الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
الْأَصْوَاتُ عِنْدَهُمْ وَمَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ لَدَيْهِمْ مَقَتُوهُ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فَإِذَا كَانَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ الْخَفِيَّ فَلَا يَلِيقُ بِالْأَدَبِ بَيْنَ يَدَيْهِ إلَّا خَفْضُ الصَّوْتِ بِهِ . و " ثَالِثُهَا " أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ الَّذِي هُوَ رُوحُ الدُّعَاءِ وَلُبُّهُ وَمَقْصُودُهُ . فَإِنَّ الْخَاشِعَ الذَّلِيلَ إنَّمَا يَسْأَلُ مَسْأَلَةَ مِسْكِينٍ ذَلِيلٍ قَدْ انْكَسَرَ قَلْبُهُ . وَذَلَّتْ جَوَارِحُهُ وَخَشَعَ صَوْتُهُ ؛ حَتَّى أَنَّهُ لَيَكَادُ تَبْلُغُ ذِلَّتُهُ وَسَكِينَتُهُ وَضَرَاعَتُهُ إلَى أَنْ يَنْكَسِرَ لِسَانُهُ فَلَا يُطَاوِعُهُ بِالنُّطْقِ . وَقَلْبُهُ يَسْأَلُ طَالِبًا مُبْتَهِلًا وَلِسَانُهُ لِشِدَّةِ ذِلَّتِهِ سَاكِتًا وَهَذِهِ الْحَالُ لَا تَأْتِي مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ أَصْلًا . و " رَابِعُهَا " أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِخْلَاصِ . و " خَامِسُهَا " أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي جَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ عَلَى الذِّلَّةِ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ يَفْرُقُهُ فَكُلَّمَا خَفَضَ صَوْتَهُ كَانَ أَبْلَغَ فِي تَجْرِيدِ هِمَّتِهِ وَقَصْدِهِ لِلْمَدْعُوِّ سُبْحَانَهُ . و " سَادِسُهَا " - وَهُوَ مِنْ النُّكَتِ الْبَدِيعَةِ جِدًّا - أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى قُرْبِ صَاحِبِهِ لِلْقَرِيبِ لَا مَسْأَلَةِ نِدَاءِ الْبَعِيدِ لِلْبَعِيدِ ؛ وَلِهَذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ زَكَرِيَّا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا }
فَلَمَّا اسْتَحْضَرَ الْقَلْبُ قُرْبَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ قَرِيبٍ أَخْفَى دُعَاءَهُ مَا أَمْكَنَهُ . وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَمَّا رَفَعَ الصَّحَابَةُ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ وَهُمْ مَعَهُ فِي السَّفَرِ فَقَالَ : أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إِنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ } " . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ } وَهَذَا الْقُرْبُ مِنْ الدَّاعِي هُوَ قُرْبٌ خَاصٌّ لَيْسَ قُرْبًا عَامًّا مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ دَاعِيهِ وَقَرِيبٌ مِنْ عَابِدِيهِ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ . وقَوْله تَعَالَى { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } فِيهِ الْإِرْشَادُ وَالْإِعْلَامُ بِهَذَا الْقُرْبِ . و " سَابِعُهَا " أَنَّهُ أَدْعَى إلَى دَوَامِ الطَّلَبِ وَالسُّؤَالِ فَإِنَّ اللِّسَانَ لَا يَمَلُّ وَالْجَوَارِحَ لَا تَتْعَبُ بِخِلَافِ مَا إذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَمَلُّ اللِّسَانُ وَتَضْعُفُ قُوَاهُ . وَهَذَا نَظِيرُ مَنْ يَقْرَأُ وَيُكَرِّرُ فَإِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَطُولُ لَهُ ؛ بِخِلَافِ مَنْ خَفَضَ صَوْتَهُ . و " ثَامِنُهَا " أَنَّ إخْفَاءَ الدُّعَاءِ أَبْعَدُ لَهُ مِنْ الْقَوَاطِعِ وَالْمُشَوِّشَاتِ ؛
فَإِنَّ الدَّاعِيَ إذَا أَخْفَى دُعَاءَهُ لَمْ يَدْرِ بِهِ أَحَدٌ فَلَا يَحْصُلُ عَلَى هَذَا تَشْوِيشٌ وَلَا غَيْرُهُ وَإِذَا جَهَرَ بِهِ فَرَّطَتْ لَهُ الْأَرْوَاحُ الْبَشَرِيَّةُ وَلَا بُدَّ وَمَانَعَتْهُ وَعَارَضَتْهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنَّ تَعَلُّقَهَا بِهِ يُفْزِعُ عَلَيْهِ هِمَّتَهُ ؛ فَيَضْعُفُ أَثَرُ الدُّعَاءِ وَمَنْ لَهُ تَجْرِبَةٌ يَعْرِفُ هَذَا فَإِذَا أَسَرَّ الدُّعَاءَ أَمِنَ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ . و " تَاسِعُهَا " أَنَّ أَعْظَمَ النِّعْمَةِ الْإِقْبَالُ وَالتَّعَبُّدُ وَلِكُلِّ نِعْمَةٍ حَاسِدٌ عَلَى قَدْرِهَا دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ وَلَا نِعْمَةَ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ فَإِنَّ أَنْفُسَ الْحَاسِدِينَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهَا وَلَيْسَ لِلْمَحْسُودِ أَسْلَمُ مِنْ إخْفَاءِ نِعْمَتِهِ عَنْ الْحَاسِدِ . وَقَدْ قَالَ يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ { لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } الْآيَةُ . وَكَمْ مِنْ صَاحِبِ قَلْبٍ وَجَمْعِيَّةٍ وَحَالٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ تَحَدَّثَ بِهَا وَأَخْبَرَ بِهَا فَسَلَبَهُ إيَّاهَا الْأَغْيَارُ ؛ وَلِهَذَا يُوصِي الْعَارِفُونَ وَالشُّيُوخُ بِحِفْظِ السِّرِّ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَالْقَوْمُ أَعْظَمُ شَيْئًا كِتْمَانًا لِأَحْوَالِهِمْ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا وَهَبَ اللَّهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ وَجَمْعِيَّةِ الْقَلْبِ وَلَا سِيَّمَا فِعْلُهُ لِلْمُهْتَدِي السَّالِكِ فَإِذَا تَمَكَّنَ أَحَدُهُمْ وَقَوِيَ وَثَبَّتَ أُصُولَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ فِي قَلْبِهِ - بِحَيْثُ لَا يَخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْعَوَاصِفِ فَإِنَّهُ إذَا أَبْدَى حَالَهُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِيُقْتَدَى بِهِ وَيُؤْتَمَّ بِهِ - لَمْ يُبَالِ . وَهَذَا بَابٌ عَظِيمُ النَّفْعِ إنَّمَا يَعْرِفُهُ أَهْلُهُ .
وَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ الْمَأْمُورُ بِإِخْفَائِهِ يَتَضَمَّنُ دُعَاءَ الطَّلَبِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مِنْ عَظِيمِ الْكُنُوزِ الَّتِي هِيَ أَحَقُّ بِالْإِخْفَاءِ عَنْ أَعْيُنِ الْحَاسِدِينَ وَهَذِهِ فَائِدَةٌ شَرِيفَةٌ نَافِعَةٌ . و " عَاشِرُهَا " أَنَّ الدُّعَاءَ هُوَ ذِكْرٌ لِلْمَدْعُوِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُتَضَمِّنٌ لِلطَّلَبِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِأَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ فَهُوَ ذِكْرٌ وَزِيَادَةٌ كَمَا أَنَّ الذِّكْرَ سُمِّيَ دُعَاءً لِتَضَمُّنِهِ لِلطَّلَبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } " فَسَمَّى الْحَمْدَ لِلَّهِ دُعَاءً وَهُوَ ثَنَاءٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّ الْحَمْدَ مُتَضَمِّنٌ الْحُبَّ وَالثَّنَاءَ وَالْحُبُّ أَعْلَى أَنْوَاعِ الطَّلَبِ ؛ فَالْحَامِدُ طَالِبٌ لِلْمَحْبُوبِ فَهُوَ أَحَقُّ أَنْ يُسَمَّى دَاعِيًا مِنْ السَّائِلِ الطَّالِبِ ؛ فَنَفْسُ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ مُتَضَمِّنٌ لِأَعْظَمِ الطَّلَبِ فَهُوَ دُعَاءٌ حَقِيقَةً بَلْ أَحَقُّ أَنْ يُسَمَّى دُعَاءً مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّلَبِ الَّذِي هُوَ دُونَهُ . و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ يَتَضَمَّنُ الْآخَرَ وَيَدْخُلُ فِيهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } فَأَمَرَ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي نَفْسِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جريج : أُمِرُوا أَنْ يَذْكُرُوهُ فِي الصُّدُورِ بِالتَّضَرُّعِ وَالِاسْتِكَانَةِ دُونَ رَفْعِ الصَّوْتِ وَالصِّيَاحِ وَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَالَ فِي آيَةِ الذِّكْرِ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ } الْآيَةُ . وَفِي آيَةِ الدُّعَاءِ : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } فَذَكَرَ التَّضَرُّعَ فِيهِمَا مَعًا وَهُوَ التَّذَلُّلُ وَالتَّمَسْكُنُ وَالِانْكِسَارُ
وَهُوَ رُوحُ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ . وَخَصَّ الدُّعَاءَ بِالْخُفْيَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحِكَمِ وَغَيْرِهَا وَخَصَّ الذِّكْرَ بِالْخِيفَةِ لِحَاجَةِ الذَّاكِرِ إلَى الْخَوْفِ فَإِنَّ الذِّكْرَ يَسْتَلْزِمُ الْمَحَبَّةَ وَيُثْمِرُهَا ؛ وَلَا بُدَّ لِمَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أَنْ يُثْمِرَ لَهُ ذَلِكَ مَحَبَّتَهُ وَالْمَحَبَّةُ مَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِالْخَوْفِ فَإِنَّهَا لَا تَنْفَعُ صَاحِبَهَا بَلْ تَضُرُّهُ ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ التواني وَالِانْبِسَاطَ وَرُبَّمَا آلَتْ بِكَثِيرِ مِنْ الْجُهَّالِ الْمَغْرُورِينَ إلَى أَنْ اسْتَغْنَوْا بِهَا عَنْ الْوَاجِبَاتِ وَقَالُوا : الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا هُوَ عِبَادَةُ الْقَلْبِ وَإِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ . وَمَحَبَّتُهُ لَهُ فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَالِاشْتِغَالُ بِالْوَسِيلَةِ بَاطِلٌ . وَلَقَدْ حَدَّثَنِي رَجُلًا أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى بَعْضِ هَؤُلَاءِ خَلْوَةً لَهُ تَرَكَ فِيهَا الْجُمُعَةَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ أَلَيْسَ الْفُقَهَاءُ يَقُولُونَ : إذَا خَافَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ تَسْقُطُ ؟ فَقَالَ لَهُ : بَلَى . فَقَالَ لَهُ : فَقَلْبُ الْمُرِيدِ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ - أَوْ كَمَا قَالَ - وَهُوَ إذَا خَرَجَ ضَاعَ قَلْبُهُ فَحِفْظُهُ لِقَلْبِهِ عُذْرٌ مُسْقِطٌ لِلْجُمُعَةِ فِي حَقِّهِ . فَقَالَ لَهُ : هَذَا غُرُورٌ بِك الْوَاجِبُ الْخُرُوجُ إلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . فَتَأَمَّلْ هَذَا الْغُرُورَ الْعَظِيمَ كَيْفَ أَدَّى إلَى الِانْسِلَاخِ عَنْ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً فَإِنَّ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ انْسَلَخَ عَنْ الْإِسْلَامِ الْعَامِّ كَانْسِلَاخِ الْحَيَّةِ مِنْ قِشْرِهَا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ خَاصَّةِ الْخَاصَّةِ .
وَسَبَبُ هَذَا عَدَمُ اقْتِرَانِ الْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ بِحُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حروري وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ تَجْرِيدَ الْحُبِّ وَالذِّكْرِ عَنْ الْخَوْفِ يُوقِعُ فِي هَذِهِ الْمَعَاطِبِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالْخَوْفِ جَمْعُهُ عَلَى الطَّرِيقِ وَرَدُّهُ إلَيْهَا كُلَّمَا كَلَّهَا شَيْءٌ كَالْخَائِفِ الَّذِي مَعَهُ سَوْطٌ يَضْرِبُ بِهِ مَطِيَّتَهُ ؛ لِئَلَّا تَخْرُجَ عَنْ الطَّرِيقِ . وَالرَّجَا حَادٍ يَحْدُوهَا يَطْلُبُ لَهَا السَّيْرَ وَالْحُبُّ قَائِدُهَا وَزِمَامُهَا الَّذِي يُشَوِّقُهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَطِيَّةِ سَوْطٌ وَلَا عَصًا يَرُدُّهَا إذَا حَادَتْ عَنْ الطَّرِيقِ خَرَجَتْ عَنْ الطَّرِيقِ وَظَلَّتْ عَنْهَا . فَمَا حَفِظَتْ حُدُودَ اللَّهِ وَمَحَارِمَهُ وَوَصَلَ الْوَاصِلُونَ إلَيْهِ بِمِثْلِ خَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَمَحَبَّتِهِ فَمَتَى خَلَا الْقَلْبُ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ فَسَدَ فَسَادًا لَا يُرْجَى صَلَاحُهُ أَبَدًا وَمَتَى ضَعُفَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ ضَعُفَ إيمَانُهُ بِحَسَبِهِ فَتَأَمَّلْ أَسْرَارَ الْقُرْآنِ وَحِكْمَتَهُ فِي اقْتِرَانِ الْخِيفَةِ بِالذِّكْرِ وَالْخُفْيَةِ بِالدُّعَاءِ مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى اقْتِرَانِ الْخُفْيَةِ بِالدُّعَاءِ وَالْخِيفَةِ بِالذِّكْرِ أَيْضًا وَذِكْرِ الطَّمَعِ الَّذِي هُوَ الرَّجَاءُ فِي آيَةِ الدُّعَاءِ ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الدَّاعِيَ مَا لَمْ يَطْمَعْ فِي سُؤَالِهِ وَمَطْلُوبِهِ لَمْ تَتَحَرَّكْ نَفْسُهُ لِطَلَبِهِ ؛ إذْ طَلَبُ مَا لَا طَمَعَ لَهُ فِيهِ مُمْتَنِعٌ وَذَكَرَ الْخَوْفَ فِي آيَةِ الذِّكْرِ لِشِدَّةِ حَاجَةِ الْخَائِفِ
إلَيْهِ فَذَكَرَ فِي كُلِّ آيَةٍ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِهَا مِنْ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ فَتَبَارَكَ مَنْ أَنْزَلَ كَلَامَهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ . وقَوْله تَعَالَى { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } قِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فِي الدُّعَاءِ كَاَلَّذِي يَسْأَلُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ مَنَازِلِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إذَا دَخَلْتهَا فَقَالَ : يَا بُنَيَّ سَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنْ النَّارِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطُّهُورِ وَالدُّعَاءِ } وَعَلَى هَذَا فَالِاعْتِدَاءُ فِي الدُّعَاءِ تَارَةً بِأَنْ يَسْأَلَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ سُؤَالُهُ مِنْ الْمَعُونَةِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ . وَتَارَةً يَسْأَلُ مَا لَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ تَخْلِيدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ يَسْأَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ لَوَازِمَ الْبَشَرِيَّةِ : مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَيَسْأَلَهُ بِأَنْ يُطْلِعَهُ عَلَى غَيْبِهِ أَوْ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ الْمَعْصُومِينَ أَوْ يَهَبَ لَهُ وَلَدًا مِنْ غَيْرِ زَوْجَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا سُؤَالُهُ اعْتِدَاءٌ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَا يُحِبُّ سَائِلَهُ . وَفُسِّرَ الِاعْتِدَاءُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ أَيْضًا فِي الدُّعَاءِ . وَبَعْدُ : فَالْآيَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنْ كَانَ الِاعْتِدَاءُ بِالدُّعَاءِ مُرَادًا
بِهَا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُرَادِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فِي كُلِّ شَيْءٍ : دُعَاءً كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَعَلَى هَذَا : فَيَكُونُ أَمَرَ بِدُعَائِهِ وَعِبَادَتِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ أَهْلَ الْعُدْوَانِ وَهُمْ يَدْعُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ الْمُعْتَدِينَ عُدْوَانًا ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ الْعُدْوَانِ الشِّرْكُ وَهُوَ وَضْعُ الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَهَذَا الْعُدْوَانُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَمِنْ الْعُدْوَانِ أَنْ يَدْعُوَهُ غَيْرَ مُتَضَرِّعٍ ؛ بَلْ دُعَاءُ هَذَا كَالْمُسْتَغْنِي الْمُدَلِّي عَلَى رَبِّهِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِاعْتِدَاءِ لِمُنَافَاتِهِ لِدُعَاءِ الذَّلِيلِ . فَمَنْ لَمْ يَسْأَلْ مَسْأَلَةَ مِسْكِينٍ مُتَضَرِّعٍ خَائِفٍ فَهُوَ مُعْتَدٍ . وَمِنْ الِاعْتِدَاءِ أَنْ يَعْبُدَهُ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يُثْنِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا أَذِنَ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا اعْتِدَاءٌ فِي دُعَائِهِ : الثَّنَاءُ وَالْعِبَادَةُ وَهُوَ نَظِيرُ الِاعْتِدَاءِ فِي دُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ وَالطَّلَبِ . وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى شَيْئَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الدُّعَاءُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً . " الثَّانِي " مَكْرُوهٌ لَهُ مَسْخُوطٌ وَهُوَ الِاعْتِدَاءُ فَأَمَرَ بِمَا يُحِبُّهُ وَنَدَبَ إلَيْهِ وَحَذَّرَ مِمَّا يُبْغِضُهُ وَزَجَرَ عَنْهُ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ طُرُقِ الزَّجْرِ وَالتَّحْذِيرِ
وَهُوَ لَا يُحِبُّ فَاعِلَهُ وَمَنْ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَأَيُّ خَيْرٍ يَنَالُهُ ؟ وقَوْله تَعَالَى { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } عَقِيبَ قَوْلِهِ : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمْ ؛ فَقَسَّمَتْ الْآيَةُ النَّاسَ إلَى قِسْمَيْنِ ؛ دَاعٍ لِلَّهِ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وَمُعْتَدٍ بِتَرْكِ ذَلِكَ . وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا } قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : لَا تُفْسِدُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي وَالدَّاعِي إلَى غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ بَعْدَ إصْلَاحِ اللَّهِ إيَّاهَا بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَبَيَانِ الشَّرِيعَةِ وَالدُّعَاءِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ مُفْسِدٌ فَإِنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ وَالدَّعْوَةَ إلَى غَيْرِهِ وَالشِّرْكَ بِهِ هُوَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ بَلْ فَسَادُ الْأَرْضِ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَمُخَالَفَةُ أَمْرِهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } قَالَ عَطِيَّةُ فِي الْآيَةِ : وَلَا تَعْصُوا فِي الْأَرْضِ فَيُمْسِكَ اللَّهُ الْمَطَرَ وَيَهْلِكَ الْحَرْثَ بِمَعَاصِيكُمْ . وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : إذَا قَحَطَ الْمَطَرُ فَالدَّوَابُّ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ فَتَقُولُ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُمْ فَبِسَبَبِهِمْ أَجْدَبَتْ الْأَرْضُ وَقَحَطَ الْمَطَرُ . و " بِالْجُمْلَةِ " فَالشِّرْكُ وَالدَّعْوَةُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَإِقَامَةُ مَعْبُودٍ غَيْرِهِ أَوْ مُطَاعٍ مُتَّبَعٍ غَيْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَعْظَمُ الْفَسَادِ
فِي الْأَرْضِ وَلَا صَلَاحَ لَهَا وَلِأَهْلِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَالدَّعْوَةُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ وَالطَّاعَةُ وَالِاتِّبَاعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرُهُ إنَّمَا تَجِبُ طَاعَتُهُ إذَا أَمَرَ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ أَمَرَ بِمَعْصِيَتِهِ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ : فَإِنَّ اللَّهَ أَصْلَحَ الْأَرْضَ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ وَبِالْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَنَهَى عَنْ فَسَادِهَا بِالشِّرْكِ بِهِ وَمُخَالَفَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ تَدَبَّرَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ وَجَدَ كُلَّ صَلَاحٍ فِي الْأَرْضِ فَسَبَبُهُ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْعَالِمِ وَفِتْنَةٍ وَبَلَاءٍ وَقَحْطٍ وَتَسْلِيطِ عَدُوٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَسَبَبُهُ مُخَالَفَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّعْوَةُ إلَى غَيْرِ اللَّهِ . وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا حَقَّ التَّدَبُّرِ وَجَدَ هَذَا الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وقَوْله تَعَالَى { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } إنَّمَا ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالدُّعَاءِ لَمَّا ذَكَرَهُ مَعَهُ مِنْ الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ فَأَمَرَ أَوَّلًا بِدُعَائِهِ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ثُمَّ أَمَرَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ خَوْفًا وَطَمَعًا . وَفَصَلَ الْجُمْلَتَيْنِ بِجُمْلَتَيْنِ : " إحْدَاهُمَا " خَبَرِيَّةٌ وَمُتَضَمِّنَةٌ لِلنَّهْيِ وَهِيَ قَوْلُهُ : { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } .
