الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ وَجَدَ ابْنَ خَالَتِهِ عِنْدَ زَوْجَتِهِ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ : أَنَّ ابْنَ خَالَتِهِ كَانَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ وَكَذَلِكَ كَانَ عِنْدَهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْحَالِفُ صَادِقًا فِي يَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَقَدَ صِدْقَ نَفْسِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ؛ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْبَاطِنِ بِخِلَافِ ذَلِكَ : فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَتَزَوَّجُ فُلَانَةً ؛ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ - نَوَّرَ اللَّهُ مَرْقَدَهُ وَضَرِيحَهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ إذَا تَزَوَّجَهَا عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ امْتَنَعَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ مِنْ مُجَامَعَتِهَا ؛ فَانْجَرَحَ مِنْ امْتِنَاعِهَا عَلَيْهِ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَكَانَتْ حَامِلًا أَنْ لَا يُجَامِعَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ : فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ إنْ جَامَعَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَنْظُرُ إلَى السَّبَبِ الْمُهَيِّجِ لِلْيَمِينِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا جَامَعَهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ إلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ وَسَبَبِ الْيَمِينِ فَإِنْ كَانَ حَلَفَ لِسَبَبِ وَزَالَ السَّبَبُ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ : فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ لِسَبَبِ : كَأَنْ يَحْلِفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْبَلَدَ لِظُلْمِ رَآهُ فِيهِ ثُمَّ يَزُولُ الظُّلْمُ . أَوْ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا ثُمَّ يَزُولُ الْفِسْقُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَفِي حِنْثِهِ حِينَئِذٍ " قَوْلَانِ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَضَّ وَالْمَنْعَ فِي الْيَمِينِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ : فَالْحَلِفُ كُلُّ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّاهِي عَنْ الْفِعْلِ . وَمَنْ نَهَى عَنْ دُخُولِ بَلَدٍ أَوْ كَلَامٍ شُخِّصَ لِمَعْنَى ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى زَالَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَمَا إذَا امْتَنَعَ أَنْ يَبْدَأَ رَجُلًا بِالسَّلَامِ ؛ لِكَوْنِهِ كَافِرًا فَأَسْلَمَ . وَأَنْ لَا يَدْخُلَ بَلَدًا ؛ لِكَوْنِهِ دَارَ حَرْبٍ فَصَارَ دَارَ إسْلَامٍ . وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا
فَالرَّجُلُ إذَا حَلَفَ لَا يُوَاقِعُ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَ قَصْدُهُ عُقُوبَتَهَا ؛ لِكَوْنِهَا تُمَاطِلُهُ وَتَنْشُزُ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا تَابَتْ مِنْ ذَلِكَ وَصَارَتْ مُطِيعَةً مُوَافِقَةً زَالَ سَبَبُ الْهَجْرِ الَّذِي عَلَّقَهَا بِهِ كَمَا لَوْ هَجَرَهَا لِنُشُوزِ ثُمَّ زَالَ . وَأَمَّا إنْ كَانَ قَصْدُهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ وَطْئِهَا أَبَدًا ؛ لِأَجْلِ الذَّنْبِ الْمُتَقَدِّمِ . تَابَتْ أَوْ لَمْ تَتُبْ بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهَا تَتُوبُ تَوْبَةً صَحِيحَةً كَانَ مَقْصُودُهُ عُقُوبَتَهَا عَلَى مَا مَضَى كَمَا يُعَاقِبُ الرَّجُلُ غَيْرَهُ لِذَنْبِ مَاضٍ تَابَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَتُبْ ؛ لَا لِغَرَضِ الزَّجْرِ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ ؛ بَلْ لِمُجَرَّدِ شِفَاءِ غَيْظِهِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ : فَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَطَؤُهَا لِسِتَّةِ شُهُورٍ وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ لَهَا غَيْرُ طَلْقَةٍ وَنِيَّتُهُ أَنْ لَا يَطَأَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ : فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ مَاذَا يَفْعَلُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَلَهُ وَطْؤُهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ تُطَالِبْهُ بِالْوَطْءِ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ . هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ . وَالْجُمْهُورِ . وَهُوَ يُسَمَّى " مُولِيًا " .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَجَارِيَةٌ فَتَسَرَّى بِالْجَارِيَةِ فَغَارَتْ الْمَرْأَةُ : فَحَلَفَ إلَّا يَعُودَ يَطَأُ الْجَارِيَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا ؛ وَتَزَوَّجَتْ الْجَارِيَةُ فَأَقَامَتْ مَعَ الزَّوْجِ مُدَّةً وَتُوُفِّيَ عَنْهَا : فَهَلْ لِلْمُعْتِقِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ أَوْ سَبَبُ الْيَمِينِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا بِمِلْكٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَطَأَهَا ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَطَؤُهَا بِحَالِ لَا مِلْكٍ وَلَا عَقْدٍ حَنِثَ إذَا فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ مَبْلَغٌ لِشَخْصَيْنِ قَالَ : الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ أَنَّ الشَّهْرَ مَا يَنْفَصِلُ حَتَّى يُعْطِيَهُمَا الْمَبْلَغَ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ حَبَسَهُ . وَالْآنَ مَا حَصَلَ وَالشَّهْرُ بَقِيَ فِيهِ الْيَوْمُ ؛ وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الْحِنْثُ : فَإِذَا خَالَعَ الزَّوْجَةَ بِطَلْقَةِ وَاحِدَةٍ يُفِيدُهُ هَذَا وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ ؛ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ بِأَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنْ وَفَاءِ الدَّيْنِ
وَأُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ وَإِلَّا حُبِسَ وَضُرِبَ : لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَلَا حِنْثَ فِيهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَشْتَرِي الْبَقْلَ بِشَيْءِ يَزِنُ عَلَيْهِ الْحَقَّ ؛ وَالْبَعْضَ يَشْتَرِيه بِلَا حَقٍّ وَحَضَرَ لَهُ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ ؛ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ أَيُّ شَيْءٍ اشْتَرَيْته تَزِنُ حَقَّهُ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْفَلْتَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْيَمِينِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ ؛ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ أَعْوَانِ الضَّمَانِ فَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ حَقٌّ ؛ لَا فِي الشَّرْعِ ؛ وَلَا فِي الْعَادَةِ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَهُ حَقٌّ لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِ إعْطَائِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ وَضَعَ حُجَّةً فِي بَيْتِ أَخِيهِ فَعُدِمَتْ ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ طَلَبَهَا وَلَمْ يَجِدْهَا فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ مَا يَدْخُلُ بَيْتَ أَخِيهِ حَتَّى يُعْطَى الْحُجَّةَ مُعْتَقِدًا وُجُودَهَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ الْحُجَّةُ قَدْ عُدِمَتْ قَبْلَ الْيَمِينِ وَلَكِنْ اعْتَقَدَ بَقَاءَهَا : فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ لِوَجْهَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى مُمْتَنِعٍ لِذَاتِهِ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَيَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ . وَهَذَا لَا يَحْنَثُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ . و " الثَّانِي " اعْتَقَدَ بَقَاءَهَا وَإِمْكَانَ إعْطَائِهَا فَحَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِ تِلْكَ الصِّفَةِ .
بَابُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشُّرُوطِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ اسْتَثْنَى بَعْدَ هُنَيْهَةٍ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْكَلَامُ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَقَعُ فِيهِ الطَّلَاقُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَالْحَالُ هَذِهِ . وَلَوْ قِيلَ لَهُ : قُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ أَيْضًا ؛ وَلَوْ لَمْ يَخْطُرْ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا لِمَا قِيلَ لَهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَنِقَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ : قُلْ السَّاعَةَ قَالَ السَّاعَةَ وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ ؟ .
فَأَجَابَ : إنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَمَقْصُودُهُ تَخْوِيفُهَا بِهَذَا الْكَلَامِ ؛ لَا إيقَاعُ الطَّلَاقِ : لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ . فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ لَا يَقَعُ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد يَقَعُ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ لَكِنَّ هَذَا لَمَّا كَانَ مَقْصُودُهُ وَاعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ صَارَ الْكَلَامُ عِنْدَهُ كَلَامًا لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ فَلَمْ يُقْصَدْ التَّكَلُّمُ بِالطَّلَاقِ . وَإِذَا قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ بِكَلَامِ لَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ : مِثْلَ مَا لَوْ تَكَلَّمَ الْعَجَمِيُّ بِلَفْظِ وَهُوَ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ لَمْ يَقَعْ وَطَلَاقُ الْهَازِلِ : وَقَعَ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُتَكَلِّمِ الطَّلَاقُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إيقَاعَهُ . وَهَذَا لَمْ يَقْصِدْ لَا هَذَا ؛ وَلَا هَذَا وَهُوَ يُشْبِهُ مَا لَوْ رَأَى امْرَأَةً فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً ؛ فَبَانَتْ امْرَأَتُهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ عَلَى الصَّحِيحِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ اعْتَقَدَ مَسْأَلَةَ " الدَّوْرِ " الْمُسْنَدَةِ لِابْنِ سُرَيْجٍ ثُمَّ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ عَلَى شَيْءٍ لَا يَفْعَلُهُ ثُمَّ فَعَلَهُ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَرَاجَعَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ : فَهَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ ؟ أَمْ يَسْتَعْمِلُ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى : الْمُشَارَ إلَيْهَا ؟
فَأَجَابَ :
" الْمَسْأَلَةُ السريجية " بَاطِلَةٌ فِي الْإِسْلَامِ " مُحْدَثَةٌ لَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ فَإِنَّ مَا قَالَهُ أُولَئِكَ يَظْهَرُ فَسَادُهُ مِنْ وُجُوهٍ . مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّلَاقَ كَمَا أَبَاحَ النِّكَاحَ وَأَنَّ دِينَ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفٌ لِدِينِ النَّصَارَى الَّذِينَ لَا يُبِيحُونَ الطَّلَاقَ فَلَوْ كَانَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ الطَّلَاقُ لَصَارَ دِينُ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ دِينِ النَّصَارَى .
" وَشُبْهَةُ هَؤُلَاءِ " أَنَّهُمْ قَالُوا : إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا مُنَجَّزًا : لَزِمَ أَنْ يَقَعَ الْمُعَلَّقُ وَلَوْ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ فَكَانَ وُقُوعُهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ : فَلَا يَقَعُ ؛ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ : لَوْ وَقَعَ الْمُنَجَّزُ لَوَقَعَ الْمُعَلَّقُ . إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بَاطِلًا لَا يَلْزَمُ وُقُوعُ التَّعْلِيقِ . وَالتَّعْلِيقُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ مَضْمُونَهُ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ بَاطِلٌ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَضْمُونُهُ أَيْضًا إذَا وَقَعَ عَلَيْك طَلَاقِي لَمْ يَقَعْ عَلَيْك طَلَاقِي . وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقَعْ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ الْجَزَاءُ . وَإِذَا وَقَعَ الشَّرْطُ لَزِمَ الْوُقُوعُ . فَلَوْ قِيلَ : لَا يَقَعُ مَعَ ذَلِكَ . لَزِمَ أَنْ يَقَعَ وَلَا يَقَعَ وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَأَيْضًا فَالطَّلَاقُ إذَا وَقَعَ لَمْ يَرْتَفِعْ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَلَمَّا كَانَ كَلَامُ الْمُطَلِّقِ يَتَضَمَّنُ مُحَالًا فِي الشَّرِيعَةِ - وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ - وَمُحَالًا فِي الْعَقْلِ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ : كَانَ الْقَائِلُ بِالتَّسْرِيجِ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ وَالدِّينِ ؛ لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَ الْحَالِفُ صِحَّةَ هَذَا الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ وَطَلَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ : لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ التَّكَلُّمَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ طَلَاقًا ؛ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ الْعَجَمِيُّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَهُوَ لَا يَفْهَمُهُ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ لَوْ خَاطَبَ مَنْ يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً بِالطَّلَاقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ : فَإِنَّهُ لَا لَا يَقَعُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ . وَلَوْ تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ التَّسْرِيجِ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ
لَمْ يَكُنْ ظُهُورُ الْحَقِّ لَهُ فِيمَا بَعْدُ مُوجِبًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إنْ احْتَاطَ فَرَاجَعَ امْرَأَتَهُ خَوْفًا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ وَقَعَ بِهِ أَوْ مُعْتَقِدًا وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ : لَمْ يَقَعْ . وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ التَّسْرِيجِ أَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ وَلَوْ اعْتَقَدَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَرَاجَعَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ قَدْ حَنِثَ فِيهِ مَرَّةً فَلَا يَحْنَثُ فِي مَرَّةٍ ثَانِيَةٍ : لَمْ يَقَعْ بِهِ : فَهَذَا الْفِعْلُ شَيْءٌ وَالْيَمِينُ الَّتِي حَلَفَ بِهَا أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الشَّيْءَ بَاقِيَةٌ فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْيَمِينِ بَاقِيًا فِي بَاقِيَةٍ وَإِنْ زَالَ سَبَبُ الْيَمِينِ فَلَهُ فِعْلُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؛ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَحْنَثْ . وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مُعْتَقِدًا أَنَّ الْبَيْنُونَةَ حَصَلَتْ وَانْقَطَعَ حُكْمُ الْيَمِينِ الْأُولَى لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِاعْتِقَادِهِ زَوَالَ الْيَمِينِ كَمَا لَا يَحْنَثُ الْجَاهِلُ بِأَنَّ مَا فَعَلَهُ هُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا قَوْلُهُ لِزَوْجَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : أَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ تَقَعُ هَذِهِ الطَّلْقَةُ وَإِذَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ بِهَذِهِ الطَّلْقَةِ قَدْ كَمُلَتْ ثَلَاثًا وَأَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا : لَمْ يَقَعْ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ شَيْءٌ وَلَا بِهَذَا الْإِقْرَارِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مَا قَوْلُكُمْ فِي الْعَمَلِ " بالسريجية " وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُسَمَّى " مَسْأَلَةَ ابْنِ سُرَيْجٍ " ؟
الْجَوَابُ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا ؛ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ وَلَا التَّابِعِينَ ؛ وَلَا أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْمَتْبُوعِينَ ؛ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَلَا أَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُمْ : كَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ والمزني والبويطي وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ وَأَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِمْ ؛ لَمْ يُفْتِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَكَانَ الْغَزَالِيُّ يَقُولُ بِهَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْهَا وَبَيَّنَ فَسَادَهَا وَقَدْ عُلِمَ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ نِكَاحَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ كَنِكَاحِ النَّصَارَى . وَالدَّوْرُ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ فِيهَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ وَهُوَ إنَّمَا يَقَعُ لَوْ كَانَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا ؛ وَالتَّعْلِيقُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى مُحَالٍ فِي الشَّرِيعَةِ وَهُوَ وُقُوعُ طَلْقَةٍ مَسْبُوقَةٍ بِثَلَاثِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالتَّسْرِيجُ يَتَضَمَّنُ لِهَذَا الْمُحَالِ فِي الشَّرِيعَةِ فَيَكُونُ بَاطِلًا . وَإِذَا كَانَ قَدْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ : فَلْيُمْسِكْ امْرَأَتَهُ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ فِيمَا مَضَى وَيَتُوبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : إنْ طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَهُ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا وَقَعَ الْمُنَجَّزُ عَلَى الرَّاجِحِ وَلَا يَقَعُ مَعَهُ الْمُعَلَّقُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْمُعَلَّقُ وَهُوَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ لَمْ يَقَعْ الْمُنْجَزُ لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى عَدَدِ الطَّلَاقِ وَإِذَا لَمْ يَقَعُ الْمُنَجَّزُ
لَمْ يَقَعْ الْمُعَلَّقُ . وَقِيلَ : لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّ وُقُوعَ الْمُنَجَّزِ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ وَوُقُوعَ الْمُعَلَّقِ يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ وَهَذَا الْقِيلُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ . وَابْنُ سُرَيْجٍ بَرِيءٌ مِمَّا نُسِبَ إلَيْهِ فِيهَا قَالَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ تَصِحُّ " مَسْأَلَةُ ابْنِ سُرَيْجٍ " أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قُلْنَا : لَا تَصِحُّ فَمَنْ قَلَّدَهُ فِيهَا وَعَمِلَ فِيهَا فَلَمَّا عَلِمَ بُطْلَانَهَا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ؛ وَلَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَلَّدَ فِيهَا شَخْصًا ثُمَّ تَابَ فَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَلَا يُفَارِقُ امْرَأَتَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَزَوَّجَ بِهَا إذَا كَانَ مُتَأَوِّلًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَجَاءَهُ مِنْهَا وَلَدٌ وَأَوْصَاهُ الشُّهُودُ أَوْ غَيْرُهُمْ : أَنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ يَقُولَ لَهَا : إذَا طَلَّقْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ طَلَاقِك ثَلَاثًا . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ الْعَقْدُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، النِّكَاحُ صَحِيحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافٍ " وَالتَّسْرِيجُ " الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ بِهِ لَا يُفْسِدُ النِّكَاحَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ لَكِنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْعِلْمِ : مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَكْثَرَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ طَلَبَتْ مِنْهُ الطَّلَاقَ وَطَلَّقَهَا وَقَالَ : مَا بَقِيت أَعُودُ إلَيْهَا أَبَدًا فَوَجَدَهُ صَاحِبَهُ فَقَالَ : مَا أَصْدُقك عَلَى هَذَا إلَّا إنْ قُلْت : كُلَّمَا تَزَوَّجْت هَذِهِ كَانَتْ طَالِقًا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَلَمْ يَرَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ؟
فَأُحَابِ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا إنْ قَصَدَ كُلَّمَا تَزَوَّجْتهَا بِرَجْعَةِ أَوْ عَقْدٍ جَدِيدٍ - وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ - فَمَتَى ارْتَجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ طَلُقَتْ ثَانِيَةً ثُمَّ إنْ ارْتَجَعَهَا طَلُقَتْ ثَالِثَةً - وَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بَانَتْ مِنْهُ ؛ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ : إنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ - قَالَ إنَّ هَذِهِ إذَا تَزَوَّجَهَا يَقَعُ بِهَا الطَّلَاقُ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ - كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ - فَهَذِهِ لَمَّا عَلَّقَ طَلَاقَهَا كَانَتْ رَجْعِيَّةً وَالرَّجْعِيَّةُ كَالزَّوْجَةِ فِي مِثْلِ هَذَا ؛ لَكِنْ تَخَلَّلَ الْبَيْنُونَةَ : هَلْ يَقْطَعُ
حُكْمَ الصِّفَةِ ؟ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى الْفَرْقِ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى النِّكَاحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عِدَّةٍ أَوْ لَا يَكُونَ فَعَلَى مَذْهَبِهِ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَا إذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ . وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ : إنَّ الْبَيْنُونَةَ تَقْطَعُ حُكْمَ الصِّفَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ إذَا تَزَوَّجَهَا كَقَوْلِهِ إذَا دَخَلْت الدَّارَ . وَإِذَا بَانَتْ انْحَلَّتْ هَذِهِ الْيَمِينُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ وَهُوَ الَّذِي يُرَجِّحُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ فَإِنَّهُ الْتِزَامٌ مِنْهُ لِمَذْهَبِ بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ ؛ بَلْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ . وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا بِعِوَضِ وَالتَّعْلِيقُ بَعْدَ هَذَا فِي الْعِدَّةِ وَغَيْرُهُ تَعْلِيقٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ إذَا تَزَوَّجَهَا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ وَبَانَتْ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي ؛ ثُمَّ أَرَادَتْ صُلْحَ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ لَهَا مِنْهُ أَوْلَادًا فَقَالَ لَهَا : إنَّنِي لَسْت قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ ؛ وَعَاجِزًا عَنْ الْكِسْوَةِ فَأَبَتْ ذَلِكَ : فَقَالَ لَهَا : كُلَّمَا حَلَلْت لِي حَرُمْت عَلَيَّ : فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ؛ لَكِنْ فِيهَا قَوْلَانِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . و " الثَّانِي " عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ : إمَّا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فِي قَوْلٍ . وَإِمَّا كَفَّارَةُ يَمِينٍ فِي قَوْلٍ آخَرَ . وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَا يَقَعَ بِهِ طَلَاقٌ ؛ لَكِنْ فِي التَّكْفِيرِ نِزَاعٌ . وَإِنَّمَا . يَقُولُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمِثْلِ هَذِهِ مَنْ يُجَوِّزُ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى النِّكَاحِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ؛ بِشَرْطِ أَنْ يَرَى الْحَرَامَ طَلَاقًا كَقَوْلِ مَالِكٍ وَإِذَا نَوَاهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فَعِنْدَهُمَا لَوْ قَالَ : كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ بِهِ طَلَاقٌ فَكَيْفَ فِي الْحَرَامِ ؛ لَكِنَّ أَحْمَد يُجَوِّزُ عَلَيْهِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ تَصْحِيحُ الظِّهَارِ قَبْلَ الْمِلْكِ ؛ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلِّدِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ
الْجُزْءُ الْرَّابِعُ وَالْثَّلَاثُونَ
كِتَابُ الظِّهَارِ إِلَى قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ .
بَابُ الظِّهَارِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي وَأُخْتِي ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي وَأُخْتِي فِي الْكَرَامَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ يُشَبِّهُهَا بِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ فِي " بَابِ النِّكَاحِ " فَهَذَا ظِهَارٌ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ فَإِذَا أَمْسَكَهَا فَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ كَفَّارَةَ ظِهَارٍ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ وَأَرَادَ الدُّخُولَ اللَّيْلَةَ الْفُلَانِيَّةَ ؛ وَإِلَّا كَانَتْ عِنْدِي مِثْلَ أُمِّي وَأُخْتِي وَلَمْ تَتَهَيَّأْ لَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ الَّذِي طَلَبَهَا فِيهِ : فَهَلْ يَقَعُ طَلَاقٌ ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَقَعُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لَكِنْ يَكُونُ مُظَاهِرًا فَإِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ قَبْلَ ذَلِكَ . الْكَفَّارَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي " سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ " فَيَعْتِقُ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ حَنِقَ مِنْ زَوْجَتِهِ فَقَالَ : إنْ بَقِيت أَنْكِحُك أَنْكِحُ أُمِّي تَحْتَ سُتُورِ الْكَعْبَةِ . هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا نَكَحَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ : عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى يُكَفِّرَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : يَا أَخِي لَا تَفْعَلْ هَذِهِ الْأُمُورَ بَيْنَ يَدَيْ امْرَأَتِك قَبِيحٌ عَلَيْك فَقَالَ : مَا هِيَ إلَّا مِثْلُ أُمِّي . فَقَالَ : لِأَيِّ شَيْءٍ قُلْت سَمِعْت أَنَّهَا تَحْرُمُ بِهَذَا اللَّفْظِ ثُمَّ كَرَّرَ عَلَى نَفْسِهِ وَقَالَ : أَيْ وَاَللَّهِ هِيَ عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي : هَلْ تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ بِهَذَا اللَّفْظِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : إنَّهَا مِثْلُ أُمِّي أَنَّهَا تَسْتُرُ عَلَيَّ وَلَا تَهْتِكُنِي وَلَا تَلُومُنِي كَمَا تَفْعَلُ الْأُمُّ مَعَ وَلَدِهَا ؛ فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِامْرَأَتِهِ : يَا أُخْتِي فَأَدَّبَهُ - وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ يُؤَدَّبْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ - وَقَالَ أُخْتُك هِيَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ الْإِنْسَانُ امْرَأَتَهُ كَأُمِّهِ . وَإِنْ أَرَادَ بِهَا عِنْدِي مِثْلُ أُمِّي . أَيْ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ وَطْئِهَا وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْرُمُ مِنْ الْأُمِّ فَهِيَ مِثْلُ أُمِّي الَّتِي لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا : فَهَذَا " مُظَاهِرٌ " يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ " كَفَّارَةَ الظِّهَارِ " فَيَعْتِقَ رَقَبَةً فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا . وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ حَلَّ لَهُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ كَأُمِّيِّ : فَهَذَا يَكُونُ مُظَاهِرًا فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَحُكِيَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ : هَلْ يَقَعُ بِهِ الثَّلَاثُ ؟ أَمْ لَا ؟ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى يُكَفِّرَ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ بَائِنٍ عَنْهُ إنْ رَدَدْتُك تَكُونِي مِثْلَ أُمِّي وَأُخْتِي : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهَا ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَإِذَا رَدَّهَا فِي الْآخَرِ لَا شَيْءَ . وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ فِي غَيْظِهِ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلَ أُمِّي .
