الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
فَصْلٌ :
وقَوْله تَعَالَى فِي هَذِهِ : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ } هُوَ ذَمٌّ لَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ بِلَا عِلْمٍ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } وقَوْله تَعَالَى { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ } وَقَوْلُهُ : { أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلَّا ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } . فَهَذِهِ عِدَّةُ مَوَاضِعَ يَذُمُّ اللَّهُ فِيهَا الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ } { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } مُطَالَبَةٌ بِالْعِلْمِ وَذَمٌّ لِمَنْ يَتَّبِعُ الظَّنَّ وَمَا عِنْدَهُ عِلْمٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ذَمٌّ لِمَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ . وَعَمِلَ بِالظَّنِّ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِشَاهِدَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شُهُودٌ حَلَّفَ الْخَصْمَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } . وَالِاجْتِهَادُ فِي " تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ " مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ كَحُكْمِ ذوي عَدْلٍ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وكالاستدلال عَلَى الْكَعْبَةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَقْطَعُ بِهِ الْإِنْسَانُ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقِبْلَةُ فِي غَيْرِ جِهَةِ اجْتِهَادِهِ كَمَا يَجُوزُ إذَا حَكَمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قُضِيَ لِأَحَدِهِمَا بِشَيْءِ مِنْ حَقِّ الْآخَرِ وَأَدِلَّةُ الْأَحْكَامِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ هَذَا ؛ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ فِي الظَّوَاهِرِ قَدْ تَكُونُ مُحْتَمِلَةً لِلنَّقِيضِ وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ وَإِنْ كَانَ قَوْمٌ نَازَعُوا فِي الْقِيَاسِ فَالْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ لَمْ يُنَازِعُوا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ كَالظَّاهِرِيَّةِ وَمَنْ نَازَعَ فِي هَذَا وَهَذَا لَمْ يُنَازِعْ فِي الْعُمُومِ كَالْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَإِنْ نَازَعَ فِي الْعُمُومِ وَالْقِيَاسِ مُنَازِعٌ كَبَعْضِ الرَّافِضَةِ مِثْلِ الموسوي وَنَحْوِهِ لَمْ يُنَازِعْ فِي الْأَخْبَارِ ؛ فَإِنَّ الْإِمَامِيَّةَ عُمْدَتُهُمْ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الرِّوَايَةِ وَلَا يُوجَدُ مَنْ
يَسْتَغْنِي عَنْ الظَّوَاهِرِ وَالْأَخْبَارِ وَالْأَقْيِسَةِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْمَلَ بِبَعْضِ ذَلِكَ مَعَ تَجْوِيزِ نَقِيضِهِ وَهَذَا عَمَلٌ بِالظَّنِّ وَالْقُرْآنُ قَدْ حَرَّمَ اتِّبَاعَ الظَّنِّ . وَقَدْ تَنَوَّعَتْ طُرُقُ النَّاسِ فِي جَوَازِ هَذَا ؛ فَطَائِفَةٌ قَالَتْ : لَا يُتَّبَعُ قَطُّ إلَّا الْعِلْمُ وَلَا يُعْمَلُ بِالظَّنِّ أَصْلًا وَقَالُوا إنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي الظَّوَاهِرِ بَلْ يَقُولُونَ نَقْطَعُ بِخَطَأِ مَنْ خَالَفَنَا وَنَنْقُضُ حُكْمَهُ كَمَا يَقُولُهُ دَاوُد وَأَصْحَابُهُ وَهَؤُلَاءِ عُمْدَتُهُمْ إنَّمَا هُوَ مَا يَظُنُّونَهُ ظَاهِرًا - وَأَمَّا الِاسْتِصْحَابُ فَالِاسْتِصْحَابُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ مِنْ أَضْعَفِ الْأَدِلَّةِ - وَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ قَدْ لَا يَكُونُ مَا احْتَجُّوا بِهِ ظَاهِرَ اللَّفْظِ ؛ بَلْ الظَّاهِرُ خِلَافُهُ ؛ فَطَائِفَةٌ قَالَتْ : لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ الرَّاجِحِ كُنَّا مُتَّبِعِينَ لِلْعِلْمِ فَنَحْنُ نَعْمَلُ بِالْعِلْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلْمِ لَا نَعْمَلُ بِالظَّنِّ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَتْبَاعِهِ . وَهُنَا السُّؤَالُ الْمَشْهُورُ فِي " حَدِّ الْفِقْهِ " : أَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَقَالَ الرَّازِي : الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَى أَعْيَانِهَا بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً قَالَ : فَإِنْ قُلْت : الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ فَكَيْفَ جَعَلْته عِلْمًا ؟ قُلْت : الْمُجْتَهِدُ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ مُشَارَكَةُ صُورَةٍ لِصُورَةِ فِي مَنَاطِ
الْحُكْمِ قَطَعَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ ظَنُّهُ فَالْعِلْمُ حَاصِلٌ قَطْعًا وَالظَّنُّ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِهِ وَحَقِيقَةُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ هُنَا مُقَدِّمَتَيْنِ :
إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ عِنْدِي ظَنٌّ
وَالثَّانِيَةُ : قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ هَذَا الظَّنِّ . ف " الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى " وِجْدَانِيَّةٌ و " الثَّانِيَةُ " عَمَلِيَّةٌ اسْتِدْلَالِيَّةٌ ؛ فَلَيْسَ الظَّنُّ هُنَا مُقَدِّمَةً فِي الدَّلِيلِ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُهُمْ لَكِنْ يُقَالُ : الْعَمَلُ بِهَذَا الظَّنِّ هُوَ حُكْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ لَيْسَ هُوَ الْفِقْهَ بَلْ الْفِقْهُ هُوَ ذَاكَ الظَّنُّ الْحَاصِلُ بِالظَّاهِرِ ؛ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ وَالْأُصُولُ تُفِيدُ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَذَا الظَّنِّ وَاجِبٌ وَإِلَّا فَالْفُقَهَاءُ لَا يَتَعَرَّضُونَ لِهَذَا فَهَذَا الْحُكْمُ الْعَمَلِيُّ الْأُصُولِيُّ لَيْسَ هُوَ الْفِقْهَ وَهَذَا الْجَوَابُ جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَلَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ وَلَا عَلَى الظَّنِّ دَلِيلٌ يُوجِبُ تَرْجِيحَ ظَنٍّ عَلَى ظَنٍّ ؛ بَلْ الظُّنُونُ عِنْدَهُ بِحَسَبِ الِاتِّفَاقِ . وَقَالَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ نَصَرَ قَوْلَهُ : قَدْ يَكُونُ بِحَسَبِ مَيْلِ النَّفْسِ إلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَمَيْلِ ذِي الشِّدَّةِ إلَى قَوْلٍ وَذِي اللِّينِ إلَى قَوْلٍ . وَحِينَئِذٍ فَعِنْدَهُمْ مَتَى وَجَدَ الْمُجْتَهِدُ ظَنًّا فِي نَفْسِهِ فَحُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ
اتِّبَاعُ هَذَا الظَّنِّ وَقَدْ أَنْكَرَ أَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَوْلَ إنْكَارًا بَلِيغًا وَهُمْ مَعْذُورُونَ فِي إنْكَارِهِ فَإِنَّ هَذَا أَوَّلًا مُكَابَرَةٌ فَإِنَّ الظُّنُونَ عَلَيْهَا أَمَارَاتٌ وَدَلَائِلُ يُوجِبُ وُجُودُهَا تَرْجِيحَ ظَنٍّ عَلَى ظَنٍّ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَالشَّرِيعَةُ جَاءَتْ بِهِ وَرَجَّحَتْ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ وَالْكَلَامُ فِي شَيْئَيْنِ : فِي اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَفِي الْفِقْهِ هَلْ هُوَ مِنْ الظُّنُونِ ؟ أَمَّا الْأَوَّلُ : فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ هُوَ الْجَوَابُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْعِلْمِ وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي الْمَسَائِلِ الْخَفِيَّةِ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْأَدِلَّةِ وَيَعْمَلَ بِالرَّاجِحِ وَكَوْنُ هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ تَرْجِيحَ هَذَا عَلَى هَذَا فِيهِ شَكٌّ عِنْدَهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ وَإِذَا ظَنَّ الرُّجْحَانَ فَإِنَّمَا ظَنُّهُ لِقِيَامِ دَلِيلٍ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّ هَذَا رَاجِحٌ وَفَرْقٌ بَيْنَ اعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ وَرُجْحَانِ الِاعْتِقَادِ أَمَّا اعْتِقَادُ الرُّجْحَانِ فَقَدْ يَكُونُ عِلْمًا وَقَدْ لَا يَعْمَلُ حَتَّى يَعْلَمَ الرُّجْحَانَ وَإِذَا ظَنَّ الرُّجْحَانَ أَيْضًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَظُنَّهُ بِدَلِيلِ يَكُونُ عِنْدَهُ أَرْجَحَ مِنْ دَلِيلِ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَرُجْحَانُ هَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى رُجْحَانٍ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ فَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِمَا عَلِمَ أَنَّهُ أَرْجَحُ وَهَذَا اتِّبَاعٌ لِلْعِلْمِ لَا لِلظَّنِّ وَهُوَ اتِّبَاعُ الْأَحْسَنِ كَمَا قَالَ { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } وَقَالَ : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَقَالَ : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } فَإِذَا كَانَ
أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ هُوَ الْأَرْجَحَ فَاتِّبَاعُهُ هُوَ الْأَحْسَنُ وَهَذَا مَعْلُومٌ . فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِأَرْجَحِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَحِينَئِذٍ فَمَا عَمِلَ إلَّا بِالْعِلْمِ وَهَذَا جَوَابُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وأبي وَغَيْرِهِمْ وَالْقُرْآنُ ذَمَّ مَنْ لَا يَتَّبِعُ إلَّا الظَّنَّ فَلَمْ يَسْتَنِدْ ظَنُّهُ إلَى عِلْمٍ بِأَنَّ هَذَا أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ كَمَا قَالَ : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ } وَقَالَ : { هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ } وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ يَذُمُّ الَّذِينَ إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ فَعِنْدَهُمْ ظَنٌّ مُجَرَّدٌ لَا عِلْمَ مَعَهُ وَهُمْ يَتَّبِعُونَهُ وَاَلَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَعَلَيْهِ عُقَلَاءُ النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِعِلْمِ بِأَنَّ هَذَا أَرْجَحُ مِنْ هَذَا فَيَعْتَقِدُونَ الرُّجْحَانَ اعْتِقَادًا عَمَلِيًّا ؛ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ أَرْجَحَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَرْجُوحُ هُوَ الثَّابِتَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَهَذَا كَمَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ } فَإِذَا أَتَى أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ بِحُجَّةِ مِثْلِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ وَلَمْ يَأْتِ الْآخَرُ بِشَاهِدِ مَعَهَا كَانَ الْحَاكِمُ عَالِمًا بِأَنَّ حُجَّةَ هَذَا أَرْجَحُ فَمَا حَكَمَ إلَّا بِعِلْمِ ؛ لَكِنَّ الْآخَرَ قَدْ يَكُونُ لَهُ حُجَّةٌ لَا يَعْلَمُهَا أَوْ لَا يُحْسِنُ أَنْ يُبَيِّنَهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَضَاهُ أَوْ أَبْرَأَهُ وَلَهُ بَيِّنَةٌ تَشْهَدُ بِذَلِكَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُهَا أَوْ لَا