و " الثَّانِيَةُ " طَلَبِيَّةٌ . وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا } وَالْجُمْلَتَانِ مُقَرِّرَتَانِ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى مُؤَكِّدَتَانِ لِمَضْمُونِهَا . ثُمَّ لَمَّا تَمَّ تَقْرِيرُهَا وَبَيَانُ مَا يُضَادُّهُ أَمَرَ بِدُعَائِهِ خَوْفًا وَطَمَعًا ؛ لِتَعَلُّقِ قَوْلِهِ { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } . وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ : { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ وَهِيَ الْحُبُّ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ : عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ { إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أَيْ : إنَّمَا تَنَالُ مَنْ دَعَاهُ خَوْفًا وَطَمَعًا فَهُوَ الْمُحْسِنُ وَالرَّحْمَةُ قَرِيبٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَدَارَ الْإِحْسَانِ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ . وَلَمَّا كَانَ دُعَاءُ التَّضَرُّعِ وَالْخُفْيَةِ يُقَابِلُ الِاعْتِدَاءَ بِعَدَمِ التَّضَرُّعِ وَالْخُفْيَةِ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } . وَانْتِصَابُ قَوْلِهِ : { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } { خَوْفًا وَطَمَعًا } عَلَى الْحَالِ أَيْ اُدْعُوهُ مُتَضَرِّعِينَ إلَيْهِ مُخْتَفِينَ خَائِفِينَ مُطِيعِينَ . وَقَوْلُهُ : { إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فِيهِ تَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ فِعْلَ هَذَا الْمَأْمُورِ هُوَ الْإِحْسَانُ الْمَطْلُوبُ مِنْكُمْ وَمَطْلُوبُكُمْ أَنْتُمْ مِنْ
اللَّهِ رَحْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ دُعَائِهِ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً وَخَوْفًا وَطَمَعًا . فَقَرَّرَ مَطْلُوبَكُمْ مِنْهُ وَهُوَ الرَّحْمَةُ بِحَسَبِ أَدَائِكُمْ لِمَطْلُوبِهِ وَإِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ . وقَوْله تَعَالَى { إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } لَهُ دَلَالَةٌ بِمَنْطُوقِهِ وَدَلَالَةٌ بِإِيمَائِهِ وَتَعْلِيلِهِ بِمَفْهُومِهِ . فَدَلَالَتُهُ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى قُرْبِ الرَّحْمَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ وَدَلَالَتُهُ بِإِيمَائِهِ وَتَعْلِيلِهِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْبَ مُسْتَحَقٌّ بِالْإِحْسَانِ وَهُوَ السَّبَبُ فِي قُرْبِ الرَّحْمَةِ مِنْهُمْ وَدَلَالَتُهُ بِمَفْهُومِهِ عَلَى بُعْدِهِ مِنْ غَيْرِ الْمُحْسِنِينَ . فَهَذِهِ ثَلَاثُ دَلَالَاتِ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ ؛ وَإِنَّمَا اُخْتُصَّ أَهْلُ الْإِحْسَانِ بِقُرْبِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهَا إحْسَانٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَإِحْسَانُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إنَّمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَكُلَّمَا أَحْسَنُوا بِأَعْمَالِهِمْ أَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِرَحْمَتِهِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ فَإِنَّهُ لَمَّا بَعُدَ عَنْ الْإِحْسَانِ بَعُدَتْ عَنْهُ الرَّحْمَةُ بُعْدٌ بِبُعْدِ وَقُرْبٌ بِقُرْبِ فَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ تَقَرَّبَ اللَّهُ إلَيْهِ بِرَحْمَتِهِ وَمَنْ تَبَاعَدَ عَنْ الْإِحْسَانِ تَبَاعَدَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَحْمَتِهِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَيُبْغِضُ مَنْ لَيْسَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ فَرَحْمَتُهُ أَقْرَبُ شَيْءٍ مِنْهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ فَرَحْمَتُهُ أَبْعَدُ
شَيْءٍ مِنْهُ وَالْإِحْسَانُ هَاهُنَا هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ إحْسَانًا إلَى النَّاسِ أَوْ إلَى نَفْسِهِ فَأَعْظَمُ الْإِحْسَانِ الْإِيمَانُ وَالتَّوْحِيدُ وَالْإِنَابَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْبَالُ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ إجْلَالًا وَمَهَابَةً وَحَيَاءً وَمَحَبَّةً وَخَشْيَةً . فَهَذَا هُوَ مَقَامُ " الْإِحْسَانِ " كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ الْإِحْسَانِ ؛ فَقَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ } " فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ فَرَحْمَتُهُ قَرِيبٌ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ وَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ يَعْنِي هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ إلَّا أَنْ يُحْسِنَ رَبُّهُ إلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَعَمِلَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الْجَنَّةُ ؟ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : { قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ } ثُمَّ قَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَنْعَمْت عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إلَّا الْجَنَّةُ } " . آخِرُ الْكَلَامِ عَلَى الْآيَتَيْنِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا } ظَاهِرُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شُعَيْبًا وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ كَانُوا عَلَى مِلَّةِ قَوْمِهِمْ ؛ لِقَوْلِهِمْ : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } وَلِقَوْلِ شُعَيْبٍ : ( أ نَعُودُ فِيهَا { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } وَلِقَوْلِهِ : { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا فِيهَا . وَلِقَوْلِهِ : { بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْجَاهُمْ مِنْهَا بَعْدَ التَّلَوُّثِ بِهَا ؛ وَلِقَوْلِهِ : { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى قَوْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِيهِ بِقَوْلِهِ : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ } وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمُحَاوِرُ لَهُ بِقَوْلِهِ : { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } إلَى آخِرِهَا وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ وَمِثْلُ هَذَا فِي سُورَةِ إبْرَاهِيمَ { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } الْآيَةُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
هَذَا تَفْسِيرُ آيَاتٍ أَشْكَلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا ،
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا } الْآيَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا . التَّحْقِيقُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا يَصْطَفِي لِرِسَالَتِهِ مَنْ كَانَ خِيَارَ قَوْمِهِ حَتَّى فِي النَّسَبِ كَمَا فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ . وَمَنْ نَشَأَ بَيْنَ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ جُهَّالٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نَقْصٌ إذَا كَانَ عَلَى مِثْلِ دِينِهِمْ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَفِعْلِ مَا يَعْرِفُونَ وُجُوبَهُ وَتَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ قُبْحَهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } فَلَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُسْتَوْجِبِينَ الْعَذَابَ وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُنَفِّرُ عَنْ الْقَبُولِ مِنْهُمْ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَادِحًا . وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ بَعْثَةِ رَسُولٍ لَا يَعْرِفُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ قَبْلَهُ مِنْ النُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ الرِّسَالَةِ فَهُوَ كَافِرٌ ،
كَافِرٌ وَالرُّسُلُ قَبْلَ الْوَحْيِ لَا تَعْلَمُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ تُقِرَّ بِهِ . قَالَ تَعَالَى : { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } الْآيَةُ . وَقَالَ : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } فَجَعَلَ إنْذَارَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ كَالْإِنْذَارِ بِيَوْمِ التلاق وَكِلَاهُمَا عَرَفُوهُ بِالْوَحْيِ . وَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُغِّضَتْ إلَيْهِ الْأَوْثَانُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ نَبِيٍّ فَإِنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَالرَّسُولُ الَّذِي يَنْشَأُ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ الَّذِينَ لَا نُبُوَّةَ لَهُمْ يَكُونُ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ تَأْيِيدِ اللَّهِ لَهُ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى وَبِالنَّصْرِ وَالْقَهْرِ كَمَا كَانَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ . وَلِهَذَا يُضِيفُ اللَّهُ الْأَمْرَ إلَيْهِمَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ } الْآيَةُ . { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ } الْآيَةُ . وَذَلِكَ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بُعِثَ إلَى الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ مَبْدَأُ شِرْكِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَوْتَى الصَّالِحِينَ . وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ مَبْدَؤُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ ذَاكَ الشِّرْكُ الْأَرْضِيُّ وَهَذَا السَّمَاوِيُّ ؛ وَلِهَذَا سَدَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَرِيعَةَ هَذَا وَهَذَا .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ بَارَكَ فِي أَرْضِ الشَّامِ فِي آيَاتٍ : مِنْهَا قَوْلُهُ : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً } وَهِيَ قُرَى الشَّامِ وَتِلْكَ قُرَى الْيَمَنِ وَاَلَّتِي بَيْنَهُمَا قُرَى الْحِجَازِ وَنَحْوِهَا وَبَادَتْ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } فَأُمِرَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ يُقَالُ : هُوَ ذِكْرُهُ فِي قَلْبِهِ بِلَا لِسَانِهِ ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } وَقَدْ يُقَالُ وَهُوَ أَصَحُّ : بَلْ ذِكْرُ اللَّهِ فِي نَفْسِهِ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ وَقَوْلُهُ : { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُ : لَا تَجْهَرْ بِالْقُرْآنِ فَيَسْمَعَهُ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ وَلَا تُخَافِتْ بِهِ عَنْ أَصْحَابِك فَلَا يَسْمَعُوهُ } . فَنَهَاهُ عَنْ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ . فَالْمُخَافَتَةُ هِيَ ذِكْرُهُ فِي نَفْسِهِ وَالْجَهْرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْجَهْرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { وَدُونَ الْجَهْرِ }
فَإِنَّ الْجَهْرَ هُوَ الْإِظْهَارُ الشَّدِيدُ يُقَالُ : رَجُلٌ جَهْوَرِيُّ الصَّوْتِ وَرَجُلٌ جَهِيرٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ فِي الدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وَقَالَ : { إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } فَالْإِخْفَاءُ قَدْ يَكُونُ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ الْقَرِيبُ وَهُوَ الْمُنَاجَاةُ وَالْجَهْرُ مِثْلُ الْمُنَادَاةِ الْمُطْلَقَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا رَفَعَ أَصْحَابُهُ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ } " وَنَظِيرُ قَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ } قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنْ رَبِّهِ " { مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي . وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْته فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ } " وَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ ذِكْرُهُ بِاللِّسَانِ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ قَسِيمَ الذِّكْرِ فِي الْمَلَأِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : { بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ الْمَشْرُوعَ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ هُوَ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ مِثْلَ صَلَاتَيْ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ عَقِبَ الصَّلَاتَيْنِ وَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَّمَهُ وَفَعَلَهُ مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ مِنْ عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ الْمَشْرُوعَةِ
طَرَفَيْ النَّهَارِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ . وَقَدْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ذِكْرُ اللَّهِ بِالْقَلْبِ فَقَطْ ؛ لَكِنْ يَكُونُ الذِّكْرُ فِي النَّفْسِ كَامِلًا وَغَيْرَ كَامِلٍ ؛ فَالْكَامِلُ بِاللِّسَانِ مَعَ الْقَلْبِ وَغَيْرُ الْكَامِلِ بِالْقَلْبِ فَقَطْ .
وَيُشْبِهُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ كَلَامُ النَّفْسِ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَجَابَ عَنْهَا أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ بِجَوَابَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ قَوْلًا خَفِيًّا . و " الثَّانِي " أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالنَّفْسِ وَإِذَا قُيِّدَ الْقَوْلُ بِالنَّفْسِ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْمُقَيَّدِ خِلَافُ دَلَالَةِ الْمُطْلَقِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } " فَقَوْلُهُ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ النَّفْسِ لَيْسَ هُوَ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِاللِّسَانِ . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } وَجَعَلُوا الْقَوْلَ الْمُسَرَّ فِي الْقَلْبِ دُونَ اللِّسَانِ ؛ لِقَوْلِهِ : { إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ
قَوْلَهُ : { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ } يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ يُسَرُّ بِهِ تَارَةً وَيُجْهَرُ بِهِ أُخْرَى وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ بِحُرُوفِ مَسْمُوعَةٍ . وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَلِيمًا بِذَاتِ الصُّدُورِ فَعِلْمُهُ بِالْقَوْلِ الْمُسَرِّ وَالْمَجْهُورِ بِهِ أَوْلَى . وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ : { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } .
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
قَالَ سُبْحَانَهُ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ : { إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ } { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } فَوَعَدَهُمْ بِالْإِمْدَادِ بِأَلْفٍ وَعْدًا مُطْلَقًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ إمْدَادَ الْأَلْفِ بُشْرَى وَلَمْ يُقَيِّدْهُ وَقَالَ فِي قِصَّةِ أُحُدٍ : { إذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ } { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } فَإِنَّ هَذَا أَظُنُّ فِيهِ قَوْلَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأُحُدٍ ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } الْآيَةُ . وَلِأَنَّهُ وَعْدٌ مُقَيَّدٌ وَقَوْلُهُ فِيهِ : { وَمَا
جَعَلَهُ اللَّهُ إلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } يَقْتَضِي خُصُوصَ الْبُشْرَى بِهِمْ . وَأَمَّا قِصَّةُ بَدْرٍ فَإِنَّ الْبُشْرَى بِهَا عَامَّةٌ فَيَكُونُ هَذَا كَالدَّلِيلِ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ أَلْفَ بَدْرٍ بَاقِيَةٌ فِي الْأُمَّةِ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْإِمْدَادَ وَالْبُشْرَى وَقَدَّمَ ( بِهِ ) عَلَى ( لَكُمْ ) عِنَايَةً بِالْأَلْفِ وَفِي أُحُدٍ كَانَتْ الْعِنَايَةُ بِهِمْ لَوْ صَبَرُوا فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي قَوْلِهِ : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } الْآيَةُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَوَلِّدَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْآدَمِيِّ ؛ بَلْ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ وَالْقَتْلُ هُوَ الْإِزْهَاقُ وَذَاكَ مُتَوَلِّدٌ وَهَذَا قَدْ يَقُولُهُ مَنْ يَنْفِي التَّوَلُّدَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الرَّمْيَ أَيْضًا وَهُوَ فِعْلٌ مُبَاشِرٌ وَلِأَنَّهُ قَالَ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَقَالَ : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } فَأَثْبَتَ الْقَتْلَ . وَلِأَنَّ الْقَتْلَ هُوَ الْفِعْلُ الصَّالِحُ لِلْإِزْهَاقِ لَيْسَ هُوَ الزُّهُوقُ ؛ بِخِلَافِ الْإِمَاتَةِ . " الثَّانِي " أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَهَذَا قَدْ يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَأَظُنُّهُ مَأْثُورًا عَنْ الْجُنَيْد سَلَبَ الْعَبْدَ الْفِعْلَ نَظَرًا إلَى الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ كُلِّ صَانِعٍ وَصَنْعَتِهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّا وَإِنْ قُلْنَا بِخَلْقِ الْفِعْلِ فَالْعَبْدُ لَا يُسْلَبُهُ بَلْ يُضَافُ
الْفِعْلُ إلَيْهِ أَيْضًا فَلَا يُقَالُ مَا آمَنْت وَلَا صَلَّيْت وَلَا صُمْت وَلَا صَدَّقْت وَلَا عَلِمْت فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ ؛ إذْ أَقَلُّ أَحْوَالِهِ الِاتِّصَافُ وَهُوَ ثَابِتٌ . وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا إلَّا فِي الْقَتْلِ وَالرَّمْيِ بِبَدْرِ وَلَوْ كَانَ هَذَا لِعُمُومِ خَلْقِ اللَّهِ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَمْ يُخْتَصَّ بِبَدْرِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَرَقَ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ فَصَارَتْ رُءُوسُ الْمُشْرِكِينَ تَطِيرُ قَبْلَ وُصُولِ السِّلَاحِ إلَيْهَا بِالْإِشَارَةِ وَصَارَتْ الْجَرِيدَةُ تَصِيرُ سَيْفًا يُقْتَلُ بِهِ . وَكَذَلِكَ رَمْيَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصَابَتْ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يُصِيبَهُ فَكَانَ مَا وُجِدَ مِنْ الْقَتْلِ وَإِصَابَةِ الرَّمْيَةِ خَارِجًا عَنْ قُدْرَتِهِمْ الْمَعْهُودَةِ فَسُلِبُوهُ لِانْتِفَاءِ قُدْرَتِهِمْ عَلَيْهِ وَهَذَا أَصَحُّ وَبِهِ يَصِحُّ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ { وَمَا رَمَيْتَ } أَيْ مَا أَصَبْت { إذْ رَمَيْتَ } إذْ طَرَحْت { وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } أَصَابَ . وَهَكَذَا كُلُّ مَا فَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْقُدْرَةِ الْمُعْتَادَةِ بِسَبَبِ ضَعِيفٍ كَإِنْبَاعِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَوْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ قُدْرَةِ الْفَاعِلِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لَا عَلَى الْجَبْرِ وَلَا عَلَى نَفْيِ التَّوَلُّدِ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
" أَحَدُهُمَا " فِي الِاسْتِغْفَارِ الدَّافِعِ لِلْعَذَابِ .
و " الثَّانِي " فِي الْعَذَابِ الْمَدْفُوعِ بِالِاسْتِغْفَارِ .
أَمَّا " الْأَوَّلُ " : فَإِنَّ الْعَذَابَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الذُّنُوبِ وَالِاسْتِغْفَارُ يُوجِبُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْعَذَابِ فَيَنْدَفِعُ الْعَذَابُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ مُتِّعُوا مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ إنْ كَانَ لَهُمْ فَضْلٌ أُوتُوا الْفَضْلَ .
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ : { يَا قَوْمِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } إلَى قَوْلِهِ : { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا } { يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } الْآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ } وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } .
وَأَمَّا الْعَذَابُ الْمَدْفُوعُ فَهُوَ يَعُمُّ الْعَذَابَ السَّمَاوِيَّ وَيَعُمُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْعِبَادِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ عَذَابًا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي النَّوْعِ الثَّانِي : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } وَكَذَلِكَ : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } إذْ التَّقْدِيرُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِعَذَابٍ بِأَيْدِينَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } .
وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْعَذَابُ بِفِعْلِ الْعِبَادِ وَقَدْ يُقَالُ : التَّقْدِيرُ : { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ } أَوْ يُصِيبَكُمْ بِأَيْدِينَا ؛ لَكِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَوْجَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِصَابَةَ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إصَابَةٌ بِسُوءِ ؛ إذْ قَدْ يُقَالُ : أَصَابَهُ بِخَيْرٍ وَأَصَابَهُ بِشَرِّ . قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ } وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْإِصَابَةِ يَدُلُّ عَلَى الْإِصَابَةِ بِالشَّرِّ لَاكْتَفَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى أَيْضًا : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي بِلَالٍ وَنَحْوِهِ : كَانُوا مِنْ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللَّهِ وَيُقَالُ إنَّ أَبَا بَكْرٍ اشْتَرَى سَبْعَةً مِنْ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللَّهِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ } " . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } مَعَ مَا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ : أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ : أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ : هَاتَانِ أَهْوَنُ } " يَقْتَضِي أَنَّ لُبْسَنَا شِيَعًا وَإِذَاقَةَ بَعْضِنَا بَأْسَ بَعْضٍ هُوَ مِنْ الْعَذَابِ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِالِاسْتِغْفَارِ كَمَا قَالَ : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } وَإِنَّمَا تُنْفَى الْفِتْنَةُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وقَوْله تَعَالَى { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } قَدْ يَكُونُ الْعَذَابُ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ يَكُونُ بِأَيْدِي الْعِبَادِ فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ يَبْتَلِيهِمْ بِأَنْ يُوقِعَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ حَتَّى تَقَعَ بَيْنَهُمْ الْفِتْنَةُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَمَعَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ وَجَعَلَ بَأْسَهُمْ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِمْ
وَإِذَا لَمْ يَنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَذَّبَهُمْ اللَّهُ بِأَنْ يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } يَدْخُلُ فِي الْعَذَابِ الْأَدْنَى مَا يَكُونُ بِأَيْدِي الْعِبَادِ كَمَا قَدْ فُسِّرَ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ بَعْضُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَذَابِ .
سُورَةُ التَّوْبَةِ
وَقَالَ : قَدْ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ : { لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ } عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِإِيمَانِ وَالِدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْوَلَدَ فِي اسْتِحْبَابِهِ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ حُكْمَهُ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْأَبِ وَالْأَخِ . وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِصِغَرِهِ وَجُنُونِهِ وَبَيْنَ الْمُسْتَقِلِّ كَمَا اسْتَدَلَّ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُ بِقَوْلِهِ : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ } أَنَّ بَيْتَ الْوَلَدِ مُنْدَرِجٌ فِي بُيُوتِكُمْ ؛ لِأَنَّهُ وَمَالَهُ لِأَبِيهِ . وَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ : { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا } عَلَى أَنَّ إسْلَامَ الْوَلِيدِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ قَوْلَ مَنْ يَطْلُبُ الْهِجْرَةَ وَطَلَبُ الْهِجْرَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ وَإِذَا كَانَ لَهُ قَوْلٌ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ كَانَ أَصْلًا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ تَابِعًا ؛ بِخِلَافِ الطِّفْلِ الَّذِي لَا تَمْيِيزَ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لَا قَوْلَ لَهُ .
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } كُلُّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ أَمْ بَعْضُهُمْ ؟ { وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْيَهُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ الْعُزَيْرُ } الْحَدِيثُ . هَلْ الْخِطَابُ عَامٌّ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْمُرَادُ بِالْيَهُودِ جِنْسُ الْيَهُودِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } لَمْ يَقُلْ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَا قَالَ : إنَّ جَمِيعَ النَّاسِ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ؛ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ . وَهَذَا كَمَا يُقَالُ الطَّائِفَةُ الْفُلَانِيَّةُ تَفْعَلُ كَذَا وَأَهْلُ الْفُلَانِيِّ يَفْعَلُونَ كَذَا وَإِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فَسَكَتَ الْبَاقُونَ وَلَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ فَيَشْتَرِكُونَ فِي إثْمِ الْقَوْلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ :
فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِاَللَّهِ كُفْرٌ وَبِالرَّسُولِ كُفْرٌ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ كُفْرٌ بِالضَّرُورَةِ فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْآيَاتِ وَالرَّسُولِ شَرْطًا ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِالرَّسُولِ كُفْرٌ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ . و " أَيْضًا " فَالِاسْتِهْزَاءُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ مُتَلَازِمٌ وَالضَّالُّونَ مُسْتَخِفُّونَ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى يُعَظِّمُونَ دُعَاءَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ وَإِذَا أُمِرُوا بِالتَّوْحِيدِ وَنُهُوا عَنْ الشِّرْكِ اسْتَخَفُّوا بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلَّا هُزُوًا } الْآيَةُ . فَاسْتَهْزَءُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الشِّرْكِ وَمَا زَالَ الْمُشْرِكُونَ يَسُبُّونَ الْأَنْبِيَاءَ وَيَصِفُونَهُمْ بِالسَّفَاهَةِ وَالضَّلَالِ وَالْجُنُونِ إذَا دَعَوْهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ ؛ لِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ عَظِيمِ الشِّرْكِ . وَهَكَذَا تَجِدُ مَنْ فِيهِ شَبَهٌ مِنْهُمْ إذَا رَأَى مَنْ يَدْعُو إلَى التَّوْحِيدِ اسْتَهْزَأَ بِذَلِكَ ؛ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ الشِّرْكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } فَمَنْ أَحَبَّ مَخْلُوقًا مِثْلَ مَا يُحِبُّ اللَّهَ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْحُبِّ مَعَ اللَّهِ . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْقُبُورَ أَوْثَانًا تَجِدُهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِمَا هُوَ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَيُعَظِّمُونَ مَا اتَّخَذُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ وَيَحْلِفُ أَحَدُهُمْ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ كَاذِبًا وَلَا يَجْتَرِئُ أَنْ يَحْلِفَ بِشَيْخِهِ كَاذِبًا . وَكَثِيرٌ مِنْ طَوَائِفَ مُتَعَدِّدَةٍ تَرَى أَحَدُهُمْ يَرَى أَنَّ اسْتِغَاثَتَهُ بِالشَّيْخِ إمَّا عِنْدَ قَبْرِهِ أَوْ غَيْرِ قَبْرِهِ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ السَّحَرِ وَيَسْتَهْزِئُ بِمَنْ يَعْدِلُ عَنْ طَرِيقَتِهِ إلَى التَّوْحِيدِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخَرِّبُونَ الْمَسَاجِدَ وَيُعَمِّرُونَ الْمَشَاهِدَ فَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ اسْتِخْفَافِهِمْ بِاَللَّهِ وَبِآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لِلشِّرْكِ . وَإِذَا كَانَ لِهَذَا وَقْفٌ وَلِهَذَا وَقْفٌ كَانَ وَقْفُ الشِّرْكِ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ ؛ مُضَاهَاةً لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا } الْآيَةُ . فَيُفَضِّلُونَ مَا يُجْعَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ عَلَى مَا يُجْعَلُ لِلَّهِ وَيَقُولُونَ : اللَّهُ غَنِيٌّ وَآلِهَتُنَا فَقِيرَةٌ . وَهَؤُلَاءِ إذَا قَصَدَ أَحَدُهُمْ الْقَبْرَ الَّذِي يُعَظِّمُهُ يَبْكِي عِنْدَهُ وَيَخْشَعُ
وَيَتَضَرَّعُ مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ مِثْلُهُ فِي الْجُمُعَةِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ فَهَلْ هَذَا إلَّا مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ لَا الْمُوَحِّدِينَ وَمِثْلُ هَذَا أَنَّهُ إذَا سَمِعَ أَحَدُهُمْ سَمَاعَ الْأَبْيَاتِ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ مَا لَا يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ الْآيَاتِ ؛ بَلْ يَسْتَثْقِلُونَهَا وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهَا وَبِمَنْ يَقْرَؤُهَا مِمَّا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ أَعْظَمُ نَصِيبٍ مِنْ قَوْلِهِ : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } . وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ دُعَاءَ الْمَوْتَى أَفْضَلَ مِنْ دُعَاءِ اللَّهِ : مِنْهُمْ مَنْ يَحْكِي أَنَّ بَعْضَ الْمُرِيدِينَ اسْتَغَاثَ بِاَللَّهِ فَلَمْ يُغِثْهُ وَاسْتَغَاثَ بِشَيْخِهِ فَأَغَاثَهُ وَأَنَّ بَعْضَ الْمَأْسُورِينَ دَعَا اللَّهَ فَلَمْ يُخْرِجْهُ فَدَعَا بَعْضَ الْمَوْتَى ؛ فَجَاءَهُ فَأَخْرَجَهُ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ . وَآخَرُ قَالَ : قَبْرُ فُلَانٍ التِّرْيَاقُ الْمُجَرَّبُ . وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا نَزَلَ بِهِ شِدَّةٌ لَا يَدْعُو إلَّا شَيْخَهُ قَدْ لَهِجَ بِهِ كَمَا يَلْهَجُ الصَّبِيُّ بِذِكْرِ أُمِّهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِلْمُوَحِّدِينَ : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } وَقَدْ قَالَ شُعَيْبٌ : { يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ } .
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } الْآيَةُ . وَالتَّوْبَةُ إنَّمَا تَكُونُ عَنْ شَيْءٍ يَصْدُرُ مِنْ الْعَبْدِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ كِبَارِهَا وَصِغَارِهَا وَهُمْ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ يَرْفَعُ دَرَجَاتِهِمْ وَيُعَظِّمُ حَسَنَاتِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ نَقْصًا ؛ بَلْ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الكمالات وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَغَايَةُ كُلِّ مُؤْمِنٍ هِيَ التَّوْبَةُ ثُمَّ التَّوْبَةُ تَتَنَوَّعُ كَمَا يُقَالُ : حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ عَامَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ : عَنْ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ . فَقَالَ آدَمَ :
{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ نُوحٌ : { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وَقَالَ الْخَلِيلُ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } وَقَالَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ مُوسَى : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إنَّا هُدْنَا إلَيْكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَوْبَةَ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } وَفِي أَوَاخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ : { اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ } " وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ : " { اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ
أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } " وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ } " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَسْرَفْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدَّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخَّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } " . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَتَوْبَةُ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغْفَارُهُمْ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ حَسَنَاتِهِمْ وَأَكْبَرِ طَاعَاتِهِمْ وَأَجَلِّ عِبَادَاتِهِمْ الَّتِي يَنَالُونَ بِهَا أَجَلَّ الثَّوَابِ وَيَنْدَفِعُ بِهَا عَنْهُمْ مَا يَدْفَعُهُ مِنْ الْعِقَابِ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : أَيُّ حَاجَةٍ بِالْأَنْبِيَاءِ إلَى الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ ؟ كَانَ جَاهِلًا ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا نَالُوا مَا نَالُوهُ بِعِبَادَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا فَهِيَ أَفْضَلُ عِبَادَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ . وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : فَالتَّوْبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا عَنْ ذَنْبٍ وَالِاسْتِغْفَارُ كَذَلِكَ
قِيلَ لَهُ : الذَّنْبُ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ هُوَ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَوْبَةٌ فَأَمَّا مَا حَصَلَ مِنْهُ تَوْبَةٌ فَقَدْ يَكُونُ صَاحِبُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَفْضَلَ مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كَانَ دَاوُد بَعْدَ التَّوْبَةِ أَحْسَنَ مِنْهُ حَالًا قَبْلَ الْخَطِيئَةِ وَلَوْ كَانَتْ التَّوْبَةُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ ؛ فَإِنَّ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ هُمْ خِيَارُ الْخَلِيقَةِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّمَا صَارُوا كَذَلِكَ بِتَوْبَتِهِمْ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ وَلَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ قَبْلَ التَّوْبَةِ نَقْصًا وَلَا عَيْبًا ؛ بَلْ لَمَّا تَابُوا مِنْ ذَلِكَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانُوا أَعْظَمَ إيمَانًا وَأَقْوَى عِبَادَةً وَطَاعَةً مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ ؛ فَلَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ كَمَا عَرَفُوهَا . وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا } { إلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّ اللَّهَ يُحَاسِبُ عَبْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ صِغَارَ الذُّنُوبِ وَيُخَبِّئُ عَنْهُ كِبَارَهَا فَيَقُولُ : فَعَلْت يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ يَا رَبِّ وَهُوَ مُشْفِقٌ
مِنْ كِبَارِهَا أَنْ تَظْهَرَ فَيَقُولُ إنِّي قَدْ غَفَرْتهَا لَك وَأَبْدَلْتُك مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً فَهُنَالِكَ يَقُولُ رَبِّ إنَّ لِي سَيِّئَاتٍ مَا أَرَاهَا بَعْدُ } " فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إذَا تَابَ وَبَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ انْقَلَبَ مَا كَانَ يَضُرُّهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ بِسَبَبِ تَوْبَتِهِ حَسَنَاتٍ يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا فَلَمْ تَبْقَ الذُّنُوبُ بَعْدَ التَّوْبَةِ مُضِرَّةً لَهُ بَلْ كَانَتْ تَوْبَتُهُ مِنْهَا مِنْ أَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُ وَالِاعْتِبَارُ بِكَمَالِ النِّهَايَةِ لَا بِنَقْصِ الْبِدَايَةِ فَمَنْ نَسِيَ الْقُرْآنَ ثُمَّ حَفِظَهُ خَيْرٌ مِمَّنْ حَفِظَهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَضُرَّهُ النِّسْيَانُ وَمَنْ مَرِضَ ثُمَّ صَحَّ وَقَوِيَ لَمْ يَضُرَّهُ الْمَرَضُ الْعَارِضُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَبْتَلِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِمَا يَتُوبُ مِنْهُ ؛ لِيَحْصُلَ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ تَكْمِيلِ الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ لِلَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَكَمَالِ الْحَذَرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ التَّوْبَةِ كَمَنْ ذَاقَ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَالْمَرَضَ وَالْفَقْرَ وَالْخَوْفَ ثُمَّ ذَاقَ الشِّبَعَ وَالرَّيَّ وَالْعَافِيَةَ وَالْغِنَى وَالْأَمْنَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَحَبَّةِ لِذَلِكَ وَحَلَاوَتِهِ وَلَذَّتِهِ وَالرَّغْبَةِ فِيهِ وَشُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْحَذَرِ أَنْ يَقَعَ فِيمَا حَصَلَ أَوَّلًا مَا لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ ذَلِكَ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَلَا يَكْمُلُ أَحَدٌ وَيَحْصُلُ لَهُ كَمَالُ الْقُرْبِ مِنْ اللَّهِ وَيَزُولُ عَنْهُ كُلُّ مَا يَكْرَهُ إلَّا بِهَا .
وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِي أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ ؛ فَهُوَ أَفْضَلُ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ وَأَفْضَلُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ وَأَفْضَلُ الْعَابِدِينَ لَهُ وَأَفْضَلُ الْعَارِفِينَ بِهِ وَأَفْضَلُ التَّائِبِينَ إلَيْهِ وَتَوْبَتُهُ أَكْمَلُ مِنْ تَوْبَةِ غَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . وَبِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ نَالَ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : " { أَنَّ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ مِنْ آدَمَ فَيَقُولُ : إنِّي نُهِيت عَنْ الْأَكْلِ مِنْ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْت مِنْهَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي . وَيَطْلُبُونَهَا مِنْ نُوحٍ فَيَقُولُ : إنِّي دَعَوْت عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ دَعْوَةً لَمْ أومر بِهَا . نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي . وَيَطْلُبُونَهَا مِنْ الْخَلِيلِ ثُمَّ مِنْ مُوسَى ثُمَّ مِنْ الْمَسِيحِ فَيَقُولُ : اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ . قَالَ : فَيَأْتُونِي فَأَنْطَلِقُ فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيَقُولُ : أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ فَأَقُولُ : أَيْ رَبِّ أُمَّتِي فَيَحِدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ } " . فَالْمَسِيحُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - دَلَّهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ بِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ إذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمَخْلُوفَيْنِ وَالْخَالِقِ نَسَبٌ إلَّا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ وَالِافْتِقَارِ مِنْ الْعَبْدِ
وَمَحْضُ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا : وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ } " وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " { يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ } " وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } " فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ . وَكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لَهُ وَافْتِقَارِهِ إلَيْهِ وَكَمَالِ تَوْبَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ : صَارَ أَفْضَلَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْ اللَّهِ وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ بَلْ هُوَ فَقِيرٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُحْسِنٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَوَاضُعًا وَعُبُودِيَّةً ازْدَادَ إلَى اللَّهِ قُرْبًا وَرِفْعَةً ؛ وَمِنْ ذَلِكَ تَوْبَتُهُ وَاسْتِغْفَارُهُ . وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي .
سُورَةُ يُونُسَ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَوْلُهُ : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } وَقَوْلُهُ : { وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } وَقَوْلُهُ : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } وَقَوْلُهُ { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } وَقَوْلُهُ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } دَلِيلٌ عَلَى تَوْقِيتِ مَا فِيهَا مِنْ التَّوْقِيتِ لِلسِّنِينَ وَالْحِسَابِ فَقَوْلُهُ : { لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } إنْ عُلِّقَ بِقَوْلِهِ : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } كَانَ الْحُكْمُ مُخْتَصًّا بِالْقَمَرِ وَإِنْ أُعِيدَ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ تَعَلَّقَ بِهِمَا وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ قَوْلُهُ فِي الْأَهِلَّةِ فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِذَلِكَ وَلِأَنَّ كَوْنَ الشَّمْسِ ضِيَاءً وَالْقَمَرِ نُورًا لَا يُوجِبُ عِلْمَ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ بِخِلَافِ تَقْدِيرِ الْقَمَرِ مَنَازِلَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي
يَقْتَضِي عِلْمَ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ وَلَمْ يَذْكُرْ انْتِقَالَ الشَّمْسِ فِي الْبُرُوجِ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ } الْآيَةُ فَإِنَّهُ نَصٌّ عَلَى أَنَّ السَّنَةَ هِلَالِيَّةٌ وَقَوْلُهُ : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } يُؤَيِّدُ ذَلِكَ لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ قَوْلُهُ : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } . وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِمَعْنَى تَظْهَرُ بِهِ حِكْمَةُ مَا فِي الْكِتَابِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ اعْتِبَارِ الشَّهْرِ وَالْعَامِ الْهِلَالِيِّ دُونَ الشَّمْسِيِّ أَنَّ كُلَّ مَا حُدَّ مِنْ الشَّهْرِ وَالْعَامِ يَنْقَسِمُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُمَمِ إلَى عَدَدِيٍّ وَطَبِيعِيٍّ فَأَمَّا الشَّهْرُ الْهِلَالِيُّ فَهُوَ طَبِيعِيٌّ وَسَنَتُهُ عَدَدِيَّةٌ . وَأَمَّا الشَّهْرُ الشَّمْسِيُّ : فَعَدَدِيٌّ وَسَنَتُهُ طَبِيعِيَّةٌ فَأَمَّا جَعْلُ شَهْرِنَا هِلَالِيًّا فَحِكْمَتُهُ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّهُ طَبِيعِيٌّ وَإِنَّمَا عُلِّقَ بِالْهِلَالِ دُونَ الِاجْتِمَاعِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مَضْبُوطٌ بِالْحِسِّ لَا يَدْخُلُهُ خَلَلٌ وَلَا يَفْتَقِرُ إلَى حِسَابٍ بِخِلَافِ الِاجْتِمَاعِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ يَفْتَقِرُ إلَى حِسَابٍ وَبِخِلَافِ الشَّهْرِ الشَّمْسِيِّ لَوْ ضُبِطَ . وَأَمَّا السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ طَبِيعِيَّةً فَهِيَ مِنْ جِنْسِ
الِاجْتِمَاعِ لَيْسَ أَمْرًا ظَاهِرًا لِلْحِسِّ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى حِسَابِ سَيْرِ الشَّمْسِ فِي الْمَنَازِلِ وَإِنَّمَا الَّذِي يُدْرِكُهُ الْحِسُّ تَقْرِيبُ ذَلِكَ فَإِنَّ انْقِضَاءَ الشِّتَاءِ وَدُخُولَ الْفَصْلِ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الصَّيْفَ وَيُسَمِّيهِ غَيْرُهَا الرَّبِيعُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ بِخِلَافِ مُحَاذَاةِ الشَّمْسِ لِجُزْءِ مِنْ أَجْزَاءِ الْفَلَكِ يُسَمَّى بُرْجَ كَذَا أَوْ مُحَاذَاتِهَا لِإِحْدَى نُقْطَتَيْ الرَّأْسِ أَوْ الذَّنَبِ فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى حِسَابٍ . وَلَمَّا كَانَتْ الْبُرُوجُ اثْنَيْ عَشَرَ فَمَتَى تَكَرَّرَ الْهِلَالِيُّ اثْنَيْ عَشَرَ فَقَدْ انْتَقَلَ فِيهَا كُلِّهَا فَصَارَ ذَلِكَ سَنَةً كَامِلَةً تَعَلَّقَتْ بِهِ أَحْكَامُ دِينِنَا مِنْ الْمُؤَقَّتَاتِ شَرْعًا أَوْ شَرْطًا إمَّا بِأَصْلِ الشَّرْعِ كَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ . وَإِمَّا بِسَبَبِ مِنْ الْعَبْدِ كَالْعِدَّةِ وَمُدَّةِ الْإِيلَاءِ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ . وَإِمَّا بِالشَّرْطِ كَالْأَجَلِ فِي الدَّيْنِ وَالْخِيَارِ وَالْأَيْمَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَالَ :
هَذِهِ تَفْسِيرُ آيَاتٍ أَشْكَلَتْ حَتَّى لَا يُوجَدَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ إلَّا مَا هُوَ خَطَأٌ فِيهَا ،
مِنْهَا قَوْلُهُ : { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ } ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ ( مَا ) نَافِيَةٌ وَهُوَ خَطَأٌ . بَلْ هِيَ اسْتِفْهَامٌ فَإِنَّهُمْ يَدْعُونَ مَعَهُ شُرَكَاءَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَالشُّرَكَاءُ يُوصَفُونَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ لِأَنَّهُمْ يُتَّبَعُونَ وَإِنَّمَا يُتَّبَعُ الْأَئِمَّةُ . وَلِهَذَا قَالَ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ } وَلَوْ أَرَادَ النَّفْيَ لَقَالَ : إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا مَنْ لَيْسُوا شُرَكَاءَ بَلْ بَيَّنَ أَنَّ الْمُشْرِكَ لَا عِلْمَ مَعَهُ إنْ هُوَ إلَّا الظَّنُّ وَالْحِرْصُ كَقَوْلِهِ : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } .
سُورَةُ هُودٍ
وَقَالَ :
فَصْلٌ :
وقَوْله تَعَالَى { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَنْ هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ . فَالْبَيِّنَةُ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالشَّاهِدُ الَّذِي يَتْلُوهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الرَّسُولَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّ الرَّسُولَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَمُتَّبِعِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ . وَقَالَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ : { قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } وَقَالَ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } فَذَكَرَ هَذَا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الصِّنْفَيْنِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَقَالَ : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ } الْآيَاتُ . إلَى قَوْلِهِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : لَا تَهْلَكُ أُمَّةٌ حَتَّى يَتَّبِعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَيَتْرُكُوا مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } فَمَنْ اتَّبَعَهُ يَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ وَالْبَصِيرَةُ هِيَ الْبَيِّنَةُ . وَقَالَ : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } الْآيَةُ . فَالنُّورُ الَّذِي يَمْشِي فِي النَّاسِ هُوَ الْبَيِّنَةُ وَالْبَصِيرَةُ وَقَالَ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الْآيَةُ . قَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ : هُوَ مِثْلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ نُورُهُ الَّذِي فِي قَلْبِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ النَّاشِئِ عَنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَذَلِكَ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّهِ . وَقَالَ : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } فَهَذَا النُّورُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَشَرْحُ الصَّدْرِ لِلْإِسْلَامِ هُوَ الْبَيِّنَةُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ الْهُدَى الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } وَاسْتَعْمَلَ فِي هَذَا حَرْفَ الِاسْتِعْلَاءِ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَسْتَقِرُّ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا كَانَ عَالِمًا مُوقِنًا بِالْحَقِّ فَيَكُونُ الْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ صِبْغَةً لَهُ يَنْصَبِغُ بِهَا كَمَا قَالَ : { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً } وَيَصِيرُ مَكَانَةً لَهُ كَمَا قَالَ : { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } وَالْمَكَانُ وَالْمَكَانَةُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَسْتَقِرُّ الشَّيْءُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِهِ كَالسَّقْفِ مَثَلًا وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُحِيطُ بِهِ . فَالْمُهْتَدُونَ لَمَّا كَانُوا عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَنُورٍ وَبَيِّنَةٍ وَبَصِيرَةٍ صَارَ
مَكَانَةً لَهُمْ اسْتَقَرُّوا عَلَيْهَا وَقَدْ تُحِيطُ بِهِمْ بِخِلَافِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ ثَابِتًا مُسْتَقِرًّا مُطَمْئِنًا بَلْ هُوَ كَالْوَاقِفِ عَلَى حَرْفِ الْوَادِي وَهُوَ جَانِبُهُ فَقَدْ يَطْمَئِنُّ إذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ وَقَدْ يَنْقَلِبُ عَلَى وَجْهِهِ سَاقِطًا فِي الْوَادِي . وَكَذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَ مَنْ { أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ } وَبَيْنَ { مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } وَكَذَلِكَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَهُمْ مِنْهَا وَشَوَاهِدُ هَذَا كَثِيرٌ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَبَصِيرَةٍ وَهُدًى وَنُورٍ وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ وَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ثُمَّ قَالَ : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وَالضَّمِيرُ فِي ( مِنْهُ عَائِدٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ : وَيَتْلُو هَذَا الَّذِي هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَالشَّاهِدُ مِنْ اللَّهِ كَمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا الْمَذْكُورَةَ مِنْ اللَّهِ أَيْضًا . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : " الشَّاهِدُ " مِنْ نَفْسِ الْمَذْكُورِ وَفَسَّرَهُ بِلِسَانِهِ أَوْ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ كَوْنَ شَاهِدِ الْإِنْسَانِ مِنْهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ صَادِقًا فَإِنَّهُ مِثْلَ شَهَادَةِ
الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الشَّاهِدُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَكُونُ هُوَ الشَّاهِدُ وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } إنَّهُ عَلِيٌّ فَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ شَهَادَةَ قَرِيبٍ لَهُ قَدْ اتَّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ وَلَمْ يَهْتَدِ إلَّا بِهِ لَا تَكُونُ بُرْهَانًا لِلصِّدْقِ وَلَا حُجَّةً عَلَى الْكُفْرِ بِخِلَافِ شَهَادَةِ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ شَهَادَتُهُمْ بُرْهَانٌ وَرَحْمَةٌ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً } وَقَالَ : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } وَقَالَ : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } الْآيَةُ . وَقَالَ : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَهَذَا الشَّاهِدُ مِنْ اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ جِبْرِيلُ فَجِبْرِيلُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ هُوَ الَّذِي بَلَّغَ الْقُرْآنَ عَنْ اللَّهِ وَجِبْرِيلُ يَشْهَدُ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّهُ حَقٌّ كَمَا قَالَ : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } وَاَلَّذِي قَالَ هُوَ جِبْرِيلُ . قَالَ : يَتْلُوهُ أَيْ يَقْرَؤُهُ كَمَا قَالَ : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أَيْ إذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فَاتَّبِعْ مَا قَرَأَهُ . وَقَالَ : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } . وَمَنْ قَالَ : الشَّاهِدُ لِسَانُهُ وَجَعَلَ الضَّمِيرَ الْمَذْكُورَ عَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرْ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْقُرْآنُ وَلَوْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ هِيَ الْقُرْآنُ
لَمَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ : عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَكِلَاهُمَا بَلَغَهُ وَقَرَأَهُ فَقَوْلُهُ : { وَيَتْلُوهُ } جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ تَكْرِيرٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ . وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ عَلَى الْقُرْآنِ لَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ نَظِيرًا فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَاحِدٌ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ : أَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ إخْبَارُهُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ . وَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ قَبْلَهَا إلَّا بَعْضُهُ وَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ حِينَئِذٍ هُوَ الْإِيمَانُ بِمَا نَزَلَ مِنْهُ فَمَنْ آمَنَ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَأَيْضًا فَتَسْمِيَةُ جِبْرِيلَ شَاهِدًا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ لِسَانِ الرَّسُولِ شَاهِدًا وَتَسْمِيَةُ عَلِيٍّ شَاهِدًا لَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكُتَّابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ شَهَادَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِشَهَادَتِهِ لِرَسُولِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَسَمَّى مَا أَنْزَلَهُ شَهَادَةً مِنْهُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَأَخْبَرَ فِيهِ بِمَا أَخْبَرَ شَهَادَةً مِنْهُ .
وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَحْكُمُ وَيَشْهَدُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيُبَشِّرُ وَيَهْدِي بِكَلَامِهِ وَيَصِفُ كَلَامَهُ بِأَنَّهُ يَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيَهْدِي وَيُبَشِّرُ وَيُنْذِرُ كَمَا قَالَ : { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } وَقَالَ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وَقَالَ : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } وَقَالَ : { قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } وَقَالَ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } . وَكَذَلِكَ سَمَّى الرَّسُولَ هَادِيًا فَقَالَ : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } كَمَا سَمَّاهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَسَمَّى الْقُرْآنَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ هُوَ يَشْهَدُ لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَكَانَ كَلَامُهُ شَهَادَةً مِنْهُ : كَانَ كَلَامُهُ شَاهِدًا مِنْهُ كَمَا كَانَ يَحْكُمُ وَيُفْتِي وَيَقُصُّ وَيُبَشِّرُ وَيُنْذِرُ . وَلَمَّا قِيلَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حَكَّمْت مَخْلُوقًا قَالَ : مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا وَإِنَّمَا حَكَّمْت الْقُرْآنَ . فَإِنَّ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَاَلَّذِي يَشْهَدُ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ شَهَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ - وَقَدْ كَانَ إمَامًا وَأَخَذَ التَّفْسِيرَ عَنْ أَبِيهِ زَيْدٍ وَكَانَ زَيْدٌ إمَامًا فِيهِ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَخَذُوا عَنْهُ التَّفْسِيرَ وَأَخَذَهُ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ
ابْنُ وَهْبٍ صَاحِبُ مَالِكٍ وأصبغ بْنُ الْفَرَجِ الْفَقِيهُ . قَالَ - فِي قَوْله تَعَالَى { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ " وَالْقُرْآنُ يَتْلُوهُ شَاهِدٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ اللَّهِ . وَقَدْ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ : وَيَتْلُو رَسُولُ اللَّهِ الْقُرْآنَ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } هُوَ مُحَمَّدٌ { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } الْقُرْآنُ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَمُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ وقتادة والسدي وخصيف وَابْنِ عُيَيْنَة نَحْوُ ذَلِكَ . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ صَحِيحٌ ؛ وَلَكِنْ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ لَيْسُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ ؛ بَلْ هُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ . وَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } قَالَ : الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَرُوِيَ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } يَعْنِي مُحَمَّدًا شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ ؛ وَهِيَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَى الْبَيِّنَةِ مَنْ شَهِدَ لَهُ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : مَنْ قَالَ هُوَ مُحَمَّدٌ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ هُوَ جِبْرِيلُ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا بَلَّغَ الْقُرْآنَ وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ
فَاصْطَفَى جِبْرِيلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَاصْطَفَى مُحَمَّدًا مِنْ النَّاسِ . وَقَالَ فِي جِبْرِيلَ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَقَالَ فِي مُحَمَّدٍ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَكِلَاهُمَا رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ ؛ كَمَا قَالَ { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } فَكِلَاهُمَا رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ بَلَّغَ مَا أُرْسِلَ بِهِ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَمَّا شَهَادَتُهُمْ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ فَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ كُلِّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِكُلِّ مَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ ؛ لِكَوْنِهِ آمَنَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ بَلَّغَهُ أَوْ لَمْ يُبَلِّغْهُ . وَلِهَذَا كَانَ إيمَانُ الرَّسُولِ بِمَا جَاءَ بِهِ غَيْرَ تَبْلِيغِهِ لَهُ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهَذَا وَبِهَذَا وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى هَذَا وَهَذَا كَمَا قَالَ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَشَهَادَةُ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ جِهَةِ إيمَانِهِمَا بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِمَا مُرْسَلَيْنِ بِهِ فَإِنَّ الْإِرْسَالَ بِهِ يَتَضَمَّنُ شَهَادَتَهُمَا أَنَّ اللَّهَ قَالَهُ وَقَدْ يُرْسِلُ غَيْرَ رَسُولٍ بِشَيْءِ فَيَشْهَدُ الرَّسُولُ أَنَّ هَذَا كَلَامُ الْمُرْسِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُرْسَل صَادِقًا وَلَا حَكِيمًا ؛ وَلَكِنْ عُلِمَ أَنَّ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدًا يَعْلَمَانِ أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ حَكِيمٌ فَهُمَا يَشْهَدَانِ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ . وَكَذَلِكَ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ يَشْهَدُونَ بِأَنَّ مَا قَالَهُ اللَّهُ فَهُوَ حَقٌّ
وَأَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ حَكِيمٌ لَا يُخْبِرُ إلَّا بِصِدْقِ وَلَا يَأْمُرُ إلَّا بِعَدْلِ { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَهَادَةَ جِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ شَهَادَةُ الْقُرْآنِ وَشَهَادَةُ الْقُرْآنِ هِيَ شَهَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُرْآنُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهَذَا الشَّاهِدُ يُوَافِقُ وَيَتَّبِعُ ذَلِكَ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ؛ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ وَالْبَصِيرَةَ وَالنُّورَ وَالْهُدَى الَّذِي عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ قَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ . { وَيَتْلُوهُ } مَعْنَاهُ يَتَّبِعُهُ كَمَا قَالَ : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ } أَيْ يَتَّبِعُونَهُ حَقَّ اتِّبَاعِهِ وَقَالَ : { وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا } أَيْ تَبِعَهَا وَهَذَا قَفَاهُ إذَا تَبِعَهُ . وَقَدْ قَالَ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } فَهَذَا الشَّاهِدُ يَتْبَعُ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَيُصَدِّقُهُ وَيُزَكِّيهِ وَيُؤَيِّدُهُ وَيُثْبِتُهُ كَمَا قَالَ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَالَ : { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } وَقَالَ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْقُرْآنَ سُلْطَانًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَإِذَا كَانَ السُّلْطَانُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ يَتْبَعُ هَذَا الْمُؤْمِنَ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ قُوَّتَهُ وَتَسَلُّطَهُ عِلْمًا وَعَمَلًا وَقَالَ : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ }
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا } الْآيَةُ . وَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : تَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا إيمَانًا فَهُمْ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْإِيمَانَ ثُمَّ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِ : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قَالَ : نُورُ الْقُرْآنِ عَلَى نُورِ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ : { وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَقَالَ السدي فِي قَوْلِهِ : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } نُورُ الْقُرْآنِ وَنُورُ الْإِيمَانِ حِينَ اجْتَمَعَا فَلَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِصَاحِبِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } يَعْنِي هُدَى الْإِيمَانِ { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } أَيْ مِنْ اللَّهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ يُوَافِقُ الْإِيمَانَ وَيَتْبَعُهُ وَقَالَ : { يَتْلُوهُ } لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرَادُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ الْإِيمَانُ وَزِيَادَتُهُ . وَلِهَذَا كَانَ الْإِيمَانُ بِدُونِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَالْقُرْآنُ بِلَا إيمَانٍ لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ ؛ بَلْ صَاحِبُهُ مُنَافِقٌ ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ
وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا } " . وَلِهَذَا جَعَلَ الْإِيمَانَ " بَيِّنَةً " وَجَعَلَ الْقُرْآنَ شَاهِدًا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْبَيَانِ و " الْبَيِّنَةُ " هِيَ السَّبِيلُ الْبَيِّنَةُ وَهِيَ الطَّرِيقُ الْبَيِّنَةُ الْوَاضِحَةُ وَهِيَ أَيْضًا مَا يُبِينُ بِهَا الْحَقُّ فَهِيَ بَيِّنَةٌ فِي نَفْسِهَا مُبَيِّنَةٌ لِغَيْرِهَا وَقَدْ تُفَسَّرُ بِالْبَيَانِ وَهِيَ الدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ ؛ فَتَكُونُ كَالْهُدَى كَمَا يُقَالُ : فُلَانٌ عَلَى هُدًى وَعَلَى عِلْمٍ ؛ فَيُفَسَّرُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَالصِّفَةِ وَالْفَاعِلِ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } أَيْ بَيَانُ مَا فِيهَا أَوْ يُبَيِّنُ مَا فِيهَا أَوْ الْأَمْرُ الْبَيِّنُ فِيهَا وَقَدْ سَمَّى الرَّسُولَ بَيِّنَةً كَمَا قَالَ : { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } { رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ } فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَالْمُؤْمِنُ عَلَى سَبِيلٍ بَيِّنَةٍ وَنُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَالشَّاهِدُ الْمَقْصُودُ بِهِ شَهَادَتُهُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ وَجُعِلَ الْإِيمَانُ مِنْ اللَّهِ كَمَا جُعِلَ الشَّاهِدُ مِنْ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْإِيمَانَ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْإِيمَانَ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ } " . وَأَيْضًا : فَالْإِيمَانُ مَا قَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . وَأَيْضًا فَالْإِيمَانُ إنَّمَا هُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ وَهَذَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ لَكِنَّ الرَّسُولَ لَهُ وَحْيَانِ وَحْيٌ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ يُتْلَى وَوَحْيٌ لَا يُتْلَى فَقَالَ :
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا } الْآيَةُ . وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ . وَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : { جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } يَعُودُ إلَى الْإِيمَانِ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقِيلَ : إلَى الْقُرْآنِ . وَهُوَ قَوْلُ السدي وَهُوَ يَتَنَاوَلُهُمَا وَهُوَ فِي اللَّفْظِ يَعُودُ إلَى الرُّوحِ الَّذِي أَوْحَاهُ وَهُوَ الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَ بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ كِلَاهُمَا مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَهُدًى وَمِنْهُ هَذَا يُعْقَلُ بِالْقَلْبِ ؛ لِمَا قَدْ يُشَاهَدُ مِنْ دَلَائِلِ الْإِيمَانِ مِثْلَ دَلَائِلِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَهَذَا يَسْمَعُ بِالْآذَانِ وَالْإِيمَانِ الَّذِي جُعِلَ لِلْمُؤْمِنِ هُوَ مِثْلُ مَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ فَهَذِهِ الْآيَاتُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِثْلُ مَا فَعَلَ مِنْ نَصْرِ رَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرَ يَوْمِ بَدْرٍ فَإِنَّهُ آيَاتٌ مُشَاهَدَةٌ صَدَّقَتْ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْقُرْآنُ وَلَكِنْ الْمُؤْمِنُونَ كَانُوا قَدْ آمَنُوا قَبْلَ هَذَا . وَقِيلَ : نُزُولُ أَكْثَرِ الْقُرْآنِ الَّذِي ثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ لِنَبِيِّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } فَهُوَ يَشْهَدُ لِرَسُولِهِ بِأَنَّهُ صَادِقٌ بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَتِلْكَ آمَنَ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ شَاهِدًا لَهُ ثُمَّ أَظْهَرَ آيَاتٍ مُعَايَنَةٍ تُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ .
فَالْقُرْآنُ وَافَقَ الْإِيمَانَ وَالْآيَاتُ الْمُسْتَقْبَلَةُ وَافَقَتْ الْقُرْآنَ وَالْإِيمَانَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً } فَقَوْلُهُ : { وَمِنْ قَبْلِهِ } يَعُودُ الضَّمِيرُ إلَى الشَّاهِدِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إمَامًا وَرَحْمَةً } الْآيَةُ . فَقَوْلُهُ { وَمِنْ قَبْلِهِ } الضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ أَيْ : مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ . وَقِيلَ : يَعُودُ إلَى الرَّسُولِ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ . وَقَوْلُهُ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } فِيهِ وَجْهَانِ قِيلَ : هُوَ عَطْفُ مُفْرَدٍ وَقِيلَ : عَطْفُ جُمْلَةٍ . قِيلَ الْمَعْنَى { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وَيَتْلُوهُ أَيْضًا مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى فَإِنَّهُ شَاهِدٌ بِمِثْلِ مَا شَهِدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَقِيلَ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } جُمْلَةً ؛ وَلَكِنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ فِيهَا تَصْدِيقُ الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ فِي الْأَحْقَافِ . وقَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } تَتَنَاوَلُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ آمَنُوا بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ كَمَا تَتَنَاوَلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُولَئِكَ يَعُودُ إلَيْهِمْ الضَّمِيرُ فَإِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِهِ بِالشَّاهِدِ مِنْ اللَّهِ فَالْإِيمَانُ بِهِ إيمَانٌ بِالرَّسُولِ وَالْكِتَابِ الَّذِي قَبْلَهُ .
ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : مَا بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهٍ إلَّا وَجَدْت تَصْدِيقَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ حَتَّى بَلَغَنِي أَنَّهُ قَالَ : " { لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنْ بِمَا أُرْسِلْت بِهِ إلَّا دَخَلَ النَّارَ } " قَالَ سَعِيدٌ : فَقُلْت أَيْنَ هَذَا فِي كِتَابِ اللَّهِ حَتَّى أَتَيْت عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } قَالَ الْأَحْزَابُ هِيَ الْمِلَلُ كُلُّهَا . وقَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أَيْ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ يُؤْمِنُ بِالشَّاهِدِ مِنْ اللَّهِ وَالْإِيمَانُ بِهِ إيمَانٌ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى قَالَ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } وَهُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وَالْأَحْزَابُ هُمْ أَصْنَافُ الْأُمَمِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا وَصَارُوا أَحْزَابًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ طَوَائِفَ الْأَحْزَابِ فِي مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنْ مُكَذِّبِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ } وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا
فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَقَالَ عَنْ أَحْزَابِ النَّصَارَى : { فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } الْآيَاتُ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ قَالَ : إنَّهُ مُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدٌ . فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِمْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْكِتَابَيْنِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ ( بِهِ مُفْرَدٌ وَلَوْ آمَنَ مُؤْمِنٌ بِكِتَابِ مُوسَى دُونَ الْإِنْجِيلِ بَعْدَ نُزُولِهِ وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْفَرَجِ وَلَمْ يُسَمِّ قَائِلَهُمَا والبغوي وَغَيْرُهُ لَمْ يَذْكُرُوا نِزَاعًا فِي أَنَّهُمْ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدِ وَلَكِنْ ذَكَرُوا قَوْلًا إنَّهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا قَرِيبٌ . وَلَعَلَّ الَّذِي حَكَى قَوْلَهُمْ أَبُو الْفَرَجِ أَرَادُوا هَذَا وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ . وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا الْفَرَجِ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي الْأَحْزَابِ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمِلَلِ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
و " الثَّانِي " الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَهُ قتادة . و " الثَّالِثُ " قُرَيْشٌ قَالَهُ السدي . و " الرَّابِعُ " بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ . قَالَ - أَيْ - أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ } وَكَذَلِكَ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } إنَّهُ الْقُرْآنُ وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } وَهَذَا هُوَ الْقُرْآنُ بِلَا رَيْبٍ وَقَدْ قِيلَ : هُوَ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ أَنَّهُ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنْ الْأَحْزَابِ وَهَذَا أَيْضًا هُوَ الْقُرْآنُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ وَالْكَفْرُ بِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَأَنَّهُ مَنْ قَالَ فِي أُولَئِكَ إنَّهُمْ غَيْرُ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مَا قَالَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } وَجْهَانِ . هَلْ هُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ أَوْ مُفْرَدٍ ؛ لَكِنْ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مُفْرَدٌ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ الْمَعْنَى : وَكَانَ مِنْ قَبْلِ هَذَا كِتَابُ مُوسَى . دَلِيلٌ عَلَى أَمْرِ مُحَمَّدٍ فَيَتْلُونَ كِتَابَ مُوسَى عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } أَيْ وَيَتْلُو كِتَابَ مُوسَى ؛ لِأَنَّ مُوسَى وَعِيسَى بَشَّرَا بِمُحَمَّدِ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَنُصِبَ إمَامًا عَلَى الْحَالِ .
قُلْت : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّاهِدَ يَتْلُو عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَيْ يَتْبَعُهُ شَاهِدًا لَهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَيِّنَةِ .
وَقَوْلُهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } كَمَنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ الزَّجَّاجُ : وَتَرَكَ الْمُعَادَلَةَ ؛ لِأَنَّ فِيمَا بَعْدَهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : لَمَّا ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْمًا رَكَنُوا إلَى الدُّنْيَا وَأَرَادُوهَا جَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : أَفَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ كَمَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا ؟ فَاكْتَفَى مِنْ الْجَوَابِ بِمَا تَقَدَّمَ إذْ كَانَ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : إنَّمَا حُذِفَ لِانْكِشَافِ الْمَعْنَى وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . قُلْت : نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الْمَحْذُوفِ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } كَمَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ } وَهَذَا هُوَ الْقِسْمُ الْآخَرُ الْمُعَادِلُ لِهَذَا الَّذِي هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهَا { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } وَيَكُونُ أَيْضًا مَعْنَاهَا : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } أَيْ بَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ كَمَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } الْآيَةُ . وَكَقَوْلِهِ { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } وَقَوْلِهِ : { أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي } الْآيَةُ . وَالْمَحْذُوفُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّظْمِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { أَوَمَنْ
يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } أَيْ تَجْعَلُونَ لَهُ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَحْذُوفُ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ : أَفَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ يُذَمُّ أَوْ يُطْعَنُ عَلَيْهِ أَوْ يُعْرَضُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ أَوْ يُفْتَنُ أَوْ يُعَذَّبُ كَمَا قَالَ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } . وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إنَّ الْمَحْذُوفَ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } فَرَأَى الْبَاطِلَ حَقًّا ؟ وَالْقَبِيحَ حَسَنًا كَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَرَأَى الْحَقَّ حَقًّا وَالْبَاطِلَ بَاطِلًا وَالْقَبِيحَ قَبِيحًا وَالْحَسَنَ حَسَنًا ؟ وَقِيلَ : جَوَابُهُ تَحْتَ قَوْلِهِ : { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : الِاسْتِفْهَامُ مَا مَعْنَاهُ إلَّا أَنْ تَقْدِرَ . أَيْ : هَذَا تَقْدِرُ أَنْ تَهْدِيَهُ أَوْ رَبُّك ؟ أَوْ تَقْدِرُ أَنْ تَجْزِيَهُ كَمَا قَالَ : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } وَلِهَذَا قَالَ : { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } وَكَمَا قَالَ : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } الْآيَةُ . وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَاهَا كَمَعْنَى قَوْلِهِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } . وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى هُنَا : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } يُذَمُّ وَيُخَالَفُ وَيُكَذَّبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ } وَحَذَفَ جَوَابَ
الشَّرْطِ وَكَقَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } { أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } { أَرَأَيْتَ إنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ أَشْرَفِ الْمَعَانِي وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ وَأَنَّ الْآيَةَ ذَكَرَتْ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْقُرْآنُ فَصَارَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَبُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالسَّمْعِيَّةُ كَمَا قَالَ : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } فَالنُّورُ الْمُبِينُ الْمُنَزَّلُ يَتَنَاوَلُ الْقُرْآنَ . قَالَ قتادة : بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ : هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ البغوي : هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ وَلَمْ أَجِدْهُ مَنْقُولًا عَنْ غَيْرِ الثَّانِي وَلَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنْ غَيْرِهِ . وَذَكَرَ فِي الْبُرْهَانِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ الْحُجَّةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ الرَّسُولُ وَذَكَرَ أَنَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ قتادة . وَاَلَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قتادة بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ أَنَّهُ بَيِّنَةٌ مِنْ اللَّهِ وَالْبَيِّنَةُ وَالْحُجَّةُ تَتَنَاوَلُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بُعِثُوا بِهَا فَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بُرْهَانٌ . قَالَ تَعَالَى : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } وَقَالَ لِمَنْ قَالَ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ : هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ . وَمُحَمَّدٌ هُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَدْ أَقَامَ اللَّهُ عَلَى صِدْقِهِ بَرَاهِينَ كَثِيرَةً
وَصَارَ مُحَمَّدٌ نَفْسَهُ بُرْهَانًا فَأَقَامَ مِنْ الْبَرَاهِينِ عَلَى صِدْقِهِ ؛ فَدَلِيلُ الدَّلِيلِ دَلِيلٌ وَبُرْهَانُ الْبُرْهَانِ بُرْهَانٌ وَكُلُّ آيَةٍ لَهُ بُرْهَانٌ وَالْبُرْهَانُ اسْمُ جِنْسٍ لَا يُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَلَوْ جَاءُوا بَعْدَهُ بِبَرَاهِينَ كَانُوا مُمْتَثِلِينَ . و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ ذَلِكَ الْبُرْهَانَ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَى صِدْقِهِ وَهُوَ بَيِّنَةٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ قتادة وَحُجَّةٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ والسدي : الْمُؤْمِنُ عَلَى تِلْكَ الْبَيِّنَةِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ النُّورُ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَعَ الْبُرْهَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } إنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فَقَدْ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ التَّمْثِيلَ لَا التَّخْصِيصَ فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ كَثِيرًا مَا يُرِيدُونَ ذَلِكَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ أَوَّلُ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَتَلَاهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَهُوَ أَفْضَلُهُمْ وَإِمَامُهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ تَبَعٌ لَهُ وَبِهِ صَارُوا عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ . وَالْخِطَابُ قَدْ يَكُونُ لَفْظُهُ لَهُ وَمَعْنَاهُ عَامٌّ كَقَوْلِهِ : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنْزَلْنَا إلَيْكَ } { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } وَنَحْوُ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ وَأُبِيحَ لَهُ سَارَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ كَمُشَارَكَةِ أُمَّتِهِ لَهُ فِي الْأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ فَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَحْكَامِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ إذَا لَمْ يُخَصِّصْ هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ وَدَلَائِلُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } الْآيَةُ وَلَمَّا أَبَاحَ لَهُ الْمَوْهُوبَةَ قَالَ : { خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِ الصِّيغَةِ خَاصَّةً فَكَيْفَ تُجْعَلُ الصِّيغَةُ الْعَامَّةُ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخْتَصَّةً بِهِ ؟ وَلَفْظُ " مَنْ " أَبْلَغُ صِيَغِ الْعُمُومِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا أَوْ اسْتِفْهَامًا كَقَوْلِهِ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَقَوْلِهِ : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا } وَقَوْلِهِ : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } وَقَوْلِهِ { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } . و " أَيْضًا " : فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلَهُ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ } وَقَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا ذِكْرُ الْفَرِيقَيْنِ وَقَوْلُهُ : { أُولَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ } إشَارَةٌ إلَى جَمَاعَةٍ وَلَمْ يُقَدِّمْ قَبْلَ هَذَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ إلَّا ( مَنْ ) وَالضَّمِيرُ يَعُودُ تَارَةً إلَى لَفْظِ ( مَنْ ) وَتَارَةً إلَى مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ } { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } الْآيَةُ . وَأَمَّا الْإِشَارَةُ إلَى مَعْنَاهَا فَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ الضَّمِيرِ . فَقَوْلُهُ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَثِيرُونَ لَا وَاحِدٌ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : ثَنَا عَامِرُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } . قَالَ : الْمُؤْمِنُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ هُوَ الصَّوَابُ وَالرَّسُولُ هُوَ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الشَّاهِدَ مِنْ اللَّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ثَنَا الْأَشَجُّ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عَوْفٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الْفُلَانِيِّ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } يَعْنِي مُحَمَّدًا شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ فَهُنَا مَعْنَى كَوْنِهِ شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَإِنْ كَانَ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَشَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ مَعْلُومَةٌ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهَا بِالْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَأَمَّا شَهَادَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ جِهَتِهِ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَيُخْبِرُ بِهِ عَنْ
رَبِّهِ فَهُوَ إذَا شَهِدَ كَانَ شَاهِدًا مِنْ اللَّهِ .
وَأَمَّا شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } لَكِنْ مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ يُرِيدُ بِالْبَيِّنَةِ الْقُرْآنَ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ مُتَّبِعٌ لِلْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٌ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ يَتْلُوهُ كَمَا تَلَاهُ جِبْرِيلُ . وَمَنْ قَالَ إنَّ الشَّاهِدَ لِسَانُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ إنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ التِّلَاوَةَ أَيْ : أَنَّ لِسَانَ مُحَمَّدٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ شَاهِدٌ مِنْهُ أَيْ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ لِسَانَهُ جُزْءٌ مِنْهُ وَهَذَا الْقَوْلُ وَنَحْوُهُ ضَعِيفٌ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . هَذَا إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَمَّنْ نُقِلَ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا وَضِدَّهُ يُنْقَلَانِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . وَذَلِكَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ جُهَّالِ الشِّيعَةِ ظَنُّوا أَنَّ عَلِيًّا هُوَ الشَّاهِدُ مِنْهُ أَيْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ لَهُ : " { أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك } " . وَهَذَا قَالَهُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ " { الْأَشْعَرِيُّونَ هُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ } " . وَقَالَ عَنْ جليبيب : " { هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ } "
وَكُلُّ مُؤْمِنٍ هُوَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } وَقَالَ : { وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } وَرَوَوْا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ نَفْسِهِ وَرُوِيَ عَنْهُ بِإِسْنَادِ أَجْوَدَ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَبَ مَنْ قَالَ هَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : ذَكَرَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ الطَّحَّانِ ثَنَا إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الْمِنْهَالِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : مَا مِنْ قُرَيْشٍ أَحَدٌ إلَّا نَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ قِيلَ فَمَا أُنْزِلَ فِيك ؟ قَالَ : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى عَلِيٍّ قَطْعًا . وَإِنْ ثَبَتَ النَّقْلُ عَنْ عَبَّادٍ هَذَا فَإِنَّ لَهُ مُنْكَرَاتٍ عَنْهُ كَقَوْلِهِ : أَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ أَسْلَمْت قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ . وَقَدْ رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ مَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ؛ ثَنَا أَبِي ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْبَاهِلِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَوَاصٍ ثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة عَنْ عُرْوَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ - يَعْنِي ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ - قَالَ : قُلْت لِأَبِي : يَا أبة { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ : إنَّك أَنْتَ هُوَ قَالَ : وَدِدْت لَوْ أَنِّي أَنَا هُوَ . وَلَكِنَّهُ لِسَانُهُ ؟ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وقتادة نَحْوُ ذَلِكَ . قُلْت : وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ الْحُسَيْنِ ابْنِهِ أَنَّ " الشَّاهِدَ مِنْهُ " هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْبَيْتِ فِي أَنَّهُ مُحَمَّدٌ رَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ الْجَهَلَةِ : إنَّهُ عَلِيٌّ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَعَلِيٌّ كَانَ
إذْ ذَاكَ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ . وَكَانَ مِمَّنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ وَلَوْ كَانَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ لَيْسَ ابْنَ عَمِّهِ لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُ تَنْفَعُ . لَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا عِنْدَ الْكُفَّارِ ؛ بَلْ مِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِيهَا تُهْمَةُ الْقَرَابَةِ . وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ وَشَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا تُقْبَلُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مِثْلُ هَذَا حُجَّةً لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَكِّدًا لَهَا ؟ وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } إنَّهُ عَلِيٌّ وَهُمْ مَعَ كَذِبِهِمْ هُمْ أَجْهَلُ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ نَسَبُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ إلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَا يَحْتَجُّ بِهِ إلَّا جَاهِلٌ فَأَرَادُوا تَعْظِيمَ عَلِيٍّ فَنَسَبُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ إلَى الْجَهْلِ وَعَلِيٌّ إنَّمَا فَضِيلَتُهُ بِاتِّبَاعِهِ لِلرَّسُولِ فَإِذَا قُدِحَ فِي الْأَصْلِ بَطَلَ الْفَرْعُ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ : إنَّ " الشَّاهِدَ " جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ رَوَى ذَلِكَ عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي صَالِحٍ وَمُجَاهِدٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْهُ وَإِبْرَاهِيمُ وَعِكْرِمَةُ وَالضِّحَاكُ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا { وَيَتْلُوهُ } بِمَعْنَى يَقْرَؤُهُ أَيْ : وَيَتْلُو الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ الْبَيِّنَةُ : شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ هُوَ وَقِيلَ : بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : إنَّ الْقُرْآنَ يَتْلُوهُ جِبْرِيلُ هُوَ شَاهِدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ الَّذِي يَتْلُوهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ضِعْفِ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ فَسَّرَ يَتْلُوهُ
بِمَعْنَى يَقْرَؤُهُ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِيهِ عَائِدًا إلَى الْقُرْآنِ وَجَعَلَ الشَّاهِدَ غَيْرَ الْقُرْآنِ . وَالْقُرْآنُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ إنَّمَا قَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } وَالْبَيِّنَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرُهَا بِحِفْظِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظُوا الْقُرْآنَ ؛ بِخِلَافِ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا حَقًّا بَلْ مِنْ الْقَائِلِينَ - لِمُنْكَرِ وَنَكِيرٍ - آهْ آهْ لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته . وَالْقُرْآنُ إنَّمَا مَدَحَ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فَهُوَ عَلَى هُدًى وَنُورٍ وَبَصِيرَةٍ سَوَاءٌ حَفِظَ الْقُرْآنَ أَوْ لَمْ يَحْفَظْهُ وَإِنْ أُرِيدَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْإِيمَانُ وَأَكْثَرُ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ حِينَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ إنَّمَا يُخْتَصُّ بِهِ جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ فَهُوَ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ عَنْ اللَّهِ وَصِدْقُهُمَا فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا كَوْنُ رِسَالَةِ اللَّهِ حَقًّا فَهَذَا هُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِنْ كُلِّ رَسُولٍ وَهُمَا لَا يُخْتَصَّانِ بِذَلِكَ بَلْ يُؤْمِنَانِ بِهِ كَمَا يُؤْمِنُ بِذَلِكَ كُلُّ مَلَكٍ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ وَشَهَادَتُهُمَا بِأَنَّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى حَقٍّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الثَّانِي الْمُشْتَرَكِ وَلَوْ قَالَ : وَيُبَلِّغُهُ وَيَنْزِلُ بِهِ رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ لَكَانَ مَا قَالُوهُ مُتَوَجِّهًا كَمَا قَالَ :
{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } أَمَّا كَوْنُهُ شَاهِدًا يَقْرَؤُهُ فَهَذَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ . و " أَيْضًا " فَالشَّاهِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ اللَّهِ هُوَ الْكَلَامُ فَإِنَّ الْكَلَامَ نَزَلَ مِنْهُ كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ وَيُقَالُ فِي الرَّسُولِ إنَّهُ مِنْهُ كَمَا قَالَ رَسُولٌ مِنْ اللَّهِ وَيُقَالُ فِي الشَّخْصِ الشَّاهِدِ فَيُقَالُ فِيهِ هُوَ مِنْ شُهَدَاءِ اللَّهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ يُقَالُ فِيهِ شَاهِدٌ مِنْ اللَّهِ أَنَّهَا بُرْهَانٌ مِنْ اللَّهِ وَآيَاتٌ مِنْ اللَّهِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ تَصْدِيقًا لِرَسُولِهِ : فَهَذَا يَحْتَاجُ اسْتِعْمَالُهُ إلَى شَاهِدٍ . وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهَا تُفَسَّرُ بِلُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ فِيهِ إذَا وُجِدَتْ لَا يُعْدَلُ عَنْ لُغَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ مَعَ وُجُودِهَا وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى غَيْرِ لُغَتِهِ فِي لَفْظٍ لَمْ يُوجَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { وَيْكَأَنَّ اللَّهَ } { وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ } { وَكَأْسًا دِهَاقًا } { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } و { قِسْمَةٌ ضِيزَى } وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ فِي الْقُرْآنِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذِهِ الْأَقْوَالَ : إنَّمَا أَتَوْا مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ : { وَيَتْلُوهُ } فَظَنُّوا أَنَّ تِلَاوَتَهُ هِيَ قِرَاءَتُهُ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْقُرْآنِ ذِكْرٌ . ثُمَّ جَعَلَ هَذَا يَقُولُ جِبْرِيلُ تَلَاهُ وَهَذَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ وَهَذَا يَقُولُ لِسَانُهُ . وَالتِّلَاوَةُ قَدْ وُجِدَتْ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةُ الْمَشْهُورَةُ بِمَعْنَى الِاتِّبَاعِ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لَا يَذْكُرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْقَوْلَ الصَّحِيحَ فَيَبْقَى النَّاظِرُ الْفَطِنُ حَائِرًا
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الَّذِي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إلَّا أَنَّهُ الرَّسُولُ وَيَذْكُرُ فِي الشَّاهِدِ عِدَّةَ أَقْوَالٍ . ثُمَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ يَقُولُ : { أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ } أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ عَلَى مَا فَسَّرَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ فَكَيْفَ يُشَارُ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : { يُؤْمِنُونَ بِهِ } وَأَبُو الْفَرَجِ ذَكَرَ قَوْلًا أَنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ وَلَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ قَالَ : وَهَذَا يُخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ الضِّحَاكِ فِي الْبَيِّنَةِ أَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ . وَقَدْ ذُكِرَ فِي " الْبَيِّنَةِ " أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : أَنَّهَا الدِّينُ ذَكَرَهُ أَبُو صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَأَنَّهَا الْقُرْآنُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَأَنَّهَا الْبَيَانُ . قَالَهُ مُقَاتِلٌ . ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قُلْنَا : الْمُرَادُ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الْمُسْلِمُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ وَهُوَ الْبَيِّنَةُ وَيَتَّبِعُ هَذَا النَّبِيَّ شَاهِدٌ مِنْهُ يُصَدِّقُهُ وَالْمُسْلِمُونَ إذَا كَانُوا عَلَى بَيِّنَةٍ فَهِيَ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ لَيْسَتْ الْبَيِّنَةُ ذَاتَ الرَّسُولِ وَالرَّسُولُ لَيْسَ هُوَ مَذْكُورًا فِي كَلَامِهِ فَقَوْلُهُ : { وَيَتْلُوهُ } لَا بُدَّ أَنْ يَعُودَ إلَى { مِنْهُ } (1) لَكِنْ إعَادَتُهُ إلَى الْبَيِّنَةِ أَوْلَى .
