الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
وَأَيْضًا فَلَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ نَسَخَهُ إلَّا قُرْآنٌ . وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ قَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } . وَالْفَرَائِضُ الْمُقَدَّرَةُ مِنْ حُدُودِهِ وَلِهَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِبَ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ فَمَنْ أَعْطَى صَاحِبَ الْفَرَائِضِ أَكْثَرَ مِنْ فَرْضِهِ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ بِأَنْ نَقَصَ هَذَا حَقَّهُ وَزَاد هَذَا عَلَى حَقِّهِ فَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَهُوَ النَّاسِخُ .
فَصْلٌ :
وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ - وَهُوَ مَقَامُ حِكْمَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ - عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ : فَالْمُعْتَزِلَةُ الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ : إنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ كَانَ حَسَنًا وَقَبِيحًا قَبْلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَاشِفٌ عَنْ صِفَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا لَا يُكْسِبُهُ حَسَنًا وَلَا قُبْحًا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَأْمُرَ وَيَنْهَى لِحِكْمَةِ تَنْشَأُ مِنْ الْأَمْرِ نَفْسِهِ . وَلِهَذَا أَنْكَرُوا جَوَازَ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ كَمَا فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ وَنَسْخِ الْخَمْسِينَ صَلَاةً الَّتِي أَمَرَ بِهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ إلَى خَمْسٍ وَوَافَقَهُمْ عَلَى مَنْعِ النَّسْخِ قَبْلَ وَقْتِ الْعِبَادَةِ
طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حِكْمَةٍ تَكُونُ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَى عَنْ نَفْسِ مَا أَمَرَ بِهِ . وَهَذَا قِيَاسُ مَنْ يَقُولُ إنَّ النَّسْخَ تَخْصِيصٌ فِي الْأَزْمَانِ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ بِرَفْعِ جَمِيعِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ لَكِنَّهُمْ تَنَاقَضُوا وَالْجَهْمِيَّة الْجَبْرِيَّةُ يَقُولُونَ : لَيْسَ لِلْأَمْرِ حِكْمَةٌ تَنْشَأُ لَا مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا مِنْ نَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا يَخْلُقُ اللَّهُ شَيْئًا لِحِكْمَةِ وَلَكِنْ نَفْسُ الْمَشِيئَةِ أَوْجَبَتْ وُقُوعَ مَا وَقَعَ وَتَخْصِيصَ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِلَا مُخَصَّصٍ وَلَيْسَتْ الْحَسَنَاتُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ وَلَا السَّيِّئَاتُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ وَلَا لِوَاحِدِ مِنْهُمَا صِفَةٌ صَارَ بِهَا حَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ بَلْ لَا مَعْنَى لِلْحَسَنَةِ إلَّا مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهَا وَلَا مَعْنَى لِلسَّيِّئَةِ إلَّا مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ أَمْرٍ حَتَّى الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَيَجُوزُ أَنْ يُنْهِيَ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ حَتَّى عَنْ التَّوْحِيدِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَهُوَ لَوْ فُعِلَ لَكَانَ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِالتَّوْحِيدِ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَنَهَى عَنْ الشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالظُّلْمِ . هَكَذَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : يَجُوزُ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَا لَا يُنَافِي مَعْرِفَةَ الْأَمْرِ . بِخِلَافِ مَا يُنَافِي مَعْرِفَتَهُ . وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ سَبَبٌ وَلَكِنْ إذَا اقْتَرَنَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ بِالْآخَرِ خُلُقًا أَوْ شَرْعًا صَارَ عَلَامَةً عَلَيْهِ فَالْأَعْمَالُ مُجَرَّدُ عَلَامَاتٍ مَحْضَةٍ لَا أَسْبَابَ مُقْتَضِيَةً . وَقَالُوا : أَمْرُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْإِيمَانِ مَعْنَاهُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمْ
وَعَدَمُ إيمَانِكُمْ عَلَامَةٌ عَلَى الْعَذَابِ . وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ بِالْإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُؤْمِنُ مَعْنَاهُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُثِيبَك وَالْإِيمَانُ عَلَامَةٌ . وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَنْفِي الْقِيَاسَ فِي الشَّرْعِ وَالتَّعْلِيلَ لِلْأَحْكَامِ وَمَنْ أَثْبَتَ الْقِيَاسَ مِنْهُمْ لَمْ يَجْعَلْ الْعِلَلَ إلَّا مُجَرَّدَ عَلَامَاتٍ . ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هَذَا قَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى الْعِلَّةِ ؟ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ عَلَامَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا تُطْلَبُ عِلَّتُهُ بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ ثُبُوتُ الْجَحِيمِ وَحِينَئِذٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْعَلَامَةِ . وَأَمَّا الْفَرْعُ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً لَهُ حَتَّى يَكُونَ عِلَّةً لِلْأَصْلِ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ الْعِلَلَ الْمُنَاسِبَةَ وَيَقُولُ : الْمُنَاسَبَةُ لَيْسَتْ طَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ الْعِلَلِ وَهُمْ أَكْثَرُ أَصْحَابِ هَذَا الْقَوْلِ . وَمَنْ قَالَ بِالْمُنَاسَبَةِ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ يَقُولُ إنَّهُ قَدْ اعْتَبَرَ فِي الشَّرْعِ اعْتِبَارَ الْمُنَاسِبِ فَيَسْتَدِلُّ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ لَا لِأَنَّ الشَّارِعَ حَكَمَ بِمَا حَكَمَ بِهِ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْحُكْمِ وَلَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ أَصْلًا فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ وَلَا أَمْرِهِ لَامُ كَيْ . فَجَهْمٌ - رَأْسُ الْجَبْرِيَّةِ - وَأَتْبَاعُهُ فِي طَرَفٍ وَالْقَدَرِيَّةُ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ . وَأَمَّا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كَالْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْمُتَكَلِّمِين فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ فَيُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ وَيُقِرُّونَ بِالشَّرْعِ وَيُقِرُّونَ بِالْحِكْمَةِ لِلَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ - لَكِنْ قَدْ يَعْرِفُ أَحَدُهُمْ الْحِكْمَةَ وَقَدْ لَا يَعْرِفُهَا -
وَيُقِرُّونَ بِمَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَمَا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي جَعَلَهَا رَحْمَةً بِعِبَادِهِ مَعَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَغَيْرُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ فَعَدْلٌ وَحِكْمَةٌ سَوَاءٌ عَرَفَ الْعَبْدُ وَجْهَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ . وَالْحِكْمَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ الْأَمْرِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ - وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ - كَمَا فِي الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْحَاصِلَةِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَاَللَّهُ يَأْمُرُ بِالصَّلَاحِ وَيَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : أَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ صَارَ مُتَّصِفًا بِحُسْنِ اكْتَسَبَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَقُبْحٍ اكْتَسَبَهُ مِنْ النَّهْيِ كَالْخَمْرِ الَّتِي كَانَتْ لَمْ تُحَرَّمُ ثُمَّ حُرِّمَتْ فَصَارَتْ خَبِيثَةً وَالصَّلَاةُ إلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي كَانَتْ حَسَنَةً فَلَمَّا نَهَى عَنْهَا صَارَتْ قَبِيحَةً . فَإِنَّ مَا أَمَرَ بِهِ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَمَا نَهَى عَنْهُ يُبْغِضُهُ وَيَسْخَطُهُ . وَهُوَ إذَا أَحَبَّ عَبْدًا وَوَالَاهُ أَعْطَاهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ مَا يَمْتَازُ بِهَا عَلَى مَنْ أَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ . وَكَذَلِكَ الْمَكَانُ وَالزَّمَانُ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ - كَالْكَعْبَةِ وَشَهْرِ رَمَضَانَ - يَخُصُّهُ بِصِفَاتِ يُمَيِّزُهُ بِهَا عَلَى مَا سِوَاهُ بِحَيْثُ يَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ مِنْ رَحْمَتِهِ
وَإِحْسَانِهِ وَنِعْمَتِهِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : الْخَمْرُ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فَتَخْصِيصُهَا بِالْخُبْثِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ ؟ . قِيلَ : لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا حَرَّمَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَتْ الْحِكْمَةُ تَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا . وَلَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ حَسَنًا وَسَيِّئًا مِثْلَ كَوْنِهِ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ كَوْنِهِ نَافِعًا وَضَارًّا وَمُلَائِمًا وَمُنَافِرًا وَصِدِّيقًا وَعَدُوًّا وَنَحْوَ هَذَا مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِالْمَوْصُوفِ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ : فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ نَافِعًا فِي وَقْتٍ ضَارًّا فِي وَقْتٍ وَالشَّيْءُ الضَّارُّ قَدْ يُتْرَكُ تَحْرِيمُهُ إذَا كَانَتْ مَفْسَدَةُ التَّحْرِيمِ أَرْجَحَ كَمَا لَوْ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ كَانَتْ قَدْ اعْتَادَتْهَا عَادَةً شَدِيدَةً وَلَمْ يَكُنْ حَصَلَ عِنْدَهُمْ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ مَا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ وَلَا كَانَ إيمَانُهُمْ وَدِينُهُمْ تَامًّا حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَقْصٌ إلَّا مَا يَحْصُلُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ صَدِّهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَلِهَذَا وَقَعَ التَّدْرِيجُ فِي تَحْرِيمِهَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَوَّلًا فِيهَا : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ثُمَّ أَنْزَلَ فِيهَا - لَمَّا شَرِبَهَا طَائِفَةٌ وَصَلَّوْا فَغَلِطَ الْإِمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ - آيَةُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ سُكَارَى : ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّحْرِيمِ :
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ نَاشِئَةً مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ فِي الْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ مَصْلَحَةٌ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ ابْتِلَاءُ الْعَبْدِ هَلْ يُطِيعُ أَوْ يَعْصِي فَإِذَا اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ وَعَزَمَ عَلَى الْفِعْلِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ فَيُنْسَخُ حِينَئِذٍ كَمَا جَرَى لِلْخَلِيلِ فِي قِصَّةِ الذَّبْحِ : فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ مَصْلَحَةً وَلَا كَانَ هُوَ مَطْلُوبُ الرَّبِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ كَانَ مُرَادُ الرَّبِّ ابْتِلَاءَ إبْرَاهِيمَ لِيُقَدِّمَ طَاعَةَ رَبِّهِ وَمَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْوَلَدِ وَلَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ الْتِفَاتٌ إلَى غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْوَلَدَ مَحَبَّةً شَدِيدَةً وَكَانَ قَدْ سَأَلَ اللَّهُ أَنْ يَهَبَهُ إيَّاهُ - وَهُوَ خَلِيلُ اللَّهِ - فَأَرَادَ تَعَالَى تَكْمِيلَ خَلَّتِهِ لِلَّهِ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِي قَلْبِهِ مَا يُزَاحِمُ بِهِ مُحِبَّةَ رَبِّهِ : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ } { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } { إنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ } وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى كَانَ الْمَقْصُودُ ابْتِلَاءَهُمْ لَا نَفْسَ الْفِعْلِ . وَهَذَا الْوَجْهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مِمَّا خَفِيَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمْ يَعْرِفُوا وَجْهَ الْحِكْمَةِ النَّاشِئَةِ مِنْ الْأَمْرِ وَلَا مِنْ الْمَأْمُورِ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ بَلْ لَمْ يَعْرِفُوا إلَّا الْأَوَّلَ . وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا الْحِكْمَةَ عِنْدَهُمْ الْجَمِيعُ سَوَاءٌ لَا يَعْتَبِرُونَ حِكْمَةً وَلَا تَخْصِيصَ فِعْلٍ بِأَمْرِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِمْ . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ يَتَكَلَّمُونَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فَيَبْنُونَ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الَّتِي لَهُمْ وَلَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ أَقْوَالِهِمْ إلَّا
مَنْ عَرَفَ مَأْخَذَهُمْ فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ قَدْ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِهَا مُمَاثِلَةً لِسَائِرِ السُّوَرِ وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ مُمَاثِلَةٌ لِسَائِرِ الْآيَاتِ وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِكَثْرَةِ ثَوَابِ قَارِئِهَا أَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ الْفَاتِحَةُ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إلَّا لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا صِفَةٌ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِ جَهْمٍ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ وَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ . وَكَتَبَ السُّنَّةُ الْمَعْرُوفَةُ الَّتِي فِيهَا آثَارُ السَّلَفِ يَذْكُرُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا وَيَجْعَلُ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلَ الْجَبْرِيَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِجَهْمِ فِي أَقْوَالِ الْقَدَرِيَّةِ الْجَبْرِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَالسَّلَفُ كَانُوا يُنْكِرُونَ قَوْلَ الْجَبْرِيَّةِ الْجَهْمِيَّة كَمَا يُنْكِرُونَ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ الْقَدَرِيَّةِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَالزُّبَيْدِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَسَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي كُتُبِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعِهِ وَذَكَرْت أَقْوَالَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ . وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا هُنَا عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ وَلَا يَظُنُّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ إلَّا الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قَوْلَ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ الْمُجَبِّرَةِ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ أَيْضًا الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِقَوْلِ جَهْمٍ . وَهَذَا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُ
أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ . وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الَّتِي فِيهَا أَقْوَالُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا أَقْوَالُهُمْ فِي الْفِقْهِ كَثِيرًا وَالْعُلَمَاءُ الْأَكَابِرُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبِعَةِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ وَكَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا أَقْوَالُ السَّلَفِ عَلَى وَجْهِ الِاتِّبَاعِ مِنْ تَصْنِيفِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِيهَا . وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَسَائِلِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ جَاهِلِينَ بِهَا وَلَا مُعْرِضِينَ عَنْهَا . بَلْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا قَالُوهُ فَهُوَ الْجَاهِلُ بِالْحَقِّ فِيهَا وَبِأَقْوَالِ السَّلَفِ وَبِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالصَّوَابُ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَقَوْلُهُمْ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ : تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ فُتْيَا صُورَتُهَا :
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ : " إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ " فَكَيْفَ ذَلِكَ مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهَا وَكَثْرَةِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ ؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بَيَانًا مَبْسُوطًا شَافِيًا وَأَفْتُونَا مَأْجُورِينَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا صُورَتُهُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ؛ الْأَحَادِيثُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَأَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مِنْ أَصَحِّ الْأَحَادِيثِ وَأَشْهَرِهَا حَتَّى قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْحُفَّاظِ كالدارقطني : لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِ سُورَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَكْثَرُ مِمَّا صَحَّ عَنْهُ فِي فَضْلِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَجَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِالْأَلْفَاظِ كَقَوْلِهِ : { { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَقَوْلِهِ : { مَنْ قَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
مَرَّةً فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَمَنْ قَرَأَهَا مَرَّتَيْنِ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلْثَيْ الْقُرْآنِ وَمَنْ قَرَأَهَا ثَلَاثًا فَكَأَنَّمَا قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ } وَقَوْلِهِ لِلنَّاسِ : { احْتَشِدُوا حَتَّى أَقْرَأَ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَحَشَدُوا حَتَّى قَرَأَ عَلَيْهِمْ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } قَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } . وَأَمَّا تَوْجِيهُ ذَلِكَ : فَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّ الْقُرْآنَ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ ثَلَاثَةُ أَثْلَاثٍ : ثُلُثٌ تَوْحِيدٌ وَثُلُثٌ قَصَصٌ وَثُلُثٌ أَمْرٌ وَنَهْيٌ . و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَنِ وَنَسَبُهُ وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَلَامُ إمَّا إنْشَاءٌ وَإِمَّا إخْبَارٌ فَالْإِنْشَاءُ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ كَالْإِبَاحَةِ وَنَحْوِهَا وَهُوَ الْإِحْكَامُ . وَالْإِخْبَارُ : إمَّا إخْبَارٌ عَنْ الْخَالِقِ وَإِمَّا إخْبَارٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ فَالْإِخْبَارُ عَنْ الْخَالِقِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْمَخْلُوقِ هُوَ الْقَصَصُ وَهُوَ الْخَبَرُ عَمَّا كَانَ وَعَمَّا يَكُونُ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْخَبَرُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ وَمَنْ كَذَّبَهُمْ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . قَالُوا : فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَكُونُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ ثُلُثُ مَعَانِي الْقُرْآنِ . بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : فَإِذَا كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مَعَ قِلَّةِ حُرُوفِهَا كَانَ
لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْقُرْآنِ . فَيُقَالُ فِي جَوَابِ ذَلِكَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } وَعَدْلُ الشَّيْءِ - بِالْفَتْحِ - يُقَالُ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } فَجَعَلَ الصِّيَامَ عَدْلَ كَفَّارَةٍ وَهُمَا جِنْسَانِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الثَّوَابَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْجَنَّةِ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَبْدُ وَيَلْتَذُّ بِهِ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ وَمَنْكُوحٍ وَمَشْمُومٍ هُوَ مِنْ الثَّوَابِ وَأَعْلَاهُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا كَانَتْ أَحْوَالُ الدُّنْيَا لِاخْتِلَافِ مَنَافِعِهَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا كُلِّهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا يَعْدِلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ فِي الصُّورَةِ كَمَا أَنَّ أَلْفَ دِينَارٍ تَعْدِلُ مِنْ الْفِضَّةِ وَالطَّعَامِ وَالثِّيَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا ثُمَّ مَنْ مَلَكَ الذَّهَبَ فَقَدْ مَلَكَ مَا يَعْدِلُ مِقْدَارَ أَلْفِ دِينَارٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَغْنِي بِذَلِكَ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَالِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ وَقَعَتْ فِي الْقَدْرِ لَا فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَكَذَلِكَ ثَوَابُ : ( { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَإِنْ كَانَ يَعْدِلُ ثَوَابَ ثُلُثِ الْقُرْآنِ فِي الْقَدْرِ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ فِي النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَأَمَّا سَائِرُ الْقُرْآنِ فَفِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعِبَادُ فَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ مُحْتَاجِينَ لِسَائِرِ الْقُرْآنِ وَمُنْتَفِعِينَ بِهِ مَنْفَعَةً لَا تُغْنِي عَنْهَا هَذِهِ السُّورَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ . فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَصْلٍ : وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ هَلْ يَتَفَاضَلُ فِي
نَفْسِهِ فَيَكُونُ بَعْضُهُ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ ؟ وَهَذَا فِيهِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَتَفَاضَلُ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ صِفَةٌ لَهُ قَالُوا : وَصِفَةُ اللَّهِ لَا تَتَفَاضَلُ . لَا سِيَّمَا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ قَدِيمٌ فَإِنَّ الْقَدِيمَ لَا يَتَفَاضَلُ كَذَلِكَ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } قَالُوا فَخَيْرٍ إنَّمَا يَعُودُ إلَى غَيْرِ الْآيَةِ مِثْلَ نَفْعِ الْعِبَادِ وَثَوَابِهِمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ ؛ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي الْفَاتِحَةِ : أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا الزَّبُورِ وَلَا الْقُرْآنِ مِثْلُهَا } فَنَفَى أَنْ يَكُونَ لَهَا مِثْلٌ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مُتَمَاثِلٌ ؟ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ قَالَ لأبي بْنِ كَعْبٍ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ؛ أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ لَهُ ليهنك الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ } فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَهَذَا بَيَّنَ أَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ أَعْظَمُ مِنْ بَعْضٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْكَلَامُ يَشْرُفُ بِالْمُتَكَلِّمِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَوْ أَمْرًا فَالْخَبَرُ يَشْرُفُ بِشَرَفِ الْمُخْبِرِ وَبِشَرَفِ الْمَخْبَرِ عَنْهُ وَالْأَمْرُ يَشْرُفُ بِشَرَفِ الْآمِرُ وَبِشَرَفِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالْقُرْآنُ وَإِنْ كَانَ
كُلُّهُ مُشْتَرِكًا فَإِنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ لَكِنَّ مِنْهُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَمِنْهُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ وَمِنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فَمِنْهُ مَا أَمَرَهُمْ فِيهِ بِالْإِيمَانِ وَنَهَاهُمْ فِيهِ عَنْ الشِّرْكِ وَمِنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ وَنَهَاهُمْ فِيهِ عَنْ الرِّبَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ : ك { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أَعْظَمُ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ : ك { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَمَا أَمَرَ فِيهِ بِالْإِيمَانِ . وَمَا نَهَى فِيهِ عَنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِمَّا أَمَرَ فِيهِ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ وَنَهَى فِيهِ عَنْ الرِّبَا وَلِهَذَا كَانَ كَلَامُ الْعَبْدِ مُشْتَرِكًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ وَهُوَ كَلَامٌ لِمُتَكَلِّمِ وَاحِدٍ ثُمَّ إنَّهُ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ فَكَلَامُ الْعَبْدِ الَّذِي يَذْكُرُ بِهِ رَبَّهُ وَيَأْمُرُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى فِيهِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي يَذْكُرُ فِيهِ خَلْقَهُ وَيَأْمُرُ فِيهِ بِمُبَاحِ أَوْ مَحْظُورٍ وَإِنَّمَا غَلِطَ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ إلَى إحْدَى جِهَتَيْ الْكَلَامِ وَهِيَ جِهَةُ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْ الْجِهَةِ الْأُخْرَى وَهِيَ جِهَةُ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ وَكِلَاهُمَا لِلْكَلَامِ بِهِ تَعَلُّقٌ يَحْصُلُ بِهِ التَّفَاضُلُ وَالتَّمَاثُلُ . قَالُوا : وَمَنْ أَعَادَ التَّفَاضُلَ إلَى مُجَرَّدِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ أَوْ قِلَّتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ أَفْضَلَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ عَمَلَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَثَوَابُ أَحَدِهِمَا أَضْعَافُ ثَوَابِ الْآخَرِ مَعَ أَنَّ الْعَمَلَيْنِ فِي أَنْفُسِهِمَا لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِمَزِيَّةِ بَلْ كَدِرْهَمِ وَدِرْهَمٍ تَصَدَّقَ بِهِمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَمَكَانٍ
وَاحِدٍ عَلَى اثْنَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَنِيَّتُهُ بِهِمَا وَاحِدَةٌ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ بِفَضِيلَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ ثَوَابُ أَحَدِهِمَا أَضْعَافَ ثَوَابِ الْآخَرِ بَلْ تَفَاضُلُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ دَلِيلٌ عَلَى تَفَاضُلِ الْأَعْمَالِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ . وَهَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِالْكَلَامِ فِي اشْتِمَالِ الْأَعْمَالِ عَلَى صِفَاتٍ بِهَا كَانَتْ صَالِحَةً حَسَنَةً وَبِهَا كَانَتْ فَاسِدَةً قَبِيحَةً . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : صِفَاتُ اللَّهِ لَا تَتَفَاضَلُ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ قَوْلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مَوْرِدُ النِّزَاعِ وَمَنْ الَّذِي جَعَلَ صِفَتَهُ الَّتِي هِيَ الرَّحْمَةُ لَا تَفْضُلُ عَلَى صِفَتِهِ الَّتِي هِيَ الْغَضَبُ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ فِي كِتَابٍ مَوْضُوعٍ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي - وَفِي رِوَايَةٍ - تَسْبِقُ غَضَبِي } وَصِفَةُ الْمَوْصُوفِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالرِّضَا وَالْغَضَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ تَتَفَاضَلُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَعْضَ الصِّفَاتِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَأَدْخَلَ فِي كُلِّ الْمَوْصُوفِ بِهَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اتِّصَافَ الْعَبْدِ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ أَفْضَلُ مِنْ اتِّصَافِهِ بِضِدِّ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِضِدِّ ذَلِكَ وَلَا يُوصَفُ إلَّا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُدْعَى بِهَا فَلَا يُدْعَى إلَّا بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَسْمَاؤُهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِصِفَاتِهِ وَبَعْضُ أَسْمَائِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ
وَأُدْخِلَ فِي كَمَالِ الْمَوْصُوفِ بِهَا ؛ وَلِهَذَا فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ : { أَسْأَلُك بِاسْمِك الْعَظِيمِ الْأَعْظَمِ الْكَبِيرِ الْأَكْبَرِ } وَ { لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَتَفَاضُلُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ الْأُمُورِ الْبَيِّنَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الصِّفَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ تَتَفَاضَلُ فَالْأَمْرُ بِمَأْمُورِ يَكُونُ أَكْمَلَ مِنْ الْأَمْرِ بِمَأْمُورِ آخَرَ وَالرِّضَا عَنْ النَّبِيِّينَ أَعْظَمُ مِنْ الرِّضَا عَمَّنْ دُونَهُمْ وَالرَّحْمَةُ لَهُمْ أَكْمَلُ مِنْ الرَّحْمَةِ لِغَيْرِهِمْ وَتَكْلِيمُ اللَّهِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ أَكْمَلُ مِنْ تَكْلِيمِهِ لِبَعْضِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ هَذَا الْبَابِ وَكَمَا أَنَّ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ مُتَنَوِّعَةٌ فَهِيَ أَيْضًا مُتَفَاضِلَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ مَعَ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا شُبْهَةُ مَنْ مَنَعَ تَفَاضُلَهَا مِنْ جِنْسِ شُبْهَةِ مَنْ مَنَعَ تَعَدُّدَهَا وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ . كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة لَمَّا ادَّعَوْهُ مِنْ التَّرْكِيبِ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا مَبْسُوطًا فِي مَوْضِعِهِ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ . هَلْ يَقْرَأُ ( سُورَةَ الْإِخْلَاصِ ) مَرَّةً أَوْ ثَلَاثًا ؟ وَمَا السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَهَا كَمَا فِي الْمُصْحَفِ مَرَّةً وَاحِدَةً هَكَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ ؛ لِئَلَّا يُزَادَ عَلَى مَا فِي الْمُصْحَفِ . وَأَمَّا إذَا قَرَأَهَا وَحْدَهَا أَوْ مَعَ بَعْضِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ إذَا قَرَأَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَدَلَتْ الْقُرْآنَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ . وَمَنْ يَضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ :
فِي تَفْسِيرِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ }
وَالِاسْمُ " الصَّمَدُ " فِيهِ لِلسَّلَفِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَدْ يُظَنُّ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ كُلُّهَا صَوَابٌ . وَالْمَشْهُورُ مِنْهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصَّمَدَ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ وَالْأَوَّلُ هُوَ قَوْلُ
أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَالثَّانِي قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَجُمْهُورِ اللُّغَوِيِّينَ وَالْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ السَّلَفِ بِأَسَانِيدِهَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْمُسْنَدَةِ وَفِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ كَتَبْنَا مِنْ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا بِإِسْنَادِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ . وَتَفْسِيرُ " الصَّمَدِ " بِأَنَّهُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ مَعْرُوفٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمُجَاهِدٍ . وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ وَالضَّحَّاكِ والسدي وقتادة وَبِمَعْنَى ذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ : هُوَ الَّذِي لَا حَشْوَ لَهُ . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : هُوَ الَّذِي لَيْسَتْ لَهُ أَحْشَاءٌ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّعْبِيُّ : هُوَ الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القرظي وَعِكْرِمَةَ : هُوَ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ . وَعَنْ مَيْسَرَةَ قَالَ : هُوَ الْمُصْمَتُ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : كَأَنَّ الدَّالَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مُبْدَلَةٌ مِنْ تَاءٍ والصمت مِنْ هَذَا . قُلْت : لَا إبْدَالَ فِي هَذَا وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَجْهَ الْقَوْلِ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ وَاللُّغَةِ . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعْدٍ الصغاني : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِي
عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ : { أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُنْسُبْ لَنَا رَبَّك فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ . قَالَ : الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إلَّا سَيَمُوتُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلَّا سَيُورَثُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ } . وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِأَنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ فَهُوَ أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا فَهُوَ مِنْ تَفْسِيرِ الْوَالِبِيَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ : ( الصَّمَدُ ) السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ : هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى سُؤْدُدُهُ . وَعَنْ أَبِي إسْحَاقَ الْكُوفِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ الصَّمَدُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ . وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ : الَّذِي لَا يُكَافِئُهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدٌ وَعَنْ السدي أَيْضًا : هُوَ الْمَقْصُودُ إلَيْهِ فِي الرَّغَائِبِ وَالْمُسْتَغَاثِ بِهِ عِنْدَ الْمَصَائِبِ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْمُسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ أَحَدٍ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا : الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ . وَعَنْ الرَّبِيعِ الَّذِي لَا تَعْتَرِيهِ الْآفَاتُ . وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ الَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ . وَعَنْ ابْنِ كيسان هُوَ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِصِفَتِهِ أَحَدٌ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ : لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الصَّمَدَ السَّيِّدَ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ الَّذِي يَصْمُدُ إلَيْهِ النَّاسُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَأُمُورِهِمْ .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ هُوَ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ السُّؤْدُدُ فَقَدْ صَمَدَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ أَيْ قَصَدَ قَصْدَهُ وَقَدْ أَنْشَدُوا فِي هَذَا بَيْتَيْنِ مَشْهُورَيْنِ أَحَدُهُمَا :
أَلَا بَكْرٌ النَّاعِي بِخَيْرَيْ بَنِي أَسَدٍ * * * بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدِ
وَقَالَ الْآخَرُ :
عَلَوْته بِحُسَامِي ثُمَّ قُلْت لَهُ * * * خُذْهَا حذيف فَأَنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ : الصَّمَدُ هُوَ السَّيِّدُ الْمَقْصُودُ فِي الْحَوَائِجِ تَقُولُ الْعَرَبُ صمدت فُلَانًا أصمده - بِكَسْرِ الْمِيمِ - وَأَصْمُدُهُ - بِضَمِّ الْمِيمِ - صَمْدًا - بِسُكُونِ الْمِيمِ - إذَا قَصَدْته وَالْمَصْمُودُ صَمَدَ كَالْقَبْضِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ وَالنَّقْضُ بِمَعْنَى الْمَنْقُوضِ وَيُقَالُ بَيْتٌ مَصْمُودٌ وَمُصَمَّدٌ إذَا قَصَدَهُ النَّاسُ فِي حَوَائِجِهِمْ قَالَ طرفة :
وَأَنْ يَلْتَقِ الْحَيُّ الْجَمِيعُ تُلَاقِنِي * * * إلَى ذُرْوَةِ الْبَيْتِ الرَّفِيعِ الْمُصَمَّدِ
وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : صَمَدَهُ يَصْمُدُهُ صَمْدًا إذَا قَصَدَهُ وَالصَّمَدُ بِالتَّحْرِيكِ السَّيِّدُ لِأَنَّهُ يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ وَيُقَالُ بَيْتٌ مُصَمَّدٌ بِالتَّشْدِيدِ أَيْ مَقْصُودٌ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيَّ : أَصَحُّ الْوُجُوهِ أَنَّهُ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْحَوَائِجِ لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ يَشْهَدُ لَهُ فَإِنَّ أَصْلَ الصَّمَدِ الْقَصْدُ يُقَالُ : اُصْمُدْ صَمْدَ فُلَانٍ أَيْ اقْصِدْ قَصْدَهُ فَالصَّمَدُ السَّيِّدُ الَّذِي يُصْمَدُ إلَيْهِ فِي الْأُمُورِ وَيُقْصَدُ فِي الْحَوَائِجِ وَقَالَ قتادة : الصَّمَدُ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُعْمَرٌ : هُوَ الدَّائِمُ وَقَدْ جَعَلَ الْخَطَّابِيَّ وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : الْأَقْوَالُ فِيهِ أَرْبَعَةٌ هَذَيْنِ وَاَللَّذَيْنِ تَقَدَّمَا . وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ بَقَاءَهُ وَدَوَامَهُ مِنْ تَمَامِ الصَّمَدِيَّةِ . وَعَنْ مَرَّةٍ الهمداني هُوَ الَّذِي لَا يَبْلَى وَلَا يَفْنَى . وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ : هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ . وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ : هُوَ الْمُتَعَالِي عَنْ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ . وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ : الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَتَبَيَّنْ عَلَيْهِ أَثَرٌ فِيمَا أَظْهَرَ يُرِيدُ قَوْلَهُ : { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ : هُوَ الْأَزَلِيُّ بِلَا ابْتِدَاءٍ وَقَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ : هُوَ الْأَوَّلُ بِلَا عَدَدٍ وَالْبَاقِي بِلَا أَمَدٍ وَالْقَائِمُ بِلَا عَمْدٍ . وَقَالَ أَيْضًا الصَّمَدُ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَلَا تَحْوِيهِ الْأَفْكَارُ وَلَا تَبْلُغُهُ الْأَقْطَارُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارِ . وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي جَلَّ عَنْ شَبَهِ الْمُصَوِّرِينَ . وَقِيلَ هُوَ بِمَعْنَى نَفْيِ التجزي وَالتَّأْلِيفِ عَنْ ذَاتِهِ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَقِيلَ هُوَ الَّذِي أيست الْعُقُولُ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى كَيْفِيَّتِهِ . وَكَذَلِكَ قِيلَ هُوَ الَّذِي لَا تُدْرِكُ حَقِيقَةَ نُعُوتِهِ
وَصِفَاتِهِ فَلَا يَتَّسِعُ لَهُ اللِّسَانُ وَلَا يُشِيرُ إلَيْهِ الْبَنَانُ . وَقِيلَ هُوَ الَّذِي لَمْ يُعْطِ خَلْقَهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ إلَّا الِاسْمَ وَالصِّفَةَ . وَعَنْ الْجُنَيْد قَالَ : الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ لِأَعْدَائِهِ سَبِيلًا إلَى مَعْرِفَتِهِ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَا حَضَرْنَا مِنْ أَلْفَاظِ السَّلَفِ بِأَسَانِيدِهَا . فَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ : " ثنا أَبِي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ نفيع الجرشي ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى يَعْنِي أَبَا خَلَفٍ الْخَزَّازَ ثنا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ قَالَ : الصَّمَدُ الَّذِي تَصْمُدُ إلَيْهِ الْأَشْيَاءُ إذَا نَزَلَ بِهِمْ كُرْبَةٌ أَوْ بَلَاءٌ . حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَوَاءٍ السدوسي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ ثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : الصَّمَدُ الَّذِي يَصْمُدُ الْعِبَادُ إلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ حَدَّثَنَا أَبِي ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الضَّحَّاكِ ثنا سُوِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثنا سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : الصَّمَدُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَا زَوَالَ لَهُ . حَدَّثَنَا أَبِي ثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ ثنا يَزِيدُ بْنُ زريع عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : الصَّمَدُ الْبَاقِي بَعْدَ خَلْقِهِ وَهُوَ قَوْلُ قتادة حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثنا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) قَالَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ .
حَدَّثَنَا أَبِي ثنا أَبُو صَالِحٍ ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) قَالَ : السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي أَنْوَاعِ الشَّرَفِ وَالسُّؤْدُدِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذِهِ صِفَتُهُ لَا تَنْبَغِي لِأَحَدِ إلَّا لَهُ لَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ سُبْحَانَ اللَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ . حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ شِهَابٍ المذحجي الْقَزْوِينِيّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَابِقٍ ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِي عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) قَالَ : الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ ( الصَّمَدُ ) قَالَ : الَّذِي لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ . حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثنا أَبُو أَحْمَد ثنا مِنْدَلُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَطِيَّةَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَحْشَاءٌ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِثْلُهُ . حَدَّثَنَا أَبِي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرُّومِيُّ ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَائِدُ الْأَعْمَشِ عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بريدة عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَا أَعْلَمُهُ إلَّا قَدْ رَفَعَهُ قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَا جَوْفَ
لَهُ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطِيَّةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ وَالضَّحَّاكُ مِثْلُ ذَلِكَ . حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا قَبِيصَةَ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : الصَّمَدُ الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ . حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الطهراني ثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْعَدَنِيُّ ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ ( الصَّمَدُ ) قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَا يُطْعَمُ . حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ مَرْزُوقٍ ثَنَا هشيم عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ . حَدَّثَنَا أَبِي وَأَبُو زُرْعَةَ قَالَا ثَنَا أَحْمَد بْنُ مَنِيعٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْسِرٍ - يَعْنِي أَبَا سَعْدٍ الصغاني - ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِي عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يَلِدُ إلَّا يَمُوتُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلَّا يُورَثُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } قَالَ : لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبَهٌ وَلَا عِدْلٌ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ثنا مَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ ثنا أَبُو سَعْدٍ الصغاني . ثنا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِي عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ : " أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : اُنْسُبْ لَنَا رَبَّك فَأَنْزَلَ اللَّهُ
هَذِهِ السُّورَةَ " حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثنا الْعَبَّاسُ بْن الْوَلِيدِ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع عَنْ سَعِيد عَنْ قتادة { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُكَافِئُهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدٌ . حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الجرشي ثَنَا أَبُو خَلَفٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى ثَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { إنَّ الْيَهُودَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وحيي بْنُ أَخْطَبَ وجدي بْن أَخْطُبُ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّد صَفُّ لَنَا رَبّك الَّذِي بَعَثَك فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ } فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْوَلَدُ { وَلَمْ يُولَدْ } فَيَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ } وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري فِي تَفْسِيرِهِ : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ مَنِيعٍ الْمَرْوَزِي . وَمَحْمُودُ بْنُ خِدَاشٍ الطالقاني فَذَكَرَ مِثْلَ إسْنَادِ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أبي بْنِ كَعْبَ { سُؤَال الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُنْسُبْ لَنَا رَبّك فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } } . حَدَّثَنَا ابْنُ حميد ثَنَا يَحْيَى ابْنُ وَاضِحٍ ثَنَا الْحُسَيْنُ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عِكْرِمَةَ { أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبِرْنَا عَنْ صِفَةِ رَبِّك مَا هُوَ ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ } وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا شريح ثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُجَاهِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرٍ فَذَكَرَهُ قَالَ : وَقِيلَ : هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْيَهُودِ . حَدَّثَنَا ابْنُ حميد ثَنَا سَلَمَةُ ثَنَا ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ
قَالَ : { أَتَى رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ هَذَا اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَهُ ؟ فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اُنْتُقِعَ لَوْنُهُ ثُمَّ سَاوَرَهُمْ غَضَبًا لِرَبِّهِ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَسَكَّنَهُ وَقَالَ اخْفِضْ عَلَيْك جَنَاحَك يَا مُحَمَّدُ وَجَاءَهُ مِنْ اللَّهِ جَوَابٌ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } إلَى آخِرِهَا فَلَمَّا تَلَاهَا عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لَهُ : صِفْ لَنَا رَبَّك كَيْفَ خَلْقُهُ كَيْفَ عَضُدُهُ ؟ كَيْفَ سَاعِدُهُ ؟ وَكَيْفَ ذِرَاعُهُ فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِهِ الْأَوَّلِ وَسَاوَرَهُمْ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ : مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأَوْلَى وَأَتَاهُ بِجَوَابِ مَا سَأَلُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } } . وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ مَعْبَدٍ فِي ( كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة قَالَ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ ثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ ثَنِيّ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ثَنِيّ ضِرَارٌ عَنْ أَبَانَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { أَتَتْ يَهُودُ خَيْبَرَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِمِ خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُورِ الْحِجَابِ وَآدَمَ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ وَإِبْلِيسَ مِنْ لَهَبِ النَّارِ وَالسَّمَاءَ مِنْ دُخَانٍ وَالْأَرْضَ مِنْ زَبَدِ الْمَاءِ فَأَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّك ؟ قَالَ : فَلَمْ يُجِبْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } لَيْسَ لَهُ عُرُوقٌ شَعِبَ إلَيْهَا . الصَّمَدُ لَيْسَ بِأَجْوَفَ وَلَا يَأْكُلُ
وَلَا يَشْرَبُ { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدَ يُنْسَبُ إلَيْهِ { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ يَعْدِلُ مَكَانَهُ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا } الْحَدِيثَ . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سابور عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : ( الصَّمَدُ الَّذِي لَيْسَ بِأَجْوَفَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ( الصَّمَدُ الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ حَدَّثَنَا أَبُو كريب ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ مَثَلَهُ سَوَاءٌ . حَدَّثَنَا الْحَارِثُ ثَنَا الْحَسَنُ ثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مَثَلَهُ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : ( الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ إبْرَاهِيمَ ابْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ : أَرْسَلَنِي مُجَاهِدٌ إلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَسْأَلُهُ عَنْ ( الصَّمَدِ فَقَالَ : الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ثَنَا يَحْيَى ثَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : ( الصَّمَدُ الَّذِي لَا يُطْعِمُ الطَّعَامَ وَرَوَاهُ يَعْقُوبُ عَنْ هشيم عَنْ إسْمَاعِيلَ عَنْهُ قَالَ : لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ . حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ وَزَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ قَالَا : ثَنَا ابْنُ دَاوُد عَنْ الْمُسْتَقِيمِ ابْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : ( الصَّمَدُ الَّذِي لَا حَشْوَ
لَهُ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ثَنَا أَبُو مُعَاذٍ ثَنَا عُبَيْدٌ قَالَ : سَمِعْت الضَّحَّاكَ يَقُولُ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَرَوَى عَنْ ابْنِ بريدة فِيهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ قَالَ : وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي عُلَيَّة عَنْ أَبِي رَجَاءٍ سَمِعْت عِكْرِمَةَ قَالَ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ : لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : ( الصَّمَدُ ) الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ . وَقَالَ آخَرُونَ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَذَكَرَ حَدِيثَ أبي بْنَ كَعْبٍ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَاَلَّذِي فِيهِ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَمُوتُ وَلَا يُورَثُ قَالَ : وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى فِي سُؤْدُدِهِ قَالَ : وَثَنًا أَبُو السَّائِبِ ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ : ( الصَّمَدُ ) هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى فِي سُؤْدُدِهِ حَدَّثَنَا أَبُو كريب وَابْنُ بَشَّارٍ وَابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالُوا : ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ ( الصَّمَدُ السَّيِّدُ الَّذِي انْتَهَى فِي سُؤْدُدِهِ حَدَّثَنَا ابْنُ حميد ثَنَا مهران عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ مِثْلَهُ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ ثَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : ( الصَّمَدُ ) قَالَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدُدِهِ وَذَكَرَ مِثْلَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ كَمَا تَقَدَّمَ .
قُلْت : الِاشْتِقَاقُ يَشْهَدُ لِلْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ ( الصَّمَدَ ) الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَقَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ السَّيِّدُ وَهُوَ عَلَى الْأَوَّلِ أَدَلُّ ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ أَصْلٌ لِلثَّانِي وَلَفْظُ ( الصَّمَدِ ) يُقَالُ عَلَى مَا لَا جَوْفَ لَهُ فِي اللُّغَةِ . قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ الْمَلَائِكَةُ صَمَدٌ وَالْآدَمِيُّونَ جَوْفٌ وَفِي حَدِيثِ آدَمَ أَنَّ إبْلِيسَ قَالَ عَنْهُ أَنَّهُ أَجْوَفُ لَيْسَ بِصَمَدِ وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْمُصَمَّدُ لُغَةً فِي الْمُصْمَتِ وَهُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ قَالَ وَالصِّمَادُ عِفَاصُ الْقَارُورَةِ وَقَالَ : الصَّمَدُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْغَلِيظُ قَالَ أَبُو النَّجْمِ :
يُغَادِرُ الصَّمَدُ كَظَهْرِ الْأَجْزَل
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَادَّةِ الْجَمْعُ وَالْقُوَّةُ وَمِنْهُ يُقَالُ يَصْمُدُ الْمَالَ : أَيْ يَجْمَعُهُ وَكَذَلِكَ " السَّيِّدُ " أَصْله سيود اجْتَمَعَتْ يَاءٌ وَوَاوٌ وَسَبَقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ . كَمَا قِيلَ مَيِّتٌ وَأَصْلُهُ ميوت . وَالْمَادَّةُ فِي السَّوَادِ وَالسُّؤْدُدِ تَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ وَاللَّوْنُ الْأَسْوَدُ هُوَ الْجَامِعُ لِلْبَصَرِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } قَالَ أَكْثَرُ السَّلَفِ ( سَيِّدًا ) حَلِيمًا وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ . وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ . وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ . و أبي الشَّعْثَاءِ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ . وَمُقَاتِلٍ وَقَالَ : أَبُو رَوْقٍ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ الْحَسَنُ الْخُلُقِ . وَرَوَى سَالِمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ التَّقِيُّ وَلَا يَسُودُ الرَّجُلُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مُجْتَمِعَ الْخُلُقِ ثَابِتًا .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : مَا رَأَيْت بَعْد رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ فَقِيلَ لَهُ : وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ قَالَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ خَيْرًا مِنْهُ وَمَا رَأَيْت بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَةَ . قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : يَعْنِي بِهِ الْحَلِيمُ أَوْ قَالَ : الْكَرِيمُ وَلِهَذَا قِيلَ : إذَا شِئْت يَوْمًا أَنْ تَسُودَ قَبِيلَةً فَبِالْحِلْمِ سُدْ لَا بِالتَّسَرُّعِ وَالشَّتْمِ وَلِهَذَا فَسَّرَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ السَّيِّدَ بِأَنَّهُ سَيِّدُ قَوْمِهِ فِي الدِّينِ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : هُوَ الشَّرِيفُ وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الَّذِي يَفُوقُ قَوْمَهُ فِي الْخَيْرِ . وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : السَّيِّدُ هُنَا الرَّئِيسُ وَالْإِمَامُ فِي الْخَيْرِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ : هُوَ الْكَرِيمُ عَلَى رَبِّهِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ هُوَ الْفَقِيهُ الْعَالِمُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِعِفَاصِ الْقَارُورَةِ : صِمَادٌ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ الْعِفَاصُ جِلْدٌ يُلْبِسُهُ رَأْسَ الْقَارُورَةِ وَأَمَّا الَّذِي يَدْخُلُ فِي فَمِهِ فَهُوَ الصِّمَامُ وَقَدْ عَفَصْت الْقَارُورَةَ شَدَدْت عَلَيْهَا الْعِفَاصَ . ( قُلْت : وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اللُّقَطَةِ : { ثُمَّ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا } وَالْمُرَادُ بِالْعِفَاصِ : مَا يَكُونُ فِيهِ الدَّرَاهِمُ كَالْخِرْقَةِ الَّتِي تُرْبَطُ فِيهَا الدَّرَاهِمُ وَالْوِكَاءُ : مِثْلُ الْخَيْطِ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ عِفَاصِ الْقَارُورَةِ . وَلَفْظُ الْعَفْصِ وَالسَّدِّ وَالصَّمَدِ
وَالْجَمْعُ وَالسُّؤْدُدُ مَعَانِيهَا مُتَشَابِهَةٌ فِيهَا الْجَمْعُ وَالْقُوَّةُ وَيُقَالُ طَعَامٌ عَفْصٌ وَفِيهِ عُفُوصَةٌ ؛ أَيْ تَقْبِضُ وَمِنْهُ الْعَفْصُ الَّذِي يُتَّخَذُ مِنْهُ الْحِبْرُ . وَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : هُوَ مُوَلَّدٌ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَهَذَا لَا يَضُرُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ عَفَصٌ يُسَمُّونَهُ بِهَذَا الِاسْمِ لَكِنَّ التَّسْمِيَةَ بِهِ جَارِيَةٌ عَلَى أُصُولِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهُمْ لِمَا يَدْخُلُ فِي فَمِهَا صِمَامٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَادَّةَ فِيهَا مَعْنَى الْجَمْعِ وَالسَّدِّ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : صِمَامُ الْقَارُورَةِ سِدَادُهَا وَالْحَجَرُ الْأَصَمُّ الصُّلْبُ الْمُصْمَتُ وَالرَّجُلُ الْأَصَمُّ هُوَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ لِانْسِدَادِ سَمْعِهِ وَالرَّجُلُ الصِّمَّةُ الشُّجَاعُ وَالصِّمَّةُ الذَّكَرُ مِنْ الْحَيَّاتِ وَصَمِيمُ الشَّيْءِ خَالِصُهُ حَيْثُ لَمْ يَدْخُلُ إلَيْهِ مَا يُفَرِّقُهُ وَيُضْعِفُهُ يُقَالُ صَمِيمُ الْحَرِّ وَصَمِيمُ الْبَرْدِ وَفُلَانٌ مِنْ صَمِيمِ قَوْمِهِ وَالصَّمْصَامِ : الصَّارِمُ الْقَاطِعُ الَّذِي لَا يَنْثَنِي وَصَمَّمَ فِي السَّيْرِ وَغَيْرِهِ أَيْ مَضَى وَرَجُلٌ صُمٍّ أَيْ غَلِيظٌ . وَمِنْهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ الصَّوْمُ فَإِنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : كُلُّ مُمْسِكٍ عَنْ طَعَامٍ أَوْ كَلَامٍ أَوْ سَيْرٍ فَهُوَ صَائِمٌ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فِيهِ اجْتِمَاعٌ وَالصَّائِمُ لَا يَدْخُلُ جَوْفَهُ شَيْءُ وَيُقَالُ صَامَ الْفَرَسُ إذَا قَامَ فِي غَيْرِ اعْتِلَافٍ . قَالَ النَّابِغَةُ : خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللجما
وَكَذَلِكَ السَّدُّ وَالسَّدَادُ وَالسُّؤْدُدُ وَالسَّوَادُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الصَّمَدِ فِيهِ الْجَمْعُ وَالْجَمْعُ فِيهِ الْقُوَّةُ فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا اجْتَمَعَ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ خَلَلٌ كَانَ أَقْوَى مِمَّا إذَا كَانَ فِيهِ خُلُوٌّ . وَلِهَذَا يُقَالُ لِلْمَكَانِ الْغَلِيظِ الْمُرْتَفِعِ : صَمَدٌ لِقُوَّتِهِ وَتَمَاسُكِهِ وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِ وَالرَّجُلُ الصَّمَدُ هُوَ السَّيِّدُ الْمَصْمُودُ ؛ أَيْ الْمَقْصُودُ يُقَالُ قَصَدْته وَقَصَدْت لَهُ وَقَصَدْت إلَيْهِ وَكَذَلِكَ هُوَ مَصْمُودٌ وَمَصْمُودٌ لَهُ وَإِلَيْهِ وَالنَّاسُ إنَّمَا يَقْصِدُونَ فِي حَوَائِجِهِمْ مَنْ يَقُومُ بِهَا . وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَا مَنْ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ مُجْتَمِعًا قَوِيًّا ثَابِتًا وَهُوَ السَّيِّدُ الْكَرِيمُ بِخِلَافِ مَنْ يَكُونُ هَلُوعًا جَزُوعًا يَتَفَرَّقُ وَيُقْلِقُ وَيَتَمَزَّقُ مِنْ كَثْرَةِ حَوَائِجِهِمْ وَثِقَلِهَا فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِسَيِّدٍ صَمَدٍ يَصْمُدُونَ إلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ . فَهُمْ إنَّمَا سَمَّوْا السَّيِّدَ مِنْ النَّاسِ صَمَدًا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ يَقْصِدُهُ النَّاسُ فِي حَوَائِجِهِمْ فَلَيْسَ مَعْنَى السَّيِّدِ فِي لُغَتِهِمْ مَعْنًى إضَافِيٍّ فَقَطْ - كَلَفْظِ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ - بَلْ هُوَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالسَّيِّدِ ؛ لِأَجْلِهِ يَقْصِدُهُ النَّاسُ وَالسَّيِّدُ مِنْ السُّؤْدُدِ وَالسَّوَادِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ السَّدَادِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُعَاقِبُ بَيْنَ حَرْفِ الْعِلَّةِ وَالْحَرْفِ الْمُضَاعَفِ . كَمَا يَقُولُونَ : تَقَضَّى الْبَازِي وَتَقَضَّضَ وَالسَّادُّ هُوَ الَّذِي يَسُدُّ غَيْرَهُ فَلَا يَبْقَى فِيهِ خُلُوٌّ وَمِنْهُ سَدَادُ الْقَارُورَةِ وَسِدَادُ الثَّغْرِ بِالْكَسْرِ فِيهِمَا وَهُوَ مَا يَسُدُّ ذَلِكَ وَمِنْهُ السَّدَادُ بِالْفَتْحِ : وَهُوَ الصَّوَابُ وَمِنْهُ الْقَوْلُ السَّدِيدُ . قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } قَالُوا قَصْدًا حَقًّا . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ صَوَابًا . وَعَنْ قتادة وَمُقَاتِلٍ عَدْلًا . وَعَنْ السدي مُسْتَقِيمًا وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ صَحِيحٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ السَّدِيدَ هُوَ الْمُطَابِقُ الْمُوَافِقُ فَإِنْ كَانَ خَبَرًا كَانَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِمُخْبِرِهِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا كَانَ أَمْرًا بِالْعَدْلِ الَّذِي لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ؛ وَلِهَذَا يُفَسِّرُونَ السَّدَادَ بِالْقَصْدِ وَالْقَصْدَ بِالْعَدْلِ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : التَّسْدِيدُ التَّوْفِيقُ لِلسَّدَادِ وَهُوَ الصَّوَابُ وَالْقَصْدُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَرَجُلٌ مُسَدَّدٌ إذَا كَانَ يَعْمَلُ بِالسَّدَادِ . وَالْقَصْدُ . وَالْمُسَدَّدُ الْمُقَوَّمُ وَسَدَّدَ رُمْحَهُ وَأَمْرٌ سَدِيدٌ وَأَسَدُّ أَيْ قَاصِدٌ وَقَدْ اسْتَدَّ الشَّيْءُ اسْتَقَامَ . قَالَ الشَّاعِرُ : أُعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ فَلَمَّا اسْتَدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : اشْتَدَّ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ لَيْسَ بِشَيْءِ وَتَعْبِيرُهُمْ عَنْ السَّدِّ بِالْقَصْدِ يَدُلُّك عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْقَصْدِ فِيهِ مَعْنَى الْجَمْعِ وَالْقُوَّةِ وَالْقَصْدُ الْعَدْلُ كَمَا أَنَّهُ السَّدَادُ وَالصَّوَابُ وَهُوَ الْمُطَابِقُ الْمُوَافِقُ الَّذِي لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَهَذَا هُوَ الْجَامِعُ الْمُطَابِقُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } أَيْ السَّبِيلُ الْقَصْدُ وَهُوَ السَّبِيلُ الْعَدْلُ : أَيْ إلَيْهِ تَنْتَهِي السَّبِيلُ الْعَادِلَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } أَيْ الْهُدَى إلَيْنَا
هَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي الْآيَتَيْنِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } . وَمِنْهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ : الصِّدْقُ فَإِنَّ حُرُوفَهُ حُرُوفُ الْقَصْدِ فَمِنْهُ الصِّدْقُ فِي الْحَدِيثِ لِمُطَابَقَتِهِ مُخْبِرَهُ كَمَا قِيلَ فِي السَّدَادِ . وَالصِّدْقُ بِالْفَتْحِ الصَّلْبُ مِنْ الرِّمَاحِ وَيُقَالُ الْمُسْتَوِي فَهُوَ مُعْتَدِلٌ صَلْبٌ لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ وَلَا عِوَجٌ وَالصُّنْدُوقُ وَاحِدُ الصَّنَادِيقِ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ مَا يُوضَعُ فِيهِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فِي بَابِ الِاشْتِقَاقِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ هَذَا مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا فَلَهُ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَنَاسُبًا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى سَوَاءٌ كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ تَكَلَّمُوا بِهَذَا بَعْدَ هَذَا أَوْ بِهَذَا بَعْدَ هَذَا وَعَلَى هَذَا فَكُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْآخَرِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهُ لَفْظًا وَمَعْنًى كَمَا يُقَالُ : هَذَا الْمَاءُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْفِعْلَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ أَوْ الْمَصْدَرَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ كَانَ كِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحًا وَهَذَا هُوَ الِاشْتِقَاقُ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلُ التَّصْرِيفِ . وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي فِي الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَصْلًا لِلْآخَرِ
فَهَذَا إذَا عَنَى بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا تَكَلَّمَ بِهِ قَبْلَ الْآخَرِ لَمْ يَقُمْ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ وَإِنْ عَنَى بِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْآخَرِ فِي الْعَقْلِ لِكَوْنِ هَذَا مُفْرَدًا وَهَذَا مُرَكَّبًا فَالْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ وَالِاشْتِقَاقُ الْأَصْغَرُ اتِّفَاقُ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا وَالْأَوْسَطُ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحُرُوفِ لَا فِي التَّرْتِيبِ وَالْأَكْبَرُ اتِّفَاقُهُمَا فِي أَعْيَانِ بَعْضِ الْحُرُوفِ وَفِي الْجِنْسِ لَا فِي الْبَاقِي كَاتِّفَاقِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ إذَا قِيلَ حَزَرَ وَعَزَّرَ وَأَزَرَ فَإِنَّ الْجَمِيعَ فِيهِ مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ وَقَدْ اشْتَرَكَتْ مَعَ الرَّاءِ وَالزَّايِ وَالْحَاءِ فِي أَنَّ الثَّلَاثَةَ حُرُوفٌ حَلْقِيَّةٌ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قِيلَ : الصَّمَدُ بِمَعْنَى الْمُصْمَتِ وَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَهُوَ صَحِيحٌ فَإِنَّ الدَّالَ أُخْت التَّاءِ ؛ فَإِنَّ الصَّمْتَ السُّكُوتُ وَهُوَ إمْسَاكٌ . وَإِطْبَاقٌ لِلْفَمِ عَنْ الْكَلَامِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْمُصْمَتُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَقَدْ أَصْمَتّه أَنَا وَبَابٌ مُصْمَتٌ قَدْ أُبْهِمَ إغْلَاقُهُ . وَالْمُصْمَتُ مِنْ الْخَيْلِ الْبَهِيمُ أَيْ لَا يُخَالِطُ لَوْنَهُ لَوْنٌ آخَرُ وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْحَرِيرِ الْمُصْمَتُ فَالْمُصْمَدُ وَالْمُصْمَتُ مُتَّفِقَانِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ وَلَيْسَتْ الدَّالُ مُنْقَلِبَةً عَنْ التَّاءِ بَلْ الدَّالُ أَقْوَى وَالْمُصْمَدُ أَكْمَلُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْمُصْمَتِ وَكُلَّمَا قَوِيَ الْحِرَفُ كَانَ مَعْنَاهُ أَقْوَى فَإِنَّ لُغَةَ الرَّبِّ فِي غَايَةِ الْإِحْكَامِ وَالتَّنَاسُبِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّمْتُ إمْسَاكٌ عَنْ الْكَلَامِ مَعَ
إمْكَانِهِ وَالْإِنْسَانُ أَجْوَفُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ فِيهِ لَكِنَّهُ قَدْ يَصْمُتُ بِخِلَافِ الصَّمَدِ فَإِنَّهُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِيمَا لَا تَفَرُّقَ فِيهِ كَالصَّمَدِ وَالسَّيِّدِ وَالصَّمَدُ مِنْ الْأَرْضِ وَصِمَادُ الْقَارُورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَنَاسِبَةِ أَكْمَلُ مِنْ أَلْفَاظِ الصَّمَدِ فَإِنَّ فِيهِ الصَّادَ وَالْمِيمَ وَالدَّالَ وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ الثَّلَاثَةِ لَهَا مَزِيَّةَ عَلَى مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْحُرُوفِ أَكْمَلَ . وَمِمَّا يُنَاسِبُ هَذِهِ الْمَعَانِي مَعْنَى " الصَّبْرِ " فَإِنَّ الصَّبْرَ فِيهِ جَمْعٌ وَإِمْسَاكٌ وَلِهَذَا قِيلَ : الصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ الْجَزَعِ يُقَالُ صَبَرَ وَصَبَّرْته أَنَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ } وَكَذَلِكَ مَعْنَى السَّيِّدِ الصَّمَدُ خِلَافُ مَعْنَى الْجَزُوعِ الْمُنَوَّعِ وَمِنْهُ الصُّبْرَةُ مِنْ الطَّعَامِ فَإِنَّهَا مُجْتَمِعَةٌ مُكَوَّمَةٌ والصبارة الْحِجَارَةُ وَصَبْرُ الشَّيْءِ غِلَظُهُ وَضِدُّهُ الْجَزَعُ وَفِيهِ مَعْنَى التَّقَطُّعِ وَالتَّفَرُّقِ يُقَالُ جَزَعَ لَهُ جِزْعَةً مِنْ الْمَالِ أَيْ قَطَعَ لَهُ قِطْعَةً وَالْجُزَيْعَةُ : الْقِطْعَةُ مِنْ الْغَنَمِ واجتزعت مِنْ الشَّجَرِ عُودًا أَيْ اقْتَطَعْته واكتسرته وَجَزَعْت الْوَادِيَ إذَا قَطَعْته عَرْضًا وَالْجَزْعُ مُنْعَطَف الْوَادِي وَمِنْهُ الْجَزْعُ وَهُوَ الْخَرَزُ الْيَمَانِيُّ الَّذِي فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَكَذَلِكَ جَزَّعَ الْبُسْرَ تَجْزِيعًا إذَا أَرْطَبَ نِصْفُهُ أَوْ ثُلُثَاهُ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِمْ مُصْمَتٌ لِلَّوْنِ الْوَاحِدِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَفِي هَذَا مِنْ التَّفَرُّقِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } { إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ
جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْهَلَعُ أَفْحَشُ الْجَزَعِ وَقَالَ غَيْرُهُ : هُوَ فِي اللُّغَةِ أَشَدُّ الْحِرْصِ وَأَسْوَأُ الْجَزَعِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } وَنَاقَةٌ هَلُوعٌ إذَا كَانَتْ سَرِيعَةَ السَّيْرِ خَفِيفَةً وَذِئْبٌ هَلِعٌ بُلَعٌ وَالْهَلِعُ مِنْ الْحِرْصِ وَالْبُلَعُ مِنْ الِابْتِلَاعِ وَلِهَذَا كَانَ كَلَامُ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهِ يَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْمَعَانِي فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : هُوَ الَّذِي إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ الْحَرِيصُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ . وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : شَحِيحًا . وَعَنْ عِكْرِمَةَ : ضَجُورًا . وَعَنْ جَعْفَرٍ : حَرِيصًا وَعَنْ الْحَسَنِ وَالضَّحَّاكِ : بَخِيلًا وَعَنْ مُجَاهِدٍ : شَرِهًا وَعَنْ الضَّحَّاكِ أَيْضًا : الْهَلُوعُ الَّذِي لَا يَشْبَعُ وَعَنْ مُقَاتِلٍ : ضَيِّقُ الْقَلْبِ وَعَنْ عَطَاءٍ : عَجُولًا وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا تُنَافِي الثَّبَاتَ وَالْقُوَّةَ وَالِاجْتِمَاعَ وَالْإِمْسَاكَ وَالصَّبْرَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } وَهَذَا وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهَا تَنْصَدِعُ فَيَمُوتُونَ فَإِنَّهُ كَمَا قِيلَ : فِي مِثْلِ ذَلِكَ قَدْ انْصَدَعَ قَلْبُهُ وَقَدْ تَفَرَّقَ قَلْبِي وَقَدْ تَشَتَّتَ قَلْبِي وَقَدْ تَقَسَّمَ قَلْبِي وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْخَوْفِ : قَدْ فَرَّقَ قَلْبَهُ وَيُقَالُ : بِإِزَاءِ ذَلِكَ هُوَ ثَابِتُ الْقَلْبِ مُجْتَمَعُ الْقَلْبِ مَجْمُوعُ الْقَلْبِ .