يَذْكُرُهَا أَوْ لَا يَجْسُرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِذَلِكَ فَيَكُونَ هُوَ الْمُضَيِّعَ لِحَقِّهِ حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ حُجَّتَهُ وَالْحَاكِمُ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا بِعِلْمِ وَعَدْلٍ وَضَيَاعُ حَقِّ هَذَا كَانَ مِنْ عَجْزِهِ وَتَفْرِيطِهِ لَا مِنْ الْحَاكِمِ . وَهَكَذَا أَدِلَّةُ الْأَحْكَامِ فَإِذَا تَعَارَضَ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا مُسْنَدٌ ثَابِتٌ وَالْآخَرُ مُرْسَلٌ كَانَ الْمُسْنَدُ الثَّابِتُ أَقْوَى مِنْ الْمُرْسَلِ وَهَذَا مَعْلُومٌ ؛ لِأَنَّ الْمُحَدِّثَ بِهَذَا قَدْ عَلِمَ عَدْلَهُ وَضَبْطَهُ وَالْآخَرَ لَمْ يَعْلَمْ عَدْلَهُ وَلَا ضَبْطَهُ كَشَاهِدَيْنِ زَكَّى أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُزَكِّ الْآخَرُ فَهَذَا الْمُزَكِّي أَرْجَحُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَوْلُ الْآخَرِ هُوَ الْحَقَّ ؛ لَكِنَّ الْمُجْتَهِدَ إنَّمَا عَمِلَ بِعِلْمِ وَهُوَ عِلْمُهُ بِرُجْحَانِ هَذَا عَلَى هَذَا ؛ لَيْسَ مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ إلَّا الظَّنَّ وَلَمْ يَكُنْ تَبَيَّنَ لَهُ إلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ فِيمَنْ أَرْسَلَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ وَفِي تَزْكِيَةِ هَذَا الشَّاهِدِ فَإِنَّ الْمُرْسَلَ قَدْ يَكُونُ رَاوِيهِ عَدْلًا حَافِظًا كَمَا قَدْ يَكُونُ هَذَا الشَّاهِدُ عَدْلًا . وَنَحْنُ لَيْسَ مَعَنَا عِلْمٌ بِانْتِفَاءِ عَدَالَةِ الرَّاوِي لَكِنَّ مَعَنَا عَدَمَ الْعِلْمِ بِعَدَالَتِهِمَا وَقَدْ لَا تُعْلَمُ عَدَالَتُهُمَا مَعَ تَقْوِيَتِهَا وَرُجْحَانِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَمِنْ هُنَا يَقَعُ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ ؛ لَكِنَّ هَذَا لَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُكَلِّفَهُ الْعَالِمُ أَنْ يَدَعَ مَا يَعْلَمُهُ إلَى أَمْرٍ لَا يَعْلَمُهُ لِإِمْكَانِ ثُبُوتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَجَبَ تَرْجِيحُ هَذَا الَّذِي عُلِمَ ثُبُوتُهُ عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ انْتِفَاؤُهُ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّهُمَا إذَا
تَعَارَضَا وَكَانَا مُتَنَاقِضَيْنِ فَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا هُوَ نَفْيُ الْآخَرِ فَهَذَا الدَّلِيلُ الْمَعْلُومُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يُثْبِتُ هَذَا وَيَنْفِي ذَلِكَ وَذَلِكَ الْمَجْهُولُ بِالْعَكْسِ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ التَّرْجِيحِ وَجَبَ قَطْعًا تَرْجِيحُ الْمَعْلُومِ ثُبُوتُهُ عَلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ . وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِثُبُوتِهِ وَقَدْ قُلْنَا : فَرْقٌ بَيْنَ اعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ وَرُجْحَانُ الِاعْتِقَادِ أَمَّا اعْتِقَادُ الرُّجْحَانِ فَهُوَ عِلْمٌ وَالْمُجْتَهِدُ مَا عَمِلَ إلَّا بِذَلِكَ الْعِلْمِ وَهُوَ اعْتِقَادُ رُجْحَانِ هَذَا عَلَى هَذَا وَأَمَّا رُجْحَانُ هَذَا الِاعْتِقَادِ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ فَهُوَ الظَّنُّ ؛ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ } بَلْ هُنَا ظَنُّ رُجْحَانِ هَذَا وَظَنُّ رُجْحَانِ ذَاكَ وَهَذَا الظَّنُّ هُوَ الرَّاجِحُ وَرُجْحَانُهُ مَعْلُومٌ فَحَكَمَ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ الظَّنِّ الرَّاجِحِ وَدَلِيلِهِ الرَّاجِحِ وَهَذَا مَعْلُومٌ لَهُ لَا مَظْنُونٌ عِنْدَهُ وَهَذَا يُوجَدُ فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالصِّنَاعَات كَالطِّبِّ وَالتِّجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ الْفِقْهُ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ : فَقَدْ أَجَابَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو الْخَطَّابِ بِجَوَابِ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ الْمُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ الظَّاهِرُ وَإِنْ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَقَوْلِهِ : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عَنْهُ جَوَابَيْنِ :
" أَحَدُهُمَا " أَنْ يُقَالَ : جُمْهُورُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا النَّاسُ وَيُفْتُونَ بِهَا هِيَ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا يَقَعُ الظَّنُّ وَالنِّزَاعُ فِي قَلِيلٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي سَائِرِ الْعُلُومِ وَكَثِيرُ مَسَائِلِ الْخِلَافِ هِيَ فِي أُمُورٍ قَلِيلَةِ الْوُقُوعِ وَمُقَدَّرَةٍ وَأَمَّا مَا لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْهُ مِنْ الْعِلْمِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَيَحْرُمُ وَيُبَاحُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَمَا يُعْلَمُ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً جُزْءٌ مِنْ الْفِقْهِ وَإِخْرَاجُهُ مِنْ الْفِقْهِ قَوْلٌ لَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ قَالَهُ وَلَا احْتَرَزَ بِهَذَا الْقَيْدِ أَحَدٌ إلَّا الرَّازِي وَنَحْوُهُ وَجَمِيعُ الْفُقَهَاءِ يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَوُجُوبَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْفَوَاحِشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً . و " أَيْضًا " فَكَوْنُ الشَّيْءِ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً أَمْرٌ إضَافِيٌّ فَحَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَمَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ قَدْ لَا يَعْلَمُ هَذَا بِالْكُلِّيَّةِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ يَعْلَمُهُ بِالضَّرُورَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ لِلسَّهْوِ وَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَقَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْخَاصَّةُ بِالضَّرُورَةِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُهُ أَلْبَتَّةَ . " الْجَوَابُ الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ : الْفِقْهُ لَا يَكُونُ فِقْهًا إلَّا مِنْ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَدِلِّ وَهُوَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ أَرْجَحُ وَهَذَا الظَّنَّ أَرْجَحُ
فَالْفِقْهُ هُوَ عِلْمُهُ بِرُجْحَانِ هَذَا الدَّلِيلِ وَهَذَا الظَّنِّ ؛ لَيْسَ الْفِقْهُ قَطْعَهُ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ أَيْ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بَلْ هَذَا الْقَطْعُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِيُّ يَتَكَلَّمُ فِي جِنْسِ الْأَدِلَّةِ وَيَتَكَلَّمُ كَلَامًا كُلِيًّا فَيَقُولُ : يَجِبُ إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ أَنْ يُحْكَمَ بِأَرْجَحِهِمَا وَيَقُولُ أَيْضًا : إذَا تَعَارَضَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ فَالْخَاصُّ أَرْجَحُ وَإِذَا تَعَارَضَ الْمُسْنَدُ وَالْمُرْسَلُ فَالْمُسْنَدُ أَرْجَحُ وَيَقُولُ أَيْضًا : الْعَامُّ الْمُجَرَّدُ عَنْ قَرَائِنِ التَّخْصِيصِ شُمُولُهُ الْأَفْرَادَ أَرْجَحُ مِنْ عَدَمِ شُمُولِهِ وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ . فَأَمَّا الْفَقِيهُ : فَيَتَكَلَّمُ فِي دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ فِي حُكْمٍ مُعَيَّنٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَوْلَهُ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } خَاصٌّ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُتَأَخِّرٌ عَنْ قَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } وَتِلْكَ الْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَإِنْ تَنَاوَلَتْهُمْ فَهَذَا خَاصٌّ مُتَأَخِّرٌ ؛ فَيَكُونُ نَاسِخًا وَمُخَصِّصًا فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ دَلَالَةَ هَذَا النَّصِّ عَلَى الْحِلِّ أَرْجَحُ مِنْ دَلَالَةِ ذَلِكَ النَّصِّ عَلَى التَّحْرِيمِ وَهَذَا الرُّجْحَانُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُ قَطْعًا وَهَذَا الْفِقْهُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْفَقِيهُ هُوَ عِلْمٌ قَطْعِيٌّ لَا ظَنِّيٌّ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ كَانَ مُقَلِّدًا لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ الَّذِينَ جَوَّزُوا نِكَاحَ الْكِتَابِيَّاتِ ، وَاعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ لَيْسَ بِفِقْهِ . وَلِهَذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى أَعْيَانِهَا : وَالْفَقِيهُ قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى عَيْنِ
الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ وَالْمَسْؤُولِ عَنْهُ وَحَيْثُ لَا يَعْلَمُ الرُّجْحَانَ فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ لَا قَوْلَ لَهُ وَإِذَا قِيلَ لَهُ : فَقَدْ قَالَ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } قَالَ : هَذَا نَزَلَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكَاتُ فَإِنَّ سَبَبَ النُّزُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُنَّ مُرَادَاتٌ قَطْعًا وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهِيَ خَاصٌّ مُتَأَخِّرٌ وَذَاكَ عَامٌّ مُتَقَدِّمٌ وَالْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ أَرْجَحُ مِنْ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ . وَلِهَذَا لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } فَارَقَ عُمَرُ امْرَأَةً مُشْرِكَةً وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْكِحُونَ الْمُشْرِكَاتِ إلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَوْ كَانَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ بَعْدَ آيَةِ الْمُمْتَحَنَةِ وَآيَةَ الْمَائِدَةِ بَعْدَ آيَةِ الْبَقَرَةِ . فَهَذَا النَّظَرُ وَأَمْثَالُهُ هُوَ نَظَرُ الْفَقِيهِ الْعَالِمِ بِرُجْحَانِ دَلِيلٍ وَظَنٍّ عَلَى دَلِيلٍ وَهَذَا عِلْمٌ لَا ظَنٌّ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الظَّنَّ لَهُ أَدِلَّةٌ تَقْتَضِيهِ وَأَنَّ الْعَالِمَ إنَّمَا يَعْلَمُ بِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالرُّجْحَانِ لَا بِنَفْسِ الظَّنِّ إلَّا إذَا عَلِمَ رُجْحَانَهُ وَأَمَّا الظَّنُّ الَّذِي لَا يُعْلَمُ رُجْحَانُهُ فَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ بِهِ مَنْ قَالَ فِيهِ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ } فَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ . وَلَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّهُ ظَنٌّ رَاجِحٌ لَكَانُوا قَدْ اتَّبَعُوا عِلْمًا لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَّبِعُ إلَّا الظَّنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
فَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ " أَحَدُهَا " الظَّنُّ الرَّاجِحُ فِي نَفْسِ الْمُسْتَدِلِّ الْمُجْتَهِدِ . و " الثَّانِي " الْأَدِلَّةُ - الَّتِي يُسَمِّيهَا بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ أَمَارَاتٍ - الَّتِي تَعَارَضَتْ وَعَلِمَ الْمُسْتَدِلُّ بِأَنَّ الَّتِي أَوْجَبَتْ ذَلِكَ الظَّنَّ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهَا . " الثَّالِثُ " أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي عَامَّةِ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْمَعُ نَصًّا عَامًّا كَمَا سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ قَطْعِ الْخُفَّيْنِ وَأَنَّهُ أَمَرَ أَنْ لَا يَخْرُجَ أَحَدٌ حَتَّى يُوَدِّعَ الْبَيْتَ أَوْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِير وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ وَهَذَا رَاجِحٌ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ النَّافِي لِلتَّحْرِيمِ فَعَمِلُوا بِهَذَا الرَّاجِحِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ قَطْعًا أَنَّ النَّهْيَ أَوْلَى مِنْ الِاسْتِصْحَابِ ؛ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الِاسْتِصْحَابِ دَلِيلٌ خَاصٌّ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَعْلَمُوهُ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا عَمَّا عَلِمُوهُ إلَى مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ فَكَانُوا يُفْتُونَ بِأَنَّ الْحَائِضَ عَلَيْهَا الْوَدَاعُ وَعَلَيْهَا قَطْعُ الْخُفَّيْنِ وَأَنَّ قَلِيلَ الْحَرِيرِ وَكَثِيرَهُ حَرَامٌ .