وَفَسَّرَ الْبَيِّنَةَ بِالرَّسُولِ وَجَعَلَ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ لَهُ بِصِدْقِهِ . ثُمَّ الشَّاهِدُ جِبْرِيلُ أَوْ غَيْرُهُ فَلَوْ قَالَ : الشَّاهِدُ هُوَ الْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَتَّبِعُهُمْ كَمَا يَتَّبِعُونَهُ كَانَ قَدْ ذَكَرَ الصَّوَابَ . وَهُوَ قَدْ ذَكَرَ أَقْوَالًا كَثِيرَةً لَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرُهُ وَذَكَرَ فِي يَتْلُوهُ قَوْلَيْنِ " أَحَدُهُمَا " يَتَّبِعُهُ . و " الثَّانِي " يَقْرَؤُهُ وَهُمَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ . وَذَكَرَ فِي " هـ " يَتْلُوهُ قَوْلَيْنِ : أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى النَّبِيِّ . و " الثَّانِي " أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى الْقُرْآنِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّهَا تَرْجِعُ إلَى " مِنْ " أَوْ تَرْجِعُ إلَى الْبَيِّنَةِ وَالْبَيِّنَةُ يُرَادُ بِهَا الْقُرْآنُ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ الشَّاهِدَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِذَا رَجَعَ الضَّمِيرُ إلَى " مِنْ " فَإِنْ جُعِلَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُ فَسَادِهِ - عَادَ الضَّمِيرُ إلَى الْبَيِّنَةِ - وَإِنْ كَانَ " مِنْ " تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَرَسُولُ اللَّهِ أَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ تَنَاوَلَ الْجَمِيعَ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنْ اللَّهِ وَهَذَا يَخْتَصُّ بِهِ وَتَصْدِيقُ هَذِهِ الرِّسَالَةِ وَالْإِيمَانُ بِهَا وَاجِبٌ عَلَى الثِّقْلَيْنِ وَالرَّسُولُ هُوَ أَوَّلُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ الَّتِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ
بِهَا وَلِهَذَا قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ : { قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ . فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ . " أَحَدُهُمَا " إثْبَاتُ نُبُوَّتِهِ وَصِدْقِهِ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِهِ . و " الثَّانِي " تَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَقٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِيمَنْ يُرْسِلُهُ الْمَخْلُوقُ مَنْ يُصَدَّقُ فِي رِسَالَتِهِ ؛ لَكِنَّهُ لَا يَتَّبِعُهَا ؛ إمَّا لِطَعْنِهِ فِي الْمُرْسِلِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ يَعْصِيهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُرْسِلَ بِحَقِّ فَالْمُلُوكُ كَثِيرًا مَا يُرْسِلُونَ رَسُولًا بِكُتُبِ وَغَيْرِهَا يُبَلِّغُ الرُّسُلُ رِسَالَتَهُمْ فَيُصَدَّقُونَ بِهَا . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الرَّسُولُ أَكْثَرَ مُخَالَفَةً لِمُرْسِلِهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَلِهَذَا ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ رَسُولًا لِلَّهِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْمَدْحَ . ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَذَا قَدْ يُقَالُ فِيمَنْ قَبِلَ الرِّسَالَةَ وَبَلَّغَهَا وَفِيمَنْ لَمْ يَقْبَلْ لَكِنَّ هَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرْسِلُ رَسُولًا إلَّا وَقَدْ اصْطَفَاهُ فَيُبَلِّغُ رِسَالَاتِ رَبِّهِ . وَرُسُلُ اللَّهِ
هُمْ أَطْوَعُ الْخَلْقِ لِلَّهِ وَأَعْظَمُ إيمَانًا بِمَا بُعِثُوا بِهِ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّهُ يُرْسِلُ مَنْ يَكْذِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ يَعْصِيهِ وَمَنْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَ طَاعَتِهِ وَالْخَالِقُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا يُجَوِّزُونَ عَلَى الرَّبِّ أَنْ يُرْسِلَ كُلَّ أَحَدٍ بِكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ عِنْدَهُمْ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُنَزِّهُونَ الرُّسُلَ عَمَّا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَنْزِيهِهِمْ عَنْهُ عِنْدَهُمْ مِمَّا ثَبَتَ بِالسَّمْعِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رَسُولًا كَمَا قَدْ بَسَطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ خَطَأٌ . وَلَمَّا كَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَمْرَانِ . فِي " الْأَوَّلِ " يُقَالُ : آمَنْت لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } وَقَوْلُهُ : { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا } . وَفِي " الثَّانِي " يُقَالُ : آمَنْت بِاَللَّهِ فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ لَهُ وَنُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَيْنِ . فَذَكَرَ " أَوَّلًا " مَا يُثْبِتُ نُبُوَّتَهُ وَصِدْقَهُ بِقَوْلِهِ : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَمَّا كَانَ الَّذِي يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنْ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ شَيْئَانِ : إمَّا الْجَهْلُ وَإِمَّا فَسَادُ الْقَصْدِ ذَكَرَ مَا يُزِيلُ الْجَهْلَ وَهُوَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَهْلَ فَسَادِ الْقَصْدِ بِقَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ فَسَادِ الْقَصْدِ . فَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا الْمَانِعَانِ لِلْخَلْقِ مِنْ اتِّبَاعِ هَذَا الرَّسُولِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْبَقَرَةِ ذَكَرَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَحُسْنَ الْقَصْدِ فَقَالَ : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . ثُمَّ قَالَ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } . فَلَمَّا أَثْبَتَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ : أَخَذَ بَعْدَ هَذَا فِي بَيَانِ الْإِيمَانِ بِهِ وَحَالِ مَنْ آمَنَ وَمَنْ كَفَرَ فَقَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } الْآيَةُ . ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بِادِّعَاءِ الرِّسَالَةِ كَاذِبًا وَيَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا صَادِقًا فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ هَذَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَذَا فَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا إنَّمَا يَقَعُ مِمَّنْ فَسَدَ
قَصْدُهُ بِحُبِّ الدُّنْيَا وَإِرَادَتِهَا وَمِمَّنْ أَحَبَّ الرِّئَاسَةَ وَأَرَادَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُلْقِيَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَقُولُ فَعَلْت يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا وَيَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ : نَعَمْ . فَيَقُولُ : إنِّي قَدْ سَتَرْتهَا عَلَيْك فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَك الْيَوْمَ ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ بِيَمِينِهِ } " . وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ : ف { وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ ذَكَرَ مَثَلَ الْفَرِيقَيْنِ فَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ وَتَدَبَّرَ مَا قَبْلَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَعَرَفَ مَقْصُودَ الْقُرْآنِ : تَبَيَّنَ لَهُ الْمُرَادُ وَعَرَفَ الْهُدَى وَالرِّسَالَةَ وَعَرَفَ السَّدَادَ مِنْ الِانْحِرَافِ وَالِاعْوِجَاجِ . وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِمُجَرَّدِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ الْمُجَرَّدُ عَنْ سَائِرِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ فَهَذَا مَنْشَأُ الْغَلَطِ مِنْ الغالطين ؛ لَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِيهِ بِالِاحْتِمَالَاتِ اللُّغَوِيَّةِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ غَلَطًا مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْمَشْهُورِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ مَعْرِفَةَ مَعْنَاهُ كَمَا يَقْصِدُ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ . وَأَعْظَمُ غَلَطًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مَنْ لَا يَكُونُ قَصْدُهُ مَعْرِفَةَ مُرَادِ اللَّهِ ؛
بَلْ قَصْدُهُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ بِمَا يَدْفَعُ خَصْمَهُ عَنْ الِاحْتِجَاجِ بِهَا وَهَؤُلَاءِ يَقَعُونَ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ التَّحْرِيفِ وَلِهَذَا جَوَّزَ مِنْ جَوَّزَ مِنْهُمْ أَنْ تَتَأَوَّلَ الْآيَةُ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ السَّلَفِ وَقَالُوا : إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ جَازَ لِمَنْ بَعْدِهِمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَحْكَامِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ فَإِنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ إمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا كَانَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ خِلَافًا لِإِجْمَاعِهِمْ ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ طَرِيقُ مَنْ يَقْصِدُ الدَّفْعَ لَا يَقْصِدُ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَضِلَّ الْأُمَّةُ عَنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ وَيَفْهَمُونَ مِنْهُ كُلُّهُمْ غَيْرَ الْمُرَادِ [ وَيَأْتِي ] (1) مُتَأَخِّرُونَ يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ فَهَذَا هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } وَقَوْلِهِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } وَقَوْلِهِ : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } وَقَوْلِهِ { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } .
فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ فَاجْتَمَعَ فِي هَذَا اللَّفْظِ حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ وَحَرْفُ ( مِنْ ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ حَرْفُ ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَيُقَالُ : هُوَ مِنْ اللَّهِ عَلَى نَوْعَيْنِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا وَلَا بِمَخْلُوقِ فَهَذَا يَكُونُ صِفَةً لَهُ وَمَا كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا أَوْ بِمَخْلُوقِ فَهِيَ مَخْلُوقَةٌ . " فَالْأَوَّلُ " كَقَوْلِهِ : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } وَقَوْلِهِ : { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } كَمَا قَالَ السَّلَفُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . " وَالنَّوْعُ الثَّانِي " كَقَوْلِهِ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } و { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } وَكَمَا يُقَالُ : إلْهَامُ الْخَيْرِ وَإِيحَاؤُهُ مِنْ اللَّهِ وَإِلْهَامُ الشَّرِّ وَإِيحَاؤُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالْوَسْوَسَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ . فَهَذَا نَوْعَانِ . تَارَةً يُضَافُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعَاقِبَةِ وَالْغَايَةِ . فَالْحَسَنَاتُ هِيَ النِّعَمُ وَالسَّيِّئَاتُ هِيَ الْمَصَائِبُ كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَكِنْ تِلْكَ الْحَسَنَاتُ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ فَهِيَ مِنْهُ إحْسَانًا وَتَفَضُّلًا وَهَذِهِ عُقُوبَةُ ذَنْبٍ مِنْ نَفْسِ الْعَبْدِ فَهِيَ مِنْ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَمَلَهُ السَّيِّئَ كَانَ
سَبَبَهَا وَهِيَ عُقُوبَةٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَرَادَتْ تِلْكَ الذُّنُوبَ وَوُسْوِسَت بِهَا . وَتَارَةً يُقَالُ بِاعْتِبَارِ حَسَنَاتِ الْعَمَلِ وَسَيِّئَاتِهِ وَمَا يُلْقَى فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ وَالْإِرَادَاتِ فَيُقَالُ لِلْحَقِّ : هُوَ مِنْ اللَّهِ أَلْهَمَهُ الْعَبْدَ وَيُقَالُ لِلْبَاطِلِ : إنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَسْوَسَ بِهِ وَمِنْ النَّفْسِ أَيْضًا لِأَنَّهَا أَرَادَتْهُ كَمَا قَالَ عُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا قَالُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ : إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنَّا وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَهَذَا لَفْظُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي حَدِيثِ بروع بِنْتِ وَاشِقٍ قَالَ : إنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمِ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ اللَّهِ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ فَهُوَ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْهَمَهُ عَبْدَهُ لَمْ يَحْصُلْ بِتَوَسُّطِ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَالشَّيْطَانُ وَسْوَسَ بِهِ وَالنَّفْسُ أَرَادَتْهُ وَوَسْوَسَتْ بِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَخْلُوقًا فِيهِ وَاَللَّهُ خَلَقَهُ فِيهِ ؛ لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا وَقَعَ لِي مِنْ إلْهَامِ الْمَلَكِ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ لِلْمَلَكِ بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمَّةً وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً ؛ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ " فَالتَّصْدِيقُ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ وَالْإِيعَادُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ . قَالَ تَعَالَى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً
مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } . فَهَذِهِ حَسَنَاتُ الْعَمَلِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ يَأْمُرُ بِهَا وَيُحِبُّهَا وَإِذَا كَانَتْ خَيْرًا فَهُوَ يُصَدِّقُهَا وَيُخْبِرُ بِهَا فَهِيَ مِنْ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَهِيَ أَيْضًا مِنْ إلْهَامِهِ لِعَبْدِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ لَمْ تَكُنْ بِوَاسِطَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ ؛ فَاخْتُصَّتْ بِإِضَافَتِهَا إلَى اللَّهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا مِنْ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَأَنَّ النَّازِلَ بِهَا إلَى الْعَبْدِ مَلَكٌ كَمَا اُخْتُصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّهُ مِنْهُ كَلَامٌ وَقُرْآنُ مُسَيْلِمَةَ بِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ مَا يُلْقِيهِ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِلْهَامَاتِ الصَّادِقَةِ الْعَادِلَةِ هِيَ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ وَكَذَلِكَ مَا يُرِيهِمْ إيَّاهُ فِي الْمَنَامِ قَالَ عبادة بْنُ الصَّامِتِ : رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي مَنَامِهِ وَقَالَ عُمَرُ : اقْتَرِبُوا مِنْ أَفْوَاهِ الْمُطِيعِينَ وَاسْمَعُوا مِنْهُمْ مَا يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ يَتَجَلَّى لَهُمْ أُمُورٌ صَادِقَةٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } { وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى } { وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا } وَقَالَ : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَلْهَمَ الْفَاجِرَةَ فُجُورَهَا وَالتَّقِيَّةَ تَقْوَاهَا فَالْإِلْهَامُ عِنْدَهُ هُوَ الْبَيَانُ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : كِلَا النَّوْعَيْنِ مِنْ اللَّهِ هَذَا الْهُدَى الْمُشْتَرَكُ
وَذَاكَ الْهُدَى الْمُخْتَصُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَمَّاهُ إلْهَامًا كَمَا سَمَّاهُ هُدًى كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } أَيْ بَيَّنَا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُوَ هُدَى الْبَيَانِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ . وَقِيلَ : هَدَيْنَا الْمُؤْمِنَ لِطَرِيقِ الْخَيْرِ وَالْكَافِرَ لِطَرِيقِ الشَّرِّ ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَدْ جَعَلَ الْفُجُورَ هُدًى كَمَا جَعَلَ أُولَئِكَ الْبَيَانَ إلْهَامًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } قِيلَ هُوَ الْهُدَى الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُ الطَّرِيقَ الَّتِي يَجِبُ سُلُوكُهَا وَالطَّرِيقَ الَّتِي لَا يَجِبُ سُلُوكُهَا . وَقِيلَ بَلْ هَدَى كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى مَا سَلَكَهُ مِنْ السَّبِيلِ { إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } . لَكِنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا هُدًى قَدْ يُعْتَذَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ هُدًى مُقَيَّدٌ لَا مُطْلَقٌ كَمَا قَالَ : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَكَمَا قَالَ : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } وَأَنَّهُ { يَقُولُ الْحَقَّ } و { يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } فَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ وَأَمْرِهِ لِعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ وَسَائِرَ كَلَامِهِ كَذَلِكَ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ جُنْدِهِ بِالْمَلَائِكَةِ . وَيُقَالُ لِضِدِّ هَذَا - وَهُوَ الْخَطَأُ - هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقُولُهُ وَلَا يَأْمُرُ بِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْكُتُهُ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ
الشَّيْطَانُ وَنَفْسُهُ تَقْبَلُهُ مِنْ الشَّيْطَانِ ؛ فَإِنَّهُ يُزَيِّنُ لَهَا الشَّيْءَ فَتُطِيعُهُ فِيهِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ الشَّيْطَانِ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ ؛ وَلَكِنْ يَفُوتُهُ بِهِ نَوْعٌ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَالنِّسْيَانِ فَإِنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالِاحْتِلَامُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنُّعَاسُ عِنْدَ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالصَّعْقُ عِنْدَ الذِّكْرِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَا إثْمَ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا غُلِبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِقَصْدِ مِنْهُ أَوْ بِذَنْبِ . فَقَوْلُهُ : { إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } وَشِبْهُهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ : مِنْ هَذَا الْبَابِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ } فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَصْدِيقِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ ابْتِدَاءً وَتَبْلِيغًا كَالْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ : " إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْأَمَانَةَ فِي جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ " فَهِيَ تَنْزِلُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نُورِهِ وَهُدَاهُ وَهَذِهِ حَسَنَاتٌ دِينِيَّةٌ وَعُلُومٌ دِينِيَّةٌ حَقُّ نَافِعَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ إفْضَالُ الْمُنْعِمِ ، وَهُوَ أَفْضَلُ النِّعَمِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } فَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ نِعَمُ الدُّنْيَا كُلُّهَا كَالْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ وَالنَّصْرِ وَتِلْكَ حَسَنَاتٌ يَبْتَلِي اللَّهُ الْعَبْدَ بِهَا . كَمَا يَبْتَلِيهِ بِالْمَصَائِبِ هَلْ شَكَرَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَصْبِرُ أَمْ لَا ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } وَقَالَ : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ } الْآيَاتُ .
وَقَدْ يُقَالُ فِي الشَّيْءِ إنَّهُ مِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا إذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِاَللَّهِ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ لِمُوسَى : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } وَقَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً وَإِخْرَاجِ الْيَدِ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ لَكِنَّهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ دَلَّ بِهِ وَأَرْشَدَ إلَى صَدْقِ نَبِيِّهِ مُوسَى وَهُوَ تَصْدِيقٌ مِنْهُ وَشَهَادَةٌ مِنْهُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ وَالصِّدْقِ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ اللَّهِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ اللَّهِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِمَّا تَفْعَلُهُ الشَّيَاطِينُ وَالْكُهَّانُ كَمَا يُقَالُ : هَذِهِ عَلَامَةٌ مِنْ فُلَانٍ وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ فُلَانٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَلَامًا مِنْهُ . وَقَدْ سَمَّى مُوسَى ذَلِكَ بَيِّنَةً مِنْ اللَّهِ فَقَالَ : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } فَقَوْلُهُ : بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ كَقَوْلِهِ : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } . وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ هُنَا حُجَّةٌ وَآيَةٌ وَدَلَالَةٌ مَخْلُوقَةٌ تَجْرِي مَجْرَى شَهَادَةِ اللَّهِ وَإِخْبَارُهُ بِكَلَامِهِ كَالْعَلَامَةِ الَّتِي يُرْسِلُ بِهَا الرَّجُلُ إلَى أَهْلِهِ وَكِيلَهُ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْآيَةِ : هِيَ كَالْخَاتَمِ تَبْعَثُ بِهِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صَدِّقُوهُ فِيمَا قَالَ أَوْ أَعْطُوهُ مَا طَلَبَ . فَالْقُرْآنُ وَالْهُدَى مِنْهُ وَهُوَ مِنْ كَلَامِهِ وَعِلْمِهِ وَحُكْمِهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذِهِ الْآيَاتُ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يُكْتَبُ كَلَامُهُ فِي
الْمَصَاحِفِ ؛ فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْمَكْتُوبُ بِهِ الْكَلَامُ يُعْرَفُ بِهِ الْكَلَامُ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . وَلِهَذَا يَكُونُ لِهَذِهِ الْآيَاتِ الْمُعْجِزَاتِ حُرْمَةٌ : كَالنَّاقَةِ وَكَالْمَاءِ النَّابِعِ بَيْنَ أَصَابِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
فِي قَوْله تَعَالَى { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا إلَى قَوْلِهِ : { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْفَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ وَالِاخْتِلَافِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ تَرْغِيبًا فِي السَّعَادَةِ وَتَرْهِيبًا مِنْ الشَّقَاوَةِ . وَقَدْ افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذَلِكَ فَقَالَ : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } فَذَكَرَ أَنَّهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ؛ نَذِيرٌ يُنْذِرُ بِالْعَذَابِ لِأَهْلِ النَّارِ وَبَشِيرٌ يُبَشِّرُ بِالسَّعَادَةِ لِأَهْلِ الْحَقِّ . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَقَالَ : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } { إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } . ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَحَالَ مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَمَنْ كَذَّبَهُمْ
كَيْفَ سَعِدَ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَشَقِيَ هَؤُلَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَذَكَرَ مَا جَرَى لَهُمْ إلَى قَوْلِهِ : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } . ثُمَّ ذَكَرَ حَالَ الَّذِينَ سُعِدُوا وَاَلَّذِينَ شُقُوا . ثُمَّ قَالَ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ } فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ : غَايَةُ مَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مَاتُوا وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَمُوتُونَ وَأَمَّا كَوْنُهُمْ أُهْلِكُوا كُلُّهُمْ وَصَارَتْ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً وَصَارُوا عِبْرَةً يُذْكَرُونَ بِالشَّرِّ وَيُلْعَنُونَ إنَّمَا يَخَافُ ذَلِكَ مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ فَإِنَّ لَعْنَةَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ بِالْآخِرَةِ وَبُغْضَهُمْ لَهُمْ كَمَا جَرَى لِآلِ فِرْعَوْنَ هُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا كَمَا أَنَّ لِسَانَ الصِّدْقِ وَثَنَاءَ النَّاسِ وَدُعَاءَهُمْ لِلْأَنْبِيَاءِ وَاتِّبَاعَهُمْ لَهُمْ هُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ ثَوَابًا . فَمَنْ اسْتَدَلَّ بِمَا أَصَابَ هَؤُلَاءِ عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ فَآمَنَ بِالْآخِرَةِ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ وَكَانَ ذَلِكَ لَهُ آيَةً وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْآخِرَةِ وَيَظُنُّ أَنَّ مَنْ مَاتَ لَمْ يُبْعَثْ فَقَدْ لَا يُبَالِي بِمِثْلِ هَذَا وَإِنْ كَانَ يَخَافُ هَذَا مَنْ لَا يَخَافُ الْآخِرَةَ ؛ لَكِنْ كُلُّ مَنْ خَافَ الْآخِرَةَ كَانَ هَذَا حَالُهُ وَذَلِكَ لَهُ آيَةٌ . وَقَدْ خَتَمَ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إنَّا عَامِلُونَ } إلَى آخِرِهَا كَمَا افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ : { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ } فَذَكَرَ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ بِالرُّسُلِ فَهَذَا دِينُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ
والآخرين قَالَ أَبُو الْعَالِيَةَ : كَلِمَتَانِ يُسْأَلُ عَنْهُمَا الْأَوَّلُونَ والآخرون مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ وَمَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ . وَلِهَذَا قَالَ : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } و { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } هُوَ الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ وَهَذَانِ هُمَا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ تَارَةً فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ سُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ وَتَارَةً بِآيَتَيْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَيَقْرَأُ قَوْلَهُ : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا } الْآيَةُ فَأَوَّلُهَا الْإِيمَانُ وَآخِرُهَا الْإِسْلَامُ وَيَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ } فَأَوَّلُهَا إخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَآخِرُهَا الْإِسْلَامُ لَهُ . وَقَالَ : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنَا وَأُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فَفِيهَا الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ فِي آخِرِهَا وَقَالَ : { الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } .
فَصْلٌ :
وقَوْله تَعَالَى { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } فَقَدْ فَصَّلَهُ بَعْدَ إحْكَامِهِ ؛ بِخِلَافِ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَمْ يُحْكِمْهُ وَقَدْ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ الْمُحْكَمِ مَا لَمْ يُبَيِّنْهُ لِغَيْرِهِ ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحْكَمَ كِتَابَهُ ثُمَّ فَصَّلَهُ وَبَيَّنَهُ لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ : { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَهُ وَأَنْزَلَهُ عَلَى عِبَادِهِ بِعِلْمِ لَيْسَ كَمَنْ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ . وَقَدْ ذَكَرَ بَرَاهِينَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ قَبْلَ ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فَقَالَ : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } إلَى قَوْلِهِ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَلَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ هُمْ وَجَمِيعُ مَنْ يَسْتَطِيعُونَ مِنْ دُونِهِ : كَانَ فِي مَضْمُونِ تَحَدِّيهِ أَنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَمَا قَالَ : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } . وَحِينَئِذٍ : فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ وَمَا كَانَ
مُخْتَصًّا بِنَوْعِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ وَكُلُّ مَلْزُومٍ دَلِيلٌ عَلَى لَازِمِهِ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهَا فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِجِنْسِهِمْ . وَهَذَا الْقُرْآنُ مُخْتَصٌّ بِجِنْسِهِمْ وَمِنْ بَيْنِ الْجِنْسِ خَاتَمُهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ غَيْرُهُ وَكَانَ ذَلِكَ بُرْهَانًا بَيِّنًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَهُ وَأَنَّهُ نَزَلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ؛ هُوَ الَّذِي أَخْبَرَ بِخَبَرِهِ وَأَمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ كَمَا قَالَ : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } الْآيَةُ . وَثُبُوتُ الرِّسَالَةِ مَلْزُومٌ لِثُبُوتِ التَّوْحِيدِ وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَذَا الْقُرْآنِ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْبَيَانِ فِيهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ وَنُبِّهَ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَلَا سِيَّمَا هَذِهِ السُّورَةُ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّعْجِيزِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَفِيهَا مِنْ الْمَوَاعِظِ وَالْحَكَمِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا لَا يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " هُوَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ } حَيْثُ سَأَلَ السَّائِلُ عَنْ تَفْسِيرِهَا وَذَكَرَ مَا فِي التَّفَاسِيرِ مِنْ كَثْرَةِ الِاخْتِلَافِ فِيهَا وَأَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ يَزِيدُ الطَّالِبَ عَمًى عَنْ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْهُدَى وَالرَّشَادُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا نَزَلَ الْقُرْآنُ لِيُهْتَدَى بِهِ لَا لِيُخْتَلَفَ فِيهِ وَالْهُدَى إنَّمَا يَكُونُ إذَا عُرِفَتْ مَعَانِيهِ فَإِذَا حَصَلَ الِاخْتِلَافُ الْمُضَادُّ لِتِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا لَمْ يُعْرَفْ الْحَقُّ وَلَمْ تُفْهَمْ الْآيَةُ وَمَعْنَاهَا وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْهُدَى وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِإِنْزَالِ الْكِتَابِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ : عُثْمَانُ بْنُ عفان وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يَتَجَاوَزُوهَا حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يُعْلَمَ فِي مَاذَا نَزَلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ إنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا فُهِمَ . وَقَالَ : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . فَالرُّسُلُ تُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُبَلِّغُوا النَّاسَ الْبَلَاغَ الْمُبِينَ ؛ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَعْقِلُوا مَا بَلَّغَهُ الرُّسُلُ وَالْعَقْلُ يَتَضَمَّنُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ فَمَنْ عَرَفَ الْخَيْر وَالشَّرَّ فَلَمْ يَتَّبِعْ الْخَيْرَ وَيَحْذَرْ الشَّرَّ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا ؛ وَلِهَذَا لَا يُعَدُّ عَاقِلًا إلَّا مَنْ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُ وَاجْتَنَبَ مَا يَضُرُّهُ فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا قَدْ يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْمَهَالِكِ وَقَدْ يَفِرُّ مِمَّا يَنْفَعُهُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } وقَوْله تَعَالَى { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ طَوَائِفُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ قَوْلَهُ : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ } أَرَادَ بِهَا سَمَاءَ الْجَنَّةِ وَأَرْضَ الْجَنَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } هِيَ أَرْضُ الْجَنَّةِ . وَعَلَى هَذَا فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ انْطِوَاءِ هَذِهِ السَّمَاءِ وَبَقَاءِ السَّمَاءِ الَّتِي هِيَ سَقْفُ الْجَنَّةِ ؛ إذْ كُلُّ مَا عَلَا فَإِنَّهُ يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ سَمَاءً كَمَا يُسَمَّى السَّحَابُ سَمَاءً وَالسَّقْفُ سَمَاءً .
