ حَقُّ الشُّرْبِ وَسَقْيِ الدَّابَّةِ فِيهِ لِمَا رَوَيْنَا ؛ وَلِأَنَّ الْأَنْهَارَ وَالْآبَارَ وَالْحِيَاضَ لَمْ تُوضَعْ لِلْإِحْرَازِ وَالْمُبَاحُ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ فَصَارَ كَالصَّيْدِ إذَا تَكَنَّسَ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ ؛ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَاءِ تَتَجَدَّدُ سَاعَةً فَسَاعَةً ، وَمَنْ سَافَرَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَا يَكْفِيهِ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى وَطَنِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ مِنْ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى طَرِيقِهِ لِنَفْسِهِ وَدَابَّتِهِ ، وَصَاحِبُهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَوْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ لَحِقَهُ حَرَجٌ عَظِيمٌ ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ شَرْعًا بِخِلَافِ سَقْيِ الْأَرَاضِي حَيْثُ يَمْنَعُ صَاحِبُ الْمَاءِ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ضَرَرٌ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَا أَرْضِهِ ؛ لِأَنَّ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ إبْطَالَ حَقِّ صَاحِبِهِ إذْ لَا نِهَايَةَ لِذَلِكَ فَيَذْهَبُ بِهِ مَنْفَعَتُهُ فَيَلْحَقُهُ بِهِ ضَرَرٌ ، وَلَا كَذَلِكَ شُرْبُهُ وَسَقْيُ دَابَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ بِمِثْلِهِ ضَرَرٌ عَادَةً حَتَّى لَوْ تَحَقَّقَ فِيهِ الضَّرَرُ بِكَسْرِ ضِفَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ الْمَنْعُ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ، وَإِنْ خِيفَ تَخْرِيبُ النَّهْرِ لِكَثْرَةِ الْبَقَرِ يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِصَاحِبِهِ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا حَقَّ الشُّرْبِ لِغَيْرِهِ لِلضَّرُورَةِ فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُهُ إذْ بِهِ تَبْطُلُ مَنْفَعَتُهُ .( قَوْلُهُ : بِكَسْرِ ضِفَّتِهِ ) أَيْ ضِفَّةِ النَّهْرِ ، وَهِيَ حَافَّتُهُ وَرَوَاهَا صَاحِبُ الْمُغْرِبِ بِكَسْرِ الضَّادِ ، وَفَتْحِهَا جَمِيعًا ، وَفِي الدِّيوَانِ بِالْكَسْرِ جَانِبُ النَّهْرِ وَبِالْفَتْحِ جَمَاعَةُ النَّاسِ ا هـ غَايَةٌ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَالْمُحَرَّزُ فِي الْكُوزِ وَالْجُبِّ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْإِحْرَازِ فَكَانَ أَخَصَّ بِهِ كَالصَّيْدِ إذَا أَخَذَهُ لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ لِظَاهِرِ مَا رَوَيْنَا فَيَعْمَلُ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ حَتَّى لَوْ سَرَقَهُ فِي مَوْضِعٍ يَعِزُّ الْمَاءُ فِيهِ ، وَهُوَ يُسَاوِي نِصَابًا لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ ، وَلَا كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } حَيْثُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ بِلَفْظِ الشُّرَكَاءِ فَلَمْ يَمْنَعْ اخْتِصَاصَ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ هَذَا الْمَالُ لِأَهْلِ بَلَدِ كَذَا ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَالِهِ ، وَلَا يُقَالُ هُمْ شُرَكَاءُ فِيهِ إلَّا إذَا كَانَ هُوَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ ، وَلَا يَخْتَصُّ بَعْضُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَوْرَثَ مِثْلُهُ شُبْهَةً لَانْسَدَّ بَابُ إقَامَةِ الْحُدُودِ كُلِّهَا حَتَّى حَدُّ الزِّنَا ، وَلَوْ كَانَتْ الْبِئْرُ أَوْ الْحَوْضُ أَوْ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَةَ مِنْ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ إذَا كَانَ يَجِدُ مَاءً بِقُرْبِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ يُقَالُ لَهُ إمَّا أَنْ تُخْرِجَ الْمَاءَ إلَيْهِ أَوْ تَتْرُكَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْسِرَ ضِفَّتَهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الشَّفَةِ فِي الْمَاءِ الَّذِي فِي حَوْضِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ قِيلَ هَذَا إذَا احْتَفَرَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ أَمَّا إذَا احْتَفَرَ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ كَانَ حَقًّا لِلْكُلِّ وَالْإِحْيَاءَ لِحَقٍّ مُشْتَرَكٍ ، وَهُوَ الْعُشْرُ أَوْ الْخَرَاجُ فَلَا يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ وَحُكْمُ الْكَلَأِ حُكْمُ الْمَاءِ حَتَّى إذَا كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ قِيلَ لِلْمَالِكِ إمَّا أَنْ تَقْطَعَ ، وَتَدْفَعَ إلَيْهِ ، وَإِلَّا تَتْرُكَهُ لِيَأْخُذَ قَدْرَ مَا يُرِيدُ مِنْهُ ، وَلَوْ مَنَعَهُ الْمَاءَ ، وَهُوَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَدَابَّتِهِ الْعَطَشَ كَانَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ لِأَثَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛
وَلِأَنَّهُ قَصَدَ إتْلَافَهُ بِمَنْعِ الشَّفَةِ ، وَهُوَ حَقُّهُ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْبِئْرِ وَالنَّهْرِ وَنَحْوِهِمَا مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مُحَرَّزًا فِي الْأَوَانِي فَلَيْسَ لِلَّذِي يَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْعَطَشِ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ ، وَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِغَيْرِ السِّلَاحِ إذَا كَانَ فِيهِ فَضْلٌ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْإِحْرَازِ فَصَارَ نَظِيرَ الطَّعَامِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ وَفِي الْكَافِي قِيلَ فِي الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا الْأَوْلَى أَنْ يُقَاتِلَهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً فَصَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْزِيرِ ، وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِسِلَاحٍ حَيْثُ جَعَلَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُقَاتِلَهُ بِهِ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرْنَا وَالشَّفَةُ إذَا كَانَتْ تَأْتِي عَلَى الْمَاءِ كُلِّهِ بِأَنْ كَانَ جَدْوَلًا صَغِيرًا وَفِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوَاشِي كَثْرَةٌ يَنْقَطِعُ الْمَاءُ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ بِذَلِكَ كَسَقْيِ الْأَرْضِ ، وَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الْمَاءَ مِنْهُ لِلْوُضُوءِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ فِي الْأَصَحِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَتَوَضَّأُ فِي النَّهْرِ ، وَيَغْسِلُ الثِّيَابَ فِيهِ قُلْنَا فِي ذَلِكَ حَرَجٌ بَيِّنٌ فَيُدْفَعُ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ شَجَرًا أَوْ خَضِرًا فِي دَارِهِ وَحَمَلَ الْمَاءَ إلَيْهِ بِالْجَرَّةِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ بَلْخٍ لَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ النَّهْرِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ ، وَيَعُدُّونَ الْمَنْعَ مِنْهُ مِنْ الدَّنَاءَةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيُبْغِضُ سَفْسَافَهَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْقِيَ نَخِيلَهُ ، وَأَرْضَهُ وَشَجَرَهُ مِنْ نَهْرِ غَيْرِهِ وَبِئْرِهِ ، وَقَنَاتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ نَصًّا وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَمَّا دَخَلَ فِي الْمُقَاسَمَةِ انْقَطَعَتْ شَرِكَةُ
الشُّرْبِ بِالْكُلِّيَّةِ إذْ لَوْ بَقِيَتْ لَانْقَطَعَ شُرْبُ صَاحِبِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَحَفَرَ نَهْرًا إلَى أَرْضِهِ فَيُفْضِي إلَى كَسْرِ ضِفَّتِهِ ، وَإِلَى الْحَفْرِ فِي حَرِيمِ بِئْرِهِ لِتَسْيِيلِ الْمَاءِ إلَى أَرْضِهِ ، وَيَلْحَقُهُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فَيَمْنَعُ مِنْهُ أَصْلًا فَصَارَ فِي الْحَاصِلِ الْمِيَاهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ الْأَنْهُرُ الْعِظَامُ الَّتِي لَمْ تَدْخُلْ فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَالْأَنْهَارُ الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ ، وَمَا صَارَ فِي الْأَوَانِي فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى .( قَوْلُهُ : حَتَّى إذَا كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ ) نَقُولُ إنْ كَانَ يَجِدُ الْمَرِيدُ لِلْكَلَأِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يُقَالُ لَهُ خُذْ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ لَمْ يَصِرْ مِلْكًا لِمَالِكِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إحْرَازٌ فَبَقِيَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ النَّاسِ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَتَوَضَّأُ إلَخْ ) وَاخْتَلَفُوا فِي التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ السَّاقِيَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنْ كَانَ الْمَاءُ كَثِيرًا يَجُوزُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَكَذَا كُلُّ مَا أُعِدَّ لِلشُّرْبِ حَتَّى قَالُوا فِي الْحِيَاضِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلشُّرْبِ لَا يَجُوزُ فِيهِ التَّوَضُّؤُ ، وَيُمْنَعُ مِنْهُ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَ مَاءَ السِّقَايَةِ إلَى بَيْتِهِ لِلشُّرْبِ كَذَا فِي الْفَتَاوَى ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : وَيُبْغِضُ سَفْسَافَهَا ) السَّفْسَافُ الْأَمْرُ الْحَقِيرُ وَالرَّدِيءُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ ضِدُّ الْمَعَالِي وَالْمَكَارِمِ ، وَأَصْلُهُ مَا يَطِيرُ مِنْ غُبَارِ الدَّقِيقِ إذَا نُخِلَ وَالتُّرَابِ إذَا أُثِيرَ ا هـ ابْنُ الْأَثِيرِ
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَكَرْيُ نَهْرٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ مِنْ بَيْت الْمَالِ ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لَهَا فَكَانَ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ مِنْهُ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ يُجْبِرُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ ) أَيْ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ أَجْبَرَ الْإِمَامُ النَّاسَ عَلَى كَرْيِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ نُصِبَ نَاظِرًا ، وَفِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ عَلَى النَّاسِ ، وَقَلَّمَا يَنْفُقُ الْعَوَامُّ عَلَى الْمَصَالِحِ بِاخْتِيَارِهِمْ فَيُجْبِرُهُمْ عَلَيْهِ ، وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ تَرَكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ إلَّا أَنَّهُ يُخْرِجُ لَهُ مَنْ كَانَ يُطِيقُهُ ، وَيَجْعَلُ مُؤْنَتَهُ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ كَمَا فِي تَجْهِيزِ الْجُيُوشِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَكَرْيُ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ عَلَى أَهْلِهِ ، وَيُجْبَرُ الْآبِي عَلَى كَرْيِهِ ) ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لَهُمْ عَلَى الْخُصُوصِ فَتَكُونُ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ ، وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ يُجْبَرُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَقِيلَ إنْ كَانَ خَاصًّا لَا يُجْبَرُ وَالْفَاصِلُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ أَنَّ مَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ خَاصٌّ ، وَمَا لَا تُسْتَحَقُّ بِهِ عَامٌّ وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْعَامِّ دَفْعَ الضَّرَرِ الْعَامِّ ، وَهُوَ ضَرَرُ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ ، وَمِثْلُ هَذَا جَائِزٌ بِإِلْزَامِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ بَلْ وَاجِبٌ إذَا تَعَيَّنَ مِدْفَعًا فَبِدُونِ الضَّرَرِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْآبِيَ لَا يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ بَلْ يَحْصُلُ لَهُ نَفْعٌ بِمُقَابَلَتِهِ فَأَمْكَنَ إجْبَارُهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ خَاصًّا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَفْعُ ضَرَرٍ عَامٍّ ، وَإِنَّمَا فِيهِ دَفْعُ ضَرَرٍ خَاصٍّ ، وَهُوَ ضَرَرُ شُرَكَائِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا ، وَيُمْكِنُ دَفْعُ ضَرَرِ شُرَكَائِهَا بِدُونِ ذَلِكَ بِأَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمُؤْنَةِ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الْقَاضِي بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَامًّا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ لِكَثْرَتِهِمْ وَرُبَّمَا لَا تُقْبَلُ الْمُؤْنَةُ الْقِسْمَةَ عَلَيْهِمْ ، وَلَا يَدْرِي حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَلَا يُقَالُ فِي كَرْيِ النَّهْرِ الْخَاصِّ إحْيَاءُ حُقُوقِ أَهْلِ الشَّفَةِ فَيَكُونُ فِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ عَامٌّ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا جَبْرَ لِأَجْلِ حَقِّ أَهْلِ الشَّفَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الشُّرْبِ كُلَّهُمْ لَوْ امْتَنَعُوا عَنْ الْكَرْيِ لَا يُجْبِرُهُمْ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهُمْ امْتَنَعُوا عَنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهِمْ ، وَلَوْ كَانَ حَقُّ الشَّفَةِ مُعْتَبَرًا لَأُجْبِرُوا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ .
( قَوْلُهُ : وَالْفَاصِلُ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ إلَخْ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَجَعَلَ مُحَمَّدٌ الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ فَقَالَ الْخَاصُّ مِنْ النَّهْرِ مَا لَوْ بِيعَتْ أَرْضٌ عَلَى هَذَا النَّهْرِ كَانَ لِجَمِيعِ أَهْلِ النَّهْرِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَذْكُرَ الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ الشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ فِي الشُّفْعَةِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَحْدِيدِ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ مِنْ التَّحْدِيدِ هُوَ أَنَّ الشُّرَكَاءَ فِي النَّهْرِ إنْ كَانُوا مَا دُونَ الْمِائَةِ فَالشَّرِكَةُ خَاصَّةٌ تُسْتَحَقُّ بِهَا الشُّفْعَةُ ، وَإِنْ كَانُوا مِائَةً فَصَاعِدًا فَالشَّرِكَةُ عَامَّةٌ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ لِلْكُلِّ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِلْجَارِ ا هـ
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَمُؤْنَةُ كَرْيِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَعْلَاهُ فَإِنْ جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ بَرِيءٍ ) ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا مُؤْنَةُ الْكَرْيِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ إلَى آخِرِهِ بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِالْأَسْفَلِ كَمَا يَنْتَفِعُ بِالْأَعْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَسْيِيلِ الْفَاضِلِ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّهُ إذَا سَدَّ عَلَيْهِ فَاضَ الْمَاءُ عَلَى أَرْضِهِ ، وَأَفْسَدَ زَرْعَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِالنَّهْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ فَلِهَذَا يَسْتَوُونَ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِهِ فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْغُنْمِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوُوا فِي الْغُرْمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُؤْنَةَ الْكَرْيِ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِالنَّهْرِ ، وَيَسْقِي الْأَرَاضِيَ مِنْهُمْ فَإِذَا جَاوَزَ الْكَرْيُ أَرْضَ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُ فِي كَرْيِ مَا بَقِيَ مَنْفَعَةٌ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ مُؤْنَتِهِ وَبِانْتِفَاعِهِ فِي أَسْفَلَ مِنْ حَيْثُ إجْرَاءُ مَا فَضَلَ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ عِمَارَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَهُ حَقُّ تَسْيِيلِ مَاءِ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ لَا يَلْزَمُهُ عِمَارَةُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِاعْتِبَارِ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ ضَرَرِ الْمَاءِ عَنْهُ بِسَدِّ فُوَّهَةِ النَّهْرِ مِنْ أَعْلَاهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْكَرْيِ مِنْ أَسْفَلَ وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْكَرْيَ إذَا انْتَهَى إلَى فُوَّهَةِ أَرْضِهِ مِنْ النَّهْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْمُؤْنَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الْكَرْيِ إلَى أَنْ يُجَاوِزَ حَدَّ أَرْضِهِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ الْفُوَّهَةَ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ أَرْضِهِ إنْ شَاءَ مِنْ أَعْلَى ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ أَسْفَلَ فَكَانَ مُنْتَفِعًا بِالْكَرْيِ انْتِفَاعَ سَقْيِ الْأَرْضِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ حَدَّ أَرْضِهِ .