فَأَجَابَ :
هَذَا مُظَاهِرٌ مِنْ امْرَأَتِهِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } فَهَذَا إذَا أَرَادَ إمْسَاكَ زَوْجَتِهِ وَوَطِئَهَا فَإِنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ : أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلَ أَبِي وَأُمِّي . وَقَالَ لَهَا : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ مِثْلَ أُمِّي وَأُخْتِي : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ ؟
فَأَجَابَ :
لَا طَلَاقَ بِذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ إنْ اسْتَمَرَّ عَلَى النِّكَاحِ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَفَّارَةُ ظِهَارٍ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
بَابُ مَا يَلْحَقُ مِنْ النَّسَبِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِنْتًا بِكْرًا بَالِغًا وَدَخَلَ بِهَا ؛ فَوَجَدَهَا بِكْرًا ثُمَّ إنَّهَا وَلَدَتْ وَلَدًا بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا : فَهَلْ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ الزَّوْجُ حَلَفَ فِي الطَّلَاقِ مِنْهَا أَنَّ الْوَلَدَ وَلَدُهُ مِنْ صُلْبِهِ : فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ أَمْ لَا ؟ وَالْوَلَدُ ابْنٌ سَوِيٌّ كَامِلُ الْخِلْقَةِ وَعَمَّرَ سِنِينَ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا وَلَدَتْ لِأَكْثَرِ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ دَخَلَ بِهَا وَلَوْ بِلَحْظَةِ لَحِقَهُ الْوَلَدُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ - وَمِثْلُ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَاسْتَدَلَّ الصَّحَابَةُ عَلَى إمْكَانِ كَوْنِ الْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } مَعَ قَوْلِهِ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فَإِذَا كَانَ مُدَّةُ الرَّضَاعِ مِنْ الثَّلَاثِينَ حَوْلَيْنِ يَكُونُ الْحَمْلُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ؛ فَجَمَعَ فِي الْآيَةِ أَقَلَّ الْحَمْلِ وَتَمَامَ الرَّضَاعِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ فَكَيْفَ إذَا اسْتَلْحَقَهُ وَأَقَرَّ بِهِ بَلْ لَوْ اسْتَلْحَقَ مَجْهُولَ النَّسَبِ ؛ وَقَالَ : إنَّهُ ابْنِي لَحِقَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ إذَا كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَلَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّهُ ابْنُهُ : كَانَ بَارًّا فِي يَمِينِهِ ؛ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً بِكْرًا وَبَاشَرَهَا وَهِيَ لَا تَخْرُجُ وَلَا تَدْخُلُ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْهُ فَأَخْرَجَهَا إلَى السُّوقِ وَيُنْكِرُ وَيَحْلِفُ : أَنَّهُ مَا هُوَ وَلَدُهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا اعْتَرَفَ أَنَّهُ وَطِئَهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُهُ وَيُجْعَلُ هَذَا الْحَمْلُ مِنْهُ إذَا وَضَعَتْ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْحَمْلَ وَلَا أُمَّهُ ؛ لَكِنْ إذَا ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ فَفِي قَبُولِ قَوْلِهِ وَتَحْلِيفِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَأَقَامَتْ فِي صُحْبَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ طَلَّقَهَا الطَّلَاقَ الْبَائِنَ وَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ بِزَوْجِ آخَرَ بَعْدَ إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي بَعْدَ مُدَّةِ سِتِّ سِنِينَ وَجَاءَتْ بِابْنَةِ وَادَّعَتْ أَنَّهَا مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ : فَهَلْ يَصِحُّ دَعْوَاهَا . وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ الْبِنْتَ وَهَذَا الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ مُقِيمَانِ بِبَلَدِ وَاحِدٍ وَلَيْسَ لَهَا مَانِعٌ مِنْ دَعْوَى النِّسَاءِ وَلَا مُطَالَبَتِهِ بِنَفَقَةِ وَلَا فَرْضٍ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَلْحَقُ هَذَا الْوَلَدُ الَّذِي هُوَ الْبِنْتُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ فِي حَالٍ يَلْحَقُ بِهِ نَسَبُهُ إذَا وَلَدَتْهُ وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً وَأَنْكَرَ هُوَ أَنْ تَكُونَ وَلَدَتْهُ لَمْ تُقْبَلْ فِي دَعْوَى الْوِلَادَةِ بِلَا نِزَاعٍ حَتَّى تُقِيمَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً . وَيَكْفِي امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ : عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا بُدَّ مِنْ امْرَأَتَيْنِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيُحْتَاجُ عِنْدَهُ إلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ . وَيَكْفِي يَمِينُهُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ . وَأَمَّا إنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةٌ فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد " أَحَدُهُمَا " لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِي " يُقْبَلُ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ . وَأَمَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَمَضَى لَهَا أَكْثَرُ الْحَمْلِ ثُمَّ ادَّعَتْ وُجُودَ حَمْلٍ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ الْمُطَلِّقِ : فَهَذِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بِلَا نِزَاعٍ بَلْ لَوْ أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَلِدُونِ مُدَّةِ الْحَمْلِ : فَهَلْ يَلْحَقُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد أَنَّهُ يَلْحَقُ وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْن سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ؛ لَكِنْ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ . وَهَذَا النِّزَاعُ إذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ إخْبَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدِ لِأَكْثَرِ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَلْحَقُ نَسَبُهُ بِالْأَوَّلِ قَوْلًا وَاحِدًا . فَإِذَا عَرَفْت مَذْهَبَ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فَكَيْفَ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ
بِدَعْوَاهَا بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ . وَلَوْ قَالَتْ وَلَدْته ذَلِكَ الزَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَنِي لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهَا أَيْضًا ؛ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ إنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا عَلَى فِرَاشِهِ وَلَوْ قَالَتْ هِيَ : وَضَعْت هَذَا الْحَمْلَ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ ذَلِكَ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَيْضًا أَنَّهَا لَمْ تَضَعْهَا قَبْلَ تَزَوُّجِهَا بِالثَّانِي ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ تَأَخُّرِ دَعْوَاهَا إلَى أَنْ تَزَوَّجَتْ الثَّانِيَ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهَا فِي دَعْوَاهَا ؛ لَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ فِي تَأَخُّرِ الدَّعْوَى الْمُمْكِنَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَأَفْتَاهُ مُفْتٍ بِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ فَقَلَّدَهُ الزَّوْجُ وَوَطِئَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَتَتْ مِنْهُ بِوَلَدِ : فَقِيلَ : إنَّهُ وَلَدُ زِنَا ؟
فَأَجَابَ :
مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ وَالْمُشَاقَّةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ اعْتَقَدَ الزَّوْجُ أَنَّهُ نِكَاحٌ سَائِغٌ إذَا وَطِئَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ وَلَدُهُ وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ سَوَاءٌ كَانَ النَّاكِحُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا . وَالْيَهُودِيُّ إذَا تَزَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ كَانَ وَلَدُهُ مِنْهُ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ النِّكَاحُ بَاطِلًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ
وَمَنْ اسْتَحَلَّهُ كَانَ كَافِرًا تَجِبُ اسْتِتَابَتُهُ . وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْجَاهِلُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا كَمَا يَفْعَلُ جُهَّالُ الْأَعْرَابِ وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَةً كَانَ وَلَدُهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَرِثُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . فَإِنَّ " ثُبُوتَ النَّسَبِ " لَا يَفْتَقِرُ إلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ بَلْ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } " فَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ : إمَّا لِجَهْلِهِ . وَإِمَّا لِفَتْوَى مُفْتٍ مُخْطِئٍ قَلَّدَهُ الزَّوْجُ . وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ النَّسَبُ وَيَتَوَارَثَانِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ بَلْ وَلَا تُحْسَبُ الْعِدَّةُ إلَّا مِنْ حِينِ تَرَكَ وَطْأَهَا ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَطَؤُهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ فَهِيَ فِرَاشٌ لَهُ فَلَا تَعْتَدُّ مِنْهُ حَتَّى تَتْرُكَ الْفِرَاشَ . وَمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً " نِكَاحًا فَاسِدًا " مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ أَوْ مَلَكَهَا مِلْكًا فَاسِدًا مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ أَوْ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ أَوْ وَطِئَهَا يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ : فَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْهَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَتَوَارَثَانِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْوَلَدُ أَيْضًا يَكُونُ حُرًّا ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْمَوْطُوءَةُ مَمْلُوكَةً لِلْغَيْرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَوُطِئَتْ بِدُونِ إذْنِ سَيِّدِهَا ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَاطِئُ مَغْرُورًا بِهَا زُوِّجَ بِهَا وَقِيلَ : هِيَ حُرَّةٌ أَوْ بِيعَتْ فَاشْتَرَاهَا يَعْتَقِدُهَا مِلْكًا لِلْبَائِعِ ؛ فَإِنَّمَا وَطِئَ مَنْ
يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ الْحُرَّةَ أَوْ أَمَتَهُ الْمَمْلُوكَةَ : فَوَلَدُهُ مِنْهَا حُرٌّ ؛ لِاعْتِقَادِهِ . وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُهُ مُخْطِئًا وَبِهَذَا قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَطِئُوا وَجَاءَهُمْ أَوْلَادٌ لَوْ كَانُوا قَدْ وَطِئُوا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ مُتَّفَقٍ عَلَى فَسَادِهِ وَكَانَ الطَّلَاقُ وَقَعَ بِهِمْ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ وَطِئُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ ؛ لِإِفْتَاءِ مَنْ أَفْتَاهُمْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ : كَانَ نَسَبُ الْأَوْلَادِ بِهِمْ لَاحِقًا وَلَمْ يَكُونُوا أَوْلَادَ زِنَا ؛ بَلْ يَتَوَارَثُونَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . هَذَا فِي الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ فَكَيْفَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ ؟ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي وَطِئَ بِهِ قَوْلًا ضَعِيفًا : كَمَنْ وَطِئَ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَوْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ نَفْسِهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا إذَا وَطِئَ فِيهِ يَعْتَقِدُهُ نِكَاحًا لَحِقَهُ فِيهِ النَّسَبُ فَكَيْفَ بِنِكَاحِ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَقَدْ ظَهَرَتْ حُجَّةُ الْقَوْلِ بِصِحَّتِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ وَظَهَرَ ضَعْفُ الْقَوْلِ الَّذِي يُنَاقِضُهُ وَعَجْزُ أَهْلِهِ عَنْ نُصْرَتِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ ؛ لِانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ؟ فَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا النِّكَاحَ أَوْ مِثْلَهُ يَكُونُ فِيهِ الْوَلَدُ وَلَدَ زِنًا لَا يَتَوَارَثَانِ هُوَ وَأَبُوهُ الْوَطْءُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . مُنْسَلِخٌ مِنْ رُتْبَةِ الدِّينِ فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُرِّفَ وَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ الرَّاشِدِينَ وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الدِّينِ أَلْحَقُوا أَوْلَادَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بِآبَائِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي لُحُوقِ النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ جَائِزًا فِي شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ
مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْفُتْيَا بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَادَّعَى الْإِجْمَاعَ عَلَى وُقُوعِهِ وَقَالَ إنَّ الْوَلَدَ وَلَدُ زِنَا : هُوَ الْمُخَالِفُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِنَّ الْمُفْتِيَ بِذَلِكَ أَوْ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ فَعَلَ مَا لَا يَسُوغُ لَهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْمَنْعُ مِنْ الْفُتْيَا بِقَوْلِهِ وَلَا الْقَضَاءُ بِذَلِكَ وَلَا الْحُكْمُ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْأَحْكَامُ بَاطِلَةٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ ادَّعَتْ عَلَيْهِ مُطَلَّقَتُهُ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ بِبِنْتِ وَبَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجِ آخَرَ فَأَلْزَمَهُ بَعْضُ الْحُكَّامِ بِالْيَمِينِ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَحْلِفُ أَنَّ هَذِهِ مَا هِيَ بِنْتِي . فَقَالَ الْحَاكِمُ : مَا تَحْلِفُ إلَّا أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتُهَا فَامْتَنَعَ أَنْ يَحْلِفَ إلَّا أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتِي وَكَانَ مَعَهُ إنْسَانٌ فَقَالَ لِلْحَاكِمِ : هَذَا مَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا مَا هِيَ بِنْتُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَضَرَبَهُ الْحَاكِمُ بِالدِّرَّةِ وَأَحْرَقَ بِهِ فَحَلَفَ الرَّجُلُ فَكَتَبَ عَلَيْهِ فَرْضَ الْبِنْتِ . فَهَلْ يَصِحُّ هَذَا الْفَرْضُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا فِي الْعِدَّةِ أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا عَلَى فِرَاشِهِ أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا فِي بَيْتِهِ ؛ بِحَيْثُ أَمْكَنَ لِحَوْقِ النَّسَبِ بِهِ . فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ وَأَمْكَنَ أَنَّهَا وَلَدَتْهَا مِنْ الثَّانِي فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا . وَإِذَا حَلَفَتْ أَنَّهَا لَمْ تَلِدْهَا قَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي آخِرًا . وَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَا أَصَابَهَا فَوَلَدَتْ بَعْدَ شَهْرَيْنِ : فَهَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ ؟ وَهَلْ يَلْزَمُهُ الصَّدَاقُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ لِلْعُلَمَاءِ فِي الْعَقْدِ " قَوْلَانِ " أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ ؛ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَلَا نِصْفَ مَهْرٍ وَلَا مُتْعَةَ ؛ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ إذَا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ فِيهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا حَاكِمٌ يَرَى فَسَادَ الْعَقْدِ لِقَطْعِ النِّزَاعِ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ ؛ ثُمَّ لَا يَحِلُّ لَهُ الْوَطْءُ حَتَّى تَضَعَ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَ الْوَضْعِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ ،
فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لَكِنَّ هَذَا النِّزَاعَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ وَطْءِ شُبْهَةٍ أَوْ سَيِّدٍ أَوْ زَوْجٍ ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إذَا فَارَقَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَمَّا الْحَامِلُ مِنْ الزِّنَا فَلَا كَلَامَ فِي صِحَّةِ نِكَاحِهَا . وَالنِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ نَكَحَهَا طَائِعًا وَأَمَّا إذَا نَكَحَهَا مُكْرَهًا فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا
بَابُ الْعِدَدِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي الثَّامِنِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ جَاءَهَا مَرَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرِ مِنْ السَّنَةِ وَادَّعَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَلَمْ تَكُنْ حَاضَتْ إلَّا مَرَّةً فَلَمَّا عَلِمَ الزَّوْجُ الثَّانِي طَلَّقَهَا طَلْقَةً وَاحِدَةً ثَانِيًا فِي الْعَشْرِ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ السَّنَةِ ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَزَوَّجَ بِالْمُطَلِّقِ الثَّانِي وَادَّعَتْ أَنَّهَا آيِسَةٌ : فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَهَلْ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْإِيَاسُ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمَرْأَةِ ؛ لَكِنَّ هَذِهِ إذَا قَالَتْ إنَّهُ ارْتَفَعَ لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَإِنَّهَا تُؤَجَّلُ سَنَةً فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فِيهَا زُوِّجَتْ . وَإِذَا طَعَنَتْ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى تَأْجِيلٍ . وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ حَيْضَهَا ارْتَفَعَ بِمَرَضِ أَوْ رَضَاعٍ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ حَتَّى يَزُولَ الْعَارِضُ . فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ كَانَ عَلَيْهَا " عِدَّتَانِ " : عِدَّةٌ لِلْأَوَّلِ وَعِدَّةٌ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي . وَنِكَاحُهُ فَاسِدٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ فَإِذَا لَمْ تَحِضْ إلَّا مَرَّةً وَاسْتَمَرَّ انْقِطَاعُ الدَّمِ
فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ الْعِدَّتَيْنِ بِالشُّهُورِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ فِرَاقِ الثَّانِي إذَا كَانَتْ آيِسَةً . وَإِذَا كَانَتْ مُسْتَرِيبَةً كَانَ سَنَةً وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ . وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا تَتَدَاخَلَانِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَتَدَاخَلُ الْعِدَّتَانِ مِنْ رَجُلَيْنِ ؛ لَكِنَّ عِنْدَهُ الْإِيَاسُ حُدَّ بِالسِّنِّ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ أَحْسَنُ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ وَأَسْهَلُهُمَا وَبِهِ قَضَى عُمَرُ وَغَيْرُهُ . وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَهَذِهِ الْمُسْتَرِيبَةُ تَبْقَى فِي عِدَّةٍ حَتَّى تَطْعَنَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَتَبْقَى عَلَى قَوْلِهِمْ تَمَامَ خَمْسِينَ أَوْ سِتِّينَ سَنَةً لَا تَتَزَوَّجُ . وَلَكِنْ فِي هَذَا عُسْرٌ وَحَرَجٌ فِي الدِّينِ وَتَضْيِيعُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَهَا عِنْدَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ لَمْ تَحِضْ وَذَكَرَتْ أَنَّ لَهَا أَرْبَعَ سِنِينَ قَبْلَ زَوَاجِهَا لَمْ تَحِضْ فَحَصَلَ مِنْ زَوْجِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ : فَكَيْفَ يَكُونُ تَزْوِيجُهَا بِالزَّوْجِ الْآخَرِ ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ الْعِدَّةُ وَعُمْرُهَا خَمْسُونَ سَنَةً .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ " ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ " فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ ؛ فَإِنَّهَا قَدْ عَرَفَتْ أَنَّ حَيْضَهَا قَدْ انْقَطَعَ وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهُ قَدْ انْقَطَعَ انْقِطَاعًا مُسْتَمِرًّا ؛ بِخِلَافِ الْمُسْتَرِيبَةِ الَّتِي لَا تَدْرِي مَا رَفَعَ حَيْضَهَا : هَلْ هُوَ ارْتِفَاعُ
إيَاسٍ ؟ أَوْ ارْتِفَاعٌ لِعَارِضِ ثُمَّ يَعُودُ : كَالْمَرَضِ وَالرَّضَاعِ ؟ فَهَذِهِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " . فَمَا ارْتَفَعَ لِعَارِضِ : كَالْمَرَضِ وَالرَّضَاعِ ؛ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ زَوَالَ الْعَارِضِ بِلَا رَيْبٍ . وَمَتَى ارْتَفَعَ لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ : فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ : أَنَّهَا تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ بَعْدَ أَنْ تَمْكُثَ مُدَّةَ الْحَمْلِ كَمَا قَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهَا تَمْكُثُ حَتَّى تَطْعَنَ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدَّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ . وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَظِيمٌ عَلَيْهَا ؛ فَإِنَّهَا تَمْكُثُ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا تَتَزَوَّجُ . وَمِثْلُ هَذَا الْحَرَجِ مَرْفُوعٌ عَنْ الْأُمَّةِ ؛ وَإِنَّمَا اللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ فَإِنَّهُنَّ يَعْتَدِدْنَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ . لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ : هَلْ لِلْإِيَاسِ سِنٌّ لَا يَكُونُ الدَّمُ بَعْدَهُ إلَّا دَمَ إيَاسٍ ؟ وَهَلْ ذَلِكَ السِّنُّ خَمْسُونَ أَوْ سِتُّونَ ؟ أَوْ فِيهِ تَفْصِيلٌ ؟ وَمُتَنَازِعُونَ : هَلْ يُعْلَمُ الْإِيَاسُ بِدُونِ السِّنِّ ؟ وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ قَدْ طَعَنَتْ فِي سِنِّ الْإِيَاسِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الْخَمْسُونَ وَلَهَا مُدَّةٌ طَوِيلَةٌ لَمْ تَحِضْ وَقَدْ ذَكَرَتْ أَنَّهَا شَرِبَتْ مَا يَقْطَعُ الدَّمَ وَالدَّمُ يَأْتِي بِدَوَاءِ : فَهَذِهِ لَا تَرْجُو عَوْدَ الدَّمِ إلَيْهَا فَهِيَ مِنْ الْآيِسَاتِ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْآيِسَاتِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ فَسَخَ الْحَاكِمُ نِكَاحَهَا عَقِبَ الْوِلَادَةِ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْ تَضَرُّرِهَا بِانْقِطَاعِ نَفَقَةِ زَوْجِهَا وَعَدَمِ تَصَرُّفِهِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهَا الْمُدَّةَ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا فَسْخُ النِّكَاحِ لِمِثْلِهَا . وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ شُهُورٍ مِنْ فَسْخِ النِّكَاحِ رَغِبَ فِيهَا مَنْ يَتَزَوَّجُهَا : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ تَعْتَدَّ بِالشُّهُورِ ؛ إذْ أَكْثَرُ النِّسَاءِ لَا يَحِضْنَ مَعَ الرَّضَاعَةِ أَوْ يَسْتَمِرُّ بِهَا الضَّرَرُ إلَى حَيْثُ يَنْقَضِي الرَّضَاعُ وَيَعُودُ إلَيْهَا حَيْضُهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ تَبْقَى فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الرَّضَاعِ وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَبِذَلِكَ قَضَى عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمَا أَحَدٌ . فَإِنْ أَحَبَّتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَسْتَرْضِعَ لِابْنِهَا مَنْ يُرْضِعُهُ لِتَحِيضَ أَوْ تَشْرَبَ مَا تَحِيضُ بِهِ : فَلَهَا ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ كَانَتْ تَحِيضُ وَهِيَ بِكْرٌ فَلَمَّا تَزَوَّجَتْ وَلَدَتْ سِتَّةَ أَوْلَادٍ وَلَمْ تَحِضْ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ زَوْجِهَا وَهِيَ مُرْضِعٌ وَأَقَامَتْ عِنْدَ أَهْلِهَا
نِصْفَ سَنَةٍ وَلَمْ تَحِضْ وَجَاءَ رَجُلٌ يَتَزَوَّجُهَا غَيْرُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَحَضَرُوا عِنْدَ قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ فَسَأَلَهَا عَنْ الْحَيْضِ ؟ فَقَالَتْ : لِي مُدَّةُ سِنِينَ مَا حِضْت . فَقَالَ الْقَاضِي : مَا يَحِلُّ لَك عِنْدِي زَوَاجٌ فَزَوَّجَهَا حَاكِمٌ آخَرُ وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ الْحَيْضِ فَبَلَغَ خَبَرُهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَاسْتَحْضَرَ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ فَضَرَبَ الرَّجُلَ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَقَالَ : زَنَيْت وَطَلَّقَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ فَهَلْ يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ قَدْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا بِمَرَضِ أَوْ رَضَاعٍ فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ حَتَّى يَزُولَ الْعَارِضُ وَتَحِيضَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِنْ كَانَ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَهَذِهِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالَ عُمَرُ : تَمْكُثُ سَنَةً ثُمَّ تَزَوَّجُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد الْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِهِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ : وَإِنْ كَانَتْ " فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ " فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ وَاَلَّذِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا أَصَابَ فِي ذَلِكَ وَأَصَابَ فِي تَأْدِيبِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ " الْقِسْمِ الثَّانِي " قَدْ زَوَّجَهَا حَاكِمٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحُكَّامِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَقَعْ بِهَا طَلَاقٌ فَإِنَّ فِعْلَ الْحَاكِمِ لِمِثْلِ ذَلِكَ يَجُوزُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ مُرْضِعٍ اسْتَبْطَأَتْ الْحَيْضَ فَتَدَاوَتْ لِمَجِيءِ الْحَيْضِ فَحَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَكَانَتْ مُطَلَّقَةً : فَهَلْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا ؛ أَمْ لَا .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ إذَا أَتَى الْحَيْضُ الْمَعْرُوفُ لِذَلِكَ اعْتَدَّتْ بِهِ . كَمَا أَنَّهَا لَوْ شَرِبَتْ دَوَاءً قَطَعَ الْحَيْضَ أَوْ بَاعَدَ بَيْنَهُ : كَانَ ذَلِكَ طُهْرًا . وَكَمَا لَوْ جَاعَتْ أَوْ تَعِبَتْ ؛ أَوْ أَتَتْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُسَخِّنُ طَبْعَهَا وَتُثِيرُ الدَّمَ فَحَاضَتْ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ شَابَتْ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْإِيَاسِ وَكَانَتْ عَادَتُهَا أَنْ تَحِيضَ فَشَرِبَتْ دَوَاءً فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَاسْتَمَرَّ انْقِطَاعُهُ ؛ ثُمَّ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ : فَهَلْ تَكُونُ عِدَّتُهَا مِنْ حِينِ الطَّلَاقِ بِالشُّهُورِ أَوْ تَتَرَبَّصُ حَتَّى تَبْلُغَ سِنَّ الْآيِسَاتِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ الدَّمَ [ لَا ] (1) يَأْتِي فِيمَا بَعْدُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ . وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَعُودَ الدَّمُ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَعُودَ فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ بَعْدَ سَنَةٍ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي الْمَرْأَةِ يَرْتَفِعُ حَيْضُهَا لَا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ ؛ فَإِنَّهَا تَتَرَبَّصُ سَنَةً وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا تَدْخُلُ فِي سِنِّ الْآيِسَاتِ : فَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِمِثْلِهِ ؛ أَوْ تُمْنَعُ مِنْ النِّكَاحِ وَقْتَ حَاجَتِهَا إلَيْهِ وَيُؤْذَنُ لَهَا فِيهِ حِينَ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ مَرِضَ مَرَضًا مُتَّصِلًا بِمَوْتِهِ وَلَهُ زَوْجَةٌ فَأَمَرَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ دَاخِلِ الدَّارِ إلَى خَارِجِهَا فَتَوَقَّفَتْ عَنْ الْخُرُوجِ فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ . فَخَرَجَتْ وَحَجَبَتْ وَجْهَهَا عَنْهُ فَطَلَبَهَا فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ مُحْتَجِبَةً فَسَأَلَهَا عَنْ احْتِجَابِهَا لِمَا هُوَ ؟ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَوْقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ ؛ فَأَنْكَرَ وَقَالَ : مَا حَلَفْت وَلَا طَلَّقْت وَمَاتَ بَعْدَ أَيَّامٍ : فَهَلْ يَلْزَمُهَا الطَّلَاقُ ؟ أَمْ عِدَّةُ الْوَفَاةِ ؟
فَأَجَابَ :
عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ مَعَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ ؛ وَلَهَا الْمِيرَاثُ . هَذَا إنْ كَانَ عَقْلُهُ حَاضِرًا حِينَ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ ؛ وَإِنْ كَانَ عَقْلُهُ غَائِبًا لَمْ يَلْزَمْهَا إلَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ مُدَّةِ ثَلَاثِ سِنِينَ وَرُزِقَ مِنْهَا وَلَدًا لَهُ مِنْ الْعُمْرِ سَنَتَانِ وَذَكَرَتْ أَنَّهَا لَمَّا تَزَوَّجَتْ لَمْ تَحِضْ إلَّا حَيْضَتَيْنِ وَصَدَّقَهَا الزَّوْجُ وَكَانَ قَدْ طَلَّقَهَا ثَانِيًا عَلَى هَذَا الْعَقْدِ الْمَذْكُورِ : فَهَلْ يَجُوزُ الطَّلَاقُ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ الْمَفْسُوخِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِي كَوْنِهَا تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يُفَارِقَهَا . وَعَلَيْهَا أَنْ تُكْمِلَ عِدَّةَ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَعْتَدَّ مِنْ وَطْءِ الثَّانِي . فَإِنْ كَانَتْ حَاضَتْ الثَّالِثَةَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَهَا الثَّانِي فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّةُ الْأَوَّلِ ؛ ثُمَّ إذَا فَارَقَهَا الثَّانِي اعْتَدَّتْ لَهُ ثَلَاثَ حِيَضٍ ثُمَّ تَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ بِنِكَاحِ جَدِيدٍ . وَوَلَدُهُ وَلَدُ حَلَالٍ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ وُلِدَ بِوَطْءِ فِي عَقْدٍ فَاسِدٍ لَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ
فَصْلٌ : الْمُعْتَدَّةُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ
تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَتَجْتَنِبُ الزِّينَةَ وَالطِّيبَ فِي بَدَنِهَا وَثِيَابِهَا وَلَا تَتَزَيَّنُ وَلَا تَتَطَيَّبُ وَلَا تَلْبَسُ ثِيَابَ الزِّينَةِ وَتَلْزَمُ مَنْزِلَهَا فَلَا تَخْرُجُ بِالنَّهَارِ إلَّا لِحَاجَةِ وَلَا بِاللَّيْلِ إلَّا لِضَرُورَةِ وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ : كَالْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ : لَحْمِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَلَهَا أَكْلُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ شُرْبُ مَا يُبَاحُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ ثِيَابَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ ؛ وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَصْنَعَ ثِيَابًا بَيْضَاءَ أَوْ غَيْرَ بِيضٍ لِلْعِدَّةِ ؛ بَلْ يَجُوزُ لَهَا لُبْسُ الْمُقَفَّصِ ؛ لَكِنْ لَا تَلْبَسُ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ الْمَرْأَةُ : مِثْلَ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَخْضَرِ الصَّافِي وَالْأَزْرَقِ الصَّافِي وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا تَلْبَسُ الْحُلِيَّ مِثْلَ الْأَسْوِرَةِ وَالْخَلَاخِلِ والقلايد وَلَا تَخْتَضِبُ بِحِنَّاءِ وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا عَمَلُ شُغْلٍ مِنْ الْأَشْغَالِ الْمُبَاحَةِ : مِثْلَ التَّطْرِيزِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْغَزْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَفْعَلُهُ النِّسَاءُ .