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } فَأَدْخَلَ اللَّامَ فِي الصَّمَدِ وَلَمْ يُدْخِلْهَا فِي أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا يُسَمَّى أَحَدًا فِي الْإِثْبَاتِ مُفْرِدًا غَيْرَ مُضَافٍ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ؛ بِخِلَافِ النَّفْيِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ : كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ فَإِنَّهُ يُقَالُ : هَلْ عِنْدَك أَحَدٌ ؟ وَإِنْ جَاءَنِي أَحَدٌ مِنْ جِهَتِك أَكْرَمْته وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْعَدَدِ الْمُطْلَقِ يُقَالُ : أَحَدٌ اثْنَانِ . وَيُقَالُ : أَحَدٌ عَشْرٌ . وَفِي أَوَّلِ الْأَيَّامِ يُقَالُ : يَوْمُ الْأَحَدِ . فَإِنَّ فِيهِ - عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ - ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ . وَمَا بَيْنَهُمَا . كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : أَنَّ آخِرَ الْمَخْلُوقَاتِ كَانَ آدَمَ خُلِقَ يَوْم الْجُمُعَةِ . وَإِذَا كَانَ آخِرُ الْخَلْقِ كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُ كَانَ يَوْمَ الْأَحَدِ لِأَنَّهَا سِتَّةٌ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي قَوْلِهِ : { خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ } فَهُوَ حَدِيثٌ مَعْلُولٌ قَدَحَ فِيهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَعْبٍ وَقَدْ ذَكَرَ تَعْلِيلَهُ البيهقي أَيْضًا وَبَيَّنُوا أَنَّهُ غَلَطٌ لَيْسَ مِمَّا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِمَّا أَنْكَرَ الْحُذَّاقُ عَلَى مُسْلِمٍ إخْرَاجَهُ إيَّاهُ كَمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ إخْرَاجَ أَشْيَاءَ يَسِيرَةٍ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جريج والسدي وَالْأَكْثَرُونَ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ . قَالَ : وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ { خَلَقَ اللَّهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ } قَالَ : وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَصَحُّ فَصَحَّحَ هَذَا لِظَنِّهِ صِحَّةَ الْحَدِيثِ إذْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَلَكِنَّ هَذَا لَهُ نَظَائِرُ رَوَى مُسْلِمٌ أَحَادِيثَ قَدْ عَرَفَ أَنَّهَا غَلَطٌ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا أَسْلَمَ : أُرِيدَ أَنْ أُزَوِّجَك أُمَّ حَبِيبَةَ وَلَا خِلَافَ بَيْنِ النَّاسِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ وَلَكِنَّ هَذَا قَلِيلٌ جِدًّا وَمِثْلَ مَا رَوَى فِي بَعْضِ طَرْقِ حَدِيثِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنَّهُ صَلَّاهَا بِثَلَاثِ ركوعات وَأَرْبَعٍ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّهَا إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً بِرُكُوعَيْنِ وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ إلَّا هَذَا وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا وَالْبُخَارِيُّ سَلِمَ مِنْ مِثْلِ هَذَا ؛ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ
الرِّوَايَاتِ غَلَطٌ ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ الْمَحْفُوظَةَ الَّتِي تُبَيِّنُ غَلَطَ الغالط فَإِنَّهُ كَانَ أَعْرَفَ بِالْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ وَأَفْقَهَ فِي مَعَانِيهِ مِنْ مُسْلِمٍ وَنَحْوِهِ وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ : وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَهَذَا إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَذَكَرَ قَوْلًا ثَالِثًا فِي ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ : أَنَّهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ . وَقَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَهَذَا تَنَاقُضٌ . وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْإِنْجِيلِ وَالِابْتِدَاءُ بِيَوْمِ الْأَحَدِ قَوْلُ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَهَذَا النَّقْلُ غَلَطٌ عَلَى أَهْلِ الْإِنْجِيلِ . كَمَا غَلِطَ مَنْ جَعَلَ الْأَوَّلَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَجْعَلُ اجْتِمَاعَهَا فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا الْعَالَمَ وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا اجْتِمَاعُهُمْ فِي آخِرِ يَوْمٍ خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ الْعَالَمَ وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ لَفْظَ الْأَحَدِ لَمْ يُوصَفْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْيَانِ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ . وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ اللَّهِ فِي النَّفْيِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يَقُولُ : لَا أَحَدَ فِي الدَّارِ وَلَا تَقُلْ فِيهَا أَحَدٌ . وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي غَيْرِ الْمُوجَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } وَكَقَوْلِهِ : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ } وَقَوْلِهِ : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ } وَفِي الْإِضَافَةِ كَقَوْلِهِ : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ } { جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } . وَأَمَّا اسْمُ ( الصَّمَدِ ) فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ . كَمَا تَقَدَّمَ . فَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ صَمَدٌ بَلْ قَالَ : { اللَّهُ الصَّمَدُ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ ؛ لَأَنْ يَكُونَ هُوَ الصَّمَدَ دُونَ مَا سِوَاهُ فَإِنَّهُ الْمُسْتَوْجِبُ لِغَايَتِهِ عَلَى الْكَمَالِ وَالْمَخْلُوقُ وَإِنْ كَانَ صَمَدًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ؛ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الصَّمَدِيَّةِ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّفَرُّقَ وَالتَّجْزِئَةَ وَهُوَ أَيْضًا مُحْتَاجٌ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَيْسَ أَحَدٌ . يَصْمُدُ إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ وَلَا يَصْمُدُ هُوَ إلَى شَيْءٍ إلَّا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ إلَّا مَا يَقْبَلُ أَنْ يَتَجَزَّأَ وَيَتَفَرَّقَ وَيَتَقَسَّمَ وَيَنْفَصِلَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الصَّمَدُ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ حَقِيقَةُ الصَّمَدِيَّةِ وَكَمَالِهَا لَهُ وَحْدَهُ وَاجِبَةٌ لَازِمَةٌ لَا يُمْكِنُ عَدَمُ صَمَدِيَّتِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ؛ كَمَا لَا يُمْكِنُ تَثْنِيَةُ أَحَدِّيَّتِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَهُوَ أَحَدٌ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا قَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } اسْتَعْمَلَهَا هُنَا فِي النَّفْيِ أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ كُفُوًا لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ أَحَدٌ . { وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ سَيِّدُنَا فَقَالَ :
السَّيِّدُ اللَّهُ } وَدَلَّ قَوْلُهُ . ( الْأَحَدُ ، الصَّمَدُ ) عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ؛ فَإِنَّ الصَّمَدَ هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَلَا أَحْشَاءَ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ فَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَمَا قَالَ : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ } وَفِي قِرَاءَةِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ وَلَا يُطْعَمَ بِالْفَتْحِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ } وَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ صَمَدٌ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ فَالْخَالِقُ لَهُمْ جَلَّ جَلَالُهُ أَحَقُّ بِكُلِّ غِنًى وَكَمَالٍ جَعَلَهُ لِبَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ فَلِهَذَا فَسَّرَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّمَدَ بِأَنَّهُ الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَالصَّمَدُ الْمُصْمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ فَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ عَيْنٌ مِنْ الْأَعْيَانِ فَلَا يَلِدُ . وَلِذَلِكَ قَالَ مَنْ قَال مِنْ السَّلَفِ : هُوَ الَّذِي لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ لَيْسَ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَإِنْ كَانَ يُقَالُ فِي الْكَلَامِ إنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ : { مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لَمَّا سَمِعَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ : إنَّ هَذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلٍّ . فَخُرُوجُ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِهِ فَيَسْمَعُ مِنْهُ وَيَبْلُغُ إلَى غَيْرِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فِي غَيْرِهِ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيَّة : لَيْسَ بِمَعْنَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ الْقَائِمَةِ بِهِ يُفَارِقُهُ وَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ
فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ . أَنْ تُفَارِقَ الصِّفَةُ مَحِلَّهَا وَتَنْتَقِلَ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهَا فَكَيْفَ بِصِفَاتِ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا } وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ هِيَ قَائِمَةٌ بِالْمُتَكَلِّمِ وَسُمِعَتْ مِنْهُ لَيْسَ خُرُوجُهَا مِنْ فِيهِ أَنَّ مَا قَامَ بِذَاتِهِ مِنْ الْكَلَامِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ فَخُرُوجُ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ وَمِنْ شَأْنِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ إذَا اُسْتُفِيدَ مِنْ الْعَالِمِ وَالْمُتَكَلِّمِ أَنْ لَا يَنْقُصَ مِنْ مَحَلِّهِ وَلِهَذَا شُبِّهَ بِالنُّورِ الَّذِي يَقْتَبِسُ مِنْهُ كُلُّ أَحَدٍ الضَّوْءَ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَنْقُصْ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : الصَّمَدُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ كَلَامٌ صَحِيحٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ شَيْءٌ مِنْهُ . وَلِهَذَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَلِدَ وَأَنْ يُولَدَ وَذَلِكَ أَنَّ الْوِلَادَةَ وَالتَّوَلُّدَ وَكُلَّ مَا يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَصْلَيْنِ وَمَا كَانَ مِنْ الْمُتَوَلِّدِ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مَادَّةٍ تَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا كَانَ عَرَضًا قَائِمًا بِغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ فَالْأَوَّلُ نَفَاهُ بِقَوْلِهِ : ( أَحَدٌ فَإِنَّ الْأَحَدَ هُوَ الَّذِي لَا كُفُؤَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ لَا صَاحِبَةَ وَالتَّوَلُّدُ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ قَالَ تَعَالَى : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فَنَفَى سُبْحَانَهُ الْوَلَدَ بِامْتِنَاعِ لَازِمِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَدُلُّ
عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ وَبِأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ لَهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مَوْلُودٌ لَهُ . وَالثَّانِي : نَفَاهُ بِكَوْنِهِ سُبْحَانَهُ الصَّمَدَ وَهَذَا الْمُتَوَلَّدُ مِنْ أَصْلَيْنِ يَكُونُ بِجُزْأَيْنِ يَنْفَصِلَانِ مِنْ الْأَصْلَيْنِ كَتَوَلُّدِ الْحَيَوَانِ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ بِالْمَنِيِّ الَّذِي يَنْفَصِلُ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَهَذَا التَّوَلُّدُ يَفْتَقِرُ إلَى أَصْلٍ آخَرَ وَإِلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمَا شَيْءٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ أَحَدٌ فَلَيْسَ لَهُ كُفُؤٌ يَكُونُ صَاحِبَةً وَنَظِيرًا وَهُوَ صَمَدٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ كَوْنِهِ أَحَدًا وَمَنْ كَوْنِهِ صَمَدًا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا وَيَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ مَوْلُودًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى . وَكَمَا أَنَّ التَّوَالُدَ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَصْلَيْنَ - سَوَاءٌ كَانَ الْأَصْلَانِ مِنْ جِنْسِ الْوَلَدِ وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْمُتَوَالِدُ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَهُوَ الْمُتَوَلَّدُ - فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ كَالنَّارِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الزَّنْدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا خَشَبَتَيْنِ أَوْ كَانَا حَجَرًا وَحَدِيدًا : أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ } { أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ } { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ }
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُفَسِّرَيْنِ هُمَا شَجَرَتَانِ يُقَالُ لِإِحْدَاهُمَا : الْمَرْخُ وَالْأُخْرَى الْعِفَارُ . فَمَنْ أَرَادَ مِنْهُمَا النَّارَ قَطَعَ مِنْهُمَا غُصْنَيْنِ مِثْلَ السِّوَاكَيْنِ وَهُمَا خَضْرَاوَانِ يَقْطُرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ فَيُسْحَقُ الْمَرْخُ - وَهُوَ ذَكَرٌ - عَلَى الْعِفَارِ . - وَهُوَ أُنْثَى - فَتَخْرُجُ مِنْهُمَا النَّارُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقُولُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعِفَارُ . وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي كُلِّ شَجَرَةٍ نَارٌ إلَّا الْعُنَّابُ { فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } فَذَلِكَ زِنَادُهُمْ . وَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ : الزَّنْدُ الْعُودُ الَّذِي يُقْدَحُ بِهِ النَّارُ وَهُوَ الْأَعْلَى . وَالزَّنْدَةُ السُّفْلَى فِيهَا ثَقْبٌ وَهِيَ الْأُنْثَى فَإِذَا اجْتَمَعَا قِيلَ زَنْدَانِ . وَقَالَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهَذَا : إنَّهُمْ يَسْحَقُونَ الثُّقْبَ الَّذِي فِي الْأُنْثَى بِالْأَعْلَى كَمَا يَفْعَلُ ذَكَرُ الْحَيَوَانِ فِي أُنْثَاهُ فَبِذَلِكَ السَّحْقِ وَالْحَكِّ يَخْرُجُ مِنْهُمَا أَجْزَاءُ نَاعِمَةٌ تَنْقَدِحُ مِنْهَا النَّارُ فَتَتَوَلَّدُ النَّارُ مِنْ مَادَّةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَمَا يَتَوَلَّدُ الْوَلَدُ مِنْ مَادَّةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَسَحْقُ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ وَقَدْحُهَا بِهِ يَقْتَضِي حَرَارَةَ كُلًّا مِنْهُمَا وَيَتَحَلَّلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَادَّةٌ تَنْقَدِحُ مِنْهَا النَّارُ كَمَا أَنَّ إيلَاجَ ذَكَرِ الْحَيَوَانِ فِي أُنْثَاهُ بِقَدْحِ وَحَكِّ فَرْجِهَا بِفَرْجِهِ فَتَقْوَى حَرَارَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَيَتَحَلَّلُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مَادَّةٌ تَمْتَزِجُ بِالْأُخْرَى وَيَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ وَيُقَالُ : عَلِقَتْ النَّارُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَقْدَحُ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ
كَالرَّحِمِ لِلْوَلَدِ وَهُوَ الْحِرَاقُ وَالصُّوفَانُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ أَسْرَعَ قَبُولًا لِلنَّارِ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا عَلِقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ وَقَدْ لَا تَعْلَقُ النَّارُ كَمَا قَدْ لَا تَعْلَقُ الْمَرْأَةُ وَقَدْ لَا تَنْقَدِحُ نَارٌ كَمَا لَا يَنْزِلُ مَنِيٌّ وَالنَّارُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الزِّنَادَيْنِ بَلْ تُوَلَّدُ النَّارُ مِنْهُمَا كَتَوَلُّدِ حَيَوَانٍ مِنْ الْمَاءِ وَالطِّينِ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ نَوْعَانِ مُتَوَالِدٌ كَالْإِنْسَانِ وَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يُخْلَقُ مِنْ أَبَوَيْنِ وَمُتَوَلِّدُ كَاَلَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْ الْفَاكِهَةِ وَالْخَلِّ وَكَالْقَمْلِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ مِنْ وَسَخِ جِلْدِ الْإِنْسَانِ وَكَالْفَأْرِ وَالْبَرَاغِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُخْلَقُ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَالْمَطَرِ وَالنَّارِ الَّتِي تُورَى بِالزِّنَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هَلْ تَحْدُثُ أَعْيَانُ هَذِهِ الْأَجْسَامِ فَيُقْلَبُ هَذَا الْجِنْسُ إلَى جِنْسٍ آخَرَ . كَمَا يُقْلَبُ الْمَنِيُّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً أَوْ لَا تَحْدُثُ إلَّا أَعْرَاضٌ وَأَمَّا الْأَعْيَانُ الَّتِي هِيَ الْجَوَاهِرُ فَهِيَ بَاقِيَةٌ بِغَيْرِ صِفَاتِهَا بِمَا يُحْدِثُهُ فِيهَا مِنْ الْأَكْوَانِ الْأَرْبِعَةِ : الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُنْفَرِدَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التجزي كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ . وَإِمَّا مِنْ جَوَاهِرَ لَا نِهَايَةَ لَهَا كَمَا يُحْكَى عَنْ النَّظَّامِ .
فَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُحْدِثُ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُحْدِثُ الْأَعْرَاضَ الَّتِي هِيَ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَاضِ . ثُمَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِأَنَّ الْجَوَاهِرَ مُحْدَثَةٌ قَالَ : إنَّ اللَّهَ أَحْدَثَهَا ابْتِدَاءً ثُمَّ جَمِيعُ مَا يُحْدِثُهُ إنَّمَا هُوَ إحْدَاثُ أَعْرَاضٍ فِيهَا لَا يُحْدِثُ اللَّهُ بَعْد ذَلِكَ جَوَاهِرَ وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَمِنْ أَكَابِرِ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَيَذْكُرُ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا جُمْهُورِ الْأُمَّةِ ؛ بَلْ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ حَتَّى مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ يُنْكِرُونَ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَتَرَكُّبَ الْأَجْسَامِ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَابْنُ كُلَّابٍ إمَامُ أَتْبَاعِهِ هُوَ مِمَّنْ يُنْكِرُ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ فورك فِي مُصَنَّفِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي مَقَالَاتِ ابْنِ كُلَّابٍ وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ الْخِلَافِ وَهَكَذَا نَفَى الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ قَوْلُ الهشامية والضرارية وَكَثِيرٍ مِنْ الكَرَّامِيَة والنجارية أَيْضًا . وَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ : الْمَشْهُورُ عَنْهُمْ ؛ بِأَنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَمَاثِلَةٌ ؛ بَلْ وَيَقُولُونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ : أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُتَمَاثِلَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ الْأَعْرَاضِ وَتِلْكَ صِفَاتٌ عَارِضَةٌ لَهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً فَلَا تَنْفِي التَّمَاثُلَ فَإِنَّ حَدَّ الْمِثْلَيْنِ أَنْ يَجُوزَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ . وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْجَوَاهِرَ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَجُوزُ
عَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مَا جَازَ عَلَى الْآخَرِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ الْأَجْسَامُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنْ الْجَوَاهِرِ ؛ وَلِهَذَا إذَا أَثْبَتُوا حُكْمًا لِجِسْمٍ قَالُوا : هَذَا ثَابِتٌ لِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ بِنَاءً عَلَى التَّمَاثُلِ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُونَ هَذَا وَحُذَّاقِهِمْ قَدْ أَبْطَلُوا الْحُجَجَ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا عَلَى التَّمَاثُلِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الرَّازِي والآمدي وَغَيْرُهُمَا . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ . وَالْأَشْعَرِيُّ فِي " كِتَابِ الْإِبَانَةِ " جَعَلَ الْقَوْلَ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّتِي أَنْكَرَهَا . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يَخُصُّ أَحَدَ الْجِسْمَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِأَعْرَاضٍ دُونَ الْآخَرِ بِمُجَرَّدِ الْمَشِيئَةِ عَلَى أَصْلِ الْجَهْمِيَّة أَوْ لِمَعْنَى آخَرَ كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ وَيَقُولُونَ يَمْتَنِعُ انْقِلَابُ الْأَجْنَاسِ فَلَا يَنْقَلِبُ الْجِسْمُ عَرَضًا وَلَا جِنْسٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ إلَى جِنْسٍ آخَرَ فَلَوْ قَالُوا : إنَّ الْأَجْسَامَ مَخْلُوقَةٌ وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ يَنْقَلِبُ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ آخَرَ لَزِمَ انْقِلَابُ الْأَجْنَاسِ . فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : أَنَّ التَّوَلُّدَ الْحَاصِلَ فِي الرَّحِمِ وَالثَّمَرَ الْحَاصِلَ فِي الشَّجَرِ وَالنَّارَ الْحَاصِلَةَ مِنْ الزِّنَادِ هِيَ جَوَاهِرُ كانت فِي الْمَادَّةِ الَّتِي خُلِقَ ذَلِكَ مِنْهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ ؛ لَكِنْ غُيِّرَتْ صِفَتُهَا بِالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ .
وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي أَدِلَّةَ " إثْبَاتِ الصَّانِعِ " ذَكَرَ أَرْبَعَةَ طُرُقٍ : إمْكَانُ الذَّوَاتِ وَحُدُوثُهَا وَإِمْكَانُ الصِّفَاتِ وَحُدُوثُهَا وَالطُّرُقُ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ ضَعِيفَةٌ ؛ بَلْ بَاطِلَةٌ ؛ فَإِنَّ الذَّوَاتَ الَّتِي ادَّعَوْا حُدُوثَهَا أَوْ إمْكَانَهَا أَوْ إمْكَانَ صِفَاتِهَا ذَكَرُوهَا بِأَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ لَا يَتَمَيَّزُ فِيهَا الْخَالِقُ عَنْ الْمَخْلُوقِ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى مَا ادَّعَوْهُ دَلِيلًا صَحِيحًا . وَأَمَّا " الطَّرِيقُ الرَّابِعُ " وَهُوَ الْحُدُوثُ لِمَا يُعْلَمُ حُدُوثُهُ فَهُوَ طَرِيقٌ صَحِيحٌ وَهُوَ طَرِيقُ الْقُرْآنِ لَكِنْ قَصَّرُوا فِيهِ غَايَةَ التَّقْصِيرِ ؛ فَإِنَّهُمْ عَلَى أَصْلِهِمْ لَمْ يَشْهَدُوا حُدُوثَ شَيْءٍ مِنْ الذَّوَاتِ بَلْ حُدُوثُ الصِّفَاتِ وَطَرِيقَةُ الْقُرْآنِ تُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوق وَأَنَّهُ آيَةٌ لِلَّهِ وَقَدْ بَسَّطَ الْكَلَام عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْبَرَاهِينِ وَالْآيَاتِ الَّتِي لَمْ يَصِلُ إلَيْهَا هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمَةُ وَالْمُتَفَلْسِفَة وَإِنَّ كُلَّ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ حَقِّ فَهُوَ جُزْءٌ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا كَانَ هَذَا أَصْلَهُمْ فِي ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ وَهُوَ الْقَوْلُ بِإِثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ - كَانَ أَصْلُهُمْ فِي الْمَعَادِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فَصَارُوا عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تُعْدَمُ الْجَوَاهِرُ ثُمَّ تُعَادُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَتَفَرَّقُ الْأَجْزَاءُ ثُمَّ تَجْتَمِعُ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ الْإِنْسَانُ الَّذِي يَأْكُلُهُ حَيَوَانٌ وَذَلِكَ
الْحَيَوَانُ أَكَلَهُ إنْسَانٌ آخَرُ فَإِنْ أُعِيدَتْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ مِنْ هَذَا لَمْ تَعُدْ مِنْ هَذَا . وَأَوْرَدَ عَلَيْهِمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَحَلَّلُ دَائِمًا فَمَا الَّذِي يُعَادُ أَهُوَ الَّذِي كَانَ وَقْتَ الْمَوْتِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : بِذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُعَادَ عَلَى صُورَةٍ ضَعِيفَةٍ وَهُوَ خِلَافُ مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بَعْضُ الْأَبْدَانُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ . فَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ فِي الْإِنْسَانِ أَجْزَاءً أَصْلِيَّةً لَا تَتَحَلَّلُ وَلَا يَكُونُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ الَّذِي أَكَلَهُ الثَّانِي وَالْعُقَلَاءُ يَعْلَمُونَ أَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ كُلَّهُ يَتَحَلَّلُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ بَاقٍ فَصَارَ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَعَادِ مِمَّا قَوَّى شُبْهَةَ الْمُتَفَلْسِفَةِ فِي إنْكَارٍ مَعَادِ الْأَبْدَانِ وَأَوْجَبَ أَنْ صَارَ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ إلَى أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ بَدَنًا آخَرَ تَعُودُ الرُّوحُ إلَيْهِ . وَالْمَقْصُودُ تَنْعِيمُ الرُّوحِ وَتَعْذِيبُهَا سَوَاءٌ كَانَ هَذَا فِي الْبَدَنِ أَوْ فِي غَيْرِهِ وَهَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ بِإِعَادَةِ هَذَا الْبَدَنِ وَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الرَّازِي فَلَيْسَ فِي كُتُبِهِ وَكُتُبِ أَمْثَالِهِ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ الْكِبَارِ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي يُوَافِقُ الْمَنْقُولَ وَالْمَعْقُولَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ وَكَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا بَلْ يَذْكُرُ بُحُوثَ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَلَاحِدَةِ وَبُحُوثَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُبْتَدَعَةِ الَّذِينَ بَنَوْا عَلَى أُصُولِ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ فِي مَسَائِلِ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ وَالْمَبْدَإِ وَالْمَعَادِ وَكِلَا الطَّرِيقَيْنِ فَاسِدٌ . إذْ بَنَوْهُ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ فَاسِدَةٍ وَالْقَوْلُ الَّذِي عَلَيْهِ
السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَنَّ الْأَجْسَامَ تَنْقَلِبُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ إنَّمَا يَذْكُرُهُ عَنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَطِبَّاءِ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ - وَهُوَ الْقَوْلُ فِي خَلْقِ اللَّهِ لِلْأَجْسَامِ الَّتِي يُشَاهِدُ حُدُوثَهَا أَنَّهُ يُقَلِّبُهَا وَيُحِيلُهَا مِنْ جِسْمٍ إلَى جِسْمٍ - هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً وَالْجُمْهُورُ . وَلِهَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ فِي النَّجَاسَةِ هَلْ تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ أَمْ لَا ؟ كَمَا تَسْتَحِيلُ الْعَذِرَةُ رَمَادًا وَالْخِنْزِيرُ وَغَيْرُهُ مِلْحًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَالْمَنِيُّ الَّذِي فِي الرَّحِمِ يَقْلِبُهُ اللَّهُ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً وَكَذَلِكَ الثَّمَرُ يُخْلَقُ بِقَلْبِ الْمَادَّةِ الَّتِي يُخْرِجُهَا مِنْ الشَّجَرَةِ مِنْ الرُّطُوبَةِ مَعَ الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَادِّ الَّتِي يَقْلِبُهَا ثَمَرَةً بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَذَلِكَ الْحَبَّةُ يَفْلِقُهَا وَتَنْقَلِبُ الْمَوَادُّ الَّتِي يَخْلُقُهَا مِنْهَا سُنْبُلَةً وَشَجَرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ وَهَكَذَا خَلْقُهُ لِمَا يَخْلُقُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ الطِّينِ فَقَلَبَ حَقِيقَةَ الطِّينِ فَجَعَلَهَا عَظْمًا وَلَحْمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَكَذَلِكَ الْمُضْغَةُ يَقْلِبُهَا عِظَامًا وَغَيْرَ عِظَامٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ } { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } { ثُمَّ إنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ } { ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } . وَكَذَلِكَ النَّارُ يَخْلُقُهَا بِقَلْبِ بَعْضِ أَجْزَاءِ الزِّنَادِ نَارًا كَمَا قَالَ تَعَالَى :
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا } . فَنَفْسُ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ جَعَلَهَا اللَّهُ نَارًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ كَانَ فِي الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارٌ أَصْلًا كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الشَّجَرَةِ ثَمَرَةٌ أَصْلًا وَلَا كَانَ فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ جَنِينٌ أَصْلًا ؛ بَلْ خَلَقَ هَذَا الْمَوْجُودَ مِنْ مَادَّةِ غَيْرِهِ بِقَلْبِهِ تِلْكَ الْمَادَّةِ إلَى هَذَا وَبِمَا ضَمَّهُ إلَى هَذَا مِنْ مَوَادَّ أُخَرٍ وَكَذَلِكَ الْإِعَادَةُ يُعِيدُهُ بَعْد أَنْ يَبْلَى كُلَّهُ إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ ابْنِ آدَمَ يَبْلَى إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ . مِنْهُ خُلِقَ ابْنُ آدَمَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ } . وَهُوَ إذَا أَعَادَ الْإِنْسَانَ فِي النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ النَّشْأَةُ مُمَاثَلَةً لِهَذِهِ فَإِنَّ هَذِهِ كَائِنَةٌ فَاسِدَةٌ وَتِلْكَ كَائِنَةٌ لَا فَاسِدَةَ بَلْ بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَضَلَاتٌ فَاسِدَةٌ تَخْرُجُ مِنْهُمْ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَبُولُونَ وَلَا يتغوطون وَلَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ وَإِنَّمَا هُوَ رَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُحْشَرُ النَّاسُ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ قَرَأَ { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } } فَهُمْ يَعُودُونَ غُلْفًا لَا مَخْتُونِينَ . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ : كَمَا بَدَأَكُمْ فَخَلَقَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا كَذَلِكَ تَعُودُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيَاءَ وَقَالَ قتادة بَدْأَهُمْ
مِنْ التُّرَابِ وَإِلَى التُّرَابِ يَعُودُونَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } وَقَالَ : { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } . وَهُوَ قَدْ شَبَّهَ سُبْحَانَهُ إعَادَةَ النَّاسِ فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَى بِإِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . كَقَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } وَقَالَ : { وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ } .
وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ إخْبَارِهِ أَنَّهُ يُعِيدُ الْخَلْقَ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ وَأَنَّهُ يُخْرِجُ النَّاسَ مِنْ الْأَرْضِ تَارَةً أُخْرَى هُوَ يُخْبِرُ أَنَّ الْمَعَادَ هُوَ الْمَبْدَأُ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } وَيُخْبِرُ أَنَّ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا } { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا } { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا } { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إنْ لَبِثْتُمْ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَقَالَ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ } { أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ } { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } { عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ } . وَالْمُرَادُ بِقُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ مِثْلِهِمْ هُوَ قُدْرَتُهُ عَلَى إعَادَتِهِمْ كَمَا أَخْبَرَ
بِذَلِكَ . فِي قَوْلِهِ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } فَإِنَّ الْقَوْمَ مَا كَانُوا يُنَازِعُونَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ فِي هَذِهِ الدَّارِ نَاسًا أَمْثَالَهُمْ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْوَاقِعُ الْمُشَاهَدُ يَخْلُقُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ يَخْلُقُ الْوَلَدُ مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَهَذِهِ هِيَ النَّشْأَةُ الْأُولَى وَقَدْ عَلِمُوهَا وَبِهَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ } وَقَالَ : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } . وَلِهَذَا قَالَ : { عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } قَالَ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ البجلي : الَّذِي عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ { وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى } أَيْ أَخُلُقُكُمْ لِلْبَعْثِ بَعْد الْمَوْتِ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُونَ كَيْفَ شِئْت وَذَلِكَ أَنَّكُمْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الْأُولَى كَيْفَ كَانَتْ فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ وَلَيْسَتْ الْأُخْرَى كَذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّشْأَة الْأُولَى كَانَ الْإِنْسَانُ نُطْفَةٍ ثُمَّ عَلَقَةٍ ثُمَّ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ وَتِلْكَ النُّطْفَةُ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَهُوَ يُغَذِّيهِ بِدَمِ الطَّمْثِ الَّذِي يُرَبِّي اللَّهُ بِهِ الْجَنِينَ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ : ظُلْمَةٍ الْمَشِيمَةِ وَظُلْمَةِ
الرَّحِمِ وَظُلْمَةِ الْبَطْنِ وَالنَّشْأَةُ الثَّانِيَةُ لَا يَكُونُونَ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ وَلَا يُغَذُّونَ بِدَمِ وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمْ نُطْفَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ عَلَقَةً بَلْ يَنْشَئُونَ نَشْأَةً أُخْرَى وَتَكُونُ الْمَادَّةُ مِنْ التُّرَابِ كَمَا قَالَ : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } وَقَالَ تَعَالَى : { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } وَقَالَ { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إخْرَاجًا } وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الْأَرْضَ تُمْطِرُ مَطَرًا كَمَنِيِّ الرِّجَالِ يَنْبُتُونَ فِي الْقُبُورِ كَمَا يَنْبُتُ النَّبَاتُ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } { كَذَلِكَ النُّشُورُ } { كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . فَعُلِمَ أَنَّ النَّشْأَتَيْنِ نَوْعَانِ تَحْتَ جِنْسٍ يَتَّفِقَانِ وَيَتَمَاثَلَانِ وَيَتَشَابَهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ وَيَتَنَوَّعَانِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَلِهَذَا جُعِلَ الْمَعَادُ هُوَ الْمَبْدَأَ وَجُعِلَ مِثْلَهُ أَيْضًا . فَبِاعْتِبَارِ اتِّفَاقِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ فَهُوَ هُوَ وَبِاعْتِبَارِ مَا بَيْنَ النَّشْأَتَيْنِ مِنْ الْفَرْقِ فَهُوَ مِثْلُهُ . وَهَكَذَا كُلُّ مَا أُعِيدَ . فَلَفْظُ الْإِعَادَةِ يَقْتَضِي الْمَبْدَأَ وَالْمَعَادَ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ إعَادَةُ الْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ كَإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلِ يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ } وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ : أَعِدْ كَلَامَك وَفُلَانٌ قَدْ أَعَادَ كَلَامَ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ وَيُعِيدُ الدَّرْسَ . فَالْكَلَامُ هُوَ الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ صَوْتُ الثَّانِي غَيْرَ صَوْتِ الْأَوَّلِ وَحَرَكَتِهِ وَلَا
يُطْلَقُ الْقَوْلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِثْلُهُ بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا . وَإِنْ كَانَ يُسَمَّى مَثَلًا مُقَيَّدًا حَتَّى يُقَالَ لِمَنْ حَكَى كَلَامَ غَيْرِهِ هَكَذَا قَالَ فُلَانٌ أَيْ مِثْلُ هَذَا قَالَ وَيُقَالُ فَعَلَ هَذَا عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ أُولَى وَمِنْهُ الْبِئْرُ الْبَدِيُّ وَالْبِئْرُ الْعَادِيُّ فَالْبَدِيُّ الَّتِي اُبْتُدِئَتْ وَالْعَادِيُّ الَّتِي أُعِيدَتْ وَلَيْسَتْ بِنِسْبَةِ إلَى عَادٍ . كَمَا قِيلَ . وَيُقَالُ اسْتَعَدْته الشَّيْءَ فَأَعَادَهُ إذَا سَأَلْته أَنْ يَفْعَلَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْعَادَةُ يُقَالُ : عَادَهُ وَاعْتَادَهُ وَتَعَوَّدَهُ أَيْ صَارَ عَادَةً لَهُ : وَعَوَّدَ كَلْبَهُ الصَّيْدَ فَتَعَوَّدَهُ وَهُوَ مِنْ الْمُعَاوَدَةِ وَالْمُعَاوَدَةُ الرُّجُوعُ إلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَيُقَالُ الشُّجَاعُ مُعَاوِدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمَلُّ الْمِرَاسَ . وَعَاوَدَتْهُ الْحُمَّى وَعَاوَدَهُ بِالْمَسْأَلَةِ أَيْ سَأَلَهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وتعاود الْقَوْمُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا إذَا عَادَ كُلُّ فَرِيقٍ إلَى صَاحِبِهِ وَالْعُوَّادُ بِالضَّمِّ مَا أُعِيدَ مِنْ الطَّعَامِ بَعْدَ مَا أُكِلَ مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى وَعَوَادٍ بِمَعْنَى عُدْ مِثْلُ نزال بِمَعْنَى انْزِلْ . فَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْإِعَادَةِ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ هِيَ الْأُولَى وَإِنْ تَعَدَّدَ الشَّخْصُ وَلِهَذَا يُقَالُ : هُوَ مِثْلُهُ وَيُقَالُ هَذَا هُوَ هَذَا وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ وَأَعْنِي بِالْحَقِيقَةِ الْأَمْرَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الشَّخْصِ لَيْسَ الْمُرَادُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ
الْفَاعِلِينَ فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ غَيْرِهِ لَا يُقَالُ أَعَادَهُ وَإِنَّمَا يُقَالُ حَاكَاهُ وَشَابَهَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعَادَ فِعْلًا ثَانِيًا مِثْلَ مَا فَعَلَ أَوَّلًا فَإِنَّهُ يُقَالُ أَعَادَ فِعْلَهُ وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ أَعَادَ كَلَامَ غَيْرِهِ قَدْ أَعَادَهُ وَلَا يُقَالُ لِمَنْ أَنْشَأَ مِثْلَهُ قَدْ أَعَادَهُ وَيُقَالُ قُرِئَ عَلَى هَذَا وَأَعَادَ عَلَى هَذَا وَهَذَا يَقْرَأُ أَيْ يَدْرُسُ وَهَذَا يُعِيدُ وَلَوْ كَانَ كَلَامًا آخَرَ مِمَّا يُمَاثِلُهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ يُعِيدُ وَكَذَلِكَ مَنْ كَسَرَ خَاتَمًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْمَصُوغِ يُقَالُ أُعِدْهُ كَمَا كَانَ وَيُقَالُ لِمَنْ هَدَمَ دَارًا أَعِدْهَا كَمَا كَانَتْ بِخِلَافِ مَنْ أَنْشَأَ أُخْرَى مِثْلَهَا فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى مُعِيدًا وَالْمَعَادُ يُقَالُ فِيهِ هَذَا هُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ وَيُقَالُ هَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ هُوَ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مِثْلُهُ مِنْ وَجْهٍ . وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبُهَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ : الْإِعَادَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ إعَادَةِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْنَعُ إعَادَتُهُ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا يُعَادُ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ إنَّهُ لَا مُغَايَرَةَ أَصْلًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ . وَالْإِعَادَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا هِيَ الْإِعَادَةُ الْمَعْقُولَةُ فِي هَذَا الْخِطَابِ وَهِيَ الْإِعَادَةُ الَّتِي فَهِمَهَا الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا لَفْظُ الْإِعَادَةِ وَالْمَعَادُ هُوَ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ لَوَازِمَ الْإِعَادَةِ وَلَوَازِمِ الْبَدْأَةِ فَرْقٌ فَذَلِكَ الْفَرْقُ لَا يَمْنَعُ
أَنْ يَكُونَ قَدْ - أُعِيدَ الْأَوَّلُ لَيْسَ الْجَسَدُ الثَّانِي مُبَايِنًا لِلْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ وَلَا أَنَّ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ كَالْأُولَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ وَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا كَذَلِكَ يُعِيدُهُ بَعْد أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا وَعَلَى هَذَا فَالْإِنْسَانُ الَّذِي صَارَ تُرَابًا وَنَبَتَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ نَبَاتٌ آخَرُ أَكَلَهُ إنْسَانٌ آخَرُ وَهَلُمَّ جَرًّا وَالْإِنْسَانُ الَّذِي أَكَلَهُ إنْسَانٌ أَوْ حَيَوَانٌ وَأَكَلَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ إنْسَانًا آخَرَ فَفِي هَذَا كُلِّهِ قَدْ عُدِمَ هَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْإِنْسَانُ وَصَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا تُرَابًا " كَمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ ثُمَّ يُعَادَ هَذَا وَيُعَادَ هَذَا مِنْ التُّرَابِ وَإِنَّمَا يَبْقَى عَجْبُ الذَّنَبِ مِنْهُ خُلِقَ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ . وَأَمَّا سَائِرُهُ فَعَدَمٌ " فَيُعَادُ مِنْ الْمَادَّةِ الَّتِي اسْتَحَالَ إلَيْهَا فَإِذَا اسْتَحَالَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ أَلْفُ مَيِّتٍ وَصَارُوا كُلُّهُمْ تُرَابًا فَإِنَّهُمْ يُعَادُونَ وَيَقُومُونَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبْرِ وَيُنْشِئُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَدَمًا مَحْضًا كَمَا أَنْشَأَهُمْ أَوَّلًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَدَمًا مَحْضًا وَإِذَا صَارَ أَلْفُ إنْسَانٍ تُرَابًا فِي قَبْرٍ أَنْشَأَ هَؤُلَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ كَمَا خَلَقَهُمْ فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى الَّتِي خَلَقَهُمْ مِنْهَا مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ وَجَعَلَ نَشْأَتَهُمْ بِمَا يَسْتَحِيلُ إلَى أَبْدَانِهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ كَمَا يَسْتَحِيلُ إلَى بَدَنِ أَحَدِهِمْ مَا يَأْكُلُهُ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ وَكَذَلِكَ لَوْ أَكَلَ إنْسَانًا أَوْ أَكَلَ حَيَوَانًا قَدْ أَكَلَ إنْسَانًا : فَالنَّشْأَةُ
الثَّانِيَةُ لَا يَخْلُقُهُمْ فِيهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةِ بَلْ يُعِيدُ الْأَجْسَادَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُلَهُمْ مِنْ نُطْفَةٍ إلَى عَلَقَةٍ إلَى مُضْغَةٍ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْذُوَهَا بِدَمِ الطَّمْثِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَغْذُوَهَا بِلَبَنِ الْأُمِّ وَبِسَائِرِ مَا يَأْكُلُهُ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْإِعَادَةَ تَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْأَغْذِيَةِ الَّتِي اسْتَحَالَتْ إلَى أَبْدَانِهِمْ فَقَدْ غَلِطَ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا أَكَلَ إنْسَانٌ إنْسَانًا فَإِنَّمَا صَارَ غِذَاءً لَهُ كَسَائِرِ الْأَغْذِيَةِ وَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْأَغْذِيَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْغِذَاءَ يَنْزِلُ إلَى الْمَعِدَةِ طَعَامًا وَشَرَابًا ثُمَّ يَصِيرُ كلوسا كالثردة ثُمَّ كيموسا كَالْحَرِيرَةِ ثُمَّ يَنْطَبِخُ دَمًا فَيَقْسِمُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَدَنِ كُلِّهِ وَيَأْخُذُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ الْبَدَنِ نَصِيبَهُ فَيَسْتَحِيلُ الدَّمُ إلَى شَبِيهِ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْعَظْمِ عَظْمًا وَاللَّحْمُ لَحْمًا وَالْعَرَقُ عَرَقًا وَهَذَا فِي الرِّزْقِ كَاسْتِحَالَتِهِمْ فِي مَبْدَأِ الْخَلْقِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً . وَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي الْإِعَادَةِ إلَى أَنْ يُحِيلَ أَحَدَهُمْ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً فَكَذَلِكَ أَغْذِيَتُهُمْ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَجْعَلَهَا خُبْزًا وَفَاكِهَةً وَلَحْمًا ثُمَّ يَجْعَلُهَا كلوسا وكيموسا ثُمَّ دَمًا ثُمَّ عَظْمًا وَلَحْمًا وَعُرُوقًا بَلْ يُعِيدُ هَذَا الْبَدَنَ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى لِنَشْأَةٍ ثَانِيَةٍ لَيْسَتْ مِثْلَ هَذِهِ النَّشْأَةِ كَمَا قَالَ : { وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَلَا يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الِاسْتِحَالَاتِ الَّتِي كَانَتْ فِي النَّشْأَةِ الْأُولَى .
وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الْبَدَنُ دَائِمًا فِي التَّحَلُّلِ فَإِنَّ تَحَلُّلَ الْبَدَنِ لَيْسَ بِأَعْجَبَ مِنْ انْقِلَابِ النُّطْفَةِ عَلَقَةً وَالْعَلَقَةِ مُضْغَةً وَحَقِيقَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا خِلَافُ حَقِيقَةِ الْأُخْرَى . وَأَمَّا الْبَدَنُ الْمُتَحَلِّلُ فَالْأَجْزَاءُ الثَّانِيَةُ تُشَابِهُ الْأُولَى وَتُمَاثِلُهَا وَإِذَا كَانَ فِي الْإِعَادَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى انْقِلَابِهِ مِنْ حَقِيقَةٍ إلَى حَقِيقَةٍ فَكَيْفَ بِانْقِلَابِهِ بِسَبَبِ التَّحَلُّلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ رَأَى شَخْصًا وَهُوَ شَابٌّ ثُمَّ رَآهُ وَهُوَ شَيْخٌ عَلِمَ أَنَّ هَذَا هُوَ ذَاكَ مَعَ هَذِهِ الِاسْتِحَالَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ كَمَنْ غَابَ عَنْ شَجَرَةٍ مُدَّةً ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهَا عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْأُولَى مَعَ أَنَّ التَّحَلُّلَ وَالِاسْتِحَالَةَ ثَابِتٌ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ . كَمَا هُوَ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَحْتَاجُ عَاقِلٌ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ هِيَ الْأُولَى وَأَنَّ هَذِهِ الْفَرَسَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ مِنْ سِنِينَ وَلَا أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ هُوَ الَّذِي رَآهُ مِنْ عِشْرِينَ سُنَّةً إلَى أَنْ يُقَدِّرَ بَقَاءَ أَجْزَاءٍ أَصْلِيَّةٍ لَمْ تَتَحَلَّلْ وَلَا يَخْطِرُ هَذَا بِبَالِ أَحَدٍ وَلَا يَقْتَصِرْ الْعُقَلَاءُ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا هُوَ ذَاكَ عَلَى تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الَّتِي لَا تُعْرَفُ وَلَا تَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهَا . بَلْ إنَّمَا يُشِيرُونَ إلَى جُمْلَةِ الشَّجَرَةِ وَالْفَرَسِ وَالْإِنْسَانُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَانَ صَغِيرًا فَكَبِرَ . وَلَا يُقَالُ إنَّمَا كَانَ هُوَ ذَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ وَاحِدَةٌ كَمَا زَعَمَهُ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْبَدَنَ الثَّانِيَ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ الْأَوَّلَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ جَزَاءُ النَّفْسِ بِنَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ
فَفِي أَيْ بَدَنٍ كَانَتْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَإِنَّ هَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ مُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ مِنْ الْإِعَادَةِ . فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعُقَلَاءَ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ : هَذَا الْفَرَسُ هُوَ ذَاكَ وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ هِيَ تِلْكَ الَّتِي كَانَتْ مِنْ سِنِينَ مَعَ عِلْمِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ النَّبَاتَ لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ نَاطِقَةٌ تُفَارِقُهُ وَتَقُومُ بِذَاتِهَا وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ : مِثْلَ هَذَا فِي الْحَيَوَانِ وَفِي الْإِنْسَانِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَخْطِرْ بِقُلُوبِهِمْ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِهَذَا وَذَاكَ نَفْسٌ مُفَارَقَةٌ . بَلْ قَدْ لَا يَخْطِرُ هَذَا بِقُلُوبِهِمْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعُقَلَاءَ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْبَدَنَ هُوَ ذَاكَ مَعَ وُجُودِ الِاسْتِحَالَةِ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْبَدَنُ الَّذِي يُعَادُ فِي النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ هُوَ هَذَا الْبَدَنُ وَلِهَذَا يَشْهَدُ الْبَدَنُ الْمُعَادُ بِمَا عَمِلَ فِي الدُّنْيَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ قَالَ قَوْلًا أَوْ فَعَلَ فِعْلًا أَوْ رَأَى غَيْرَهُ يَفْعَلُ أَوْ سَمِعَهُ يَقُولُ ثُمَّ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سُنَّةً شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا قَالَ أَوْ فَعَلَ وَهُوَ الْإِقْرَارُ الَّذِي يُؤَاخَذُ بِمُوجِبِهِ أَوْ شَهِدَ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا قَبَضَهُ
مِنْ الْأَمْوَالِ وَأَقَرَّ بَهْ مِنْ الْحُقُوقِ لَكَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى عَيْنِ ذَلِكَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَقْبُولَةً مَعَ اسْتِحَالَةِ بَدَنِهِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ : إنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ عَلَى مِثْلِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُعَيَّنُ حَيَوَانٌ أَوْ نَبَاتٌ وَشَهِدَ أَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ قَبَضَهُ هَذَا مِنْ هَذَا وَأَنَّ هَذَا الشَّجَرَ سَلَّمَهُ هَذَا إلَى هَذَا : كَانَ كَلَامًا مَعْقُولًا مَعَ الِاسْتِحَالَةِ وَإِذَا كَانَتْ الِاسْتِحَالَةُ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ يُعِيدُهُ عَلَى صِفَةِ مَا كَانَ وَقْتَ مَوْتِهِ أَوْ سِمَنِهِ أَوْ هُزَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُ فَإِنَّ صِفَةَ تِلْكَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ لَيْسَتْ مُمَاثَلَةً لِصِفَةِ هَذِهِ النَّشْأَةِ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ الصِّفَاتِ هِيَ الْمُغَيَّرَةُ ؛ إذْ لَيْسَ هُنَاكَ اسْتِحَالَةٌ ؟ وَلَا اسْتِفْرَاغٌ وَلَا امْتِلَاءٌ وَلَا سِمَنٌ وَلَا هُزَالٌ وَلَا سِيَّمَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إذَا دَخَلُوهَا فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ : طُولَ أَحَدِهِمْ سِتُّونَ ذِرَاعًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَرُوِيَ أَنَّ عَرْضَهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ وَهُمْ لَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَبْصُقُونَ وَلَا يَتَمَخَّطُونَ . وَلَيْسَتْ تِلْكَ النَّشْأَةُ مِنْ أَخْلَاطٍ مُتَضَادَّةٍ حَتَّى يَسْتَلْزِمَ مُفَارَقَةُ بَعْضِهَا بَعْضًا كَمَا فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ وَلَا طَعَامُهُمْ مُسْتَحِيلًا وَلَا شَرَابُهُمْ مُسْتَحِيلًا مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ كَمَا هِيَ أطعماتهم فِي هَذِهِ النَّشْأَةِ وَلِهَذَا أَبْقَى اللَّهُ طَعَامَ الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَشَرَابَهُ مِائَةَ عَامٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَدَلَّنَا سُبْحَانَهُ بِهَذَا عَلَى قُدْرَتِهِ فَإِذَا كَانَ فِي دَارِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ يَبْقَى الطَّعَامُ الَّذِي
هُوَ رُطَبٌ وَعِنَبٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ وَالشَّرَابُ الَّذِي هُوَ مَاءٌ أَوْ مَا فِيهِ مَاءٌ مِائَةَ عَامٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ فَقُدْرَتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي النَّشْأَةِ الْأُخْرَى لَا يَتَغَيَّرُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَهَذِهِ الْأُمُورُ لِبَسْطِهَا مَوْضِعٌ آخَرُ
فَصْلٌ :
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ التَّوَلُّدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلَيْنِ وَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ نَفْسَ الْهَوَاءِ الَّذِي بَيْن الزِّنَادَيْنِ يَسْتَحِيلُ نَارًا بِسُخُونَتِهِ مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ تَخْرُجُ مِنْهُمَا تَنْقَلِبُ نَارًا فَقَدْ غَلِطَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَخْرُجُ نَارٌ إنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمَا مَادَّةٌ بِالْحَكِّ وَلَا تَخْرُجْ النَّارُ بِمُجَرَّدِ الْحَكِّ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَقْدَحُونَ عَلَى شَيْءٍ أَسْفَلَ مِنْ الزِّنَادَيْنِ كَالصُّوفَانِ وَالْحِرَاقِ فَتَنْزِلُ النَّارُ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَنْزِلُ الثَّقِيلُ فَلَوْلَا أَنَّ هُنَاكَ جُزْءًا ثَقِيلًا مِنْ الزِّنَادِ الْحَدِيدِ وَالْحَجَرِ لَمَا نَزَلَتْ النَّارُ وَلَوْ كَانَ الْهَوَاءُ وَحْدَهُ انْقَلَبَ نَارًا لَمْ يَنْزِلْ لِأَنَّ الْهَوَاءَ طَبْعُهُ الصُّعُودُ لَا الْهُبُوطُ لَكِنْ بَعْدَ أَنْ تَنْقَلِبَ الْمَادَّةُ الْخَارِجَةُ نَارًا قَدْ يَنْقَلِبُ الْهَوَاءُ الْقَرِيبُ مِنْهَا نَارًا : إمَّا دُخَانًا وَإِمَّا لَهِيبًا .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَوَلِّدَاتِ خُلِقَتْ مِنْ أَصْلَيْنِ كَمَا خُلِقَ آدَمَ مِنْ التُّرَابِ وَالْمَاءِ وَإِلَّا فَالتُّرَابُ الْمَحْضُ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِطْ بِهِ مَاءٌ لَا يُخْلَقُ مِنْهُ شَيْءٌ لَا حَيَوَانٌ وَلَا نَبَاتٌ . وَالنَّبَاتُ جَمِيعُهُ إنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ أَصْلَيْنِ أَيْضًا وَالْمَسِيحُ خُلِقَ مِنْ مَرْيَمَ وَنَفْخَةِ جِبْرِيلَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } . وَقَالَ : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا } وَقَالَ { فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } { قَالَتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا } { قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا } . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا . وَالْجَيْبُ هُوَ الطَّوْقُ الَّذِي فِي الْعُنُقِ لَيْسَ هُوَ مَا يُسَمِّيهِ بَعْضُ الْعَامَّةِ جَيْبًا وَهُوَ مَا يَكُونُ فِي مُقَدَّمِ الثَّوْبِ لِوَضْعِ الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا وَمُوسَى لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ : هُوَ ذَلِكَ الْجَيْبُ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ وَغَيْرُهُ قَوْلَيْنِ : هَلْ كَانَتْ النَّفْخَةُ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ ؟ أَوْ فِي الْفَرْجِ . فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ فِي فَرْجِ دِرْعِهَا وَإِنَّ مَنْ قَالَ هُوَ مَخْرَجُ الْوَلَدِ قَالَ الْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَفَخَ فِي دِرْعِهَا لَا فِي فَرْجِهَا وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءِ بَلْ هُوَ عُدُولٌ عَنْ صَرِيحِ الْقُرْآنِ . وَهَذَا النَّقْلُ إنْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يُنَاقِضْ الْقُرْآنَ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ نَقَلَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ فَمُرَادُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يَكْشِفْ بَدَنَهَا وَكَذَلِكَ جِبْرِيلُ كَانَ إذَا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةُ مُتَجَرِّدَةٌ لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهَا مُتَجَرِّدَةً فَنَفَخَ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ فَوَصَلَتْ النَّفْخَةُ إلَى فَرْجِهَا . وَالْمَقْصُودُ إنَّمَا هُوَ النَّفْخُ فِي الْفَرْجِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي آيَتَيْنِ وَإِلَّا فَالنَّفْخُ فِي الثَّوْبِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ وُصُولِ النَّفْخِ إلَى الْفَرَجِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي حُصُولِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا نَقَلَهُ أَحَدٌ عَنْ عَالِمٍ مَعْرُوفٍ مِنْ السَّلَفِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْمَسِيحَ خُلِقَ مِنْ أَصْلَيْنِ : مِنْ نَفْخِ جِبْرِيلَ وَمِنْ أُمِّهِ مَرْيَمَ وَهَذَا النَّفْخُ لَيْسَ هُوَ النَّفْخَ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالْجَنِينُ مُضْغَةٌ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَفْخٌ فِي بَدَنٍ قَدْ خُلِقَ وَجِبْرِيلُ حِينَ نَفَخَ لَمْ يَكُنْ الْمَسِيحُ خُلِقَ بَعْدُ وَلَا كَانَتْ مَرْيَمُ حَمَلَتْ وَإِنَّمَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ النَّفْخِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا } { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } فَلَمَّا نَفَخَ فِيهَا جِبْرِيلُ حَمَلَتْ بِهِ وَلِهَذَا قِيلَ فِي الْمَسِيحِ رُوحٌ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ هَذَا النَّفْخِ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي هُوَ رُوحُهُ وَهُوَ جِبْرِيلُ هُوَ الرُّوحُ الَّذِي خَاطَبَهَا وَقَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّك لِأَهَبَ لَك غُلَامًا زَكِيًّا فَقَوْلُهُ { فَنَفَخْنَا فِيهَا } أَوْ { فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } أَيْ مِنْ هَذَا الرُّوحِ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ وَعِيسَى رُوحٌ مِنْ هَذَا الرُّوحِ فَهُوَ رُوحٌ مِنْ اللَّهِ بِهَذَا
الِاعْتِبَارِ وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مِنْ أَصْلَيْنِ بِانْقِلَابِ الْمَادَّةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا إذَا الْتَقَيَا كَانَ بَيْنَهُمَا مَادَّةٌ فَتَنْقَلِبُ وَذَلِكَ لِقُوَّةِ حَكِّ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْصِ أَجْزَائِهَا وَهَذَا مِثْلُ تَوَلُّدِ النَّارِ بَيْنَ الزِّنَادَيْنِ إذَا قُدِحَ الْحَجَرُ بِالْحَدِيدِ أَوْ الشَّجَرُ بِالشَّجَرِ كَالْمَرْخِ وَالْعِفَارِ فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ الْحَرَكَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ قَدْحِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ يَسْتَحِيلُ بَعْضُ أَجْزَائِهِمَا وَيَسْخَنُ الْهَوَاءُ الَّذِي بَيْنَهُمَا فَيَصِيرُ نَارًا وَالزَّنْدَانِ كُلَّمَا قُدِحَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ نَقَصَتْ أَجْزَاؤُهُمَا بِقُوَّةِ الْحَكِّ فَهَذِهِ النَّارُ اسْتَحَالَتْ عَنْ الْهَوَاءِ وَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ بِسَبَبِ قَدْحِ أَحَدِ الزَّنْدَيْنِ بِالْآخَرِ . وَكَذَلِكَ النُّورُ الَّذِي يَحْصُلُ بِسَبَبِ انْعِكَاسِ الشُّعَاعِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمُضِيءَ كَالشَّمْسِ وَالنَّارِ فَإِنَّ لَفْظَ النُّورِ وَالضَّوْءِ يُقَالُ تَارَةً عَلَى الْجِسْمِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ : كَالنَّارِ الَّتِي فِي رَأْسِ الْمِصْبَاحِ وَهَذِهِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَادَّةٍ تَنْقَلِبُ نَارًا كَالْحَطَبِ وَالدُّهْنِ وَيَسْتَحِيلُ الْهَوَاءُ أَيْضًا نَارًا وَلَا يَنْقَلِبُ الْهَوَاءُ أَيْضًا نَارًا إلَّا بِنَقْصِ الْمَادَّةِ الَّتِي اشْتَعَلَتْ أَوْ نَقْصِ الزَّنْدَيْنِ وَتَارَةً يُرَادُ بِلَفْظِ النُّور وَالضَّوْء وَالشُّعَاع : الشُّعَاعُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْحِيطَانِ مِنْ الشَّمْسِ أَوْ مِنْ النَّارِ فَهَذَا عَرَضٌ لَيْسَ بِجِسْمٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ يَكُونُ قَابِلًا لَهُ فَلَا بُدَّ فِي الشُّعَاعِ مِنْ جِسْمٍ مُضِيءٍ وَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ يُقَابِلُهُ حَتَّى يَنْعَكِسَ عَلَيْهِ الشُّعَاعُ .