قَوْلُهُ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ، وَفِي الْخَانِيَّةِ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِ ا هـ ابْنُ فِرِشْتَا .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَا كَرْيَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ إذْ أَهْلُ الدُّنْيَا كُلُّهُمْ لَهُمْ حَقُّ الشَّفَةِ ، وَمُؤْنَةُ الْكَرْيِ لَا تَجِبُ عَلَى قَوْمٍ لَا يُحْصَوْنَ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَفْرِ الْأَنْهَارِ وَنَحْوِهَا سَقْيُ الْأَرَاضِي ، وَأَهْلُ الشَّفَةِ أَتْبَاعٌ وَالْمُؤْنَةُ تَجِبُ عَلَى الْأُصُولِ دُونَ الْأَتْبَاعِ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الشُّفْعَةَ .( قَوْلُهُ : فِي الْمَتْنِ ، وَلَا كَرْيَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ ) أَصْلُ الشَّفَةِ شَفَهَةٌ وَلِهَذَا تَقُولُ فِي تَصْغِيرِهَا شُفَيْهَةٌ ، وَفِي جَمْعِهَا شِفَاهُ ، وَالتَّصْغِيرُ وَالتَّكْثِيرُ يَرُدَّانِ الْأَشْيَاءَ إلَى أَصْلِهَا وَحُذِفَتْ الْهَاءُ تَخْفِيفًا يُقَالُ هُمْ أَهْلُ الشَّفَةِ أَيْ لَهُمْ حَقُّ الشُّرْبُ بِشَفَاهُمْ ، وَأَنْ يَسْقُوا بَهَائِمَهُمْ ا هـ أَتْقَانِيٌّ
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَتَصِحُّ دَعْوَى الشِّرْبِ بِغَيْرِ أَرْضٍ ) ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى إعْلَامُ الْمُدَّعَى فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَالشُّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ ؛ وَلِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِي الْمُدَّعَى إذَا ثَبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالشُّرْبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِدُونِ أَرْضٍ فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي فِيهِ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةَ كَالْخَمْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشُّرْبَ مَرْغُوبٌ فِيهِ مُنْتَفَعٌ بِهِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُمْلَكَ بِغَيْرِ أَرْضٍ بِالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَقَدْ يَبِيعُ الْأَرْضَ دُونَ الشُّرْبِ فَيَبْقَى لَهُ الشُّرْبُ وَحْدَهُ فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْضٌ وَلِآخَرَ فِيهَا نَهْرٌ فَأَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ لَا يُجْرِيَ النَّهْرَ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَيُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّهْرِ مِنْهَا فِي يَدِ رَبِّ النَّهْرِ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهِ فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ مِلْكُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا فِيهَا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ لِيَسْقِيَهَا فَيَقْضِيَ لَهُ لِإِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ مِلْكَ الرَّقَبَةِ إذَا كَانَ الدَّعْوَى فِيهِ أَوْ حَقُّ الْإِجْرَاءِ بِإِثْبَاتِ الْمَجْرَى مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمِلْكِ ، وَعَلَى هَذَا الْمَصَبُّ فِي نَهْرٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ الْمِيزَابُ أَوْ الْمَمْشَى فِي دَارِ غَيْرِهِ فَحُكْمُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ نَظِيرُهُ فِي الشُّرْبِ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ اخْتَصَمُوا فِي الشُّرْبِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيِهِمْ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشُّرْبِ سَقْيُ الْأَرَاضِيِ وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْأَرَاضِي ، وَكَثْرَتِهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الشُّرْبِ بِقَدْرِ أَرْضِهِ وَبِقَدْرِ حَاجَتِهِ بِخِلَافِ الطَّرِيقِ إذَا اخْتَلَفَ فِيهِ الشُّرَكَاءُ حَيْثُ يَسْتَوُونَ فِي مِلْكِ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ سَعَةُ الدَّارِ وَضِيقُهَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ الِاسْتِطْرَاقُ ، وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ ، وَلَا يُقَالُ قَدْ اسْتَوَوْا فِي إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى النَّهْرِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوُوا فِي الِاسْتِحْقَاقِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَاءُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً إذْ لَا يُمْكِنُ إحْرَازُهُ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِانْتِفَاعَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْأَرَاضِي فَيَتَفَاوَتُ الْإِحْرَازُ الَّذِي هُوَ فِي ضِمْنِ الِانْتِفَاعِ فَيَكُونُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُسَكِّرَ النَّهْرَ عَلَى الْأَسْفَلِ ، وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي السَّكْرِ إحْدَاثَ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ فِي وَسَطِ النَّهْرِ وَرَقَبَةُ النَّهْرِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ بِدُونِ إذْنِ الشُّرَكَاءِ فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنَّ الْأَعْلَى يُسَكِّرُ النَّهْرَ حَتَّى يَشْرَبَ بِحِصَّتِهِ أَوْ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَكِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّهُمْ ، وَقَدْ زَالَ بِتَرَاضِيهِمْ ، وَلَكِنْ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُسَكِّرَ بِلَوْحٍ أَوْ بَابٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَكِّرَ بِالطِّينِ وَالتُّرَابِ لِئَلَّا يَنْكَبِسَ النَّهْرُ بِهِ ، وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالشُّرَكَاءِ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ بِحَيْثُ لَا يَجْرِي إلَى أَرْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا بِالسَّكْرِ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَهْلِ الْأَسْفَلِ حَتَّى يَرْوُوا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
لِأَهْلِ الْأَعْلَى أَنْ يُسَكِّرُوا ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُسَكِّرُوا قَبْلَهُمْ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلُ أَسْفَلِ النَّهْرِ أُمَرَاءُ عَلَى أَهْلِ الْأَعْلَى حَتَّى يَرْوُوا ، وَهَذَا يُوجِبُ بُدَاءَةَ أَهْلِ الْأَسْفَلِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَشُقَّ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى أَوْ دَالِيَةً أَوْ جِسْرًا أَوْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ أَوْ يَقْسِمَ بِالْأَيَّامِ ، وَقَدْ وَقَعَ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى أَوْ يَسُوقَ نَصِيبَهُ إلَى أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى لَيْسَ لَهَا فِيهِ شِرْبٌ بِلَا رِضَاهُمْ ) ؛ لِأَنَّ فِي شَقِّ النَّهْرِ وَنَصْبِ الرَّحَى كَسْرَ ضِفَّةِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ وَشَغْلَ الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِالْبِنَاءِ ، وَفِي الْكَسْرِ تَغْيِيرُ الْمَاءِ عَنْ سُنَنِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الرَّحَى لَا تَضُرُّ بِالنَّهْرِ ، وَلَا بِالْمَاءِ ، وَيَكُونُ مَوْضِعُهَا فِي أَرْضِ صَاحِبِهَا فَيَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْبِنَاءِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ وَبِسَبَبِ الرَّحَى لَا يَنْقُصُ الْمَاءُ ، وَمَعْنَى الضَّرَرِ بِالنَّهْرِ كَسْرُ ضِفَّتِهِ وَبِالْمَاءِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ سُنَنِهِ أَوْ يَنْقُصَ ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ ، وَالْمَانِعُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى حَالِهِ مُتَعَنِّتٌ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِغَيْرِهِ لَا دَافِعٌ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إلَى تَعَنُّتِهِ وَالدَّالِيَةُ وَالسَّانِيَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّحَى ، وَفِي الْقَنْطَرَةِ وَالْجِسْرِ إشْغَالُ الْمَوْضِعِ الْمُشْتَرَكِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لَهُ إلَّا بِرِضَاهُمْ الدَّالِيَةُ جِذْعٌ طَوِيلٌ يُرَكَّبُ تَرْكِيبَ مَدَاقِّ الْأُرْزِ فِي رَأْسِهِ مِغْرَفَةٌ كَبِيرَةٌ لِيَسْتَقِيَ بِهَا ، وَقِيلَ هُوَ الدُّولَابُ وَالسَّانِيَةُ الْبَعِيرُ يُسْتَقَى عَلَيْهِ مِنْ الْبِئْرِ وَالْجِسْرُ اسْمٌ لِمَا يُوضَعُ ، وَيُرْفَعُ مِمَّا يَكُونُ مُتَّخَذًا مِنْ الْأَلْوَاحِ وَالْخَشَبِ ، وَالْقَنْطَرَةُ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْآجُرِّ وَالْحَجَرِ يَكُونُ مَوْضُوعًا ، وَلَا يُرْفَعُ ، وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ خَالِصٌ لِرَجُلٍ يَأْخُذُ مِنْ نَهْرٍ خَاصٍّ بَيْنَ
قَوْمٍ فَأَرَادَ أَنْ يُقَنْطِرَ عَلَيْهِ ، وَيَسُدَّهُ مِنْ جَانِبَيْهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُقَنْطَرًا مَسْدُودًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ فِي أَخْذِ الْمَاءِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ بِنَاءً هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ وَمِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي أَخْذِ الْمَاءِ مُنِعَ مِنْهُ لِحَقِّ الشُّرَكَاءِ ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ كَسْرَ ضِفَّتِهِ ، وَيَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فِي أَخْذِ الْمَاءِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى وَكَذَا إذَا كَانَتْ بِالْكُوَى ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَسَّعَ فَمَ النَّهْرِ يَحْبِسُ الْمَاءَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَدْخُلُ فِي كُوَّتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَدْخُلُ قَبْلَهُ ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَ فَمَ النَّهْرِ فَيَجْعَلُهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْ فَمِ النَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْبِسُ الْمَاءَ فِيهِ فَيَزْدَادُ دُخُولُ الْمَاءِ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُسْفِلَ كُوَاهُ أَوْ يَرْفَعَهُ مِنْ حَيْثُ الْعُمْقُ فِي مَكَان حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَاءِ فِي الْأَصْلِ وَقَعَ بِاعْتِبَارِ سَعَةِ الْكُوَّةِ وَضِيقِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ التَّسَفُّلِ ، وَالتَّرَفُّعُ فِي الْعُمْقِ هُوَ الْعَادَةُ فَلَا يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ فَلَا يُمْنَعُ ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْسِمَ بِالْأَيَّامِ بَعْدَمَا وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كُوًى مُسَمَّاةٌ فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ خَاصَّةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْكُوَى فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَشُقَّ نَهْرًا مِنْهُ ابْتِدَاءً فَكَانَ الْكُوَى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ
يَسُوقَ شِرْبَهُ إلَى أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى لَيْسَ لَهُ فِيهَا شَرْبٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ يَخْشَى أَنْ يَدَّعِيَ حَقَّ الشِّرْبِ لَهَا مِنْ هَذَا النَّهْرِ مَعَ الْأُولَى إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِالْمَحْفُورِ لِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ إلَيْهَا ، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ فِي أَرْضِهِ الْأُولَى حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ إذْ الْأَرْضُ الْأُولَى تُنَشِّفُ بَعْضَ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ تَسْقِيَ الْأُخْرَى ، وَهُوَ نَظِيرُ طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا إلَى دَارٍ أُخْرَى سَاكِنُهَا غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي مِفْتَحُهَا فِي هَذَا الطَّرِيقِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَاكِنُ الدَّارَيْنِ وَاحِدًا حَيْثُ لَا يُمْنَعُ ؛ لِأَنَّ الْمَارَّةَ لَا تَزْدَادُ ، وَلَهُ حَقُّ الْمُرُورِ ، وَيَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ ، وَهُوَ الْجِدَارُ بِالرَّفْعِ ، وَلَوْ أَرَادَ الْأَعْلَى مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ ، وَفِيهِ كُوًى بَيْنَهُمَا أَنْ يَسُدَّ بَعْضَهَا دَفْعًا لِفَيْضِ الْمَاءِ عَنْ أَرْضِهِ كَيْ لَا تَنِزَّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْآخَرِ ، وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ النَّهْرَ مُنَاصَفَةً ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِالْكُوَى تَقَدَّمَتْ إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَبَعْدَ التَّرَاضِي لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ ، وَكَذَا لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ إعَارَةُ الشِّرْبِ لَا مُبَادَلَةٌ ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ بَاطِلَةٌ ، وَكَذَا إجَارَةُ الشِّرْبِ لَا تَجُوزُ لِمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ فَتَعَيَّنَتْ الْإِعَارَةُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِالْكُوَى قَدْ تَمَّتْ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْقُضَ تِلْكَ الْقِسْمَةَ فَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعِيرًا نَصِيبَهُ لِصَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ فِيهَا هُوَ أَوْ وَرَثَتُهُ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ ؛ وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ .
( قَوْلُهُ : وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَخْتَلِفُ إلَخْ ) قَالَ فِي الْأَصْلِ ، وَإِذَا كَانَ النَّهْرُ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عَلَيْهِ أَرْضُونَ ، وَلَا يُعْرَفُ كَيْفَ أَصْلُهُ بَيْنَهُمْ فَاخْتَلَفُوا وَاخْتَصَمُوا فِي الشُّرْبِ فَالشُّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيِهِمْ قَالَ فِي الْأَجْنَاسِ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ صَاحِبِ كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ ، وَفَائِدَتُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ عَشَرَةُ أَجْرِبَةٍ وَلِلْآخَرِ عَشَرَةٌ إلَّا أَنَّ أَرْضَهُ لَا تَكْتَفِي لِلزِّرَاعَةِ بِقَدْرِ الْمَاءِ يَأْخُذُهُ فَعَلَى مَا قَالَهُ الْمَاءُ بَيْنَهُمْ نِصْفَانِ ، وَعَلَى قَوْلِ الدَّقَّاقِ لَهُ أَخْذُ الْمَاءِ زِيَادَةً ا هـ أَتْقَانِيٌّ قَوْلُهُ : وَلَا يُعْرَفُ كَيْفَ أَصْلُهُ إلَخْ فَأَمَّا إذَا عُلِمَ يُقْسَمُ عَلَى مَا كَانَ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : حَيْثُ يَسْتَوُونَ فِي مِلْكِ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ ) يَعْنِي يُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ ( قَوْلُهُ : حَيْثُ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ التَّسْفِيلَ تَصَرُّفٌ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ فَأَمَّا فِي تَوْسِيعِ فَمِ النَّهْرِ يَتَصَرَّفُ فِي حَافَّتَيْ النَّهْرِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَاءَ ، وَأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ ، وَيَضُرُّ بِشُرَكَائِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ بِتَوْسِيعِ فَمِ النَّهْرِ يَأْخُذُ مِنْ الْمَاءِ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ فَيَصِيرُ غَاصِبًا شَيْئًا مِنْ مَاءِ أَصْحَابِهِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ : هَذَا النَّهْرُ مَعَ الْأُولَى ) أَيْ الْأَرْضِ الْأُولَى ا هـ قَوْلُهُ : إذْ الْأَرْضُ الْأُولَى تُنَشِّفُ بَعْضَ الْمَاءِ ) أَيْ تَتَشَرَّبُهُ ا هـ غَايَةٌ
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَيُورَثُ الشِّرْبُ ، وَيُوصَى بِالِانْتِفَاعِ بِعَيْنِهِ ، وَلَا يُبَاعُ ، وَلَا يُوهَبُ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَرَثَةَ خُلَفَاءُ الْمَيِّتِ فَيَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي حُقُوقِ الْمَيِّتِ وَأَمْلَاكِهِ ، وَجَازَ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ فِيمَا لَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ بِالْمُعَاوَضَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ كَالدَّيْنِ وَالْقِصَاصِ وَالْخَمْرِ فَكَذَا الشِّرْبُ وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فَكَانَتْ مِثْلَهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لِلْغَرَرِ أَوْ الْجَهَالَةِ أَوْ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهِ لِلْحَالِ أَوْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ شِرْبَ إنْسَانٍ بِأَنْ سَقَى أَرْضَهُ مِنْ شِرْبِ غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ ، وَكَذَا لَا يَضْمَنُ بِعَقْدٍ وَالْوَصِيَّةُ بِبَيْعِهِ وَهِبَتِهِ وَالتَّصَدُّقُ بِهِ مِثْلُ بَيْعِهِ فَلَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَكَذَا لَا يَصْلُحُ مُسَمًّى فِي النِّكَاحِ ، وَلَا فِي الْخُلْعِ ، وَلَا فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمٍ عَمْدٍ أَوْ عَنْ دَعْوَى لَكِنْ هَذِهِ الْعُقُودُ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَلَا يَمْلِكُ الشِّرْبَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَكَذَا بِهَذَا السَّبَبِ ، وَيَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ رَدُّ مَا أَخَذَتْ مِنْ الْمَهْرِ ، وَعَلَى الْقَاتِلِ الدِّيَةُ وَلِلْمُدَّعِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى دَعْوَاهُ لِبُطْلَانِ الْمُسَمَّى ، وَلَوْ مَاتَ ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لَا يُبَاعُ الشِّرْبُ بِدُونِ الْأَرْضِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْضٌ قِيلَ يَجْمَعُ الْمَاءَ فِي كُلِّ نَوْبَتِهِ فِي حَوْضٍ فَيُبَاعُ الْمَاءُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَقِيلَ يَنْظُرُ الْإِمَامُ إلَى أَرْضٍ لَا شِرْبَ لَهَا فَيَضُمُّ هَذَا الشِّرْبَ إلَيْهَا فَيَبِيعُهُمَا بِرِضَا صَاحِبِهَا ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ ، وَإِلَى قِيمَتِهَا مَعَهُ فَيَصْرِفُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الثَّمَنِ إلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ
وَالسَّبِيلُ فِي مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الشِّرْبِ إذَا أَرَادَ قِسْمَةَ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَتِهِمَا أَنْ يُقَوَّمَ الشِّرْبُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَوْ كَانَ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْعُقْرِ الْوَاجِبِ بِشُبْهَةٍ يَنْظُرُ إلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِكَمْ كَانَتْ تُسْتَأْجَرُ عَلَى الزِّنَا فَذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ عُقْرُهَا فِي الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ اشْتَرَى عَلَى تَرْكَةِ هَذَا الْمَيِّتِ أَرْضًا بِغَيْرِ شِرْبٍ ثُمَّ ضَمَّ هَذَا الشِّرْبَ إلَيْهَا وَبَاعَهُمَا فَيُؤَدِّي مِنْ الثَّمَنِ ثَمَنَ الْأَرْضِ الْمُشْتَرَاةِ ، وَالْفَاضِلُ لِلْغُرَمَاءِ .( قَوْلُهُ : وَالْوَصِيَّةُ بِبَيْعِهِ ، وَهِبَتِهِ ) أَيْ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ شِرْبُهُ مِنْ فُلَانٍ أَوْ يُوهَبَ لَهُ أَوْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِهِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( وَلَوْ مَلَأَ أَرْضَهُ مَاءً فَنَزَتْ أَرْضُ جَارِهِ أَوْ غَرِقَتْ لَمْ يَضْمَنْ ) ؛ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ ، وَلَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِيهِ فَلَا يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي التَّسَبُّبِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي أَرْضِهِ لَا يَضْمَنُ مَا عَطِبَ فِيهَا لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ حَفَرَ فِي الطَّرِيقِ يَضْمَنُ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَيْسَ بِمُعْتَدٍ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْلَأَ أَرْضَهُ مَاءً ، وَيَسْقِيَهَا قَالُوا هَذَا إذَا سَقَى أَرْضَهُ سَقْيًا مُعْتَادًا بِأَنْ سَقَاهَا قَدْرَ مَا تَحْتَمِلُهُ عَادَةً ، وَأَمَّا إذَا سَقَاهَا سَقْيًا لَا تَحْتَمِلُهُ أَرْضُهُ فَيَضْمَنُ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَوْقَدَ نَارًا فِي دَارِهِ فَاحْتَرَقَ دَارُ جَارِهِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَوْقَدَ مِثْلَ الْعَادَةِ لَا يَضْمَنُ ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْعَادَةِ يَضْمَنُ ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ إسْمَاعِيلُ يَقُولُ إنَّمَا لَا يَضْمَنُ بِالسَّقْيِ الْمُعْتَادِ إذَا كَانَ مُحِقًّا فِيهِ بِأَنْ سَقَى أَرْضَهُ فِي نَوْبَتِهِ مِقْدَارَ حَقِّهِ ، وَأَمَّا إذَا سَقَاهَا فِي غَيْرِ نَوْبَتِهِ أَوْ فِي نَوْبَتِهِ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ فَيَضْمَنُ لِوُجُودِ التَّعَدِّي فِي السَّبَبِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالشَّرَابُ مَا يُسْكِرُ ) يَعْنِي فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُشْرَبُ مِنْ الْمَائِعَاتِ ، وَالْأَشْرِبَةِ جَمْعُ شَرَابٍ وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا مَا حَرُمَ شُرْبُهُ وَكَانَ مُسْكِرًا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالْمُحَرَّمُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ الْخَمْرُ ، وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ وَحَرُمَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا ) وَقَالَ بَعْضُهُمْ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَفِي لَفْظٍ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَجَمَاعَةٌ وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا وَإِنْ مِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا وَمِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا وَمِنْ التَّمْرِ خَمْرًا وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ ؛ وَلِأَنَّهَا سُمِّيَتْ خَمْرًا لِمُخَامَرَتِهَا الْعَقْلَ وَالسُّكْرُ يُوجَدُ بِشُرْبِ غَيْرِهَا فَكَانَ خَمْرًا وَلَنَا أَنَّ الْخَمْرَ حَقِيقَةً اسْمٌ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ الْمُسْكِرِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرُهُ يُسَمَّى مُثَلَّثًا أَوْ بَاذِقًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَتَسْمِيَةُ غَيْرِهَا خَمْرًا مَجَازٌ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ أَوْ عَلَى بَيَانِ الْحُكْمِ إنْ ثَبَتَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بُعِثَ لَهُ لَا لِبَيَانِ الْحَقَائِقِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا سُمِّيَتْ خَمْرًا لِمُخَامَرَتِهَا الْعَقْلَ بَلْ لِتَخَمُّرِهَا وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِالْخَمْرِ لِمُخَامَرَتِهَا الْعَقْلَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُسَمَّى غَيْرُهَا بِالْخَمْرِ قِيَاسًا عَلَيْهَا ؛
لِأَنَّ الْقِيَاسَ لِإِثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِتَعَدِّي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبُرْجَ سُمِّيَ بُرْجًا لِتَبَرُّجِهِ ، وَهُوَ الظُّهُورُ وَكَذَا النَّجْمُ سُمِّيَ نَجْمًا لِظُهُورِهِ ثُمَّ لَا يُسَمَّى كُلُّ ظَاهِرٍ بُرْجًا وَلَا نَجْمًا وَكَذَا يُقَالُ لِلْفَرَسِ أَبْلَقَ لِأَجْلِ لَوْنٍ مَخْصُوصٍ ثُمَّ لَا يُسَمَّى الثَّوْبُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ذَلِكَ اللَّوْنُ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ مِنْ حَدِّ الْخَمْرِ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا إذَا اشْتَدَّ صَارَ خَمْرًا وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ ؛ لِأَنَّ اللَّذَّةَ الْمُطْرِبَةَ وَالْقُوَّةَ الْمُسْكِرَةَ تَحْصُلُ بِهِ ، وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالصَّدِّ عَنْ الصَّلَاةِ ، وَأَمَّا الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ وَصْفٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إحْدَاثِ صِفَةِ السُّكْرِ ، وَلَهُ أَنَّ الْغَلَيَانَ بِدَايَةُ الشِّدَّةِ وَكَمَالُهُ بِقَذْفِ الزَّبَدِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَيَّزُ بِهِ الصَّافِي عَنْ الْكَدِرِ وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهَا قَطْعِيَّةٌ كَالْحَدِّ وَإِكْفَارِ مُسْتَحِلِّهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَتُنَاطُ بِالنِّهَايَةِ بِهِ وَقِيلَ يُؤْخَذُ فِي حُرْمَةِ الشُّرْبِ بِمُجَرَّدِ الِاشْتِدَادِ وَفِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الشَّارِبِ بِقَذْفِ الزَّبَدِ احْتِيَاطًا وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهَا وَالثَّانِي فِي وَقْتِ ثُبُوتِ هَذَا الِاسْمِ لَهَا وَقَدْ بَيَّنَّاهُمَا وَالثَّالِثُ أَنَّ عَيْنَهَا حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ بِالسُّكْرِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى السُّكْرِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ غَيْرُ الْمُسْكِرِ مِنْهَا لَيْسَ بِحَرَامٍ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لَا يَحْصُلُ بِهِ ، وَهَذَا كُفْرٌ ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ ؛ وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ بِأَنْ تَزْدَادَ اللَّذَّةُ بِاسْتِكْثَارِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ
الْمَشْرُوبَاتِ وَجَازَ أَنْ تُحَرَّمَ لِأَجْلِ لَذَّتِهَا أَيْضًا بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ لِمَا فِي التَّلَذُّذِ بِهَا مِنْ الِاشْتِغَالِ عَنْ الْخَيْرَاتِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْمُتْرَفِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا ، وَهَذَا مُطْلَقٌ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِالسُّكْرِ فَيَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الَّتِي فِي الْآخِرَةِ غَيْرُ مُسْكِرَةٍ وَالتَّنَعُّمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا هُوَ الَّذِي يُوجِبُ حِرْمَانَهَا فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا } وَنَظِيرُهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ ، فَإِنَّ مَنْ لَبِسَهُ فِي الدُّنْيَا لَا يَلْبَسُهُ فِي الْآخِرَةِ لِأَجْلِ التَّنَعُّمِ بِهِ لَا غَيْرُ ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعَدِّي الْحُكْمَ أَوْ الِاسْمَ إلَى غَيْرِهَا ، وَهُوَ بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِتَحْرِيمِهَا لِذَاتِهَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ مَعَ النَّصِّ عَلَى عَدَمِ التَّعْلِيلِ وَكَذَا لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِتَعْدِيَةِ الِاسْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالرَّابِعُ أَنَّهَا نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً كَالْبَوْلِ لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَالْخَامِسُ أَنَّ مُسْتَحِلَّهَا يَكْفُرُ لِإِنْكَارِهِ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ وَالسَّادِسُ سُقُوطُ تَقَوُّمِهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا يَضْمَنَ غَاصِبُهَا وَمُتْلِفُهَا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَهَا فَقَدْ أَهَانَهَا وَالتَّقَوُّمُ يُشْعِرُ بِعِزَّتِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ مَالِيَّتِهَا وَقَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ : وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَالٌ ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَمِيلُ إلَيْهَا وَتَضِنُّ بِهَا وَالسَّابِعُ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ
بِالنَّجِسِ حَرَامٌ ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاجْتِنَابِهَا وَفِي الِانْتِفَاعِ بِهَا اقْتِرَابُهَا وَالثَّامِنُ أَنْ يُحَدَّ شَارِبُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ شَيْئًا لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ وَالتَّاسِعُ أَنَّ الطَّبْخَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا لِأَنَّهُ لِلْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ لَا لِرَفْعِهَا بَعْدَ ثُبُوتِهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ فِيهِ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ عَلَى مَا قَالُوا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ فِي النِّيءِ خَاصَّةً لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْمَطْبُوخِ وَالْعَاشِرُ جَوَازُ تَخْلِيلِهَا عَلَى مَا يَجِيءُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ } ذَكَرَ كِتَابَ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ الشُّرْبِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الِاشْتِقَاقِ ، وَهُوَ اشْتِرَاكُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَالْحُرُوفِ الْأُصُولِ وَلَكِنْ قَدَّمَ الشُّرْبَ ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ وَالْأَشْرِبَةُ فِيهَا حَرَامٌ كَالْخَمْرِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ وَالْأَشْرِبَةُ جَمْعُ شَرَابٍ ) اسْمٌ لِمَا يُشْرَبُ كَالطَّعَامِ اسْمٌ لِمَا يُطْعَمُ أَيْ يُؤْكَلُ ، وَإِنَّمَا سَمَّى مُحَمَّدٌ هَذَا الْكِتَابَ كِتَابَ الْأَشْرِبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِهَا كَمَا سَمَّى كِتَابَ الْحُدُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْحُدُودِ وَكَمَا سَمَّى كِتَابَ الْبُيُوعِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِهَا ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ ) ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ لِمُخَامَرَتِهَا الْعَقْلَ ) أَيْ لِمُخَالَطَتِهَا الْعَقْلَ ا هـ ( قَوْلُهُ أَوْ عَلَى بَيَانِ الْحُكْمِ ) أَيْ ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ بَلْ لِتَخَمُّرِهَا ) أَيْ لِكَوْنِهَا خَمْرًا ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ ) وَبِهِ قَالَتْ الثَّلَاثَةُ ا هـ ع ( قَوْلُهُ وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ ) أَيْ عَشَرَةٍ ا هـ ( قَوْلُهُ أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهَا ) وَالْمَائِيَّةُ بِمَعْنَى الْمَاهِيَّةِ وَمَاهِيَّةُ الشَّيْءِ هُوَ هُوَ كَمَاهِيَّةِ الْإِنْسَانِ ، وَهُوَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ ، وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ ) سَيَجِيءُ فِي آخِرِ الصَّفْحَةِ الْآتِيَةِ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الطِّلَاءِ أَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ ا هـ وَعَلَى هَذَا فَفِي قَوْلِهِ مِنْ خَوَاصِّ الْخَمْرِ نَظَرٌ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ الطِّلَاءُ مُلْحَقٌ بِالْخَمْرِ فِي هَذَا الْمَعْنَى يُرْشِدُ إلَى هَذَا قَوْلُ الشَّارِحِ فِيمَا سَيَأْتِي وَلَنَا أَنَّهُ كَالْخَمْرِ إلَخْ ا هـ قَوْلُهُ حَتَّى لَا يَضْمَنَ غَاصِبُهَا وَمُتْلِفُهَا ) ثُمَّ هَلْ يُبَاحُ إتْلَافُ الْخَمْرِ نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ مَجْدِ الدِّينِ
الشرخلتي أَنَّهُ قَالَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ الْإِتْلَافُ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ كَمَا إذَا كَانَتْ عِنْدَ فَاسِقٍ يَشْرَبُهَا غَالِبًا لَوْ تُرِكَتْ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ عِنْدَ صَالِحٍ لَا يُبَاحُ الْإِتْلَافُ ، فَإِنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ وَفِي بَقَائِهَا فَائِدَةٌ ، وَهِيَ التَّخْلِيلُ ا هـ أَتْقَانِيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مَالٌ ) وَلَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ لِمَا قُلْنَا ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ وَتَضِنُّ بِهَا ) مِنْ الضِّنِّ ، وَهُوَ مَا تَخْتَصُّهُ وَتَضَنُّ بِهِ أَيْ تَبْخَلُ لِمَكَانِهِ مِنْك وَمَوْقِعِهِ عِنْدَك وَمِنْهُ سَاعَةُ الْجُمُعَةِ فَقُلْت : أَخْبِرْنِي بِهَا وَلَا تَضْنَنْ بِهَا عَلَيَّ أَيْ لَا تَبْخَلْ يُقَالُ ضَنِنْت أَضَنُّ وَضَنِنْت أَضِنُّ ا هـ ابْنُ الْأَثِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالطِّلَاءُ ، وَهُوَ الْعَصِيرُ إنْ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ ) وَهُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ : الطِّلَاءُ اسْمٌ لِلْمُثَلَّثِ ، وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ وَصَارَ مُسْكِرًا ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ الطِّلَاءِ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ عَلَى مَا يَجِيءُ مِنْ قَرِيبٍ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طِلَاءً لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا أَشْبَهُ هَذَا بِطِلَاءِ الْبَعِيرِ وَهُوَ الْقَطْرَانُ الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْبَعِيرُ إذَا كَانَ بِهِ جَرَبٌ ، وَهُوَ يُشْبِهُهُ ، وَفِي الْهِدَايَةِ هُوَ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَهُوَ الَّذِي طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَيُسَمَّى الْبَاذَقَ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَ الذَّاهِبُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْهِ وَالْمُنَصَّفُ مِنْهُ ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ نِصْفُهُ وَبَقِيَ النِّصْفُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ عِنْدَنَا إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ، وَإِذَا اشْتَدَّ وَلَمْ يَقْذِفْ بِالزَّبَدِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إنَّهُ مُبَاحٌ ، وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوبٌ طَيِّبٌ وَلَيْسَ بِخَمْرٍ وَلَنَا أَنَّهُ كَالْخَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ مُلِذٌّ مُطْرِبٌ يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ ، وَلِهَذَا يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْفُسَّاقُ فَيَحْرُمُ شُرْبُهُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ كَالْخَمْرِ بِخِلَافِ الْمُثَلَّثِ ، فَإِنَّهُ ثَخِينٌ وَلَيْسَ بِرَقِيقٍ فَلَا يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ .
( قَوْلُهُ ، وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ ) الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ ، وَهُوَ مَا إذَا طُبِخَ إلَخْ ا هـ ( قَوْلُهُ عَلَى مَا يَجِيءُ مِنْ قَرِيبٍ ) أَيْ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُثَلَّثِ الْعِنَبِيِّ ا هـ ( قَوْلُهُ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ طِلَاءً إلَخْ ) قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ الطِّلَاءُ بِالْكَسْرِ وَالْمَدِّ الشَّرَابُ الْمَطْبُوخُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ ، وَهُوَ الرُّبُّ وَأَصْلُهُ الْقَطِرَانُ الْخَاثِرُ الَّذِي يُطْلَى بِهِ الْإِبِلُ ا هـ وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ : وَالطِّلَاءُ كُلُّ مَا يُطْلَى بِهِ مِنْ قَطِرَانٍ أَوْ نَحْوِهِ وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ مَا أَشْبَهَ هَذَا بِطِلَاءِ الْإِبِلِ وَيُقَالُ لِكُلِّ مَا خَثَرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ طِلَاءٌ عَلَى التَّشْبِيهِ حَتَّى سُمِّيَ الْمُثَلَّثُ ا هـ ( قَوْلُهُ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ ) أَيْ السَّابِقِ فِي الْخَمْرِ بَيْنَ الْإِمَامِ وَصَاحِبَيْهِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالسَّكَرُ ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ ) ، وَهُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ سَكَرَتْ الرِّيحُ إذَا سَكَنَتْ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ إذَا اشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ وَقَبْلَهُ حَلَالٌ وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : هُوَ مُبَاحٌ ، وَإِنْ قَذَفَ بِالزَّبَدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } امْتَنَّ عَلَيْنَا بِهِ وَالِامْتِنَانُ لَا يَتَحَقَّقُ بِالْمُحَرَّمِ وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ حِينَ كَانَتْ الْأَشْرِبَةُ مُبَاحَةً وَقِيلَ أُرِيدَ بِهَا التَّوْبِيخُ مَعْنَاهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَتَدْعُونَهُ رِزْقًا حَسَنًا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ ) ، وَهُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ إذَا اشْتَدَّ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَانَ يُنْقَعُ لَهُ الزَّبِيبُ فَيَشْرَبُهُ الْيَوْمَ وَالْغَدَ وَبَعْدَ الْغَدِ إلَى مَسَاءِ الثَّالِثَةِ ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيُسْقَى الْخَدَمَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ { فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ أَهْرَقَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ فَأُهْرِيقَ } وَشَرْطُ حُرْمَتِهِ أَنْ يَقْذِفَ بِالزَّبَدِ بَعْدَ الْغَلَيَانِ وَيَتَأَتَّى فِيهِ خِلَافُ الْأَوْزَاعِيِّ كَمَا فِي الْبَاذَقِ وَالْوَجْهُ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِيهِ ثُمَّ حُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ حَتَّى لَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا حَتَّى يَسْكَرَ وَنَجَاسَتُهَا خَفِيفَةٌ فِي رِوَايَةٍ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْغَصْبِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ بِالطَّبْخِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا قَطْعِيَّةٌ فَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا وَيُحَدُّ شَارِبُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَسْكَرْ وَلَوْ
قَطْرَةً وَنَجَاسَتُهَا غَلِيظَةٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا وَحُرْمَةُ غَيْرِهَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ فَلَا يَكُونُ مِثْلُهَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالْكُلُّ حَرَامٌ إذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَحُرْمَتُهَا دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ ) فَلَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَهَا وَأَحْكَامَهَا فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ .( قَوْلُهُ ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ ) اُنْظُرْ الْهِدَايَةَ وَشَرْحَ الْأَتْقَانِيِّ ا هـ ( قَوْلُهُ ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ إذَا اشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ كَالْخَمْرِ ا هـ ( قَوْلُهُ وَرِزْقًا حَسَنًا ) كَالدِّبْسِ وَالْخَلِّ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ ثُمَّ حُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ) أَيْ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الطِّلَاءُ وَالسَّكَرُ وَنَقِيعُ الرُّطَبِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَالْحَلَالُ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ نَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ ، وَإِنْ اشْتَدَّ إذَا شَرِبَ مَا لَا يُسْكِرُهُ بِلَا لَهْوٍ وَطَرَبٍ وَالْخَلِيطَانِ وَنَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ طُبِخَ أَوَّلًا وَالْمُثَلَّثُ الْعِنَبِيُّ ) أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ نَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ ، وَهُوَ أَنْ يُطْبَخَ إلَى أَنْ يَنْضَجَ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا وَلَا تَنْتَبِذُوا الرُّطَبَ وَالزَّبِيبَ جَمِيعًا لَكِنْ انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَذَكَرَ التَّمْرَ بَدَلَ الرُّطَبِ ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمُتَّخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَاحٌ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا فِي الِانْتِبَاذِ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ مَنْ شَرِبَهُ مِنْكُمْ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا أَوْ تَمْرًا فَرْدًا أَوْ بُسْرًا فَرْدًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَقَدْ وَرَدَ فِي النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا صِحَاحٌ ، وَكُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ يَحِلُّ ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَطْبُوخِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمَطْبُوخِ مِنْهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ فَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْمَطْبُوخِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْخَمْرِ ؛ فَلِهَذَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ وَقَدْ وَرَدَ فِي حُرْمَةِ الْمُتَّخَذِ مِنْ التَّمْرِ أَحَادِيثُ كُلُّهَا صِحَاحٌ فَإِذَا حُمِلَ الْمُحَرَّمُ عَلَى النِّيءِ وَالْمُحَلَّلُ عَلَى الْمَطْبُوخِ فَقَدْ حَصَلَ
التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَانْدَفَعَ التَّعَارُضُ ، وَأَمَّا الثَّانِي ، وَهُوَ الْخَلِيطَانِ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ { كُنَّا نَنْتَبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِقَاءٍ فَنَأْخُذُ قَبْضَةً مِنْ تَمْرٍ وَقَبْضَةً مِنْ زَبِيبٍ فَنَطْرَحُهُمَا فِيهِ ثُمَّ نَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَنَنْتَبِذُهُ غَدْوَةً فَيَشْرَبُهُ عَشِيَّةً وَنَنْتَبِذُهُ عَشِيَّةً فَيَشْرَبُهُ غَدْوَةً } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ زِيَادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ شَرْبَةً مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى أَهْلِي فَغَدَوْت إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَطْبُوخِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ حُرْمَةُ نَقِيعِ الزَّبِيبِ النِّيءِ مِنْهُ وَمَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطِ فِيمَا رَوَيْنَا مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْقَحْطِ وَالْعَوَزِ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ وَجَارُهُ مُحْتَاجٌ بَلْ يُؤْثِرُ بِإِحْدَاهُمَا جَارَهُ وَالْإِبَاحَةُ كَانَتْ فِي حَالَةِ السَّعَةِ وَالْحَمْلُ مَأْثُورٌ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَمَّا الثَّالِثُ ، وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَلِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ النَّخْلَةِ وَالْعِنَبَةِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا خَصَّ التَّحْرِيمَ بِهِمَا وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ أَيْ حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ لَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُسَمَّى خَمْرًا حَقِيقَةً وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الطَّبْخُ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يُفْضِي إلَى كَثِيرِهِ كَيْفَمَا كَانَ ، وَأَمَّا الرَّابِعُ ، وَهُوَ الْمُثَلَّثُ ، وَهُوَ مَا طُبِخَ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى الثُّلُثُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ الطِّلَاءِ مَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ الثُّلُثُ رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَلَهُ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : رَأْيُ عُمَرَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٍ
شُرْبُ الطِّلَاءِ عَلَى الثُّلُثِ ، وَشَرِبَ الْبَرَاءُ وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ شُرْبِ الطِّلَاءِ إذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ قُلْت إنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ يُسْكِرُ فَقَالَ لَا يُسْكِرُ لَوْ كَانَ يُسْكِرُ لَمَا أَحَلَّهُ عُمَرُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَسَادُ مِنْ الصَّدِّ وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ بِالشُّرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْخَمْرِ ، فَإِنَّهَا حُرِّمَتْ لِعَيْنِهَا فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا السُّكْرُ ؛ وَلِأَنَّ قَلِيلَهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا وَلَا كَذَلِكَ الْمُثَلَّثُ ؛ لِأَنَّهُ لِغِلَظِهِ لَا يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غِذَاءٌ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كُلُّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ كَانَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِتْعِ وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ فَقَالَ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قُلْت { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ الْبِتْعِ ، وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ وَالْمِزْرِ ، وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ بِخَوَاتِيمِهِ فَقَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ
وَصَحَّحَهُ وَفِيهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الصِّحَاحِ مَا لَا يُحْصَى وَلَهُمَا مَا رَوَيْنَا مِنْ إطْلَاقِ الِانْتِبَاذِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَالْخَلِيطِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ هُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ حَقِيقَةً فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ إذْ الْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْوَصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ عِلَّةٍ ذَاتِ أَوْجُهٍ فَتَقْتَصِرُ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ وَنَظِيرُهُ الْإِسْرَافُ فِي الْأَكْلِ فَإِنَّ الزَّائِدَ عَلَى الشِّبَعِ هُوَ الْحَرَامُ لَا غَيْرُ ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي دُونَ التَّلَهِّي ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّلَهِّيَ فَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا وَعَنْهُ أَنَّهُ كَرِهَهُ وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ فَإِذَا كَانَ مُبَاحًا عِنْدَهُمَا فَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ ، وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ وَذَاهِبِ الْعَقْلِ بِالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُحَدُّ إذَا سَكِرَ مِنْهُ وَيَقَعُ طَلَاقُهُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، وَهُوَ سَكْرَانُ مِنْهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلًا يَقُولُ مَا كَانَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ مَا بَلَغَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَلَا يَفْسُدُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ وَكَانَ قَوْلُهُ فِي الْأَوَّلِ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهَذَا الشَّرْطِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَفْسُدُ لَا يَحْمُضُ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْسُدَ دَلِيلُ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ فَكَانَ آيَةَ حُرْمَتِهِ وَمِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَاعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الشِّدَّةِ كَمَا يَعْتَبِرُهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيمَا يَحْرُمُ شُرْبُهُ أَصْلًا كَالْخَمْرِ وَالثَّلَاثَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَفِيمَا يَحْرُمُ السُّكْرُ مِنْهُ وَالْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَتَّى يُحَدَّ مَنْ سَكِرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْعَسَلِ
وَاللَّبَنِ وَالتِّينِ ؛ لِأَنَّ الْفُسَّاقَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ فِي زَمَانِنَا وَيَقْصِدُونَ السُّكْرَ وَاللَّهْوَ بِشُرْبِهَا وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُتَّخَذُ مِنْ لَبَنِ الرِّمَاكِ لَا يَحِلُّ اعْتِبَارًا بِلَحْمِهِ إذْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَهُ عَلَى مَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ ؛ لِأَنَّ كَرَاهِيَةَ لَحْمِهِ لِاحْتِرَامِهِ أَوْ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى قَطْعِ مَادَّةِ الْجِهَادِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى لَبَنِهِ وَالْمُثَلَّثُ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَطُبِخَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُثَلَّثِ ؛ لِأَنَّ صَبَّ الْمَاءِ فِيهِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا ضَعْفًا بِخِلَافِ مَا إذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْعَصِيرِ ثُمَّ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَا ثُلُثَا الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَذْهَبُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا وَلَا يَدْرِي أَيَّهمَا ذَهَبَ أَكْثَرُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ مِنْ الْعَصِيرِ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثَيْهِ وَلَوْ طُبِخَ الْعِنَبُ قَبْلَ الْعَصْرِ اكْتَفَى بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ مَا لَا يَذْهَبُ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ مَوْجُودٌ فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ طُبِخَ بَعْدَ الْعَصْرِ وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّبِيبِ فَطَبَخَ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ؛ لِأَنَّ التَّمْرَ أَوْ الزَّبِيبَ إنْ كَانَ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فَعَصِيرُ الْعِنَبِ لَا بُدَّ أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَيُعْتَبَرُ جَانِبُ الْعِنَبِ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ وَكَذَا إذَا جُمِعَ بَيْنَ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَقِيعِ التَّمْرِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ طُبِخَ نَقِيعُ التَّمْرِ أَوْ نَقِيعُ الزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ ثُمَّ نُقِعَ فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ إنْ كَانَ مَا نُقِعَ فِيهِ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَا يَحِلُّ كَمَا إذَا صُبَّ فِي الْمَطْبُوخِ قَدَحٌ مِنْ نَقِيعٍ وَالْمَعْنَى تَغْلِيبُ جِهَةِ الْحُرْمَةِ وَلَا حَدَّ فِي شُرْبِهِ ؛ لِأَنَّ
التَّحْرِيمَ لِلِاحْتِيَاطِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي الْحَدِّ فِي دَرْئِهِ وَلَوْ طُبِخَ الْخَمْرُ أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَحِلَّ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَدْ تَقَرَّرَتْ فَلَا تَرْتَفِعُ بِالطَّبْخِ .