وَابْنُ الزُّبَيْرِ كَانَ يُحَرِّمُهُ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ } وَكَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نُصُوصٌ خَاصَّةٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ بِلَا وَدَاعٍ وَأَنَّهَا تَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ وَغَيْرَهُمَا مِمَّا نَهَى عَنْهُ الْمُحْرِمَ وَلَكِنْ تَجْتَنِبُ النِّقَابَ وَالْقُفَّازَيْنِ وَأَنَّهُ رَخَّصَ فِي مَوْضِعِ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْحَرِيرِ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ فِي رِوَايَةِ عُمَرَ وَلَمْ يَعْرِفْ بِهِ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَكَانَ لَهُ جُبَّةٌ مَكْفُوفَةٌ بِالْحَرِيرِ فَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ وَنَحْوُهُ هَذِهِ النُّصُوصَ الْخَاصَّةَ رَجَعُوا وَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنَّهُ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْ الدَّلِيلِ الَّذِي يَسْتَصْحِبُوهُ وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ وَهُمْ فِي الْحَالَيْنِ إنَّمَا حَكَمُوا بِعِلْمِ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ إلَّا الظَّنَّ فَإِنَّهُمْ أَوَّلًا رَجَّحُوا الْعُمُومَ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهَذَا تَرْجِيحٌ بِعِلْمِ فَإِنَّ هَذَا رَاجِحٌ بِلَا رَيْبٍ وَالشَّرْعُ طَافِحٌ بِهَذَا . فَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَهُ فِي كِتَابِهِ كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِمَا هِيَ نُصُوصٌ عَامَّةٌ وَمَا حَرَّمَهُ كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ حَرَّمَهُ بِنُصُوصِ عَامَّةٍ وَهِيَ رَاجِحَةٌ وَمُقَدَّمَةٌ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ النَّافِيَةِ لِلْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ فَمَنْ رَجَّحَ ذَلِكَ فَقَدْ حَكَمَ بِعِلْمِ وَحَكَمَ بِأَرْجَحِ الدَّلِيلَيْنِ الْمَعْلُومِ الرُّجْحَانِ وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ لَمْ يَتَّبِعْ إلَّا الظَّنَّ لَكِنْ لِتَجْوِيزِهِ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ مَخْصُوصًا صَارَ عِنْدَهُ ظَنٌّ رَاجِحٌ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا تَخْصِيصَ هُنَاكَ قَطَعَ بِالْعُمُومِ وَكَذَلِكَ
لَوْ عَلِمَ إرَادَةَ نَوْعٍ قَطَعَ بِانْتِفَاءِ الْخُصُوصِ وَهَذَا الْقَوْلُ فِي سَائِرِ الْأَدِلَّةِ مِثْلَ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِنُصُوصِ وَتَكُونُ مَنْسُوخَةً وَلَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ كَاَلَّذِينَ نَهَوْا عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ وَعَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ النَّصُّ النَّاسِخُ . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُمْ النَّسْخُ مِثْلَ مَنْ كَانَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَوَادِي وَبِمَكَّةَ وَالْحَبَشَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَهَؤُلَاءِ غَيْرُ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَصَلَّى بَعْضُهُمْ صَلَاةً إلَى الْقِبْلَتَيْنِ : بَعْضُهَا إلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ وَبَعْضُهَا إلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ لَمَّا بَلَغَهُمْ النَّسْخُ وَهُمْ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ فَاسْتَدَارُوا فِي صَلَاتِهِمْ مِنْ جِهَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ إلَى جِهَةِ الْيَمَنِ . فَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَنَحْوُهُ مِنْ الَّذِينَ يَنْفُونَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ أَوْ دَلِيلٍ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ : مَا ثَمَّ إلَّا الظَّنُّ الَّذِي فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ وَالْأَمَارَاتُ لَا ضَابِطَ لَهَا وَلَيْسَتْ أَمَارَةٌ أَقْوَى مِنْ أَمَارَةٍ ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا قَالُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَمِلَ بِالْمَرْجُوحِ دُونَ الرَّاجِحِ مُخْطِئًا وَعِنْدَهُمْ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ خَطَأٌ . وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ : بَلْ الْأَمَارَاتُ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَطْلُبَ الْأَقْوَى فَإِذَا رَأَى دَلِيلًا أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَرَ مَا يُعَارِضُهُ عَمِلَ بِهِ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ مَا هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُ
كَانَ مُخْطِئًا مَعْذُورًا وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَعَمَلِهِ بِمَا بُيِّنَ لَهُ رُجْحَانُهُ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَذَلِكَ الْبَاطِنُ هُوَ الْحُكْمُ ؛ لَكِنْ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَمَنْ عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِتَرْكِهِ . فَإِذَا أُرِيدَ بِالْخَطَأِ الْإِثْمُ فَلَيْسَ الْمُجْتَهِدُ بِمُخْطِئِ ؛ بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ فَاعِلٌ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَالْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَلَهُ أَجْرَانِ كَمَا فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ إذَا صَلَّوْا إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَاَلَّذِي أَصَابَ الْكَعْبَةَ - وَاحِدٌ وَلَهُ أَجْرَانِ لِاجْتِهَادِهِ وَعَمَلِهِ - كَانَ أَكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَمَنْ زَادَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَعَمَلًا زَادَهُ أَجْرًا بِمَا زَادَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } قَالَ مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِالْعِلْمِ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ إنَّمَا قَالُوا بِعِلْمِ وَاتَّبَعُوا الْعِلْمَ وَأَنَّ " الْفِقْهَ " مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الَّذِينَ لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ لَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ ؛ إمَّا بِأَنْ سَمِعَ مَا لَمْ يَسْمَعْ الْآخَرُ وَإِمَّا بِأَنْ فَهِمَ مَا لَمْ يَفْهَمْ الْآخَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }
{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } . وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ بَيْنَ أُصُولٍ وَفُرُوعٍ . بَلْ جَعْلُ الدِّينِ " قِسْمَيْنِ " أُصُولًا وَفُرُوعًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إنَّ الْمُجْتَهِدَ الَّذِي اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ يَأْثَمُ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ ظَهَرَ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَدْخَلَهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَحَكَوْا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ . وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا . وَلِهَذَا يَقْبَلُونَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَيُصَلُّونَ خَلْفَهُمْ وَمَنْ رَدَّهَا - كَمَالِكِ وَأَحْمَد - فَلَيْسَ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِإِثْمِهِمَا ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ وَهَجْرُ مَنْ أَظْهَرَ الْبِدْعَةَ فَإِذَا هُجِرَ وَلَمْ يُصَلَّ خَلْفَهُ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَانَ ذَلِكَ مَنْعًا لَهُ مِنْ إظْهَارِ الْبِدْعَةِ ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ لِلْبِدْعَةِ الْمُظْهِرِ لَهَا وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ الخرقي : وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَجْهَرُ بِبِدْعَةِ أَوْ مُنْكَرٍ أَعَادَ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ لَمْ يَذْكُرُوا ضَابِطًا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بَلْ تَارَةً يَقُولُونَ : هَذَا قَطْعِيٌّ وَهَذَا ظَنِّيٌّ وَكَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ قَطْعِيٌّ وَكَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ ظَنِّيٌّ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ فَإِنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قَطْعِيًّا وَظَنِّيًّا أَمْرٌ إضَافِيٌّ وَتَارَةً يَقُولُونَ : الْأُصُولُ هِيَ الْعِلْمِيَّاتُ الْخَبَرِيَّاتُ وَالْفُرُوعُ الْعَمَلِيَّاتُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ مَنْ جَحَدَهَا كَفَرَ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَتَارَةً يَقُولُونَ : هَذِهِ عَقْلِيَّاتٌ وَهَذِهِ سَمْعِيَّاتٌ وَإِذَا كَانَتْ عَقْلِيَّاتٍ لَمْ يَلْزَمْ تَكْفِيرُ الْمُخْطِئِ فَإِنَّ الْكُفْرَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْعِ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِذَا تَدَبَّرَ الْإِنْسَانُ تَنَازُعَ النَّاسِ وَجَدَ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْأُخْرَى كَمَا فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ . مِثَالُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ : التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَإِنْفَاذِ الْوَعِيدِ وَهِيَ الَّتِي تُوَالِي الْمُعْتَزِلَةُ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهَا وَيَتَبَرَّءُونَ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ قَصَدُوا تَوْحِيدَ الرَّبِّ وَإِثْبَاتَ عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَصِدْقِهِ وَطَاعَةَ أَمْرِهِ لَكِنْ غَلِطُوا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ نَاقَضُوهُمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ - فَإِنَّهُمْ نَاقَضُوهُمْ فِي الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ وَكَانَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ
لَيْسَ عِنْدَ أُولَئِكَ وَكَانَ عِنْدَ أُولَئِكَ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ لَمْ تُحِطْ عِلْمًا بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الْأُمُورِ ؛ بَلْ عَلِمُوا بَعْضًا وَجَهِلُوا بَعْضًا ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُجَبِّرَةَ هُمْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ عَدْلًا وَلَا حِكْمَةً وَلَا رَحْمَةً وَلَا صِدْقًا . فَأُولَئِكَ قَصَدُوا إثْبَاتَ هَذِهِ الْأُمُورِ . أَمَّا الْعَدْلُ فَعِنْدَهُمْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَهُوَ عَدْلٌ وَالظُّلْمُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُمْتَنِعُ فَلَا يَكُونُ ثَمَّ عَدْلٌ يُقْصَدُ فِعْلُهُ وَظُلْمٌ يُقْصَدُ تَرْكُهُ ؛ وَلِهَذَا يُجَوِّزُونَ عَلَيْهِ فِعْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا وَيَقُولُونَ : الْقَبِيحُ هُوَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَهُوَ لَا نَاهِيَ لَهُ وَيُجَوِّزُونَ الْأَمْرَ بِكُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ مُنْكَرًا وَشِرْكًا وَالنَّهْيَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ تَوْحِيدًا وَمَعْرُوفًا فَلَا ضَابِطَ عِنْدَهُمْ لِلْفِعْلِ ؛ فَلِهَذَا أَلْزَمُوهُمْ جَوَازَ إظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدِ الْكَاذِبِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ جَوَابٌ صَحِيحٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا فَرْقًا بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ وَغَيْرِهَا وَلَا مَا بِهِ يُعْلَمُ صِدْقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا إذَا نَقَضُوا أَصْلَهُمْ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } وَعِنْدَهُمْ هَذَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَلَيْسَ فِي الْمُمْكِنِ قِسْطٌ وَجَوْرٌ حَتَّى يَكُونَ قَائِمًا بِهَذَا دُونَ هَذَا وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ " الْحِكْمَةُ " عِنْدَهُمْ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَقَدْ فَسَّرُوا " الْحِكْمَةَ " إمَّا بِالْعِلْمِ وَإِمَّا بِالْقُدْرَةِ وَإِمَّا بِالْإِرَادَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَادِرَ قَدْ يَكُونُ