وَكَذَلِكَ النَّارُ الْحَاصِلَةُ فِي ذُبَالَةِ الْمِصْبَاحِ إذَا وُضِعَتْ فِي النَّارِ أَوْ وُضِعَ فِيهَا حَطَبٌ فَإِنَّ النَّارَ تُحِيلُ أَوَّلًا الْمَادَّةَ الَّتِي هِيَ الدُّهْنُ أَوْ الْحَطَبُ فَيَسْخَنُ الْهَوَاءُ الْمُحِيطُ بِهَا فَيَنْقَلِبُ نَارًا وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ بَعْدَ نَقْصِ الْمَادَّةِ وَكَذَلِكَ الرِّيحُ الَّتِي تُحَرِّكُ النَّارَ مِثْلَ مَا تَهُبُّ الرِّيحُ فَتَشْتَعِلُ النَّارُ فِي الْحَطَبِ وَمِثْلُ مَا يَنْفُخُ فِي الْكِيرِ وَغَيْرِهِ تَبْقَى الرِّيحُ الْمَنْفُوخَةُ تُضْرِمُ النَّارَ لِمَا فِي مَحَلِّ النَّارِ كَالْخَشَبِ وَالْفَحْمِ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِانْقِلَابِهِ نَارًا وَمَا فِي حَرَكَةِ الرِّيحِ الْقَوِيَّةِ مِنْ تَحْرِيكِ النَّارِ إلَى الْمَحَلِّ الْقَابِلِ لَهُ وَقَدْ يَنْقَلِبُ أَيْضًا الْهَوَاءُ الْقَرِيبُ مِنْ النَّارِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَبَ هُوَ الْهَوَاءُ انْقَلَبَ نَارًا مِثْلَ مَا فِي ذُبَالَةِ الْمِصْبَاحِ وَلِهَذَا إذَا طفئت صَارَ دُخَانًا وَهُوَ هَوَاءٌ مُخْتَلِطٌ بِنَارٍ كَالْبُخَارِ وَهُوَ هَوَاءٌ مُخْتَلِطٌ بِمَاءِ وَالْغُبَارُ هَوَاءٌ مُخْتَلِطٌ بِتُرَابِ .
وَقَدْ يُسَمَّى الْبُخَارُ دُخَانًا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : بُخَارُ الْمَاءِ كَمَا جَاءَتْ الْآثَارُ : { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ مِنْ بُخَارِ الْمَاءِ } وَهُوَ الدُّخَانُ . فَإِنَّ الدُّخَانَ الْهَوَاءُ الْمُخْتَلِطُ بِشَيْءٍ حَارٍّ ثُمَّ قَدْ لَا يَكُونُ فِيهِ مَاءٌ وَهُوَ الدُّخَانُ الصِّرْفُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ مَاءٌ فَهُوَ دُخَانٌ وَهُوَ بُخَارٌ كَبُخَارِ الْقِدْرِ . وَقَدْ يُسَمَّى الدُّخَانُ بُخَارًا . فَيُقَالُ لِمَنْ اسْتَجْمَرَ بِالطِّيبِ تَبَخَّرَ وَإِنْ كَانَ لَا رُطُوبَةَ هُنَا بَلْ دُخَانٌ الطِّيبِ سُمِّيَ بُخَارًا . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : بُخَارُ الْمَاءِ مَا يَرْتَفِعُ مِنْهُ كَالدُّخَانِ وَالْبَخُورِ بِالْفَتْحِ مَا يتبخر بِهِ ؛ لَكِنْ إنَّمَا يَصِيرُ الْهَوَاءُ نَارًا
بَعْدَ أَنْ تَذْهَبَ الْمَادَّةُ الَّتِي انْقَلَبَتْ نَارًا . كَالْحَطَبِ وَالدُّهْنِ فَلَمْ تَتَوَلَّدْ النَّارُ إلَّا مِنْ مَادَّةٍ كَمَا لَمْ يَتَوَلَّدْ الْحَيَوَانُ إلَّا مِنْ مَادَّةٍ .
فَصْلٌ :
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ التَّوَلُّدِ مِنْ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْلَيْنِ وَمِنْ انْفِصَالِ جُزْءٍ مِنْ الْأَصْلِ . وَإِذَا قِيلَ فِي الشِّبَعِ وَالرِّيِّ : إنَّهُ مُتَوَلِّدٌ أَوْ فِي زُهُوقِ الرُّوحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَاضِ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ فَلَا بُدَّ فِي جَمِيعِ مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ أَصْلَيْنِ لَكِنَّ الْعَرْضَ يَحْتَاجُ إلَى مَحَلٍّ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَادَّةٍ تَنْقَلِبُ عَرَضًا : بِخِلَافِ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تُخْلَقُ مِنْ مَوَادَّ تَنْقَلِبُ أَجْسَامًا كَمَا تَنْقَلِبُ إلَى نَوْعٍ آخَرَ كَانْقِلَابِ الْمَنِيِّ عَلَقَةً . ثُمَّ مُضْغَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَلْقِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ . وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ : كَخَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ الضِّلَعِ الْقُصْرَى لِآدَمَ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ مَادَّةٍ أُخِذَتْ مِنْ آدَمَ فَلَا يُسَمَّى هَذَا تَوَلُّدًا ؛ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ : إنَّ آدَمَ وَلَدَ حَوَّاءَ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ أَبُو حَوَّاءَ بَلْ خَلَقَ اللَّهُ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ كَمَا خَلَقَ آدَمَ مِنْ الطِّينِ .
وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَيُقَالُ : إنَّهُ وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ وَيُقَالُ : الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فَكَانَ الْمَسِيحُ جُزْءًا مِنْ مَرْيَمَ وَخُلِقَ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي فَرْجِ مَرْيَمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } وَفِي الْأُخْرَى : { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } وَأَمَّا حَوَّاءُ فَخَلَقَهَا اللَّهُ مِنْ مَادَّةٍ أُخِذَتْ مِنْ آدَمَ كَمَا خُلِقَ آدَمَ مِنْ الْمَادَّةِ الْأَرْضِيَّةِ وَهِيَ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ وَالرِّيحُ الَّذِي أَيْبَسَتْهُ حَتَّى صَارَ صَلْصَالًا فَلِهَذَا لَا يُقَالُ إنَّ آدَمَ وَلَدَ حَوَّاءَ وَلَا آدَمَ وَلَدَهُ التُّرَابُ وَيُقَالُ فِي الْمَسِيحِ : وَلَدَتْهُ مَرْيَمُ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْلَيْنِ مِنْ مَرْيَمَ وَمِنْ النَّفْخِ الَّذِي نَفَخَ فِيهَا جِبْرِيلُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } { قَالَتْ إنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقِيًّا } { قَالَ إنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا } { قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا } { قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ . فَهِيَ إنَّمَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ النَّفْخِ لَمْ تَحْمِلْ بِهِ مُدَّةً بِلَا نَفْخٍ ثُمَّ نُفِخَتْ فِيهِ رُوحُ الْحَيَاةِ كَسَائِرِ الْآدَمِيِّينَ فَفَرْقٌ بَيْنَ النَّفْخِ لِلْحَمْلِ وَبَيْنَ النَّفْخِ لِرُوحِ الْحَيَاةِ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُقَالُ إنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا فَلَا يَكُونُ إلَّا مِنْ مَادَّةٍ تَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ الْوَالِدِ وَلَا يَكُونُ إلَّا مِنْ أَصْلَيْنِ وَالرَّبُّ تَعَالَى صَمَدٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَاحِبَةً فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ . وَأَمَّا مَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ تَوَلُّدِ الْأَعْرَاضِ . كَمَا يُقَالُ : تَوَلَّدَ الشُّعَاعُ وَتَوَلَّدَ الْعِلْمُ عَنْ الْفِكْرِ وَتَوَلَّدَ الشِّبَعُ عَنْ الْأَكْلِ وَتَوَلَّدَتْ الْحَرَارَةُ عَنْ الْحَرَكَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ تَوَلُّدِ الْأَعْيَانِ ؛ مَعَ أَنَّ هَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلَيْنِ . وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ النَّصَارَى إنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ - مُسْتَلْزِمًا لَأَنْ يَقُولُوا : إنَّ مَرْيَمَ صَاحِبَةُ اللَّهِ فَيَجْعَلُونَ لَهُ زَوْجَةً وَصَاحِبَةً كَمَا جَعَلُوا لَهُ وَلَدًا وَبِأَيِّ مَعْنًى فَسَّرُوا كَوْنَهُ ابْنَهُ فَإِنَّهُ يُفَسِّرُ الزَّوْجَةَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى وَالْأَدِلَّةُ الْمُوجِبَةُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الصَّاحِبَةِ تُوجِبُ تَنْزِيهَهُ عَنْ الْوَلَدِ فَإِذَا كَانُوا يَصِفُونَهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ اتِّصَافِهِ بِهِ كَانَ اتِّصَافُهُ بِمَا هُوَ أَقَلُّ بُعْدًا لَازِمًا لَهُمْ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى .
فَصْلٌ :
وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ مَا نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ وَنَفَاهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } وَبِقَوْلِهِ : { أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ } { وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ بَعْضِ الْأُمَمِ كَمَا أَنَّ مَا نَفَاهُ مِنْ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ يَعُمُّ أَيْضًا جَمِيعَ أَنْوَاعِ الِاتِّخَاذَاتِ الاصطفائية كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } . قَالَ السدي : قَالُوا : إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَى إسْرَائِيلَ أَنَّ وَلَدَك بِكْرِيٍّ مِنْ الْوَلَدِ فَأُدْخِلُهُمْ النَّارَ فَيَكُونُونَ فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى تُطَهِّرَهُمْ وَتَأْكُلَ خَطَايَاهُمْ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ أَخْرِجُوا كُلَّ مَخْتُونٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ } وَقَالَ : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } وَقَالَ : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } وَقَالَ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ }
{ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } وَقَالَ : { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } وَقَالَ : { وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إنَاثًا إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا } { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلَّا نُفُورًا } { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } وَقَالَ : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } { أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ } { أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ } { وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } { أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ } { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } { فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } { مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } { إلَّا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ } وَقَالَ : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } { وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى } { تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } { إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } . قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : { جُزْءًا } أَيْ نَصِيبًا وَبَعْضًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ : جَعَلُوا لِلَّهِ نَصِيبًا مِنْ الْوَلَدِ وَعَنْ قتادة وَمُقَاتِلٍ عِدْلًا . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ صَحِيحٌ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَالْوَلَدُ يُشْبِهُ أَبَاهُ وَلِهَذَا قَالَ : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا } أَيْ الْبَنَاتِ . كَمَا فَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى } فَقَدْ جَعَلُوهَا لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا فَإِنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْوَالِدِ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا فَاطِمَةُ بِضْعَةٌ مِنِّي } وَقَوْلُهُ : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } قَالَ الْكَلْبِيُّ نَزَلَتْ فِي الزَّنَادِقَةِ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ وَإِبْلِيسَ شَرِيكَانِ فَاَللَّهُ خَالِقُ النُّورِ وَالنَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ . وَإِبْلِيسُ خَالِقُ الظُّلْمَةِ وَالسِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } فَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُمْ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ وَسَمَّى الْمَلَائِكَةَ جِنًّا لِاجْتِنَانِهِمْ عَنْ الْأَبْصَارِ . وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وقتادة وَقِيلَ قَالُوا لِحَيٍّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمْ الْجِنُّ
وَمِنْهُمْ إبْلِيسُ وَهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ قَالُوا - لَعَنَهُمْ اللَّهُ - بَلْ تَزَوَّجَ مِنْ الْجِنِّ فَخَرَجَ بَيْنَهُمَا الْمَلَائِكَةُ . وَقَوْلُهُ : { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ كَالثَّعْلَبِيِّ وَهُمْ كُفَّارُ الْعَرَبِ قَالُوا الْمَلَائِكَةُ وَالْأَصْنَامُ بَنَاتُ اللَّهِ وَالْيَهُودُ قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَالنَّصَارَى قَالُوا الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ مِنْ الْعَرَبِ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُ صَاهَرَ الْجِنَّ فَوَلَدَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةَ فَقَدْ نَفَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِامْتِنَاعِ الصَّاحِبَةِ وَبِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ جُزْءٌ فَإِنَّهُ صَمَدٌ وَقَوْلُهُ : { وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ } . وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ أَصْلَيْنِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ تَوَلُّدُ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُسَمَّى الْجَوَاهِرَ وَتَوَلُّدُ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ بَلْ وَلَا يَكُونُ تَوَلُّدُ الْأَعْيَانِ إلَّا بِانْفِصَالِ جُزْءٍ مِنْ الْوَالِدِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَاحِبَةً امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَقَدْ عَلِمُوا كُلَّهُمْ أَنْ لَا صَاحِبَةَ لَهُ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنْ الْجِنِّ وَلَا مِنْ الْإِنْسِ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ لَهُ صَاحِبَةً فَلِهَذَا احْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ كُفَّارِ الْعَرَبِ أَنَّهُ صَاهَرَ الْجِنَّ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ وَذَلِكَ
إنْ كَانَ قَدْ قِيلَ : فَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ انْتِفَاؤُهُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَكَذَلِكَ مَا قَالَتْهُ النَّصَارَى : مِنْ أَنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ وَمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْيَهُودِ أَنَّ الْعُزَيْرَ ابْنُ اللَّهِ فَإِنَّهُ قَدْ نَفَاهُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا وَبِهَذَا . فَإِنْ قِيلَ : أَمَّا عَوَامُّ النَّصَارَى فَلَا تَنْضَبِطُ أَقْوَالُهُمْ وَأَمَّا الْمَوْجُودُ فِي كَلَامِ عُلَمَائِهِمْ وَكُتُبِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : أَنَّ أُقْنُومَ الْكَلِمَةُ وَيُسَمُّونَهَا الِابْنَ تَدْرَعُ الْمَسِيحَ أَيْ اتَّخَذَهُ دِرْعًا كَمَا يَتَدَرَّعُ الْإِنْسَانَ قَمِيصَهُ فَاللَّاهُوتُ تَدْرَعُ النَّاسُوتَ وَيَقُولُونَ : بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ قِيلَ قَصْدُهُمْ أَنَّ الرَّبَّ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ فَالْمَوْجُودُ هُوَ الْأَبُ وَالْعِلْمُ هُوَ الِابْنُ وَالْحَيَاةُ هُوَ رُوحُ الْقُدُسِ هَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ مَوْجُودٌ عَالِمٌ قَادِرٌ وَيَقُولُ الْعِلْمُ هُوَ الْكَلِمَةُ وَهُوَ الْمُتَدَرِّعُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ رُوحُ الْقُدُسِ ؛ فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي أَنَّ الْمُتَدَرِّعَ هُوَ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ وَهِيَ الِابْنُ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي التَّدَرُّعِ وَاخْتَلَفُوا هَلْ هُمَا جَوْهَرٌ أَوْ جوهران ؟ وَهَلْ لَهُمَا مَشِيئَةٌ أَوْ مَشِيئَتَانِ وَلَهُمْ فِي الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ كَلَامٌ مُضْطَرِبٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ . فَإِنَّ مُقَالَةَ النَّصَارَى فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ مَا يَتَعَذَّرُ ضَبْطُهُ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ مَأْخُوذًا عَنْ كِتَابٍ مُنَزَّلٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَلَا هُوَ مُوَافِقٌ لِعُقُولِ الْعُقَلَاءِ فَقَالَتْ الْيَعْقُوبِيَّةُ صَارَ جَوْهَرًا وَاحِدًا وَطَبِيعَةً وَاحِدَةً وَأُقْنُومًا وَاحِدًا كَالْمَاءِ فِي اللَّبَنِ . وَقَالَتْ
النسطورية : بَلْ هُمَا جوهران وَطَبِيعَتَانِ وَمَشِيئَتَانِ ؛ لَكِنْ حَلَّ اللَّاهُوتُ فِي النَّاسُوتِ حُلُولَ الْمَاءِ فِي الظَّرْفِ . وَقَالَتْ الْمَلَكِيَّةُ : بَلْ هُمَا جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ مَشِيئَتَانِ وَطَبِيعَتَانِ أَوْ فِعْلَانِ كَالنَّارِ فِي الْحَدِيدِ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } هُمْ الْيَعْقُوبِيَّةُ وَفِي قَوْلِهِ : { وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } هُمْ الْمَلَكِيَّةُ وَقَوْلِهِ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } هُمْ النسطورية وَلَيْسَ بِشَيْءِ بَلْ الْفِرَقُ الثَّلَاثُ تَقُولُ الْمَقَالَاتِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ النَّصَارَى فَكُلُّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ اللَّهُ وَيَقُولُونَ : إنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ فِي أَمَانَتِهِمْ الَّتِي هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا يَقُولُونَ إلَهٌ حَقٌّ مِنْ إلَهٍ حَقٍّ وَأَمَّا قَوْلُهُ : " ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ " فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } . قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْلِهِ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ النَّصَارَى قَالُوا بِأَنَّ الْإِلَهِيَّةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَعِيسَى وَمَرْيَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَهٌ وَذُكِرَ عَنْ الزَّجَّاجِ : الْغُلُوُّ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي الظُّلْمِ وَغُلُوُّ النَّصَارَى فِي عِيسَى قَوْلُ بَعْضِهِمْ هُوَ اللَّهُ وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ هُوَ
ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ . فَعُلَمَاءُ النَّصَارَى الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَهُمْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ الِابْنُ وَالْفِرَقُ الثَّلَاثُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَفَسَادُ قَوْلِهِمْ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ تَسْمِيَةُ صِفَةِ اللَّهِ ابْنًا لَا كَلَامُهُ وَلَا غَيْرُهُ فَتَسْمِيَتُهُمْ صِفَةُ اللَّهِ ابْنًا تَحْرِيفٌ لِكَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ الْمَسِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَمَدُوا النَّاس بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ لَمْ يُرِدْ بِالِابْنِ صِفَةَ اللَّهِ الَّتِي هِيَ كَلِمَتُهُ وَلَا بِرُوحِ الْقُدُسِ حَيَاتَهُ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ إرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى النَّصَارَى . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الِابْنُ أَهِيَ صِفَةُ اللَّهِ قَائِمَةٌ بِهِ أَمْ هِيَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ؟ فَإِنْ كَانَتْ صِفَتَهُ بَطَلَ مَذْهَبُهُمْ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ الصِّفَةَ لَا تَكُونُ إلَهًا يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَالْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ إلَهٌ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا كَانَ الَّذِي تَدْرَعُهُ لَيْسَ بِإِلَهِ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ إلَهًا . الثَّانِي : أَنَّ الصِّفَةَ لَا تَقُومُ بِغَيْرِ الْمَوْصُوفِ فَلَا تُفَارِقُهُ وَإِنْ قَالُوا : نَزَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ أَوْ قَالُوا : إنَّهُ الْكَلِمَةُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْن سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الصِّفَةَ لَا تَتَّحِدُ وَتَتَدَرَّعُ شَيْئًا إلَّا مَعَ الْمَوْصُوفِ فَيَكُونُ الْأَبُ نَفْسُهُ هُوَ الْمَسِيحَ وَالنَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْأَبُ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ مُتَنَاقِضٌ : يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا يَجْعَلُونَهُ إلَهًا يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَلَا يَجْعَلُونَهُ الْأَبَ الَّذِي هُوَ الْإِلَهُ وَيَقُولُونَ : إلَهٌ وَاحِدٌ وَقَدْ شَبَّهَهُ بَعْضُ مُتَكَلِّمِيهِمْ كَيَحْيَى بْنِ عَدِيٍّ بِالرَّجُلِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ طَبِيبٌ وَحَاسِبٌ وَكَاتِبٌ وَلَهُ بِكُلِّ صِفَةٍ حَكَمٌ فَيُقَالُ : هَذَا حَقٌّ لَكِنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ نَظِيرُ هَذَا فَإِذَا قُلْتُمْ أَنَّ الرَّبَّ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَالِمٌ وَلَهُ بِكُلِّ صِفَةٍ حُكْمٌ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُتَّحِدَ إنْ كَانَ هُوَ الذَّاتَ الْمُتَّصِفَةَ فَالصِّفَاتُ كُلُّهَا تَابِعَةٌ لَهَا فَإِنَّهُ إذَا تَدَرَّعَ زَيْدٌ الطَّبِيبُ الْحَاسِبُ الْكَاتِبُ دِرْعًا كَانَتْ الصِّفَاتُ كُلُّهَا قَائِمَةً بِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَدَرِّعُ صِفَةً دُونَ صِفَةٍ عَادَ الْمَحْذُورُ . وَإِنْ قَالُوا : الْمُتَدَرِّعُ الذَّاتُ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ لَزِمَ افْتِرَاقُ الصِّفَتَيْنِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ ؛ فَإِنَّ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةَ بِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ وَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ لَا تَفْتَرِقُ وَصِفَاتُ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يُمْكِنُ عَدَمُ بَعْضِهَا مَعَ بَقَاءِ الْبَاقِي بِخِلَافِ صِفَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . الرَّابِعُ : إنَّ الْمَسِيحَ نَفْسَهُ لَيْسَ هُوَ كَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَا شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَسَمِّي كَلِمَةً لِأَنَّهُ خُلِقَ بكن مِنْ غَيْرِ الْحَبْلِ الْمُعْتَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ نَفْسَهُ كَلَامُ اللَّهِ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ كَلَامِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ خَالِقًا وَلَا رَبًّا وَلَا إلَهًا . فَالنَّصَارَى إذَا قَالُوا : إنَّ الْمَسِيحَ هُوَ الْخَالِقُ كَانُوا ضَالِّينَ مِنْ جِهَةِ جَعْلِ الصِّفَةِ خَالِقَةً وَمِنْ جِهَةِ جَعْلِهِ هُوَ نَفْسَ الصِّفَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مَخْلُوقٌ بِالْكَلِمَةِ ثُمَّ قَوْلُهُمْ بِالتَّثْلِيثِ وَأَنَّ الصِّفَاتِ ثَلَاثٌ بَاطِلٌ وَقَوْلُهُمْ أَيْضًا : بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ بَاطِلٌ . فَقَوْلُهُمْ يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَغَيْرِهَا . فَلَوْ قَالُوا : إنَّ الرَّبَّ لَهُ صِفَاتٌ قَائِمَةٌ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا اتِّحَادًا وَلَا حُلُولًا كَانَ هَذَا قَوْلَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُثْبِتِينَ لِلصِّفَاتِ . وَإِنْ قَالُوا : إنَّ الصِّفَاتِ أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فَهَذَا مُكَابَرَةٌ فَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ . وَأَيْضًا فَجَعْلُهُمْ عَدَدَ الصِّفَاتِ ثَلَاثَةً بَاطِلٌ فَإِنَّ صِفَاتِ الرَّبِّ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ . وَالْأَقَانِيمُ عِنْدَهُمْ الَّتِي جَعَلُوهَا الصِّفَاتِ لَيْسَتْ إلَّا ثَلَاثَةً ؛ وَلِهَذَا تَارَةً يُفَسِّرُونَهَا بِالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَتَارَةً يُفَسِّرُونَهَا بِالْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَاضْطِرَابهمْ كَثِيرٌ . فَإِنَّ قَوْلَهُمْ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ وَلَا يَضْبُطُهُ عَقْلُ عَاقِلٍ وَلِهَذَا يُقَالُ : لَوْ اجْتَمَعَ عَشَرَةٌ مِنْ النَّصَارَى لَافْتَرَقُوا عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا
وَأَيْضًا فَكَلِمَاتُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا . كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ النَّاسِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَمْ يَزَلْ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ لَكِنْ تَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ حَادِثًا وَقَوْلُ مَنْ قَالَ كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ فِي غَيْرِهِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : كَلَامُهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ قَدِيمُ الْعَيْنِ فَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ أُمُورٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا مَعَ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ وَلَكِنَّ الْعِبَارَاتِ عَنْهُ مُتَعَدِّدَةٌ وَهَؤُلَاءِ يَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَائِمًا بِغَيْرِ اللَّهِ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ الْعِبَارَاتُ الْمَخْلُوقَةُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمَسِيحُ غَيْرَ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَشَدُّ امْتِنَاعًا ؛ لِأَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ كَثِيرَةٌ وَالْمَسِيحُ لَيْسَ هُوَ جَمِيعَهَا بَلْ وَلَا مَخْلُوقًا بِجَمِيعِهَا وَإِنَّمَا خُلِقَ بِكَلِمَةٍ مِنْهَا وَلَيْسَ هُوَ عَيْنُ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْمَسِيحُ عَيْنٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ : تَسْمِيَتُكُمْ الْعِلْمَ وَالْكَلِمَةَ وَلَدًا وَابْنًا تَسْمِيَةٌ بَاطِلَةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَالُوا : لِأَنَّ الذَّاتَ
يَتَوَلَّدُ عَنْهَا الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ كَمَا يَتَوَلَّدُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِ الرَّجُلِ الْعَالِمِ مِنْهَا فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَاتِهِ الْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ وَالْكَلَامُ فَلِهَذَا سُمِّيَتْ الْكَلِمَةُ ابْنًا قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ صِفَاتِنَا حَادِثَةٌ تَحْدُثُ بِسَبَبِ تَعَلُّمِنَا وَنَظَرِنَا وَفِكْرِنَا وَاسْتِدْلَالِنَا وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ وَعِلْمُهُ فَهُوَ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ بِالتَّوَلُّدِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْمُدَّعِي أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ لَازِمَةٌ لِمَوْصُوفِهَا مُتَوَلِّدَةٌ عَنْهُ وَهِيَ ابْنُ لَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْأُمُورَ فِي الْعُقُولِ وَاللُّغَاتِ فَإِنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ وَنُطْقَهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ لَا يُقَالُ إنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ عَنْهُ وَإِنَّهَا ابْنٌ لَهُ وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَيَاةُ الرَّبِّ أَيْضًا ابْنَهُ وَمُتَوَلِّدَةَ وَكَذَلِكَ قُدْرَتُهُ وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَوَلُّدِ الْعِلْمِ وَتَوَلُّدِ الْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ . وَثَانِيهَا أَنَّ هَذَا إنْ كَانَ مِنْ بَابِ تَوَلُّدِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْأَصْلِ جُزْءٌ وَأَمَّا عِلْمُنَا وَقَوْلُنَا فَلَيْسَ عَيْنًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ صِفَةً قَائِمَةً بِمَوْصُوفِ وَعَرَضًا قَائِمًا فِي مَحَلٍّ كَعِلْمِنَا وَكَلَامِنَا فَذَاكَ أَيْضًا لَا يَتَوَلَّدُ إلَّا عَنْ أَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ يَتَوَلَّدُ فِيهِ . وَالْوَاحِدُ مِنَّا لَا يَحْدُثُ لَهُ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ إلَّا بِمُقَدِّمَاتٍ تَتَقَدَّمُ عَلَى ذَلِكَ وَتَكُونُ أُصُولًا لِلْفُرُوعِ وَيَحْصُلُ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ فِي مَحَلٍّ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ .
فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ عِلْمَ الرَّبِّ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَصِيرَ عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا وَأَنْ تَصِيرَ ذَاتُهُ مُتَكَلِّمَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ كُفْرٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ فَإِنَّ الذَّاتَ الَّتِي لَا تَكُونُ عَالِمَةً يَمْتَنِعُ أَنْ تَجْعَلَ نَفْسَهَا عَالِمَةً بِلَا أَحَدٍ يُعَلِّمُهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّمًا مِنْ خَلْقِهِ وَكَذَلِكَ الذَّاتُ الَّتِي تَكُونُ عَاجِزَةً عَنْ الْكَلَامِ يَمْتَنِعُ أَنْ تَصِيرَ قَادِرَةً عَلَيْهِ بِلَا أَحَدٍ يَجْعَلُهَا قَادِرَةً وَالْوَاحِدُ مِنْهَا لَا يُوَلِّدُ جَمِيعَ عُلُومِهِ بَلْ ثَمَّ عُلُومٌ خُلِقَتْ فِيهِ لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهَا فَإِذَا نَظَرَ فِيهَا حَصَلَتْ لَهُ عُلُومٌ أُخْرَى . فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ : إنَّ الْإِنْسَانَ يُوَلِّدُ عُلُومَهُ كُلَّهَا وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : إنَّهُ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مُتَكَلِّمَةً بَعْد أَنْ لَمْ تَكُنْ مُتَكَلِّمَةً بَلْ الَّذِي يُقَدِّرُهُ عَلَى النُّطْقِ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ . فَإِنْ قَالُوا : إنَّ الرَّبَّ يُوَلِّدُ بَعْضَ عِلْمِهِ وَبَعْضَ كَلَامِهِ دُونَ بَعْضٍ : بَطَلَ تَسْمِيَةُ الْعِلْمِ - الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ مُطْلَقًا - الِابْنَ وَصَارَ لَفْظُ الِابْنِ إنَّمَا يُسَمَّى بِهِ بَعْضُ عِلْمِهِ أَوْ بَعْضُ كَلَامِهِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ الْكَلِمَةُ وَهُوَ أُقْنُومُ الْعِلْمِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ لَيْسَ مُتَوَلِّدًا عَنْهُ كُلِّهِ وَلَا يُسَمَّى كُلَّهُ ابْنًا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . وَثَالِثُهَا أَنْ يُقَالَ : تَسْمِيَةُ عِلْمِ الْعَالِمِ وَكَلَامِهِ وَلَدًا لَهُ لَا يُعْرَفُ فِي شَيْءٍ مِنْ اللُّغَاتِ الْمَشْهُورَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ فَإِنَّ عِلْمَهُ وَكَلَامَهُ كَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ فَإِنْ
جَازَ هَذَا جَازَ تَسْمِيَةُ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ كُلِّهَا الْحَادِثَةِ مُتَوَلِّدَاتٍ عَنْهُ لَهُ وَتَسْمِيَتُهَا أَبْنَاءَهُ وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْقَدَرِيَّةِ . إنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالنَّظَرِ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ إنَّ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ مُتَوَلِّدٌ عَنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا يَقُولُ إنَّ الْعِلْمَ ابْنُهُ وَوَلَدُهُ كَمَا لَا يَقُولُ إنَّ الشِّبَعَ وَالرِّيَّ ابْنُهُ وَلَا وَلَدَهُ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ تَوَلُّدِ الْأَعْرَاضِ وَالْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِالْإِنْسَانِ وَتِلْكَ لَا يُقَالُ إنَّهَا أَوْلَادُهُ وَأَبْنَاؤُهُ . وَمَنْ اسْتَعَارَ فَقَالَ بُنَيَّاتُ فِكْرِهِ فَهُوَ كَمَا يُقَالُ بُنَيَّاتُ الطَّرِيقِ وَيُقَالُ ابْنُ السَّبِيلِ وَيُقَالُ لِطَيْرِ الْمَاءِ ابْنُ مَاءٍ وَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ مُقَيَّدَةٌ قَدْ عُرِفَ أَنَّهَا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنْ الْأَبِ وَالِابْنِ وَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَأَيْضًا فَكَلَامُ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ تَسْمِيَةُ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ ابْنًا فَمَنْ حَمَلَ شَيْئًا مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا مِمَّا يُقِرُّ بِهِ عُلَمَاءُ النَّصَارَى وَمَا وُجِدَ عِنْدَهُمْ مِنْ لَفْظِ الِابْنِ فِي حَقِّ الْمَسِيحِ وَإِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمَا فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَخْلُوقِ لَا لِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُكَرَّمٌ مُعْظَمٌ . وَرَابِعُهَا : أَنْ يُقَالَ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فَاَلَّذِي حَصَلَ لِلْمَسِيحِ إنْ كَانَ هُوَ مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ إيَّاهُ مِنْ عِلْمِهِ وَكَلَامِهِ فَهَذَا مَوْجُودٌ لِسَائِرِ النَّبِيِّينَ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهِ بِكَوْنِهِ ابْنَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْكَلَامَ إلَهٌ اتَّحَدَ بِهِ فَيَكُونُ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَبَ فَيَكُونُ الْمَسِيحُ هُوَ الْأَبَ وَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ وَالْكَلَامُ جَوْهَرًا آخَرَ فَيَكُونُ إلَهَانِ قَائِمَانِ
بِأَنْفُسِهِمَا فَتَبَيَّنَ فَسَادَ مَا قَالُوهُ بِكُلِّ وَجْهٍ .
وَخَامِسُهَا : أَنْ يُقَالَ : مِنْ الْمَعْلُومِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي خُصَّ بِهِ الْمَسِيحُ إنَّمَا هُوَ أَنْ خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَب فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ مِنْ الْبَشَرِ جَعَلَ النَّصَارَى الرَّبَّ أَبَاهُ وَبِهَذَا نَاظَرَ نَصَارَى نَجْرَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : إنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ فَقُلْ لَنَا مَنْ أَبُوهُ ؟ فَعُلِمَ أَنَّ النَّصَارَى إنَّمَا ادَّعَوْا فِيهِ الْبُنُوَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ وَأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ كَلَامِ عُلَمَائِهِمْ هُوَ تَأْوِيلٌ مِنْهُمْ لِلْمَذْهَبِ لِيُزِيلُوا بِهِ الشَّنَاعَةَ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا عَاقِلٌ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي جَعْلِهِ ابْنَ اللَّهِ وَجْهٌ يَخْتَصُّ بِهِ مَعْقُولٌ فَعُلِمَ أَنَّ النَّصَارَى جَعَلُوهُ ابْنَ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ أَحْبَلَ مَرْيَمَ وَاَللَّه هُوَ أَبُوهُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِنْزَالِ جُزْءٍ مِنْهُ فِيهَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ الصَّمَدُ وَيَلْزَمُهُمْ أَنْ تَكُونَ مَرْيَمُ صَاحِبَةً وَزَوْجَةً لَهُ وَلِهَذَا يتألهونها كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَأَيُّ مَعْنًى ذَكَرُوهُ فِي بُنُوَّةِ عِيسَى غَيْرَ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَرْقٌ بَيْنَ عِيسَى وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَلَا صَارَ فِيهِ مَعْنَى الْبُنُوَّةِ بَلْ قَالُوا : كَمَا قَالَ بَعْضُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إنَّهُ صَاهَرَ الْجِنَّ فَوَلَدَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةَ وَإِذَا قَالُوا : اتَّخَذَهُ ابْنًا عَلَى سَبِيلِ الِاصْطِفَاءِ فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْفِعْلِيُّ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إبْطَالُهُ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرُوحٌ مِنْهُ } لَيْسَ فِيهِ أَنَّ بَعْضَ اللَّهِ صَارَ فِي عِيسَى بَلْ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا قَالَ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَقَالَ : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } وَمَا أُضِيفَ إلَى اللَّهِ أَوْ قِيلَ هُوَ مِنْهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ إنْ كَانَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَمِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَأَرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا } وَقَالَ فِي الْمَسِيحِ : { وَرُوحٌ مِنْهُ } وَمَا كَانَ صِفَةً لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ كَالْعِلْمِ وَالْكَلَامِ فَهُوَ صِفَةٌ لَهُ كَمَا يُقَالُ كَلَامُ اللَّهِ وَعِلْمُ اللَّهِ وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَأَلْفَاظُ الْمَصَادِرِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَفْعُولِ فَيُسَمَّى الْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا وَالْمَقْدُورُ قُدْرَةً وَالْمَرْحُومُ بِهِ رَحْمَةً وَالْمَخْلُوقُ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةً فَإِذَا قِيلَ فِي الْمَسِيحِ : إنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ خُلِقَ بِكَلِمَةِ قَوْلِهِ كُنْ وَلَمْ يُخْلَقْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ مِنْ الْبَشَرِ وَإِلَّا فَعِيسَى بَشَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ هُوَ كَلَامًا صِفَةً لِلْمُتَكَلِّمِ يَقُومُ بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ عَنْ الْمَخْلُوقِ : إنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ . فَالْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ كَوْنُهُ بِأَمْرِهِ كَقَوْلِهِ : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } وَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } فَالرَّبُّ تَعَالَى أَحَدٌ صَمَدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَعَّضَ وَيَتَجَزَّأَ فَيَصِيرُ بَعْضُهُ فِي غَيْرِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَ ذَلِكَ رُوحًا أَوْ غَيْرُهُ فَبَطَلَ مَا يَتَوَهَّمُهُ النَّصَارَى مِنْ كَوْنِهِ ابْنًا لَهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ . وَقَدْ قِيلَ : مَنْشَأُ ضَلَالِ الْقَوْمِ أَنَّهُ كَانَ فِي لُغَةِ مَنْ قَبْلَنَا يُعَبَّرُ عَنْ
الرَّبِّ بِالْأَبِ وَبِالِابْنِ عَنْ الْعَبْدِ الْمُرَبَّى الَّذِي يَرُبُّهُ اللَّهُ وَيُرَبِّيهِ فَقَالَ الْمَسِيحُ : عَمَدُوا النَّاس بِاسْمِ الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاَللَّهِ وَيُؤْمِنُوا بِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ الْمَسِيحِ وَيُؤْمِنُوا بِرُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ . فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَلَكِيِّ وَرَسُولِهِ الْبَشَرِيِّ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى : فِي غَيْرِ آيَةٍ أَنَّهُ أَيَّدَ الْمَسِيحَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَهُوَ جِبْرِيلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } فَعِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ ؛ بَلْ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وقتادة وَالضَّحَّاكِ والسدي وَغَيْرِهِمْ وَدَلِيلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ يُحْيِي بِهِ الْمَوْتَى وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ الْإِنْجِيلُ . وَقَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَقَالَ تَعَالَى : { يُنَزِّلُ
الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فَمَا يُنَزِّلُهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ مِمَّا تَحْيَا بِهِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ الْخَالِصِ يُسَمِّيهِ رُوحًا وَهُوَ مَا يُؤَيِّدُ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِبَادِهِ فَكَيْفَ بِالْمُرْسَلِينَ مِنْهُمْ وَالْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَذَا مِنْ جُمْهُورِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ تَعَالَى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } وَقَدْ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِي تَأْيِيدِهِ بِرُوحِ الْقُدُسِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ أَيَّدَهُ بِهِ لِإِظْهَارِ أَمْرِهِ وَدِينِهِ . الثَّانِي : لِدَفْعِ بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْهُ إذْ أَرَادُوا قَتْلَهُ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَيَّدَهُ بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الِابْنِ فِي لُغَتِهِمْ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالْمَسِيحِ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي التَّوْرَاةِ لِإِسْرَائِيلَ : أَنْتَ ابْنِي بِكْرِيّ وَالْمَسِيحُ كَانَ يَقُولُ أَبِي وَأَبُوكُمْ فَيَجْعَلُهُ أَبًا لِلْجَمِيعِ وَيُسَمِّي غَيْرَهُ ابْنًا لَهُ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا اخْتِصَاصَ لِلْمَسِيحِ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ : هُوَ ابْنُهُ بِالطَّبْعِ وَغَيْرُهُ ابْنُهُ بِالْوَضْعِ فَيُفَرِّقُونَ فَرْقًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَوْلُهُمْ هُوَ ابْنُهُ بِالطَّبْعِ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَالَاتِ عَقْلًا وَسَمْعًا مَا يَبِينُ بُطْلَانُهُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ صَدَرَ عَنْ عِلَّةٍ مُوجَبَةٍ بِذَاتِهِ وَأَنَّهُ صَدَرَ عَنْهُ عَقْلٌ ثُمَّ عَقْلٌ ثُمَّ عَقْلٌ إلَى تَمَامِ عَشَرَةِ عُقُولٍ وَتِسْعَةِ أَنْفُسٍ . وَقَدْ يَجْعَلُونَ الْعَقْلَ بِمَنْزِلَةِ الذَّكَرِ وَالنَّفْسَ بِمَنْزِلَةِ الْأُنْثَى فَهَؤُلَاءِ قَوْلُهُمْ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَدَلَالَةُ الْقُرْآنِ عَلَى فَسَادِهِ أَبْلَغُ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَقِدَمِ هَذِهِ الرُّوحَانِيَّاتِ الَّتِي يُثْبِتُونَهَا وَيُسَمُّونَهَا الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ وَالْجَوَاهِرَ الْعَقْلِيَّةَ وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَمَا كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا يَكُونُ مَفْعُولًا إلَّا مَا كَانَ حَادِثًا وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ بَدِيهِيَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ وَعَلَيْهَا الْأَوَّلُونَ والآخرون مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ وَلِهَذَا كَانَ جَمَاهِيرُ الْأُمَمِ يَقُولُونَ كُلُّ مُمْكِنٍ أَنْ يُوجَدَ وَأَنْ لَا يُوجَدَ فَلَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَإِنَّمَا ادَّعَى وُجُودَ مُمْكِنٍ قَدِيمٍ مَعْلُولٍ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : كَابْنِ سِينَا وَمَنْ وَافَقَهُ : زَعَمُوا أَنَّ الْفَلَكَ
قَدِيمٌ مَعْلُولٌ لِعِلَّةٍ قَدِيمَةٍ . وَأَمَّا الْفَلَاسِفَةُ الْقُدَمَاءُ فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَقُولُ بِحُدُوثِ الْفَلَكِ وَهُمْ جُمْهُورُهُمْ وَمَنْ كَانَ قَبْلَ أَرِسْطُو فَهَؤُلَاءِ مُوَافِقُونَ لِأَهْلِ الْمِلَلِ وَمَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْفَلَكِ كَأَرِسْطُو وَشِيعَتِهِ فَإِنَّمَا يُثْبِتُونَ لَهُ عِلَّةً غائية يَتَشَبَّهُ الْفَلَكُ بِهَا لَا يُثْبِتُونَ لَهُ عِلَّةً فَاعِلَةً وَمَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْفَلَكِ كُلُّ ذَلِكَ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ عِلَّةٌ غائية وَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَكِنَّ الْغَرَضَ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ لَيْسَ قَوْلَ أُولَئِكَ . الثَّانِي : أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ وَالْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ وَيَعْنُونَ بِكَوْنِهِ وَاحِدًا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ صِفَةٌ ثُبُوتِيَّةٌ أَصْلًا وَلَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ تَرْكِيبٌ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : لَا يَكُونُ فَاعِلًا وَقَابِلًا لِأَنَّ جِهَةَ الْفِعْلِ غَيْرُ جِهَةِ الْقَبُولِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعَدُّدَ الصِّفَةِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلتَّرْكِيبِ وَمَعَ هَذَا يَقُولُونَ : إنَّهُ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَقْلٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَعِشْقٌ وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةِ وَيَقُولُونَ : إنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ هِيَ الصِّفَةُ الْأُخْرَى وَالصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفُ وَالْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةُ وَهُوَ الْإِرَادَةُ وَالْعِلْمُ هُوَ الْعَالَمُ وَهُوَ الْقَادِرُ . وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْعِلْمُ هُوَ الْمَعْلُومُ فَإِذَا تَصَوَّرَ الْعَاقِلُ أَقْوَالَهُمْ حَقَّ التَّصَوُّرِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ الَّذِي أَثْبَتُوهُ لَا يُتَصَوَّرُ
وُجُودُهُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَبُيِّنَ فَسَادُ مَا يَقُولُونَهُ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَبُيِّنَ فَسَادُ شُبَهِ التَّرْكِيبِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَصْلُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ قَوْلَهُمْ : " إنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ " أَصْلٌ فَاسِدٌ . الثَّالِثُ : أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُمْ بِصُدُورِ الْأَشْيَاءِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْكَثْرَةِ وَالْحُدُوثِ عَنْ وَاحِدٍ بَسِيطٍ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ فِي الْعَالِمِ وَاحِدٌ بَسِيطٌ صَدَرَ عَنْهُ شَيْءٌ لَا وَاحِدٌ وَلَا اثْنَانِ فَهَذِهِ الدَّعْوَى الْكُلِّيَّةُ لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهَا فِي شَيْءٍ أَصْلًا . الْخَامِسُ : أَنَّهُمْ يَقُولُونَ صَدَرَ عَنْهُ وَاحِدٌ وَعَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ عَقْلٌ وَنَفْسٌ وَفَلَكٌ فَيُقَالُ : إنْ كَانَ الصَّادِرُ عَنْهُ وَاحِدًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَصْدُرُ عَنْ هَذَا الْوَاحِدِ إلَّا وَاحِدٌ أَيْضًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ إنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ وَهُوَ مُكَابَرَةٌ وَإِنْ كَانَ فِي الصَّادِرِ الْأَوَّلِ كَثْرَةٌ مَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَقَدْ صَدَرَ عَنْ الْأَوَّلِ مَا فِيهِ كَثْرَةٌ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَقَدْ صَدَرَ عَنْ الْوَاحِدِ مَا لَيْسَ بِوَاحِدِ . وَلِهَذَا اضْطَرَبَ مُتَأَخِّرُوهُمْ فَأَبُو الْبَرَكَاتِ صَاحِبُ " الْمُعْتَبَرِ " أَبْطَلَ هَذَا الْقَوْلَ وَرَدَّهُ غَايَةَ الرَّدِّ وَابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ زَعَمَ أَنَّ الْفَلَكَ بِمَا فِيهِ صَادِرٌ عَنْ الْأَوَّلِ . والطوسي وَزِيرُ الْمَلَاحِدَةِ يَقْرُبُ مِنْ هَذَا ؛ فَجَعَلَ الْأَوَّلَ
شَرْطًا فِي الثَّانِي وَالثَّانِيَ شَرْطًا فِي الثَّالِثِ وَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الضَّلَالِ وَهُوَ إثْبَاتُ جَوَاهِرَ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا أَزَلِيَّةٍ مَعَ الرَّبِّ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ مَعَهُ لَمْ تَكُنْ مَسْبُوقَةً بِعَدَمِ وَجَعَلَ الْفَلَكَ أَيْضًا أَزَلِيًّا وَهَذَا وَحْدَهُ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَالْكُفْرِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَكَيْفَ إذَا ضُمَّ إلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَقْلِ وَالنَّقْلِ الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ الصوادر الْمَعْلُومَةَ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ اثْنَيْنِ وَأَمَّا وَاحِدٌ وَحْدَهُ فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٌ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الْمُتَوَلِّدَاتِ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَعْرَاضِ . وَكُلُّ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ صُدُورِ الْحَرَارَةِ عَنْ الْحَارِّ وَالْبُرُودَةِ عَنْ الْبَارِدِ وَالشُّعَاعِ عَنْ الشَّمْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : فَإِنَّمَا هُوَ صُدُورُ أَعْرَاضٍ وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَصْلَيْنِ . وَأَمَّا صُدُورُ الْأَعْيَانِ عَنْ غَيْرِهَا فَهَذَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْوِلَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَتِلْكَ لَا تَكُونُ إلَّا بِانْفِصَالِ جُزْءٍ مِنْ الْأَصْلِ وَهَذَا الصُّدُورُ وَالتَّوَلُّدُ والمعلولية الَّتِي يَدَّعُونَهَا فِي الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْأَفْلَاكِ يَقُولُونَ إنَّهَا جَوَاهِرُ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا صَدَرَتْ عَنْ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ بَسِيطٍ فَهَذَا مِنْ أَبْطَلْ قَوْلٍ قِيلَ فِي الصُّدُورِ وَالتَّوَلُّدِ لِأَنَّ فِيهِ صُدُورَ جَوَاهِرَ عَنْ جَوْهَرٍ وَاحِدٍ وَهَذَا لَا يُعْقَلُ وَفِيهِ صُدُورُهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ جُزْءٍ مُنْفَصِلٍ مِنْ الْأَصْلِ وَهَذَا لَا يَعْقَلُ وَهُمْ غَايَةُ مَا عِنْدَهُمْ أَنْ يُشَبِّهُوا هَذَا بِحُدُوثِ بَعْضِ الْأَعْرَاضِ كَالشُّعَاعِ عَنْ الشَّمْسِ وَحَرَكَةِ الْخَاتَمِ عَنْ حَرَكَةِ الْيَدِ وَهَذَا تَمْثِيلٌ
بَاطِلٌ لِأَنَّ تِلْكَ لَيْسَتْ عِلَّةً فَاعِلَةً وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فَقَطْ وَالصَّادِرُ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ بَلْ عَنْ أَصْلَيْنِ وَالصَّادِرُ عَرَضٌ لَا جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ التَّوَلُّدِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي يَدْعُونَهُ مِنْ أَبْعَدِ الْأُمُورِ عَنْ التَّوَلُّدِ وَالصُّدُورِ وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ وَهُمْ جَعَلُوا مَفْعُولَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ صِفَةٍ أَزَلِيَّةٍ لَازِمَةٍ لِذَاتِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِمَّا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ وَحِينَئِذٍ فَهُمْ فِي دَعْوَاهُمْ إلَهِيَّةِ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْكَوَاكِبِ أَكْفَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَمَنْ جَعَلَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمِلَلِ مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَلَكِيَّةِ فَقَوْلُهُ فِي جَعْلِ الْمَلَائِكَةِ متولدين عَنْ اللَّهِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ وَعَوَّامِ النَّصَارَى فَإِنَّ أُولَئِكَ أَثْبَتُوا وِلَادَةً حِسِّيَّةً وَكَوْنَهُ صَمَدًا يُبْطِلُهَا ؛ لَكِنْ مَا أَثْبَتُوهُ مَعْقُولٌ وَهَؤُلَاءِ ادَّعَوْا تَوَلُّدًا عَقْلِيًّا بَاطِلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَبْطَلَ مِمَّا ادَّعَتْهُ النَّصَارَى مِنْ تَوَلُّدِ الْكَلِمَةِ عَنْ الذَّاتِ فَكَانَ نَفْيُ مَا ادَّعُوهُ أَوْلَى مِنْ نَفْيِ مَا ادَّعَاهُ أُولَئِكَ لِأَنَّ الْمُحَالَ الَّذِي يَعْلَمُ امْتِنَاعَهُ فِي الْخَارِجِ لَا يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ بَلْ هُوَ يَفْرِضُ فِي الذِّهْنِ وُجُودَهُ فِي الْخَارِجِ وَذَلِكَ إنَّمَا يُمْكِنُ إذَا كَانَ لَهُ نَظِيرٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَيُقَدِّرُ لَهُ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ مَا يُشْبِهُهُ كَمَا إذَا قَدَّرَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَقَدَّرَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا فَإِنَّهُ يُشْبِهُ مَنْ لَهُ وَلَدٌ مِنْ الْعِبَادِ وَمَنْ لَهُ شَرِيكٌ مِنْ
الْعِبَادِ ثُمَّ يُبَيِّنُ امْتِنَاعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَكُلَّمَا كَانَ الْمُحَالُ أَبْعَدَ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَوْجُودِ كَانَ أَعْظَمَ اسْتِحَالَةٍ . وَالْوِلَادَةُ الَّتِي ادَّعَتْهَا النَّصَارَى ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ : أَبْعَدُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْوِلَادَةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الْوِلَادَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا بَعْضُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعَوَّامِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْوِلَادَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَشَدَّ اسْتِحَالَةً مِنْ تِلْكَ الْوِلَادَةِ الْحِسِّيَّةِ إذْ الْوِلَادَةُ الْحِسِّيَّةُ تُعْقَلُ فِي الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا وَأَمَّا الْوِلَادَةُ الْعَقْلِيَّةُ فَلَا تُعْقَلُ فِي الْأَعْيَانِ أَصْلًا وَأَيْضًا فَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا وِلَادَةً مِنْ أَصْلَيْنِ وَهَذَا هُوَ الْوِلَادَةُ الْمَعْقُولَةُ وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا وِلَادَةً مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا وِلَادَةً بِانْفِصَالِ جُزْءٍ وَهَذَا مَعْقُولٌ . وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا وِلَادَةً بِدُونِ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يُعْقَلُ وَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا وِلَادَةً قَاسُوهَا عَلَى وِلَادَةِ الْأَعْيَانِ لِلْأَعْيَانِ وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا وِلَادَةً قَاسُوهَا عَلَى تَوَلُّدِ الْأَعْرَاضِ عَنْ الْأَعْيَانِ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَ أُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ فَسَادَهُ وَأَنْكَرَهُ فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ إذَا كَفَّرَ مَنْ أَثْبَتَ مَخْلُوقًا يُتَّخَذُ شَفِيعًا مَعْبُودًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَمَنْ أَثْبَتَ قَدِيمًا دُونَ اللَّهِ يُعْبَدُ وَيُتَّخَذُ شَفِيعًا كَانَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ . وَمَنْ أَنْكَرَ الْمَعَادَ مَعَ قَوْلِهِ بِحُدُوثِ هَذَا الْعَالَمِ فَقَدْ كَفَّرَهُ اللَّهُ فَمَنْ أَنْكَرَهُ مَعَ قَوْلِهِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ فَهُوَ أَعْظَمُ كُفْرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى . وَهَذَا كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَهَى أُمَّتَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ
فَارِسَ الْمَجُوسِ وَالرُّومِ النَّصَارَى فَنَهْيُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الرُّومِ الْيُونَانِ الْمُشْرِكِينَ وَالْهِنْدِ الْمُشْرِكِينَ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ وَإِذَا كَانَ مَا دَخَلَ فِي بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مُشَابَهَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَفَارِسَ وَالرُّومِ مَذْمُومًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَمَا دَخَلَ مِنْ مُشَابَهَةِ الْيُونَانِ وَالْهِنْدِ وَالتُّرْكِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمِنْ فَارِسَ وَالرُّومِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ ذَمُّهُ أَعْظَمَ مِنْ ذَاكَ . فَهَؤُلَاءِ الْأُمَمُ الَّذِينَ هُمْ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ اُبْتُلِيَ بِهِمْ أَوَاخِرُ الْمُسْلِمِينَ شَرٌّ مِنْ الْأُمَمِ الَّذِينَ اُبْتُلِيَ بِهِمْ أَوَائِلُ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ كَانَ أَهْلُهُ أَكْمَلَ وَأَعْظَمَ عِلْمًا وَدِينًا فَإِذَا اُبْتُلِيَ بِمَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْ هَؤُلَاءِ غَلَبَهُمْ الْمُسْلِمُونَ لِفَضْلِ عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرُونَ فَالْمُسْلِمُونَ وَإِنْ كَانُوا أَنْقَصَ مِنْ سَلَفِهِمْ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ رُجْحَانُهُمْ عَلَى هَؤُلَاءِ لِعِظَمِ بُعْدِهِمْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ لَمَّا كَثُرَتْ الْبِدَعُ مِنْ مُتَأَخَّرِي الْمُسْلِمِينَ اسْتَطَالَ عَلَيْهِمْ مَنْ اسْتَطَالَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَبَّسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَصَارَتْ شُبَهُ الْفَلَاسِفَةِ أَعْظَمَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَا صَارَ قِتَالُ التُّرْكِ الْكُفَّارِ أَعْظَمَ مِنْ قِتَالِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ عِنْدَ أَهْلِ الزَّمَانِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا اُبْتُلُوا بِسُيُوفِ هَؤُلَاءِ وَأَلْسِنَةِ هَؤُلَاءِ وَكَانَ فِيهِمْ مِنْ نَقْصِ الْإِيمَانِ مَا أَوْرَثَ ضَعْفًا فِي الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ وَكَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْعَرَب فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا هَذَا .