قَوْلُهُ لَا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ ) وَالزَّهْوُ الْمُلَوَّنُ مِنْ الْبُسْرِ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ ا هـ مُغْرِبٌ ( قَوْلُهُ مُبَاحٌ ) أَيْ عَلَى الِانْفِرَادِ ا هـ ( قَوْلُهُ فِي سِقَايَةٍ ) السِّقَايَةُ إنَاءٌ يُشْرَبُ مِنْهُ ا هـ ابْنُ الْأَثِيرِ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ الَّذِي بِخَطِّ الشَّارِحِ أَوْ سُقَاةٍ ا هـ يُرَاجَعُ لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي ابْنِ مَاجَهْ ا هـ ( قَوْلُهُ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ وَجَارُهُ مُحْتَاجٌ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ يَجُوزُ خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ أَنَّهُ يُكْرَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ قَالُوا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالزَّبِيبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ } قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ فِي شَرْحِهِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قَالَ كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ شِدَّةٌ وَضِيقٌ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ يَعْنِي إنَّمَا نَهَى عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ حَتَّى لَا يَشْبَعَ هُوَ وَجَارُهُ جَائِعٌ بَلْ يَأْكُلُ إحْدَاهُمَا وَيُؤْثِرُ بِالْأُخْرَى جَارَهُ ثُمَّ لَمَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ النِّعْمَةَ أَبَاحَ الْجَمْعَ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْإِفْرَادِ ا هـ مَا قَالَهُ الْأَتْقَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( قَوْلُهُ وَلَهُ مِثْلُهُ إلَخْ ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ أُعْطِيت الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لَا أُفْتِي بِحُرْمَتِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْسِيقَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ أُعْطِيت الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا مَا شَرِبْته ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ ، وَهَذَا غَايَةُ تَقْوَاهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ا هـ كَاكِيٌّ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْفَسَادُ مِنْ الصَّدِّ ) أَيْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ كَمَا فِي الْخَمْرِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلَى قَوْلِهِ { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ } الْآيَةَ فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، وَهِيَ عَنْ الصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَاتِّبَاعِ الْعَدَاوَةِ ( قَوْلُهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ ) هَذَا إذَا طُبِخَ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَأَمَّا إذَا طُبِخَ الْعِنَبُ كَمَا هُوَ فَقَدْ حَكَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَصِيرِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزَّبِيبِ حَتَّى لَوْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ يَحِلُّ بِمَنْزِلَةِ الزَّبِيبِ ا هـ بَدَائِعُ سَيَأْتِي مَعْنَى هَذِهِ الْحَاشِيَةِ قُبَيْلَ قَوْلِهِ فِي الْمَتْنِ وَحَلَّ الِانْتِبَاذُ فِي الدُّبَّاءِ ا هـ قَوْلُهُ الْبِتْعُ ) الْبِتْعُ بِكَسْرِ الْبَاءِ شَرَابٌ مُسْكِرٌ يُتَّخَذُ مِنْ الْعَسَلِ ا هـ مُغْرِبٌ ( قَوْلُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ ) وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَوْ شَرِبَ تِسْعَةَ أَقْدَاحٍ مِنْ النَّبِيذِ وَلَمْ يَسْكَرْ فَأَوْجَرَ الْعَاشِرَ وَسَكِرَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَوْ أَوْجَرَ التِّسْعَةَ وَشَرِبَ الْعَاشِرَ بِاخْتِيَارِهِ وَسَكِرَ حُدَّ ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ ا هـ كَاكِيٌّ ( قَوْلُهُ فِيمَا إذَا قَصَدَ بِهِ التَّقَوِّي ) عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ اسْتِمْرَاءَ الطَّعَامِ أَوْ التَّدَاوِيَ فَأَمَّا السُّكْرُ مِنْهُ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ ، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ ) أَيْ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ ا هـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ : قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَهِيَ الْخَمْرُ وَالسَّكَرُ وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ وَالْعَصِيرُ الَّذِي ذَهَبَ بِالطَّبْخِ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ قَالَ الْأَتْقَانِيُّ : قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ فِي الْبَيَانِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ ثُمَّ قَالَ ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ ، وَإِنْ سَكِرَ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ يَجِبُ الْحَدُّ بِالسُّكْرِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ مِنْهُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَقَعْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ طَلَاقِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقَعُ بِمَنْزِلَةِ طَلَاقِ السَّكْرَانِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ إلَى هُنَا لَفْظُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ هِشَامٌ وَكَانَ يَقُولُ مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبِهِ مِمَّا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِ الدِّرْهَمِ أَعَادَ الصَّلَاةَ قَالَ الطَّحَاوِيُّ : وَهَذَا أَجْوَدُ وَكَذَلِكَ كَانَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ ا هـ ( قَوْلُهُ وَالْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ ) كَذَا فِي جَامِعِ الْفَتَاوَى وَالنَّوَازِلِ وَغَيْرِهِمَا ا هـ ( قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَهُ ) وَفِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ قَالُوا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ شَارِبُهُ ا هـ ( قَوْلُهُ وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَحِلُّ ) فِي الْهِدَايَةِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ا هـ قَالَ فِي الشَّامِلِ ، فَأَمَّا الْعِنَبُ إذَا طُبِخَ فَفِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ عَصِيرٌ لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ يَحِلُّ بِأَدْنَى طَبْخَةٍ كَطَبِيخِ الزَّبِيبِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ { فَرْعٌ } قَالَ أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَخْلِطُ الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا مَعَ النَّبِيذِ ثُمَّ يَشْرَبُ مِنْهُ جَمِيعًا وَلَا يَسْكَرُ أَيَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِيمَا خُلِطَ بِالْمَاءِ إنْ كَانَ الْخَمْرُ غَالِبًا وَجَبَ الْحَدُّ ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيذُ غَالِبًا لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَسْكَرْ ا هـ أَتْقَانِيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَحَلَّ الِانْتِبَاذُ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ ) لِمَا رُوِيَ عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَشْرِبَةِ فِي ظُرُوفِ الْأُدْمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وِعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُمَا ، وَفِي رِوَايَةٍ { نَهَيْتُكُمْ عَنْ الظُّرُوفِ وَإِنَّ ظَرْفًا لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَجَمَاعَةٌ أُخَرُ وَكَانَ الِانْتِبَاذُ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ حَرَامًا قَالَ ابْنُ عُمَرَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَنْتَمَةِ ، وَهِيَ الْجَرَّةُ وَنَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ ، وَهِيَ الْقَرْعَةُ وَنَهَى عَنْ النَّقِيرِ ، وَهِيَ أَصْلُ النَّخْلِ يُنْقَرُ نَقْرًا أَوْ يُنْسَجُ نَسْجًا وَنَهَى عَنْ الْمُزَفَّتِ وَهِيَ الْقِيرُ } الْحَدِيثَ ثُمَّ نُسِخَ بِمَا رَوَيْنَا وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَنْتَمُ الْجِرَارُ الْخُضْرُ وَفَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّقِيرَ بِالْجِذْعِ يُنْقَرُ وَسَطُهُ وَقِيلَ الْحَنْتَمُ الْجِرَارُ الْحُمْرُ ثُمَّ إنْ انْتَبَذَ فِي هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْخَمْرِ فَلَا إشْكَالَ فِي حِلِّهِ وَطَهَارَتِهِ ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَ فِيهَا الْخَمْرَ ثُمَّ انْتَبَذَ فِيهَا يُنْظَرُ فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يَطْهُرُ بِغَسْلِهِ ثَلَاثًا ، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْعَتِيقِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، وَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ غَسْلِ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ ، وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْلَأُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رَائِحَةً حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ .
( قَوْلُهُ وَكَانَ الِانْتِبَاذُ إلَخْ ) قَالُوا ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ عَلَى الْخُصُوصِ ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِذَةَ تَشْتَدُّ فِي هَذِهِ الظُّرُوفِ أَكْثَرَ مِمَّا تَشْتَدُّ فِي غَيْرِهَا ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ وَنَهَى عَنْ الدُّبَّاءِ إلَخْ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالدُّبَّاءُ الْقَرْعُ جَمْعُ دُبَّاءَةٍ ا هـ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ الشَّارِحُ ، وَهُوَ الْقَرْعُ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَخَلُّ الْخَمْرِ سَوَاءٌ خُلِّلَتْ أَوْ تَخَلَّلَتْ ) أَيْ حَلَّ خَلُّ الْخَمْرِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ تَخَلَّلَتْ هِيَ أَوْ خُلِّلَتْ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ خَلَّلَهَا بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا كَالْمِلْحِ وَالْخَلِّ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ الْخَلُّ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا بِأَنْ كَانَ بِالنَّقْلِ مِنْ الظِّلِّ إلَى الشَّمْسِ أَوْ إيقَادِ النَّارِ بِالْقُرْبِ مِنْهَا فَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ الْفِعْلُ ، وَإِنْ صَارَ بِذَلِكَ خَلًّا فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ تُتَّخَذُ خَلًّا فَقَالَ لَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ { سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَيْتَامٍ وَرِثُوا خَمْرًا قَالَ أَهْرِقُوهَا قَالَ أَفَلَا نَجْعَلُهَا خَلًّا قَالَ لَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد ؛ وَلِأَنَّا أُمِرْنَا بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ وَفِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابٌ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ فَلَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يُضَادُّ النَّهْيَ ؛ وَلِأَنَّ مَا يُلْقَى فِي الْخَمْرِ يَتَنَجَّسُ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ وَمَا يَكُونُ نَجِسًا لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ تَنَجُّسُ شَيْءٍ بِالْمُلَاقَاةِ وَالِاقْتِرَابُ حَرَامٌ ، وَهُوَ نَظِيرُ قَتْلِ الْمُوَرِّثِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ الْإِرْثَ لِمُبَاشَرَتِهِ الْحَرَامَ ، وَإِنْ مَاتَ بِنَفْسِهِ وَرِثَهُ وَكَذَا صَيْدُ الْحَرَمِ لَا يَحِلُّ لَهُ إذَا أَخْرَجَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَيْهِ ، وَإِنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ حَلَّ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ } مُطْلَقًا فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ صُوَرِهَا ؛ وَلِأَنَّ بِالتَّخْلِيلِ إزَالَةَ الْوَصْفِ الْمُفْسِدِ وَإِثْبَاتَ صِفَةِ الصَّلَاحِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ تَسْكِينُ الصَّفْرَاءِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ وَالتَّغَذِّي بِهِ وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ كَالدِّبَاغِ ،
وَكَذَا الصَّالِحُ لِمَصَالِحَ مُبَاحٌ وَالِاقْتِرَابُ لِإِعْدَامِ الْفَسَادِ فَأَشْبَهَ الْإِرَاقَةَ وَالتَّخْلِيلُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْرَازِ مَالٍ يَصِيرُ حَلَالًا فِي الْمَآلِ فَيَخْتَارُهُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِمَا رُوِيَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ الْخَمْرُ اسْتِعْمَالَ الْخَلِّ بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا انْتِفَاعَهُ كَالِائْتِدَامِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَأَنْ يُتَّخَذَ الدَّوَابُّ كَرَاسِيَّ } وَالْمُرَادُ الِاسْتِعْمَالُ وَفِي التَّنْزِيلِ { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ مَا عَبَدْنَاهُمْ قَطُّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَيْسَ كَانُوا يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ وَتُطِيعُونَهُمْ قَالَ نَعَمْ قَالَ هُوَ ذَلِكَ } فَقَدْ فَسَّرَ الِاتِّخَاذَ بِالِاسْتِعْمَالِ أَوْ نَقُولُ لَيْسَ فِيمَا رُوِيَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ لَا تَطْهُرُ بِالتَّخْلِيلِ وَلَا لَهُ تَعَرُّضٌ لِذَلِكَ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْفِعْلِ ، وَهُوَ التَّخْلِيلُ لَا غَيْرُ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ حُصُولَ الطَّهَارَةِ إذَا وُجِدَ أَلَا تَرَى أَنَّا نُهِينَا عَنْ التَّوَضُّؤِ بِمَاءٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِدُونِ رِضَاهُ وَعَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ ثُمَّ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ وَكَذَا الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْبَيْعُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ثُمَّ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ يُفِيدُ حُكْمُهُ مَعَ حُرْمَتِهِ وَتَنَجُّسُ الشَّيْءِ الْمُلْقَى فِيهَا لِلْمُجَاوَرَةِ فَإِذَا صَارَتْ هِيَ خَلًّا طَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ وَلَمْ يَبْقَ مُجَاوِرًا لِلنَّجَاسَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ ظَرْفَهَا طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ تَنَجُّسَهُ بِنَجَاسَتِهَا فَإِذَا طَهُرَ بِالتَّخْلِيلِ جَمِيعُ أَجْزَائِهَا لَمْ يُوجَدْ الْمُنَجِّسُ وَلَيْسَ فِيهِ تَصَرُّفٌ فِي الْخَمْرِ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ بَلْ هُوَ إتْلَافٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ وَلَا كَذَلِكَ إخْرَاجُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَقَتْلُ الْمُوَرِّثِ فَافْتَرَقَا ثُمَّ إذَا صَارَتْ الْخَمْرُ خَلًّا
يَطْهُرُ مَا يُوَازِيهَا مِنْ الْإِنَاءِ ، فَأَمَّا أَعْلَاهُ ، وَهُوَ الَّذِي انْتَقَصَ مِنْهُ الْخَمْرُ فَقَدْ قِيلَ يَطْهُرُ تَبَعًا وَقِيلَ لَا يَطْهُرُ ؛ لِأَنَّهُ تَنَجَّسَ بِإِصَابَةِ الْخَمْرِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُوجِبُ طَهَارَتَهُ فَيَبْقَى نَجِسًا عَلَى مَا كَانَ وَلَوْ غَسَلَ بِالْخَلِّ فَتَخَلَّلَ مِنْ سَاعَتِهِ طَهُرَ لِلِاسْتِحَالَةِ ، وَكَذَا إذَا صُبَّ مِنْهُ الْخَمْرُ ثُمَّ مُلِئَ خَلًّا يَطْهُرُ فِي الْحَالِ لِمَا قُلْنَا .
( قَوْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ إلَخْ ) فِي طَرِيقِهِ السُّدِّيَّ ا هـ ( قَوْلُهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِمَا رُوِيَ إلَخْ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ فَنَقُولُ إنَّمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِرَاقَةِ قَلْعًا وَقَمْعًا لَهُمْ عَنْ أَنْ يَحُومُوا حَوْلَ الْخُمُورِ وَيَعْتَادُوا عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لَمْ يَأْمَنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَشْرَبُوهَا إذَا لَمْ يُرِيقُوهَا فَأَمَرَ بِالْإِرَاقَةِ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ لَهُمْ الْفِطَامُ عَنْ الْمُسْكِرَاتِ رَخَّصَ لَهُمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْعِيَةِ ا هـ قَوْلُهُ ، وَهُوَ الَّذِي انْتَقَصَ مِنْ الْخَمْرِ ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ فِي شَرْحِهِ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْحَاكِمِ أَبِي نَصْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ مِهْرَوَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إنَّ مَا يُوَازِي الْإِنَاءَ مِنْ الْخَلِّ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَطْهُرُ ؛ لِأَنَّ مَا يُوَازِي الْخَلَّ مِنْ الْإِنَاءِ فِيهِ أَجْزَاءُ الْخَلِّ وَأَنَّهُ طَاهِرٌ ، وَأَمَّا أَعْلَى الْحُبِّ الَّذِي انْتَقَصَ مِنْ الْخَمْرِ قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ خَلًّا ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا ؛ لِأَنَّ مَا يُدَاخِلُ أَجْزَاءَ الْحُبِّ مِنْ الْخَمْرِ لَمْ يَصِرْ خَلًّا بَلْ يَبْقَى فِيهِ كَذَلِكَ خَمْرًا فَيَكُونُ نَجِسًا فَيَجِبُ أَنْ يُغْسَلَ أَعْلَاهُ بِالْخَلِّ حَتَّى يَطْهُرَ الْكُلُّ ؛ لِأَنَّ غَسْلَ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ بِمَا سِوَى الْخَمْرِ مِنْ الْمَائِعَاتِ الَّتِي تُزِيلُ النَّجَاسَةَ جَائِزٌ عِنْدَنَا فَإِذَا غَسَلَ أَعْلَى الْحُبِّ بِالْخَلِّ صَارَ مَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ خَلًّا مِنْ سَاعَتِهِ فَيَطْهُرُ الْحُبُّ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَفْعَلْ هَكَذَا حَتَّى مُلِئَ مِنْ الْعَصِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يُنَجِّسُ الْعَصِيرَ وَلَا يَحِلُّ شُرْبُهُ لِأَنَّهُ عَصِيرٌ خَالَطَهُ خَمْرٌ إلَّا أَنْ يَصِيرَ خَلًّا كَذَا قَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ ا هـ أَتْقَانِيٌّ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَكُرِهَ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِامْتِشَاطُ بِهِ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ فَكَانَ حَرَامًا نَجِسًا وَالِانْتِفَاعُ بِمِثْلِهِ حَرَامٌ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَاوِيَ بِهِ جُرْحًا وَلَا أَنْ يَسْقِيَ ذِمِّيًّا وَلَا صَبِيًّا وَالْوَبَالُ لِمَنْ سَقَاهُ وَكَذَا لَا يَسْقِيهَا الدَّوَابَّ وَقِيلَ لَا تُحْمَلُ الْخَمْرُ إلَيْهَا أَمَّا إذَا قِيدَتْ إلَى الْخَمْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا فِي الْكَلْبِ وَالْمَيْتَةِ وَلَوْ أُلْقِيَ الدُّرْدِيُّ فِي الْخَلِّ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ خَلًّا لَكِنْ يُبَاحُ حَمْلُ الْخَلِّ إلَيْهِ دُونَ عَكْسِهِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ ) أَيْ شَارِبُ الدُّرْدِيِّ ( إلَّا إذَا سَكِرَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ يُحَدُّ شَارِبُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ وَفِي الدُّرْدِيِّ قَطَرَاتٌ مِنْهَا ، وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لِلزَّجْرِ وَالزَّاجِرُ يُشْرَعُ فِيمَا تَمِيلُ الطِّبَاعُ إلَيْهِ وَلَا تَمِيلُ الطِّبَاعُ إلَى شُرْبِ الدُّرْدِيِّ بَلْ تَعَافُهُ وَتَنْفِرُ مِنْهُ فَكَانَ نَاقِصًا فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَلَا حَدَّ فِيهَا إلَّا بِالسُّكْرِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَمِيلُ إلَيْهَا وَقَلِيلُهَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهَا وَلَا كَذَلِكَ الدُّرْدِيُّ ؛ وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الثُّفْلُ فَأَشْبَهَ غَالِبَ الْمَاءِ ، وَلَوْ جُعِلَتْ الْخَمْرُ فِي مَرَقَةٍ فَطُبِخَتْ لَا تُؤْكَلُ لِلتَّنَجُّسِ وَالطَّبْخُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْخَمْرِ وَلَوْ أَكَلَ مِنْهُ لَا يُحَدُّ إلَّا إذَا سَكِرَ لِغَلَبَةِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا أَوْ لِكَوْنِهَا مَطْبُوخَةً وَكَذَا إذَا عُجِنَ الدَّقِيقُ بِهَا وَيُكْرَهُ الِاحْتِقَانُ بِالْخَمْرِ وَإِقْطَارُهَا فِي الْإِحْلِيلِ ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالنَّجِسِ الْمُحَرَّمِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِعَدَمِ الشُّرْبِ ، وَهُوَ السَّبَبُ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ جَائِزٌ إذَا عُلِمَ أَنَّ فِيهِ شِفَاءً ، وَلَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ آخَرُ غَيْرُهُ وَعَزَاهُ إلَى الذَّخِيرَةِ .
( قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَكُرِهَ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِامْتِشَاطُ بِهِ ) الِامْتِشَاطُ بِهِ يَصْنَعُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَزِيدُ فِي بَرِيقِ الشَّعْرِ وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَنْهَى النِّسَاءَ عَنْ ذَلِكَ أَشَدَّ النَّهْيِ ا هـ رَازِيٌّ وَقَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَإِنَّمَا خَصَّ الِامْتِشَاطَ بِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ تَأْثِيرًا فِي تَحْسِينِ الشَّعْرِ وَدُرْدِيُّ الزَّيْتِ وَغَيْرِهِ ثُفْلُهُ ، وَهُوَ مَا يَبْقَى فِي أَسْفَلِهِ ا هـ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَكْرَهُ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ أَنْ تَمْتَشِطَ بِهِ الْمَرْأَةُ ا هـ صَلَاةٌ جَلَبِي ( قَوْلُهُ وَلَا أَنْ يَسْقِيَ ذِمِّيًّا ) قَالَ فِي الْأَصْلِ أَفَتَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْقِيَ الذِّمِّيَّ خَمْرًا أَوْ مُسْكِرًا ؟ قَالَ نَعَمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْلِمِ فِي الْخَمْرِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّطْهِيرِ فَلَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَالَ تَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وَقَالَ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا أَفَتَكْرَهُ أَنْ يَسْقِيَ الدَّوَابَّ الْخَمْرَ قَالَ نَعَمْ ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْخَمْرِ ، وَهُوَ حَرَامٌ وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا حَمَلَ الْخَمْرَ إلَى الدَّوَابِّ فَإِذَا حَمَلَ الدَّوَابَّ إلَى الْخَمْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ قِيَاسًا عَلَى الْمَيْتَةِ تُحْمَلُ إلَى الْكِلَابِ يُكْرَهُ وَإِذَا دُعِيَتْ الْكِلَابُ إلَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ وَكَذَا لَا يَسْقِيهَا الدَّوَابَّ ) كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَحْكِي عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْإِنْسَانِ النَّظَرُ إلَى الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ التَّلَهِّي وَلَا أَنْ يَبُلَّ بِهَا الطِّينَ وَلَا أَنْ يَسْقِيَهَا لِلْحَيَوَانِ وَكَذَلِكَ الْمَيْتَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَهَا كِلَابَهُ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ انْتِفَاعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُعَلَّقًا بِأَعْيَانِهَا وَسُئِلَ عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الزَّيْتِ تَمُوتُ فِيهِ الْفَأْرَةُ وَبَيْنَ الْخَمْرِ فِي جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالزَّيْتِ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْأَكْلِ
وَامْتِنَاعِ الِانْتِفَاعِ بِالْخَمْرِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ فَكَانَ يَحْتَجُّ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ وَأَنَّ الزَّيْتَ غَيْرُ مُحَرَّمِ الْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا مَنَعَ أَكْلَهُ لِمُجَاوَرَتِهِ الْمَيْتَةَ ا هـ شَامِلٌ شَرْحِ الْبَزْدَوِيِّ ( قَوْلُهُ لَكِنْ يُبَاحُ حَمْلُ الْخَلِّ إلَيْهِ دُونَ عَكْسِهِ ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ قَالُوا يَجِبُ أَنْ تُحْمَلَ الْخَلُّ إلَى الْخَمْرِ وَلَا تُحْمَلُ الْخَمْرُ إلَى الْخَلِّ كَيْ لَا يَصِيرَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا فِي الْمَيْتَةِ أَنْ تَدْعُوَ الْكِلَابَ إلَى الْمَيْتَةِ وَلَا تَحْمِلَ الْمَيْتَةَ إلَى الْكِلَابِ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِيمَنْ لَهُ أَبٌ نَصْرَانِيٌّ أَعْمَى ، وَهُوَ مُسْلِمٌ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقُودَهُ مِنْ الْبِيعَةِ إلَى الْمَنْزِلِ وَلَا يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَقُودَهُ مِنْ الْمَنْزِلِ إلَى الْبِيعَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُحَدُّ شَارِبُهُ ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ا هـ ع ( قَوْلُهُ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ الِاسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ جَائِزٌ إلَخْ ) تَقَدَّمَ فِي الْكَرَاهِيَةِ مَا يُخَالِفُهُ ا هـ .
{ فَصْلٌ فِي طَبْخِ الْعَصِيرِ } الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا ذَهَبَ بِغَلَيَانِهِ بِالنَّارِ وَقَذْفِهِ بِالزَّبَدِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ حَتَّى يُعْتَبَرَ ذَهَابُ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ فَيَحِلُّ الثُّلُثُ الْبَاقِي بَعْدَهُ وَلَوْ صُبَّ فِيهِ الْمَاءُ قَبْلَ الطَّبْخِ ثُمَّ طُبِخَ بِمَائِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الْمَاءُ أَسْرَعَ ذَهَابًا لِلَطَافَتِهِ وَرِقَّتِهِ يُعْتَبَرُ ذَهَابُ ثُلُثَيْ الْعَصِيرِ بَعْدَ ذَهَابِ الْمَاءِ الَّذِي صُبَّ فِيهِ كُلِّهِ وَبَعْدَ ذَهَابِ الزَّبَدِ فَيَحِلُّ الثُّلُثُ الْبَاقِي مِنْ الْعَصِيرِ ؛ لِأَنَّ الذَّاهِبَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَاءُ وَالزَّبَدُ وَالْبَاقِي هُوَ الْعَصِيرُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذَهَابِ ثُلُثَيْهِ ، وَإِنْ كَانَا يَذْهَبَانِ مَعًا فَيُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْمَجْمُوعِ بَعْدَ ذَهَابِ الزَّبَدِ فَيَحِلُّ الثُّلُثُ الْبَاقِي بِذَهَابِ الثُّلُثَيْنِ وَبَقَاءُ الثُّلُثِ مَاءً وَعَصِيرًا ، وَلَوْ طُبِخَ الْعَصِيرُ فَذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ ثُمَّ أُهْرِيقَ بَعْضُهُ لَا يَحِلُّ الْبَاقِي حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ ، وَطُرُقُ مَعْرِفَتِهِ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ الْجَمِيعِ فَتَضْرِبَهُ فِي الْبَاقِي بَعْدَ الْأَنْصَاب ثُمَّ تَقْسِمَ الْخَارِجَ مِنْ الضَّرْبِ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَهَابِ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ فَمَا أَصَابَ الْوَاحِدَ بِالْقِسْمَةِ فَذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ الْحَلَالُ فَيُطْبَخُ الْبَاقِي إلَى أَنْ يَبْقَى قَدْرُهُ فَيَحِلُّ ، مِثَالُهُ اثْنَا عَشَرَ رِطْلًا مِنْ الْعَصِيرِ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ ثُمَّ أُهْرِيقَ رِطْلَانِ يَأْخُذُ ثُلُثَ الْعَصِيرِ كُلَّهُ ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فَيَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الِانْصِبَابِ ، وَهُوَ سِتَّةٌ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ فَيَقْسِمُهُ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَهَابِ مَا ذَهَبَ مِنْهُ بِالطَّبْخِ قَبْلَ أَنْ يُهْرَاقَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَيُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ الْحَلَالُ فَيُطْبَخُ الْبَاقِي إلَى أَنْ يَبْقَى قَدْرُهُ فَيَحِلُّ ، وَإِنْ شِئْت قَسَمْت مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ عَلَى الْمُنْصَبِّ وَعَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ
الِانْصِبَابِ فَمَا أَصَابَ الْمُنْصَبُّ يُجْعَلُ مَعَ الْمُنْصَبِّ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَكَأَنَّ جَمِيعَ الْعَصِيرِ هُوَ الْبَاقِي وَمَا أَصَابَهُ مِنْ الذَّاهِبِ بِالطَّبْخِ وَقَدْ ذَهَبَ مِنْهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ فَيُطْبَخُ حَتَّى يَذْهَبَ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ ، وَإِنْ شِئْت قُلْت إنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الطَّبْخِ قَبْلَ الِانْصِبَابِ بَعْضُهُ حَلَالٌ ، وَهُوَ قَدْرُ ثُلُثِ الْجَمِيعِ فَإِذَا أُهْرِيقَ بَعْضُهُ أُهْرِيقَ مِنْ الْحَلَالِ بِحِسَابِهِ فَيُطْبَخُ الْبَاقِي حَتَّى يَبْقَى قَدْرُ مَا فِيهِ مِنْ الْحَلَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .( قَوْلُهُ فَصْلٌ فِي طَبْخِ الْعَصِيرِ ) يُنْظَرُ فِي الْمُحِيطِ ا هـ قَوْلُهُ وَبَقَاءُ الثُّلُثِ مَاءً وَعَصِيرًا ) ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ ثُلُثَاهُ مَاءٌ وَثُلُثُهُ عَصِيرٌ وَقَدْ رَدَّ الْعَصِيرَ إلَى الثُّلُثِ فَحَلَّ ا هـ ( قَوْلُهُ قَبْلَ الِانْصِبَابِ ) ، وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ ا هـ ( قَوْلُهُ وَهُوَ قَدْرُ ثُلُثِ الْجَمِيعِ ) أَيْ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ ا هـ ( قَوْلُهُ فَإِذَا أُهْرِيقَ بَعْضُهُ ) أَيْ بَعْضُ الْبَاقِي ، وَهُوَ رُبْعُهُ رِطْلَانِ ا هـ ( قَوْلُهُ أُهْرِيقَ مِنْ الْحَلَالِ بِحِسَابِهِ ) أَيْ ، وَهُوَ رُبْعُهُ وَاحِدٌ ا هـ ( قَوْلُهُ حَتَّى يَبْقَى قَدْرُ مَا فِيهِ مِنْ الْحَلَالِ ) أَيْ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ ا هـ .