وَيَجُوزُ لَهَا سَائِرُ مَا يُبَاحُ لَهَا فِي غَيْرِ الْعِدَّةِ : مِثْلَ كَلَامِ مَنْ تَحْتَاجُ إلَى كَلَامِهِ مِنْ الرِّجَالِ إذَا كَانَتْ مُسْتَتِرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْته هُوَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ نِسَاءُ الصَّحَابَةِ إذَا مَاتَ أَزْوَاجُهُنَّ وَنِسَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بِغَيْرِهِ أَبَدًا لَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا بَعْدَهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِنَّ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ احْتِرَامُهُنَّ كَمَا يَحْتَرِمُ الرَّجُلُ أُمَّهُ ؛ لَكِنْ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ مَحْرَمٍ يَخْلُو بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَلَا يُسَافِرُ بِهَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُعْتَدَّةٍ عِدَّةَ وَفَاةٍ ؛ وَلَمْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِهَا بَلْ تَخْرُجُ فِي ضَرُورَتِهَا الشَّرْعِيَّةِ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا إعَادَةُ الْعِدَّةِ ؟ وَهَلْ تَأْثَمُ بِذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْعِدَّةُ انْقَضَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ وَلَا تَقْضِي الْعِدَّةَ . فَإِنْ كَانَتْ خَرَجَتْ لِأَمْرِ يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَمْ تَبِتْ إلَّا فِي مَنْزِلِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا . وَإِنْ كَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَبَاتَتْ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا لِغَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ بَاتَتْ فِي غَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ تَرَكَتْ الْإِحْدَادَ : فَلْتَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَتَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تُوُفِّيَ وَقَعَدَتْ زَوْجَتُهُ فِي عِدَّتِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ؛ فَمَا قَدَرَتْ تُخَالِفُ مَرْسُومَ السُّلْطَانِ ؛ ثُمَّ سَافَرَتْ وَحَضَرَتْ إلَى الْقَاهِرَةِ وَلَمْ تَتَزَيَّنْ لَا بِطِيبٍ ؛ وَلَا غَيْرِهِ : فَهَلْ تَجُوزُ خِطْبَتُهَا ؛ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْعِدَّةُ تَنْقَضِي بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مِنْ هَذِهِ شَيْءٌ فَلْتُتِمَّهُ فِي بَيْتِهَا وَلَا تَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا إلَّا لِأَمْرِ ضَرُورِيٍّ ؛ وَتَجْتَنِبُ الزِّينَةَ وَالطِّيبَ فِي بَدَنِهَا وَثِيَابِهَا . وَلْتَأْكُلْ مَا شَاءَتْ مِنْ حَلَالٍ وَتَشُمَّ الْفَاكِهَةَ وَتَجْتَمِعْ بِمَنْ يَجُوزُ لَهَا الِاجْتِمَاعُ بِهِ فِي غَيْرِ الْعِدَّةِ ؛ لَكِنْ إنْ خَطَبَهَا إنْسَانٌ لَا تُجِيبُهُ صَرِيحًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ عَزَمَتْ عَلَى الْحَجِّ هِيَ وَزَوْجُهَا فَمَاتَ زَوْجُهَا فِي شَعْبَانَ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَحُجَّ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ فِي الْعِدَّةِ عَنْ الْوَفَاةِ إلَى الْحَجِّ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
بَابُ الِاسْتِبْرَاءِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً ؛ ثُمَّ بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثُمَّ بَاعَهَا بَعْدَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ : فَهَلْ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ الثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ؟
فَأَجَابَ :
لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ } وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ عِنْدَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَبِيعَهَا الْوَاطِئُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا . وَهَلْ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ وَعَلَى الْمُشْتَرِي اسْتِبْرَاءٌ ؟ أَوْ اسْتِبْرَاءَانِ ؟ أَوْ يَكْفِيهِمَا اسْتِبْرَاءٌ وَاحِدٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الرَّضَاعِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ " فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَفِي لَفْظٍ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ } وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا أَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ . فَإِذَا ارْتَضَعَ الطِّفْلُ مِنْ امْرَأَةٍ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ قَبْلَ الْفِطَامِ صَارَ وَلَدَهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَصَارَ الرَّجُلُ الَّذِي دَرَّ اللَّبَنَ بِوَطْئِهِ أَبًا لِهَذَا الْمُرْتَضِعِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ وَهَذَا يُسَمَّى " لَبَنُ الْفَحْلِ " وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ قَدْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ وَكَانَ لَهَا زَوْجٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو الْقُعَيْسِ فَجَاءَ أَخُوهُ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا فَأَبَتْ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ حَتَّى سَأَلَتْ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا : إيذني لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّك فَقَالَتْ عَائِشَةُ : إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ ؛ وَلَمْ يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ فَقَالَ : إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك } . وَقَالَ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } . وَإِذَا صَارَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالِدَيْ الْمُرْتَضِعِ صَارَ كُلٌّ مِنْ أَوْلَادِهِمَا إخْوَةَ الْمُرْضَعِ ؛ سَوَاءٌ كَانُوا مِنْ الْأَبِ فَقَطْ أَوْ مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْهُمَا أَوْ كَانُوا أَوْلَادًا لَهُمَا مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَصِيرُونَ إخْوَةً لِهَذَا الْمُرْتَضِعِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ لِرَجُلِ امْرَأَتَانِ فَأَرْضَعَتْ هَذِهِ طِفْلًا وَهَذِهِ طِفْلَةً : كَانَا أَخَوَيْنِ ؛ وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا التَّزَوُّجُ بِالْآخَرِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " سُئِلَ عَنْهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ : اللِّقَاحُ وَاحِدٌ يَعْنِي الرَّجُلُ الَّذِي وَطِئَ الْمَرْأَتَيْنِ حَتَّى دَرَّ اللَّبَنَ وَاحِدٌ . وَلَا فَرْقَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ أَوْلَادِ الْمَرْأَةِ الَّذِينَ رَضَعُوا مَعَ الطِّفْلِ وَبَيْنَ مَنْ وُلِدَ لَهَا قَبْلَ الرَّضَاعَةِ وَبَعْدَ الرَّضَاعَةِ : بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ مَنْ رَضَعَ مَعَهُ : هُوَ ضَلَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى اسْتِحْلَالِ ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ كَمَا يُسْتَتَابُ سَائِرُ مَنْ أَبَاحَ الْإِخْوَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَجَمِيعُ " أَقَارِبِ الْمَرْأَةِ أَقَارِبُ لِلْمُرْتَضِعِ مِنْ الرَّضَاعَةِ " أَوْلَادُهَا إخْوَتُهُ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهَا أَوْلَادُ إخْوَتِهِ وَآبَاؤُهَا وَأُمَّهَاتُهَا
أَجْدَادُهُ وَإِخْوَتُهَا وَأَخَوَاتُهَا أَخْوَالُهُ وَخَالَاتُهُ : وَكُلُّ هَؤُلَاءِ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا " بَنَاتُ أَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ " فَحَلَالٌ كَمَا يَحِلُّ ذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ ؛ وَأَقَارِبُ الرَّجُلِ أَقَارِبُهُ مِنْ الرَّضَاعِ : أَوْلَادُ إخْوَتِهِ وَأَوْلَادُهُمْ أَوْلَادُ إخْوَتِهِ . وَإِخْوَتُهُ أَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ وَهُنَّ حَرَامٌ عَلَيْهِ . وَحَلَّ لَهُ بَنَاتُ عَمِّهِ وَبَنَاتُ عَمَّاتِهِ . وَأَوْلَادُ الْمُرْتَضِعِ بِمَنْزِلَتِهِ كَمَا أَنَّ أَوْلَادَ الْمَوْلُودِ بِمُنْزِلَتِهِ فَلَيْسَ لِأَوْلَادِهِ مِنْ النَّسَبِ وَالرَّضَاعِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا إخْوَتَهُ وَلَا إخْوَةَ أَبِيهِ لَا مِنْ نَسَبٍ وَلَا رَضَاعٍ لِأَنَّهُمْ أَعْمَامُهُمْ وَعَمَّاتُهُمْ وَأَخْوَالُهُمْ وَخَالَاتُهُمْ . وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ غَيْرِ رَضَاعِ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ فَهُمْ أَجَانِبُ مِنْهَا وَمِنْ أَقَارِبِهَا فَيَجُوزُ لِإِخْوَةِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَوْلَادَ الْمُرْضِعَةِ ؛ كَمَا إذَا كَانَ أَخٌ لِلرَّجُلِ مِنْ أَبِيهِ وَأُخْتٌ مِنْ أُمِّهِ . وَبِالْعَكْسِ : جَازَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ؛ وَهُوَ نَفْسُهُ لَا يَتَزَوَّجُ وَاحِدًا مِنْهُمَا : فَكَذَلِكَ الْمُرْتَضِعُ هُوَ نَفْسُهُ لَا يَتَزَوَّجُ وَاحِدًا مِنْ أَوْلَادِ مُرْضِعِهِ ؛ وَلَا أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ وَالِدَيْهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إخْوَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ ؛ وَهَؤُلَاءِ إخْوَتُهُ مِنْ النَّسَبِ . وَيَجُوزُ لِإِخْوَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا إخْوَتَهُ مِنْ النَّسَبِ كَمَا يَجُوزُ لِإِخْوَتِهِ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا إخْوَتَهُ مِنْ أُمِّهِ . وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
وَلَكِنْ بَعْضُ الْمُنْتَصِبِينَ لِلْفُتْيَا قَدْ يُغَلِّظُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ لِالْتِبَاسِ أَمْرِهَا عَلَى الْمُسْتَفْتِينَ وَلَا يَذْكُرُونَ مَا يُسْأَلُونَ عَنْهُ بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : اثْنَانِ تَرَاضَعَا : هَلْ يَتَزَوَّجُ هَذَا بِأُخْتِ هَذَا ؟ وَهَذَا سُؤَالٌ مُجْمَلٌ . فَالْمُرْتَضِعُ نَفْسُهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ أَخَوَاتِ الْآخَرِ اللَّاتِي هُنَّ مِنْ أُمِّهِ الَّتِي أَرْضَعَتْ ؛ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَخَوَاتٌ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْأُمِّ فَهُنَّ أَجَانِبُ مِنْ الْمُرْتَضِعِ فَلِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْهُنَّ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : طِفْلٌ وَطِفْلَةٌ تَرَاضَعَا أَوْ طِفْلَانِ تَرَاضَعَا : هَلْ يَحِلُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِإِخْوَةِ الْآخَرِ وَيَتَزَوَّجَ الْأَخَوَاتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ ؟ فَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ إخْوَةَ كُلٍّ مِنْ الْمُتَرَاضِعَيْنِ لَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَخَوَاتِ الْآخَرِ ؛ إذَا لَمْ يَرْتَضِعْ الْخَاطِبُ مِنْ أُمِّ الْمَخْطُوبَةِ وَلَا الْمَخْطُوبَةُ مِنْ أُمِّ الْخَاطِبِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَأَمَّا الْمُتَرَاضِعَانِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ شَيْئًا مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ هَذَا بِأَحَدِ مِنْ إخْوَةِ الْآخَرِ مِنْ الْأُمِّ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ أَوْ مِنْ الْأَبِ صَاحِبِ اللَّبَنِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ إخْوَةِ الْآخَرِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَوْلَادِ أَبَوَيْهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ . فَهَذَا جَوَابُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ . فَإِنَّ الرَّضِيعَ : إمَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ إخْوَةِ الْمُرْتَضِعِ الْآخَرِ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ أَوْ الرَّجُلِ وَإِمَّا أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ إخْوَةِ الْمُرْتَضِعِ الْآخَرِ مِنْ النَّسَبِ أَوْ مِنْ رَضَاعَةٍ أُخْرَى . وَإِخْوَةُ الرَّضِيعِ إمَّا أَنْ يَتَزَوَّجُوا مِنْ هَؤُلَاءِ وَإِمَّا مِنْ هَؤُلَاءِ وَإِمَّا مِنْ هَؤُلَاءِ . فَإِخْوَةُ الرَّضِيعِ لَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا الْجَمِيعَ : أَوْلَادُ الْمُرْضِعَةِ
وَزَوْجِهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ . وَلِإِخْوَةِ هَذَا أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِإِخْوَةِ هَذَا ؛ بَلْ لأب هَذَا مِنْ النَّسَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَه مِنْ الرَّضَاعِ . وَأَمَّا أَوْلَادُ الْمُرْضِعَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ أَحَدٌ مِنْهُنَّ الْمُرْتَضِعَ ؛ وَلَا أَوْلَادَهُ ؛ وَلَا يَتَزَوَّجُ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ ؛ لَا مِنْ نَسَبٍ ؛ وَلَا مِنْ رَضَاعٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ : إمَّا عَمًّا وَإِمَّا خَالًا . وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . " ثُمَّ الرَّضَاعُ الْمُحَرَّمُ " فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد " أَحَدُهَا " أَنَّهُ يَحْرُمُ كَثِيرُهُ وَقَلِيلُهُ . وَهِيَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِإِطْلَاقِ الْقُرْآنِ . " وَالثَّانِي " لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ وَيُحَرِّمُ مَا فَوْقَ ذَلِكَ . وَهُوَ مَذْهَبُ طَائِفَةٍ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ } " وَرُوِيَ " { الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ } " وَرُوِيَ { الإملاجة ؛ والإملاجتان } " فَنَفَى التَّحْرِيمَ عَنْهُمَا وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ . " وَالثَّالِثُ " أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد لِحَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ . حَدِيثِ عَائِشَةَ : { إنَّ مِمَّا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نسخن بِخَمْسِ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ } وَلِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ؛ لِيَصِيرَ مَحْرَمًا لَهَا بِذَلِكَ .
وَعَلَى هَذَا فَالرَّضْعَةُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَيْسَتْ هِيَ الشِّبْعَةُ وَهُوَ أَنْ يَلْتَقِمَ الثَّدْيَ ثُمَّ يسيبه ثُمَّ يَلْتَقِمَهُ ثُمَّ يسيبه حَتَّى يَشْبَعَ بَلْ إذَا أَخَذَ الثَّدْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَهِيَ رَضْعَةٌ سَوَاءٌ شَبِعَ بِهَا أَوْ لَمْ يَشْبَعْ إلَّا بِرَضَعَاتِ فَإِذَا الْتَقَمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَضَعَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَرَضْعَةٌ أُخْرَى وَإِنْ تَرَكَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ثُمَّ عَادَ قَرِيبًا فَفِيهِ نِزَاعٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
مَا الَّذِي يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ ؟ وَمَا الَّذِي لَا يَحْرُمُ ؟ وَمَا دَلِيلُ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " { أَنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } . وَلْتُبَيِّنُوا جَمِيعَ التَّحْرِيمِ مِنْهُ ؟ وَهَلْ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ اخْتِلَافٌ ؟ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ اخْتِلَافٌ فَمَا هُوَ الصَّوَابُ وَالرَّاجِحُ فِيهِ ؟ وَهَلْ حُكْمُ رَضَاعِ الصَّبِيِّ الْكَبِيرِ الَّذِي دُونَ الْبُلُوغِ أَوْ الَّذِي يَبْلُغُ حُكْمُهُ حُكْمَ الصَّغِيرِ الرَّضِيعِ ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النِّسْوَةِ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ خَمْسَ سِنِينَ ؛ وَأَكْثَرَ وَأَقَلَّ ؟ وَهَلْ يَقَعُ تَحْرِيمٌ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ الْمُتَزَوِّجَيْنِ بِرِضَاعِ بَعْضِ قَرَابَاتِهِمْ لِبَعْضِ ؟ وَبَيِّنُوهُ بَيَانًا شَافِيًا ؟
الْجَوَابُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، حَدِيثُ عَائِشَةَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ وَهُوَ مُتَلَقًّى بِالْقَبُولِ ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ اتَّفَقُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَلَفْظُهُ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ
النَّسَبِ } " وَالثَّانِي : " { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ } " : وَقَدْ اسْتَثْنَى بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُسْتَأْخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ صُورَتَيْنِ ؛ وَبَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا خَطَأٌ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُحْتَاجُ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ الْحَدِيثِ شَيْءٌ . وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ فَنَقُولُ . إذَا ارْتَضَعَ الرَّضِيعُ مِنْ الْمَرْأَةِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَتْ الْمَرْأَةُ أُمَّهُ وَصَارَ زَوْجُهَا الَّذِي جَاءَ اللَّبَنُ بِوَطْئِهِ أَبَاهُ فَصَارَ ابْنًا لِكُلِّ مِنْهُمَا مِنْ الرَّضَاعَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ جَمِيعُ أَوْلَادِ الْمَرْأَةِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَمِنْ غَيْرِهِ وَجَمِيعُ أَوْلَادِ الرَّجُلِ مِنْهَا وَمِنْ غَيْرِهَا إخْوَةً لَهُ سَوَاءٌ وُلِدُوا قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِذَا كَانَ أَوْلَادُهُمَا إخْوَتَهُ كَانَ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمَا أَوْلَادَ إخْوَتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِهِمَا وَلَا أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمَا ؛ فَإِنَّهُمْ : إمَّا إخْوَتُهُ وَإِمَّا أَوْلَادُ إخْوَتِهِ وَذَلِكَ يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ . وَإِخْوَةُ الْمَرْأَةِ وَأَخَوَاتُهَا أَخْوَالُهُ وَخَالَاتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَأَبُوهَا وَأُمُّهَا أَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ إخْوَتِهَا . وَلَا مِنْ أَخَوَاتِهَا وَإِخْوَةُ الرَّجُلِ أَعْمَامُهُ وَعَمَّاتُهُ . وَأَبُو الرَّجُلِ وَأُمَّهَاتُهُ أَجْدَادُهُ وَجَدَّاتُهُ ؛ فَلَا يَتَزَوَّجُ بِأَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ وَلَا بِأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ ؛ لَكِنْ يَتَزَوَّجُ بِأَوْلَادِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ أَقَارِبِ الرَّجُلِ حَرَامٌ عَلَيْهِ ؛ أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ ؛ وَأَوْلَادُ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } فَهَؤُلَاءِ " الْأَصْنَافُ الْأَرْبَعَةُ " هِيَ الْمُبَاحَاتُ مِنْ الْأَقَارِبِ فيبحن مِنْ الرَّضَاعَةِ . وَإِذَا كَانَ الْمُرْتَضِعُ ابْنًا لِلْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا فَأَوْلَادُهُ أَوْلَادُ أَوْلَادِهِمَا وَيَحْرُمُ عَلَى أَوْلَادِهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْأَوْلَادِ مِنْ النَّسَبِ . فَهَذِهِ الْجِهَاتُ الثَّلَاثُ مِنْهَا تَنْتَشِرُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ . وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ ؛ وَأَبُوهُ مِنْ النَّسَبِ وَأُمُّهُ مِنْ النَّسَبِ : فَهُمْ أَجَانِبُ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَإِخْوَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ ؛ لَيْسَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ صِلَةٌ وَلَا نَسَبٌ وَلَا رَضَاعٌ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَخٌ مِنْ أَبِيهِ وَأَخٌ مِنْ أُمِّهِ وَلَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا ؛ بَلْ يَجُوزُ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ أَنْ يَتَزَّوَجَ أخْتَهُ مِنْ أُمِّهِ ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَخٌ مِنْ النَّسَبِ وَأُخْتٌ مِنْ الرَّضَاعِ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِهَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذَا وَلِهَذَا أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذَا . وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ بِأُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ كَمَا يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ . وَيَجُوزُ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَه مِنْ الرَّضَاعَةِ وَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي النَّسَبِ ؛ فَإِنَّ أخ الرَّجُلِ مِنْ النَّسَبِ لَا يَتَزَوَّجُ بِأُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ . وَأُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لَيْسَتْ بِنْتَ أَبِيهِ مِنْ النَّسَبِ وَلَا رَبِيبَتَهُ فَلِهَذَا جَازَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ .
فَيَقُولُ مَنْ لَا يُحَقِّقُ : يَحْرُمُ فِي النَّسَبِ عَلَى أَخِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمِّي وَلَا يَحْرُمُ مِثْلُ هَذَا فِي الرَّضَاعِ . وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ نَظِيرَ الْمُحَرَّمِ مِنْ النَّسَبِ أَنْ تَتَزَوَّجَ أُخْتُهُ أَوْ أَخُوهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ بِابْنِ هَذَا الْأَخِ أَوْ بِأُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ كَمَا لَوْ ارْتَضَعَ هُوَ وَآخَرُ مِنْ امْرَأَةٍ وَاللَّبَنُ لِفَحْلِ ؛ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ أَخَاهُ وَأُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ لِكَوْنِهِمَا أَخَوَيْنِ لِلْمُرْتَضِعِ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَا أَبَاهُ وَأُمَّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ لِكَوْنِهِمَا وَلَدَيْهِمَا مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ لَا لِكَوْنِهِمَا أَخَوَيْ وَلَدَيْهِمَا . فَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَنَحْوَهُ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ . وَأَمَّا " رَضَاعُ الْكَبِيرِ " فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ لَا يَحْرُمُ إلَّا رَضَاعُ الصَّغِيرِ كَاَلَّذِي رَضَعَ فِي الْحَوْلَيْنِ . وَفِيمَنْ رَضَعَ قَرِيبًا مِنْ الْحَوْلَيْنِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ؛ لَكِنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ . فَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ فَلَا يَحْرُمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِرَضَاعِ القرايب : مِثْلَ أَنْ تُرْضِعَ زَوْجَتُهُ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ : فَهُنَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِاَلَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ ؛ إذْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا صِلَةُ نَسَبٍ وَلَا رَضَاعٍ ؛ وَإِنَّمَا حَرُمَتْ عَلَى أَخِيهِ لِأَنَّهَا أُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَيْسَتْ أُمَّ نَفْسِهِ مِنْ الرَّضَاعِ . وَأُمُّ الْمُرْتَضِعِ مِنْ الرَّضَاعِ لَا تَكُونُ أُمًّا لِإِخْوَتِهِ مِنْ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا أَرْضَعَتْ الرَّضِيعَ وَلَمْ تُرْضِعْ غَيْرَهُ . نَعَمْ :
لَوْ كَانَ لِلرَّجُلِ نِسْوَةٌ يَطَأَهُنَّ وَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ طِفْلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ ذَلِكَ قَالَ : اللِّقَاحُ وَاحِدٌ . وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي الْقُعَيْسِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ . وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهَا أُمُّهُ أَوْ امْرَأَةُ أَبِيهِ ؛ وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ عَلَيْهِ . وَأَمَّا أُمُّ أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَلَيْسَتْ أُمَّهُ وَلَا امْرَأَةَ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّ زَوْجَهَا صَاحِبَ اللَّبَنِ لَيْسَ أَبًا لِهَذَا ؛ لَا مِنْ النَّسَبِ وَلَا مِنْ الرَّضَاعَةِ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } " وَأُمُّ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ حَرَامٌ فَكَذَلِكَ مِنْ الرَّضَاعِ . قُلْنَا : هَذَا تَلْبِيسٌ وَتَدْلِيسٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُ أَخَوَاتِكُمْ ؛ وَإِنَّمَا قَالَ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } فَحَرَّمَ عَلَى الرَّجُلِ أُمَّهُ وَمَنْكُوحَةَ أَبِيهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ . وَهَذِهِ تَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ أُمَّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ . وَأَمَّا مَنْكُوحَةُ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعِ فَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهَا تَحْرُمُ ؛ لَكِنْ فِيهَا نِزَاعٌ لِكَوْنِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ بِالصِّهْرِ ؛ لَا بِالنَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ . وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِي تَحْرِيمِهَا فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ : تَحْرُمُ مَنْكُوحَةُ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَفَّيْنَا بِعُمُومِ الْحَدِيثِ . وَأَمَّا أُمُّ أَخِيهِ الَّتِي لَيْسَتْ أُمًّا وَلَا مَنْكُوحَةَ أَب : فَهَذِهِ لَا تُوجَدُ فِي
النَّسَبِ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : تَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ فَلَا يَحْرُمُ نَظِيرُهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَتَبْقَى أُمُّ الْأُمِّ مِنْ النَّسَبِ لِأَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ الْأُمُّ مِنْ الرَّضَاعَةِ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ : لَا نَظِيرَ لَهَا مِنْ الْوِلَادَةِ فَلَا تَحْرُمُ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ طِفْلٍ ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ مَعَ وَلَدِهَا رَضْعَةً أَوْ بَعْضَ رَضْعَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِرَجُلِ آخَرَ فَرُزِقَتْ مِنْهُ ابْنَةً : فَهَلْ يَحِلُّ لِلطِّفْلِ الْمُرْتَضِعِ تَزْوِيجُ الِابْنَةِ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ أَمْ لَا ؟ وَمَا دَلِيلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ " الْمَصَّةَ الْوَاحِدَةَ " أَوْ " الرَّضْعَةَ الْوَاحِدَةَ " تُحَرِّمُ ؛ مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ : مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ } " وَمِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُحَرِّمُ الإملاجة وَلَا الإملاجتان } " وَمِنْهَا " { أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ ؟ قَالَ : لَا } " وَمِنْهَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ نُسِخَتْ بِخَمْسِ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ } وَمَا حُجَّتُهُمَا مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَا يُحَرِّمُ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ وَحَدِيثِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لَمَّا { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عتبة بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنْ تُرْضِعَهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ } وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا فَيَكُونُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُحَرِّمْ فَيَحْتَاجُ إلَى خَمْسِ رَضَعَاتٍ . وَقِيلَ يُحَرِّمُ الثَّلَاثُ فَصَاعِدًا وَهُوَ قَوْلُ " طَائِفَةٍ " مِنْهُمْ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحِ : { لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الإملاجة وَلَا الإملاجتان } " قَالُوا : مَفْهُومُهُ أَنَّ الثَّلَاثَ تُحَرِّمُ وَلَمْ يَحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قُرْآنٌ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ وَلَيْسَ هَذَا بِمُتَوَاتِرِ . فَقَالَ لَهُمْ الْأَوَّلُونَ : مَعَنَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ مُثْبِتَانِ . أَحَدُهُمَا يَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ حُكْمًا وَكَوْنَهُ قُرْآنًا . فَمَا ثَبَتَ مِنْ الْحُكْمِ يَثْبُتُ بِالْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ . وَأَمَّا مَا فِيهِ مِنْ كَوْنِهِ قُرْآنًا فَهَذَا لَمْ نُثْبِتْهُ وَلَمْ نَتَصَوَّرْ أَنَّ ذَلِكَ قُرْآنٌ ؛ إنَّمَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ . فَقَالَ أُولَئِكَ : هَذَا تَنَاقُضٌ وَقِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ؛ فَإِنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ كَقِرَاءَةِ
ابْنِ مَسْعُودٍ : فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ . وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ هَذَا فِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ صَحِيحٌ وَأَيْضًا فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ بَقِيَ قُرْآنٌ لَكِنْ بَقِيَ حُكْمُهُ . و " الثَّانِي " أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ بَلْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ إذَا صَحَّ النَّقْلُ بِهَا عَنْ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يُحَرِّمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ؛ وَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَهَؤُلَاءِ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ } وَقَالَ اسْمُ " الرَّضَاعَةِ " فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقٌ . وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَتَقْيِيدُ مُطْلَقِهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ . فَقَالَ " الْأَوَّلُونَ " : هَذِهِ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَكَوْنُهَا لَمْ تَبْلُغْ بَعْضَ السَّلَفِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ صِحَّتَهَا . وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : فَكَمَا أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِدَلِيلِ آخَرَ أَنَّ الرَّضَاعَةَ مُقَيَّدَةٌ بِسِنِّ مَخْصُوصٍ فَكَذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِقَدْرِ مَخْصُوصٍ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ عُلِمَ بِالسُّنَّةِ مِقْدَارُ الْفِدْيَةِ فِي قَوْلِهِ : { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ خَبَرًا وَاحِدًا ؛ بَلْ كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ " { أَنَّهُ لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا
وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا } وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؛ وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ . وَكَذَلِكَ فُسِّرَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَغَيْرِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِحَمْلِ قَوْلِهِ { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . وَفُسِّرَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أُمُورٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ : مَا هُوَ مُطْلَقٌ مِنْ الْقُرْآنِ . فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ . وَالتَّقْيِيدُ " بِالْخَمْسِ " لَهُ أُصُولٌ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ وَالصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ خَمْسٌ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ صَدَقَةٌ وَالْأَوْقَاصُ بَيْنَ النَّصْبِ خَمْسٌ أَوْ عَشْرٌ أَوْ خَمْسُ عَشَرَةٍ وَأَنْوَاعُ الْبِرِّ خَمْسٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } وَقَالَ فِي الْكُفْرِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَأُولُو الْعَزْمِ ؛ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ بِقَدْرِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ لَيْسَ بِغَرِيبِ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ . وَالرَّضَاعُ إذَا حَرَّمَ لِكَوْنِهِ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِزُ الْعَظْمَ فَيَصِيرُ نَبَاتُهُ بِهِ كَنَبَاتِهِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَحْرُمْ رَضَاعُ الْكَبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَالرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا كَمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ مَا دُون نِصَابِ السَّرِقَةِ حَتَّى لَا تُقْطَعَ الْأَيْدِي بِشَيْءِ مِنْ التَّافِهِ ؛ وَاعْتِبَارُهُ فِي نِصَابِ الزَّكَاةِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ إذَا كَانَ أَقَلَّ . وَلَا بُدَّ مِنْ حَدٍّ فَاصِلٍ . فَهَذَا هُوَ
التَّنْبِيهُ عَلَى مَأْخَذِ الْأَئِمَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِيهَا يَحْتَاجُ إلَى وَرَقَةٍ أَكْبَرَ مِنْ هَذِهِ ؛ وَهِيَ مِنْ أَشْهَرِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ . وَالنِّزَاعُ فِيهَا مِنْ زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَنَازَعُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّابِعُونَ بَعْدَهُمْ . وَأَمَّا إذَا شُكَّ : هَلْ دَخَلَ اللَّبَنُ فِي جَوْفِ الصَّبِيِّ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ ؟ فَهُنَا لَا نَحْكُمُ بِالتَّحْرِيمِ بِلَا رَيْبٍ . وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ حَصَلَ فِي فَمِهِ فَإِنَّ حُصُولَ اللَّبَنِ فِي الْفَمِ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ أُخْتَيْنِ وَلَهُمَا بَنَاتٌ وَبَنِينَ فَإِذَا أَرْضَعَ الْأُخْتَانِ : هَذِهِ بَنَاتَ هَذِهِ وَهَذِهِ بَنَاتَ هَذِهِ : فَهَلْ يَحْرُمْنَ عَلَى الْبَنِينَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا أَرْضَعَتْ الْمَرْأَةُ الطِّفْلَةَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَتْ بِنْتًا لَهَا ؛ فَصَارَ جَمِيعُ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ إخْوَةً لِهَذِهِ الْمُرْتَضِعَةِ : ذُكُورُهُمْ ؛ وَإِنَاثُهُمْ مَنْ وُلِدَ قَبْلَ الرَّضَاعِ ؛ وَمَنْ وُلِدَ بَعْدَهُ . فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْتَضِعَةَ ؛ بَلْ يَجُوزُ لِإِخْوَةِ الْمُرْتَضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِأَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ الَّذِينَ لَمْ يَرْتَضِعُوا مِنْ أُمِّهِنَّ . فَالتَّحْرِيمُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْمُرْتَضِعَةِ ؛ لَا عَلَى
إخْوَتِهَا الَّذِينَ لَمْ يَرْتَضِعُوا . فَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُخْتِهِ إذَا كَانَ هُوَ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ أُمِّهَا وَهِيَ لَمْ تَرْضَعْ مِنْ أُمِّهِ . وَأَمَّا هَذِهِ الْمُرْتَضِعَةُ فَلَا تَتَزَوَّجُ وَاحِدًا مِنْ أَوْلَادِ مَنْ أَرْضَعَتْهَا . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْمُرْتَضِعَةَ تَصِيرُ الْمُرْضِعَةُ أُمَّهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَوْلَادُهَا وَتَصِيرُ إخْوَتُهَا وَأَخَوَاتُهَا وَأَخْوَالُهَا وَخَالَاتُهَا وَيَصِيرُ الرَّجُلُ الَّذِي لَهُ اللَّبَنُ أَبَاهَا وَأَوْلَادُهُ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَغَيْرِهَا إخْوَتَهَا وَإِخْوَةُ الرَّجُلِ أَعْمَامَهَا وَعَمَّاتِهَا وَيَصِيرُ الْمُرْتَضِعُ وَأَوْلَادُهُ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِ أَوْلَادَ الْمُرْضِعَةِ وَالرَّجُلِ الَّذِي دَرَّ اللَّبَنَ بِوَطْئِهِ . وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ وَأَخَوَاتُهُ وَأَبُوهُ وَأُمُّهُ مِنْ النَّسَبِ فَهُمْ أَجَانِبُ ؛ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الرَّضَاعِ شَيْءٌ . وَهَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ نِزَاعٌ فِي غَيْرِ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ ارْتَضَعَ مَعَ رَجُلٍ وَجَاءَ لِأَحَدِهِمَا بِنْتٌ : فَهَلْ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْبِنْتِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ الطِّفْلُ مِنْ الْمَرْأَةِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَ ابْنًا لَهَا وَصَارَ جَمِيعُ أَوْلَادِهَا إخْوَتَهُ الَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ قَبْلَ الرَّضَاعَةِ وَاَلَّذِينَ وَلَدَتْهُمْ بَعْدَ الرَّضَاعَةِ . وَالرَّضَاعَةُ يَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ الْآخَرِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ بَنَاتُ خَالَةٍ أُخْتَانِ وَاحِدَةٌ رَضَعَتْ مَعَهُ وَالْأُخْرَى لَمْ تَرْضِعْ مَعَهُ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الَّتِي لَمْ تَرْضِعْ مَعَهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ مَعَهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَ ابْنًا لَهَا ؛ حَرُمَ عَلَيْهِ جَمِيعُ بَنَاتِهَا مِنْ وُلِدَ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَمَنْ وُلِدَ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَمَتَى ارْتَضَعَتْ الْمَخْطُوبَةُ مِنْ أُمٍّ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ وَاحِدًا مِنْ بَنِي الْمُرْضِعَةِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْخَاطِبُ لَمْ يَرْتَضِعْ مِنْ أُمِّ الْمَخْطُوبَةِ وَلَا هِيَ رَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ . بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ كَانَ إخْوَتُهَا تَرَاضَعَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ اسْتَأْجَرَتْ لِبِنْتِهَا مُرْضِعَةً يَوْمًا أَوْ شَهْرًا وَمَضَتْ السُّنُونَ وَلِلْمُرْضِعَةِ وَلَدٌ قَبْلَهَا : فَهَلْ يَحِلُّ لَهُمَا الزَّوَاجُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا أَرْضَعَتْهَا الدَّايَةُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَتْ بِنْتًا لَهَا ؛ فَجَمِيعُ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ حَرَامٌ عَلَى هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ ؛ وَإِنْ وُلِدَ قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ . وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَمَنْ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ وَلَكِنْ إذَا كَانَ لِلْمُرْتَضِعَةِ أَخَوَاتٌ مِنْ النَّسَبِ جَازَ لَهُنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بِأَخَوَاتِهَا مِنْ الرَّضَاعِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ امْرَأَةٍ وَقَدْ ارْتَضَعَ طِفْلٌ مِنْ الْأُولَى وَلِلْأَبِ مِنْ الثَّانِيَةِ بِنْتٌ : فَهَلْ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذِهِ الْبِنْتَ ؟ وَإِذَا تَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا : فَهَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؟ وَهَلْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ .
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ الرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ هَذِهِ الْبِنْتَ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ لِلْفَحْلِ وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ امْرَأَتَانِ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا طِفْلًا وَالْأُخْرَى طِفْلَةً : فَهَلْ يَتَزَوَّجُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ؟ فَقَالَ : لَا . اللِّقَاحُ وَاحِدٌ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ { عَائِشَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَالَتْ . قَالَتْ اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ وَكَانَتْ قَدْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَقَالَتْ : لَا آذَنُ لَك حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ فَسَأَلْته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك يَحْرُمُ
مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ } " وَإِذَا تَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ قَرِينَةٌ لَمْ يَتَرَاضَعْ هُوَ وَأَبُوهَا ؛ لَكِنْ لَهُمَا إخْوَةٌ صِغَارٌ تَرَاضَعُوا فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا ؟ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا وَرُزِقَ مِنْهَا وَلَدًا : فَمَا حُكْمُهُمْ ؟ وَمَا قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا لَمْ يَرْتَضِعْ هُوَ مِنْ أُمِّهَا وَلَمْ تَرْضِعْ هِيَ مِنْ أُمِّهِ بَلْ إخْوَتُهُ رَضَعُوا مِنْ أُمِّهَا وَإِخْوَتُهَا رَضَعُوا مِنْ أُمِّهِ : كَانَتْ حَلَالًا لَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ أُخْتِ أَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ . فَإِنَّ الرَّضَاعَ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ إلَى الْمُرْتَضِعِ وَذُرِّيَّتِهِ وَإِلَى الْمُرْضِعَةِ وَإِلَى زَوْجِهَا الَّذِي وَطِئَهَا حَتَّى صَارَ لَهَا لَبَنٌ فَتَصِيرُ الْمُرْضِعَةُ امْرَأَتَهُ وَوَلَدُهَا قَبْلَ الرَّضَاعِ وَبَعْدَهُ أَخُو الرَّضِيعِ ؛ وَيَصِيرُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَوَلَدُهُ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَبَعْدَهُ أَخُو الرَّضِيعِ . فَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ وَأَبَوْهُ مِنْ النَّسَبِ فَهُمْ أَجَانِبُ مِنْ أَبَوَيْهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِخْوَتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ . وَهَذَا كُلُّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ انْتِشَارَ الْحُرْمَةِ إلَى الرَّجُلِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ تُسَمَّى " مَسْأَلَةُ الْفَحْلِ " وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ . وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ : لَبَنُ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ . وَالنُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ : هِيَ تُقَرِّرُ مَذْهَبَ الْجَمَاعَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أُخْتَيْنِ شَقِيقَتَيْنِ لِإِحْدَاهُمَا بِنْتَانِ وَلِلْأُخْرَى ذَكَرٌ وَقَدْ ارْتَضَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الْبِنْتَيْنِ وَهِيَ الْكَبِيرَةُ مَعَ الْوَلَدِ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِاَلَّتِي لَمْ تَرْضِعْ .
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَتْ الْوَاحِدَةُ مِنْ أُمِّ الصَّبِيِّ وَلَمْ يَرْتَضِعْ هُوَ مِنْ أُمِّهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا : بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ أَوْدَعَتْ بِنْتَهَا عِنْدَ امْرَأَةِ أَخِيهَا وَغَابَتْ وَجَاءَتْ فَقَالَتْ : أَرْضَعْتهَا . فَقَالَتْ : لَا . وَحَلَفَتْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ وَلَدَ أَخِيهَا كَبُرَ وَكَبُرَتْ بِنْتُهَا الصَّغِيرَةُ وَأُخْتُهَا ارْتَضَعَتْ مَعَ أَخِيهِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ الْبِنْتُ لَمْ تَرْضَعْ مِنْ أُمِّ الْخَاطِبِ وَلَا الْخَاطِبُ ارْتَضَعَ مِنْ أُمِّهَا : جَازَ أَنَّ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَإِنْ كَانَ أَخُوهَا وَأَخَوَاتُهَا مِنْ أُمِّ الْخَاطِبِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ الطِّفْلُ إذَا ارْتَضَعَ مِنْ
امْرَأَةٍ صَارَتْ أُمَّهُ وَزَوْجُهَا صَاحِبُ اللَّبَنِ أَبَاهُ وَصَارَ أَوْلَادُهَا إخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ . وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ وَأَبُوهُ مِنْ النَّسَبِ وَأُمُّهُ مِنْ النَّسَبِ فَهُمْ أَجَانِبُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجُوا أَخَوَاتِهِ كَمَا يَجُوزُ مِنْ النَّسَبِ أَنْ تَتَزَوَّجَ أُخْتُ الرَّجُلِ مِنْ أُمِّهِ بِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ . وَكُلُّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِلَا نِزَاعٍ فِيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَةٍ ذَاتِ بَعْلٍ وَلَهَا لَبَنٌ عَلَى غَيْرِ وَلَدٍ وَلَا حَمْلٍ فَأَرْضَعَتْ طِفْلَةً لَهَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَهَذِهِ الْمُرْضِعَةُ عَمَّةُ الرَّضِيعَةِ مِنْ النَّسَبِ ثُمَّ أَرَادَ ابْنُ بِنْتِ هَذِهِ الْمُرْضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَذِهِ الرَّضِيعَةِ : فَهَلْ يَحْرُمُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا وَطِئَهَا زَوْجٌ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ثَابَ لَهَا لَبَنٌ : فَهَذَا اللَّبَنُ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فَإِذَا ارْتَضَعَتْ طِفْلَةٌ خَمْسَ رَضَعَاتٍ صَارَتْ بِنْتَهَا وَابْنُ بِنْتِهَا ابْنَ أُخْتِهَا وَهِيَ خَالَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ الِارْتِضَاعُ مَعَ طِفْلٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَأَمَّا أُخْتُهَا مِنْ النَّسَبِ الَّتِي لَمْ تَرْضِعْ فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا . وَلَوْ قَدَّرَ أَنَّ هَذَا اللَّبَنَ ثَابَ لِامْرَأَةٍ لَمْ تَتَزَوَّجْ قَطُّ فَهَذَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَظَاهِرُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ قَرِيبَتَهُ فَقَالَ : وَالِدُهَا هِيَ رَضَعَتْ مَعَك وَنَهَاهُ عَنْ التَّزْوِيجِ بِهَا فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهُ تَزَوَّجَ بِهَا وَكَانَ الْعُدُولُ شَهِدُوا عَلَى وَالِدَتِهَا أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْكَرَتْ وَقَالَتْ : مَا قُلْت هَذَا الْقَوْلَ إلَّا لِغَرَضِ : فَهَلْ يَحِلُّ تَزْوِيجُهَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مَعْرُوفَةً بِالصِّدْقِ وَذَكَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إذَا تَزَوَّجَهَا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ أَنْ يُفَارِقَ امْرَأَتَهُ لَمَّا ذَكَرَتْ الْأَمَةُ السَّوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا } " . وَأَمَّا إذَا شَكَّ فِي صِدْقِهَا أَوْ فِي عَدَدِ الرَّضَعَاتِ : فَإِنَّهَا تَكُونُ مِنْ الشُّبُهَاتِ : فَاجْتِنَابُهَا أَوْلَى وَلَا يُحْكَمُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا إلَّا بِحُجَّةِ تُوجِبُ ذَلِكَ . وَإِذَا رَجَعَتْ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ التَّزْوِيجِ لَمْ تَحْرُمْ الزَّوْجَةُ ؛ لَكِنْ إنْ عُرِفَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فِي رُجُوعِهَا وَأَنَّهَا رَجَعَتْ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا حَتَّى كَتَمَتْ الشَّهَادَةَ : لَمْ يَحِلَّ التَّزْوِيجُ وَاَللَّه أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ ؛ وَوُلِدَ لَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ عَدِيدَةٌ فَلَمَّا كَانَ فِي فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ حَضَرَ مَنْ نَازَعَ الزَّوْجَةَ وَذَكَرَ لِزَوْجِهَا أَنَّ هَذِهِ الزَّوْجَةَ فِي عِصْمَتِك شَرِبَتْ مِنْ لَبَنِ أُمِّك ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ وَهُوَ خَبِيرٌ بِمَا ذَكَرَ وَأَخْبَرَ أَنَّهَا رَضَعَتْ مِنْ أُمِّ الزَّوْجِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ : رُجِعَ إلَى قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ ؛ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الرُّجُوعُ ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ عَايَنَ الرَّضَاعَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ وَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ عَلَى بِنْتٍ لَهَا ؛ وَلَهَا أَخَوَاتٌ أَصْغَرُ مِنْهَا : فَهَلْ يَحْرُمُ مِنْهُنَّ أَحَدٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَةٍ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ صَارَ ابْنًا لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ فَجَمِيعُ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ وُلِدُوا قَبْلَ الرَّضَاعِ ؛ وَاَلَّذِينَ وُلِدُوا بَعْدَهُ : هُمْ إخْوَةٌ لِهَذَا الْمُرْتَضِعِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ أُخْتَيْنِ إحْدَاهُمَا لَهَا ابْنٌ ذَكَرٌ وَالْأُخْرَى لَهَا أُنْثَى فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الذَّكَرِ الْأُنْثَى وَلَمْ تُرْضِعْ أُمُّ الْأُنْثَى الذَّكَرَ ثُمَّ جَاءَتْ هَذِهِ بَنَاتٌ وَهَذِهِ ذُكُورٌ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَخُو الْمُرْتَضِعِ بِالْبِنْتِ الَّتِي ارْتَضَعَتْ بِلَبَنِ أَخِيهِ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ هَلْ يَتَزَوَّجُ أَوْلَادُ هَذِهِ بِأَوْلَادِ هَذِهِ بِسِوَى الْمُرْضِعَيْنِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْأُنْثَى الْمُرْتَضِعَةُ لَا تَتَزَوَّجُ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ ؛ لَا مَنْ وُلِدَ لَهَا قَبْلَ الرَّضَاعَةِ وَلَا بَعْدَهَا . وَأَمَّا إخْوَةُ الْمُرْتَضِعَةِ فَيَتَزَوَّجُونَ مَنْ شَاءُوا مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ . فَيَتَزَوَّجُ وَاحِدٌ لَمْ يَرْتَضِعْ بِأَوْلَادِ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْهُ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بِأَحَدِ مِنْ أَوْلَادِ مَنْ أَرْضَعَتْهُ . وَإِذَا رَضَعَ طِفْلٌ مِنْ أُمِّ هَذَا ؛ أَوْ طِفْلَةٌ مِنْ أَوْلَادِ هَذَا : لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْلَادَ الْأُخْرَى ؛ وَيَجُوزُ لِإِخْوَةِ كُلٍّ مِنْ الْمُتَرَاضِعَيْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِإِخْوَةِ الْآخَرِ إذَا لَمْ يَرْضَعْ وَاحِدٌ مِنْهَا مِنْ أُمِّ الْآخَرِ ؛ وَالتَّحْرِيمُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُرْتَضِعِ خَاصَّةً ؛ دُونَ مَنْ لَمْ يَرْضِعْ مِنْ إخْوَتِهِ ؛ لَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ رَمِدَ فَغَسَلَ عَيْنَيْهِ بِلَبَنِ زَوْجَتِهِ : فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ . إذَا حَصَلَ لَبَنُهَا فِي بَطْنِهِ ؟ وَرَجُلٌ يُحِبُّ زَوْجَتَهُ فَلَعِبَ مَعَهَا فَرَضِعَ مِنْ لَبَنِهَا : فَهَلْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَا غَسَلَ عَيْنَيْهِ بِلَبَنِ امْرَأَتِهِ يَجُوزُ وَلَا تَحْرُمُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ لِوَجْهَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ كَبِيرٌ . وَالْكَبِيرُ إذَا ارْتَضَعَ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ امْرَأَتِهِ لَمْ تُنْشَرْ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ؛ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ سَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مُخْتَصٌّ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ تَبَنَّوْهُ قَبْلَ تَحْرِيمِ التَّبَنِّي . " الثَّانِي " أَنَّ حُصُولَ اللَّبَنِ فِي الْعَيْنِ لَا يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا نِزَاعًا ؛ وَلَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي السَّعُوطِ وَهُوَ مَا إذَا دَخَلَ فِي أَنْفِهِ بَعْدَ تَنَازُعِهِمْ فِي الْوُجُورِ وَهُوَ مَا يُطْرَحُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ رَضَاعٍ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوُجُورَ يَحْرُمُ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ السَّعُوطُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ . وَالْجَوَابُ عَنْ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ ارْتِضَاعَهُ لَا يُحَرِّمُ امْرَأَتَهُ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
إذَا ارْتَضَعَ الطِّفْلُ مِنْ امْرَأَةٍ خَمْسَ رَضَعَاتٍ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَهُ حَوْلَيْنِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ وَلَدَهَا ؛ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ وُلِدَ لَهَا قَبْلَ الرَّضَاعِ وَبَعْدَهُ ؛ وَيَصِيرُ زَوْجُهَا الَّذِي أَحْبَلَهَا دَرَّ لَبَنَهَا أَبَاهُ ؛ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَوْلَادِ ذَلِكَ الرَّجُلِ . فَإِذَا ارْتَضَعَتْ امْرَأَتُهُ طِفْلًا وَطِفْلَةً كُلَّ وَاحِدٍ خَمْسَ رَضَعَاتٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ؛ بَلْ هُمَا أَخَوَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَبِيٍّ أَرْضَعَتْهُ كَرَّتَيْنِ ثُمَّ حَمَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَشْرِ سِنِينَ ؛ وَجَاءَتْ بِبِنْتٍ وَصَارَ الصَّبِيُّ شَابًّا : فَهَلْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِتِلْكَ الْبِنْتِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ مِنْهَا خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي حَوْلَيْنِ فَقَدْ صَارَ ابْنُهَا ؛ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلُّ مَا وَلَدَتْهُ الْمَرْأَةُ : سَوَاءٌ وَلَدَتْهُ قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ : بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ
و " الرَّضْعَةُ " أَنْ يَلْتَقِمَ الثَّدْيَ فَيَشْرَبَ مِنْهُ ثُمَّ يَدَعُهُ : فَهَذِهِ رَضْعَةٌ . فَإِذَا كَانَ فِي كَرَّةٍ وَاحِدَةٍ قَدْ جَرَى لَهُ خَمْسُ مَرَّاتٍ فَهَذِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ ؛ وَإِنْ جَرَى ذَلِكَ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي كَرَّتَيْنِ فَهُوَ أَيْضًا خَمْسُ رَضَعَاتٍ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرَّضْعَةِ مَا يَشْرَبُهُ فِي نَوْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي شُرْبِهِ ؛ فَإِنَّهَا قَدْ تُرْضِعُهُ بِالْغَدَاةِ ثُمَّ بِالْعَشِيِّ وَيَكُونُ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ قَدْ أَرْضَعَتْهُ رَضَعَاتٍ كَثِيرَةً . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ الصَّبِيِّ إذَا رَضَعَ مِنْ غَيْرِ أُمِّهِ ؛ وَكَذَلِكَ الصَّبِيَّةُ إذَا رَضَعَتْ : مَاذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ وَمَا حَدُّ الرَّضْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ ؟ وَهَلْ لِلرَّضَاعَةِ بَعْدَ الْفِطَامِ تَأْثِيرٌ فِي التَّحْرِيمِ ؟ وَهَلْ تَبْقَى الْمَرْأَةُ حَرَامٌ عَلَى مَنْ تَعَدَّى سِنِينَ الرَّضَاعَةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا ارْتَضَعَ الطِّفْلُ أَوْ الطِّفْلَةُ مِنْ امْرَأَةٍ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فِي الْحَوْلَيْنِ فَقَدْ صَارَ وَلَدَهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ وَصَارَ الرَّجُلُ الَّذِي دَرَّ اللَّبَنَ بِوَطْئِهِ أَبَاهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَإِخْوَةُ الْمَرْأَةِ أَخْوَالَهُ وَخَالَاتِهِ وَإِخْوَةُ الرَّجُلِ أَعْمَامَهُ وَعَمَّاتِهِ . وَآبَاؤُهَا أَجْدَادَهُ وَجَدَّاتِهِ ؛ وَأَوْلَادُ كُلٍّ مِنْهُمَا إخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ . وَكُلُّ هَؤُلَاءِ حَرَامٌ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ . وَكَذَلِكَ أَوْلَادُ هَذَا الْمُرْتَضِعِ يَحْرُمُونَ عَلَى أَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ ؛ وَإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَأَعْمَامِهِ وَعَمَّاتِهِ ؛
وَأَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ . وَهَذَا كُلُّهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَيَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ مِنْ جِهَةِ الْأَبَوَيْنِ وَمِنْ جِهَةِ الْوَلَدِ . وَأَمَّا أَبُو الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ وَأُمَّهَاتُهُ وَإِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ مِنْ النَّسَبِ : فَكُلُّ هَؤُلَاءِ أَجَانِبُ مِنْ الْمُرْتَضِعَةِ وَأَقَارِبِهَا : بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَيَجُوزُ لِأَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَه مِنْ الرَّضَاعَةِ وَيَجُوزُ لِجَمِيعِ إخْوَةِ الْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بِمَنْ شَاءُوا مِنْ بَنَاتِ الْمُرْضِعَةِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الَّتِي أُرْضِعَتْ مَعَ الطِّفْلِ وَغَيْرُهَا . وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَضِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ ؛ لَا بِمَنْ وُلِدَ قَبْلَ الرَّضَاعِ وَلَا مَنْ وُلِدَ بَعْدَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَغْلَطُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ فَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ إخْوَةِ الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ الَّذِينَ هُمْ أَجَانِبُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَوْلَادِ الْمُرْتَضِعَةِ الَّذِينَ إخْوَتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَيَجْعَلُ الْجَمِيعَ نَوْعًا وَاحِدًا ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ يَجُوزُ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا مِنْ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا الْمُرْتَضِعُ فَلَا يَتَزَوَّجُ أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ . وَلَوْ تَرَاضَعَ طِفْلَانِ فَرَضَعَ هَذَا أُمَّ هَذَا وَرَضَعَتْ هَذِهِ أُمَّ هَذَا وَلَمْ يَرْضَعْ أَحَدٌ مِنْ إخْوَتِهَا مِنْ أُمِّ الْآخَرِ حَرُمَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْلَادَ مُرْضِعَتِهِ سَوَاءٌ وُلِدَ قَبْلَ الرَّضَاعَةِ أَوْ بَعْدَهَا وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى أَخٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ النَّسَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ الْآخَرِ مِنْ الرَّضَاعَةِ .
و " الرَّضَاعَةُ الْمُحَرِّمَةُ بِلَا رَيْبٍ " أَنْ يَرْضَعَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَيَأْخُذَ الثَّدْيَ فَيَشْرَبَ مِنْهُ ثُمَّ يَدَعَهُ ثُمَّ يَأْخُذَهُ فَيَشْرَبَ مَرَّةً ثُمَّ يَدَعَهُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ مِثْلَ غَدَائِهِ وَعَشَائِهِ . وَأَمَّا دُونَ الْخَمْسِ فَلَا يُحَرِّمُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : يُحَرِّمُ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ : كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَقِيلَ لَا يُحَرِّمُ إلَّا ثَلَاثُ رَضَعَاتٍ . وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَشْهَرُ عَنْهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ { كَانَ مِمَّا نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ عَشَرُ رَضَعَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ } " " وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ امْرَأَةً أَنْ تُرْضِعَ شَخْصًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ ؛ لِتَحْرُمَ عَلَيْهِ } . " وَالرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ " مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ ؛ فَإِنَّ تَمَامَ الرَّضَاعِ حَوْلَانِ كَامِلَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } وَمَا كَانَ بَعْدَ تَمَامِ الرَّضَاعَةِ فَلَيْسَ مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ فَقَالَ مَنْ هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ قُلْت : أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ قَالَ . يَا عَائِشَةُ اُنْظُرْنَ مَنْ إخْوَانُكُنَّ ؟ إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ } وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ إلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ } . وَمَعْنَى قَوْلِهِ فِي : " الثَّدْيِ " أَيْ وَقْتُهُ وَهُوَ الْحَوْلَانِ كَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ { إنَّ ابْنِي إبْرَاهِيمَ مَاتَ فِي الثَّدْيِ } أَيْ وَهُوَ فِي زَمَنِ الرَّضَاعِ . وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَلَا بَعْدَ الْفِطَامِ وَإِنْ كَانَ الْفِطَامُ قَبْلَ تَمَامَ الْحَوْلَيْنِ . وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ إرْضَاعَ الْكَبِيرِ يُحَرِّمُ . وَاحْتَجُّوا بِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ { أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ لِعَائِشَةَ : إنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْك الْغُلَامُ الْأَيْفَعُ الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : مَا لَك فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قَالَتْ : إنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ سَالِمًا يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ رَجُلٌ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْك } وَفِي رِوَايَةٍ لِمَالِكِ فِي الْمُوَطَّأِ قَالَ : " { أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ } " فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخَذَتْ بِهِ عَائِشَةُ وَأَبَى غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذْنَ بِهِ ؛ مَعَ أَنَّ عَائِشَةَ رَوَتْ عَنْهُ قَالَ : " { الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ } " لَكِنَّهَا رَأَتْ الْفَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْصِدَ رَضَاعَةً أَوْ تَغْذِيَةً . فَمَتَى كَانَ الْمَقْصُودُ الثَّانِي لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا مَا كَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ . وَهَذَا هُوَ إرْضَاعُ عَامَّةِ النَّاسِ . وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَجُوزُ إنْ اُحْتِيجَ إلَى جَعْلِهِ ذَا مَحْرَمٍ . وَقَدْ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا . وَهَذَا قَوْلٌ مُتَوَجِّهٌ . وَلَبَنُ الْآدَمِيَّاتِ طَاهِرٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَلَكِنْ شَكَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَالَ . هُوَ نَجِسٌ .
وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ مُنْفَرِدًا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ دُونَ لَبَنِ الْحُرَّةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ امْرَأَتَيْنِ إحْدَاهُمَا لَهَا ابْنٌ وَالْأُخْرَى بِنْتٌ فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْبِنْتِ الِابْنَ مِرَارًا ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ ؛ ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُ ابْنٌ آخَرُ وَلَمْ يَرْضِعْ مِمَّا رَضَعَ : فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْبِنْتِ الْمَذْكُورَةِ ؟ أَمْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ رَضَاعَةِ أَخِيهِ .
الْجَوَابُ :
إذَا أَرَادَ أَخُو الْمُرْتَضِعِ مِنْ النَّسَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْلَادَ الْمُرْضِعَةِ جَازَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرْتَضِعُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ بِنْتُ عَمٍّ ؛ وَوَالِدُ الْبِنْتِ الْمَذْكُورَةِ قَدْ رَضَعَ بِأُمِّ الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ مَعَ أَحَدِ إخْوَتِهِ وَذَكَرَتْ أُمُّ الرِّجْلِ الْمَذْكُورِ : أَنَّهُ لَمَّا رَضَعَهَا كَانَ عُمْرُهُ أَكْثَرَ مِنْ حَوْلَيْنِ : فَهَلْ لِلرَّجُلِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ عَمِّهِ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ الرَّضَاعُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلَيْنِ لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ أَعْطَتْ لِامْرَأَةٍ أُخْرَى وَلَدًا ؛ وَهُمَا فِي الْحَمَّامِ فَلَمْ تَشْعُرْ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَخَذَتْ الْوَلَدَ إلَّا وَثَدْيُهَا فِي فَمِ الصَّبِيِّ فَانْتَزَعَتْهُ مِنْهُ فِي سَاعَتِهِ وَمَا عَلِمَتْ هَلْ ارْتَضَعَ أَمْ لَا : فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ بَنَاتِ الْمَرْأَةِ الْمَذْكُورَةِ ؛ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
لَا يَحْرُمُ عَلَى الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ بِذَلِكَ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْ أَوْلَادِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ أُمَّهُ وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالشَّكِّ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ النَّفَقَاتِ وَالْحَضَانَةِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي قَوْله تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا } إلَى قَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } مَعَ قَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } إلَى قَوْلِهِ : { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } وَفِي ذَلِكَ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَحْكَامِ بَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُتَنَازَعٌ فِيهِ . وَإِذَا تَدَبَّرْت كِتَابَ اللَّهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يُفَصِّلُ النِّزَاعَ بَيَّنَ مَنْ يَحْسُنُ الرَّدُّ إلَيْهِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إلَى ذَلِكَ ؛ فَهُوَ إمَّا لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ فَيُعْذَرَ . أَوْ لِتَفْرِيطِهِ فَيُلَامَ .