حَكِيمًا وَيَكُونُ غَيْرَ حَكِيمٍ كَذَلِكَ الْمُرِيدُ قَدْ تَكُونُ إرَادَتُهُ حِكْمَةً وَقَدْ تَكُونُ سَفَهًا وَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ سَوَاءٌ كَانَ حِكْمَةً أَوْ سَفَهًا فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّ اللَّهَ حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ " الرَّحْمَةُ " مَا عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا إرَادَةُ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ نِسْبَتُهَا إلَى نَفْعِ الْعِبَادِ وَضَرَرِهِمْ سَوَاءٌ فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ رَحْمَةٌ وَلَا مَحَبَّةٌ أَيْضًا . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ تَنَاقُضُهُمْ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ ؛ حَيْثُ أَثْبَتُوا الْإِرَادَةَ مَعَ نَفْيِ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَمَعَ نَفْيِ الْحِكْمَةِ وَبُيِّنَ تَنَاقُضُهُمْ وَتَنَاقُضُ كُلِّ مَنْ أَثْبَتَ بَعْضَ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ وَأَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ نفاة الْإِرَادَةِ أَعْظَمُ تَنَاقُضًا مِنْهُمْ ؛ فَإِنَّ الرَّازِيَّ ذَكِر فِي الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " مَسْأَلَةَ الْإِرَادَةِ " وَرَجَّحَ فِيهَا نَفْيَ الْإِرَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ حُجَّةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِهِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ فَفَرَّ إلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا مِنْ الْمَسَائِلِ فَهُوَ تَارَةً يُرَجِّحُ قَوْلَهُ قَوْلَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَتَارَةً يُرَجِّحُ قَوْلَ الْمُتَكَلِّمَةِ وَتَارَةً يَحَارُ وَيَقِفُ وَاعْتَرَفَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ بِأَنَّ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا . وَقَالَ : قَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ } وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ عَدْلَ الرَّبِّ وَلَا حِكْمَتَهُ وَلَا رَحْمَتَهُ وَكَذَلِكَ الصِّدْقُ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ صَادِقٌ تَعَذَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا : الصِّدْقُ فِي الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الْأُمُورَ وَمَنْ يَعْلَمُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ فِي نَفْسِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ عِلْمِهِ وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ . فَقِيلَ لَهُمْ : هَذَا ضَعِيفٌ لِوَجْهَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " الصِّدْقُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَنْفَعُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ الصِّدْقُ فِي الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ عِنْدَهُمْ . " الثَّانِي " أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْخَبَرَ النَّفْسَانِيَّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُخْبِرُك بِالْكَذِبِ فَيَقُومُ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى لَيْسَ هُوَ الْعِلْمُ وَهُوَ مَعْنَى الْخَبَرِ فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْعَالِمَ قَدْ يَقُومُ فِي نَفْسِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ عِلْمِهِ وَالرَّازِي لَمَّا ذَكَرَ مَسْأَلَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ وَلَا يَعْنِي بِهِ شَيْئًا خِلَافًا لِلْحَشْوِيَّةِ قِيلَ لَهُ : هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ طَوَائِفِ الْأُمَّةِ إنَّ اللَّهَ لَا يَعْنِي بِكَلَامِهِ شَيْئًا ؟ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ هَلْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَفْهَمُ الْعِبَادُ مَعْنَاهُ . وَقِيلَ
لَهُ : هَبْ أَنَّ فِي هَذَا نِزَاعًا فَهُوَ لَمْ يُقِمْ دَلِيلًا عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ ؛ بَلْ قَالَ هَذَا عَيْبٌ أَوْ نَقْصٌ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ : إمَّا أَنْ يُرِيدَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالذَّاتِ أَوْ الْعِبَارَاتِ الْمَخْلُوقَةَ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَجُوزُ إرَادَتُهُ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ هِيَ فِيمَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ ، وَلَا يَعْنِي بِهِ شَيْئًا وَذَلِكَ الْقَائِمُ بِالذَّاتِ هُوَ نَفْسُ الْمَعْنَى وَإِنْ أَرَدْت الْحُرُوفَ - وَهُوَ مُرَادُهُ - فَتِلْكَ عِنْدَك مَخْلُوقَةٌ وَيَجُوزُ عِنْدَك أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ شَيْءٍ لَيْسَ مُنَزَّهًا عَنْ فِعْلٍ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْعَيْبُ عِنْدَك هُوَ مَا لَا تُرِيدُهُ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ لَا عَلَى صِدْقِهِ وَلَا عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ الْعَيْبِ فِي خِطَابِهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ يُنَزِّهُهُ عَنْ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُثْبِتُونَ عَدْلَهُ وَلَا حِكْمَتَهُ وَلَا رَحْمَتَهُ وَلَا صِدْقَهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَصْدُهُمْ إثْبَاتُ هَذِهِ الْأُمُورِ ؛ وَلِهَذَا يَذْكُرُونَهَا فِي خُطْبَةِ الصِّفَاتِ كَمَا يَذْكُرُهَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ كَمَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ صُوَرِ الْأَدِلَّةِ خُطْبَةٌ مَضْمُونُهَا : أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ عَدْلٌ { لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وَ {إِنّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } وَأَظُنُّ فِيهَا إثْبَاتَ صِدْقِهِ ؛ وَلِهَذَا يُكَفِّرُونَ مَنْ يُجَوِّرُهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ أَوْ يُسَفِّهُهُ أَوْ يُشَبِّهُهُ ؛ وَلَكِنْ قَدْ غَلِطُوا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا قَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ مَعَهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ الْحَقَّ إلَّا مَنْ اتَّبَعَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَآمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كُلِّهِ عَلَى
وَجْهِهِ لَمْ يُؤْمِنْ بِبَعْضِ وَيَكْفُرْ بِبَعْضِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الرَّحْمَةِ الَّذِينَ لَا يَخْتَلِفُونَ ؟ بِخِلَافِ أُولَئِكَ الْمُخْتَلِفِينَ . قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } { إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } .
فَصْلٌ :
وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ مُشْتَرِكُونَ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ وَابْنُ كِلَابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ - كَالْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَمَنْ تَبِعَهُمْ - أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ ؛ لَكِنْ لَمْ يُثْبِتُوا الصِّفَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةَ مِثْلَ كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَمِثْلَ كَوْنِ فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَمِثْلَ كَوْنِهِ يُحِبُّ وَيَرْضَى عَنْ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَيَغْضَبُ وَيُبْغِضُ الْكَافِرِينَ بَعْدَ كُفْرِهِمْ وَمِثْلَ كَوْنِهِ يَرَى أَفْعَالَ الْعِبَادِ بَعْدَ أَنْ يَعْمَلُوهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } فَأَثْبَتَ رُؤْيَةً مُسْتَقْبَلَةً وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } وَمِثْلَ كَوْنِهِ نَادَى مُوسَى حِينَ أَتَى لَمْ يُنَادِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِنِدَاءِ قَامَ بِذَاتِهِ ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ : خَلَقَ نِدَاءً فِي الْهَوَاءِ . والْكُلَّابِيَة والسالمية يَقُولُونَ : النِّدَاءُ قَامَ بِذَاتِهِ وَهُوَ قَدِيمٌ ؛ لَكِنْ سَمِعَهُ مُوسَى فَاسْتَجَدُّوا سَمَاعَ مُوسَى وَإِلَّا فَمَا زَالَ عِنْدَهُمْ مُنَادِيًا .
وَالْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ كُلُّهَا تُخَالِفُ هَذَا وَهَذَا وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ نَادَاهُ حِينَ جَاءَ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ فِي وَقْتٍ بِكَلَامِ مُعَيَّنٍ كَمَا قَالَ : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَالْقُرْآنُ فِيهِ مئون مِنْ الْآيَاتِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَلَا تُحْصَى . وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا : لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ ؛ فَلِهَذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ نَعْرِفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : هُوَ قَدِيمٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ الْمُرَادَ ؛ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ قَدِيمٌ فِي عِلْمِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : قَدِيمٌ أَيْ مُتَقَدِّمُ الْوُجُودِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ذَاتِ زَمَانِ الْمَبْعَثِ ؛ لَا أَنَّهُ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ مُرَادُنَا بِقَدِيمِ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ رَآهَا وَسَمِعَ أَصْوَاتَ عِبَادِهِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ إذْ كَانَ خَلْقُهُ لَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَبِذَلِكَ صَارُوا يُرَوْنَ وَيُسْمَعُ كَلَامُهُمْ وَقَدْ جَاءَ فِي
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ يَخُصُّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ كَقَوْلِهِ : { ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : مَلِكٌ كَذَّابٌ وَشَيْخٌ زَانٍ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ } وَكَذَلِكَ فِي " الِاسْتِمَاعِ " قَالَ تَعَالَى : { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } أَيْ اسْتَمَعَتْ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَإِذْنِهِ لِنَبِيِّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ } وَقَالَ : { لَلَّهُ أَشَدُّ إذْنًا إلَى صَاحِبِ الْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ } فَهَذَا تَخْصِيصٌ بِالْإِذْنِ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ لِبَعْضِ الْأَصْوَاتِ دُونَ بَعْضٍ . وَكَذَلِكَ ( سَمِعَ ) الْإِجَابَةَ كَقَوْلِهِ : { سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ } وَقَوْلِ الْخَلِيلِ : { إنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } وَقَوْلِهِ : { إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } يقتضي التَّخْصِيصَ بِهَذَا السَّمْعِ فَهَذَا التَّخْصِيصُ ثَابِتٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ تَخْصِيصٌ بِمَعْنَى يَقُومُ بِذَاتِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَعِنْدَ الْنُّفَاةِ هُوَ تَخْصِيصٌ بِأَمْرِ مَخْلُوقٍ مُنْفَصِلٍ لَا بِمَعْنَى يَقُومُ بِذَاتِهِ . وَتَخْصِيصُ مَنْ يُحِبُّ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ الْمَذْكُورِ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مُنْتَفٍ عَنْ غَيْرِهِمْ . لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ هَلْ يُقَالُ : إنَّ نَفْسَ الرُّؤْيَةِ وَالسَّمْعِ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ الْإِدْرَاكِ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ فَلَا يُمْكِنُ وُجُودُ مَسْمُوعٍ وَمَرْئِيٍّ إلَّا
وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ كَالْعِلْمِ ؟ أَوْ يُقَالُ : إنَّهُ أَيْضًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ : وَالْأَوَّلُ قَوْلُ مَنْ لَا يَجْعَلُ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ يَجْعَلُونَهُ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَقَدْ يَقُولُونَ : مَتَى وُجِدَ الْمَرْئِيُّ وَالْمَسْمُوعُ وَجَبَ تَعَلُّقُ الْإِدْرَاكِ بِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ جِنْسَ السَّمْعِ وَالرُّؤْيَةِ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الجوني قَالَ : مَا نَظَرَ اللَّهُ إلَى شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ إلَّا رَحِمَهُ وَلَكِنَّهُ قَضَى أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَيْهِمْ . وَقَدْ يُقَالُ : هَذَا مِثْلُ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْته فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْته فِي مَلَإِ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } فَهَذَا الذِّكْرُ يَخْتَصُّ بِمَنْ ذَكَرَهُ فَمَنْ لَا يَذْكُرُهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ هَذَا الذِّكْرُ وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ ذَكَرَهُ بِرَحْمَتِهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ الذِّكْرِ الَّذِي أَنْزَلَهُ أَعْرَضَ عَنْهُ كَمَا قَالَ : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا } { قَالَ
كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } . وَقَدْ فَسَّرُوا هَذَا النِّسْيَانَ بِأَنَّهُ . . . (1) وَهَذَا النِّسْيَانُ ضِدُّ ذَلِكَ الذِّكْرِ وَفِي الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْكَافِرِ يُحَاسِبُهُ قَالَ : { أَفَظَنَنْت أَنَّك مُلَاقِيَّ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ فَالْيَوْمَ أَنْسَاك كَمَا نَسِيتنِي } فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ أَهْلَ طَاعَتِهِ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَيْضًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ خَلَقَ هَذَا الْعَبْدَ وَعَلِمَ مَا سَيَعْمَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَهُ وَلَمَّا عَمِلَ عَلِمَ مَا عَمِلَ وَرَأَى عَمَلَهُ فَهَذَا النِّسْيَانُ لَا يُنَاقِضُ مَا عَلِمَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حَالِ هَذَا .