و " أَيْضًا " فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَإِنْ طُوِيَتْ وَكَانَتْ كَالْمُهْلِ وَاسْتَحَالَتْ عَنْ صُورَتِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَدَمَهَا وَفَسَادَهَا بَلْ أَصْلُهَا بَاقٍ ؛ بِتَحْوِيلِهَا مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } وَإِذَا بُدِّلَتْ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ سَمَاءٌ دَائِمَةً وَأَرْضٌ دَائِمَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ يُوسُفَ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَوْلُ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَتْ لَهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ : { هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } الْمُرَادُ بِرَبِّهِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ هُنَا سَيِّدُهُ وَهُوَ زَوْجُهَا الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ الَّذِي قَالَ لِامْرَأَتِهِ : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . فَلَمَّا وَصَّى بِهِ امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } قَالَ يُوسُفُ { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } وَلِهَذَا قَالَ : { إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } وَالضَّمِيرُ فِي : { إنَّهُ } مَعْلُومٌ بَيْنَهُمَا وَهُوَ سَيِّدُهَا .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } فَهَذَا خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَرَبُّهُ هُوَ اللَّهُ كَمَا قَالَ لِصَاحِبَيْ السِّجْنِ : { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } وَقَوْلُهُ : { رَبِّيَ } مِثْلَ قَوْلِهِ لِصَاحِبِ الرُّؤْيَا : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } قِيلَ أُنْسِيَ يُوسُفُ ذِكْرَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } . وَقِيلَ : بَلْ الشَّيْطَانُ أَنْسَى الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ذِكْرَ رَبِّهِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقَرِيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؛ بَلْ كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ . وَقَدْ دَعَاهُمَا قَبْلَ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَقَالَ لَهُمَا : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . وَقَالَ لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } أَيْ فِي الرُّؤْيَا { إلَّا
نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } يَعْنِي التَّأْوِيلَ { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } فَبِذَا يَذْكُرُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا عَلَّمَهُ رَبُّهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مِلَّةَ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ آبَائِهِ أَئِمَّةَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ - إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ؛ فَذَكَرَ رَبَّهُ ثُمَّ دَعَاهُمَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا عَبَرَ الرُّؤْيَا فَقَالَ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } الْآيَةُ ثُمَّ لَمَّا قَضَى تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَنْسَى الشَّيْطَانُ يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؟ وَإِنَّمَا أَنْسَى الشَّيْطَانُ النَّاجِيَ ذِكْرَ رَبِّهِ أَيْ الذِّكْرَ الْمُضَافَ إلَى رَبِّهِ وَالْمَنْسُوبَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَهُ يُوسُفَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ قَالُوا : كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَقُولَ اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك . فَلَمَّا نَسِيَ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ جُوزِيَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ . فَيُقَالُ : لَيْسَ فِي قَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مَا يُنَاقِضُ التَّوَكُّلَ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ يُوسُفُ : { إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ } كَمَا أَنَّ قَوْلَ أَبِيهِ : { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } لَمْ يُنَاقِضْ تَوَكُّلَهُ ؛ بَلْ قَالَ :
{ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } . و " أَيْضًا " فَيُوسُفُ قَدْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ وَالْمُخْلِصُ لَا يَكُونُ مُخْلِصًا مَعَ تَوَكُّلِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ وَيُوسُفُ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا لَا فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تَوَكُّلِهِ بَلْ قَدْ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ . وَقَوْلُهُ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مِثْلُ قَوْلِهِ لِرَبِّهِ : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فَلَمَّا سَأَلَ الْوِلَايَةَ لِلْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَا هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْإِمَارَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ لِلْفَتَى : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ إخْبَارِ الْمَلِكِ بِهِ ؛ لِيَعْلَمَ حَالَهُ لِيَتَبَيَّنَ الْحَقُّ وَيُوسُفُ كَانَ مَنْ أَثْبَتِ النَّاسِ . وَلِهَذَا بَعْدَ أَنْ طُلِبَ { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } قَالَ { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فَيُوسُفُ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ . وَيَقُولُ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ لَهُ : { اذْكُرْنِي
عِنْدَ رَبِّكَ } تَرْكٌ لِوَاجِبِ وَلَا فِعْلٌ لِمُحَرَّمِ حَتَّى يُعَاقِبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى حَبْسِهِ إلَى حِينِ قَبِلَ هَذَا ظُلْمًا لَهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } وَلُبْثُهُ فِي السَّجْنِ كَانَ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ؛ لِيَتِمَّ بِذَلِكَ صَبْرُهُ وَتَقْوَاهُ فَإِنَّهُ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى نَالَ مَا نَالَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَلَوْ لَمْ يَصْبِرْ وَيَتَّقِ بَلْ أَطَاعَهُمْ فِيمَا طَلَبُوا مِنْهُ جَزَعًا مِنْ السَّجْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الصَّبْرُ وَالتَّقْوَى وَفَاتَهُ الْأَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُمْكِنُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : قِيلَ لَا يُمْكِنُ كَقَوْلِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا قَالُوا : لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ الِانْتِشَارَ . وَالثَّانِي : يُمْكِنُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي الِانْتِشَارَ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْفِعْلِ اخْتِيَارًا بَلْ الْمُكْرَهُ يَخْتَارُ دَفْعَ أَعْظَمِ الشَّرَّيْنِ بِالْتِزَامِ
أَدْنَاهُمَا . وَأَيْضًا : فَالِانْتِشَارُ بِلَا فِعْلٍ مِنْهُ ؛ بَلْ قَدْ يُقَيَّدُ وَيُضْجَعُ فَتُبَاشِرُهُ الْمَرْأَةُ فَتَنْتَشِرُ شَهْوَتُهُ فَتَسْتَدْخِلُ ذَكَرَهُ . فَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ مَا طَلَبَتْ مِنْهُ بِحَالِ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَقَدْ يُقَالُ الْحَبْسُ لَيْسَ بِإِكْرَاهِ يُبِيحُ الزِّنَا ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ أَوْ يُتْلِفُونَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ فَالنِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي هَذَا وَهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا بِهِ إلَى هَذَا الْحَدِّ وَإِنْ قِيلَ كَانَ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْإِكْرَاهِ لَكِنْ يَفُوتُهُ الْأَفْضَلُ . وَأَيْضًا : فَالْإِكْرَاهُ إنَّمَا يَحْصُلُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ يُبَاشِرُ وَتَبْقَى لَهُ شَهْوَةٌ وَإِرَادَةٌ فِي الْفَاحِشَةِ . وَمَنْ قَالَ : الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ يَقُولُ : فَرَّقَ بَيْنَ مَا لَا فِعْلَ لَهُ - كَالْمُقَيَّدِ - وَبَيْنَ مَنْ لَهُ فِعْلٌ كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أُضْجِعَتْ وَقُيِّدَتْ حَتَّى فُعِلَ بِهَا الْفَاحِشَةُ لَمْ تَأْثَمْ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أُكْرِهَتْ حَتَّى زَنَتْ فَفِيهِ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ لَا تَأْثَمُ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : فِعْلُ الْمَرْأَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى انْتِشَارٍ فَإِنَّمَا هُوَ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ بِخِلَافِ فِعْلِ الرَّجُلِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَذْكُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ اسْتِغْفَارَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ يُوسُفَ اسْتِغْفَارًا مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ . كَمَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ اسْتِغْفَارًا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا فِي هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ ؛ فَأُثِيبَ عَلَيْهِ حَسَنَةً كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ . وَأَمَّا مَا يُكَفِّرُهُ الِابْتِلَاءُ مِنْ السَّيِّئَاتِ فَذَلِكَ جُوزِيَ بِهِ صَاحِبُهُ بِالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا غَمٍّ وَلَا أَذًى إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ خَطَايَاهُ } وَلَمَّا { أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا ؟ فَقَالَ : أَلَسْت تَحْزَنُ ؟ أَلَسْت تَنْصَبُ ؟ أَلَسْت تُصِيبُك اللأوى ؟ فَذَلِكَ مِمَّا تُجْزَوْنَ بِهِ } . فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } أَيْ نُسِّيَ الْفَتَى ذِكْرَ رَبِّهِ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا لِرَبِّهِ وَنُسِّيَ ذِكْرَ يُوسُفَ رَبَّهُ وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَيُوسُفُ قَدْ ذَكَرَ رَبَّهُ وَنُسِّيَ الْفَتَى ذِكْرَ يُوسُفَ رَبَّهُ وَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ ؛ هَذَا الذِّكْرَ الْخَاصَّ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا فَقَدْ لَا يَخْطُرُ هَذَا الذِّكْرُ بِقَلْبِهِ وَأَنْسَاهُ
الشَّيْطَانُ تَذْكِيرَ رَبِّهِ وَإِذْكَارَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ : { اذْكُرْنِي } أَمَرَهُ بِإِذْكَارِ رَبِّهِ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ إذْكَارَ رَبِّهِ فَإِذْكَارُ رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ ذَاكِرًا فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَجْعَلَ رَبَّهُ ذَاكِرًا لِيُوسُفَ وَالذِّكْرُ هُوَ مَصْدَرٌ وَهُوَ اسْمٌ فَقَدْ يُضَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ اسْمًا ؛ فَيَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ ؛ أَيْ أَنْسَاهُ الذِّكْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَبِّهِ وَالْمُضَافَ إلَيْهِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي نَسِيَ رَبَّهُ هُوَ الْفَتَى لَا يُوسُفُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } وَقَوْلُهُ : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَسِيَ فَادَّكَرَ . فَإِنْ قِيلَ : لَا رَيْبَ أَنَّ يُوسُفَ سَمَّى السَّيِّدَ رَبًّا فِي قَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } و { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَهَذَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ كَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ وَكَمَا جَازَ فِي شَرْعِهِ أَنْ يُؤْخَذَ السَّارِقُ عَبْدًا وَإِنْ كَانَ هَذَا مَنْسُوخًا فِي شَرْعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَوْلُهُ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } إنْ أَرَادَ بِهِ السَّيِّدَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ ؛ لَكِنْ مَعْلُومٌ أَنَّ تَرْكَ الْفَاحِشَةِ خَوْفًا لِلَّهِ وَاجِبٌ وَلَوْ رَضِيَ سَيِّدُهَا وَيُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ . { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا
لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ يُوسُفُ أَيْضًا : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ مِنْ خَوْفِ اللَّهِ مَا يَزَعُهُ عَنْ الْفَاحِشَةِ وَلَوْ رَضِيَ بِهَا النَّاسُ وَقَدْ دَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ . وَقَوْلُهُ : { السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ } بِصِيغَةِ جَمْعِ التَّذْكِيرِ وَقَوْلُهُ : { كَيْدَهُنَّ } بِصِيغَةِ جَمْعِ التَّأْنِيثِ وَلَمْ يَقُلْ مِمَّا يَدَّعِينَنِي إلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ الذُّكُورِ مَنْ يَدْعُوهُ مَعَ النِّسَاءِ إلَى الْفَاحِشَةِ بِالْمَرْأَةِ وَلَيْسَ هُنَاكَ إلَّا زَوْجُهَا وَذَلِكَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ أَوْ عَدِيمَهَا وَكَانَ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ وَيُطِيعُهَا ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى مُرَاوَدَتِهَا قَالَ : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } فَلَمْ يُعَاقِبْهَا وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ يُوسُفَ حَتَّى لَا تَتَمَكَّنَ مِنْ مُرَاوَدَتِهِ وَأَمَرَ يُوسُفَ أَنْ لَا يَذْكُرَ مَا جَرَى لِأَحَدِ مَحَبَّةً مِنْهُ لِامْرَأَتِهِ وَلَوْ كَانَ فِيهِ غَيْرَةٌ لَعَاقَبَ الْمَرْأَةَ . وَمَعَ هَذَا فَشَاعَتْ الْقِصَّةُ وَاطَّلَعَ عَلَيْهَا النَّاسُ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ يُوسُفَ حَتَّى تَحَدَّثَتْ بِهَا النِّسْوَةُ فِي الْمَدِينَةِ وَذَكَرُوا أَنَّهَا تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَعَ هَذَا : { أَرْسَلَتْ إلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ
كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا } وَأَمَرَتْ يُوسُفَ أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِنَّ ؛ لِيُقِمْنَ عُذْرَهَا عَلَى مُرَاوَدَتِهِ وَهِيَ تَقُولُ لَهُنَّ : { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ } . وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ مُرَاوَدَتِهِ وَالْخَلْوَةِ بِهِ مَعَ عِلْمِ الزَّوْجِ بِمَا جَرَى وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الدِّيَاثَةِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا حُبِسَ فَإِنَّمَا حُبِسَ بِأَمْرِهَا وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ حَبْسِهِ إلَّا بِأَمْرِ الزَّوْجِ فَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي حَبَسَهُ ؛ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا قَالَتْ : هَذَا الْقِبْطِيُّ هَتَكَ عِرْضِي فَحَبَسَهُ ؛ وَحَبَسَهُ لِأَجْلِ الْمَرْأَةِ مُعَاوَنَةً لَهَا عَلَى مَطْلَبِهَا لِدِيَاثَتِهِ وَقِلَّةِ غَيْرَتِهِ فَدَخَلَ هُوَ فِي مَنْ دَعَا يُوسُفَ إلَى الْفَاحِشَةِ . فَعُلِمَ أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَتْرُكْ الْفَاحِشَةَ لِأَجْلِهِ وَلَا لِخَوْفِهِ مِنْهُ بَلْ قَدْ عُلِمَ يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخَافُ مِنْهُ وَأَنَّ يُوسُفَ لَوْ أَعْطَاهَا مَا طَلَبَتْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ يَدْرِي وَلَوْ دَرَى فَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ يُنْكِرُ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ دَرَى بِالْمُرَاوَدَةِ وَالْخَلْوَةِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ فَلَمْ يُنْكِرْ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ هَمَّ بِعُقُوبَةِ يُوسُفَ فَكَانَتْ هِيَ الْحَاكِمَةَ عَلَى الزَّوْجِ الْقَاهِرَةَ لَهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إحْدَاكُنَّ } { وَلَمَّا رَاجَعْنَهُ فِي إمَامَةِ الصِّدِّيقِ قَالَ : إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ } { وَلَمَّا أَنْشَدَهُ الْأَعْشَى
وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غُلِبَ
اسْتَعَادَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَالَ : وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غُلِبَ } . فَكَيْفَ لَا تَغْلِبُ مِثْلَ هَذَا الزَّوْجِ وَتَمْنَعُهُ مِنْ عُقُوبَةِ يُوسُفَ ؟ وَقَدْ عَهِدَ النَّاسُ خَلْقًا مِنْ النَّاسِ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ؛ مِنْ نِسَاءِ التتر وَغَيْرِهِمْ يَكُونُ لِامْرَأَتِهِ غَرَضٌ فَاسِدٌ فِي فَتَاهُ أَوْ فَتَاهَا وَتَفْعَلُ مَعَهُ مَا تُرِيدُ وَإِنْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يَكْشِفَ أَوْ يُعَاقِبَ مَنَعَتْهُ وَدَفَعَتْهُ ؛ بَلْ وَأَهَانَتْهُ وَفَتَحَتْ عَلَيْهِ أَبْوَابًا مِنْ الشَّرِّ بِنَفْسِهَا وَأَهْلِهَا وَحَشَمِهَا وَالْمُطَالَبَةِ بِصَدَاقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ حَتَّى يَتَمَنَّى الرَّجُلُ الْخَلَاصَ مِنْهَا رَأْسًا بِرَأْسِ مَعَ كَوْنِ الرَّجُلِ فِيهِ غَيْرَةٌ فَكَيْفَ مَعَ ضَعْفِ الْغَيْرَةِ . فَهَذَا كُلُّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الدَّاعِيَ لِيُوسُفَ إلَى تَرْكِ الْفَاحِشَةِ كَانَ خَوْفَ اللَّهِ لَا خَوْفًا مِنْ السَّيِّدِ فَلِهَذَا قَالَ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } قِيلَ هَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ مَحَاسِنَ يُوسُفَ وَرِعَايَتَهُ لِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ وَدَفْعَهُ الشَّرَّ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِنَّ الزِّنَا بِامْرَأَةِ الْغَيْرِ فِيهِ حَقَّانِ مَانِعَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بِالتَّحْرِيمِ . فَالْفَاحِشَةُ حَرَامٌ لِحَقِّ اللَّهِ وَلَوْ رَضِيَ الزَّوْجُ وَظُلْمُ الزَّوْجِ فِي امْرَأَتِهِ حَرَامٌ لِحَقِّ بِحَيْثُ لَوْ سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ فَحَقُّ هَذَا فِي امْرَأَتِهِ لَا يَسْقُطُ كَمَا لَوْ ظَلَمَهُ وَأَخَذَ مَالَهُ وَتَابَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ لَمْ يَسْقُطْ
حَقُّ الْمَظْلُومِ بِذَلِكَ وَلِهَذَا جَازَ لِلرَّجُلِ إذَا زَنَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ يَقْذِفَهَا وَيُلَاعِنَهَا وَيَسْعَى فِي عُقُوبَتِهَا بِالرَّجْمِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَذْفُهَا وَلَا يُلَاعِنُ بَلْ يُحَدُّ إذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِفْسَادُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ لِزَوْجِهَا وَهُوَ عِنْدَهُ أَعْظَمُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ . وَلِهَذَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ دَفْعًا عَنْهَا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقَتْلِ بِالِاتِّفَاقِ وَيَجُوزُ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ قَتْلُهُ وَإِنْ انْدَفَعَ بِدُونِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَتَاهُ رَجُلٌ بِيَدِهِ سَيْفٌ فِيهِ دَمٌ وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا تَفَخَّذَ امْرَأَتَهُ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَأَقَرَّهُ عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ وَشَكَرَهُ وَقَبِلَ قَوْلَهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ لِذَلِكَ إذْ ظَهَرَتْ دَلَائِلُ ذَلِكَ . وَهَذَا كَمَا لَوْ اطَّلَعَ رَجُلٌ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ ابْتِدَاءً وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْذِرَهُ هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ اطَّلَعَ رَجُلٌ فِي بَيْتِك فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك شَيْءٌ } وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الَّذِي عَضَّ يَدَ غَيْرِهِ فَنَزَعَ يَدَهُ فَانْقَلَعَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ . وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . وَأَكْثَرُ السَّلَفِ وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ نِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ ؛ إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ غَيْرِهِ ظَالِمٌ لِلزَّوْجِ وَلِلزَّوْجِ حَقٌّ عِنْدَهُ وَلِهَذَا { ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ
زَنَى بِامْرَأَةِ الْمُجَاهِدِ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ حَسَنَاتِهِ يَأْخُذُ مِنْهَا مَا شَاءَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَلَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } فَذَكَرَ الزِّنَا بِحَلِيلَةِ الْجَارِ فَعُلِمَ أَنَّ لِلزَّوْجِ حَقًّا فِي ذَلِكَ وَكَانَ ظُلْمُ الْجَارِ أَعْظَمَ ؛ لِلْحَاجَةِ إلَى الْمُجَاوَرَة . وَإِنْ قِيلَ : هَذَا قَدْ لَا يُمْكِنُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْهُ وَالْجَارُ عَلَيْهِ حَقٌّ زَائِدٌ عَلَى حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَكَيْفَ إذَا ظَلَمَ فِي أَهْلِهِ وَالْجِيرَانُ يَأْمَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَفِي هَذَا مِنْ الظُّلْمِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي غَيْرِهِ وَجَارُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ امْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يُفْسِدُهَا هُوَ . فَلَمَّا كَانَ الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ الْمُزَوَّجَةِ لَهُ عِلَّتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا تَسْتَقِلُّ بِالتَّحْرِيمِ مِثْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ الْمَيِّتِ : عَلَّلَ يُوسُفُ ذَلِكَ بِحَقِّ الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مَانِعًا لَهُ وَكَانَ فِي تَعْلِيلِهِ بِحَقِّ الزَّوْجِ فَوَائِدُ . " مِنْهَا " أَنَّ هَذَا مَانِعٌ تَعْرِفُهُ الْمَرْأَةُ وَتَعْذُرُهُ بِهِ بِخِلَافِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا لَا تَعْرِفُ عُقُوبَةَ اللَّهِ فِي ذَلِكَ . و " مِنْهَا " أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَرْتَدِعُ بِذَلِكَ فَتَرْعَى حَقَّ زَوْجِهَا إمَّا
خَوْفًا وَإِمَّا رِعَايَةً لِحَقِّهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَمْلُوكُ يَمْتَنِعُ عَنْ هَذَا رِعَايَةً لِحَقِّ سَيِّدِهِ فَالْمَرْأَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّهَا خَائِنَةٌ فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ مِنْهَا بِخِلَافِ الْمَمْلُوكِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ الْخِدْمَةُ وَفَاحِشَتُهُ بِمَنْزِلَةِ سَرِقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِهِ . و " مِنْهَا " أَنَّ هَذَا مَانِعٌ مُؤَيِّسٌ لَهَا فَلَا تَطْمَعُ فِيهِ لَا بِنِكَاحِ وَلَا بِسِفَاحِ بِخِلَافِ الْخَلِيَّةِ مِنْ الزَّوْجِ فَإِنَّهَا تَطْمَعُ فِيهِ بِنِكَاحِ حَلَالٍ . و " مِنْهَا " أَنَّهُ لَوْ عَلَّلَ بِالزِّنَا فَقَدْ تَسْعَى هِيَ فِي فِرَاقِ الزَّوْجِ وَالتَّزَوُّجِ بِهِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَحْرُمُ لِحَقِّ الزَّوْجِ خَاصَّةً وَلِهَذَا إذَا طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ بِاخْتِيَارِهِ جَازَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا . وَلَوْ طَلَّقَهَا لِيَتَزَوَّجَ بِهَا - كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إنَّ لِي امْرَأَتَيْنِ فَاخْتَرْ أَيَّتَهمَا شِئْت حَتَّى أُطَلِّقَهَا وَتَتَزَوَّجَهَا - لَكِنَّهُ بِدُونِ رِضَاهُ لَا يَحِلُّ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا وَلَا عَبْدًا عَلَى مَوَالِيهِ } وَقَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَيَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْخِطْبَةِ وَقَبْلَ الْعَقْدِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ التَّزَوُّجَ بِامْرَأَتِهِ فَكَيْفَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالدُّخُولِ وَالصُّحْبَةِ . فَلَوْ عَلَّلَ بِأَنَّ هَذَا زِنًا مُحَرَّمٌ رُبَّمَا طَمِعَتْ فِي أَنْ تُفَارِقَ الزَّوْجَ وَتَتَزَوَّجَهُ فَإِنَّ كَيْدَهُنَّ عَظِيمٌ ؛ وَقَدْ جَرَى مِثْلُ هَذَا . فَلَمَّا عَلَّلَ بِحَقِّ
سَيِّدِهِ وَقَالَ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } يَئِسَتْ مِنْ ذَلِكَ وَعَلِمَتْ أَنَّهُ يُرَاعِي حَقَّ الزَّوْجِ فَلَا يُزَاحِمُهُ فِي امْرَأَتِهِ أَلْبَتَّةَ ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ مَعَ هَذَا أَنَّ الزَّوْجَ رَضِيَ بِالْفَاحِشَةِ وَأَبَاحَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُبِيحُهَا لِحَقِّ اللَّهِ وَلِحَقِّهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَقٍّ لِلْإِنْسَانِ لَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ وَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ وَإِنَّمَا ذَاكَ فِيمَا يُبَاحُ لَهُ بَذْلُهُ وَهُوَ مَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَذْلِهِ مِثْلَ مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِ مَالٍ وَنَفْعٍ . وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ بَذْلُهُ فَلَا يُبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : عَلِّمْنِي السِّحْرَ وَالْكُفْرَ وَالْكِهَانَةَ وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ إضْلَالِي أَوْ قَالَ لَهُ : بِعْنِي رَقِيقًا وَخُذْ ثَمَنِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : افْعَلْ بِي أَوْ بِابْنِي أَوْ بامرأتي أَوْ بِإِمَائِي الْفَاحِشَةَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُسْقِطُ حَقَّهُ فِيهِ بِإِبَاحَتِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَذْلُ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُهَا عَلَى الْفَاحِشَةِ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِهَا ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ظُلْمًا لِهَذَا الشَّخْصِ لَا يَرْتَفِعُ بِإِبَاحَتِهِ كَظُلْمِهِ إذَا جَعَلَهُ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا فَإِنَّ كَوْنَهُ يَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ أَوْ بِأَهْلِهِ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ لَا يَمْلِكُ إبَاحَتَهُ كَالضَّرَرِ عَلَيْهِ فِي كَوْنِهِ كَافِرًا وَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : أَزِلْ عَقْلِي وَأَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ بَذْلَ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُمْنَعُ السَّفِيهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ أَوْ إسْقَاطِ حُقُوقِهِ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ وَالصَّغِيرُ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَحْجُورٌ عَلَيْهِمْ لِحَقِّهِمْ .
وَلِهَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ الصَّبِيُّ أَوْ السَّفِيهُ فِي أَخْذِ مَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَمَنْ أَذِنَ لِغَيْرِهِ فِي تَكْفِيرِهِ أَوْ تَجْنِينِهِ أَوْ تَخْنِيثِهِ وَالْإِفْحَاشِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ فَهُوَ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ وَهَذَا مِثْلُ الرِّبَا فَإِنَّهُ وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْمُرَابَى وَهُوَ بَالِغٌ رَشِيدٌ لَمْ يُبَحْ ذَلِكَ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِهِ ؛ وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِمَا قَبَضَ مِنْهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَلَا يُعْطِيهِ إلَّا رَأْسَ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَذَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَلَوْ كَانَ التَّحْرِيمُ لِمُجَرَّدِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَسَقَطَ بِرِضَاهُ وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ إذَا أَسْقَطَهُ سَقَطَ لَمَا كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الزِّيَادَةِ وَالْإِنْسَانُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ غَيْرِهِ . فَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ : اُقْتُلْنِي لَمْ يَمْلِكْ مِنْهُ أَعْظَمَ مِمَّا يَمْلِكُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ . وَلِهَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَظَلَّمُ مِنْ الْأَكَابِرِ وَهُمْ لَمْ يُكْرِهُوهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ بِاخْتِيَارِهِمْ كَفَرُوا . قَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } وَقَالَ : { حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ } . وَكَذَلِكَ النَّاسُ يَلْعَنُونَ الشَّيْطَانَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُكْرِهْهُمْ عَلَى الذُّنُوبِ ؛
بَلْ هُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ أَذْنَبُوا . فَإِنْ قِيلَ : هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ : نَحْنُ لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ أَنَّ فِي هَذَا عَلَيْنَا ضَرَرًا وَلَكِنْ أَنْتُمْ زَيَّنْتُمْ لَنَا هَذَا وَحَسَّنْتُمُوهُ حَتَّى فَعَلْنَاهُ وَنَحْنُ كُنَّا جَاهِلِينَ بِالْأَمْرِ . قِيلَ : كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ الْجَاهِلَ بِمَا عَلَيْهِ فِي الْفِعْلِ مِنْ الضَّرَرِ لَا عِبْرَةَ بِرِضَاهُ وَإِذْنِهِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الرِّضَاءُ وَالْإِذْنُ مِمَّنْ يَعْلَمُ مَا يَأْذَنُ فِيهِ وَيَرْضَى بِهِ وَمَا كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ فِيهِ ضَرَرٌ رَاجِحٌ لَا يَرْضَى بِهِ إلَّا لِعَدَمِ عِلْمِهِ وَإِلَّا فَالنَّفْسُ تَمْتَنِعُ بِذَاتِهَا مِنْ الضَّرَرِ الرَّاجِحِ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ اشْتَرَى الْمَعِيبَ وَالْمُدَلَّسَ وَالْمَجْهُولَ السِّعْرِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهِ غَيْرَ رَاضٍ بِهِ ؛ بَلْ لَهُ الْفَسْخُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ كَذَلِكَ الْكُفْرُ وَالْجُنُونُ وَالْفَاحِشَةُ بِالْأَهْلِ لَا يَرْضَى بِهَا إلَّا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَا فِيهَا مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَإِذَا أَذِنَ فِيهَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ ؛ بَلْ يَكُونُ مَظْلُومًا وَلَوْ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ مَا فِيهَا مِنْ الْعِقَابِ وَأَرْضَى بِهِ كَانَ كَذِبًا ؛ بَلْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِمَا يَقُولُهُ . وَلِهَذَا لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ وَقَالَ نَوَيْت مُوجَبَهُ عِنْدَ اللَّهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : " بِهَشِمِ " وَلَا يَعْرِفُ مَعْنَاهَا أَوْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَيَنْوِي مُوجَبَهَا
مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ النِّيَّةَ وَالْقَصْدَ وَالرِّضَا مَشْرُوطٌ بِالْعِلْمِ فَمَا لَمْ يَعْلَمْهُ لَا يَرْضَى بِهِ إلَّا إذَا كَانَ رَاضِيًا بِهِ مَعَ الْعِلْمِ وَمَنْ كَانَ يَرْضَى بِأَنْ يَكْفُرَ وَيُجَنَّ وَتُفْعَلَ الْفَاحِشَةُ بِهِ وَبِأَهْلِهِ . فَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ ؛ بَلْ هُوَ سَفِيهٌ . فَلَا عِبْرَةَ بِرِضَاهُ وَإِذْنِهِ ؛ بَلْ لَهُ حَقٌّ عِنْدَ مَنْ ظَلَمَهُ وَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ غَيْرُ مَا لِلَّهِ مِنْ الْحَقِّ . وَإِنْ كَانَ حَقُّ هَذَا دُونَ حَقِّ الْمُنْكِرِ الْمَانِعِ . وَلِهَذَا قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } يَقُولُ : مَتَى أَفْسَدْت امْرَأَتَهُ كُنْت ظَالِمًا بِكُلِّ حَالٍ وَلَيْسَ هَذَا جَزَاءَ إحْسَانِهِ إلَيَّ . وَالنَّاسُ إذَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ أَبْغَضَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنْ كَانُوا فَعَلُوهُ بِتَرَاضِيهِمْ قَالَ طَاوُوسٌ : مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ عَلَى غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ إلَّا تَفَرَّقَا عَنْ تَقَالٍ وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } وَهَؤُلَاءِ لَا يَكْفُرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ عَصَى اللَّهَ ؛ بَلْ لِمَا حَصَلَ لَهُ بِمُشَارَكَتِهِ وَمُعَاوَنَتِهِ مِنْ الضَّرَرِ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّتِي أَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ } أَيْ يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا . وَقَالَ : { الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ } . فَالْمُخَالَّةُ إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ مَصْلَحَةِ الِاثْنَيْنِ كَانَتْ عَاقِبَتُهَا عَدَاوَةً وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَصْلَحَتِهِمَا إذَا كَانَتْ فِي ذَاتِ اللَّهِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا وَإِنْ بَذَلَ لِلْآخَرِ إعَانَةً عَلَى مَا يَطْلُبُهُ وَاسْتَعَانَ بِهِ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَطْلُبُهُ فَهَذَا التَّرَاضِي لَا اعْتِبَارَ بِهِ ؛ بَلْ يَعُودُ تَبَاغُضًا وَتَعَادِيًا وَتَلَاعُنًا وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ : لَوْلَا أَنْتَ مَا فَعَلْت أَنَا وَحْدِي هَذَا ؛ فَهَلَاكِي كَانَ مِنِّي وَمِنْك . وَالرَّبُّ لَا يَمْنَعُهُمَا مِنْ التَّبَاغُضِ وَالتَّعَادِي وَالتَّلَاعُنِ فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَالِمًا لِلْآخَرِ فِيهِ لَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ : أَنْتَ لِأَجْلِ غَرَضِك أَوْقَعَتْنِي فِي هَذَا ؛ كَالزَّانِيَيْنِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقُولُ لِلْآخَرِ لِأَجْلِ غَرَضِك فَعَلْت مَعِي هَذَا . وَلَوْ امْتَنَعْت لَمْ أَفْعَلْ أَنَا هَذَا ؛ لَكِنْ كُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ مِثْلُ مَا لِلْآخَرِ عَلَيْهِ ؛ فَتَعَادَلَا . وَلِهَذَا إذَا كَانَ الطَّلَبُ وَالْمُرَاوَدَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ كَانَ الْآخَرُ يتظلمه وَيَلْعَنُهُ أَكْثَرَ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الطَّلَبِ تَقَاوَمَا ؛ فَإِذَا رَضِيَ الزَّوْجُ بِالدِّيَاثَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لِإِرْضَاءِ الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ لِغَرَضِ لَهُ آخَرَ ؛ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لَهَا ؛ وَلَا تُقِيمُ مَعَهُ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَهُوَ يَقُولُ لِلزَّانِي بِهَا : أَنْتَ لِغَرَضِك أَفْسَدْت عَلَيَّ امْرَأَتِي وَأَنَا إنَّمَا رَضِيت لِأَجْلِ غَرَضِهَا فَأَنْتَ لَمَّا أَفْسَدْت عَلَيَّ امْرَأَتِي وَظَلَمْتنِي
فَعَلْت مَعِي مَا فَعَلْت . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ أَنْ يُعَاقِبَنِي وَنَحْوَ ذَلِكَ لَقَالَتْ : أَنْتَ إنَّمَا تَتْرُكُ غَرَضِي لِغَرَضِك فِي النَّجَاةِ وَأَنَا سَيِّدَتُك فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَدِّمَ غَرَضِي عَلَى غَرَضِك فَلَمَّا قَالَ : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } عَلَّلَ بِحَقِّ سَيِّدِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا رِعَايَةُ حَقِّهِ .
فَصْلٌ :
وَفِي قَوْلِ يُوسُفَ : { قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } عِبْرَتَانِ : " إحْدَاهُمَا " اخْتِيَارُ السَّجْنِ وَالْبَلَاءِ عَلَى الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي . و " الثَّانِيَةُ " طَلَبُ سُؤَالِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ أَنْ يُثَبِّتَ الْقَلْبَ عَلَى دِينِهِ وَيَصْرِفَهُ إلَى طَاعَتِهِ وَإِلَّا فَإِذَا لَمْ يُثَبِّتْ الْقَلْبَ صَبَا إلَى الْآمِرِينَ بِالذُّنُوبِ وَصَارَ مِنْ الْجَاهِلِينَ . فَفِي هَذَا تَوَكُّلٌ عَلَى اللَّهِ وَاسْتِعَانَةٌ بِهِ أَنْ يُثَبِّتَ الْقَلْبَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَفِيهِ صَبْرٌ عَلَى الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ وَالْأَذَى الْحَاصِلِ إذَا ثَبَتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ .
وَهَذَا كَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ : { اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } لَمَّا قَالَ فِرْعَوْنُ : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . وَمِنْهُ قَوْلُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَوْلِهِ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَوْلِهِ : { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } . فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْوَى بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا فَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ اتَّقَى اللَّهَ بِالْعِفَّةِ عَنْ الْفَاحِشَةِ وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُمْ لَهُ بِالْمُرَاوَدَةِ وَالْحَبْسِ وَاسْتَعَانَ اللَّهَ وَدَعَاهُ حَتَّى يُثَبِّتَهُ عَلَى الْعِفَّةِ فَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ وَصَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ .
وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ } { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَذًى لِكُلِّ مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَإِنْ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَلْ اخْتَارَ الْمَعْصِيَةَ كَانَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا فَرَّ مِنْهُ بِكَثِيرِ . { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } . وَمَنْ احْتَمَلَ الْهَوَانَ وَالْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِزِّ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ كَمَا فَعَلَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَذَى قَدْ انْقَلَبَ نَعِيمًا وَسُرُورًا كَمَا أَنَّ مَا يَحْصُلُ لِأَرْبَابِ الذُّنُوبِ مِنْ التَّنَعُّمِ بِالذُّنُوبِ يَنْقَلِبُ حُزْنًا وَثُبُورًا . فَيُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَافَ اللَّهَ مِنْ الذُّنُوبِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْ أَذَى الْخَلْقِ وَحَبْسِهِمْ إذْ أَطَاعَ اللَّهَ بَلْ آثَرَ الْحَبْسَ وَالْأَذَى مَعَ الطَّاعَةِ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالْعِزِّ وَقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَنَيْلِ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ لَوْ وَافَقَ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ نَالَ الشَّهْوَةَ وَأَكْرَمَتْهُ الْمَرْأَةُ بِالْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ
وَزَوْجُهَا فِي طَاعَتِهَا فَاخْتَارَ يُوسُفُ الذُّلَّ وَالْحَبْسَ وَتَرْكَ الشَّهْوَةِ وَالْخُرُوجَ عَنْ الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ مَعَ الطَّاعَةِ عَلَى الْعِزِّ وَالرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ . بَلْ قَدَّمَ الْخَوْفَ مِنْ الْخَالِقِ عَلَى الْخَوْفِ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَإِنْ آذَاهُ بِالْحَبْسِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّهَا كَذَبَتْ عَلَيْهِ ؛ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ رَاوَدَهَا ثُمَّ حَبَسَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا إنَّهُ هَتَكَ عِرْضِي لَمْ يُمْكِنْهَا أَنْ تَقُولَ لَهُ رَاوَدَنِي فَإِنَّ زَوْجَهَا قَدْ عَرَفَ الْقِصَّةَ ؛ بَلْ كَذَبَتْ عَلَيْهِ كِذْبَةً تَرُوجُ عَلَى زَوْجِهَا . وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ هَتَكَ عِرْضَهَا بِإِشَاعَةِ فَعَلَهَا وَكَانَتْ كَاذِبَةً عَلَى يُوسُفَ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهَا شَيْئًا ؛ بَلْ كَذَبَتْ أَوَّلًا وَآخِرًا ؛ كَذَبَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ طَلَبَ الْفَاحِشَةَ وَكَذَبَتْ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَشَاعَهَا وَهِيَ الَّتِي طَالَبَتْ وَأَشَاعَتْ فَإِنَّهَا قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ : فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ . وَلَقَدْ رَاوَدْته عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ . فَهَذَا غَايَةُ الْإِشَاعَةِ لِفَاحِشَتِهَا لَمْ تَسْتُرْ نَفْسَهَا . وَالنِّسَاءُ أَعْظَمُ النَّاسِ إخْبَارًا بِمِثْلِ ذَلِكَ وَهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعْنَ قَوْلَهَا قَدْ قُلْنَ فِي الْمَدِينَةِ : { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ } فَكَيْفَ إذَا اعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ وَطَلَبَتْ رَفْعَ الْمَلَامِ عَنْهَا ؟ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُنَّ أَعَنَّهَا فِي الْمُرَاوَدَةِ وَعَذَلْنَهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ } وَقَوْلُهُ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ كَيْدًا مِنْهُنَّ وَقَدْ قَالَ لَهُنَّ الْمَلِكُ : { مَا خَطْبُكُنَّ إذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } فَهُنَّ لَمْ يُرَاوِدْنَهُ لِأَنْفُسِهِنَّ ؛ إذْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مُمْكِنٍ وَهُوَ عِنْدَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا وَتَحْتَ حِجْرِهَا ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُنَّ أَعَنَّ الْمَرْأَةَ عَلَى مَطْلُوبِهَا . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ فَغَيْرُهَا مِنْ الذُّنُوبِ أَعْظَمُ مِثْلَ الظُّلْمِ الْعَظِيمِ لِلْخَلْقِ كَقَتْلِ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ وَمِثْلَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَمِثْلَ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَهَذِهِ أَجْنَاسُ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي لَا تُبَاحُ بِحَالِ وَلَا فِي شَرِيعَةٍ وَمَا سِوَاهَا - وَإِنْ حَرُمَ فِي حَالٍ - فَقَدْ يُبَاحُ فِي حَالٍ .
فَصْلٌ :
وَاخْتِيَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ وَلِأَهْلِهِ الِاحْتِبَاسَ فِي شِعْبِ بَنِي هَاشِمٍ بِضْعَ سِنِينَ لَا يُبَايِعُونَ وَلَا يُشَارُونَ ؛ وَصِبْيَانُهُمْ يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجُوعِ قَدْ هَجَرَهُمْ وَقَلَاهُمْ قَوْمُهُمْ وَغَيْرُ قَوْمِهِمْ . هَذَا أَكْمَلُ مِنْ حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَدْعُونَ الرَّسُولَ إلَى الشِّرْكِ وَأَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ . يَقُولُ : مَا أَرْسَلَنِي وَلَا نَهَى عَنْ الشِّرْكِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا } { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } { إذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إلَّا قَلِيلًا } { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا } . وَكَانَ كَذِبُ هَؤُلَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى يُوسُفَ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّهُ سَاحِرٌ وَإِنَّهُ كَاهِنٌ وَإِنَّهُ مَجْنُونٌ وَإِنَّهُ
مُفْتَرٍ . وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا وَالْقَذْفِ ؛ لَا سِيَّمَا الزِّنَا الْمَسْتُورُ الَّذِي لَا يَدْرِي بِهِ أَحَدٌ . فَإِنَّ يُوسُفَ كَذَبَ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ زَنَى وَأَنَّهُ قَذَفَهَا وَأَشَاعَ عَنْهَا الْفَاحِشَةَ ؛ فَكَانَ الْكَذِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى يُوسُفَ . وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَى أُولِي الْعَزْمِ مِثْلَ نُوحٍ وَمُوسَى حَيْثُ يُقَالُ عَنْ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ : إنَّهُ مَجْنُونٌ وَإِنَّهُ كَذَّابٌ يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ وَمَا لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الْحَبْسِ فَإِنَّ يُوسُفَ حُبِسَ وَسُكِتَ عَنْهُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ كَانُوا يُؤْذَوْنَ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَعَ مَنْعِهِمْ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ الْمُعْتَادَةِ . وَهَذَا مَعْنَى الْحَبْسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالْحَبْسِ سُكْنَاهُ فِي السِّجْنِ بَلْ الْمُرَادُ مَنْعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُعْتَادِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسٌ وَلَا لِأَبِي بَكْرٍ ؛ بَلْ أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ السِّجْنَ عُمَرُ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُسَلِّمُ الْغَرِيمَ إلَى غَرِيمِهِ وَيَقُولُ : مَا فَعَلَ أَسِيرُك } فَيَجْعَلُهُ أَسِيرًا مَعَهُ حَتَّى يَقْضِيَهُ حَقَّهُ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْحَبْسِ . وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنَعُوهُمْ مِنْ التَّصَرُّفِ بِمَكَّةَ أَذًى لَهُمْ حَتَّى خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَاخْتَارُوا السُّكْنَى بَيْنَ أُولَئِكَ النَّصَارَى عِنْدَ مَلِكٍ عَادِلٍ عَلَى السُّكْنَى بَيْنَ قَوْمِهِمْ وَالْبَاقُونَ
أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ أَيْضًا مَعَ مَا آذُوهُمْ بِهِ حَتَّى قَتَلُوا بَعْضَهُمْ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ بَعْضَهُمْ وَيَمْنَعُونَ بَعْضَهُمْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَضَعُونَ الصَّخْرَةَ عَلَى بَطْنِ أَحَدِهِمْ فِي رَمْضَاءِ مَكَّةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى . وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَارُ الْأَذَى فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَلَى الْإِكْرَامِ مَعَ مَعْصِيَتِهِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ اخْتَارَ الْقَيْدَ وَالْحَبْسَ وَالضَّرْبَ عَلَى مُوَافَقَةِ السُّلْطَانِ وَجُنْدِهِ عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ فِي كَلَامِهِ وَعَلَى أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ أَيْضًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِكَلَامِ يَعْرِفُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَبِكَلَامِ مُجْمَلٍ يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ ؛ فَيَقُولُ لَهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد : مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ فَلَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ . وَلَا عَلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ كَلَامٍ : (1)
[ يَهِّمُ أَحَدُهُمْ ] (2) بِالذَّنَبِ فَيَذْكُرُ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَيَدَعُهُ فَكَانَ يُوسُفُ مِمَّنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى . ثُمَّ إنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ شَابًّا عَزَبًا أَسِيرًا فِي بِلَادِ الْعَدُوِّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَقَارِبَ أَوْ أَصْدِقَاءً فَيَسْتَحِي مِنْهُمْ إذَا فَعَلَ فَاحِشَةً فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَمْنَعُهُ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْقَبَائِحِ حَيَاؤُهُ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ فَإِذَا تَغَرَّبَ فَعَلَ مَا يَشْتَهِيهِ . وَكَانَ أَيْضًا خَالِيًا لَا يَخَافُ مَخْلُوقًا فَحُكْمُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ - لَوْ كَانَتْ نَفْسُهُ كَذَلِكَ - أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعْتَرِضَ لَهَا ؛ بَلْ يَكُونُ هُوَ الْمُتَحَيِّلَ عَلَيْهَا كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَهُ غَرَضٌ فِي نِسَاءِ الْأَكَابِرِ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً . فَأَمَّا إذَا دُعِيَ وَلَوْ كَانَتْ الدَّاعِيَةُ خَدَّامَةً لَكَانَ أَسْرَعَ مُجِيبٍ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الدَّاعِيَةُ سَيِّدَتَهُ الْحَاكِمَةَ عَلَيْهِ الَّتِي يَخَافُ الضَّرَرَ بِمُخَالَفَتِهَا . ثُمَّ إنَّ زَوْجَهَا الَّذِي عَادَتُهُ أَنْ يَزْجُرَ الْمَرْأَةَ لَمْ يُعَاقِبْهَا ؛ بَلْ أَمَرَ
يُوسُفَ بِالْإِعْرَاضِ كَمَا يَنْعَرُ الدَّيُّوثُ ثُمَّ إنَّهَا اسْتَعَانَتْ بِالنِّسَاءِ وَحَبَسَتْهُ وَهُوَ يَقُولُ : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } . فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذِهِ الدَّوَاعِيَ الَّتِي دَعَتْ يُوسُفَ إلَى مَا دَعَتْهُ وَأَنَّهُ مَعَ تَوَفُّرِهَا وَقُوَّتِهَا لَيْسَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ صَارِفٌ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَلَا مَنْ يُنْجِيهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ؛ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الَّذِي اُبْتُلِيَ بِهِ يُوسُفُ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ وَأَنَّ تَقْوَاهُ وَصَبْرَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ - حَتَّى لَا يَفْعَلَهَا مَعَ ظُلْمِ الظَّالِمِينَ لَهُ حَتَّى لَا يُجِيبَهُمْ - كَانَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ وَأَكْبَرِ الطَّاعَاتِ وَأَنَّ نَفْسَ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ مِنْ أَزْكَى الْأَنْفُسِ فَكَيْفَ أَنْ يَقُولَ : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ نَفْسَهُ بَرِيئَةٌ لَيْسَتْ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ ؛ بَلْ نَفْسٌ زَكِيَّةٌ مِنْ أَعْظَمِ النُّفُوسِ زَكَاءً وَالْهَمُّ الَّذِي وَقَعَ كَانَ زِيَادَةً فِي زَكَاءِ نَفْسِهِ وَتَقْوَاهَا وَبِحُصُولِهِ مَعَ تَرْكِهِ لِلَّهِ لِتَثْبُتَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تُزَكِّي نَفْسَهُ . " الْوَجْهُ السَّادِسُ " أَنَّ قَوْلَهُ : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } إذَا كَانَ مَعْنَاهُ عَلَى مَا زَعَمُوهُ أَنَّ يُوسُفَ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ فِي امْرَأَتِهِ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ ؛ أَوْ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَوْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَا مَا يُشَارُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْ يُوسُفَ كَلَامٌ يُشِيرُ بِهِ إلَيْهِ وَلَا تَقَدَّمَ
أَيْضًا ذِكْرُ عَفَافِهِ وَاعْتِصَامِهِ ؛ فَإِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ النِّسْوَةُ قَوْلُهُنَّ : { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } وَقَوْلُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ } وَهَذَا فِيهِ بَيَانُ كَذِبِهَا فِيمَا قَالَتْهُ أَوَّلًا لَيْسَ فِيهِ نَفْسُ فِعْلِهِ الَّذِي فَعَلَهُ هُوَ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ قَوْلَهُ ( ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ هُنَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ لَا يَصِحُّ بِحَالِ . " الْوَجْهُ السَّابِعُ " أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ - لَوْ كَانَ هُنَا مَا يُشَارُ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ أَوْ عَمَلِهِ - إنَّ عِفَّتِي عَنْ الْفَاحِشَةِ كَانَ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ وَيُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَرَجَاءً لِثَوَابِهِ ؛ وَلِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ ؛ لَا لِأَجْلِ مُجَرَّدِ عِلْمِ مَخْلُوقٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ وَأَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلَصِينَ . وَمَنْ تَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ لِيَعْلَمَ الْمَخْلُوقُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا لِأَجْلِ بُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ مُخْلَصًا فَهَذَا الَّذِي أَضَافُوهُ إلَى يُوسُفَ إذَا فَعَلَهُ آحَادُ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَوَابٌ مِنْ اللَّهِ ؛ بَلْ يَكُونُ ثَوَابُهُ عَلَى مَنْ عَمِلَ لِأَجْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ يُوسُفُ أَوَّلًا : { إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } . قِيلَ : إنْ كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ سَيِّدَهُ : فَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيَّ ؛ وَأَكْرَمَنِي فَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَخُونَهُ فِي أَهْلِهِ فَإِنِّي أَكُونُ ظَالِمًا وَلَا يُفْلِحُ الظَّالِمُ ؛ فَتَرَكَ خِيَانَتَهُ فِي أَهْلِهِ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ لَا لِيَعْلَمَ هُوَ بِذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : مُرَادُهُ تَأْتِي إظْهَارُ بَرَاءَتِي لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ فَالْمُعَلَّلُ إظْهَارُ بَرَاءَتِهِ لَا نَفْسَ عَفَافِهِ . قِيلَ : لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ بِإِظْهَارِ بَرَاءَتِهِ مُجَرَّدَ عِلْمٍ وَاحِدٍ ؛ بَلْ مُرَادُهُ عِلْمُ الْمَلِكِ وَغَيْرِهِ . وَلِهَذَا قَالَ لِلرَّسُولِ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ لَقَالَ : ذَلِكَ لِيَعْلَمُوا أَنِّي بَرِيءٌ وَأَنِّي مَظْلُومٌ . ثُمَّ هَذَا لَا يَلِيقُ أَنْ يُذْكَرَ عَنْ يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ بَرَاءَتُهُ وَحَصَلَ مَطْلُوبُهُ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ . وَهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ إنَّمَا تَأَخَّرَ لِتَظْهَرَ بَرَاءَتُهُ فَلَا يَحْتَاجُ مِثْلُ هَذَا أَنْ يَنْطِقَ بِهِ .