وقَوْله تَعَالَى { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَامُ الرَّضَاعَةِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غِذَاءٌ مِنْ الْأَغْذِيَةِ . وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ : الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ . وَقَوْلُهُ : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ " الْحَوْلَيْنِ " يَقَعُ عَلَى حَوْلٍ وَبَعْضِ آخَرَ . وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِهِمْ يُقَالُ : لِفُلَانِ عِشْرُونَ عَامًا إذَا أَكْمَلَ ذَلِكَ . قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُمَا : لَمَّا جَازَ أَنْ يَقُولَ : " حَوْلَيْنِ " وَيُرِيدُ أَقَلَّ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَتَعَجَّلُ
فِي يَوْمٍ وَبَعْضِ آخَرَ ؛ وَتَقُولُ : لَمْ أَرَ فُلَانًا يَوْمَيْنِ . وَإِنَّمَا تُرِيدُ يَوْمًا وَبَعْضَ آخَرَ . قَالَ " كَامِلَيْنِ " لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُمَا . وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } فَإِنَّ لَفْظَ " الْعَشَرَةِ " يَقَعُ عَلَى تِسْعَةٍ وَبَعْضِ الْعَاشِرِ . فَيُقَالُ : أَقَمْت عَشَرَةَ أَيَّامٍ . وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا . فَقَوْلُهُ هُنَاكَ { كَامِلَةٌ } بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ هُنَا { كَامِلَيْنِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ : قَالَ { الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مَوْفُورًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ } " فَالْكَامِلُ الَّذِي لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ إذْ الْكَمَالُ ضِدُّ النُّقْصَانِ . وَأَمَّا " الْمُوَفَّرُ " فَقَدْ قَالَ : أَجْرُهُمْ مُوَفَّرًا . يُقَالُ : الْمُوَفَّرُ . لِلزَّائِدِ ؛ وَيُقَالُ : لَمْ يُكْلَمْ . أَيْ يُجْرَحْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " كِتَابِ الزُّهْدِ " عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ : { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِمُوسَى وَمَا ذَاكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ لِيَسْتَكْمِلُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ كَرَامَتِي سَالِمًا مُوَفَّرًا ؛ لَمْ تَكْلِمْهُ الدُّنْيَا وَلَمْ تَكْلِمْهُ نطعة الْهَوَى } وَكَانَ هَذَا تَغْيِيرَ الصِّفَةِ وَذَاكَ نُقْصَانَ الْقَدْرِ وَذَكَرَ " أَبُو الْفَرَجِ " هَلْ هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْوَالِدَاتِ ؟ أَوْ يَخْتَصُّ بِالْمُطَلَّقَاتِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْخُصُوصُ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ والسدي وَمُقَاتِلٍ فِي آخَرِينَ . وَالْعُمُومُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فِي آخَرِينَ . قَالَ الْقَاضِي وَلِهَذَا نَقُولُ : لَهَا أَنْ تُؤَجِّرَ نَفْسَهَا لِرِضَاعِ وَلَدِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ الزَّوْجِ أَوْ مُطَلَّقَةً . " قُلْت " الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّهَا أَوْجَبْت لِلْمُرْضِعَاتِ رِزْقَهُنَّ وَكِسْوَتَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ؛ لَا زِيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ . وَهُوَ يَقُولُ : تُؤَجِّرُ نَفْسَهَا
بِأُجْرَةِ غَيْرِ النَّفَقَةِ . وَالْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ بَلْ إذَا كَانَتْ الْآيَةُ عَامَّةً دَلَّتْ عَلَى أَنَّهَا تُرْضِعُ وَلَدَهَا مَعَ إنْفَاقِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَتَدْخُلُ نَفَقَةُ الْوَلَدِ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتَغَذَّى بِغِذَاءِ أُمِّهِ وَكَذَلِكَ فِي حَالِ الرَّضَاعِ فَإِنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ هِيَ نَفَقَةُ الْمُرْتَضِعِ . وَعَلَى هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ ؛ فَاَلَّذِينَ خَصُّوهُ بِالْمُطَلَّقَاتِ أَوْجَبُوا نَفَقَةً جَدِيدَةً بِسَبَبِ الرَّضَاعِ كَمَا ذُكِرَ فِي " سُورَةِ الطَّلَاقِ " وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْمُطَلَّقَةِ وقَوْله تَعَالَى { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } قَدّ عُلِمَ أَنَّ مَبْدَأَ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ الْوِلَادَةِ وَالْكَمَالَ إلَى نَظِيرِ ذَلِكَ . فَإِذَا كَانَ مِنْ عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ كَانَ الْكَمَالُ فِي عَاشِرِ الْمُحَرَّمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ ؛ فَإِنَّ الْحَوْلَ الْمُطْلَقَ هُوَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْ الشَّهْرِ الْهِلَالِيِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَهَكَذَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِدَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا أَوَّلُهَا مِنْ حِينِ الْمَوْتِ وَآخِرُهَا إذَا مَضَتْ عَشْرٌ بَعْدَ نَظِيرِهِ ؛ فَإِذَا كَانَ فِي مُنْتَصَفِ الْمُحَرَّمِ فَآخِرُهَا خَامِسُ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ وَكَذَلِكَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى فِي الْبُيُوعِ وَسَائِرِ مَا يُؤَجَّلُ بِالشَّرْعِ وَبِالشَّرْطِ . وَلِلْفُقَهَاءِ هُنَا قَوْلَانِ آخَرَانِ ضَعِيفَانِ . " أَحَدُهُمَا " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إذَا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ كَانَ جَمِيعُ الشُّهُورِ بِالْعَدَدِ فَيَكُونُ الْحَوْلَانِ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَزِيدُ الْمُدَّةُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ .
و " الْقَوْلُ الثَّانِي " قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : مِنْهَا وَاحِدٌ بِالْعَدَدِ وَسَائِرُهَا بِالْأَهِلَّةِ . وَهَذَا أَقْرَبُ ؛ لَكِنْ فِيهِ غَلَطٌ ؛ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمَبْدَأُ عَاشِرَ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ نَقَصَ الْمُحَرَّمُ كَانَ تَمَامُهُ تَاسِعَهُ فَيَكُونُ التَّكْمِيلُ أَحَدَ عَشَرَ فَيَكُونُ الْمُنْتَهِي حَادِيَ عَشَرَ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ غَلَطٌ أَيْضًا . وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْأُمِّ إرْضَاعُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { يُرْضِعْنَ } خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ . وَهِيَ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ ؛ وَلِهَذَا تَأَوَّلَهَا مَنْ ذَهَبَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : وَهَذَا الْأَمْرُ انْصَرَفَ إلَى الْآبَاءِ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ الِاسْتِرْضَاعَ ؛ لَا عَلَى الْوَالِدَاتِ ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } وَقَوْلُهُ : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَلَوْ كَانَ مُتَحَتِّمًا عَلَى الْوَالِدَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ . فَيُقَالُ : بَلْ الْقُرْآنُ دَلَّ عَلَى أَنَّ لِلِابْنِ عَلَى الْأُمِّ الْفِعْلَ وَعَلَى الْأَبِ النَّفَقَةَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَالْأَجْنَبِيَّةُ تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهَا . وقَوْله تَعَالَى { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ إتْمَامَ الرَّضَاعِ وَيَجُوزُ الْفِطَامُ قَبْلَ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَصْلَحَةً وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُفْصَلُ إلَّا بِرِضَى الْأَبَوَيْنِ فَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا الْإِتْمَامَ وَالْآخَرُ الْفِصَالَ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ لِمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } وقَوْله تَعَالَى { يُرْضِعْنَ } صِيغَةُ خَبَرٍ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ . وَالتَّقْدِيرُ وَالْوَالِدَةُ مَأْمُورَةٌ بِإِرْضَاعِهِ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ إذَا أُرِيدَ إتْمَامُ الرَّضَاعَةِ ؛ فَإِذَا أَرَادَتْ الْإِتْمَامَ كَانَتْ مَأْمُورَةً بِذَلِكَ وَكَانَ عَلَى الْأَبِ رِزْقُهَا وَكِسْوَتُهَا وَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ الْإِتْمَامَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُبَحْ الْفِصَالُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا جَمِيعًا . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } . وَلَفْظَةُ ( مَنْ ) إمَّا أَنْ يُقَالَ : هُوَ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا وَيَدْخُلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فَمَنْ أَرَادَ الْإِتْمَامَ أَرْضَعْنَ لَهُ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : قَوْله تَعَالَى { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } إنَّمَا هُوَ الْمَوْلُودُ لَهُ وَهُوَ الْمُرْضِعُ لَهُ . فَالْأُمُّ تَلِدُ لَهُ وَتُرْضِعُ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } . وَالْأُمُّ كَالْأَجِيرِ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ . فَإِنْ أَرَادَ الْأَبُ الْإِتْمَامَ أَرْضَعْنَ لَهُ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ لَا يُتِمَّ فَلَهُ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَمَنْطُوقُ الْآيَةِ أَمْرُهُنَّ بِإِرْضَاعِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الْأَبِ وَمَفْهُومُهَا أَيْضًا جَوَازُ الْفَصْلِ بِتَرَاضِيهِمَا . يَبْقَى إذَا أَرَادَتْ الْأُمُّ دُونَ الْأَبِ مَسْكُوتًا عَنْهُ ؛ لَكِنَّ مَفْهُومَ قَوْله تَعَالَى { عَنْ تَرَاضٍ } أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ ؛ وَلَكِنْ تَنَاوَلَهُ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَإِنَّهَا إذَا أَرْضَعَتْ تَمَامَ الْحَوْلِ فَلَهُ أَرْضَعَتْ وَكَفَتْهُ بِذَلِكَ مُؤْنَةَ الطِّفْلِ فَلَوْلَا رَضَاعُهَا لَاحْتَاجَ إلَى أَنْ يُطْعِمَهُ شَيْئًا آخَرَ .
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْأُمِّ الْإِتْمَامَ إذَا أَرَادَ الْأَبُ وَفِي تِلْكَ بَيَّنَ أَنَّ عَلَى الْأَبِ الْأَجْرَ إذَا أَبَتْ الْمَرْأَةُ . قَالَ مُجَاهِدٌ : " التَّشَاوُرُ " فِيمَا دُونَ الْحَوْلَيْنِ : إنْ أَرَادَتْ أَنْ تَفْطِمَ وَأَبَى فَلَيْسَ لَهَا وَإِنْ أَرَادَ هُوَ وَلَمْ تُرِدْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَقَعَ ذَلِكَ عَلَى تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ يَقُولُ : غَيْرُ مُسِيئِينَ إلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَا رَضِيعِهِمَا . وقَوْله تَعَالَى { إذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ } قَالَ إذَا أَسْلَمْتُمْ أَيُّهَا الْآبَاءُ إلَى أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَجْرَ مَا أَرْضَعْنَ قَبْلَ امْتِنَاعِهِنَّ : رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ والسدي . وَقِيلَ : إذَا أَسْلَمْتُمْ إلَى الظِّئْرِ أَجْرَهَا : بِالْمَعْرُوفِ : رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٍ . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ : ( أَتَيْتُمْ ) بِالْقَصْرِ . وقَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَلَمْ يَقُلْ : وَعَلَى الْوَالِدِ كَمَا قَالَ { وَالْوَالِدَاتُ } لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الَّتِي تَلِدُهُ وَأَمَّا الْأَبُ فَلَمْ يَلِدْهُ ؛ بَلْ هُوَ مَوْلُودٌ لَهُ لَكِنْ إذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا قِيلَ : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } فَأَمَّا مَعَ الْإِفْرَادِ فَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَتُهُ وَالِدًا بَلْ أَبًا . وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْوَلَدَ وُلِدَ لِلْأَبِ ؛ لَا لِلْأُمِّ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ حَمْلًا وَأُجْرَةَ رَضَاعِهِ . وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْله تَعَالَى { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } فَجَعَلَهُ مَوْهُوبًا لِلْأَبِ . وَجَعَلَ بَيْتَهُ بَيْتَهُ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } وَإِذَا كَانَ الْأَبُ هُوَ الْمُنْفِقُ عَلَيْهِ جَنِينًا وَرَضِيعًا وَالْمَرْأَةُ وِعَاءٌ : فَالْوَلَدُ زَرْعٌ لِلْأَبِ قَالَ تَعَالَى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } فَالْمَرْأَةُ هِيَ الْأَرْضُ الْمَزْرُوعَةُ وَالزَّرْعُ فِيهَا لِلْأَبِ وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ
زَرْعَ غَيْرِهِ } " يُرِيدُ بِهِ النَّهْيَ عَنْ وَطْءِ الْحَبَالَى فَإِنَّ مَاءَ الْوَاطِئِ يَزِيدُ فِي الْحَمْلِ كَمَا يَزِيدُ الْمَاءُ فِي الزَّرْعِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الصَّحِيحِ : " { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنَةً تَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ كَيْفَ يُورِثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ وَكَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ } ؟ " وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ لِلْأَبِ وَهُوَ زَرْعُهُ كَانَ هَذَا مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } " وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } " فَقَدْ حَصَلَ الْوَلَدُ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ ؛ فَإِنَّ الزَّرْعَ الَّذِي فِي الْأَرْضِ كَسْبُ الْمُزْدَرِعِ لَهُ الَّذِي بَذَرَهُ وَسَقَاهُ وَأَعْطَى أُجْرَةَ الْأَرْضِ فَإِنَّ الرَّجُلَ أَعْطَى الْمَرْأَةَ مَهْرَهَا وَهُوَ أَجْرُ الْوَطْءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَهُوَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } وَقَدْ فُسِّرَ { وَمَا كَسَبَ } بِالْوَلَدِ . فَالْأُمُّ هِيَ الْحَرْثُ وَهِيَ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا زَرْعٌ وَالْأَبُ اسْتَأْجَرَهَا بِالْمَهْرِ كَمَا يَسْتَأْجِرُ الْأَرْضَ وَأَنْفَقَ عَلَى الزَّرْعِ بِإِنْفَاقِهِ لَمَّا كَانَتْ حَامِلًا ثُمَّ أَنْفَقَ عَلَى الرَّضِيعِ كَمَا يُنْفِقُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ إذَا كَانَ مَسْتُورًا وَإِذَا بَرَزَ ؛ فَالزَّرْعُ هُوَ الْوَلَدُ وَهُوَ مِنْ كَسْبِهِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا لَا يَضُرُّ بِهِ ؛ كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَأَنَّ مَالَهُ لِلْأَبِ مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ مِلْكًا لِلِابْنِ فَهُوَ مُبَاحٌ لِلْأَبِ أَنْ يَمْلِكَهُ وَإِلَّا بَقِيَ لِلِابْنِ ؛ فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَتَمَلَّكْهُ وَرِثَ عَنْ الِابْنِ . وَلِلْأَبِ أَيْضًا أَنْ يَسْتَخْدِمَ الْوَلَدَ مَا لَمْ يَضُرَّ بِهِ . وَفِي هَذَا وُجُوبُ طَاعَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ إذَا كَانَ الْعَمَلُ مُبَاحًا لَا يَضُرُّ بِالِابْنِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَخْدَمَ عَبَدَهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَوْ اعْتَدَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ فَالِابْنُ أَوْلَى .
وَنَفْعُ الِابْنِ لَهُ إذَا لَمْ يَأْخُذْهُ الْأَبُ ؛ بِخِلَافِ نَفْعِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّهُ لِمَالِكِهِ كَمَا أَنَّ مَالَهُ لَوْ مَاتَ لِمَالِكِهِ لَا لِوَارِثِهِ . وَدَلَّ مَا ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا كَانَ كَسَقْيِ الزَّرْعِ يَزِيدُ فِيهِ وَيُنَمِّيهِ وَيَبْقَى لَهُ شَرِكَةٌ فِي الْوَلَدِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِعْبَادُ هَذَا الْوَلَدِ فَلَوْ مَلَكَ أَمَةً حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ وَوَطِئَهَا حَرُمَ اسْتِعْبَادُ هَذَا الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ سَقَاهُ ؛ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : كَيْفَ يَسْتَعْبِدُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ . وَكَيْفَ يُورِثُهُ أَيْ يَجْعَلُهُ مَوْرُوثًا مِنْهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ } . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ : كَيْفَ يَجْعَلُهُ وَارِثًا . فَقَدْ غَلِطَ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ كَانَتْ أَمَةً لِلْوَاطِئِ وَالْعَبْدُ لَا يُجْعَلُ وَارِثًا إنَّمَا يُجْعَلُ مَوْرُوثًا . فَأَمَّا إذَا اُسْتُبْرِئَتْ الْمَرْأَةُ عُلِمَ أَنَّهُ لَا زَرْعَ هُنَاكَ . وَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ عِنْدَ مَنْ لَا يَطَؤُهَا فَفِيهِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا زَرْعَ هُنَاكَ وَظُهُورُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ هُنَا أَقْوَى مِنْ بَرَاءَتِهَا مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ بِحَيْضَةِ ؛ فَإِنَّ الْحَامِلَ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الدَّمِ مِثْلُ دَمِ الْحَيْضِ ؛ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ حَيْضٌ أَوْ لَا ؟ فَالِاسْتِبْرَاءُ لَيْسَ دَلِيلًا قَاطِعًا عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ؛ بَلْ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ . وَالْبَكَارَةُ وَكَوْنُهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِصَبِيِّ أَوْ امْرَأَةٍ أَدَلُّ عَلَى الْبَرَاءَةِ . وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ صَادِقًا وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ اسْتَبْرَأَهَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَاسْتِبْرَاءُ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ وَالْعَجُوزُ وَالْآيِسَةُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ .
وَلِهَذَا اضْطَرَبَ الْقَائِلُونَ هَلْ تُسْتَبْرَأُ بِشَهْرِ ؟ أَوْ شَهْرٍ وَنِصْفٍ ؟ أَوْ شَهْرَيْنِ ؟ أَوْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ؟ وَكُلُّهَا أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ . وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمْ يَكُنْ يَسْتَبْرِئُ الْبِكْرَ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِالِاسْتِبْرَاءِ إلَّا فِي الْمَسْبِيَّاتِ كَمَا قَالَ فِي سَبَايَا أوطاس : " { لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةِ } " لَمْ يَأْمُرْ كُلَّ مَنْ وَرِثَ أَمَةً أَوْ اشْتَرَاهَا أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِالِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِالْحَالِ ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا . وَكَذَلِكَ مَنْ مُلِكَتْ وَكَانَ سَيِّدُهَا يَطَؤُهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا ؛ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ هَذَا ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذَا ؛ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَحَدٌ أَنْ يَبِيعَ أَمَتَهُ الْحَامِلَ مِنْهُ ؛ بَلْ لَا يَبِيعُهَا إذَا وَطِئَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا فَلَا يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى اسْتِبْرَاءٍ ثَانٍ . وَلِهَذَا لَمْ يَنْهَ عَنْ وَطْءِ الْحَبَالَى مِنْ السَّادَاتِ إذَا مُلِكَتْ بِبَيْعِ أَوْ هِبَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ يَقَعُ ؛ بَلْ هَذِهِ دَخَلَتْ فِي نَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْ يَسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ . } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْآيَةِ : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَجْرَ هُوَ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُسَمًّى
تَرْجِعَانِ إلَيْهِ . " وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ " إنَّمَا تُقَدَّرُ بِالْمُسَمَّى إذَا كَانَ هُنَاكَ مُسَمًّى يَرْجِعَانِ إلَيْهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لَمَّا كَانَ السِّلْعَةُ هِيَ أَوْ مِثْلُهَا بِثَمَنِ مُسَمًّى وَجَبَ ثَمَنُ الْمِثْلِ إذَا أُخِذَتْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَكَمَا قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قَوَّمَ عَلَيْهِ قِيمَةً عَدْلٌ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ الْعَبْدُ } فَهُنَاكَ أُقِيمَ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّهُ وَمِثْلَهُ يُبَاعُ فِي السُّوقِ فَتُعْرَفُ الْقِيمَةُ الَّتِي هِيَ السِّعْرُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ الْأَجِيرُ وَالصَّانِعُ كَمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعَلِيِّ { أَنْ يُعْطِيَ الْجَازِرَ مِنْ الْبُدْنِ شَيْئًا وَقَالَ : نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنَا } " فَإِنَّ الذَّبْحَ وَقِسْمَةَ اللَّحْمِ عَلَى الْمُهْدِي ؛ فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الْجَازِرِ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ يَسْتَحِقُّ نَظِيرَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِثْلُهُ إذَا عَمِلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْجِزَارَةَ مَعْرُوفَةٌ وَلَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّنَاعَاتِ : كَالْحِيَاكَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْبِنَاءِ . وَقَدْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَخِيطُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى عَهْدِهِ فَيَسْتَحِقُّ هَذَا الْخَيَّاطُ مَا يَسْتَحِقُّهُ نُظَرَاؤُهُ وَكَذَلِكَ أَجِيرُ الْخِدْمَةِ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ نَظِيرُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ النَّاسِ . وَأَمَّا " الْأُمُّ الْمُرْضِعَةُ " فَهِيَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ لَهُنَّ عَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ إلَّا اعْتِبَارُ حَالِ الرَّضَاعِ بِمَا ذُكِرَ وَهِيَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفَقَةٌ عَلَى الْحَمْلِ . وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } .
وَلِلْعُلَمَاءِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ نَفَقَةُ زَوْجَةٍ مُعْتَدَّةٍ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا . وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُوجِبُ النَّفَقَةَ لِلْبَائِنِ كَمَا يُوجِبُهَا لِلرَّجْعِيَّةِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ ؛ وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ؛ وَلَكِنْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ل يس لِكَوْنِهَا حَامِلًا تَأْثِيرٌ فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا . " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا نَفَقَةَ زَوْجَةٍ ؛ لِأَجْلِ الْحَمْلِ ؛ كَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ نَفَقَةَ زَوْجَةٍ فَقَدْ وَجَبَ لِكَوْنِهَا زَوْجَةً لَا لِأَجْلِ الْوَلَدِ . وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ تَجِبُ مَعَ غَيْرِ الزَّوْجَةِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى سُرِّيَّتِهِ الْحَامِلِ إذَا أَعْتَقَهَا . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : هَلْ وَجَبَتْ النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ ؟ أَوْ لَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَإِنْ أَرَادُوا لَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ . أَيْ لِهَذِهِ الْحَامِلِ مِنْ أَجْلِ حَمْلِهَا فَلَا فَرْقَ . وَإِنْ أَرَادُوا - وَهُوَ مُرَادُهُمْ - أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا نَفَقَةُ زَوْجَةٍ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ : فَهَذَا تَنَاقُضٌ فَإِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ . وَنَفَقَةُ الْحَمْلِ تَجِبُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً . و " الْقَوْلُ الثَّالِثُ " وَهُوَ الصَّحِيحُ : أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَمْلِ ؛ وَلَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ ؛ لِكَوْنِهَا حَامِلًا بِوَلَدِهِ ؛ فَهِيَ نَفَقَةٌ عَلَيْهِ ؛ لِكَوْنِهِ أَبَاهُ
لَا عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا زَوْجَةً . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا ؛ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَقَالَ هُنَا : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَجَعَلَ أَجْرَ الْإِرْضَاعِ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَامِلِ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَجْرَ الْإِرْضَاعِ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ لِكَوْنِهِ أَبًا فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْحَامِلِ ؛ وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ وَرِزْقَهَا وَكِسْوَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَقَدْ جَعَلَ أَجْرَ الْمُرْضِعَةِ كَذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } أَيْ وَارِثِ الطِّفْلِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْأَبِ . وَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ نَفَقَةَ الْحَمْلِ وَالرَّضَاعِ مِنْ " بَابِ نَفَقَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ " ؛ لَا مِنْ " بَابِ نَفَقَةِ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ " . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةً بَلْ كَانَتْ حَامِلًا بِوَطْءِ شُبْهَةٍ يَلْحَقهُ نَسَبُهُ أَوْ كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ وَقَدْ أَعْتَقَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْحَمْلِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْإِرْضَاعِ ؛ وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ لِغَيْرِهِ كَمَنْ وَطِئَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحِ أَوْ شُبْهَةٍ أَوْ إرْثٍ فَالْوَلَدُ هُنَا لِسَيِّدِ الْأَمَةِ فَلَيْسَ عَلَى الْوَاطِئِ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ زَوْجًا وَلَوْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ حُرَّةً فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَالنَّسَبُ هَاهُنَا لَاحِقٌ ؛ لَكِنَّ الْوَلَدَ حُرٌّ ؛ وَالْوَلَدُ الْحُرُّ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى أَبِيهِ الْعَبْدِ ؛ وَلَا أُجْرَةُ رَضَاعِهِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ مَالٌ يُنْفَقُ مِنْهُ عَلَى وَلَدِهِ وَسَيِّدُهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي وَلَدِهِ ؛ فَإِنَّ وَلَدَهُ : إمَّا حُرٌّ وَإِمَّا مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ . نَعَمْ . لَوْ كَانَتْ الْحَامِلُ أَمَةً وَالْوَلَدُ حُرٌّ مِثْلَ الْمَغْرُورِ الَّذِي اشْتَرَى أَمَةً فَظَهَرَ أَنَّهَا
مُسْتَحَقَّةٌ لِغَيْرِ الْبَائِعِ أَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً فَظَهَرَ أَنَّهَا أَمَةٌ : فَهُنَا الْوَلَدُ حُرٌّ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً مَمْلُوكَةً لِغَيْرِ الْوَاطِئِ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَطِئَ مَنْ يَعْتَقِدُهَا مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ زَوْجَةً حُرَّةً وَبِهَذَا قَضَتْ الصَّحَابَةُ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ بِشِرَاءِ الْوَلَدِ وَهُوَ نَظِيرُهُ . فَهُنَا الْآنَ يُنْفِقُ عَلَى الْحَامِلِ كَمَا يُنْفِقُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ لَهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ كَانَ لَهُ زَوْجَةٌ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَهُ مِنْهَا بِنْتٌ تَرْضَعُ وَقَدْ أَلْزَمُوهُ بِنَفَقَةِ الْعِدَّةِ : فَكَمْ تَكُونُ مُدَّةُ الْعِدَّةِ الَّتِي لَا تَحِيضُ فِيهَا لِأَجْلِ الرَّضَاعَةِ
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَعِنْدَهُمْ لَا نَفَقَةَ لِلْمُعْتَدَّةِ الْبَائِنِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيُوجِبُ لَهَا النَّفَقَةَ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ . وَإِذَا كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ فَلَا تَزَالُ فِي الْعِدَّةِ حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ . وَالْمُرْضِعُ يَتَأَخَّرُ حَيْضُهَا فِي الْغَالِبِ . وَأَمَّا أَجْرُ الرَّضَاعِ فَلَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ ؛ فَأَمَّا الْمُعْسِرُ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ مُزَوَّجَةٍ مُحْتَاجَةٍ . فَهَلْ تَكُونُ نَفَقَتُهَا وَاجِبَةً عَلَى زَوْجِهَا ؟ أَوْ مِنْ صَدَاقِهَا ؟
فَأَجَابَ :
الْمُزَوَّجَةُ الْمُحْتَاجَةُ نَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَاجِبَةٌ مِنْ غَيْرِ صَدَاقِهَا وَأَمَّا صَدَاقُهَا الْمُؤَخَّرُ فَيَجُوزُ أَنْ تُطَالِبَهُ ؛ وَإِنْ أَعْطَاهَا فَحَسَنٌ ؛ وَإِنْ امْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ حَتَّى يَقَعَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ : بِمَوْتِ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ نَحْوِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : (*)
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهَا وَلَا تُطَاوِعُهُ فِي أَمْرٍ وَتَطْلُبُ مِنْهُ نَفَقَةً وَكِسْوَةً وَقَدْ ضَيَّقَتْ عَلَيْهِ أُمُورَهُ : فَهَلْ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ نَفَقَةً وَكِسْوَةً ؟
فَأَجَابَ :
إذَا لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا أَوْ خَرَجَتْ مِنْ دَارِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ : فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَبَ مِنْهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَهُ فَلَمْ تَفْعَلْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا كِسْوَةَ فَحَيْثُ كَانَتْ نَاشِزًا عَاصِيَةً لَهُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهَا طَاعَتُهُ لَمْ يَجِبْ لَهَا نَفَقَةٌ وَلَا كِسْوَةٌ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ إذَا تَحَاكَمَا فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ ؛ هَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهَا ؟ أَمْ قَوْلُ الرَّجُلِ ؟ وَهَلْ لِلْحَاكِمِ تَقْدِيرُ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ ؟ وَالْمَسْئُولُ بَيَانُ حُكْمِ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِدَلَائِلِهِمَا .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُقِيمَةً فِي بَيْتِ زَوْجِهَا مُدَّةً تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَتَكْتَسِي كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ؛ ثُمَّ تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ هِيَ : أَنْتَ مَا أَنْفَقْت عَلَيَّ وَلَا كَسَوْتَنِي ؛ بَلْ حَصَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِك . وَقَالَ هُوَ : بَلْ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ كَانَتْ مِنِّي . فَفِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . " أَحَدُهُمَا " الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَنَظِيرُ هَذَا أَنْ يُصْدِقَهَا تَعَلُّمَ صِنَاعَةٍ وَتَتَعَلَّمُهَا ثُمَّ يَتَنَازَعَانِ فِيمَنْ عَلِمَهَا فَيَقُولُ هُوَ : أَنَا عَلَّمْتهَا وَتَقُولُ هِيَ : أَنَا تَعَلَّمْتهَا مِنْ غَيْرِهِ . فَفِيهَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوَافِقُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ عِنْدَهُ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُونَ :
وَجَبَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الصِّلَةِ فَتَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَالْجُمْهُورُ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ يَقُولُونَ : وَجَبَتْ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ . وَلَكِنْ إذَا تَنَازَعَا فِي قَبْضِهَا فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَقْبُوضِ كَمَا لَوْ تَنَازُعًا فِي قَبْضِ الصَّدَاقِ . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ الرَّجُلَ يُنْفِقُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهِ وَيَكْسُوهَا وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَسُوغُ غَيْرُهُ لِأَوْجُهِ : " أَحَدُهَا " أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُمْ امْرَأَةٌ قُبِلَ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مَقْبُولًا فِي ذَلِكَ لَكَانَتْ الْهِمَمُ مُتَوَفِّرَةً عَلَى دَعْوَى النِّسَاءِ وَذَلِكَ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ . فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُسْتَقِرًّا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا . " الثَّانِي " أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الرَّجُلِ إلَّا بِبَيِّنَةِ فَكَانَ يَحْتَاجُ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا كُلَّمَا أَطْعَمَهَا وَكَسَاهَا وَكَانَ تَرْكُهُ ذَلِكَ تَفْرِيطًا مِنْهُ إذَا تَرَكَ الْإِشْهَادَ عَلَى الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَفْعَلْهُ مُسْلِمٌ عَلَى عَهْدِ السَّلَفِ .