فَصْلٌ :
جِمَاعُ " الْفُرْقَانِ " بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَطَرِيقِ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ وَطَرِيقِ الشَّقَاوَةِ وَالْهَلَاكِ : أَنْ يَجْعَلَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَبِهِ
يَحْصُلُ الْفُرْقَانُ وَالْهُدَى وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ فَيُصَدِّقُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَمَا سِوَاهُ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ فَإِنْ وَافَقَهُ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَافَقَهُ أَوْ خَالَفَهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْكَلَامِ مُجْمَلًا لَا يُعْرَفُ مُرَادُ صَاحِبِهِ أَوْ قَدْ عُرِفَ مُرَادُهُ وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ هَلْ جَاءَ الرَّسُولُ بِتَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ فَإِنَّهُ يُمْسِكُ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِعِلْمِ . وَالْعِلْمُ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَالنَّافِعُ مِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَقَدْ يَكُونُ عُلِمَ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ ؛ لَكِنْ فِي أُمُورٍ " دُنْيَوِيَّةٍ " مِثْلِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْفِلَاحَةِ وَالتِّجَارَةِ . وَأَمَّا الْأُمُورُ " الْإِلَهِيَّةُ وَالْمَعَارِفُ الدِّينِيَّةُ " فَهَذِهِ الْعِلْمُ فِيهَا مَأْخَذُهُ عَنْ الرَّسُولِ فَالرَّسُولُ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِهَا وَأَرْغَبُهُمْ فِي تَعْرِيفِ الْخَلْقِ بِهَا وَأَقْدَرُهُمْ عَلَى بَيَانِهَا وَتَعْرِيفِهَا فَهُوَ فَوْقَ كُلِّ أَحَدٍ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِهَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ وَمَنْ سِوَى الرَّسُولِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي عِلْمِهِ بِهَا نَقْصٌ أَوْ فَسَادٌ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ فِيمَا عَلِمَهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ إمَّا لِرَغْبَةِ وَإِمَّا لِرَهْبَةِ وَإِمَّا لِغَرَضِ آخَرَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ نَاقِصًا لَيْسَ بَيَانُهُ الْبَيَانَ عَمَّا عَرَفَهُ الْجَنَانُ . وَبَيَانُ الرَّسُولِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
تَارَةً يُبَيِّنُ " الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ " الدَّالَّةَ عَلَيْهَا وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْيَقِينِيَّةِ عَلَى الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ . وَتَارَةً يُخْبِرُ بِهَا خَبَرًا مُجَرَّدًا لِمَا قَدْ أَقَامَهُ مِنْ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ وَالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّاتِ عَلَى أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ الْمُبَلِّغُ عَنْ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ عَلَيْهِ إلَّا الْحَقَّ وَأَنَّ اللَّهَ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ وَأَعْلَمَ عِبَادَهُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ صَادِقٌ مَصْدُوقٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنْهُ وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي بِهَا نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَهِيَ أَدِلَّةٌ عَقْلِيَّةٌ تُعْلَمُ صِحَّتُهَا بِالْعَقْلِ وَهِيَ أَيْضًا شَرْعِيَّةٌ سَمْعِيَّةٌ لَكِنَّ الرَّسُولَ بَيَّنَهَا وَدَلَّ عَلَيْهَا وَأَرْشَدَ إلَيْهَا وَجَمِيعُ طَوَائِفِ النُّظَّارِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ اشْتَمَلَ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فِي الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ وَهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ وَفِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَعَامَّةُ النُّظَّارِ أَيْضًا يَحْتَجُّونَ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ فِي الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ صِدْقُ الرَّسُولِ وَجَبَ تَصْدِيقُهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ . و " الْعُلُومُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " مِنْهَا مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَحْسَنُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بَيَّنَهَا الْقُرْآنُ وَأَرْشَدَ إلَيْهَا الرَّسُولُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَجَلَّ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَأَكْمَلَهَا وَأَفْضَلَهَا مَأْخُوذٌ عَنْ الرَّسُولِ ؛ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُذْهَلُ عَنْ هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَحُ فِي الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي ذِهْنِهِ أَنَّهَا هِيَ الْكَلَامُ الْمُبْتَدَعُ الَّذِي أَحْدَثَهُ مَنْ أَحْدَثَهُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْرِضُ عَنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَطَلَبِ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ
الْعَقْلِيَّةِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ فِي ذِهْنِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ فَقَطْ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ بِالْعَقْلِ قَبْلَ ذَلِكَ ثُبُوتُ النُّبُوَّةِ وَصِدْقُ الْخَبَرِ حَتَّى يُسْتَدَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَبَرِ مَنْ ثَبَتَ بِالْعَقْلِ صِدْقُهُ وَمِنْهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا بِخَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَخَبَرُهُمْ الْمُجَرَّدُ هُوَ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ مِثْلَ تَفَاصِيلَ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَتَفَاصِيلِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ وَيُنْهَى عَنْهُ . فَأَمَّا نَفْسُ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يُعْلَمُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ الْأَدِلَّةُ وَالْآيَاتُ الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْأَنْبِيَاءُ هِيَ أَكْمَلُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ ؛ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى الْخَبَرِ الْمُجَرَّدِ وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُجَرَّدَةُ تُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ أَيْضًا ؛ فَيُعْلَمُ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي أَرْشَدُوا إلَيْهَا وَيُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ خَبَرِهِمْ لَمَّا عُلِمَ صِدْقُهُمْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى صِدْقِهِمْ .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الْعِلْمِ بِالْمَعَادِ وَبِحُسْنِ الْأَفْعَالِ وَقُبْحِهَا " فَأَكْثَرُ النَّاسِ يَقُولُونَ : إنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ مَعَ السَّمْعِ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُعْلَمُ بِهِ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ أَكْثَرَ مِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمَعَادَ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ : هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْمَعَادُ وَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ
وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَغَيْرِهِمْ وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مِنْ الْعُلُومِ مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ الَّذِي هُوَ مُجَرَّدُ الْخَبَرِ مِثْلَ كَوْنِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةً لِلَّهِ أَوْ غَيْر مَخْلُوقَةٍ وَكَوْنِ رُؤْيَتِهِ مُمْكِنَةً أَوْ مُمْتَنِعَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكُتُبُ أُصُولِ الدِّينِ لِجَمِيعِ الطَّوَائِفِ مَمْلُوءَةٌ بِالِاحْتِجَاجِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ ؛ لَكِنَّ الرَّازِيَّ طَعَنَ فِي ذَلِكَ فِي " الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ " قَالَ : لِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالسَّمْعِ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يُعَارِضَهُ قَاطِعٌ عَقْلِيٌّ فَإِذَا عَارَضَهُ الْعَقْلِيُّ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ قَالَ : وَالْعِلْمُ بِانْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ مُتَعَذِّرٌ وَهُوَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالسَّمْعِ مَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ أَخْبَرَ بِهِ كَالْمَعَادِ وَقَدْ يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ أَئِمَّتِهِ الْوَاقِفَةِ فِي الْوَعِيدِ كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا وَقَفُوا فِي أَخْبَارِ الْوَعِيدِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ عِنْدَهُمْ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ أَوْ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِصِيَغِ الْعُمُومِ وَقَدْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُمْ الْأَدِلَّةُ ؛ وَإِلَّا فَهُمْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ لِلَّهِ . كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ بِمُجَرَّدِ السَّمْعِ وَالْخَبَرِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ لَكِنْ أَبُو الْمَعَالِي وَأَتْبَاعُهُ لَا يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ ؛ بَلْ فِيهِمْ مَنْ يَنْفِيهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِفُ فِيهَا كالرَّازِي والآمدي فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ يُنْتَزَعُ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ
بِأَنْ يُقَالَ : لَا يُعْرَفُ أَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا فِي الْأُصُولِ عَلَى دَلِيلٍ سَمْعِيٍّ ؛ لَكِنْ يُقَالُ : الْمَعَادُ يَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ ؛ وَلَكِنَّ الرَّازَيَّ هُوَ الَّذِي سَلَكَ فِيهِ طَرِيقَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهِ . وَفِي " الْحَقِيقَةِ " فَجَمِيعُ الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ تُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا وَالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ تُوجِبُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِأَخْبَارِ الرَّسُولِ ؛ لَكِنْ مِنْهَا مَا تَكْثُرُ أَدِلَّتُهُ كَخَبَرِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَيَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ دَلِيلٍ وَقَدْ يُعَيِّنُ الْأَدِلَّةَ وَيَسْتَدِلُّ بِهَا وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الرَّسُولِ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ الدِّينِيَّةُ سَمْعِيُّهَا وَعَقْلِيُّهَا وَيُجْعَلَ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْأُصُولَ لِدَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ الْبُرْهَانِيَّةِ عَلَى أَنَّ مَا قَالَهُ حَقٌّ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَدَلَائِلُ النُّبُوَّةِ عَامَّتُهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جُمْلَةً وَتَفَاصِيلُ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَفْصِيلًا . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ إنَّمَا بُعِثُوا بِتَعْرِيفِ هَذَا فَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ وَأَحَقُّهُمْ بِقِيَامِهِ وَأَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ فِيهِ . وَأَيْضًا فَمَنْ جَرَّبَ مَا يَقُولُونَهُ وَيَقُولُهُ غَيْرُهُمْ وَجَدَ الصَّوَابَ مَعَهُمْ
وَالْخَطَأَ مَعَ مُخَالِفِيهِمْ كَمَا قَالَ الرَّازِي - مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ طَعْنًا فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ حَتَّى ابْتَدَعَ قَوْلًا مَا عُرِفَ بِهِ قَائِلٌ مَشْهُور غَيْرَهُ وَهُوَ أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْيَقِينَ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهُ يَقُولُ - لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَوَجَدْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَاتِ { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَأَقْرَأُ فِي النَّفْيِ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } قَالَ : وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي . وَأَيْضًا فَمَنْ اعْتَبَرَ مَا عِنْدَ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ لَمْ يَعْتَصِمُوا بِتَعْلِيمِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِرْشَادِهِمْ وَإِخْبَارِهِمْ وَجَدَهُمْ كُلَّهُمْ حَائِرِينَ ضَالِّينَ شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ أَوْ جَاهِلِينَ جَهْلًا مُرَكَّبًا فَهُمْ لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْمَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْقُرْآنِ { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } .
فَصْلٌ :
وَأَهْلُ الضَّلَالِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا هُمْ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ : أَهْلُ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ : يَتَمَسَّكُونَ بِمَا هُوَ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَمُشْتَبِهٌ فِي الْعَقْلِ كَمَا قَالَ فِيهِمْ الْإِمَامُ أَحْمَد قَالَ : هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ يَحْتَجُّونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَيُضِلُّونَ النَّاسَ بِمَا يُشَبِّهُونَ عَلَيْهِمْ . وَالْمُفْتَرِقَةُ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ تَجْعَلُ لَهَا دِينًا وَأُصُولَ دِينٍ قَدْ ابْتَدَعُوهُ بِرَأْيِهِمْ ثُمَّ يَعْرِضُونَ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ فَإِنْ وَافَقَهُ احْتَجُّوا بِهِ اعْتِضَادًا لَا اعْتِمَادًا وَإِنْ خَالَفَهُ فَتَارَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَهَذَا فِعْلُ أَئِمَّتِهِمْ وَتَارَةً يُعْرِضُونَ عَنْهُ وَيَقُولُونَ : نُفَوِّضُ مَعْنَاهُ إلَى اللَّهِ وَهَذَا فِعْلُ عَامَّتِهِمْ . وَعُمْدَةُ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْبَاطِنِ غَيْرُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ يَجْعَلُونَ أَقْوَالَهُمْ الْبِدْعِيَّةَ مُحْكَمَةً يَجِبُ اتِّبَاعُهَا وَاعْتِقَادُ مُوجَبِهَا وَالْمُخَالِفُ إمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْبَابَ وَلَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالْمَعْقُولِ وَلَا بِالْأُصُولِ
وَيَجْعَلُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي يُخَالِفُهَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إلَّا اللَّهُ أَوْ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ إلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ وَالرَّاسِخُونَ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَ مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ ؛ وَهَؤُلَاءِ أَضَلُّ مِمَّنْ تَمَسَّكَ بِمَا تَشَابَهَ عَلَيْهِ مِنْ آيَاتِ الْكِتَابِ وَتَرْكِ الْمُحْكَمِ كَالنَّصَارَى وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ ؛ إذْ كَانَ هَؤُلَاءِ أَخَذُوا بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَجَعَلُوهُ مُحْكَمًا وَجَعَلُوا الْمُحْكَمَ مُتَشَابِهًا . وَأَمَّا أُولَئِكَ - كنفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَالْفَلَاسِفَةِ - فَيَجْعَلُونَ مَا ابْتَدَعُوهُ هُمْ بِرَأْيِهِمْ هُوَ الْمُحْكَمَ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يُوَافِقُهُ وَيَجْعَلُونَ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَإِنْ كَانَ صَرِيحًا قَدْ يُعْلَمُ مَعْنَاهُ بِالضَّرُورَةِ يَجْعَلُونَهُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ أَعْظَمَ مُخَالَفَةً لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ حَتَّى قَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُمَا كَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : أَنَّ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ خَارِجُونَ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً قَالُوا : وَأُصُولُهَا أَرْبَعَةٌ : الشِّيعَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فِي الْمُتَشَابِهَاتِ قَوْلَانِ :
" أَحَدُهُمَا " أَنَّهَا آيَاتٌ بِعَيْنِهَا تَتَشَابَهُ عَلَى كُلِّ النَّاسِ . و " الثَّانِي " - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ التَّشَابُهَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ فَقَدْ يَتَشَابَهُ عِنْدَ هَذَا مَا لَا يَتَشَابَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ وَلَكِنْ ثَمَّ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ لَا تَشَابُهَ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ وَتِلْكَ الْمُتَشَابِهَاتُ إذَا عُرِفَ مَعْنَاهَا صَارَتْ غَيْرَ مُتَشَابِهَةٍ ؛ بَلْ الْقَوْلُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ كَمَا قَالَ : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } وَهَذَا كَقَوْلِهِ : " { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ } " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : { إنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا } . وَقَدْ صَنَّفَ أَحْمَد كِتَابًا فِي " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَفَسَّرَ تِلْكَ الْآيَاتِ كُلَّهَا وَذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ الْمُتَشَابِهَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَعَامَّتُهَا آيَاتٌ مَعْرُوفَةٌ قَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي تَفْسِيرِهَا ؛ مِثْلَ الْآيَاتِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً إلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْلَمَ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَمَاذَا عُنِيَ بِهَا . وَمَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ إنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ أَصَابَ أَيْضًا وَمُرَادُهُ بِالتَّأْوِيلِ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ مِثْلَ وَقْتِ السَّاعَةِ وَمَجِيءِ أَشْرَاطِهَا وَمِثْلَ كَيْفِيَّةِ نَفْسِهِ وَمَا أَعَدَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِأَوْلِيَائِهِ .
وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَةِ احْتِجَاجُ النَّصَارَى بِمَا تَشَابَهَ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ : ( إنَّا ) و ( نَحْنُ ) وَهَذَا يَعْرِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَاحِدُ الْمُعَظَّمُ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ ؛ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ الْآلِهَةَ ثَلَاثَةٌ فَتَأْوِيلُ هَذَا الَّذِي هُوَ تَفْسِيرُهُ يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا قِيلَ فِيهِ : إيَّايَ وَمَا قِيلَ فِيهِ إنَّا لِدُخُولِ الْمَلَائِكَةِ فِيمَا يُرْسِلُهُمْ فِيهِ ؛ إذْ كَانُوا رُسُلَهُ وَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ الْمَعْبُودَ الْإِلَهَ فَهُوَ لَهُ وَحْدَهُ وَلِهَذَا لَا يَقُولُ : فَإِيَّانَا فَاعْبُدُوا وَلَا إيَّانَا فَارْهَبُوا بَلْ مَتَى جَاءَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى وَالْخَشْيَةِ وَالتَّوَكُّلِ ذَكَرَ نَفْسَهُ وَحْدَهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ وَإِذَا ذَكَرَ الْأَفْعَالَ الَّتِي يُرْسِلُ فِيهَا الْمَلَائِكَةَ قَالَ : { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } وَنَحْوَ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ تَأْوِيلَ هَذَا - وَهُوَ حَقِيقَةٌ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ وَكَيْفِيَّةِ إرْسَالِ الرَّبِّ لَهُمْ - لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يَجْعَلَ مَا قَالَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الْأَصْلَ وَيَتَدَبَّرَ مَعْنَاهُ وَيَعْقِلَ وَيَعْرِفَ بُرْهَانَهُ وَدَلِيلَهُ إمَّا الْعَقْلِيَّ وَإِمَّا الْخَبَرِيَّ السَّمْعِيَّ وَيَعْرِفَ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا وَهَذَا وَتُجْعَلُ أَقْوَالُ النَّاسِ الَّتِي قَدْ تُوَافِقُهُ وَتُخَالِفُهُ مُتَشَابِهَةً مُجْمَلَةً فَيُقَالُ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ : يُحْتَمَلُ كَذَا وَكَذَا وَيُحْتَمَلُ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ أَرَادُوا بِهَا مَا
يُوَافِقُ خَبَرَ الرَّسُولِ قُبِلَ وَإِنْ أَرَادُوا بِهَا مَا يُخَالِفُهُ رُدَّ . وَهَذَا مِثْلُ لَفْظِ " الْمُرَكَّبِ " و " الْجِسْمِ " و " الْمُتَحَيِّزِ " و " الْجَوْهَرِ " و " الْجِهَةِ " و " الْعَرَضِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَفْظِ " الْحَيِّزِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُرِيدُهُ أَهْلُ هَذَا الِاصْطِلَاحِ ؛ بَلْ وَلَا فِي اللُّغَةِ أَيْضًا بَلْ هُمْ يَخْتَصُّونَ بِالتَّعْبِيرِ بِهَا عَلَى مَعَانٍ لَمْ يُعَبِّرْ غَيْرُهُمْ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَيُفَسِّرُ تِلْكَ الْمَعَانِي بِعِبَارَاتِ أُخْرَى وَيُبْطِلُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ : بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ وَإِذَا وَقَعَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ تَبَيَّنَ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَعُرِفَ وَجْهُ الْكَلَامِ عَلَى أَدِلَّتِهِمْ فَإِنَّهَا مُلَفَّقَةٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ يَأْخُذُونَ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ فِي إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِمَعْنَى وَفِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُخْرَى بِمَعْنَى آخَرَ فَهُوَ فِي صُورَةِ اللَّفْظِ دَلِيلٌ وَفِي الْمَعْنَى لَيْسَ بِدَلِيلِ كَمَنْ يَقُولُ : سُهَيْلٌ بَعِيدٌ مِنْ الثُّرَيَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا وَلَا يَتَزَوَّجَهَا وَاَلَّذِي قَالَ :
أَيُّهَا الْمُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلًا
أَرَادَ امْرَأَةً اسْمُهَا الثُّرَيَّا وَرَجُلًا اسْمُهُ سُهَيْلٌ . ثُمَّ قَالَ :
عَمْرَك اللَّهَ كَيْفَ يَلْتَقِيَانِ
هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا مَا اسْتَقَلَّتْ * * * وَسُهَيْلٌ إذَا اسْتَقَلَّ يَمَانِ
وَهَذَا لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ فَجَعَلَ يُعْجِبُهُ وَإِنْكَارُهُ مِنْ الظَّاهِرِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى أَدِلَّتِهِمْ الْمُفَصَّلَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
وَالْأَصْلُ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ نفاة الصِّفَاتِ وَعَطَّلُوا مَا عَطَّلُوهُ حَتَّى صَارَ مُنْتَهَاهُمْ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي جَحَدَ الْخَالِقَ وَكَذَّبَ رَسُولَهُ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ هُوَ اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُحْدَثَةٌ وَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَلَمْ تَسْبِقْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ وَلَمْ يَسْبِقْهَا فَهُوَ مُحْدَثٌ وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ أَطْبَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى ذَمِّهِمْ وَأَصْلُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ أَطْبَقُوا عَلَى ذَمِّهِمْ وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ مُصَنَّفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً فِيهَا أَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة وَفِي ذَمِّ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ .
و السَّلَفُ لَمْ يَذُمُّوا جِنْسَ الْكَلَامِ . فَإِنَّ كُلَّ آدَمِيٍّ يَتَكَلَّمُ وَلَا ذَمُّوا الِاسْتِدْلَالَ وَالنَّظَرَ وَالْجَدَلَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَالِاسْتِدْلَالَ بِمَا بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَلْ وَلَا ذَمُّوا كَلَامًا هُوَ حَقٌّ ؛ بَلْ ذَمُّوا الْكَلَامَ الْبَاطِلَ وَهُوَ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الْمُخَالِفُ لِلْعَقْلِ أَيْضًا وَهُوَ الْبَاطِلُ . فَالْكَلَامُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ هُوَ الْكَلَامُ الْبَاطِلُ وَهُوَ الْمُخَالِفُ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ .
وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ خَفِيَ عَلَيْهِ بُطْلَانُ هَذَا الْكَلَامِ فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَهُ مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ حَتَّى اعْتَقَدَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ اسْتَدَلَّ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَجْعَلُهُ أَصْلَ الدِّينِ وَلَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ أَوْ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ ؛ وَلَكِنْ مَنْ عَرَفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ وَالصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَسْلُكُونَ هَذَا الْمَسْلَكَ فَصَارَ مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ فَاسِدٌ ؛ بَلْ يَظُنُّ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ صَحِيحٌ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ؛ لَكِنَّهُ طَوِيلٌ أَوْ يَبْعُدُ الْمَعْرِفَةُ أَوْ هُوَ طَرِيقٌ مُخِيفَةٌ مُخْطِر يُخَافُ عَلَى سَالِكِهِ فَصَارُوا يَعِيبُونَهُ كَمَا يُعَابُ الطَّرِيقُ الطَّوِيلُ وَالطَّرِيقُ الْمُخِيفُ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ يُوَصِّلُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ . وَأَمَّا الْحُذَّاقُ الْعَارِفُونَ تَحْقِيقَهُ فَعَلِمُوا أَنَّهُ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَأَنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ مُوَصِّلٍ إلَى الْمَعْرِفَةِ بَلْ إنَّمَا يُوَصِّلُ لِمَنْ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ إلَى الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ تَنَاقُضُهُ أَوْصَلَهُ إلَى الْحَيْرَةِ وَالشَّكِّ . وَلِهَذَا صَارَ حُذَّاقُ سَالِكِيهِ يَنْتَهُونَ إلَى الْحَيْرَةِ وَالشَّكِّ ؛ إذْ كَانَ حَقِيقَتُهُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ حَادِثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ قَدِيمٌ وَهَذَا مُكَابَرَةٌ ؛ فَإِنَّ الْوُجُودَ مَشْهُودٌ وَهُوَ إمَّا حَادِثٌ وَإِمَّا قَدِيمٌ وَالْحَادِثُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قَدِيمٍ فَثَبَتَ وُجُودُ الْقَدِيمِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ .
وَكَذَلِكَ مَا ابْتَدَعَهُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمُمْكِنِ عَلَى الْوَاجِبِ أَبْطَلُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَدْ بُسِطَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ مُمْكِنٌ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَوْجُودٌ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا طَرِيقًا لِإِثْبَاتِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ كَمَا يَجْعَلُ أُولَئِكَ هَذَا طَرِيقًا لِإِثْبَاتِ الْقَدِيمِ وَكِلَاهُمَا يُنَاقِضُ ثُبُوتَ الْقَدِيمِ وَالْوَاجِبِ فَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا إثْبَاتُ قَدِيمٍ وَلَا وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّ ثُبُوتَ مَوْجُودٍ قَدِيمٍ وَوَاجِبٍ بِنَفْسِهِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ . وَلِهَذَا صَارَ حُذَّاقُ هَؤُلَاءِ إلَى أَنَّ الْمَوْجُودَ الْوَاجِبَ وَالْقَدِيمَ هُوَ الْعَالَمُ بِنَفْسِهِ وَقَالُوا : هُوَ اللَّهُ . وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ رَبٌّ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ ؛ إذْ كَانَ ثُبُوتُ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ وَفِرْعَوْنُ وَنَحْوُهُ مِمَّنْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ مَا كَانَ يُنْكِرُ هَذَا الْوُجُودَ الْمَشْهُودَ فَلَمَّا كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِ أُولَئِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لَيْسَ مَوْجُودٌ قَدِيمٌ وَلَا وَاجِبٌ لَكِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا يَلْزَمُهُمْ ؛ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ أَقَامُوا الدَّلِيلَ عَلَى إثْبَاتِ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ . وَلَكِنْ وَصَفُوهُ بِصِفَاتِ الْمُمْتَنِعِ فَقَالُوا : لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا هُوَ صِفَةٌ وَلَا مَوْصُوفٌ وَلَا يُشَارُ إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ وَكَانَ هَذَا مِمَّا تَنْفِرُ عَنْهُ الْعُقُولُ وَالْفِطَرُ وَيُعْرَفُ أَنَّ هَذَا صِفَةُ الْمَعْدُومِ الْمُمْتَنِعِ لَا صِفَةُ الْمَوْجُودِ فَدَلِيلُهُمْ فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ مَا ثَمَّ قَدِيمٌ وَلَا وَاجِبٌ وَلَكِنْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْقَدِيمَ وَالْوَاجِبَ وَهَذَا الَّذِي أَثْبَتُوهُ هُوَ مُمْتَنِعٌ فَمَا أَثْبَتُوا قَدِيمًا وَلَا وَاجِبًا . فَجَاءَ آخَرُونَ مِنْ جهميتهم فَرَأَوْا هَذَا مُكَابَرَةً وَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ الْقَدِيمِ وَالْوَاجِبِ فَقَالُوا : هُوَ هَذَا الْعَالَمُ فَكَانَ قُدَمَاءُ الْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ : إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهَؤُلَاءِ قَالُوا : هُوَ عَيْنُ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَوْجُودُ الْقَدِيمُ الْوَاجِبُ هُوَ نَفْسُ الْمَوْجُودِ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ وَالْحُلُولُ هُوَ الَّذِي أَظَهَرَتْهُ الْجَهْمِيَّة لِلنَّاسِ حَتَّى عَرَفَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَرَدُّوهُ وَأَمَّا حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ فَهُوَ النَّفْيُ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَكِنَّ هَذَا لَمْ تَسْمَعْهُ الْأَئِمَّةُ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ قَوْلُهُمْ إلَّا مِنْ بَاطِنِهِمْ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ يَحْكُونَ عَنْ الْجَهْمِيَّة أَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَيَحْكُونَ عَنْهُمْ وَصْفَهُ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَشَاعَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ الْجَهْمِيَّة يَصِفُونَهُ بِالسُّلُوبِ حَتَّى قَالَ أَبُو تَمَّامٍ : جهمية الْأَوْصَافِ إلَّا أَنَّهَا قَدْ حُلِّيَتْ بِمَحَاسِنِ الْأَشْيَاءِ وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا نَفْيَ الْقَدِيمِ وَالْوَاجِبِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْصِدُهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ لَا مُسْلِمٌ وَلَا كَافِرٌ ؛ إذْ كَانَ خِلَافَ مَا يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ بِبَدِيهَةِ عَقْلِهِ فَإِنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ حَادِثَةٌ عَنْ عَدَمٍ لَزِمَ أَنَّ كُلَّ الْمَوْجُودَاتِ حَدَثَتْ بِأَنْفُسِهَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ أَنَّ الْحَادِثَ
لَا يَحْدُثُ بِنَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } وَقَدْ قِيلَ : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } مِنْ غَيْرِ رَبٍّ خَلَقَهُمْ وَقِيلَ : مِنْ غَيْرِ مَادَّةٍ وَقِيلَ : مِنْ غَيْرِ عَاقِبَةٍ وَجَزَاءٍ وَالْأَوَّلُ مُرَادٌ قَطْعًا فَإِنَّ كُلَّ مَا خُلِقَ مِنْ مَادَّةٍ أَوْ لِغَايَةِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ خَالِقٍ . وَمَعْرِفَةُ الْفِطَرِ أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ أَظْهَرُ فِيهَا مِنْ أَنَّ كُلَّ مُحْدَثٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَادَّةٍ خُلِقَ مِنْهَا وَغَايَةٍ خُلِقَ لَهَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُقَلَاءِ نَازَعَ فِي هَذَا وَهَذَا وَلَمْ يُنَازِعْ فِي الْأَوَّلِ . طَائِفَةٌ قَالَتْ : إنَّ هَذَا الْعَالَمَ حَدَثَ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ أَحْدَثَهُ ؛ بَلْ مِنْ الطَّوَائِفِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَدِيمٌ بِنَفْسِهِ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ صَانِعٌ وَأَمَّا أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ مُحْدَثٌ حَدَثَ بِنَفْسِهِ بِلَا صَانِعٍ فَهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ طَائِفَةٍ مَعْرُوفَةٍ وَإِنَّمَا يُحْكَى عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ . وَمِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ وَأَمْثَالِهِ يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِمَّنْ حَصَلَ لَهُ فَسَادٌ فِي عَقْلِهِ صَارَ بِهِ إلَى السَّفْسَطَةِ وَالسَّفْسَطَةُ تَعْرِضُ لِآحَادِ النَّاسِ وَفِي بَعْضِ الْأُمُورِ ؛ وَلَكِنْ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ كُلُّهُمْ سُوفِسْطَائِيَّةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ ؛ فَلِهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِحُدُوثِ الْعَالَمِ مِنْ غَيْرِ مُحْدِثٍ . وَهَؤُلَاءِ لَمَّا اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَوْصُوفٍ أَوْ كُلَّ مَا قَامَتْ بِهِ صِفَةٌ أَوْ
فِعْلٌ بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ وَمُمْكِنٌ لَزِمَهُمْ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ كُلِّ مَوْجُودٍ ؛ إذْ كَانَ الْخَالِقُ جَلَّ جَلَالُهُ مُتَّصِفًا بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأُمُورِ الاختياريات مِثْلَ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَيَخْلُقُ مَا يَخْلُقُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا انْتِفَاءَ هَذِهِ الصِّفَاتِ عَنْهُ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ وَالْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَإِذَا كَانَ حَادِثًا كَانَ لَهُ مُحْدِثٌ قَدِيمٌ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الرَّبَّ وَأَنَّهُ ذَاتٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الصِّفَاتِ وَوُجُودُهُ مُطْلَقٌ لَا يُشَارُ إلَيْهِ وَلَا يَتَعَيَّنُ . وَيَقُولُونَ : هُوَ بِلَا إشَارَةٍ وَلَا تَعْيِينٍ وَهَذَا الَّذِي أَثْبَتُوهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الذِّهْنِ فَكَانَ مَا أَثْبَتُوهُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ الصَّانِعُ لِلْعَالَمِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلَ الصَّانِعِ . فَجَاءَ إخْوَانُهُمْ فِي أَصْلِ الْمَقَالَةِ . وَقَالُوا : هَذَا الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الْمُجَرَّدُ عَنْ الصِّفَاتِ هُوَ الْوُجُودُ السَّارِي فِي الْمَوْجُودَاتِ فَقَالُوا بِحُلُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ . وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : هُوَ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ التَّعْيِينِ وَالْإِطْلَاقِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ فِي الْعَالَمِ كَالْمَادَّةِ فِي الصُّورَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ فِي الْعَالَمِ كَالزُّبْدِ فِي
اللَّبَنِ وَكَالزَّيْتِ والشيرج فِي السِّمْسِمِ وَالزَّيْتُونِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ قَوْلُهُمْ مَا قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ وَالْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ أَوْ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ ثُمَّ قَالُوا : وَالْجِسْمُ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَأَثْبَتُوا ذَلِكَ بِطُرُقِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَخْلُو عَنْ الْأَكْوَانِ الْأَرْبَعَةِ : الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَخْلُو عَنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَقَطْ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَخْلُو عَنْ الْأَعْرَاضِ وَالْأَعْرَاضُ كُلُّهَا حَادِثَةٌ وَهِيَ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الآمدي وَزَعَمَ أَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيَّةِ اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا وَالرَّازِي اعْتَمَدَ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الطُّرُقِ وَجَمِيعِ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ وَإِمْكَانِهِ وَذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ كَلَامَهُمْ هُمْ أَنْفُسِهِمْ فِي فَسَادِ جَمِيعِ هَذِهِ الطُّرُقِ وَأَنَّهُمْ هُمْ بَيَّنُوا فَسَادَ جَمِيعِ مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى حُدُوثِ الْجِسْمِ وَإِمْكَانِهِ وَبَيَّنُوا فَسَادَهَا طَرِيقًا طَرِيقًا بِمَا ذَكَرُوهُ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ جِسْمٌ قَدِيمٌ فَقَدْ شَارَكُوهُمْ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَقُولُوا بِحُدُوثِ كُلِّ جِسْمٍ وَلَا
قَالُوا : إنَّ الْجِسْمَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْحَوَادِثِ ؛ إذْ كَانَ الْقَدِيمُ عِنْدَهُمْ جِسْمًا قَدِيمًا وَهُوَ خَالٍ مِنْ الْحَوَادِثِ وَقَدْ قِيلَ : أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ الْقَدِيمَ جِسْمٌ هُوَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ كَمَا أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ فِي الْإِسْلَامِ نَفْيَ الْجِسْمِ هُوَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ .
وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي ذَمِّ الْجَهْمِيَّة كَثِيرٌ مَشْهُورٌ فَإِنَّ مَرَضَ التَّعْطِيلِ شَرٌّ مِنْ مَرَضِ التَّجْسِيمِ وَإِنَّمَا كَانَ السَّلَفُ يَذُمُّونَ الْمُشَبِّهَةَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَغَيْرُهُمَا قَالُوا : الْمُشَبِّهَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : بَصَرٌ كَبَصَرِي وَيَدٌ كَيَدِي وَقَدَمٌ كَقَدَمِي وَابْنُ كِلَابٍ وَمَنْ تَبِعَهُ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَأَمَّا الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيَنْفُونَهَا قَالُوا لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ وَلَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ لَكَانَ حَادِثًا لِأَنَّ مَا قَبِلَ الشَّيْءَ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ فَلَوْ قَبِلَ بَعْضَ هَذِهِ الْحَوَادِثِ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَيَكُونُ حَادِثًا . و " مُحَمَّدُ بْنُ كَرَّامٍ " كَانَ بَعْدَ ابْنِ كِلَابٍ فِي عَصْرِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ أَثْبَتَ أَنَّهُ يُوصَفُ بِالصِّفَاتِ الاختياريات وَيَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ وَلَكِنْ عِنْدَهُ يَمْتَنِعُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَزَلِ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فَلَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ السَّلَفِ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ بَلْ قَالَ : إنَّهُ صَارَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَمَا صَارَ يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ . وَقَالَ : هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ :
إنَّ الْحَوَادِثَ الَّتِي تَقُومُ بِهِ لَا يَخْلُو مِنْهَا وَلَا يَزُولُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ ثُمَّ زَالَتْ عَنْهُ كَانَ قَابِلًا لِحُدُوثِهَا وَزَوَالِهَا وَإِذَا كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَإِنَّمَا يُقْبَلُ عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَقَطْ كَمَا يُقْبَلُ أَنْ يَفْعَلَهَا وَيُحْدِثَهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا لَمْ تَخْلُ مِنْهُ كَمَا لَمْ يَلْزَمْ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لَهَا وَالْحُدُوثُ عِنْدَهُمْ غَيْرُ الْإِحْدَاثِ وَالْقُرْآنُ عِنْدَهُمْ حَادِثٌ لَا مُحْدَثٌ ؛ لِأَنَّ الْمُحْدَثَ يَفْتَقِرُ إلَى إحْدَاثٍ بِخِلَافِ الْحُدُوثِ . وَهُمْ إذَا قَالُوا : كَانَ خَالِيًا مِنْهَا فِي الْأَزَلِ وَكَانَ سَاكِنًا لَمْ يَقُولُوا إنَّهُ قَامَ بِهِ حَادِثٌ ؛ بَلْ يَقُولُونَ السُّكُونُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ كَمَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ ؛ وَلَكِنَّ الْحَرَكَةَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ ؛ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ : إنَّ السُّكُونَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ كَالْحَرَكَةِ فَإِذَا حَصَلَ بِهِ حَادِثٌ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَدَمُ هَذَا الْحَادِثِ فَإِنَّمَا يَعْدَمُ الْحَادِثُ بِإِحْدَاثِ يَقُومُ بِهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَمْتَنِعُ عَدَمُ الْجِسْمِ وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْبَارِيَ يَقُومُ بِهِ إحْدَاثُ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِفْنَاؤُهَا فَالْحَوَادِثُ الَّتِي تَقُومُ بِهِمْ تَقُومُ بِهِ لَوْ أَفْنَاهَا لَقَامَ بِهِ الْإِحْدَاثُ وَالْإِفْنَاءُ فَكَانَ قَابِلًا لِأَنْ يَحْدُثَ فِيهِ حَادِثٌ وَيَفْنَى ذَلِكَ الْحَادِثُ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ مِنْ إحْدَاثٍ وَإِفْنَاءٍ فَلَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْهَا فَهُوَ حَادِثٌ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ كَمَا قَالَتْ الْكُلَّابِيَة ؛ لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ :
السُّكُونُ ضِدُّ الْحَرَكَةِ فَالْقَابِلُ لِأَحَدِهِمَا لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ الْآخَرِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : السُّكُونُ لَيْسَ بِضِدِّ وُجُودِي ؛ بَلْ هُوَ عَدَمِيٌّ وَإِنَّمَا الْوُجُودِيُّ هُوَ الْإِحْدَاثُ وَالْإِفْنَاءُ فَلَوْ قَبِلَ قِيَامَ الْإِحْدَاثِ وَالْإِفْنَاءِ بِهِ لَكَانَ قَابِلًا لِقِيَامِ الْأَضْدَادِ الْوُجُودِيَّةِ وَالْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ . وَهَؤُلَاءِ لَمَّا أَرَادَ مُنَازِعُوهُمْ إبْطَالَ قَوْلِهِمْ كَانَ عُمْدَتُهُمْ بَيَانَ تَنَاقُضِ أَقْوَالِهِمْ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْمَعَالِي وَأَتْبَاعُهُ وَكَمَا ذَكَرَ الآمدي تَنَاقُضَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَغَايَتُهُمَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُنَاقَضَتِهِمْ لَا عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ الْمُنَازِعِ . وَثَمَّ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ تَقُولُ : إنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ وَتَزُولُ وَإِنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ وَذَلِكَ الصَّوْتُ عَدَمٌ وَهَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ وَأَظُنُّ الكَرَّامِيَة لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ وَإِلَّا فَالْقَوْلُ بِفَنَاءِ الصَّوْتِ الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مُوسَى مِنْ جِنْسِ الْقَوْلِ بِقِدَمِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ مِنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ وَمِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ يَقُولُ : إنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى وَذَلِكَ الصَّوْتُ قَدِيمٌ وَهَذَا الْقَوْلُ يُعْرَفُ فَسَادُهُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ كَلَّمَهُ بِصَوْتِ حَادِثٍ وَأَنَّ ذَلِكَ الصَّوْتَ بَاقٍ لَا يَزَالُ هُوَ وَسَائِرُ مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ هِيَ أَقْوَالٌ يُعْرَفُ فَسَادُهَا بِالْبَدِيهَةِ .