وَمِمَّا يَبِينُ هَذَا أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ : بَلْ يَقُولُونَ : إنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ عِنْدَهُمْ لَمْ يُحْدِثْهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ يُلْبِسُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَقُولُونَ الْعَالَمُ مُحْدَثٌ يَعْنُونَ بِحُدُوثِهِ أَنَّهُ مَعْلُولٌ عِلَّةً قَدِيمَةً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ مُتَوَلِّدٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ هُوَ أَمْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَلَا يَعْقِلُ . وَأَيْضًا فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُقِرُّونَ بِالْمَلَائِكَةِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَجْعَلُونَ الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ نَوْعًا وَاحِدًا فَمَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ أَسْقَطَهُ وَصَارَ شَيْطَانًا وَيَنْكَرُونَ أَنْ يَكُونَ إبْلِيسُ كَانَ أَبَا الْجِنِّ وَأَنْ يَكُونَ الْجِنُّ يَنْكِحُونَ وَيُولَدُونَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ فَهَؤُلَاءِ النَّصَارَى الَّذِينَ يُنْكِرُونَ هَذَا مَعَ كُفْرِهِمْ هُمْ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا حَقِيقَةَ لِلْمَلَائِكَةِ عِنْدَهُمْ إلَّا مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ أَوْ مِنْ أَعْرَاضٍ تَقُومُ بِالْأَجْسَامِ كَالْقُوَى الصَّالِحَةِ وَكَذَلِكَ الْجِنُّ جُمْهُورُ أُولَئِكَ يُثْبِتُونَهَا فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُثْبِتُ الْجِنَّ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَهَا وَيَجْعَلُونَ الشَّيَاطِينَ الْقُوَى الْفَاسِدَةَ وَأَيْضًا فَمُشْرِكُو الْعَرَبِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَقُولُونَ إنَّهُ يَسْمَعُ دُعَاءَهُمْ وَيُجِيبُهُمْ . وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْعَالَمِ وَلَا يَسْمَعُ دُعَاءَ أَحَدٍ
وَلَا يُجِيبُ أَحَدًا وَلَا يُحْدِثُ فِي الْعَالَمِ شَيْئًا وَلَا سَبَبً لِلْحُدُوثِ عِنْدَهُمْ إلَّا حَرَكَاتُ الْفَلَكِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ يُؤَثِّرُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ فِي هَيُولَى الْعَالَمِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ وَكَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ فَأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ إنِّي اتَّخَذْت وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إعَادَتِهِ } وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا قَطْعًا لِكُفَّارِ الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } إلَى قَوْلِهِ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا } { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } فَذِكْرُ اللَّهِ هَذَا وَهَذَا فَتَنَاوُلُ النُّصُوصِ لِهَؤُلَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ الْإِعَادَةَ وَالِابْتِدَاءَ أَيْضًا فَلَا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ ابْتَدَأَ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا كَانَ لِلْبَشَرِ ابْتِدَاءٌ أَوَّلُهُمْ آدَمَ وَأَمَّا شَتْمُهُمْ إيَّاهُ بِقَوْلِهِمْ اتَّخَذَ وَلَدًا فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ الْفَلَكُ كُلُّهُ لَازِمٌ لَهُ مَعْلُولٌ لَهُ أَعْظَمُ مِنْ لُزُومِ الْوَلَدِ وَالِدَهُ وَالْوَالِدُ لَهُ اخْتِيَارٌ وَقُدْرَةٌ فِي حُدُوثِ الْوَلَدِ مِنْهُ وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ لِلَّهِ مَشِيئَةٌ وَقُدْرَةٌ فِي لُزُومِ الْفَلَكِ لَهُ بَلْ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْفَعَ لُزُومَهُ عَنْهُ فَالتَّوَلُّدُ الَّذِي يُثْبِتُونَهُ أَبْلَغُ مِنْ التَّوَلُّدِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَلْقِ وَلَا يَقُولُونَ : إنَّهُ اتَّخَذَ وَلَدًا بِقُدْرَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ
عِنْدَهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ لُزُومًا : حَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا ؛ بَلْ وَلَا هُوَ مَوْجُودٌ وَإِنْ سَمَّوْهُ عِلَّةً وَمَعْلُولًا فَعِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يَرْجِعُونَ إلَى شَيْءٍ مُحَصَّلً فَإِنَّ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ أَعْظَمَ مِمَّا فِي قَوْلِ النَّصَارَى . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ غَيْرِهِمْ بِالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَنْ يَجْعَلُوهُمْ مِنْ جِنْسِهِمْ فِي الذَّمِّ وَهَذَا تَقْصِيرٌ عَظِيمٌ بَلْ أُولَئِكَ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ إذَا حَقَّقْت مَا يَقُولُهُ مَنْ هُوَ أَقْرَبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ كَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ وَجَدْت غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ شَرْطًا فِي وُجُودِ الْعَالَمِ لَا فَاعِلًا لَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ مِنْ الْمُدَّعِينَ لِلتَّحْقِيقِ مِنْ مَلَاحِدَةِ الصُّوفِيَّةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ أَزَلِيٌّ لَيْسَ لَهُ صَانِعٌ غَيْرُ نَفْسِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ : الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ خَالِقٌ خَلَقَ مَوْجُودًا آخَرَ وَكَلَامُهُمْ فِي الْمَعَادِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالتَّوْحِيدِ شَرٌّ مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ عِبَادَةَ كُلِّ صَنَمٍ فِي الْعَالَمِ لَا يَخُصُّونَ بَعْضَ الْأَصْنَامِ بِالْعِبَادَةِ .
فَصْلٌ :
وَقَدْ احْتَجَّ بـ ( سُورَةِ الْإِخْلَاصِ ) مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ مَنْ يَقُولُ : الرَّبُّ تَعَالَى جِسْمٌ كَبَعْضِ الَّذِينَ وَافَقُوا هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ وَمُحَمَّدَ بْنَ كَرَّامٍ وَغَيْرَهُمَا وَمَنْ يَنْفِي ذَلِكَ وَيَقُولُ لَيْسَ بِجِسْمٍ مِمَّنْ وَافَقَ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ وَأَبَا الهذيل الْعَلَّافَ وَنَحْوَهُمَا فَأُولَئِكَ قَالُوا : هُوَ صَمَدٌ وَالصَّمَدُ لَا جَوْفَ لَهُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَجْسَامِ الْمُصْمَتَةِ . فَإِنَّهَا لَا جَوْفَ لَهَا كَمَا فِي الْجِبَالِ وَالصُّخُورِ وَمَا يُصْنَعُ مِنْ عَوَامِيدِ الْحِجَارَةِ وَكَمَا قِيلَ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ صَمَدٌ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ إنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ شَيْءٌ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَنَفْيُ هَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا عَمَّنْ هُوَ جِسْمٌ وَقَالُوا : أَصْلُ الصَّمَدِ الِاجْتِمَاعُ وَمِنْهُ تَصْمِيدُ الْمَالِ وَهَذَا إنَّمَا يُعْقَلُ فِي الْجِسْمِ الْمُجْتَمِعُ وَأَمَّا الْنُّفَاةِ فَقَالُوا : الصَّمَدُ الَّذِي لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّفَرُّقُ وَالِانْقِسَامُ وَكُلُّ جِسْمٍ فِي الْعَالَمِ يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّفَرُّقُ وَالِانْقِسَامُ . وَقَالُوا أَيْضًا : الْأَحَدُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ وَالِانْقِسَامَ وَكُلُّ جِسْمٍ فِي الْعَالَمِ يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّفَرُّقُ وَالتَّجَزُّىءُ وَالِانْقِسَامُ . وَقَالُوا :
إذَا قُلْتُمْ هُوَ جِسْمٌ كَانَ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَمَا كَانَ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا مِنْ غَيْرِهِ كَانَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ صَمَدٌ وَالصَّمَدُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ فَالْمُرَكَّبُ لَا يَكُونُ صَمَدًا . فَيُقَالُ : أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُرَكَّبٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَجْزَاءَ وَأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّجَزُّؤَ وَالِانْقِسَامَ وَالِانْفِصَالَ فَهَذَا بَاطِلٌ شَرْعًا وَعَقْلًا فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي كَوْنَهُ صَمَدًا كَمَا تَقَدَّمَ وَسَوَاءٌ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَتْ الْأَجْزَاءُ مُتَفَرِّقَةً ثُمَّ اجْتَمَعَتْ أَوْ قِيلَ : إنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُجْتَمِعَةً لَكِنْ يُمْكِنُ انْفِصَالُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ كَمَا فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَجْسَامِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَزَلْ مُجْتَمِعَ الْأَعْضَاءِ : لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ بَعْضِهِ مِنْ بَعْضٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا قَدَّمْنَا أَنَّ كَمَالَ الصَّمَدِيَّةِ لَهُ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْنَى بَعْضُهُ أَوْ يَعْدَمَ وَمَا قَبْلَ الْعَدَمِ وَالْفِنَاءِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِذَاتِهِ وَلَا قَدِيمًا أَزَلِيًّا ؛ فَإِنَّ مَا وَجَبَ قِدَمُهُ امْتَنَعَ عَدَمُهُ وَكَذَلِكَ صِفَاتُهُ الَّتِي لَمْ يَزَلْ مَوْصُوفًا بِهَا وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَعْدَمَ اللَّازِمُ إلَّا مَعَ عَدَمِ الْمَلْزُومِ . وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ . الصَّمَدُ هُوَ الدَّائِمُ وَهُوَ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الصَّمَدِيَّةِ إذْ لَوْ قَبْلَ الْعَدَمِ لَمْ تَكُنْ صَمَدِيَّتُهُ لَازِمَةً لَهُ ؛ بَلْ جَازَ عَدَمُ صَمَدِيَّتِهِ فَلَا يَبْقَى صَمَدًا وَلَا
تَنْتَفِي عَنْهُ الصَّمَدِيَّةُ إلَّا بِجَوَازِ الْعَدَمِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ . فَلَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبًا لِلصَّمَدِيَّةِ إلَّا إذَا كَانَتْ لَازِمَةً لَهُ وَذَلِكَ يُنَافِي عَدَمَهُ وَهُوَ مُسْتَوْجِبٌ لِلصَّمَدِيَّةِ لَمْ يَصِرْ صَمَدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مُتَفَرِّقًا فَجُمِعَ وَأَنَّهُ مَفْعُولٌ مُحْدَثٌ مَصْنُوعٌ وَهَذِهِ صِفَةُ مَخْلُوقَاتِهِ . وَأَمَّا الْخَالِقُ الْقَدِيمُ الَّذِي يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا أَوْ مَفْعُولًا أَوْ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ صَمَدًا وَلَا يَزَالُ صَمَدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : كَانَ مُتَفَرِّقًا فَاجْتَمَعَ وَلَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَفَرَّقَ بَلْ وَلَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَدْخُلَ فِيهِ شَيْءٌ . وَهَذَا مِمَّا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ سُنِّيِّهِمْ وَبِدْعِيِّهِمْ وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ الْجُهَّالِ أَوْ مَنْ لَا يَعْرِفُ قَدْ يَقُولُ خِلَافَ ذَلِكَ فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ لَا تَنْضَبِطُ خَيَالَاتُهُمْ الْفَاسِدَةُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مَوْلُودٌ وَوَالِدٌ وَإِنْ كَانَ هَذَا قَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْكُفَّارِ وَقَدْ قَالَ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ التَّوَلُّدِ وَالتَّعْلِيلِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ أُولَئِكَ وَأَمَّا إثْبَاتُ الصِّفَاتِ لَهُ وَأَنَّهُ يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ وَكَلَامَهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ : فَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ . وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ مَعَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ
وَكَثِيرٍ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَلَيْسَ بِجِسْمِ فَلَا تَثْبُتُ لَهُ الصِّفَاتُ . قَالُوا : لِأَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ قَائِمَةٌ بِجِسْمِ لَا تُعْقَلُ صِفَتُهُ إلَّا كَذَلِكَ . قَالُوا : وَالرُّؤْيَةُ لَا تُعْقَلُ إلَّا مَعَ الْمُعَايَنَةِ فَالْمُعَايَنَةُ لَا تَكُونُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَرْئِيُّ بِجِهَةِ وَلَا يَكُونُ بِجِهَةٍ إلَّا مَا كَانَ جِسْمًا . قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِهِ كَلَامٌ أَوْ غَيْرُهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ الْمُضَافُ إلَيْهِ إلَّا مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ . وَهَذِهِ الْمَعَانِي مِمَّا نَاظَرُوا بِهَا الْإِمَامَ أَحْمَد فِي " الْمِحْنَةِ " وَكَانَ مِمَّنْ احْتَجَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ بِنَفْيِ التَّجْسِيمِ أَبُو عِيسَى مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بُرْغُوثٌ تِلْمِيذُ حُسَيْنٍ النَّجَّارِ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ ابْنَ أَبِي دؤاد كَانَ قَدْ جَمَعَ لِلْإِمَامِ أَحْمَد مَنْ أَمْكَنَهُ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْبَصْرَةِ وَبَغْدَادَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَكُنْ مُخْتَصًّا بِالْمُعْتَزِلَةِ كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعْتَزِلَةً وَبِشْرٌ المريسي لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ بَلْ فِيهِمْ نجارية وَمِنْهُمْ بُرْغُوثٌ . وَفِيهِمْ ضرارية . وَحَفْصٌ الْفَرْدُ الَّذِي نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ كَانَ مِنْ الضرارية أَتْبَاعِ ضِرَارِ بْنِ عَمْرو . وَفِيهِمْ مُرْجِئَةٌ وَمِنْهُمْ بِشْرٌ المريسي . وَمِنْهُمْ جهمية مَحْضَةٌ وَمِنْهُمْ مُعْتَزِلَةٌ وَابْنُ أَبِي
دؤاد لَمْ يَكُنْ مُعْتَزِلِيًّا ؛ بَلْ كَانَ جهميا يَنْفِي الصِّفَاتِ وَالْمُعْتَزِلَةُ تَنْفِي الصِّفَاتِ فنفاة الصِّفَاتِ الْجَهْمِيَّة أَعَمُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِ بُرْغُوثٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَتَكَلَّمُ وَيَقُومُ بِهِ الْكَلَامُ لَكَانَ جِسْمًا وَهَذَا مَنْفِيٌّ عَنْهُ وَأَحْمَد وَأَمْثَالُهُ مِنْ السَّلَفِ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتِي ابْتَدَعَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ كَلَفْظِ الْجِسْمِ وَغَيْرِهِ يَنْفِيهَا قَوْمٌ لِيَتَوَصَّلُوا بِنَفْيِهَا إلَى نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ وَيُثْبِتُهَا قَوْمٌ لِيَتَوَصَّلُوا بِإِثْبَاتِهَا إلَى إثْبَاتِ مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَالْأُولَى طَرِيقَةُ الْجَهْمِيَّة : مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ : يَنْفُونَ الْجِسْمَ حَتَّى يَتَوَهَّمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ قَصْدَهُمْ التَّنْزِيهُ وَمَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ يَقُومُ بِهِ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي خُطْبَتِهِ فِي " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ " : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً مِنْ الرُّسُلِ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلَى الْهُدَى وَيَصْبِرُونَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى يُحْيُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ الْمَوْتَى وَيُبَصِّرُونَ بِنُورِهِ أَهْلَ الْعَمَى فَكَمْ مِنْ قَتِيلٍ لإبليس قَدْ أَحْيَوْهُ وَكَمْ ضَالٍّ تَائِهٍ قَدْ هَدَوْهُ فَمَا أَحْسَنَ أَثَرَهُمْ عَلَى النَّاسِ وَأَقْبَحَ أَثَرَ النَّاسِ عَلَيْهِمْ يَنْفُونَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ عَقَدُوا أَلْوِيَةَ الْبِدْعَةِ وَأَطْلَقُوا عِنَانَ الْفِتْنَةِ
فَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُجْتَمِعُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَفِي اللَّهِ وَفِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْدَعُونَ جُهَّالَ النَّاسِ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ . فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ فِتَنِ الْمُضِلِّينَ . وَالثَّانِيَةُ طَرِيقَةُ هِشَامٍ وَأَتْبَاعِهِ يُحْكَى عَنْهُمْ : أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مَا قَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ مِنْ اتِّصَافِهِ بِالنَّقَائِصِ وَمُمَاثَلَتِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَأَجَابَهُمْ الْإِمَامُ أَحْمَد بِطَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ الِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } وَقَالَ : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { المص } { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى
وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } { فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَقَوْلُهُ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } . فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ لِبَيَانِ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ وَبَيَانِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعُ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ ذَلِكَ كَانَ مُنَافِقًا وَأَنَّ مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ حُشِرَ أَعْمَى ضَالًّا شَقِيًّا مُعَذَّبًا وَأَنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قَدْ بَرِئَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُمْ . فَاتَّبَعَ الْإِمَامُ أَحْمَد طَرِيقَةَ سَلَفِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُعْتَصِمِينَ
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَّبِعِينَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَذَلِكَ أَنْ نَنْظُرَ فَمَا وَجَدْنَا الرَّبَّ قَدْ أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ أَثْبَتْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَاهُ قَدْ نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ نَفَيْنَاهُ وَكُلُّ لَفْظٍ وُجِدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِثْبَاتِ أُثْبِتَ ذَلِكَ اللَّفْظُ وَكُلُّ لَفْظٍ وُجِدَ مَنْفِيًّا نُفِيَ ذَلِكَ اللَّفْظُ وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَا تُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَلْ وَلَا فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا إثْبَاتُهَا وَلَا نَفْيُهَا . وَقَدْ تَنَازَعَ فِيهَا النَّاسُ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا تُثْبَتُ وَلَا تُنْفَى إلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْسَارِ عَنْ مَعَانِيهَا فَإِنْ وُجِدَتْ مَعَانِيهَا مِمَّا أَثْبَتَهُ الرَّبُّ لِنَفْسِهِ أُثْبِتَتْ وَإِنْ وُجِدَتْ مِمَّا نَفَاهُ الرَّبُّ عَنْ نَفْسِهِ نُفِيت وَإِنْ وَجَدْنَا اللَّفْظَ أُثْبِتَ بِهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ أَوْ نُفِيَ بِهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ أَوْ كَانَ مُجْمَلًا يُرَادُ بِهِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ وَصَاحِبُهُ أَرَادَ بِهِ بَعْضَهَا لَكِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُوهِمُ النَّاسَ أَوْ يُفْهِمُهُمْ مَا أَرَادَ وَغَيْرَ مَا أَرَادَ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا يُطْلَقُ إثْبَاتُهَا وَلَا نَفْيُهَا كَلَفْظِ الْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ وَالتَّحَيُّزِ وَالْجِهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَلَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا إلَّا وَأَدْخَلَ فِيهَا بَاطِلًا وَإِنْ أَرَادَ بِهَا حَقًّا . وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ كَرِهُوا هَذَا الْكَلَامَ الْمُحْدَثَ ؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بَاطِلٍ وَكَذِبٍ وَقَوْلٍ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَحْمَد فِي رَدِّهِ عَلَى الْجَهْمِيَّة أَنَّهُمْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ فِيمَا يَنْفُونَهُ عَنْهُ وَيَقُولُونَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَكُلُّ
ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يَكْرَهْ السَّلَفُ هَذِهِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا اصْطِلَاحِيَّةً وَلَا كَرِهُوا الِاسْتِدْلَالَ بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ بَلْ كَرِهُوا الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ الْمُخَالِفَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يُخَالِفُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إلَّا مَا هُوَ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ بِعَقْلٍ وَلَا سَمْعٍ . وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ سُرَيْجٍ عَنْ التَّوْحِيدِ فَذَكَرَ تَوْحِيدَ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ : وَأَمَّا تَوْحِيدُ أَهْلِ الْبَاطِلِ فَهُوَ الْخَوْضُ فِي الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ وَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا قَدْ أُحْدِثَا فِي زَمَنِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ إنْكَارَ مَا يَعْنِي بِهِمَا مِنْ الْمَعَانِي الْبَاطِلَةِ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهُمَا الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَقَصْدُهُمْ بِذَلِكَ إنْكَارُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ أَنْ يُرَى أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَلَامٌ يَتَّصِفُ بِهِ وَأَنْكَرَتْ الْجَهْمِيَّة أَسْمَاءَهُ أَيْضًا . وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ عَنْهُ إنْكَارُ ذَلِكَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بواسط . وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا . ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَمِّ هَذَا الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ أَئِمَّةَ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ كَانُوا إذَا ذَكَرَتْ لَهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ الْأَلْفَاظَ الْمُجْمَلَةَ : كَلَفْظِ الْجِسْمِ وَالْجَوْهَرِ وَالْحَيِّزِ وَنَحْوِهَا لَمْ يُوَافِقُوهُمْ لَا عَلَى إطْلَاقِ الْإِثْبَاتِ " وَلَا عَلَى إطْلَاقِ النَّفْيِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ بِالْعَكْسِ ابْتَدَعُوا أَلْفَاظًا وَمَعَانِيَ إمَّا فِي النَّفْيِ وَإِمَّا فِي الْإِثْبَاتِ وَجَعَلُوهَا هِيَ الْأَصْلُ الْمَعْقُولُ الْمُحْكَمُ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ ثُمَّ نَظَرُوا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ عَلَى قَوْلِهِمْ تَأَوَّلُوهُ وَإِلَّا قَالُوا هَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ الْمُشْكَلَةِ الَّتِي لَا نَدْرِي مَا أُرِيدَ بِهَا . فَجَعَلُوا بِدَعَهُمْ أَصْلًا مُحْكَمًا وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَرْعًا لَهُ وَمُشْكِلًا : إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ . وَهَذَا أَصْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَصْلُ الْمَلَاحِدَةِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْبَاطِنِيَّةِ جَمِيعُ كُتُبِهِمْ تُوجَدُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ وَمَعْرِفَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يُعْلَمُ بِهِ الْفِرَقُ بَيْنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَبَيْنَ السُّبُلِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْفِقْهِيَّةِ وَمَسَائِل أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَحَقَائِقِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ كُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ قَدْ دَخَلَ فِيهَا أَلْفَاظٌ وَمَعَانٍ مُحْدَثَةٌ وَأَلْفَاظٌ وَمَعَانٍ مُشْتَرِكَةٌ . فَالْوَاجِبُ أَنْ يَجْعَلَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ أَصْلًا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ ثُمَّ يَرُدَّ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ النَّاسُ إلَى ذَلِكَ وَيُبَيِّنُ مَا فِي الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ مِنْ الْمَعَانِي الْمُوَافِقَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَتُقْبَلُ وَمَا فِيهَا مِنْ الْمَعَانِي
الْمُخَالَفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَتُرَدُّ . وَلِهَذَا كُلُّ طَائِفَةٍ أَنُكِرَ عَلَيْهَا مَا ابْتَدَعَتْ احْتَجَّتْ بِمَا ابْتَدَعَتْهُ الْأُخْرَى كَمَا يُوجَدُ فِي أَلْفَاظِ أَهْل الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ إنَّهُ مُشْكِلٌ وَمُتَشَابِهٌ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ يُخَالِفُ غَيْرَهُ مِنْ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَةِ الْبَيِّنَةِ فَإِذَا جَاءَتْ نُصُوصٌ بَيِّنَةٌ مُحْكَمَةٌ بِأَمْرِ و جَاءَ نَصٌّ آخَرُ يَظُنُّ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي هَذَا إنَّهُ يَرُدُّ الْمُتَشَابِهَ إلَى الْمُحْكَمِ أَمَّا إذَا نَطَقَ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَصْلُ وَيَجْعَلَ مَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مُشْكِلًا مُتَشَابِهًا فَلَا يُقْبَلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ . نَعَمْ قَدْ يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ نُصُوصٌ لَا يَفْهَمُونَهَا فَتَكُونُ مُشْكِلَةً بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ لِعَجْزِ فَهِمَهُمْ عَنْ مَعَانِيهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا يُخَالِفُ صَرِيحَ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ إلَّا وَفِي الْقُرْآنِ بَيَانُ مَعْنَاهُ فَإِنَّ الْقُرْآنَ جَعَلَهُ اللَّهُ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَبَيَانًا لِلنَّاسِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ؛ لَكِنَّ قَدْ تَخْفَى آثَارُ الرِّسَالَةِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ حَتَّى لَا يَعْرِفُونَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . إمَّا أَنْ لَا يَعْرِفُوا اللَّفْظَ وَإِمَّا أَنْ يَعْرِفُوا اللَّفْظَ وَلَا يَعْرِفُوا مَعْنَاهُ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُونَ فِي جَاهِلِيَّةٍ بِسَبَبِ عَدَمِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ هَهُنَا يَقَعُ الشِّرْكُ وَتَفْرِيقُ الدِّينِ شِيَعًا كَالْفِتَنِ الَّتِي تُحْدِثُ السَّيْفَ فَالْفِتَنُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ
هِيَ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ بِسَبَبِ خَفَاءِ نُورِ النُّبُوَّةِ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : إذَا قَلَّ الْعِلْمُ ظَهَرَ الْجَفَاءُ وَإِذَا قَلَّتْ الْآثَارُ ظَهَرَتْ الْأَهْوَاءُ . وَلِهَذَا شُبِّهَتْ الْفِتَنُ بِقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي خُطْبَتِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَتْرَةً بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . فَالْهُدَى الْحَاصِلُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ إنَّمَا هُوَ مِنْ نُورِ النُّبُوَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } فَأَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ : هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ الْمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ . وَأَهْلُ الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ : هُمْ الْمُكَذِّبُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ يَبْقَى أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ لَمْ يَصِلُ إلَيْهِمْ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ . فَهَؤُلَاءِ فِي ضَلَالٍ وَجَهْلٍ وَشِرْكٍ وَشَرٍّ لَكِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَالَ : { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَالَ : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } فَهَؤُلَاءِ لَا يُهْلِكُهُمْ اللَّهُ وَيُعَذِّبُهُمْ حَتَّى يُرْسِلَ إلَيْهِمْ رَسُولًا . وَقَدْ رُوِيَتْ آثَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ فِي أَنَّ مِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الرِّسَالَةُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ إلَيْهِ رَسُولٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ .
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ دِين الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْآخِرَةَ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا وَلَيْسَ كَمَا قَالَ إنَّمَا يَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْجَزَاءِ الْجَنَّةَ أَوْ النَّارَ وَإِلَّا فَهُمْ فِي قُبُورِهِمْ مُمْتَحَنُونَ وَمَفْتُونُونَ يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ : مَنْ رَبُّك ؟ وَمَا دِينُك ؟ وَمَنْ نَبِيُّك ؟ وَكَذَلِكَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ يُقَالُ : لِيَتَّبِعْ كُلُّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فَيَتَّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَر وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمْ اللَّهُ فِي صُورَةٍ غَيْر الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيَقُولُ : أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا . وَفِي رِوَايَةٍ فَيَسْأَلُهُمْ وَيُثَبِّتُهُمْ وَذَلِكَ امْتِحَانٌ لَهُمْ هَلْ يَتَّبِعُونَ غَيْرَ الرَّبِّ الَّذِي عَرَفُوا أَنَّهُ اللَّهُ الَّذِي تَجَلَّى لَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَيُثَبِّتُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ هَذِهِ الْمِحْنَةِ كَمَا يُثَبِّتُهُمْ فِي فِتْنَةِ الْقَبْرِ فَإِذَا لَمْ يَتَّبِعُوهُ لِكَوْنِهِ أَتَى فِي غَيْرِ الصُّورَة الَّتِي يَعْرِفُونَ أَتَاهُمْ حِينَئِذٍ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَإِذَا رَأَوْهُ خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا إلَّا مَنْ كَانَ مُنَافِقًا فَإِنَّهُ يُرِيدُ السُّجُودَ فَلَا يَسْتَطِيعُهُ يُبْقَى ظَهْرُهُ مِثْلَ الطَّبَقِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ ثَابِتَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَقَدْ أَخْرَجَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَمِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَدَلَّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمِحْنَةَ إنَّمَا تَنْقَطِعُ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْجَزَاءِ وَأَمَّا قَبْلَ دَارِ الْجَزَاءِ امْتِحَانٌ وَابْتِلَاءٌ . فَإِذَا انْقَطَعَ عَنْ النَّاسِ نُورُ النُّبُوَّةِ وَقَعُوا فِي ظُلْمَةِ الْفِتَنِ وَحَدَثَتْ الْبِدَعُ وَالْفُجُورُ وَوَقَعَ الشَّرُّ بَيْنَهُمْ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ . " { سَأَلْت رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي الثَّالِثَةَ سَأَلْته أَنْ لَا يَهْلِك أُمَّتِي بِسَنَةِ عَامَّةٍ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحُهُمْ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْته أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا } " وَالْبَأْسُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبُؤْسِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ : أَعُوذُ بِوَجْهِك . { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ هَاتَانِ أَهْوَنُ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ مَعَ بَرَاءَةِ الرَّسُولِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَهُمْ فِيهَا فِي جَاهِلِيَّةٍ . وَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ فَرْجٍ
أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ هَدْرٌ أَنْزَلُوهُمْ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ بِإِسْنَادِهِ الثَّابِتِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ : تَرَكَ النَّاسُ الْعَمَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ تَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا اقْتَتَلُوا كَانَ الْوَاجِبُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَمَّا لَمْ يُعْمَلْ بِذَلِكَ صَارَتْ فِتْنَةٌ وَجَاهِلِيَّةٌ . وَهَكَذَا مَسَائِلُ النِّزَاعِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْأُمَّةُ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ إذَا لَمْ تُرَدَّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ لَمْ يُتَبَيَّنْ فِيهَا الْحَقُّ بَلْ يَصِيرُ فِيهَا الْمُتَنَازِعُونَ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنْ رَحِمَهُمْ اللَّهُ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَمْ يَبْغِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ يَتَنَازَعُونَ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فَيُقِرُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَرْحَمُوا وَقَعَ بَيْنَهُمْ الِاخْتِلَافُ الْمَذْمُومُ فَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إمَّا بِالْقَوْلِ مِثْلَ تَكْفِيرِهِ وَتَفْسِيقِهِ " وَإِمَّا بِالْفِعْلِ مِثْلَ حَبْسِهِ وَضَرْبِهِ وَقَتْلِهِ . وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالظُّلْمِ كَالْخَوَارِجِ وَأَمْثَالِهِمْ يَظْلِمُونَ الْأُمَّةَ وَيَعْتَدُونَ عَلَيْهِمْ إذَا نَازَعُوهُمْ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الدِّينِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَإِنَّهُمْ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا كَمَا تَفْعَلُ الرَّافِضَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ وَاَلَّذِينَ امْتَحَنُوا النَّاسَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ كَانُوا مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ ابْتَدَعُوا بِدْعَةً وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا
وَاسْتَحَلُّوا مَنْعَ حَقِّهِ وَعُقُوبَتَهُ . فَالنَّاسُ إذَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا عَادِلُونَ وَإِمَّا ظَالِمُونَ فَالْعَادِلُ فِيهِمْ الَّذِي يَعْمَلُ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا يَظْلِمُ غَيْرَهُ وَالظَّالِمُ الَّذِي يَعْتَدِي عَلَى غَيْرِهِ وَهَؤُلَاءِ ظَالِمُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَظْلِمُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } وَإِلَّا فَلَوْ سَلَكُوا مَا عَلِمُوهُ مِنْ الْعَدْلِ أَقَرَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَالْمُقَلِّدِينَ لِأَئِمَّةِ الْفِقْهِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَجَعَلُوا أَئِمَّتَهُمْ نُوَّابًا عَنْ الرَّسُولِ وَقَالُوا هَذِهِ غَايَةُ مَا قَدَرْنَا عَلَيْهِ فَالْعَادِلُ مِنْهُمْ لَا يَظْلِمُ الْآخَرَ وَلَا يَعْتَدِي عَلَيْهِ بِقَوْلِ وَلَا فِعْلٍ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ قَوْلَ مَتْبُوعِهِ هُوَ الصَّحِيحُ بِلَا حُجَّةٍ يُبْدِيهَا وَيَذُمُّ مَنْ يُخَالِفُهُ مَعَ أَنَّهُ مَعْذُورٌ . وَكَانَ الَّذِينَ اُمْتُحِنُوا أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ فَابْتَدَعُوا كَلَامًا مُتَشَابِهًا نَفَوْا بِهِ الْحَقَّ فَأَجَابَهُمْ أَحْمَد لَمَّا نَاظَرُوهُ فِي الْمِحْنَةِ وَذَكَرُوا الْجِسْمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَجَابَهُمْ بِأَنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } وَأَمَّا لَفْظُ الْجِسْمِ فَلَفْظٌ مُبْتَدَعٌ مُحْدَثٌ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ أَلْبَتَّةَ وَالْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ بِهِ مُجْمَلٌ وَلَمْ تُبَيِّنُوا مُرَادَكُمْ حَتَّى نُوَافِقَكُمْ عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ فَقَالَ مَا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ ؟
لَكِنْ أَقُولُ : { اللَّهِ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } . يَقُولُ : مَا أَدْرِي مَا تَعْنُونَ بِلَفْظِ الْجِسْمِ فَأَنَا لَا أُوَافِقُكُمْ عَلَى إثْبَاتِ لَفْظٍ وَنَفْيِهِ إذْ لَمْ يَرِدُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِإِثْبَاتِهِ وَلَا نَفْيِهِ إنْ لَمْ نَدْرِ مَعْنَاهُ الَّذِي عَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ فَإِنْ عَنَى فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَا يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَافَقْنَاهُ وَإِنْ عَنَى مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَمْ نُوَافِقْهُ . وَلَفْظُ " الْجِسْمِ " و " الْجَوْهَرِ " وَنَحْوِهِمَا لَمْ يَأْتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ - مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ - التَّكَلُّمُ بِهَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِنَفْيِ وَلَا إثْبَاتٍ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي رِسَالَتِهِ إلَى الْمُتَوَكِّلِ : لَا أُحِبُّ الْكَلَامَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَوْ فِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ غَيْرُ مَحْمُودٍ . وَذَكَرَ أَيْضًا فِيمَا حَكَاهُ عَنْ الْجَهْمِيَّة أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَيْسَ فِيهِ كَذَا وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ لَهُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ مَعْنًى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ
وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ طَالُوتُ أَعْلَمَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِالْحَرْبِ وَكَانَ يَفُوقُ النَّاسَ بِمَنْكِبَيْهِ وَعُنُقِهِ وَرَأْسِهِ و " الْبَسْطَةُ " السَّعَةُ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : هُوَ مِنْ قَوْلِك بَسَطْت الشَّيْءَ إذَا كَانَ مَجْمُوعًا فَفَتَحْته وَوَسِعْته قَالَ بَعْضُهُمْ : وَالْمُرَادُ بِتَعْظِيمِ الْجِسْمِ فَضْلُ الْقُوَّةِ إذْ الْعَادَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ جِسْمًا كَانَ أَكْثَرَ قُوَّةً . فَهَذَا لَفْظُ الْجِسْمِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : قَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ : الْجِسْمُ الْجَسَدُ وَكَذَلِكَ الْجُسْمَانُ وَالْجُثْمَانُ " وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : الْجِسْمُ وَالْجَسَدُ وَالْجُثْمَانُ الشَّخْصُ وَقَالَ جَمَاعَةٌ جِسْمُ الْإِنْسَانِ يُقَالُ لَهُ الْجُثْمَانُ وَقَدْ جَسُمَ الشَّيْءُ أَيْ عَظُمَ فَهُوَ جَسِيمٌ وَجِسَامٌ وَالْجِسَامُ بِالْكَسْرِ جَمْعُ جَسِيمٍ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ تَجَسَّمْت فُلَانًا مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ أَيْ اخْتَرْته كَأَنَّك قَصَدْت جِسْمَهُ . كَمَا تَقُولُ : تأتيته أَيْ قَصَدْت أَتْيَهُ وَشَخْصَهُ وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدَةَ . تَجَسَّمْته مِنْ بَيْنِهِنَّ بِمُرْهَفِ وَتَجَسَّمْت الْأَرْضَ إذَا أَخَذْت نَحْوَهَا تُرِيدُهَا وَتَجَسَّمَ مِنْ الْجِسْمِ وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ : تَجَسَّمْت الْأَمْرَ : أَيْ رَكِبْت أَجْسَمَهُ وَجَسِيمُهُ أَيْ مُعْظَمُهُ قَالَ : وَكَذَلِكَ تَجَسَّمْت الرَّمْلَ وَالْجَبَلَ أَيْ رَكِبْت أَعْظَمَهُ وَالْأَجْسَمُ الْأَضْخَمُ قَالَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ :
لَقَدْ عَلِمَ الْحَيُّ مِنْ عَامِرٍ بِأَنَّ لَنَا الذُّرْوَةَ الْأَجْسَمَا فَهَذَا الْجِسْمُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقَالُ لِلْهَوَاءِ جِسْمٌ وَلَا لِلنَّفَسِ الْخَارِجِ مِنْ الْإِنْسَانِ جِسْمٌ وَلَا لِرُوحِهِ الْمَنْفُوخَةِ فِيهِ جِسْمٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُمَاثِلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا بَدَنَ الْإِنْسَانِ وَلَا غَيْرَهُ فَلَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يَخْتَصُّ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ جِسْمٌ وَلَا جَسَدٌ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْكَلَامِ فَالْجِسْمُ عِنْدَهُمْ أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَاهُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا عَقْلِيًّا وَاخْتِلَافًا لَفْظِيًّا اصْطِلَاحِيًّا فَهُمْ يَقُولُونَ كُلُّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ إشَارَةٌ حِسِّيَّةٌ فَهُوَ جِسْمٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ : كُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْجِسْمُ أَقَلُّ مَا يَكُونُ جَوْهَرًا بِشَرْطِ أَنْ يَنْضَمَّ إلَى غَيْرِهِ وَقِيلَ بَلْ الْجَوْهَرَانِ وَالْجَوَاهِرُ فَصَاعِدًا وَقِيلَ بَلْ أَرْبَعَةٌ فَصَاعِدًا وَقِيلَ بَلْ سِتَّةٌ وَقِيلَ بَلْ ثَمَانِيَةٌ وَقِيلَ بَلْ سِتَّةَ عَشَرَ وَقِيلَ بَلْ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْأَجْسَامَ كُلَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الَّتِي لَا تَنْقَسِمُ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ كُلُّ الْأَجْسَامِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْهَيُولَى
وَالصُّورَةِ لَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَغَيْرِ أَهْلِ الْكَلَامِ لَيْسَتْ مُرَكَّبَةً لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا وَهَذَا قَوْلُ الهشامية والْكُلَّابِيَة والضرارية وَغَيْرِهِمْ مِنْ الطَّوَائِفِ الْكِبَارِ لَا يَقُولُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَلَا بِالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَآخَرُونَ يَدَّعُونَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى إثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ كَمَا قَالَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ : اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ تَتَنَاهَى فِي تَجَزُّئِهَا وَانْقِسَامِهَا حَتَّى تَصِيرَ أَفْرَادًا وَمَعَ هَذَا فَقَدْ شَكَّ هُوَ فِيهِ وَكَذَلِكَ شَكَّ فِيهِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ . وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ الْمَشْهُورِينَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَهَذَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَعَابُوهُ وَلَكِنَّ حَاكِيَ هَذَا الْإِجْمَاعِ لَمَّا لَمْ يَعْرِفُ أُصُولَ الدِّينِ إلَّا مَا فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَلَمْ يَجِدْ إلَّا مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ اعْتَقَدَ هَذَا إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَالْقَوْلُ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ بَاطِلٌ وَالْقَوْلُ بِالْهَيُولَى وَالصُّورَةِ بَاطِلٌ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَاتِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرٍ .
وَقَالَ آخَرُونَ : الْجِسْمُ هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ وَكُلُّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ جِسْمٌ وَكُلُّ جِسْمٍ فَهُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مُشَارٌ إلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَجْسَامِ هَلْ هِيَ مُتَمَاثِلَةٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ جِسْمٌ وَأَرَادَ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْأَجْزَاءِ فَهَذَا قَوْلُهُ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُمَاثِلُ غَيْرَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَقَدْ عُلِمَ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَثَلًا فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَهُوَ مُبْطِلٌ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ جِسْمٌ بِهَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ مُبْطِلٌ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَتَكَلَّمُ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا يَقُومُ بِهِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصِّفَاتِ وَلَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَلَا عُرِجَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَلَا يَصْعَدُ إلَيْهِ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَلَا تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ فَهَذَا قَوْلُهُ بَاطِلٌ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالَ إنَّ هَذَا تَجْسِيمٌ فَنَفْيُهُ بَاطِلٌ وَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ تَجْسِيمًا تَلْبِيسٌ مِنْهُ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا فِي اللُّغَةِ يُسَمَّى جِسْمًا فَقَدْ أَبْطَلَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ يَكُونَ جِسْمًا مُرَكَّبًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ أَوْ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ قِيلَ لَهُ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَك فِي تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ وَفِي أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فَلَا يَقُولُونَ : إنَّ الْهَوَاءَ مِثْلُ الْمَاءِ
وَلَا أَبْدَانَ الْحَيَوَانِ مِثْلُ الْحَدِيدِ وَالْجِبَالِ فَكَيْفَ يُوَافِقُونَك عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى يَكُونُ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ إذَا أَثْبَتُوا لَهُ مَا أَثَبَتَ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَفَى الْمُمَاثَلَاتِ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَكِلَاهُمَا جِسْمٌ كَقَوْلِهِ : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } مَعَ أَنَّ كِلَاهُمَا بَشَرٌ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَ لِرَبِّ السَّمَوَاتِ عِلْمٌ وَقُدْرَةٌ أَنَّهُ يَكُونُ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ . وَنُكْتَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْجِسْمَ فِي اعْتِقَادِ هَذَا النَّافِي يَسْتَلْزِمُ مُمَاثَلَةَ سَائِرِ الْأَجْسَامِ وَيَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا التَّلَازُمِ وَهَذَا التَّلَازُمُ مُنْتَفٍ بِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . فَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى انْتِفَاءِ النَّقْصِ الْمَنْفِيِّ عَنْ اللَّهِ شَرْعًا وَعَقْلًا بَقِيَ بَحْثُهُمْ فِي الْجِسْمِ الِاصْطِلَاحِيِّ هَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا الْمَحْذُورِ ؟ وَهُوَ بَحْثٌ عَقْلِيٌّ كَبَحْثِ النَّاسِ فِي الْأَعْرَاضِ هَلْ تَبْقَى أَوْ لَا تَبْقَى ؟ وَهَذَا الْبَحْثُ الْعَقْلِيُّ لَمْ يَرْتَبِطْ بِهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لَمْ يَنْطِقْ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا أَثَرٌ مِنْ السَّلَفِ بِلَفْظِ الْجِسْمِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِعَ اسْمًا مُجْمَلًا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً لَمْ يَنْطِقْ بِهِ الشَّرْعُ وَيُعَلِّقْ بِهِ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ قَدْ نَطَقَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَكَيْفَ إذَا
أَحْدَثَ لِلَّفْظِ مَعْنًى آخَرَ وَالْمَعْنَى الَّذِي يَقْصِدُهُ إذَا كَانَ حَقًّا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبَارَةِ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا فَإِذَا كَانَ مُعْتَقَدُهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا كُفُوَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ فَهَذِهِ عِبَارَاتُ الْقُرْآنِ تُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنَى بِلَا تَلْبِيسٍ وَلَا نِزَاعَ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقَدُهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ غَيْرُ مُتَمَاثِلَةٍ وَأَنَّ كُلَّ مَا يُرَى وَتَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَهُوَ جِسْمٌ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ مَا أَثْبَتّه اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ . كَقَوْلِهِ : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَدِيثِ الِاسْتِخَارَةِ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسَتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك } " وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " { اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ } " وَيَقُولُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا تضامون فِي رُؤْيَتِهِ } " فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَرْئِيُّ كَالْمَرْئِيِّ . فَهَذِهِ عِبَارَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الصَّحِيحِ بِلَا تَلْبِيسٍ وَلَا نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا مَنْ كَانَ قَدْ تَبَيَّنَ لَهُ مَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَازِمٌ لِلْحَقِّ لَمْ يَدْفَعْهُ عَنْ عَقْلِهِ فَلَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّ
الشَّرْعُ عَلَيْهِ فَيُبَيِّنُهُ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِنْ قَدَّرَ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ اعْتِقَادُهُ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَيْهِ وَإِنْ قَدَّرَ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ حَقٌّ .
وَمَسْأَلَةُ تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَتَرْكِيبُهَا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ قَدْ اضْطَرَبَ فِيهَا جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْكَلَامِ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُ بِهَذَا تَارَةً وَبِهَذَا تَارَةً . وَأَكْثَرُ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَالْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ لَيْسَتْ مُتَمَاثِلَةً وَلَا مُرَكَّبَةً لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْتَدِعَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ قَوْلَهُ : إنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَيُنَاظِرُ عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بَلْ يَكْفِيهِ إثْبَاتُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِالْعِبَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ وَأَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْتَدِعَ النَّفْيَ بِهَذَا الِاسْمِ وَيُنَاظِرَ عَلَى مَعْنَاهُ الَّذِي اعْتَقَدَهُ بِعَقْلِهِ ؛ بَلْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَعْلُومُ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ يُمْكِنُ إظْهَارُهُ بِعِبَارَةٍ لَا إجْمَالَ فِيهَا وَلَا تَلْبِيسَ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ يَدَّعِي كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَقُولُونَ هَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ أَكْثَرُ أَجْزَاءً مِنْهُ . وَيَقُولُونَ : هَذَا جَسِيمٌ أَيْ كَثِيرُ الْأَجْزَاءِ .
قَالَ : وَالتَّفْضِيلُ بِصِيغَةِ أَفْعَلَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَإِذَا قِيلَ : هَذَا أَعْلَمُ وَأَحْلَمُ كَانَ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى الْفَضِيلَةِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ فَلَمَّا قَالُوا : أَجْسَمَ لِمَا كَانَ أَكْثَرَ أَجْزَاءً دَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ عِنْدَهُمْ الْمُرَادُ بِهِ الْمُرَكَّبُ فَمَنْ قَالَ جِسْمٌ وَلَيْسَ بِمُرَكَّبِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ لُغَةِ الْعَرَبِ . قَالُوا : وَهَذِهِ تخليطة فِي اللَّفْظِ وَإِنْ كُنَّا لَا نُكَفِّرُهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ خَصَائِصُ الْجِسْمِ مِنْ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ وَقَدْ نَازَعَهُمْ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ هَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا وَقَالُوا : لَيْسَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي زَيْدٍ فَيُقَالُ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ هَذَا جَسِيمٌ أَيْ عَظِيمُ الْجُثَّةِ . وَهَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا أَيْ أَعْظَمُ جُثَّةً لَكِنَّ كَوْنَ الْعَرَبِ تَعْتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْأَجْزَاءِ الَّتِي هِيَ الْجَوَاهِرُ الْفَرْدَةُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَاطِبَةً يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْجِسْمَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ وَالْجَوْهَرُ الْفَرْدُ هُوَ شَيْءٌ قَدْ بَلَغَ مِنْ الصِّغَرِ وَالْحَقَارَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ يَمِينُهُ مِنْ يَسَارِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُقَلَاءِ مِنْ بَنِي آدَمَ لَا يَتَصَوَّرُ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ وَاَلَّذِينَ يَتَصَوَّرُونَهُ أَكْثَرُهُمْ لَا يُثْبِتُونَهُ وَاَلَّذِينَ أَثْبَتُوهُ إنَّمَا يُثْبِتُونَهُ بِطُرُقٍ خَفِيَّةٍ طَوِيلَةٍ بَعِيدَةٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الشَّائِعُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي يَنْطِقُ بِهَا خَوَاصُّهَا وَعَوَامُّهَا أَرَادُوا بِهِ هَذَا . وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ
بِإِحْسَانٍ لَمْ يَنْطِقُ بِإِثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَلَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ بَلْ وَلَا الْعَرَبُ قَبْلَهُمْ وَلَا سَائِرُ الْأُمَمِ الْبَاقِينَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَلَا أَتْبَاعُ الرُّسُلِ فَكَيْفَ يُدَعَّى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا لَفْظَ جِسْمٍ إلَّا لِمَا كَانَ مُرَكَّبًا مُؤَلَّفًا وَلَوْ قُلْت لِمَنْ شِئْت مِنْ الْعَرَبِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالسَّمَاءُ مُرَكَّبٌ عِنْدَك مِنْ أَجْزَاءٍ صِغَارٍ كُلٌّ مِنْهَا لَا يَقْبَلُ التجزي أَوْ الْجِبَالُ أَوْ الْهَوَاءُ أَوْ الْحَيَوَانُ أَوْ النَّبَاتُ لَمْ يَتَصَوَّرْ هَذَا الْمَعْنَى إلَّا بَعْدَ كُلْفَةٍ ثُمَّ إذَا تَصَوَّرَهُ قَدْ يُكَذِّبُهُ بِفِطْرَتِهِ وَيَقُولُ : كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ جَانِبٌ عَنْ جَانِبٍ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ يُنْكِرُونَ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ فَالْفُقَهَاءُ قَاطِبَةً تُنْكِرُهُ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ . وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ مُتَّفِقِينَ عَلَى اسْتِحَالَةِ بَعْضِ الْأَجْسَامِ إلَى بَعْضٍ كَاسْتِحَالَةِ الْعَذِرَةِ رَمَادًا وَالْخِنْزِيرِ مِلْحًا . ثُمَّ تَكَلَّمُوا فِي هَذِهِ الِاسْتِحَالَةِ هَلْ تَطْهُرُ أَمْ لَا تَطْهُرُ ؟ وَالْقَائِلُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ لَا تَسْتَحِيلُ الذَّوَاتُ عِنْدَهُمْ بَلْ تِلْكَ الْجَوَاهِرُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأَوَّلِ هِيَ بِعَيْنِهَا فِي الثَّانِي وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ التَّرْكِيب وَلِهَذَا يَتَكَلَّمُ بِلَفْظِ التَّرْكِيبِ فِي الْمَاءِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ كَانَ قَدْ أَخَذَ هَذَا التَّرْكِيبَ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيَقُولُ : إنَّ الْمَاءَ يُفَارِقُ غَيْرَهُ فِي التَّرْكِيبِ فَقَطْ . وَكَذَلِكَ الْقَائِلُونَ بِالْجَوْهَرِ الْفَرْدِ عِنْدَهُمْ إنَّا لَمْ نُشَاهِدْ قَطُّ إحْدَاثَ اللَّهِ تَعَالَى لِشَيْءٍ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا . وَأَنَّ جَمِيعَ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعْدِنِ وَالثِّمَارِ وَالْمَطَرِ