" الثَّالِثُ " أَنَّ الْإِشْهَادَ فِي هَذَا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ كَالْإِشْهَادِ عَلَى الْوَطْءِ ؛ فَإِنَّهُمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي الْوَطْءِ وَهِيَ ثَيِّبٌ لَمْ يُقْبَلْ مُجَرَّدُ قَوْلِهَا فِي عَدَمِ الْوَطْءِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الرَّجُلِ أَوْ يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِ الْمَنِيِّ أَوْ يُجَامِعُهَا فِي مَكَانٍ وَقَرِيبٍ مِنْهُمَا مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَطْءِ . عَلَى مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ . فَهُنَا دَعْوَاهَا وَافَقَتْ الْأَصْلَ وَلَمْ تُقْبَلْ لِتَعَذُّرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ . وَالْإِنْفَاقُ فِي الْبُيُوتِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَلَا يُكَلَّفُ النَّاسُ الْإِشْهَادَ عَلَى إعْطَاءِ النَّفَقَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا بِدْعَةٌ فِي الدِّينِ وَحَرَجٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَاتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ .
" الرَّابِعُ " أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَنَازِعُونَ : هَلْ يَجِبُ تَمْلِيكُ النَّفَقَةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا شَيْئًا ؛ بَلْ يُطْعِمُهَا وَيَكْسُوهَا بِالْمَعْرُوفِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ فِي النِّسَاءِ { : لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } " كَمَا فِي الْمَمْلُوكِ { وَكِسْوَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ : " { حَقُّهَا أَنْ تُطْعِمَهَا إذْ طَعِمْت وَتَكْسُوَهَا إذَا اكْتَسَيْت } كَمَا قَالَ فِي الْمَمَالِيكِ : " { إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ . } هَذِهِ عَادَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ لَا يُعْلَمُ قَطُّ أَنَّ رَجُلًا فَرَضَ لِزَوْجَتِهِ نَفَقَةً ؛ بَلْ يُطْعِمُهَا وَيَكْسُوهَا .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا كَمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ عَلَى رَقِيقِهِ وَبَهَائِمِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : الزَّوْجُ سَيِّدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وَقَرَأَ قَوْلَهُ : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : النِّكَاحُ رِقٌّ ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ عِنْدَ مَنْ يُرِقُّ كَرِيمَتَهُ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ وَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ } " فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ عَانِيَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ ؛ وَالْعَانِي الْأَسِيرُ وَأَنَّ الرَّجُلَ أَخَذَهَا بِأَمَانَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهَا وَلِهَذَا أَبَاحَ اللَّهُ لِلرَّجُلِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنْ يَضْرِبَهَا وَإِنَّمَا يُؤَدِّبُ غَيْرَهُ مَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ ؛ فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُؤْتَمَنًا عَلَيْهَا وَلَهُ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ : كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا اُؤْتُمِنَ عَلَيْهِ وَوُلِّيَ عَلَيْهِ كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْيَتِيمِ وَكَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمُسَاقِي وَالْمُزَارِعِ فِيمَا أَنْفَقَهُ عَلَى مَالِ الشَّرِكَةِ . وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ . وَعِنْدَ النِّكَاحِ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ وَالرَّجُلُ مُؤْتَمَنٌ فِيهِ فَقَبُولُ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ قَبُولِ قَوْلِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَتْ الْمَرْأَةُ نَفَقَتَهَا مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا نَفَقَةً : قُبِلَ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ الشَّارِعَ سَلَّطَهَا عَلَى ذَلِكَ ؛ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدِ : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ لَمَّا قَالَتْ : إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ ؛ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي فَقَالَ : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسَافِرًا عَنْهَا مُدَّةً وَهِيَ مُقِيمَةٌ فِي بَيْتِ أَبِيهَا وَادَّعَتْ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا أَرْسَلَ إلَيْهَا بِنَفَقَةِ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الْمَاضِي مُطْلَقًا فِي هَذَا الْبَابِ . وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَنْ تَدَبَّرَهَا تَبَيَّنَ لَهُ سِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ قَبُولَ قَوْلِ النِّسَاءِ فِي عَدَمِ النَّفَقَةِ فِي الْمَاضِي فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ . مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ . وَهُوَ يَئُولُ إلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُقِيمُ مَعَ الزَّوْجِ خَمْسِينَ سَنَةً ثُمَّ تَدَّعِي نَفَقَةَ خَمْسِينَ سَنَةً وَكِسْوَتَهَا وَتَدَّعِي أَنَّ زَوْجَهَا مَعَ يَسَارِهِ وَفَقْرِهَا لَمْ يُطْعِمْهَا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ شَيْئًا وَهَذَا مِمَّا يَتَبَيَّنُ النَّاسُ كَذِبَهَا فِيهِ قَطْعًا وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مُنَزَّهَةٌ عَنْ أَنْ يُحْكَمَ فِيهَا بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ ؛ وَالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ . " الْوَجْهُ الْخَامِسُ " أَنَّ الْأَصْلَ الْمُسْتَقِرَّ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ فِي جَنَبَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ ؛ سَوَاءٌ تَرَجَّحَ ذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ ؛ أَوْ الْيَدِ الْحِسِّيَّةِ أَوْ الْعَادَةِ الْعَمَلِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا إذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الْمُدَّعِي كَانَتْ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةً فِي حَقِّهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ كَالْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ وَكَمَا لَوْ أَقَامَ شَاهِدًا عَدْلًا فِي الْأَمْوَالِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُدَّعِي حُجَّةٌ تُرَجِّحُ جَانِبَهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ فِي الزَّوْجَيْنِ إذَا تَنَازَعَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لِكُلِّ مِنْهُمَا بِمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ إيَّاهُ فَيُحْكَمُ لِلْمَرْأَةِ بِمَتَاعِ النِّسَاءِ
وَلِلرَّجُلِ بِمَتَاعِ الرِّجَالِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْيَدُ الْحِسِّيَّةُ مِنْهُمَا ثَابِتَةً عَلَى هَذَا وَهَذَا لِأَنَّهُ يَعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَتَاعِ جِنْسِهِ . وَهُنَا الْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الرَّجُلَ يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَيَكْسُوهَا فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهَا جِهَةٌ تُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى نَفْسِهَا أُجْرِيَ الْأَمْرُ عَلَى الْعَادَةِ : " الْوَجْهُ السَّادِسُ " أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ أَكَلَتْ وَاكْتَسَتْ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الزَّوْجِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ . وَالْأَصْلُ عَدَمُ غَيْرِهِ فَيَكُونُ مِنْهُ كَمَا قُلْنَا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ : إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ عَلَّمَهَا الصِّنَاعَةَ وَالْقِرَاءَةَ الَّتِي أَصْدَقَهَا تَعْلِيمَهَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْحَادِثَ يُضَافُ إلَى السَّبَبِ الْمَعْلُومِ ؛ كَمَا لَوْ سَقَطَ فِي الْمَاءِ نَجَاسَةٌ فَرُئِيَ مُتَغَيِّرًا بَعْدَ ذَلِكَ وَشُكَّ هَلْ تَغَيَّرَ بِالنَّجَاسَةِ أَوْ غَيْرِهَا ؟ فَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُ يُضَافُ التَّغَيُّرُ إلَى النَّجَاسَةِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْتَى عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ فِيمَا إذَا رَمَى الصَّيْدَ وَغَابَ عَنْهُ وَلَمْ يَجِدْ فِيهِ أَثَرًا غَيْرَ سَهْمِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ سَبَبٍ آخَرَ زَهَقَتْ بِهِ نَفْسُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَدَّى فِي مَاءٍ أَوْ خَالَطَ كَلْبُهُ كِلَابًا أُخْرَى فَإِنَّ تِلْكَ لِأَسْبَابِ شَارَكَتْ فِي الزُّهُوقِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْحَاكِمِ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ فَهَذَا يَكُونُ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِيهَا كَمَا يُقَدِّرُ مَهْرَ الْمِثْلِ إذَا تَنَازَعَا فِيهِ وَكَمَا يُقَدِّرُ مِقْدَارَ الْوَطْءِ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ يَضْرِبُهَا ؛ فَإِنَّ الْحُقُوقَ الَّتِي لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهَا إلَّا بِالْمَعْرُوفِ مَتَى تَنَازَعَ فِيهَا الْخَصْمَانِ قَدَّرَهَا وَلِيُّ الْأَمْرِ . وَأَمَّا الرَّجُلُ إذَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ مِثْلِهِ لِمِثْلِهَا : فَهَذَا يَكْفِي وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ الْحَاكِمِ . وَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا نَفَقَةً يُسَلِّمُهَا إلَيْهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا بِالْمَعْرُوفِ فَالصَّحِيحُ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّهُ لَا يَفْرِضُ لَهَا نَفَقَةً وَلَا يَجِبُ تَمْلِيكُهَا ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْعَدْلِ . وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مَرْجِعُهَا إلَى الْعُرْفِ وَلَيْسَتْ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ ؛ بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْبِلَادِ وَالْأَزْمِنَةِ وَحَالِ الزَّوْجَيْنِ وَعَادَتِهِمَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } " وَقَالَ : { لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } إلَى قَوْله تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } . فَجَعَلَ الْمُبَاحَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ : إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ . وَأَخْبَرَ أَنَّ الرِّجَالَ لَيْسُوا أَحَقَّ بِالرَّدِّ إلَّا إذَا أَرَادُوا إصْلَاحًا ؛ وَجَعَلَ لَهُنَّ مِثْلَ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَوْلُهُ هُنَا : { بِالْمَعْرُوفِ } . يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ رَضِيَتْ بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ لَكَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ الْعَضْلُ وَالْمَعْرُوفُ تَزْوِيجُ الْكُفْءِ . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ : مَهْرُ مِثْلِهَا مِنْ الْمَعْرُوفِ ؛ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ أُولَئِكَ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } إلَى قَوْلِهِ : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ التَّرَاضِيَ بِالْمَعْرُوفِ وَالْإِمْسَاكَ
بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَالتَّسْرِيحَ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُعَاشَرَةَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنَّ لَهُنَّ وَعَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْوَاجِبُ الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ مِنْ أُمُورِ النِّكَاحِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ ؛ فَكَمَا أَنَّ مَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ هُوَ بِالْمَعْرُوفِ ؛ وَهُوَ الْعُرْفُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ فِي حَالِهِمَا نَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِهِمَا مِنْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَالزَّمَانِ كَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ؛ وَالْمَكَانِ فَيُطْعِمُهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ مِمَّا هُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَهُوَ الْعُرْفُ بَيْنَهُمْ . وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ مِنْ الْمُتْعَةِ وَالْعِشْرَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا وَيَطَأَهَا بِالْمَعْرُوفِ . وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِهَا وَحَالِهِ . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَطْءِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْمَعْرُوفِ ؛ لَا بِتَقْدِيرِ مِنْ الشَّرْعِ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمِثَالُ الْمَشْهُورُ هُوَ " النَّفَقَةُ " فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالْمَعْرُوفِ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ نَوْعًا وَقَدْرًا : مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ مُدًّا وَنِصْفًا أَوْ مُدَّيْنِ ؛ قِيَاسًا عَلَى الْإِطْعَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ مَا عَلَيْهِ الْأُمَّةُ عِلْمًا وَعَمَلًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ أَنَّهُ قَالَ لِهِنْدِ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } فَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْكِفَايَةَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ يُقَدِّرْ لَهَا نَوْعًا وَلَا قَدْرًا وَلَوْ تَقَدَّرَ ذَلِكَ بِشَرْعِ أَوْ غَيْرِهِ لَبَيَّنَ لَهَا الْقَدْرَ وَالنَّوْعَ كَمَا بَيَّنَ فَرَائِضَ الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ الْعَظِيمَةِ بِعَرَفَاتِ : { لَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } .
وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْكِفَايَةُ بِالْمَعْرُوفِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكِفَايَةَ بِالْمَعْرُوفِ تَتَنَوَّعُ بِحَالَةِ الزَّوْجَةِ فِي حَاجَتِهَا وَبِتَنَوُّعِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَبِتَنَوُّعِ حَالِ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَاره وَلَيْسَتْ كِسْوَةُ الْقَصِيرَةِ الضَّئِيلَةِ كَكُسْوَةِ الطَّوِيلَةِ الْجَسِيمَةِ وَلَا كِسْوَةُ الشِّتَاءِ كَكِسْوَةِ الصَّيْفِ وَلَا كِفَايَةُ طَعَامِهِ كَطَعَامِهِ وَلَا طَعَامُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ كَالْبَارِدَةِ وَلَا الْمَعْرُوفُ فِي بِلَادِ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ . كَالْمَعْرُوفِ فِي بِلَادِ الْفَاكِهَةِ وَالْخَمِيرِ . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَه عَنْ { حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ القشيري عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ ؟ قَالَ : تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْت ؛ وَلَا تَضْرِبُ الْوَجْهَ ؛ وَلَا تُقَبِّحْ ؛ وَلَا تَهْجُرْ إلَّا فِي الْبَيْتِ . } فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لِلزَّوْجَةِ مَرَّةً أَنْ تَأْخُذَ كِفَايَةَ وَلَدِهَا بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ فِي الْخُطْبَةِ الَّتِي خَطَبَهَا يَوْمَ أَكْمَلَ اللَّهُ
الدِّينَ فِي أَكْبَرِ مَجْمَعٍ كَانَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ : { لَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ لِلسَّائِلِ الْمُسْتَفْتِي لَهُ عَنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ : { تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْت } " وَلَمْ يَأْمُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مُعَيَّنٍ ؛ لَكِنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ تَارَةً وَبِالْمُوَاسَاةِ بِالزَّوْجِ أُخْرَى . وَهَكَذَا قَالَ فِي نَفَقَةِ الْمَمَالِيكِ ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : هُمْ إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ؛ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ؛ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ؛ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وَلَا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا يُطِيقُ } فَفِي الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ أَمْرُهُ وَاحِدٌ : تَارَةً يَذْكُرُ أَنَّهُ يَجِبُ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ . وَتَارَةً يَأْمُرُ بِمُوَاسَاتِهِمْ بِالنَّفْسِ . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الْمَعْرُوفَ هُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُوَاسَاةُ مُسْتَحَبَّةٌ . وَقَدْ يُقَالُ أَحَدُهُمَا تَفْسِيرٌ لِلْآخَرِ . وَعَلَى هَذَا فَالْوَاجِبُ هُوَ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ فِي النَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَصِفَةِ الْإِنْفَاقِ . وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ . أَمَّا " النَّوْعُ " فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُعْطِيَهَا مَكِيلًا كَالْبُرِّ وَلَا مَوْزُونًا كَالْخُبْزِ وَلَا ثَمَنَ ذَلِكَ كَالدَّرَاهِمِ ؛ بَلْ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ . فَإِذَا أَعْطَاهَا كِفَايَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عَادَتُهُمْ أَكْلَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ فَيُعْطِيَهَا ذَلِكَ .
أَوْ يَكُونَ أَكْلَ الْخُبْزِ وَالْإِدَامِ فَيُعْطِيَهَا ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُمْ أَنْ يُعْطِيَهَا حَبًّا فَتَطْحَنَهُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ يَطْحَنُ فِي الطَّاحُونِ وَيَخْبِزُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ يَخْبِزُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ يَشْتَرِي خُبْزًا مِنْ السُّوقِ فَعَلَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الطَّبِيخُ وَنَحْوُهُ فَعَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ وَلَا حَبَّاتٍ أَصْلًا ؛ لَا بِشَرْعِ وَلَا بِفَرْضِ ؛ فَإِنَّ تَعَيُّنَ ذَلِكَ دَائِمًا مِنْ الْمُنْكَرِ لَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ مُضِرٌّ بِهِ تَارَةً وَبِهَا أُخْرَى . وَكَذَلِكَ " الْقَدْرُ " لَا يَتَعَيَّنُ مِقْدَارٌ مُطَّرِدٌ ؛ بَلْ تَتَنَوَّعُ الْمَقَادِيرُ بِتَنَوُّعِ الْأَوْقَاتِ . وَأَمَّا " الْإِنْفَاقُ " فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْوَاجِبَ تَمْلِيكَهَا النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ . وَقِيلَ : لَا يَجِبُ التَّمْلِيكُ . وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمَعْرُوفَ ؛ بَلْ عُرْفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ يَأْتِي بِالطَّعَامِ إلَى مَنْزِلِهِ فَيَأْكُلُ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَمَمْلُوكُهُ : تَارَةً جَمِيعًا . وَتَارَةً أَفْرَادًا . وَيَفْضُلُ مِنْهُ فَضْلٌ تَارَةً فَيَدَّخِرُونَهُ وَلَا يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ يُمَلِّكُهَا كُلَّ يَوْمٍ دَرَاهِمَ تَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمَالِكِ ؛ بَلْ مَنْ عَاشَرَ امْرَأَةً بِمِثْلِ هَذَا الْفَرْضِ كَانَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَعَاشَرَا بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ وَتَضَارَّا فِي الْعِشْرَةِ ؛ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ بِصَاحِبِهِ عِنْدَ الضَّرَرِ ؛ لَا عِنْدَ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبَ فِي الزَّوْجَةِ مِثْلَ مَا أَوْجَبَ فِي الْمَمْلُوكِ . تَارَةً قَالَ : " { لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } " كَمَا قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ . وَتَارَةً قَالَ : { تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْت } " كَمَا قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَمْلِيكُ الْمَمْلُوكِ نَفَقَتَهُ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَقْتَضِي إيجَابَ التَّمْلِيكِ . وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فَمَتَى اعْتَرَفَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ يُطْعِمهَا إذَا أَكَلَ وَيَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَى وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ لِمِثْلِهَا فِي بَلَدِهَا فَلَا حَقَّ لَهَا سِوَى ذَلِكَ . وَإِنْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ أَنْ يُنْفِقَ بِالْمَعْرُوفِ ؛ بَلْ وَلَا لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِدَرَاهِمَ مُقَدَّرَةٍ مُطْلَقًا أَوْ حَبٍّ مُقَدَّرٍ مُطْلَقًا ؛ لَكِنْ يَذْكُرُ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَلِيقُ بِهِمَا.
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ " قَسْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْوَطْءِ وَالْعِشْرَةِ وَالْمُتْعَةِ " وَاجِبَانِ كَمَا قَدْ قَرَّرْنَاهُ بِأَكْثَرِ مِنْ عَشَرَةِ أَدِلَّةٍ وَمَنْ شَكَّ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ فَقَدْ أَبْعَدَ تَأَمُّلَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالسِّيَاسَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ . ثُمَّ الْوَاجِبُ قِيلَ . مَبِيتُ لَيْلَةٍ مِنْ أَرْبَعِ لَيَالٍ وَالْوَطْءُ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مُرَّةٌ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَوْلَى وَالْمُتَزَوِّجِ أَرْبَعًا . وَقِيلَ : إنَّ الْوَاجِبَ وَطْؤُهَا بِالْمَعْرُوفِ فَيَقِلُّ وَيَكْثُرُ بِحَسَبِ حَاجَتِهَا وَقُدْرَتِهِ كَالْقُوتِ سَوَاءً .
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهَا مِنْ مُوَافَقَتِهِ فِي الْمَسْكَنِ وَعِشْرَتِهِ وَمُطَاوَعَتِهِ فِي الْمُتْعَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ . عَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ فِي أَيِّ بَلَدٍ أَوْ دَارٍ إذَا
كَانَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَمْ تَشْتَرِطْ خِلَافَهُ ؛ وَعَلَيْهَا أَنْ لَا تُفَارِقَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا لِمُوجِبِ شَرْعِيٍّ فَلَا تَنْتَقِلُ وَلَا تُسَافِرُ وَلَا تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ إلَّا بِإِذْنِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ } بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ وَالْأَسِيرِ وَعَلَيْهَا تَمْكِينُهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا إذَا طَلَبَ ذَلِكَ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ اسْتِمْتَاعًا يَضُرُّ بِهَا وَلَا يُسْكِنَهَا مَسْكَنًا يَضُرُّ بِهَا وَلَا يَحْبِسَهَا حَبْسًا يَضُرُّ بِهَا .
فَصْلٌ :
وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ عَلَيْهَا أَنْ تَخْدِمَهُ فِي مِثْلِ فِرَاشِ الْمَنْزِلِ وَمُنَاوَلَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْخُبْزِ وَالطَّحْنِ وَالطَّعَامِ لِمَمَالِيكِهِ وَبَهَائِمِهِ : مِثْلَ عَلْفِ دَابَّتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا تَجِبُ الْخِدْمَةُ . وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ كَضَعْفِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْعِشْرَةُ وَالْوَطْءُ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مُعَاشَرَةً لَهُ بِالْمَعْرُوفِ ؛ بَلْ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ الَّذِي هُوَ نَظِيرُ الْإِنْسَانِ وَصَاحِبُهُ فِي الْمَسْكَنِ إنْ لَمْ يُعَاوِنْهُ عَلَى مَصْلَحَةٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَاشَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ . وَقِيلَ - وَهُوَ الصَّوَابُ - وُجُوبُ الْخِدْمَةِ ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ سَيِّدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ وَهِيَ عَانِيَةٌ عِنْدَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْعَانِي وَالْعَبْدِ الْخِدْمَةُ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : تَجِبُ الْخِدْمَةُ الْيَسِيرَةُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَجِبُ الْخِدْمَةُ بِالْمَعْرُوفِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَعَلَيْهَا أَنْ تَخْدِمَهُ
الْخِدْمَةَ الْمَعْرُوفَةَ مِنْ مِثْلِهَا لِمِثْلِهِ وَيَتَنَوَّعُ ذَلِكَ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ : فَخِدْمَةُ الْبَدَوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الْقَرَوِيَّةِ وَخِدْمَةِ الْقَوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الضَّعِيفَةِ .
فَصْلٌ :
وَالْمَعْرُوفُ فِيمَا لَهُ وَلَهَا هُوَ مُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يُرْجَعُ فِي مُوجَبِهِ إلَى الْعُرْفِ كَمَا يُوجِبُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ فِي الْبَيْعِ النَّقْدَ الْمَعْرُوفَ فَإِنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ شَرْطًا لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا يُحَلِّلُ حَرَامًا فَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ؛ فَإِنَّ مُوجِبَاتِ الْعُقُودِ تُتَلَقَّى مِنْ اللَّفْظِ تَارَةً . وَمِنْ الْعُرْفِ تَارَةً أُخْرَى ؛ لَكِنْ كِلَاهُمَا مُقَيَّدٌ بِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَإِنَّ لِكُلِّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ أَنْ يُوجِبَ لِلْآخَرِ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ اللَّهُ مِنْ إيجَابِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ أَنْ يُوجِبَ فِي الْمُعَاوَضَةِ مَا يُبَاحُ بَذْلُهُ بِلَا عِوَضٍ : كَعَارِيَةِ الْبُضْعِ ؛ وَالْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ ؛ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يَجِبَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ إذَا حُرِّمَ بَذْلُهُ كَيْفَ يَجِبُ بِالشَّرْطِ فَهَذِهِ أُصُولٌ جَامِعَةٌ مَعَ اخْتِصَارٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَةِ وَسَافَرَ عَنْهَا سَنَةً كَامِلَةً ؛ وَلَمْ يَتْرُكْ عِنْدَهَا شَيْئًا وَلَا لَهَا شَيْءٌ تُنْفِقُهُ عَلَيْهَا وَهَلَكَتْ مِنْ الْجُوعِ فَحَضَرَ مَنْ يَخْطُبُهَا
وَدَخَلَ بِهَا وَحَمَلَتْ مِنْهُ فَعَلِمَ الْحَاكِمُ أَنَّ الزَّوْجَ الْأَوَّلَ مَوْجُودٌ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَوَضَعَتْ الْحَمْلَ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي ؛ وَالزَّوْجُ الثَّانِي يُنْفِقُ عَلَيْهَا إلَى أَنْ صَارَ عُمْرُ الْمَوْلُودِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَلَمْ يَحْضُرْ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ وَلَا عُرِفَ لَهُ مَكَانٌ : فَهَلْ لَهَا أَنْ تُرَاجِعَ الزَّوْجَ الثَّانِيَ ؟ أَوْ تَنْتَظِرَ الْأَوَّلَ .
فَأَجَابَ :
إذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَتِهِ فَلَهَا فَسْخُ النِّكَاحِ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ . وَالْفَسْخُ لِلْحَاكِمِ ؛ فَإِذَا فَسَخَتْ هِيَ نَفْسَهَا لِتَعَذُّرِ فَسْخِ الْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِهِ : فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَفْسَخْ الْحَاكِمُ بَلْ شَهِدَ لَهَا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَتَزَوَّجَتْ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَلَمْ يَمُتْ الزَّوْجُ : فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ ؛ لَكِنْ إذَا اعْتَقَدَ الزَّوْجُ الثَّانِي أَنَّهُ صَحِيحٌ لِظَنِّهِ مَوْتَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَانْفِسَاخِ النِّكَاحِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ ؛ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لَكِنْ تَعْتَدُّ لَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الْأَوَّلِ إنْ أَمْكَنَ وَتَتَزَوَّجُ بِمَنْ شَاءَتْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ لِرَجُلِ وَأَرَادَ الزَّوْجُ السَّفَرَ إلَى بِلَادِهِ فَقَالَ لَهُ وَكِيلُ الْأَبِ فِي قَبُولِ النِّكَاحِ : لَا تُسَافِرْ إمَّا أَنْ تُعْطِيَ الْحَالَّ مِنْ الصَّدَاقِ وَتَنْتَقِلَ بِالزَّوْجَةِ أَوْ تُرْضِيَ الْأَبَ . فَسَافَرَ وَلَمْ يُجِبْ إلَى ذَلِكَ وَهُوَ غَائِبٌ
عَنْ الزَّوْجَةِ الْمَذْكُورَةِ مُدَّةَ سَنَةٍ وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُ نَفَقَةٌ : فَهَلْ لِوَالِدِ الزَّوْجَةِ أَنْ يَطْلُبَ فَسْخَ النِّكَاحِ .