{ كِتَابُ الصَّيْدِ } قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( هُوَ الِاصْطِيَادُ ) أَيْ الصَّيْدُ هُوَ الِاصْطِيَادُ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ صَادَ يَصِيدُ صَيْدًا وَسُمِّيَ بِهِ الْمَصِيدُ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ فَصَارَ اسْمًا لِكُلِّ حَيَوَانٍ مُتَوَحِّشٍ مُمْتَنِعٍ عَنْ الْآدَمِيِّ مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ وَالِاصْطِيَادُ مُبَاحٌ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ وَكَذَا الْمَصِيدُ إنْ كَانَ مَأْكُولًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْك فَأَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ ، وَإِنْ أَدْرَكْته قَدْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ فَإِنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَكَاةٌ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ ؛ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ فَكَانَ مُبَاحًا كَالِاحْتِطَابِ لِيَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنْ إقَامَةِ التَّكَالِيفِ .{ كِتَابُ الصَّيْدِ } ثُمَّ الِاصْطِيَادُ لَا يَقَعُ إلَّا بِآلَةٍ وَالْآلَةُ تَنْقَسِمُ عَلَى قِسْمَيْنِ حَيَوَانٌ وَجَمَادٌ فَالْجَمَادُ مِثْلُ السَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَالشَّبَكَةِ وَالْمِعْرَاضِ وَالنُّشَّابِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَالْحَيَوَانُ مِثْلُ الْبَازِي وَالصَّقْرِ وَالْفَهْدِ وَالْكَلْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ ) وَالِاصْطِيَادُ مُبَاحٌ فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا لَا يَحِلُّ فَمَا حَلَّ أَكْلُهُ فَصَيْدُهُ لِلْأَكْلِ وَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ فَصَيْدُهُ لِغَرَضٍ آخَرَ إمَّا الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ لِدَفْعِ أَذِيَّتِهِ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ لِيَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مِنْ إقَامَةِ التَّكَالِيفِ ) أَيْ مِنْ إقَامَةِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ا هـ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَيَحِلُّ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْفَهْدِ وَالْبَازِي وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ ) أَيْ يَحِلُّ الِاصْطِيَادُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْجَوَارِحِ كَالشَّاهِينَ وَالْبَاشِقِ وَالْعُقَابِ وَالصَّقْرِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَّمْته مِنْ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ فَتُذَكِّيهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } أَيْ صَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الطَّيِّبَاتِ وَالْجَوَارِحُ الْكَوَاسِبُ وَالْجَرْحُ الْكَسْبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } أَيْ كَسَبْتُمْ ، وَقِيلَ هِيَ أَنْ تَكُونَ جَارِحَةً بِنَابِهَا وَمِخْلَبِهَا حَقِيقَةً وَيُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ فَتُشْتَرَطُ الْجِرَاحَةُ حَقِيقَةً عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْجُرْحِ مِنْ الْكَوَاسِبِ عَمَلًا بِالْمُتَيَقَّنِ بِهِ ، وَالْمُكَلَّبُ الْمُعَلَّمُ مِنْ الْكِلَابِ وَمُؤَدِّبُهَا ثُمَّ عَمَّ فِي كُلِّ مَا أُدِّبَ جَارِحَةً بَهِيمَةً كَانَتْ أَوْ طَائِرًا وَمَعْنَى قَوْلِهِ مُكَلِّبِينَ مُعَلَّمِينَ الِاصْطِيَادَ تُعَلِّمُونَهُنَّ تُؤَدِّبُوهُنَّ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا عُلِّمَ مِنْ الْجَوَارِحِ دَلَّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْكَلْبِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ حَتَّى الْأَسَدِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْأَسَدَ وَالدُّبَّ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ لِغَيْرِهِمَا الْأَسَدُ لِعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَالدُّبُّ لِخَسَاسَتِهِ كَذَا ذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْكَافِي وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ الذِّئْبَ بَدَلَ الدُّبِّ وَكَذَا فِي الْمُحِيطِ ؛ وَلِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَلَّمَانِ عَادَةً ؛ وَلِأَنَّ التَّعْلِيمَ يُعْرَفُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ وَهُمَا لَا يَأْكُلَانِ الصَّيْدَ فِي الْحَالِ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِتَرْكِ
الْأَكْلِ عَلَى التَّعَلُّمِ حَتَّى لَوْ تُصَوِّرَ التَّعَلُّمُ مِنْهُمَا وَعُرِفَ ذَلِكَ جَازَ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَأَلْحَقَ بَعْضُهُمْ الْحِدَأَةَ بِهِمَا لِخَسَاسَتِهَا وَالْخِنْزِيرَ مُسْتَثْنًى مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْلِيمِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ } وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ثَعْلَبَةَ { مَا صِدْت بِكَلْبِك الْمُعَلَّمِ فَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ وَمَا صِدْت بِكَلْبِك غَيْرِ الْمُعَلَّمِ فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ فَكُلْ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَكَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ أَهْلًا لِلذَّكَاةِ بِأَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا ، وَهُوَ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَيَضْبِطُ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي الذَّبَائِحِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَذَا بِتَرْكِ الْأَكْلِ ثَلَاثًا فِي الْكَلْبِ وَبِالرُّجُوعِ إذَا دَعَوْته فِي الْبَازِي ) أَيْ التَّعْلِيمُ فِي الْكَلْبِ يَكُونُ بِتَرْكِ الْأَكْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفِي الْبَازِي بِالرُّجُوعِ إذَا دُعِيَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؛ وَلِأَنَّ بَدَنَ الْكَلْبِ يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ فَيُمْكِنُ ضَرْبُهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ وَبَدَنُ الْبَازِي لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ فَلَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ هَذَا الشَّرْطِ فِيهِ فَاكْتَفَى بِغَيْرِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى التَّعَلُّمِ ؛ وَلِأَنَّ آيَةَ التَّعَلُّمِ تَرْكُ مَا هُوَ مَأْلُوفُهُ عَادَةً وَعَادَةُ الْبَازِي التَّوَحُّشُ وَالِاسْتِنْفَارُ وَعَادَةُ الْكَلْبِ الِانْتِهَابُ وَالِاسْتِلَابُ لِإِلْفِهِ بِالنَّاسِ فَإِذَا تَرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْلُوفَهُ دَلَّ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَانْتِهَاءِ عَمَلِهِ ، وَهَذَا الْفَرْقُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الْكَلْبِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَلُوفُ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَنْيَابِ ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَلُوفٍ وَالْفَرْقُ الْأَوَّلُ يَتَأَتَّى فِي الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ بَدَنَ كُلِّ ذِي نَابٍ يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ فَأَمْكَنَ تَعْلِيمُهُ
بِالضَّرْبِ إلَى أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ ، وَإِنَّمَا شَرْطُ تَرْكِ الْأَكْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَرِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ يُعْرَفُ بِتَكْرَارِ التَّجَارِبِ وَالِامْتِحَانِ ، وَهِيَ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِذَلِكَ كَمَا فِي قِصَّةِ مُوسَى مَعَ مُعَلِّمِهِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَمُدَّةِ الْخِيَارِ لِاخْتِبَارِ حَالِ الْمَبِيعِ وَكَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ } وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا لَمْ يَرْبَحْ أَحَدُكُمْ فِي التِّجَارَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلْيَتَحَوَّلْ إلَى غَيْرِهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ هُوَ الَّذِي يَقَعُ دَلَالَةً عَلَى التَّعَلُّمِ دُونَ الْقَلِيلِ وَالْجَمْعُ كَثِيرٌ وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الثَّلَاثَةُ رَكْبٌ } فَقُدِّرَ بِهِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ التَّعَلُّمُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ قَدْ تَعَلَّمَ وَلَا يُقَدَّرُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ تُعْرَفُ بِالنَّصِّ لَا بِالِاجْتِهَادِ وَلَا نَصَّ هُنَا فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي مِثْلِهِ كَحَبْسِ الْغَرِيمِ وَالنَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْأَعْمَالِ الْمُفْسِدَةِ لِلصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْأَصْلِ وَتَرْكُ الْأَكْلِ قَدْ يَكُونُ لِلْخَوْفِ مِنْ الضَّرْبِ فَلَا يَقَعُ دَلَالَةً عَلَى التَّعَلُّمِ ؛ وَلِأَنَّ مُدَّةَ التَّعَلُّمِ تَخْتَلِفُ بِالْحَذَاقَةِ وَالْبَلَادَةِ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا ثُمَّ إذَا تُرِكَ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ الْأُولَى وَلَا الثَّانِيَةُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِالثَّلَاثِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَكَذَا الثَّالِثُ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُعَلَّمًا إلَّا بَعْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِ وَقَبْلَهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ فَكَانَ الثَّالِثُ صَيْدَ كَلْبٍ جَاهِلٍ فَصَارَ كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مَالَ الْمَوْلَى بِعِلْمِ الْمَوْلَى ، وَهُوَ سَاكِتٌ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الْبَيْعُ حَتَّى كَانَ
لِلْمَوْلَى أَنْ يَنْقُضَهُ إنْ شَاءَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ عِنْدَ الثَّالِثِ آيَةُ تَعَلُّمِهِ فَصَارَ هَذَا صَيْدَ كَلْبٍ عَالِمٍ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ عَالِمًا بِطَرِيقِ أَنَّ إمْسَاكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ قَدْ تَعَيَّنَ وَتَحَقَّقَ ، وَكَيْفَ يَحْرُمُ وَقَدْ أَخَذَهُ لَهُ بَعْدَ إرْسَالِهِ بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَا بِهِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ مَالَ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى وَالْمَوْلَى يَرَاهُ سَاكِتًا صَارَ مَأْذُونًا لَهُ وَجَازَ شِرَاؤُهُ وَلَزِمَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَازِي بِكَمْ إجَابَةً يَصِيرُ مُعَلَّمًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكَلْبِ وَلَوْ قِيلَ يَصِيرُ مُعَلَّمًا بِإِجَابَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ لَهُ وَجْهٌ ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ يُنَفِّرُهُ بِخِلَافِ الْكَلْبِ .
( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى إلَخْ ) قَالَ الْكَرْخِيُّ : فِي آخِرِ كِتَابِ الصَّيْدِ مِنْ مُخْتَصَرِهِ قَالَ هِشَامٌ سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ صَيْدِ ابْنِ الْعِرْسِ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ إذَا عُلِّمَ فَتَعَلَّمَ فَكُلْ مَا صَادَ قَالَ مُحَمَّدٌ : مَا كَانَ لَهُ مِخْلَبٌ أَوْ نَابٌ فَصَيْدُهُ يُؤْكَلُ يَعْنِي إذَا عُلِّمَ قَالَ هِشَامٌ : سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ الذِّئْبِ إذَا عُلِّمَ فَصَادَ فَقَالَ هَذَا أَرَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَإِنْ كَانَ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْكَرْخِيِّ قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ قَالُوا فِي الْأَسَدِ وَالذِّئْبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّيْدُ بِهِمَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَعْنًى يَعُودُ إلَى عَيْنِهِمَا إنَّمَا هُوَ لِفَقْدِ التَّعْلِيمِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّ مِنْ عَادَتِهِمَا أَنْ يَمْسِكَا صَيْدَهُمَا وَلَا يَأْكُلَاهُ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى التَّعْلِيمِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ فَإِنْ تُصُوِّرَ التَّعْلِيمُ فِيهِمَا جَازَ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ الذِّئْبَ بَدَلَ الدُّبِّ ) وَفِي الِاخْتِيَارِ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ ا هـ ( قَوْلُهُ فَلَا يَجُوزُ ) أَيْ الِاصْطِيَادُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ ا هـ ( قَوْلُهُ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ثَعْلَبَةَ ) أَيْ : الْخُشَنِيِّ ا هـ قَالَ فِي الْإِصَابَةِ صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ بِكُنْيَتِهِ ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى بَنِي خُشَيْنٍ ، وَهُوَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَضَرَبَ سَهْمَهُ فِي خَيْبَرَ وَأَرْسَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قَوْمِهِ فَأَسْلَمُوا وَكَانَ لَا يَأْتِي عَلَيْهِ لَيْلَةٌ إلَّا خَرَجَ يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فَيَنْظُرُ كَيْفَ هِيَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَسْجُدُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو ثَعْلَبَةَ إنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ أَنْ لَا يَخْنُقَنِي كَمَا أَرَاكُمْ تُخْنَقُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلِّي جَوْفَ اللَّيْلِ قُبِضَ ، وَهُوَ سَاجِدٌ فَرَأَتْ ابْنَتُهُ فِي النَّوْمِ أَنَّ أَبَاهَا قَدْ مَاتَ فَاسْتَيْقَظَتْ فَزِعَةً فَنَادَتْ أَيْنَ
أَبِي قِيلَ لَهَا فِي مُصَلَّاهُ فَنَادَتْهُ فَلَمْ يُجِبْهَا فَأَتَتْهُ فَوَجَدَتْهُ سَاجِدًا فَأَنْبَهَتْهُ فَحَرَّكَتْهُ فَسَقَطَ مَيِّتًا مَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ ا هـ بِاخْتِصَارٍ ( قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ وَذَا بِتَرْكِ الْأَكْلِ ثَلَاثًا ) فِي الْكَلْبِ وَالتَّعْلِيمِ عِنْدَنَا أَنْ يُرْسَلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كُلُّ ذَلِكَ يَقْتُلُ الصَّيْدَ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ قَالَهُ الْأَتْقَانِيُّ نَقْلًا عَنْ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ ا هـ ( قَوْلُهُ وَبَدَنُ الْبَازِي لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ ) قَالَ خُوَاهَرْ زَادَهْ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ بِأَنَّ الْبَازِيَ وَسَائِرَ طُيُورِ الْوَحْشِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ لَا يُؤْكَلُ كَمَا فِي الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِمَا رَوَى مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَازِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيَأْكُلُ مِنْهُ فَقَالَ كُلْ وَقَالَ تَعْلِيمُ الْبَازِي أَنْ تَدْعُوَهُ فَيُجِيبُك وَلَا تَسْتَطِيعُ ضَرْبَهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ ، وَهَذَا قَوْلٌ رُوِيَ عَنْهُ وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَقْرَانِهِ خِلَافُهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ ( قَوْلُهُ فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ ) أَيْ وَهُوَ الصَّائِدُ ا هـ غَايَةٌ
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَمِنْ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَمِنْ الْجُرْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ ) أَيْ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَمِنْ الْجُرْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ أَعْضَائِهِ أَمَّا التَّسْمِيَةُ فَلِمَا تَلَوْنَا وَرَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ثَعْلَبَةَ وَالْمُرَادُ بِهِ مَعَ التَّذَكُّرِ ، وَأَمَّا إذَا نَسِيَ التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الْإِرْسَالِ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الذَّبَائِحِ ، وَأَمَّا الْجُرْحُ فَالْمَذْكُورُ هُنَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ بِالْجُرْحِ فَمَنْ شَرَطَهُ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ ، وَهُوَ نَسْخٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَكَذَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ وَثَعْلَبَةَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ وَإِلَّا لَزِمَ نَسْخُهُ بِالرَّأْيِ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ وَجْهُ الظَّاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } عَلَى مَا بَيَّنَّا ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إخْرَاجُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ ، وَهُوَ يَخْرُجُ بِالْجُرْحِ عَادَةً وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ إلَّا نَادِرًا فَأُقِيمَ الْجُرْحُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالرَّمْيِ بِالسَّهْمِ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَجْرَحْهُ صَارَ مَوْقُوذَةً ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالنَّصِّ وَمَا تُلِيَ مُطْلَقٌ وَكَذَا مَا رُوِيَ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِاتِّحَادِ الْوَاقِعَةِ ، وَإِنَّمَا لَا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَتْ الْحَوَادِثُ أَوْ كَانَ التَّقْيِيدُ وَالْإِطْلَاقُ مِنْ جِهَةِ السَّبَبِ أَمَّا إذَا كَانَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ وَالْحَادِثَةُ وَاحِدَةٌ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي أُكِلَ ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ لَا ) وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْقَدِيمِ يُؤْكَلُ ، وَإِنْ
أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ كَالْبَازِي لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي كِلَابًا مُكَلَّبَةً فَأَفْتِنِي فِي صَيْدِهَا فَقَالَ إنْ كَانَتْ لَك كِلَابٌ مُكَلَّبَةٌ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْك الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ هُوَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ } ؛ وَلِأَنَّ فِعْلَ الْكَلْبِ إنَّمَا صَارَ ذَكَاةً لِعِلْمِهِ وَبِالْأَكْلِ لَا يَعُودُ جَاهِلًا فَصَارَ كَالْبَازِي وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقَوْله تَعَالَى { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ { إذَا أَرْسَلْت كِلَابَك الْمُعَلَّمَةَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْك إلَّا أَنْ يَأْكُلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ فَأَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِذَا أَرْسَلْته فَقَتَلَ وَلَمْ يَأْكُلْ فَكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمَرْوِيُّهُمَا غَرِيبٌ فَلَا يُعَارِضُ الصَّحِيحَ الْمَشْهُورَ وَلَئِنْ صَحَّ فَالْمُحَرِّمُ أَوْلَى عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَازِي وَالْكَلْبِ قَدْ بَيَّنَّاهُ وَلَوْ صَادَ الْكَلْبُ صَيُودًا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا ثُمَّ أَكَلَ مِنْ صَيْدِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُؤْكَلُ مِنْ الَّذِي أَكَلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أَكْلَهُ عَلَامَةُ جَهْلِهِ وَلَا مَا يَصِيدُهُ بَعْدَهُ حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا الصُّيُودُ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ قَبْلُ فَمَا أَكَلَ مِنْهَا لَا تَظْهَرُ الْحُرْمَةُ فِيهِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ وَمَا لَيْسَ بِمُحَرَّزٍ بِأَنْ كَانَ فِي
الْمَفَازَةِ بَعْدَ تَثَبُّتِ الْحُرْمَةِ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ وَمَا هُوَ مُحَرَّزٌ فِي الْبَيْتِ يَحْرُمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ قَدْ تُنْسَى وَقَدْ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ الْجُوعُ فَيَأْكُلُ مَعَ عِلْمِهِ ؛ وَلِأَنَّ مَا أَحْرَزَهُ قَدْ أَمْضَى الْحُكْمَ فِيهِ بِالِاجْتِهَادِ فَلَا يَنْقُضُ بِاجْتِهَادِ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ بِالْأَوَّلِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُحَرَّزِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِبَقَاءِ الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَيَحْرُمُ احْتِيَاطًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَكْلَهُ آيَةُ جَهْلِهِ مِنْ الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ لَا يُنْسَى أَصْلُهَا فَبِالْأَكْلِ تَبَيَّنَ أَنَّ تَرْكَهُ الْأَكْلَ كَانَ بِسَبَبِ الشِّبَعِ لَا لِلتَّعَلُّمِ وَقَدْ تَبَدَّلَ الِاجْتِهَادُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْأَكْلِ فَصَارَ كَتَبَدُّلِ اجْتِهَادِ الْقَاضِي قَبْلَ الْقَضَاءِ ؛ وَلِأَنَّ عِلْمَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا ظَاهِرًا فَبَقِيَ جَهْلُهُ مَوْهُومًا وَالْمَوْهُومُ فِي بَابِ الصَّيْدِ يَلْحَقُ بِالْمُتَحَقِّقِ احْتِيَاطًا مَا أَمْكَنَ وَالْإِمْكَانُ فِي حَقِّ الْقَائِمِ جَمِيعًا دُونَ الْغَائِبِ وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّمَا تَحْرُمُ تِلْكَ الصُّيُودُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا كَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا أَمَّا إذَا تَطَاوَلَ الْعَهْدُ بِأَنْ أَتَى عَلَيْهِ شَهْرٌ أَوْ أَكْثَرُ وَصَاحِبُهُ قَدْ قَدَّدَ تِلْكَ الصُّيُودُ لَا تَحْرُمُ تِلْكَ الصُّيُودُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ يَتَحَقَّقُ النِّسْيَانُ فَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا فِي الْمَاضِي مِنْ الزَّمَانِ وَفِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ لَا يَتَحَقَّقُ النِّسْيَانُ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا حِينَ اصْطِيَادِ تِلْكَ الصُّيُودِ فَتَحْرُمُ تِلْكَ الصُّيُودُ وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْفَصْلَيْنِ وَلَوْ أَنَّ صَقْرًا فَرَّ مِنْ
صَاحِبِهِ فَمَكَثَ حِينًا ثُمَّ رَجَعَ إلَى صَاحِبِهِ فَأَرْسَلَهُ فَصَادَ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا صَارَ بِهِ عَالِمًا فَيُحْكَمُ بِجَهْلِهِ كَالْكَلْبِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكَلْبِ فِيمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ شَرِبَ الْكَلْبُ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْئًا أُكِلَ ؛ لِأَنَّهُ مُمْسِكٌ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مِنْ غَايَةِ عِلْمِهِ حَيْثُ شَرِبَ مَا لَا يَصْلُحُ لِصَاحِبِهِ وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَوْ أَخَذَ الصَّائِدُ الصَّيْدَ مِنْ الْكَلْبِ وَقَطَعَ لَهُ مِنْهُ قِطْعَةً وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ فَأَكَلَهَا يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَأَكْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّا أَلْقَى إلَيْهِ صَاحِبُهُ لَا يَضُرُّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ الصَّيْدِ ، وَهُوَ عَادَةُ الصَّيَّادِينَ فَصَارَ كَمَا إذَا أَلْقَى إلَيْهِ طَعَامًا آخَرَ ، وَكَذَا إذَا خَطَفَ الْكَلْبُ مِنْهُ وَأَكَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ الصَّيْدِ إذْ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالشَّرْطُ تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ الصَّيْدِ وَقَدْ وُجِدَ فَصَارَ كَمَا إذَا افْتَرَسَ شَاتَه بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحَرِّزَهُ الْمَالِكُ لِبَقَاءِ جِهَةِ الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ وَلَوْ نَهَشَ الصَّيْدَ فَقَطَعَ مِنْهُ بَضْعَةً فَأَكَلَهَا ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ لَا يُؤْكَلُ ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ كَلْبٍ جَاهِلٍ حَيْثُ أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ وَلَوْ أَلْقَى مَا نَهَشَهُ وَاتَّبَعَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَتَّى أَخَذَهُ صَاحِبُهُ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى تِلْكَ الْبَضْعَةِ فَأَكَلَهَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ مِنْ نَفْسِ الصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَضُرُّهُ فَإِذَا أَكَلَ مَا بَانَ مِنْهُ ، وَهُوَ لَا يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ أَوْلَى بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ فِي حَالَةِ الِاصْطِيَادِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاهِلٌ مُمْسِكٌ عَلَى نَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ نَهْشَ الْبَضْعَةِ قَدْ يَكُونُ لِيَأْكُلَهَا وَقَدْ يَكُونُ حِيلَةً فِي الِاصْطِيَادِ لِيُضْعِفَهُ بِالْقَطْعِ مِنْهُ
فَيَتَمَكَّنُ مِنْهُ فَإِنَّ أَكْلَهَا قَبْلَ الْأَخْذِ يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي .
قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ مَعَ التَّذَكُّرِ ) قَالَ فِي الْأَصْلِ : وَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَهُ فِي صَيْدٍ كَثِيرٍ وَسَمَّى مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْإِرْسَالِ ، فَإِنَّهُ إذَا قَتَلَ الْكُلَّ يَحِلُّ الْكُلُّ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ فِي شَرْحِهِ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا ذَبَحَ شَاتَيْنِ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الذَّبْحَ فِي بَابِ الْكَلْبِ يَحْصُلُ بِالْإِرْسَالِ ؛ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ وَقْتَ الْإِرْسَالِ ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ وَاحِدًا تَكْفِيهِ تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ حَصَلَ بِهِ ذَبْحُ صُيُودٍ كَثِيرَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَبَحَ شَاةً ثُمَّ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ صَارَ مَذْبُوحًا بِفِعْلٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةٍ أُخْرَى ا هـ أَتْقَانِيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ سَتَأْتِي هَذِهِ الْحَاشِيَةُ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ عِنْدَ قَوْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ أَحَدٌ إلَخْ ( قَوْلُهُ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إخْرَاجُ الدَّمِ إلَخْ ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْزَادَهْ فِي شَرْحِ كِتَابِ الصَّيْدِ إنَّمَا يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْكَلْبِ إذَا أَمْسَكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَقَتَلَهُ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِالْجُرْحِ وَالْعَقْرِ فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ صَدْمًا أَوْ جَثْمًا أَوْ خَنْقًا حَتَّى مَاتَ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مِنْهُ ، وَإِنْ أَمْسَكَ عَلَى صَاحِبِهِ ا هـ أَتْقَانِيٌّ وَالْكَسْرُ كَالْخَنْقِ صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ فِيمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ فِي الْمَتْنِ أَوْ خَنَقَهُ الْكَلْبُ فَانْظُرْهُ وَمَا عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا سَيَأْتِي فِي هَذَا الْمُجَرَّدِ وَالْكَسْرُ كَالْخَنْقِ بَعْدَ سَبْعِ قَوْلَاتٍ ( قَوْلُهُ وَهُوَ يَخْرُجُ بِالْجُرْحِ عَادَةً ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِالْحِلِّ عَلَى مَا صَادَهُ إذَا جَرَحَهُ ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ يُعْتَبَرُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الطَّاهِرِ وَالنَّجِسِ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي مَجْمُوعِ الْعُرُوقِ فِي مَوْضِعِ الِاخْتِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْفَصْلِ وَاكْتَفَى بِأَصْلِ الْجُرْحِ فِي مَوْضِعِ الِاضْطِرَارِ ا هـ قَوْلُهُ الصَّحِيحُ
أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْفَصْلَيْنِ ) أَيْ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ ا هـ ( قَوْلُهُ وَلَوْ أَنَّ صَقْرًا فَرَّ مِنْ صَاحِبِهِ ) أَيْ وَقَدْ كَانَ عَالِمًا بِهِ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ مَا صَارَ بِهِ عَالِمًا ) ، وَهُوَ إجَابَتُهُ إلَى صَاحِبِهِ دَاعِيًا وَمُرْسِلًا ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ إذَا لَمْ يَبْقَ صَيْدًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ) ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِمُتَوَحِّشٍ غَيْرِ مُحَرَّزٍ وَقَدْ زَالَ التَّوَحُّشُ بِالْقَتْلِ وَزَالَ كَوْنُهُ غَيْرَ مُحَرَّزٍ بِالْإِحْرَازِ فَالْتَحَقَ بِالشَّاةِ وَلَوْ تَنَاوَلَ مِنْ الشَّاةِ لَا يُحْكَمُ بِجَهْلِهِ فَكَذَا هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا أَصْلًا ا هـ غَايَةٌ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا ذَكَّاهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدِيٍّ { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْك فَأَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ } الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ ؛ وَلِأَنَّهُ قَدِرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ إذْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْحِلُّ وَلَا يَثْبُتُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ ، وَالْبَازِي وَالسَّهْمُ كَالْكَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَشْمَلُ الْكُلَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَإِنْ لَمْ يُذَكِّهِ أَوْ خَنَقَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ أَوْ شَارَكَهُ كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ أَوْ كَلْبٌ مَجُوسِيٌّ أَوْ كَلْبٌ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَمْدًا حَرُمَ ) أَمَّا إذَا لَمْ يُذَكَّ ؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا أَدْرَكَهُ حَيًّا صَارَ ذَكَاتُهُ ذَكَاةَ الِاخْتِيَارِ لِمَا رَوَيْنَا وَبَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى فَبِتَرْكِهِ يَصِيرُ مَيْتَةً ، وَهَذَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ أَمَّا إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ وَفِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ قَدْرُ مَا يَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ بِأَنْ بَقَرَ بَطْنَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُضْطَرِبًا اضْطِرَابَ الْمَذْبُوحِ فَحَلَالٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْحَيَاةِ لَا يُعْتَبَرُ فَكَانَ مَيِّتًا حُكْمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ ، وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَحْرُمُ كَمَا إذَا وَقَعَ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ لَا يُضَافُ إلَيْهِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلذَّكَاةِ وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ أَنَّ هَذَا بِالْإِجْمَاعِ وَقِيلَ هَذَا قَوْلُهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا إذَا ذَكَّاهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ الْخَفِيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ حَتَّى حَلَّتْ الْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَنَحْوُهَا بِالذَّكَاةِ إذَا كَانَ فِيهَا حَيَاةٌ وَإِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا تَحِلُّ إلَّا إذَا كَانَتْ حَيَاتُهَا بَيِّنَةً ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَبْقَى فَوْقَ مَا يَبْقَى
الْمَذْبُوحُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ بِحَالٍ يَعِيشُ مِثْلُهَا لِيَكُونَ مَوْتُهَا مُضَافًا إلَى الذَّكَاةِ وَالسَّهْمُ مِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ فَوْقَ مَا يَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ فَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَصْلِ فَصَارَ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا رَأَى الْمَاءَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ وَلَا يُؤْكَلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ حُكْمًا لِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ التَّمَكُّنِ مِنْ الذَّبْحِ إذْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الذَّبْحِ نَفْسِهِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْكِيَاسَةِ وَالْهِدَايَةِ فِي أَمْرِ الذَّبْحِ فَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى ثُبُوتِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُشَاهَدُ الْمُعَايَنُ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إلَّا بِالذَّكَاةِ سَوَاءٌ كَانَتْ حَيَاتُهُ خَفِيَّةً أَوْ بَيِّنَةً بِجُرْحِ الْمُعَلَّمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ السِّبَاعِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } اسْتَثْنَاهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ حَيٍّ مُطْلَقًا ، وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدِيٍّ { فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْك فَأَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ } مُطْلَقٌ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ حَيٍّ مُطْلَقًا وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَفَصَّلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَفْصِيلًا آخَرَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا فَقَالَ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الذَّبْحِ لِفَقْدِ الْآلَةِ لَمْ يُؤْكَلْ ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِضِيقِ الْوَقْتِ أُكِلَ لِعَدَمِ التَّقْصِيرِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا تَلَوْنَا وَمَا رَوَيْنَا ، وَأَمَّا إذَا خَنَقَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ فَلِمَا بَيَّنَّا عِنْدَ قَوْلِهِ لَا بُدَّ مِنْ التَّعْلِيمِ وَالتَّسْمِيَةِ وَالْجُرْحِ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ وَالْكَسْرُ كَالْخَنْقِ حَتَّى لَا يُعْتَدَّ بِهِ ؛
لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إلَى خُرُوجِ الدَّمِ ، وَأَمَّا إذَا شَارَكَهُ كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ أَوْ كَلْبٌ مَجُوسِيٌّ أَوْ كَلْبٌ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَمْدًا فَلِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي وَأُسَمِّي فَقَالَ { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك وَسَمَّيْت فَأَخَذَ فَقَتَلَ فَكُلْ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ قُلْت إنِّي أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَخَذَهُ فَقَالَ لَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى غَيْرِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك فَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ } رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ إنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِأَكْلِ الْكَلْبِ الصَّيْدَ وَعَلَى الشَّافِعِيِّ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا أَيْضًا ؛ وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُبِيحُ وَالْمُحَرَّمُ فَيُغَلَّبُ فِيهِ جِهَةُ الْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ } ؛ وَلِأَنَّ الْحَرَامَ وَاجِبُ التَّرْكِ وَالْحَلَالَ جَائِزُ التَّرْكِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي التَّرْكِ وَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ الْكَلْبُ الثَّانِي وَلَمْ يَجْرَحْهُ مَعَهُ وَمَاتَ بِجُرْحِ الْأَوَّلِ يُكْرَهُ أَكْلُهُ لِوُجُودِ الْمُعَاوَنَةِ فِي الْأَخْذِ وَفَقْدِهَا فِي الْجُرْحِ ثُمَّ قِيلَ الْكَرَاهَةُ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا تَفَرَّدَ بِالْجُرْحِ وَالْأَخْذِ غَلَبَ جَانِبُ الْحِلِّ ، فَصَارَ حَلَالًا وَأَوْجَبَتْ إعَانَةُ غَيْرِ الْمُعَلَّمِ الْكَرَاهَةَ دُونَ الْحُرْمَةِ ، وَقِيلَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَلْوَانِيِّ لِوُجُودِ
الْمُشَارَكَةِ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ الْمَجُوسِيُّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يَحْرُمُ وَلَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجُوسِيِّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْكِلَابِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ أَصْلًا وَفِعْلُ الْكَلْبِ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْكَلْبِ فَتَحَقَّقَتْ الْمُشَارَكَةُ مِنْ وَجْهٍ وَلَوْ لَمْ يَرُدَّ الْكَلْبُ الثَّانِي عَلَيْهِ لَكِنْ اشْتَدَّ عَلَى الْأَوَّلِ فَاشْتَدَّ الْأَوَّلُ عَلَى الصَّيْدِ بِسَبَبِهِ ، فَأَخَذَهُ فَقَتَلَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي أَثَّرَ فِي الْكَلْبِ الْأَوَّلِ حَتَّى ازْدَادَ طَلَبًا ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي الصَّيْدِ ، فَكَانَ تَبَعًا لِفِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى التَّبَعِ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ تَبَعًا فَيُضَافُ إلَيْهِمَا وَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ سَبُعٌ أَوْ ذُو مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّمَ فَيُصَادُ بِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَدَّهُ الْكَلْبُ عَلَيْهِ فِيمَا ذَكَرْنَا لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ فِي الْفِعْلِ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّ عَلَيْهِ مَا لَا يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِهِ كَالْجَمَلِ وَالْبَقَرِ وَالْبَازِي فِي ذَلِكَ كَالْكَلْبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ .
( قَوْلُهُ فِي الْمَتْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُذَكِّهِ ) أَيْ حَتَّى مَاتَ ا هـ هِدَايَةٌ ( قَوْلُهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ) أَيْ عَلَى حَدِّ الْأَكْلِ إذَا ذَكَّى الصَّيْدَ وَفِيهِ حَيَاةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ا هـ غَايَةٌ قَوْلُهُ وَالْكَسْرُ كَالْخَنْقِ ) قَالَ الْأَتْقَانِيُّ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَجْرَحْهُ وَلَمْ يَخْنُقْهُ وَلَكِنَّهُ كَسَرَ عُضْوًا مِنْهُ فَمَاتَ فَإِنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْكَرْخِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ شَيْئًا مُصَرِّحًا وَقَدْ حَكَى مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ الْمَسْأَلَةَ وَأَجَابَ فِيهَا جَوَابًا مُطْلَقًا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجْرَحْ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِالْكَسْرِ فَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي إثْرِ حِكَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ إنْ قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْرَحَهُ بِنَابٍ وَلَا مِخْلَبٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ وَكَذَلِكَ لَوْ صَدَمَهُ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَكْسِرْ وَلَمْ يَجْرَحْ فَإِنْ جَرَحَ بِنَابٍ أَوْ مِخْلَبٍ أَوْ كَسَرَ عُضْوًا فَقَتَلَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ إلَى هُنَا لَفْظُ الْكَرْخِيِّ قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّ الْجُرْحَ كَالْكَسْرِ وَجْهُهُ أَنَّ الْكَسْرَ جِرَاحَةٌ بَاطِنَةٌ فِيهِ فَهِيَ كَالْجِرَاحَةِ الظَّاهِرَةِ وَوَجْهُ مَا حَكَاهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْجُرْحَ يَقَعُ بِإِنْهَارِ الدَّمِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ بِالْكَسْرِ فَصَارَ كَالْخَنْقِ كَذَا فِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ ا هـ ( قَوْلُهُ لَكِنْ اشْتَدَّ ) أَيْ اشْتَدَّ الْكَلْبُ الثَّانِي عَلَى أَثَرِ الْكَلْبِ الْأَوَّلِ الْمُعَلَّمِ يَعْنِي عَدَا خَلْفَهُ وَاتَّبَعَهُ مِنْ وَرَائِهِ حَتَّى عَدَا الْكَلْبُ الْأَوَّلُ عَلَى الصَّيْدِ فَأَخَذَهُ ا هـ أَتْقَانِيٌّ وَكَتَبَ مَا نَصُّهُ أَيْ عَدَا كَذَا فِي دِيوَانِ الْأَدَبِ ا هـ غَايَةٌ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّهُ ) أَيْ رَدَّ الْمَجُوسِيُّ الصَّيْدَ عَلَى الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ ا هـ .