" الْوَجْهُ الثَّامِنُ " أَنَّ النَّاسَ عَادَتُهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا يُعَرِّفُونَ بِمَا عَمِلُوهُ مَنْ لِذَلِكَ عِنْدَهُ قَدْرٌ وَهَذَا يُنَاسِبُ لَوْ كَانَ الْعَزِيزُ غَيُورًا وَلِلْعِفَّةِ عِنْدَهُ جَزَاءٌ كَثِيرٌ وَالْعَزِيزُ قَدْ ظَهَرَتْ عَنْهُ مِنْ قِلَّةِ الْغَيْرَةِ وَتَمْكِينِ امْرَأَتِهِ مِنْ جِنْسِهِ مَعَ الظَّالِمِينَ مَعَ ظُهُورِ بَرَاءَتِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَنْبَغِي فِي عَادَةِ الطِّبَاعِ أَنْ يُقَابَلَ عَلَى ذَلِكَ بِمُوَاقَعَةِ أَهْلِهِ . فَإِنَّ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ تَقُولُ فِي مِثْلِ هَذَا : هَذَا لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ إحْسَانِي إلَيْهِ وَصَوْنِي لِأَهْلِهِ وَكَفَّ نَفْسِي عَنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ سَلَّطَهَا وَمَكَّنَهَا . فَكَثِيرٌ مِنْ النُّفُوسِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِهَا الْفَاحِشَةُ إذَا رَأَتْ مَنْ حَالُهُ هَذَا تَفْعَلُ الْفَاحِشَةَ إمَّا نِكَايَةً فِيهِ وَمُجَازَاةً لَهُ عَلَى ظُلْمِهِ وَإِمَّا إهْمَالًا لَهُ لِعَدَمِ غَيْرَتِهِ وَظُهُورِ دِيَاثَتِهِ وَلَا يَصْبِرُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَنْ الْفَاحِشَةِ إلَّا مَنْ يَعْمَلُ لِلَّهِ خَائِفًا مِنْهُ وَرَاجِيًا لِثَوَابِهِ لَا مَنْ يُرِيدُ تَعْرِيفَ الْخَلْقِ بِعَمَلِهِ . " الْوَجْهُ التَّاسِعُ " أَنَّ الْخِيَانَةَ ضِدُّ الْأَمَانَةِ وَهُمَا مِنْ جِنْسِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الصَّادِقُ الْأَمِينُ وَيُقَالُ الْكَاذِبُ الْخَائِنُ . وَهَذَا حَالُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ ؛ فَإِنَّهَا لَوْ كَذَبَتْ عَلَى يُوسُفَ فِي مَغِيبِهِ وَقَالَتْ رَاوَدَنِي لَكَانَتْ كَاذِبَةً وَخَائِنَةً فَلَمَّا اعْتَرَفَتْ بِأَنَّهَا هِيَ الْمُرَاوِدَةُ كَانَتْ صَادِقَةً فِي هَذَا الْخَبَرِ أَمِينَةً فِيهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ : { وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } فَأَخْبَرَتْ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي تَبْرِئَتِهِ نَفْسَهُ دُونَهَا .
فَأَمَّا فِعْلُ الْفَاحِشَةِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْخِيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ ؛ وَلَكِنْ هُوَ بَابُ الظُّلْمِ وَالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ : { مَعَاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } وَلَمْ يَقُلْ هُنَا الْخَائِنِينَ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَلَمْ يَقُلْ لِنَصْرِفَ عَنْهُ الْخِيَانَةَ ؛ فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ هَذِهِ الدَّقَائِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . " الْوَجْهُ الْعَاشِرُ " أَنَّ فِي الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ الَّذِي أَقَرَّهُ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ نَفْسٍ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ ؛ بَلْ مَا رَحِمَ رَبِّي لَيْسَ فِيهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ النَّفْسَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : تَكُونُ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ ثُمَّ تَكُونُ لَوَّامَةً أَيْ تَفْعَلُ الذَّنْبَ ثُمَّ تَلُومُ عَلَيْهِ أَوْ تَتَلَوَّمُ فَتَتَرَدَّدُ بَيْنَ الذَّنْبِ وَالتَّوْبَةِ . ثُمَّ تَصِيرُ مُطَمْئِنَةً . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ مَا رَحِمَ رَبِّي مِنْ النُّفُوسِ لَيْسَتْ بِأَمَّارَةٍ وَإِذَا كَانَتْ النُّفُوسُ مُنْقَسِمَةً إلَى مَرْحُومَةٍ وَأَمَّارَةٍ فَقَدْ عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّ نَفْسَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ مِنْ النُّفُوسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ؛ لِأَنَّهَا أَمَرَتْ بِذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَرَاوَدَتْ وَافْتَرَتْ وَاسْتَعَانَتْ بِالنِّسْوَةِ وَسَجَنَتْ وَهَذَا مِنْ
أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَمْرِ بِالسُّوءِ . وَأَمَّا يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَفْسُهُ مِنْ النُّفُوسِ الْمَرْحُومَةِ عَنْ أَنْ تَكُونَ أَمَّارَةً فَمَا فِي الْأَنْفُسِ مَرْحُومٌ ؛ فَإِنَّ مَنْ تَدَبَّرَ قِصَّةَ يُوسُفَ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي رُحِمَ بِهِ وَصُرِفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ ؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَجَعَلَهُ عِبْرَةً وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّالِحِينَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ إلَّا وَنَفْسُهُ إذَا اُبْتُلِيَتْ بِمِثْلِ هَذِهِ الدَّوَاعِي أَبْعَدُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَرْحُومَةً مِنْ نَفْسِ يُوسُفَ . وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَفْسُ يُوسُفَ مَرْحُومَةً : فَمَا فِي النُّفُوسِ مَرْحُومَةٌ فَإِذًا كَلُّ النُّفُوسِ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وَهُوَ خِلَافُ مَا فِي الْقُرْآنِ . وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى الْحِكَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ ؛ أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا وَهُمَا فِي الْبَادِيَةِ ؛ فَامْتَنَعَ وَبَكَى وَجَاءَ أَخُوهُ وَهُوَ يَبْكِي فَبَكَى وَبَكَتْ الْمَرْأَةُ وَذَهَبَتْ فَنَامَ فَرَأَى يُوسُفَ فِي مَنَامِهِ وَقَالَ : أَنَا يُوسُفُ الَّذِي هَمَمْت وَأَنْتَ مُسْلِمٌ الَّذِي لَمْ تَهُمَّ فَقَدْ يَظُنُّ مَنْ يَسْمَعُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ أَنَّ حَالَ مُسْلِمٍ كَانَ أَكْمَلَ . وَهَذَا جَهْلٌ لِوَجْهَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ حُكْمِ الْمَرْأَةِ الْمُرَاوِدَةِ وَلَا لَهَا عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا لَهَا عَلَيْهِ قُدْرَةٌ أَنْ تَكْذِبَ عَلَيْهِ وَتَسْتَعِينَ بِالنِّسْوَةِ
وَتَحْبِسَهُ ، وَزَوْجُهَا لَا يُعِينُهُ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُ زَوْجِهَا يُعِينُهُ عَلَى الْعِصْمَةِ ؛ بَلْ مُسْلِمٌ لَمَّا بَكَى ذَهَبَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ وَلَوْ اسْتَعْصَمَتْ لَكَانَ صُرَاخُهُ مِنْهَا أَوْ خَوْفُهَا مِنْ النَّاسِ يَصْرِفُهَا عَنْهُ . وَأَيْنَ هَذَا مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ يُوسُفُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ . " الثَّانِي " أَنَّ الْهَمَّ مِنْ يُوسُفَ لَمَّا تَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَلَا نَقْصَ عَلَيْهِ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ { يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجِمَالٍ فَقَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَهَذَا لِمُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ فَكَيْفَ بِالْمُرَاوَدَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالْحَبْسِ ؟ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ مَنْصِبٍ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فَإِنَّ امْرَأَةَ عَزِيزِ مِصْرَ يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً . وَأَمَّا الْبَدَوِيَّةُ الدَّاعِيَةُ لِمُسْلِمِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا دُونَ ذَلِكَ وَرُؤْيَاهُ فِي الْمَنَامِ وَقَوْلُهُ : أَنَا يُوسُفُ الَّذِي هَمَمْت وَأَنْتَ مُسْلِمٌ الَّذِي لَمْ تَهُمَّ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَهُ يُوسُفُ فِي الْيَقَظَةِ وَإِذَا قَالَ هَذَا : كَانَ هَذَا خَيْرًا لَهُ وَمَدْحًا وَثَنَاءً وَتَوَاضُعًا مِنْ يُوسُفَ وَإِذَا تَوَاضَعَ الْكَبِيرُ مَعَ مَنْ دُونَهُ لَمْ تَسْقُطْ مَنْزِلَتُهُ . " الْوَجْهُ الْحَادِي عَشَرَ " أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ - مَعَ الِاعْتِرَافِ
بِالذَّنْبِ - الِاعْتِذَارُ بِذِكْرِ سَبَبِهِ فَإِنَّ قَوْلَهَا : { أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } فِيهِ اعْتِرَافٌ بِالذَّنْبِ وَقَوْلُهَا : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } إشَارَةُ تَطَابُقٍ لِقَوْلِهَا : { أَنَا رَاوَدْتُهُ } أَيْ أَنَا مُقِرَّةٌ بِالذَّنْبِ مَا أَنَا مُبَرِّئَةٌ لِنَفْسِي . ثُمَّ بَيَّنَتْ السَّبَبَ فَقَالَتْ : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } . فَنَفْسِي مِنْ هَذَا الْبَابِ فَلَا يُنْكَرُ صُدُورُ هَذَا مِنِّي . ثُمَّ ذَكَرَتْ مَا يَقْتَضِي طَلَبَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ فَقَالَتْ : { إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا كَلَامُ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّ الزِّنَا ذَنْبٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَغْفِرُ لِصَاحِبِهِ . قُلْت : نَعَمْ . وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ زَوْجُهَا : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } فَأَمْرُهُ لَهَا بِالِاسْتِغْفَارِ لِذَنْبِهَا دَلِيلٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ ذَنْبًا وَيَسْتَغْفِرُونَ مِنْهُ وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكِينَ فَقَدْ كَانَتْ الْعَرَبُ مُشْرِكِينَ وَهُمْ يُحَرِّمُونَ الْفَوَاحِشَ وَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْهَا حَتَّى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَ هِنْدَ بِنْتَ عتبة بْنِ رَبِيعَةَ بَيْعَةَ النِّسَاءِ عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاَللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقَ وَلَا تَزْنِيَ . قَالَتْ : أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ ؟ } وَكَانَ الزِّنَا مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ فِي الْإِمَاءِ . وَلِهَذَا غَلَبَ عَلَى لُغَتِهِمْ أَنْ يَجْعَلُوا الْحُرِّيَّةَ فِي مُقَابَلَةِ الرِّقِّ وَأَصْلُ
اللَّفْظِ هُوَ الْعِفَّةُ وَلَكِنَّ الْعِفَّةَ عَادَةَ مَنْ لَيْسَتْ أَمَةً ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ العطاردي أَنَّهُ رَأَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا يَزْنِي بِقِرْدَةِ فَاجْتَمَعَتْ الْقُرُودُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَمَتْهُ . وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الشُّيُوخِ الصَّادِقِينَ أَنَّهُ رَأَى فِي جَامِعٍ نَوْعًا مِنْ الطَّيْرِ قَدْ بَاضَ فَأَخَذَ النَّاسُ بَيْضَةً وَجَاءَ بِبَيْضِ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الطَّيْرِ فَلَمَّا انْفَقَسَ الْبَيْضُ خَرَجَتْ الْفِرَاخُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فَجَعَلَ الذَّكَرُ يَطْلُبُ جِنْسَهُ حَتَّى اجْتَمَعَ مِنْهُنَّ عَدَدٌ فَمَا زَالُوا بِالْأُنْثَى حَتَّى قَتَلُوهَا وَمِثْلُ هَذَا مَعْرُوفٌ فِي عَادَةِ الْبَهَائِمِ . وَالْفَوَاحِشُ مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْأَرْضِ عَلَى اسْتِقْبَاحِهَا وَكَرَاهَتِهَا وَأُولَئِكَ الْقَوْمُ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ مَعَ شِرْكِهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ يُوسُفُ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } . " الْوَجْهُ الثَّانِي عَشَرَ " أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ : إمَّا أَنْ يَقُولُوا بِالْعِصْمَةِ مِنْ فِعْلِهَا وَإِمَّا
أَنْ يَقُولُوا بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَيْهَا ؛ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْصُومٌ أَنْ يُقِرَّ فِيهِ عَلَى خَطَأٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الرِّسَالَةِ وَمَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ بَسْطِ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَذْكُرْ فِي كِتَابِهِ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ تَوْبَتَهُ مِنْهُ كَمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَمُوسَى ودَاوُد وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . وَبِهَذَا يُجِيبُ مَنْ يَنْصُرُ قَوْلَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى مَنْ يَنْفِي الذُّنُوبَ مُطْلَقًا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَنْ أَعْظَمِ حُجَجِهِمْ مَا اعْتَمَدَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ حَيْثُ قَالُوا : نَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالتَّأَسِّي بِهِمْ فِي الْأَفْعَالِ وَتَجْوِيزُ ذَلِكَ يَقْدَحُ فِي التَّأَسِّي ؛ فَأُجِيبُوا بِأَنَّ التَّأَسِّي إنَّمَا هُوَ فِيمَا أُقِرُّوا عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ النَّسْخَ جَائِزٌ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَيْسَ تَجْوِيزُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الطَّاعَةِ لِأَنَّ الطَّاعَةَ تَجِبُ فِيمَا لَمْ يُنْسَخْ فَعَدَمُ النَّسْخِ يُقَرِّرُ الْحُكْمَ وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ يُقَرِّرُ الْفِعْلَ وَالْأَصْلُ عَدَمُ كُلٍّ مِنْهُمَا . و يُوسُفُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ فَعَلَ مَعَ الْمَرْأَةِ مَا يَتُوبُ عَنْهُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ أَصْلًا . وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَقَعْ مِنْهُ الْفَاحِشَةُ وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَذْكُرُ أَنَّهُ وَقَعَ
مِنْهُ بَعْضُ مُقَدِّمَاتِهَا مِثْلَ مَا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ حَلَّ السَّرَاوِيلَ وَقَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الْخَاتِنِ وَنَحْوَ هَذَا وَمَا يَنْقُلُونَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مُسْتَنَدَ لَهُمْ فِيهِ إلَّا النَّقْلُ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ عُرِفَ كَلَامُ الْيَهُودِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَغَضُّهُمْ مِنْهُمْ كَمَا قَالُوا فِي سُلَيْمَانَ مَا قَالُوا وَفِي دَاوُد مَا قَالُوا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا مَا يَرُدُّ نَقْلَهُمْ لَمْ نُصَدِّقْهُمْ فِيمَا لَمْ نَعْلَمْ صِدْقَهُمْ فِيهِ فَكَيْفَ نُصَدِّقُهُمْ فِيمَا قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى خِلَافِهِ . وَالْقُرْآنُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْ يُوسُفَ مِنْ الِاسْتِعْصَامِ وَالتَّقْوَى وَالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ نَظِيرُهُ فَلَوْ كَانَ يُوسُفُ قَدْ أَذْنَبَ لَكَانَ إمَّا مُصِرًّا وَإِمَّا تَائِبًا وَالْإِصْرَارُ مُمْتَنِعٌ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ تَائِبًا . وَاَللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ تَوْبَةً فِي هَذَا وَلَا اسْتِغْفَارًا كَمَا ذَكَرَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ كَانَ مِنْ الْحَسَنَاتِ الْمَبْرُورَةِ وَالْمَسَاعِي الْمَشْكُورَةِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ فِي يُوسُفَ كَذَلِكَ ؛ كَانَ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي } إنَّمَا يُنَاسِبُ حَالَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لَا يُنَاسِبُ حَالَ يُوسُفَ فَإِضَافَةُ الذُّنُوبِ إلَى يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِرْيَةٌ عَلَى الْكِتَابِ وَالرَّسُولِ وَفِيهِ تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَفِيهِ
الِاغْتِيَابُ لِنَبِيِّ كَرِيمٍ وَقَوْلُ الْبَاطِلِ فِيهِ بِلَا دَلِيلٍ وَنِسْبَتُهُ إلَى مَا نَزَّهَهُ اللَّهُ مِنْهُ وَغَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذَا مِنْ الْيَهُودِ أَهْلِ البهت الَّذِينَ كَانُوا يَرْمُونَ مُوسَى بِمَا بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؟ وَقَدْ تَلَقَّى نَقْلَهُمْ مَنْ أَحْسَنَ بِهِ الظَّنَّ وَجَعَلَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ تَابِعًا لِهَذَا الِاعْتِقَادِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُنْحَرِفِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِصْمَةِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ كِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ : قَوْمٌ أَفْرَطُوا فِي دَعْوَى امْتِنَاعِ الذُّنُوبِ حَتَّى حَرَّفُوا نُصُوصَ الْقُرْآنِ الْمُخْبِرَةَ بِمَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ التَّوْبَةِ مِنْ الذُّنُوبِ وَمَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُمْ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ بِذَلِكَ . وَقَوْمٌ أَفْرَطُوا فِي أَنْ ذَكَرُوا عَنْهُمْ مَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى بَرَاءَتِهِمْ مِنْهُ وَأَضَافُوا إلَيْهِمْ ذُنُوبًا وَعُيُوبًا نَزَّهَهُمْ اللَّهُ عَنْهَا . وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلْقُرْآنِ وَهَؤُلَاءِ مُخَالِفُونَ لِلْقُرْآنِ وَمَنْ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ كَانَ مِنْ الْأُمَّةِ الْوَسَطِ مُهْتَدِيًا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
قَالَ : فَمَنْ ؟ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ : { لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسٌ وَالرُّومُ ؟ قَالَ : وَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ ؟ } وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ فَارِسٍ وَالرُّومِ مَا أَدْخَلُوهُ فِي عِلْمِ الْمُسْلِمِينَ وَدِينِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ كَمَا دَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْهِنْدِ واليونان وَغَيْرِهِمْ وَالْمَجُوسِ وَالْفُرْسِ وَالصَّابِئِينَ مِنْ اليونان وَغَيْرِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا سِيَّمَا فِي جِنْسِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ . وَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي طَائِفَةٍ هُمْ أَمْثَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ إذْ أَهْلُ الْكِتَابِ كَانُوا خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ . وَلَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبِلَادَ كَانَتْ الشَّامُ وَمِصْرُ وَنَحْوُهُمَا مَمْلُوءَةً مِنْ أَهْل الْكِتَابِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ فَكَانُوا يُحَدِّثُونَهُمْ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا بَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ ؛ فَكَانَ مِنْ أَكْثَرِهِمْ حَدِيثًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعْبُ الْأَحْبَارِ . وَقَدْ قَالَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا رَأَيْنَا فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَصْدَقَ مِنْ كَعْبٍ وَإِنْ كُنَّا لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ أَحْيَانًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَامَّةَ مَا عِنْدَ كَعْبٍ أَنْ يَنْقُلَ مَا وَجَدَهُ فِي كُتُبِهِمْ وَلَوْ
نَقَلَ نَاقِلٌ مَا وَجَدَهُ فِي الْكُتُبِ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ فِيهِ كَذِبٌ كَثِيرٌ فَكَيْفَ بِمَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ وَتَبْدِيلِ الدِّينِ وَتَفَرُّقِ أَهْلِهِ وَكَثْرَةِ أَهْلِ الْبَاطِلِ فِيهِ . وَهَذَا بَابٌ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَنِيَ بِهِ وَيَنْظُرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَأَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ . فَإِنَّ هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ . وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ - كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ - أُصُولُ السُّنَّةِ هِيَ التَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْبَابَ وَجَدَ كَثِيرًا مِنْ الْبِدَعِ أُحْدِثَتْ بِآثَارِ أَصْلُهَا عَنْهُمْ مِثْلَ مَا يُرْوَى فِي فَضَائِلِ بِقَاعٍ فِي الشَّامِ مِنْ الْجِبَالِ وَالْغَيْرَانِ وَمَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . مِثْلَ مَا يُذْكَرُ فِي جَبَلِ قاسيون وَمَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي فِيهِ وَمَا فِي إتْيَانِ ذَلِكَ مِنْ الْفَضِيلَةِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْمُفْتَرِينَ مِنْ الشُّيُوخِ جَعَلَ زِيَارَةَ مَغَارَةٍ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَعْدِلُ حَجَّةً وَيُسَمُّونَهَا مَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ . وَالْآثَارُ الَّتِي تُرْوَى فِي ذَلِكَ لَا تَصِلُ إلَى الصَّحَابَةِ وَإِنَّمَا هِيَ عَمَّنْ
دُونَهُمْ مِمَّنْ أَخَذَهَا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لِهَذَا أَصْلٌ لَكَانَ هَذَا عِنْدَ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا الشَّامَ مِثْلَ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وعبادة بْنِ الصَّامِتِ ؛ بَلْ وَمِثْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَمِينِ الْأُمَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ . فَقَدْ دَخَلَ الشَّامَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ أَفْضَلِ مِمَّنْ دَخَلَ بَقِيَّةَ الْأَمْصَارِ غَيْرِ الْحِجَازِ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ اتِّبَاعُ شَيْءٍ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ لَا مَقَابِرُهُمْ وَلَا مَقَامَاتُهُمْ فَلَمْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاجِدَ وَلَا كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ الصَّلَاةَ فِيهَا وَالدُّعَاءَ عِنْدَهَا ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى قَوْمًا يَنْتَابُونَ مَكَانًا يُصَلُّونَ فِيهِ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : وَمَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ ؟ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا . مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَمْضِ . وَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ وَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ مُصَلًّى لِلْمُسْلِمَيْنِ : قَالَ لِكَعْبِ ؟ أَيْنَ أَبْنِيهِ ؟ قَالَ ابْنِهِ خَلْفَ الصَّخْرَةِ . قَالَ : خَالَطَتْك يَهُودِيَّةٌ يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ ؛ بَلْ أَبْنِيهِ أَمَامَهَا وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَلَّى فِي قَبَلَيْهِ وَلَمْ يَذْهَبْ إلَى الصَّخْرَةِ . وَكَانُوا يُكَذِّبُونَ مَا يَنْقُلُهُ كَعْبٌ : أَنَّ اللَّهَ قَالَ لَهَا : أَنْتَ عَرْشِي الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ : مَنْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَيْفَ تَكُونُ
الصَّخْرَةُ عَرْشَهُ الْأَدْنَى وَلَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يُعَظِّمُونَهَا وَقَالُوا : إنَّمَا بَنَى الْقُبَّةَ عَلَيْهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ لَمَّا كَانَ مُحَارِبًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ وَكَانَ النَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ فَيَجْتَمِعُونَ بِهِ عَظَّمَ الصَّخْرَةَ ؛ لِيَشْتَغِلُوا بِزِيَارَتِهَا عَنْ جِهَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَإِلَّا فَلَا مُوجِبَ فِي شَرِيعَتِنَا لِتَعْظِيمِ الصَّخْرَةِ وَبِنَاءِ الْقُبَّةِ عَلَيْهَا وَسَتْرِهَا بِالْأَنْطَاعِ وَالْجُوخِ . وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ شَرِيعَتِنَا : لَكَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَمُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَحَقَّ بِذَلِكَ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَمُ بِسُنَّتِهِ وَأَتْبَعُ لَهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ لَمْ يَكُونُوا يَنْتَابُونَ قَبْرَ الْخَلِيلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ بَلْ وَلَا فَتَحُوهُ ؛ بَلْ وَلَا بَنَوْا عَلَى قَبْرِ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَسْجِدًا ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَلَمَّا ظَهَرَ قَبْرُ دَانْيَالَ بتستر كَتَبَ فِيهِ أَبُو مُوسَى إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ إذَا كَانَ بِالنَّهَارِ فَاحْفِرْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا ثُمَّ ادْفِنْهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَعَفِّرْ قَبْرَهُ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ وَقَدْ تَأَمَّلْت الْآثَارَ الَّتِي تُرْوَى فِي قَصْدِ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ وَالدُّعَاءِ
عِنْدَهَا أَوْ الصَّلَاةِ فَلَمْ أَجِدْ لَهَا عَنْ الصَّحَابَةِ أَصْلًا بَلْ أَصْلُهَا عَمَّنْ أَخَذَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . فَمِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ أَنْ تُمَيِّزَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَلَا تَخْلِطَهُ بِغَيْرِهِ وَلَا تَلْبِسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ كَفِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ وَأَتَمَّ عَلَيْنَا النِّعْمَةَ وَرَضِيَ لَنَا الْإِسْلَامَ دِينًا . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ السُّبُلُ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } } . وَجِمَاعُ ذَلِكَ بِحِفْظِ أَصْلَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " تَحْقِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُخْلَطُ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ الضَّعِيفَةِ وَالتَّفْسِيرَاتِ الْبَاطِلَةِ بَلْ يُعْطَى حَقَّهُ مِنْ مَعْرِفَةِ نَقْلِهِ وَدَلَالَتِهِ .