فَأَجَابَ :
نَعَمْ إذَا عَرَضَتْ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ فَبَذَلَ لَهُ تَسْلِيمُهَا ؛ وَهِيَ مِمَّنْ يُوطَأُ مِثْلُهَا وَجَبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِذَلِكَ ؛ فَإِذَا تَعَذَّرَتْ النَّفَقَةُ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ لِلزَّوْجَةِ الْمُطَالَبَةُ بِالْفَسْخِ ؛ إذَا كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فِي رَجُلٍ تَبَرَّعَ وَفَرَضَ لِأُمِّهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ عَاقِلَةٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ وَأَذِنَ لَهَا أَنْ تَسْتَدِينَ وَتُنْفِقَ عَلَيْهَا وَتَرْجِعَ عَلَيْهِ وَبَقِيَتْ مُقِيمَةً عِنْدَهُ مُدَّةً وَلَمْ تَسْتَدِنْ لَهَا نَفَقَةٌ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تَتْرُكْ عَلَيْهَا دَيْنًا وَخَلَّفَتْ مِنْ الْوَرَثَةِ ابْنَهَا هَذَا وَبِنْتَيْنِ . ثُمَّ تُوُفِّيَ ابْنُهَا بَعْدَهَا : فَهَلْ يَصِيرُ مَا فَرَضَ عَلَى نَفْسِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ وَيُقْسَمُ عَلَى وَرَثَتِهَا أَمْ لَا ؟ وَهَلْ إذَا حَكَمَ حَاكِمٌ مَعَ قَوْلِكُمْ النَّفَقَةُ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ : هَلْ يُنَفَّذُ حُكْمُهُ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَجِبُ اسْتِرْجَاعُ مَا أَخَذَ وَرَثَتُهَا مِنْ تَرِكَةِ وَلَدِهَا بِهَذَا الْوَجْهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ ذَاكَ دَيْنًا لَهَا فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ وَالْمُسْتَحِقَّةُ وَرَثَتُهَا وَمَا عَلِمْت أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالَ إنَّ نَفَقَةَ
الْقَرِيبِ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ لِمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ ؛ إلَّا إذَا كَانَ قَدْ اسْتَدَانَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِإِذْنِ حَاكِمٍ أَوْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إذْنِ حَاكِمٍ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ وَطَلَبَ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ : فَهَذَا فِي رُجُوعِهِ خِلَافٌ . فَأَمَّا اسْتِقْرَارُهَا فِي الذِّمَّةِ بِمُجَرَّدِ الْفَرْضِ - إمَّا بِإِنْفَاقِ مُتَبَرِّعٍ أَوْ بِكَسْبِهِ كَمَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ - فَمَا عَلِمْت لَهُ قَائِلًا فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ لَمْ يُلْزَمْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ وَلِمَنْ أَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَخَذَهُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ ؛ وَإِنْ قَضَى بِهَا الْقَاضِي ؛ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْقَاضِي فِي الِاسْتِدَانَةِ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةً عَامَّةً فَصَارَ كَإِذْنِ الْغَائِبِ ؛ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي قَضَاءِ الْقَاضِي هَلْ يَصِيرُ بِهِ دَيْنًا ؟ رِوَايَتَيْنِ ؛ لَكِنْ حَمَلُوا رِوَايَةَ الْوُجُوبِ عَلَى مَا إذَا أَمَرَ بِالِاسْتِدَانَةِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ . وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مُوسِرًا وَتَمَرَّدَ وَامْتَنَعَ عَنْ الْإِنْفَاقِ فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ يَأْمُرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ فَأَمَرَهَا الْقَاضِي بِذَلِكَ وَتَرْجِعُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي كَأَمْرِهِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ فَأَمَرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَكَانَتْ فَائِدَةُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِدَانَةِ لِتَأْكِيدِ حَقِّهَا فِي النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ . لَكِنْ لَوْ أَمَرَ الْقَرِيبَ بِالِاسْتِدَانَةِ وَلَمْ يَسْتَدِنْ ؛ بَلْ اسْتَغْنَى بِنَفَقَةِ مُتَبَرِّعٍ ؛ أَوْ بِكَسْبِ لَهُ : فَقَدْ فَهِمَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ أَنَّ النَّفَقَةَ تَسْتَقِرُّ فِي الذِّمَّةِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ لِإِطْلَاقِهِمْ الْأَمْرَ بِالِاسْتِدَانَةِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ وُجُودِ الِاسْتِدَانَةِ وَغَيْرُهُ إنَّمَا فَهِمَ أَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لِأَجْلِ وُجُودِ الِاسْتِدَانَةِ . وَأَمَّا الْإِذْنُ فِي الِاسْتِدَانَةِ مِنْ غَيْرِ وُجُودِهَا لَا يُصَيِّرُ الْمَأْذُونَ فِيهِ دَيْنًا حَتَّى يُسْتَدَانَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ وَخَلَّفْت مِنْ الْوَرَثَةِ وَلَدًا ذَكَرًا وَقَدْ ادَّعَى عَلَى أَبِيهِ بِالصَّدَاقِ وَالْكِسْوَةِ : فَهَلْ يَلْزَمُ الزَّوْجَ الْكِسْوَةُ الْمَاضِيَةُ قَبْلَ مَوْتِهَا وَالِابْنُ مُحْتَاجٌ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَ فَعَلَى الْأَبِ أَنْ يُوَفِّيَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ ؛ بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ مِيرَاثٌ وَكَانَ مُحْتَاجًا عَاجِزًا عَنْ الْكِسْوَةِ : فَعَلَى الْأَبِ إذَا كَانَ مُوسِرًا أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الْمُحْتَاجِينَ وَالْعَاجِزِينَ عَنْ الْكَسْبِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةِ وَدَخَلَ بِهَا وَهُوَ مُسْتَمِرُّ النَّفَقَةِ وَهِيَ نَاشِزٌ ؛ ثُمَّ إنَّ وَالِدَهَا أَخَذَهَا وَسَافَرَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ : فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا سَافَرَ بِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ وَتُعَزَّرُ الزَّوْجَةُ إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ يُمْكِنُهَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا مِنْ حِينِ سَافَرَتْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ تَزَوَّجَ عِنْدَ قَوْمٍ مُدَّةَ سَنَةٍ ثُمَّ جَرَى بَيْنَهُمْ كَلَامٌ فَادَّعَوْا عَلَيْهِ بِكِسْوَةِ سَنَةٍ فَأَخَذُوهَا مِنْهُ ثُمَّ ادَّعَوْا عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ وَقَالُوا : هِيَ تَحْتَ الْحَجْرِ ؛ وَمَا أَذِنَّا لَك أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهَا : فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، إذَا كَانَ الزَّوْجُ تَسَلَّمَهَا التَّسْلِيمَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ أَوْ أَبُوهُ أَوْ نَحْوُهُمَا يُطْعِمُهَا كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ : لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ وَلَا لَهَا أَنْ تَدَّعِيَ بِالنَّفَقَةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْفَاقُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ وَكَذَلِكَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ مَنْ كَلَّفَ الزَّوْجَ أَنْ يُسَلِّمَ إلَى أَبِيهَا دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ لَهَا بِهَا مَا يُطْعِمُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ قَدْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارِ الْأَبِ لَهَا بِذَلِكَ وَتَسْلِيمِهَا إلَيْهِمْ ؛ مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ الْأَكْلِ ؛ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ النَّفَقَةَ ؛ وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا أَنْفَقُوا عَلَيْهَا ؛ فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ فِي الشَّرِيعَةِ لَا تَحْتَمِلُهُ أَصْلًا . وَمَنْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ مُعْتَقِدًا أَنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ لَهَا كَالدَّيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَلِيُّ وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ : كَانَ مُخْطِئًا مِنْ وُجُوهٍ
مِنْهَا : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّفَقَةِ إطْعَامُهَا ؛ لَا حِفْظُ الْمَالِ لَهَا . " الثَّانِي " أَنَّ قَبْضَ الْوَلِيِّ لَهَا لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ : " الثَّالِثُ " أَنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إلَى إذْنِهِ ؛ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لَهَا بِالشَّرْعِ وَالشَّارِعُ أَوْجَبَ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا فَلَوْ نَهَى الْوَلِيُّ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ . " الرَّابِعُ " إقْرَارُهُ لَهَا مَعَ حَاجَتِهِ إلَى النَّفَقَةِ إذْنٌ عُرْفِيٌّ وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ لَمْ يَأْمَنْ الزَّوْجَ عَلَى النَّفَقَةِ ؛ لِوَجْهَيْنِ : " إحْدَاهُمَا " أَنَّ الِائْتِمَانَ بِهَا حَصَلَ بِالشَّرْعِ كَمَا اُؤْتُمِنَ الزَّوْجُ عَلَى بَدَنِهَا وَالْقَسْمِ لَهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهَا ؛ فَإِنَّ الرِّجَالَ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ وَالنِّسَاءُ عَوَانٍ عِنْدَ الرِّجَالِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . " الثَّانِي " أَنَّ الِائْتِمَانَ الْعُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ حَبَسَتْهُ زَوْجَتُهُ عَلَى كِسْوَتِهَا وَصَدَاقِهَا وَبَقِيَ مُدَّةً : فَهَلْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَتِهَا مُدَّةَ إقَامَتِهِ فِي حَبْسِهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَحَبَسَتْهُ كَانَتْ ظَالِمَةً لَهُ مَانِعَةً لَهُ مِنْ التَّمَكُّنِ مِنْهَا : فَلَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ نَفَقَةً . وَإِنْ كَانَ لَهَا حَقٌّ وَاجِبٌ حَالٌّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ فَمَنَعَهُ بَعْدَ الطَّلَبِ الشَّرْعِيِّ كَانَ ظَالِمًا فَإِذَا كَانَتْ مَعَ هَذَا بَاذِلَةً مَا يَجِبُ عَلَيْهَا وَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهُ مُدَّةُ سَبْعِ سِنِينَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ؛ لِأَجْلِ مَرَضِهَا : فَهَلْ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ نَفَقَةً أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَسْتَحِقُّ وَحَكَمَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إعْطَاؤُهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً وَكَانَتْ حَامِلًا فَأَسْقَطَتْ : فَهَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ النَّفَقَةُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، إذَا أَلْقَتْ سِقْطًا انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ وَسَقَطَتْ بِهِ النَّفَقَةُ وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ أَمْ لَا إذَا كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ فِيهِ خَلْقُ الْإِنْسَانِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ فَفِيهِ نِزَاعٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا وَأَلْزَمَهَا بِوَفَاءِ الْعِدَّةِ فِي مَكَانِهَا فَخَرَجَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تُوُفِّيَ الْعِدَّةَ وَطَلَبَهَا الزَّوْجُ مَا وَجَدَهَا : فَهَلْ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ .
فَأَجَابَ :
لَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِنَفَقَةِ الْمَاضِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْعِدَّةِ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ وَخَلَّفَتْ لَهُ ثَلَاثَ بَنَاتٍ : فَأَعْطَاهُمْ لِحَمِيهِ وَحَمَاتِهِ وَقَالَ : رُوحُوا بِهِمْ إلَى بَلَدِكُمْ حَتَّى أَجِيءَ إلَيْهِمْ ؛ فَغَابَ عَنْهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ فَهَلْ عَلَى وَالِدِهِمْ نَفَقَتُهُمْ وَكِسْوَتُهُمْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
مَا أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى وَالِدِهِمْ فَلَهُمْ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً حَمَلَتْ مِنْهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ بِهَا : فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْوَلَدِ فِي تَرْبِيَتِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْوَلَدُ وَلَدُ زِنَا ؛ لَا يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ؛ فَإِنَّهُ يَتِيمٌ مِنْ الْيَتَامَى وَنَفَقَةُ الْيَتَامَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُؤَكَّدَةٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُتَزَوِّجٍ بِامْرَأَةِ وَلَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهِ وَلَهُ فَرْضٌ عَلَى أَبِيهِ تَتَنَاوَلُهُ أُمُّهُ وَالزَّوْجُ يَقُومُ بِالصَّبِيِّ بِكُلْفَتِهِ وَمُؤْنَتِهِ مُدَّةَ سِنِينَ وَحِينَ تَزَوَّجَ الرَّجُلُ كَانَ مِنْ الصَّدَاقِ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ حَالَّةٍ فَشَارَطَتْهُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُطَالِبُهُ بِهَا إذَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى الْوَلَدِ مَا دَامَ الصَّبِيُّ عِنْدَهُ ؛ وَلَمْ تُعَيِّنْ لَهُ كُلْفَةً وَلَا نَفَقَةً : فَهَلْ لَهُ مُطَالَبَةُ أُمِّ الصَّبِيِّ بِكُلْفَةِ مُدَّةِ مَقَامِهِ عِنْدَهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَ وَلَمْ يُوَفِّ امْرَأَتَهُ بِمَا شَرَطَتْ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا كَانَ الْإِنْفَاقُ بِمَعْرُوفِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مُتَبَرِّعًا بِذَلِكَ سَوَاءٌ أَنْفَقَ بِإِذْنِ أُمِّهِ أَمْ لَا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ امْرَأَةٍ تَطْعَمُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا ؛ بِحُكْمِ أَنَّهَا تَتْعَبُ فِيهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تَطْعَمُ بِالْمَعْرُوفِ : مِثْلَ الْخُبْزِ وَالطَّبِيخِ وَالْفَاكِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِطْعَامِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَجَزَ عَنْ الْكَسْبِ وَلَا لَهُ شَيْءٌ وَلَهُ زَوْجَةٌ وَأَوْلَادٌ : فَهَلْ يَجُوزُ لِوَلَدِهِ الْمُوسِرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَإِخْوَتِهِ الصِّغَارِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَعَمْ عَلَى الْوَلَدِ الْمُوسِرِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى أَبِيهِ وَزَوْجَةِ أَبِيهِ وَعَلَى إخْوَتِهِ الصِّغَارِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ عَاقًّا لِأَبِيهِ قَاطِعًا لِرَحِمِهِ مُسْتَحِقًّا لِعُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ وَطَلَبَ مِنْهُ مَا يَمُونُهُ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ مُوسِرًا وَأَبُوهُ مُحْتَاجًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ تَمَامَ كِفَايَتِهِ وَكَذَلِكَ إخْوَتُهُ إذَا كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ الْكَسْبِ : فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ وَلِأَبِيهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مَا يَحْتَاجُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الِابْنِ ؛ وَلَيْسَ لِلِابْنِ مَنْعُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ مَالٌ وَالْوَالِدُ فَقِيرٌ وَلَهُ عَائِلَةٌ وَزَوْجُهُ غَيْرُ وَالِدَةِ الْوَلَدِ الْكَبِيرِ : فَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلَدِهِ نَفَقَةُ وَالِدِهِ وَنَفَقَةُ إخْوَتِهِ وَزَوْجَتِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ الْأَبُ عَاجِزًا عَنْ النَّفَقَةِ وَالِابْنُ قَادِرًا عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ فَعَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ عَاجِزٍ عَنْ نَفَقَةِ بِنْتِهِ وَكَانَ غَائِبًا وَهِيَ عِنْدَ أُمِّهَا وَجَدَّتُهَا تُنْفِقُ عَلَيْهَا ؛ مَعَ أَنَّهَا مُوسِرَةٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضٌ : فَهَلْ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّفَقَةِ الْمُدَّةَ الَّتِي كَانَ عَاجِزًا عَنْ النَّفَقَةِ فِيهَا ؟ وَهَلْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إعْسَارِهِ إذَا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ ؟ أَوْ قَوْلُ الْمُدَّعِي ؟ وَإِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي بَلَدٍ فِيهَا خَيْرُهُ وَيُرِيدُ أَخْذَ بِنْتِهِ مَعَهُ وَهُوَ يُسَافِرُ سَفَرَ نُقْلَةٍ : فَيَسْتَحِقُّ السَّفَرَ بِهَا وَتَكُونُ الْحَضَانَةُ لِأُمِّهَا ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْمُدَّةُ الَّتِي كَانَ عَاجِزًا عَنْ النَّفَقَةِ فِيهَا فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ وَلَا رُجُوعَ لِمَنْ أَنْفَقَ فِيهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ بِغَيْرِ نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا أَنْفَقَ مُنْفِقٌ بِدُونِ إذْنِهِ مَعَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ . فَقِيلَ : يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي قَوْلٍ . وَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُ عَلَى هَذِهِ النَّفَقَةِ وَلَا عَلَى الرُّجُوعِ بِهَا حَتَّى يَثْبُتَ الْوُجُوبُ بِيَسَارِهِ . فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْيَسَارِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَالٌ : فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ . وَإِذَا كَانَ مُقِيمًا فِي غَيْرِ بَلَدِ الْأُمِّ فَالْحَضَانَةُ لَهُ ؛ لَا لِلْأُمِّ ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ . وَهَذَا أَيْضًا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ مُطَلَّقَةٌ وَلَهُ مِنْهَا وَلَدٌ ؛ وَقَدْ بَلَغَ مِنْ الْعُمْرِ سَبْعَ سِنِينَ وَهُمْ يُرِيدُونَ فَرْضَهُ . وَقَدْ تَزَوَّجَتْ أُمُّهُ ؛ وَكَفَلَتْهُ جَدَّتُهُ وَوَجَّهَتْ كَفِيلَهُ وَسَافَرُوا بِهِ إلَى الإسكندرية وَغَيَّبُوهُ مُدَّةَ سَبْعِ سِنِينَ ؛ وَطُلِبَ مِنْهُ فَرْضُ السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ ؟
فَأَجَابَ :
إذَا حَكَمَ لَهُ حَاكِمٌ لَمْ يَكُنْ لِأُمِّهِ أَنْ تُغَيِّبَهُ عَنْهُ ؛ وَإِذَا غَيَّبَتْهُ عَنْهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالنَّفَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ وَلَا بِمَا أَنْفَقُوهُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ عَلَيْهِ وَقْفٌ مِنْ جَدِّهِ ثُمَّ عَلَى وَلَدِهِ ؛ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ أُجْرَتَهُ ؛ وَلَهُ مِلْكٌ زَادَ أُجْرَةً كَثِيرَةً وَغَيْرَهَا ؛ وَالْكُلُّ مُعَطَّلٌ وَلَهُ وَلَدٌ مُعْسِرٌ ؛ وَلَهُ أَهْلٌ وَأَوْلَادٌ ؛ فَطَلَبَ ابْنُهُ بَعْضَ الْأَمَاكِنِ ليدولبه فَلَمْ يُجِبْهُ : فَهَلْ
يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ أَنْ يُؤَجِّرَهُمْ وَيُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ ؟ أَوْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مَعَ غِنَى الْوَالِدِ وَإِعْسَارِ الْوَلَدِ ؟
فَأَجَابَ :
نَعَمْ ، عَلَيْهِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ بِالْمَعْرُوفِ إذَا كَانَ الْوَلَدُ فَقِيرًا عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ وَالْوَالِدُ مُوسِرًا وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْوَلَدِ إلَّا بِإِجَارَةِ مَا هُوَ مُتَعَطِّلٌ فِي عَقَارِهِ وَبِعِمَارَةِ مَا يُمْكِنُ عِمَارَتُهُ مِنْهُ أَوْ يُمَكَّنُ الْوَلَدُ مِنْ أَنْ يُؤَجِّرَ وَيُعَمِّرَ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ فَعَلَى الْوَالِدِ ذَلِكَ ؛ بَلْ مَنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ لَا يُعَمِّرُهُ وَلَا يُؤَجِّرُهُ فَهُوَ سَفِيهٌ مُبَذِّرٌ لِمَالِهِ ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَضِيعَ مَالُهُ . فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ وَلَدٌ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَصْلَحَتِهِ وَمَصْلَحَةِ وَلَدِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَلَفْظُ { الْمَوْلُودِ لَهُ } أَجْوَدُ مِنْ لَفْظِ " الْوَالِدِ " لِوُجُوهِ : أَنَّهُ يَعُمُّ الْوَالِدَ وَسَيِّدَ الْعَبْدِ وَأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْوَلَدَ لِأَبِيهِ لَا لِأُمِّهِ . فَيُفِيدُ هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ لِأَبِيهِ كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ مِنْ : أَنَّ الْأَبَ يَسْتَبِيحُ مَالَ وَلَدِهِ وَمَنَافِعَهُ وَأَنَّهُ يُبَيِّنُ جِهَةَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُ الْوَلَدِ لَهُ ؛ لَا لِلْأُمِّ . وَأَنَّ الْأُمَّ هِيَ الَّتِي وَلَدَتْهُ حَقِيقَةً ؛ دُونَ الْأَبِ . فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ . وَلِهَذَا يُقَالُ : وُلِدَ لِفُلَانِ مَوْلُودٌ . وُلِدَ لِي وَلَدٌ .
وَهَذِهِ الْآيَةُ تُوجِبُ رِزْقَ الْمُرْتَضِعِ عَلَى أَبِيهِ ؛ لِقَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَأَوْجَبَ نَفَقَتَهُ حَمْلًا وَرَضِيعًا بِوَاسِطَةِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ رِزْقُهُ بِدُونِ رِزْقِ حَامِلِهِ وَمُرْضِعِهِ . فَسُئِلْت : فَأَيْنَ نَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى أَبِيهِ بَعْدَ فِطَامِهِ ؟ فَقُلْت : دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ تَنْبِيهًا ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي حَالِ اخْتِفَائِهِ وَارْتِضَاعِهِ أَوْجَبَ نَفَقَةَ مَنْ تَحْمِلُهُ وَتُرْضِعُهُ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ إلَّا بِذَلِكَ : فَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ بَعْدَ فِصَالِهِ إذَا كَانَ يُبَاشِرُ الِارْتِزَاقَ بِنَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهَذَا مِنْ حُسْنِ الِاسْتِدْلَالِ فَقَدْ تَضَمَّنَ الْخِطَابُ التَّنْبِيهَ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْكُوتِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْمَنْطُوقِ ؛ وَتَضَمَّنَ تَعْلِيلَ الْحُكْمِ بِكَوْنِ النَّفَقَةِ إنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْأَبِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَهُ الْوَلَدُ دُونَ الْأُمِّ ؛ وَمَنْ كَانَ الشَّيْءُ لَهُ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ؛ وَلِذَا سُمِّيَ الْوَلَدُ كَسْبًا فِي قَوْلِهِ : ( وَمَا كَسَبَ وَفِي قَوْلِهِ : " { إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ؛ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ }.
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ تَائِبَةٌ وَتُصَلِّي وَتَصُومُ : أَيُّ شَيْءٍ يَلْزَمُ سَيِّدَهَا إذَا لَمْ يُجَامِعْهَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ مُحْتَاجَةً إلَى النِّكَاحِ فَلْيُعِفَّهَا : إمَّا بِأَنْ يَطَأَهَا وَإِمَّا بِأَنْ يُزَوِّجَهَا لِمَنْ يَطَؤُهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَهَا إلَّا زَوْجٌ أَوْ سَيِّدُهَا
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ ؟
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ مَالُ الْإِنْسَانِ لَا يَتَّسِعُ لِلْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ فَإِنَّ نَفَقَةَ الْقَرِيبِ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يُعْطَى الْبَعِيدُ مَا يَضُرُّ بِالْقَرِيبِ . وَأَمَّا الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا الْقَرِيبُ الَّذِي لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ . وَالْقَرِيبُ أَوْلَى إذَا اسْتَوَتْ الْحَالَةُ .
بَابُ الْحَضَانَةِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ وَتُوُفِّيَ وَلَدُهُ وَخَلَّفَ وَلَدًا عُمْرُهُ ثَمَانِ سِنِينَ وَالزَّوْجَةُ تُطَالِبُ الْجَدَّ بِالْفَرْضِ وَبَعْدَ ذَلِكَ تَزَوَّجَتْ وَطَلُقَتْ وَلَمْ يَعْرِفْ الْجِدُّ بِهَا وَقَدْ أَخَذَتْ الْوَلَدَ وَسَافَرَتْ وَلَا يَعْلَمُ الْجَدُّ بِهَا : فَهَلْ يَلْزَمُ الْجَدَّ فَرْضٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا تَزَوَّجَتْ الْأُمُّ فَلَا حَضَانَةَ لَهَا وَإِذَا سَافَرَتْ سَفَرَ نُقْلَةٍ فَالْحَضَانَةُ لِلْجَدِّ دُونَهَا ؛ وَمَنْ حَضَنَتْهُ وَلَمْ تَكُنْ الْحَضَانَةُ لَهَا وَطَالَبَتْ بِالنَّفَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهَا ظَالِمَةٌ بِالْحَضَانَةِ ؛ فَلَا تَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِالنَّفَقَةِ : وَإِنْ كَانَ الْجَدُّ عَاجِزًا عَنْ نَفَقَةِ ابْنِ ابْنِهِ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ .
وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
" الْيَتِيمُ " فِي الْآدَمِيِّينَ مَنْ فَقَدَ أَبَاهُ ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ هُوَ الَّذِي يُهَذِّبُهُ ؛ وَيَرْزُقُهُ ؛ وَيَنْصُرُهُ : بِمُوجَبِ الطَّبْعِ الْمَخْلُوقِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ تَابِعًا فِي الدِّينِ لِوَالِدِهِ ؛ وَكَانَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَحَضَانَتُهُ عَلَيْهِ وَالْإِنْفَاقُ هُوَ الرِّزْقُ . و " الْحَضَانَةُ " هِيَ النَّصْرُ لِأَنَّهَا الْإِيوَاءُ وَدَفْعُ الْأَذَى . فَإِذَا عُدِمَ أَبُوهُ طَمِعَتْ النُّفُوسُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ ظَلُومٌ جَهُولٌ وَالْمَظْلُومُ عَاجِزٌ ضَعِيفٌ فَتَقْوَى جِهَةُ الْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ قُوَّةِ الْمُقْتَضَى وَمِنْ جِهَةِ ضَعْفِ الْمَانِعِ وَيَتَوَلَّدُ عَنْهُ فَسَادَانِ : ضَرَرُ الْيَتِيمِ ؛ الَّذِي لَا دَافِعَ عَنْهُ وَلَا يُحْسَنُ إلَيْهِ وَفُجُورُ الْآدَمِيِّ الَّذِي لَا وَازِعَ لَهُ . فَلِهَذَا أَعْظَمَ اللَّهُ أَمْرَ الْيَتَامَى فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } وَقَوْلِهِ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ } وَقَوْلِهِ : { قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ }
وَقَوْلِهِ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ } وَقَوْلِهِ : { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ إنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى } - إلَى قَوْلِهِ - { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } وَقَوْلِهِ : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } وَقَوْلِهِ : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } - إلَى قَوْلِهِ - { وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } وَقَوْلِهِ : { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } وَقَوْلِهِ : فِي الْأَنْعَامِ : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } وَقَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } وَقَوْلِهِ : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } وَقَوْلِهِ : { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } وَقَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } وَقَوْلِهِ : { فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ } { وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ لَهُ بِنْتٌ لَهَا سَبْعُ سِنِينَ وَلَهَا وَالِدَةٌ مُتَزَوِّجَةٌ وَقَدْ أَخَذَهَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ بِحَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ لَهَا كَافِلٌ غَيْرُهُ وَقَدْ اخْتَارَتْ أُمُّ الْمَذْكُورَةِ أَنْ تَأْخُذَهَا مِنْ الرَّجُلِ بِكَفَالَتِهَا إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ فِيمَا بَعْدُ بِالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ وَكَيْفَ نُسْخَةُ مَا يُكْتَبُ بَيْنَهُمَا .
الْجَوَاب :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، مَا دَامَ الْوَلَدُ عِنْدَهَا وَهِيَ تُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَدْ أَخَذَتْهُ عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِهَا وَلَا تَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ : لَا نَفَقَةَ لَهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . أَيْ لَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَتْ هَذِهِ الْمُدَّةَ ؛ لَكِنْ لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَطْلُبَ بِالنَّفَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدَ مِنْهَا أَيْضًا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجْمَعُ لَهَا بَيْنَ الْحَضَانَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَمُطَالَبَةِ الْأَبِ بِالنَّفَقَةِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا بِلَا نِزَاعٍ ؛ لَكِنْ لَوْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ : فَهَلْ يَكُونُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لَازِمًا ؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ هُوَ لَازِمٌ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا ضَرَرَ لِلْأَبِ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : (*)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
فَصْلٌ :
فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي " حَضَانَةِ الصَّغِيرِ الْمُمَيِّزِ " هَلْ هِيَ لِلْأَبِ ؟ أَوْ لِلْأُمِّ ؟ أَوْ يُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ؟ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ أَحْمَد إنَّمَا فِيهَا أَنَّ الْغُلَامَ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ خُيِّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذَا كالخرقي وَغَيْرِهِ بَلَغَهُمْ بَعْضُ نُصُوصِ أَحْمَد فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ سَائِرُ نُصُوصِهِ ؛ فَإِنَّ كَلَامَ أَحْمَد كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ جِدًّا وَقَلَّ مَنْ يَضْبِطُ جَمِيعَ نُصُوصِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ ؛ لِكَثْرَةِ كَلَامِهِ وَانْتِشَارِهِ وَكَثْرَةِ مَنْ كَانَ يَأْخُذُ الْعِلْمَ عَنْهُ . " وَأَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ " قَدْ طَافَ الْبِلَادَ وَجَمَعَ مِنْ نُصُوصِهِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ نَحْوَ أَرْبَعِينَ مُجَلَّدًا وَفَاتَهُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ فِي كُتُبِهِ وَأَمَّا مَا جَمَعَهُ مِنْ
نُصُوصِهِ فَمِنْ أُصُولِ الدِّينِ مِثْلَ : " كِتَابِ السُّنَّةِ " نَحْوَ ثَلَاثِ مُجَلَّدَاتٍ وَمِثْلَ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ مِثْلَ " كِتَابِ الْعِلْمِ " الَّذِي جَمَعَهُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى عِلَلِ الْأَحَادِيثِ مِثْلَ " كِتَابِ الْعِلَلِ " الَّذِي جَمَعَهُ مِنْ كَلَامِهِ فِي " أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَدَبِ " وَمِنْ كَلَامِهِ فِي " الرِّجَالِ وَالتَّارِيخِ " فَهُوَ مَعَ كَثْرَتِهِ لَمْ يَسْتَوْعِبْ مَا نَقَلَهُ النَّاسُ عَنْهُ . " وَالْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ النِّزَاعَ عَنْهُ مَوْجُودٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا فِي " مَسْأَلَةِ الْبِنْتِ " وَفِي " مَسْأَلَةِ الِابْنِ " وَعَنْهُ فِي الِابْنِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ مَعْرُوفَةٍ وَمِمَّنْ ذَكَرَهُنَّ أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي " مُحَرَّرِهِ " . وَعَنْهُ فِي الْجَارِيَةِ رِوَايَتَيْنِ ؛ وَمِمَّنْ ذَكَرَهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَّة فِي كِتَابَيْهِ : " التَّلْخِيصِ " " وَتَرْغِيبِ الْقَاصِدِ " وَالرِّوَايَاتُ مَوْجُودَةٌ بِأَلْفَاظِهَا وَنَقَلَتِهَا وَأَسَانِيدِهَا فِي عِدَّةِ كُتُبٍ . وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي " تَعْلِيقِهِ " نُقِلَ عَنْ أَحْمَد فِي الْغُلَامِ : أُمُّهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا ؛ ثُمَّ الْأَبُ أَحَقُّ بِهِ . فَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ زِيَادٍ : إذَا عَقَلَ الْغُلَامُ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْأُمِّ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ . وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَالْأَبُ أَحَقُّ بِالْغُلَامِ إذَا عَقَلَ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْأُمِّ . وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَالثَّانِي وَغَيْرُهُمَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : إذَا أَكَلَ وَحْدَهُ وَلَبِسَ وَحْدَهُ وَتَوَضَّأَ وَحْدَهُ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ . وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَبَوَيْهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ . وَالْأَوَّلُ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ ؛ فَإِنَّهُ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ : الْأُمُّ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى
يَثْغَرَ ؛ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ . وَهَذِهِ هِيَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد . وَأَمَّا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ تَخْيِيرُ الْغُلَامِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ : فَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَقِ بْنِ رَاهَوَيْه وَمُوَافَقَتُهُ لِلشَّافِعِيِّ وَإِسْحَقَ أَكْثَرُ مِنْ مُوَافَقَتِهِ لِغَيْرِهِمَا وَأُصُولُهُ بِأُصُولِهِمَا أَشْبَهُ مِنْهَا بِأُصُولِ غَيْرِهِمَا وَكَانَ يُثْنِي عَلَيْهِمَا وَيُعَظِّمُهُمَا وَيُرَجِّحُ أُصُولَ مَذَاهِبِهِمَا عَلَى مَنْ لَيْسَتْ أُصُولُ مَذَاهِبِهِ كَأُصُولِ مَذَاهِبِهِمَا . وَمَذْهَبُهُ أَنَّ أُصُولَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ أَصَحُّ مِنْ أُصُولِ غَيْرِهِمْ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَقُ هُمَا عِنْدَهُ مِنْ أَجَلِّ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ فِي عَصْرِهِمَا وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِمَسْجِدِ الْخَيْفِ فَتَنَاظَرَا فِي " مَسْأَلَةِ إجَارَةِ بُيُوتِ مَكَّةَ " وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ وَذَكَرَ أَحْمَد أَنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَا إسْحَقَ بِالْحُجَّةِ فِي مَوْضِعٍ وَأَنَّ إسْحَقَ عَلَاهُ بِالْحُجَّةِ فِي مَوْضِعٍ . فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يُبِيحُ الْبَيْعَ وَالْإِجَارَةَ وَإِسْحَقَ يَمْنَعُ مِنْهُمَا وَكَانَتْ الْحُجَّةُ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ بَيْعِهَا وَمَعَ إسْحَقَ فِي الْمَنْعِ مِنْ إجَارَتِهَا . وَالرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد : أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِالْغُلَامِ مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ مَالِكٍ أُخِذَتْ مِنْ قَوْلِهِ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ : فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَلَهُ مِنْهَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ فَالْأُمُّ أعطف عَلَيْهِمْ مِقْدَارَ مَا يَعْقِلُونَ الْأَدَبَ فَتَكُونُ الْأُمُّ بِهِمْ أَحَقَّ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ فَإِذَا تَزَوَّجَتْ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِوَلَدِهِ : غُلَامًا كَانَ أَوْ جَارِيَةً . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْبَرَكَاتِ . فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَبُرَ وَصَارَ يَعْقِلُ الْأَدَبَ
فَإِنَّهُ يَكُونُ مَقَرُّهُ أَيْضًا عِنْدَ الْأُمِّ ؛ لَكِنْ فِي وَقْتِ الْأَدَبِ وَهُوَ النَّهَارُ يَكُونُ عِنْدَ الْأَبِ وَهَذِهِ الْمُدَوَّنَةُ مَذْهَبُ مَالِكٍ بِعَيْنِهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ . فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي " التَّهْذِيبِ " أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ وَالْأَبَ يَتَعَاهَدُهُ عِنْدَهَا وَأَدَبُهُ وَبَعْثُهُ إلَى الْمَكْتَبِ وَلَا يَبِيتُ إلَّا عِنْدَ الْأُمِّ . قُلْت : وَحَنْبَلٌ وَأَحْمَد بْنُ الْفَرَجِ كَانَا يَسْأَلَانِ الْإِمَامَ أَحْمَد عَنْ مَسَائِلِ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا كَانَ يَسْأَلُهُ إسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَسَائِلِ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ وَكَمَا كَانَ يَسْأَلُهُ الميموني عَنْ مَسَائِلِ الأوزاعي وَكَمَا كَانَ يَسْأَلُهُ إسْمَاعِيلُ فِي سَعِيدِ الشالنجي عَنْ مَسَائِلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تَفَقَّهَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَاجْتَهَدَ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ رَجَّحَ فِيهَا مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَسَأَلَ عَنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ أَحْمَد وَغَيْرَهُ وَشَرَحَهَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجوزجاني إمَامُ مَسْجِدِ دِمَشْقَ . وَأَمَّا " حَضَانَةُ الْبِنْتِ " إذَا صَارَتْ مُمَيِّزَةً فَوَجَدْنَا عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ وَقَدْ نَقَلَهُمَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ تَيْمِيَّة وَغَيْرِهِ . " إحْدَاهُمَا " أَنَّ الْأَبَ أَحَقُّ بِهَا كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْكُتُبِ الْمَعْرُوفَةِ فِي مَذْهَبِهِ . و " الثَّانِيَةُ " أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِهَا . قَالَ فِي رِوَايَةِ إسْحَقَ بْنِ مَنْصُورٍ يَقْضِي بِالْجَارِيَةِ لِلْأُمِّ وَالْخَالَةِ حَتَّى إذَا احْتَاجَتْ إلَى التَّزْوِيجِ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مَهْنَا بْنِ يَحْيَى : إنَّ الْأُمَّ وَالْجَدَّةَ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَتَزَوَّجَ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي " تَرْغِيبِ الْقَاصِدِ " وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا بِغَيْرِ تَخْيِيرٍ . وَعَنْهُ : الْأُمُّ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تَحِيضَ . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ نَحْوَ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ . فَفِي " الْمُدَوَّنَةِ " مَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مَا لَمْ يَبْلُغْ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى فَإِذَا بَلَغَ وَهُوَ أُنْثَى نَظَرَتْ فَإِذَا كَانَتْ الْأُمُّ فِي حَوْزٍ وَمَنَعَةٍ وَتَحَصُّنٍ فَهِيَ أَحَقُّ بِهَا أَبَدًا مَا لَمْ تُنْكَحْ وَإِنْ بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَنْعٍ وَحِرْزٍ وَتَحَصُّنٍ أَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ فِي نَفْسِهَا فَلِلْأَبِ أَخْذُهَا مِنْهَا وَالْوَصِيِّ وَكَذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ وَالْوَصِيُّ كَالْأَبِ فِي ذَلِكَ إذَا أَخَذَ إلَى أَمَانَةٍ وَتَحَصُّنٍ . وَمَذْهَبُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ نَحْوُ ذَلِكَ قَالَ : الْأُمُّ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَبْلُغَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ فِي نَفْسِهَا وَأَدَبِهَا لِوَلَدِهَا أُخِذَتْ مِنْهَا إذَا بَلَغَتْ ؛ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَغِيرَةً لَا يُخَافُ عَلَيْهَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْأُمُّ وَالْجَدَّةُ أَحَقُّ بِالْجَارِيَةِ حَتَّى تَحِيضَ وَمَنْ سِوَى الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تَبْلُغَ حَدًّا تُشْتَهَى وَلَفْظُ الطَّحَاوِي : حَتَّى تَسْتَغْنِيَ كَمَا فِي الْغُلَامِ مُطْلَقًا . وَأَمَّا " التَّخْيِيرُ فِي الْجَارِيَةِ " فَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَلَمْ أَجِدْهُ مَنْقُولًا لَا عَنْ أَحْمَد وَلَا عَنْ إسْحَاقَ كَمَا نُقِلَ عَنْهُمَا التَّخْيِيرُ فِي الْغُلَامِ ؛ وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حيي : أَنَّهَا تُخَيَّرُ إذَا كَانَتْ كَاعِبًا وَالتَّخْيِيرُ فِي الْغُلَامِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِسْحَاقَ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ
فِي ذَلِكَ حَيْثُ { خَيَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلَامًا بَيْنَ أَبَوَيْهِ } " وَهِيَ قَضِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ نَصٌّ عَامٌّ فِي تَخْيِيرِ الْوَلَدِ مُطْلَقًا . وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي تَخْيِيرِ الْجَارِيَةِ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِهِمْ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَخْيِيرِ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ أَنَّ هَذَا التَّخْيِيرَ تَخْيِيرُ شَهْوَةٍ وَتَخْيِيرُ رَأْيٍ وَمَصْلَحَةٍ ؛ كَتَخْيِيرِ مَنْ يَتَصَرَّفُ لِغَيْرِهِ كَالْإِمَامِ وَالْوَلِيِّ ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ إذَا خُيِّرَ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ مُصِيبًا فِي اجْتِهَادِهِ حَاكِمًا بِحُكْمِ اللَّهِ وَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ ؛ وَقَدْ لَا يُصِيبُهُ فَيُثَابَ كُلَّ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ وَلَا يَأْثَمُ بِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمَصْلَحَةِ كَاَلَّذِي يُنْزِلُ أَهْلَ حِصْنٍ عَلَى حُكْمِهِ كَمَا { نَزَلَ بنوا قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا سَأَلَهُ فِيهِمْ بَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ : أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ أَجْعَلَ الْأَمْرَ إلَى سَيِّدِكُمْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَرَضَوْا بِذَلِكَ وَطَمِعَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ اسْتِبْقَاءَهُمْ أَنَّ سَعْدًا يُحَابِيهِمْ ؛ لِمَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْمُوَالَاةِ فَلَمَّا أَتَى سَعْدٌ حَكَمَ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ . وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَتُقَسَّمُ أَمْوَالُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمًا لِلَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إنْفَاذِهِ . وَمِثْلَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بريدة الْمَشْهُورِ قَالَ فِيهِ : { وَإِذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى
حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ : وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك } . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّهُ إذَا حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا فَنَزَلُوا عَلَى حَكَمِ حَاكِمٍ جَازَ ؛ إذَا كَانَ رَجُلًا حُرًّا مُسْلِمًا عَدْلًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي أَمْرِ الْجِهَادِ وَلَا يَحْكُمُ إلَّا بِمَا فِيهِ حَظُّ الْإِسْلَامِ : مِنْ قَتْلٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ فِدَاءٍ . وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا حَكَمَ بِالْمَنِّ فَأَبَاهُ الْإِمَامُ : هَلْ يَلْزَمُ حُكْمُهُ أَوْ لَا يَلْزَمُ ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِّيَّةِ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ لِظَنِّ الْمُنَازِعِ أَنَّ الْمَنَّ لَا حَظَّ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ . و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ تَخْيِيرَ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ الَّذِي نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ هُوَ تَخْيِيرُ رَأْيٍ وَمَصْلَحَةٍ يَطْلُبُ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَعَلَهُ كَمَا يَنْظُرُ الْمُجْتَهِدُ فِي أَدِلَّةِ الْمَسَائِلِ فَأَيُّ الدَّلِيلَيْنِ كَانَ أَرْجَحَ اتَّبَعَهُ ؛ وَلَكِنْ مَعْنَى قَوْلِنَا " تَخْيِيرٌ " أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ؛ بَلْ قَدْ يَتَعَيَّنُ فِعْلُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً . وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } يَقْتَضِي فِعْلَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ؛ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَغْيِيرَ هَذَا فِي حَالٍ وَهَذَا فِي حَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } فَتَرَبُّصُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يَمْتَنِعُ بِعَيْنِهِ إذَا كَانَ الْجِهَادُ فَرْضًا عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ فَحِينَئِذٍ يُصِيبُهُ اللَّهُ بِعَذَابٍ بِأَيْدِينَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ }
وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ قَوْله تَعَالَى فِي الْمُحَارِبِينَ : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } لَا يَقْتَضِي أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ تَخْيِيرَ مَشِيئَةٍ . فَفَعَلَ هَذِهِ الْأَرْبَعُ مَسَائِلُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ هَذَا فِي حَالٍ وَهَذَا فِي حَالٍ . ثُمَّ أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ : تِلْكَ الْأَحْوَالُ مَضْبُوطَةٌ بِالنَّصِّ فَإِنْ قَتَلُوا تَعَيَّنَ قَتْلُهُمْ وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا تَعَيَّنَ قَطْعُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ خِلَافٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : التَّعْيِينُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ كَقَوْلِ مَالِكٍ فَإِذَا رَأَى أَنَّ الْقَتْلَ هُوَ الْمَصْلَحَةُ قَتَلَ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَتَلَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ " تَخْيِيرُ الْإِمَامِ فِي الْأَرْضِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً " بَيْنَ جَعْلِهَا فَيْئًا وَبَيْنَ جَعْلِهَا غَنِيمَةً كَمَا هُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ جَعَلَهَا غَنِيمَةً قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَإِنْ رَأَى أَنْ لَا يَقْسِمَهَا جَازَ كَمَا لَمْ يَقْسِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ مَعَ أَنَّهُ فَتَحَهَا عَنْوَةً . شَهِدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ ؛ وَالسِّيرَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ وَكَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَلِأَنَّ خُلَفَاءَهُ بَعْدَهُ - أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ - فَتَحُوا مَا فَتَحُوا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ وَالرُّومِ وَفَارِسَ : كَالْعِرَاقِ ؛ وَالشَّامِ وَمِصْرَ ؛ وَخُرَاسَانَ وَلَمْ يَقْسِمْ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ شَيْئًا مِنْ الْعَقَارِ الْمَغْنُومِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ؛ لَا السَّوَادَ وَلَا غَيْرَ السَّوَادِ بَلْ جَعَلَ الْعَقَارَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ
مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ } الْآيَةُ ؛ وَلَمْ يَسْتَأْذِنُوا فِي ذَلِكَ الْغَانِمِينَ ؛ بَلْ طَلَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْغَانِمِينَ قَسْمَ الْعَقَارِ فَلَمْ يُجِيبُوهُمْ إلَى ذَلِكَ كَمَا طَلَبَ بِلَالٌ مِنْ عُمَرَ أَنْ يَقْسِمَ أَرْضَ الشَّامِ وَطَلَبَ مِنْهُ الزُّبَيْرُ أَنْ يَقْسِمَ أَرْضَ مِصْرَ فَلَمْ يُجِيبُوهُمْ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَطِبْ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ أَحَدًا مِنْ الْغَانِمِينَ فِي ذَلِكَ . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ فَيْئًا بِنَفْسِ الْفَتْحِ وَمِنْ ذَلِكَ نَصُّ مَذْهَبِهِ كَإِسْمَاعِيلَ بْنِ إسْحَاقَ وَقَالُوا الْأَرْضُ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي الْغَنِيمَةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ الْمَغَانِمَ وَمِلْكَهُمْ الْعَقَارَ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَغَانِمِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يُذْكَرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد ؛ كَمَا ذَكَرَ عَنْهُ رِوَايَةً ثَالِثَةً كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ : إنَّهُ يَجِبُ قَسْمُ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَغْنُومٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ مَكَّةَ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً ؛ بَلْ صُلْحًا فَلَا يَكُونُ عَلَيَّ مِنْهَا حُجَّةٌ . وَمَنْ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً - كَصَاحِبِ " الْوَسِيطِ " وَغَيْرِهِ - فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ ؛ وَقَالَ : لِأَنَّ السَّوَادَ لَا أَدْرِي مَا أَقُولُ فِيهِ إلَّا أَنْ أَظُنَّ فِيهِ ظَنًّا مَقْرُونًا بِعِلْمِ وَظَنٍّ أَنَّ عُمَرَ اسْتَطَابَ الْغَانِمِينَ كَمَا رَوَى قَيْسُ بْنُ حَارِثَةَ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ أَعْدَلُ الْأَقَاوِيلِ وَأَشْبَهُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأُصُولِ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا : نُخَيِّرُ الْإِمَامَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَخْيِيرَ رَأْيٍ وَمَصْلَحَةٍ ؛ لَا تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يُخَيَّرُ فِيهِ وُلَاةُ الْأَمْرِ وَمَنْ تَصَرَّفَ لِغَيْرِهِ بِوِلَايَةِ : كَنَاظِرِ الْوَقْفِ وَوَصِيِّ الْيَتِيمِ وَالْوَكِيلِ الْمُطْلَقِ لَا يُخَيَّرُونَ تَخْيِيرَ . مَشِيئَةٍ وَشَهْوَةٍ ؛ بَلْ تَخْيِيرَ اجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ وَطَلَبُ الْجَوَازِ الْأَصْلَحِ : كَالرَّجُلِ الْمُبْتَلَى
بِعَدُوَّيْنِ وَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى الِابْتِدَاءِ بِأَحَدِهِمَا فَيَبْتَدِئُ بِمَالِهِ أَنْفَعَ : كَالْإِمَامِ فِي تَوْلِيَةِ مَنْ يُوَلِّيهِ مِنْ وُلَاةِ الْحَرْبِ وَالْحُكْمِ وَالْمَالِ : يَخْتَارُ الْأَصْلَحَ فَالْأَصْلَحَ لِلْمُسْلِمِينَ " فَمَنْ وَلَّى رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَهُوَ يَجِدُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ " . وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّهمَا شَاءَ : كَالْمُكَفِّرِ إذَا خُيِّرَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْعِتْقِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْخِصَالِ أَفْضَلَ فَيَجُوزُ لَهُ فِعْلُ الْمَفْضُولِ . وَكَذَلِكَ لَابِسُ الْخُفِّ إذَا خُيِّرَ بَيْنَ الْمَسْحِ وَبَيْنَ الْغَسْلِ ؛ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ . وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي إذَا خُيِّرَ بَيْنَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ . وَكَذَلِكَ تَخْيِيرُ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ ؛ وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاجِبًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَتَّى إذَا تَعَيَّنَ الْمَأْكُولُ وَجَبَ أَكْلُهُ وَإِنْ كَانَ مَيْتَةً فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا فِي الْمَشْهُورِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَفِي " كَفَّارَةِ الْمَجَامِعِ فِي رَمَضَانَ " هَلْ هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ ؟ أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ ؟ فِيهَا قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ ؛ لَكِنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا ثَبَتَ بِحِكَايَةِ الْمَجَامِعِ ؛ لَا بِلَفْظِ عَامٍّ ؛ فَلِهَذَا أَقْدَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنْ أَلْزَمَ بَعْضَ الْمُلُوكِ بِالصَّوْمِ عَيْنًا وَأَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهَا لَيْسَ شَرْعًا عَامًّا ؛ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَقَدَّمَ الْعِتْقَ فِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ عِنْدَهُ أَصْعَبَ مِنْ الصِّيَامِ : كَالْأَعْرَابِ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ الْعِتْقُ أَسْهَلَ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ .
وَكَذَلِكَ " تَخْيِيرُ الْحَاجِّ " بَيْنَ التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ وَالْقِرَانِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُخَيَّرُونَ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَتَخْيِيرُ الْمُسَافِرِينَ بَيْنَ الْفِطْرِ وَالصَّوْمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ إلَّا مُتَمَتِّعًا أَوْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ - كَمَا تَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ - فَلَا يَجِئْ هَذَا عَلَى أَصْلِهِمْ . وَكَذَلِكَ " الْقَصْرُ " عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَيْسَ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ قَطُّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي حَيَاتِهِ . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي فِيهِ أَنَّهَا صَلَّتْ فِي حَيَاتِهِ السَّفَرَ أَرْبَعًا كُذِّبَ عِنْدَ حُذَّاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ . كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " التَّخْيِيرَ فِي الشَّرْعِ نَوْعَانِ " فَمَنْ خُيِّرَ فِيمَا يَفْعَلُهُ لِغَيْرِهِ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ وَبِوَكَالَةِ مُطْلَقَةٍ : لَمْ يُبَحْ لَهُ فِيهَا فِعْلُ مَا شَاءَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ الْأَصْلَحَ وَأَمَّا مَنْ تَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ : فَتَارَةً يَأْمُرُهُ الشَّارِعُ بِاخْتِيَارِ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ كَمَا يَأْمُرُ الْمُجْتَهِدَ بِطَلَبِ أَقْوَى الْأَقَاوِيلِ وَأَصْلَحِ الْأَحْكَامِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَتَارَةً يُبِيحُ لَهُ مَا شَاءَ مِنْ الْأَنْوَاعِ الَّتِي خُيِّرَ بَيْنَهَا كَمَا تَقَدَّمَ . هَذَا إذَا كَانَ مُكَلَّفًا . وَأَمَّا " الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ " يُخَيَّرُ تَخْيِيرَ شَهْوَةٍ حَيْثُمَا كَانَ كُلٌّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ نَطِيرَ الْآخَرِ ؛ وَلَمْ يُضْبَطْ فِي حَقِّهِ حَكَمٌ عَامٌّ لِلْأَبِ أَوْ لِلْأُمِّ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ :
كُلُّ أَب فَهُوَ أَصْلَحُ لِلْمُمَيِّزِ مِنْ الْأُمِّ وَلَا كُلُّ أُمٍّ هِيَ أَصْلَحُ لَهُ مِنْ الْأَبِ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْآبَاءِ أَصْلَحَ وَبَعْضُ الْأُمَّهَاتِ أَصْلَحَ . وَقَدْ يَكُونُ الْأَبُ أَصْلَحَ فِي حَالٍ وَالْأُمُّ أَصْلَحَ فِي حَالٍ . فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُعَيَّنَ أَحَدُهُمَا فِي هَذَا ؛ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ فَإِنَّ الْأُمَّ أَصْلَحُ لَهُ مِنْ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ أَرْفَقَ بِالصَّغِيرِ وَأَخْبَرَ بِتَغْذِيَتِهِ وَحَمْلِهِ وَأَصْبَرَ عَلَى ذَلِكَ وَأَرْحَمَ بِهِ : فَهِيَ أَقْدَرُ . وَأَخْبَرُ وَأَرْحَمُ وَأَصْبَرُ : فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَعُيِّنَتْ الْأُمُّ فِي حَقِّ الطِّفْلِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِالشَّرْعِ . وَلَكِنْ يَبْقَى " تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ " : هَلْ عَيَّنَهُنَّ الشَّارِعُ ؛ لِكَوْنِ قَرَابَةِ الْأُمِّ مُقَدَّمَةً عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ فِي الْحَضَانَةِ ؟ أَوْ لِكَوْنِ النِّسَاءِ أَقْوَمَ بِمَقْصُودِ الْحَضَانَةِ مِنْ الرِّجَالِ فَقَطْ ؟ وَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ . يَظْهَرُ أَمْرُهُمَا فِي تَقْدِيمِ نِسَاءِ الْعَصَبَةِ عَلَى أَقَارِبِ الْأُمِّ : مِثْلَ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْأَبِ . وَالْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ وَالْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ . وَمِثْلَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَأَرْجَحُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحُجَّةِ تَقْدِيمُ نِسَاءِ الْعَصَبَةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الخرقي فِي " مُخْتَصَرِهِ " فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ . وَعَلَى هَذَا أُمُّ الْأَبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى أُمِّ الْأُمِّ . وَالْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ . وَالْعَمَّةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْخَالَةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَقَارِبُ الْأَبِ مِنْ الرِّجَالِ عَلَى أَقَارِبِ الْأُمِّ وَالْأَخُ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنْ الْأَخِ لِلْأُمِّ وَالْعَمُّ أَوْلَى مِنْ الْخَالِ ؛ بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَا حَضَانَةَ لِلرِّجَالِ مِنْ أَقَارِبِ الْأُمِّ بِحَالِ وَالْحَضَانَةُ
لَا تَثْبُتُ إلَّا لِرَجُلِ مِنْ الْعَصَبَةِ أَوْ لِامْرَأَةٍ وَارِثَةٍ أَوْ مُدْلِيَةٍ بِعَصَبَةِ أَوْ وَرَاثٍ فَإِنْ عُدِمُوا فَالْحَاكِمُ . وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَا حَضَانَةَ لِلرِّجَالِ مِنْ أَقَارِبِ الْأُمِّ . وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . فَلَوْ كَانَتْ جِهَاتُ الْأَقْرِبَةِ رَاجِحَةً لَتَرَجَّحَ رِجَالُهَا وَنِسَاؤُهَا فَلَمَّا لَمْ يَتَرَجَّحْ رِجَالُهَا بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ نِسَاؤُهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مُجْمَعَ أُصُولِ الشَّرْعِ إنَّمَا يُقَدِّمُ أَقَارِبَ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْعَقْدِ وَالنَّفَقَةِ وَوِلَايَةِ الْمَوْتِ وَالْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يُقَدِّمْ الشَّارِعُ قَرَابَةَ الْأُمِّ فِي حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَمَنْ قَدَّمَهُنَّ فِي الْحَضَانَةِ فَقَدْ خَالَفَ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ وَلَكِنْ قَدَّمَ الْأُمَّ لِأَنَّهَا امْرَأَةٌ ؛ وَجِنْسُ النِّسَاءِ فِي الْحَضَانَةِ مُقَدَّمَاتٌ عَلَى الرِّجَالِ . وَهَذَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ كَمَا قُدِّمَ الْأُمُّ عَلَى الْأَبِ وَتَقْدِيمُ أَخَوَاتِهِ عَلَى إخْوَتِهِ وَعَمَّاتِهِ عَلَى أَعْمَامِهِ وَخَالَاتِهِ عَلَى أَخْوَالِهِ . هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَالِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ . وَأَمَّا تَقْدِيمُ جِنْسِ نِسَاءِ الْأُمِّ عَلَى نِسَاءِ الْأَبِ فَمُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالْعُقُولِ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ قَالَ هَذَا مَوْضِعٌ يَتَنَاقَضُ وَلَا يَطَّرِدُ أَصْلُهُ ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ لِمَنْ لَمْ يَضْبِطْ أَصْلَ الشَّرْعِ وَمَقْصُودَهُ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا مُتَنَاقِضَةً حَتَّى تُوجَدَ فِي الْحَضَانَةِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُتَنَاقِضَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يُوجَدُ فِي غَيْرِهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ أُمَّ الْأُمِّ عَلَى أُمِّ الْأَبِ ؛ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُقَدِّمُ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ
مِنْ الْأُمِّ وَيُقَدِّمُ الْخَالَةَ عَلَى الْعَمَّةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَبَنَوْا قَوْلَهُمْ عَلَى أَنَّ الْخَالَاتِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْعَمَّاتِ ؛ لِكَوْنِهِنَّ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ . ثُمَّ قَالُوا فِي الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْأَخَوَاتِ : مَنْ كَانَتْ لِأَبَوَيْنِ أَوْلَى ثُمَّ مَنْ كَانَتْ لِأَبٍ ؛ ثُمَّ مَنْ كَانَتْ لِأُمِّ . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ هُنَا مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ ؛ لَكِنْ إذَا ضُمَّ هَذَا إلَى قَوْلِهِمْ بِتَقْدِيمِ قَرَابَةِ الْأُمِّ ظَهَرَ التَّنَاقُضُ . وَهُمْ أَيْضًا قَالُوا بِتَقْدِيمِ أُمَّهَاتِ الْأَبِ وَالْجَدِّ عَلَى الْخَالَاتِ وَالْأَخَوَاتِ لِلْأُمِّ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ ؛ لَكِنَّهُ يُنَاقِضُ هَذَا الْأَصْلَ وَلِهَذَا لَا يُوَافِقُ الْقَوْلَ الْآخَرَ أَنَّ الْخَالَةَ وَالْأُخْتَ لِلْأُمِّ أَوْلَى مِنْ أُمِّ الْأَبِ ؛ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ؛ وَهَذَا أطرد لِأَصْلِهِمْ ؛ لَكِنَّهُ فِي غَايَةِ الْمُنَاقَضَةِ لِأُصُولِ الشَّرْعِ . " وَطَائِفَةٌ أُخْرَى " طَرَدَتْ أَصْلَهَا فَقَدَّمَتْ مِنْ الْأَخَوَاتِ مَنْ كَانَتْ لِأُمِّ عَلَى مَنْ كَانَتْ لِأَبٍ ؛ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ والمزني وَابْنِ سُرَيْجٍ . وَبَالَغَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فِي طَرْدِ قِيَاسِهِ حَتَّى قَدَّمَ الْخَالَةَ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ لِقَوْلِ زُفَرَ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَافَقَهَا ابْنُ سُرَيْجٍ ؟ وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ اسْتَشْنَعَ ذَلِكَ فَقَدَّمَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ رَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ أَنَّهُ أَمْعَنَ فِي طَرْدِ قِيَاسِهِ حَتَّى قَالَ : إنَّ الْخَالَةَ أَوْلَى مِنْ الْجَدَّةِ أُمِّ الْأَبِ . وَيَرْوُونَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تَأْخُذُوا بِمَقَايِيسِ زُفَرَ ؛ فَإِنَّكُمْ إذَا أَخَذْتُمْ بِمَقَايِيسِ زُفَرَ حَرَّمْتُمْ الْحَلَالَ وَحَلَّلْتُمْ الْحَرَامَ . وَكَانَ يَقُولُ : مِنْ الْقِيَاسِ