وَإِنَّمَا أَوْقَعَ هَذِهِ الطَّوَائِفَ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ ذَلِكَ الْأَصْلُ الَّذِي تَلَقَّوْهُ عَنْ الْجَهْمِيَّة وَهُوَ أَنَّ مَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَهُوَ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَهَذَا الْأَصْلُ فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَبِهِ اسْتَطَالَتْ عَلَيْهِمْ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ فَلَا لِلْإِسْلَامِ نَصَرُوا وَلَا لِعَدُوِّهِ كَسَرُوا . بَلْ قَدْ خَالَفُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ وَخَالَفُوا الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ عَدُوَّهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالدَّهْرِيَّةِ وَالْمَلَاحِدَةِ بِسَبَبِ غَلَطِهِمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي جَعَلُوهُ أَصْلَ دِينِهِمْ وَلَوْ اعْتَصَمُوا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ لَوَافَقُوا الْمَنْقُولَ وَالْمَعْقُولَ وَثَبَتَ لَهُمْ الْأَصْلُ ؛ وَلَكِنْ ضَيَّعُوا الْأُصُولَ فَحُرِمُوا الْوُصُولَ ؛ وَالْأُصُولُ اتِّبَاعُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَأَحْدَثُوا أُصُولًا ظَنُّوا أَنَّهَا أُصُولٌ ثَابِتَةٌ وَكَانَتْ كَمَا ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَيْنِ : مِثْلَ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرَةِ . فَقَالَ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } وَالْأُصُولُ مَأْخُوذَةٌ
مِنْ أُصُولِ الشَّجَرَةِ وَأَسَاسِ الْبِنَاءِ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ فِيهِ الْأَصْلُ مَا اُبْتُنِيَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ أَوْ مَا تَفَرَّعَ عَنْهُ غَيْرُهُ . فَالْأُصُولُ الثَّابِتَةُ هِيَ أُصُولُ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قِيلَ :
أَيُّهَا الْمُغْتَدِي لِتَطْلُبَ عِلْمًا * * * كُلُّ عِلْمِ عَبْدٍ لِعِلْمِ الرَّسُولِ
تَطْلُبُ الْفَرْعَ كَيْ تُصَحِّحَ حُكْمًا * * * ثُمَّ أَغْفَلْت أَصْلَ أَصْلِ الْأُصُولِ
وَاَللَّهُ يَهْدِينَا وَسَائِرُ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . وَهَذِهِ الْأُصُولُ يَنْبَنِي عَلَيْهَا مَا فِي الْقُلُوبِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَثَلَ الْكَلِمَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ . و ( الْكَلِمَةُ هِيَ قَضِيَّةٌ جَازِمَةٌ وَعَقِيدَةٌ جَامِعَةٌ وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوتِيَ فَوَاتِحَ الْكَلَامِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ ؛ فَبَعَثَ بِالْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَالْعُلُومِ الْأَوَّلِيَّةِ والآخرية عَلَى أَتَمِّ قَضِيَّةٍ فَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ - وَهِيَ الْعَقِيدَةُ الْإِيمَانِيَّةُ التَّوْحِيدِيَّةُ - كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ فَأَصْلُ أُصُولِ الْإِيمَانِ ثَابِتٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَثَبَاتِ أَصْلِ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَثَّلَ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ أَيْ : كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ بِشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ لَهَا أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَلَهَا فَرْعٌ عَالٍ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي قَلْبٍ ثَابِتٍ كَمَا قَالَ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ فَالْمُؤْمِنُ عِنْدَهُ يَقِينٌ وَطُمَأْنِينَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ ثَابِتٌ عَلَى الْإِيمَانِ مُسْتَقَرٌّ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ وَالْكَلِمَةُ الْخَبِيثَةُ { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ } اُسْتُؤْصِلَتْ وَاجْتُثَّتْ كَمَا يُقْطَعُ الشَّيْءُ يُجْتَثُّ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ { مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } لَا مَكَانَ تَسْتَقِرُّ فِيهِ وَلَا اسْتِقْرَارَ فِي الْمَكَانِ ؛ فَإِنَّ الْقَرَارَ يُرَادُ بِهِ مَكَانُ الِاسْتِقْرَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَبِئْسَ الْقَرَارُ } وَقَالَ : { جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا } . وَيُقَالُ : فُلَانٌ مَا لَهُ قَرَارٌ أَيْ ثَبَاتٌ وَقَدْ فُسِّرَ الْقَرَارُ فِي الْآيَةِ بِهَذَا وَهَذَا فَالْمُبْطِلُ لَيْسَ قَوْلُهُ ثَابِتًا فِي قَلْبِهِ وَلَا هُوَ ثَابِتٌ فِيهِ وَلَا يَسْتَقِرُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَثَلِ الْآخَرِ : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } فَإِنَّهُ وَإِنْ اعْتَقَدَهُ مُدَّةً فَإِنَّهُ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ يَخُونُهُ كَاَلَّذِي يُشْرِكُ بِاَللَّهِ فَعِنْدَ الْحَقِيقَةِ يَضِلُّ عَنْهُ مَا كَانَ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الْبَاطِلَةُ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ تَخُونُهُ وَلَا تَنْفَعُهُ بَلْ هِيَ كَالشَّجَرَةِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا
مِنْ قَرَارٍ فَمَنْ كَانَ مَعَهُ كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ أَصْلُهَا ثَابِتٌ كَانَ لَهُ فَرْعٌ فِي السَّمَاءِ يُوَصِّلُهُ إلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فَإِنَّهُ يُحْرَمُ الْوُصُولَ ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْأُصُولَ ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ أَهْلَ الْبِدَعِ وَالشُّبُهَاتِ لَا يَصِلُونَ إلَى غَايَةٍ مَحْمُودَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إلَّا فِي ضَلَالٍ } .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ ؛ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْبُودَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَإِنَّمَا يُعْبَدُ بِمَا أَمَرَ بِهِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ . وَأَصْلُ عِبَادَتِهِ مَعْرِفَتُهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَمَا وَصَفَهُ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَاَلَّذِينَ يُنْكِرُونَ بَعْضَ ذَلِكَ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَمَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ وَلَا وَصَفُوهُ حَقَّ صِفَتِهِ وَلَا عَبَدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } فِي ثَلَاثِ مَوَاضِعَ ؛ لِيُثْبِتَ عَظَمَتَهُ فِي نَفْسِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَلِيُثْبِتَ وَحْدَانِيَّتَهُ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إلَّا هُوَ وَلِيُثْبِتَ مَا أَنْزَلَهُ عَلَى
رُسُلِهِ فَقَالَ فِي الزُّمَرِ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } الْآيَةَ . وَقَالَ فِي الْحَجِّ : { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } . وَفِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ذَمَّ الَّذِينَ مَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقْدُرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَهُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَأَنْ يُجَاهِدَ فِيهِ حَقَّ جِهَادِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } وَقَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } وَالْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافٌ إلَى الْمَفْعُولِ وَالْفَاعِلُ مُرَادٌ أَيْ حَقَّ جِهَادِهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ وَحَقَّ تُقَاتِهِ الَّتِي أَمَرَكُمْ بِهَا وَاقْدُرُوهُ قَدْرَهُ الَّذِي بَيَّنَهُ لَكُمْ وَأَمَرَكُمْ بِهِ فَصَدِّقُوا الرَّسُولَ فِيمَا أَخْبَرَ وَأَطِيعُوهُ فِيمَا أَوْجَبَ وَأَمَرَ . وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ عَنْ طَاقَةِ الْبَشَرِ فَذَلِكَ لَا يُذَمُّ أَحَدٌ عَلَى تَرْكِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ . وَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لَهُ قَدْرًا عَظِيمًا ؛ لَا سِيَّمَا قَوْلُهُ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : مَنْ آمَنَ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَقَدْ قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ أَنَّ اللَّهَ يَحْمِلُ السَّمَوَاتِ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْأَرْضِينَ عَلَى أُصْبُعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى أُصْبُعٍ وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى أُصْبُعٍ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى أُصْبُعٍ ؛ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَجُّبًا وَتَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { قَالَ : مَرَّ يَهُودِيٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا تَقُولُ إذَا وَضَعَ اللَّهُ السَّمَاءَ عَلَى ذِهِ ؟ وَالْأَرْضَ عَلَى ذِهِ وَالْجِبَالَ وَالْمَاءَ عَلَى ذِهِ وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى ذِهِ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالتِّرْمِذِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي الضُّحَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ غَرِيبٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَظَمَتَهُ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفَ ذَلِكَ الْحَبْرُ فَإِنَّ الَّذِي فِي الْآيَةِ أَبْلَغُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ } ؟ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يَطْوِي اللَّهُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى . ثُمَّ يَقُولُ : أَيْنَ الْمُلُوكُ ؟ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ ؟
أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ } ؟ " وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِيَدِهِ الْأُخْرَى . وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : تَكَلَّمَتْ الْيَهُودُ فِي صِفَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَقَالُوا مَا لَمْ يَعْلَمُوا وَلَمْ يَرَوْا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَجَعَلَ صِفَتَهُ الَّتِي وَصَفُوهُ بِهَا شِرْكًا . وَقَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثَنَا الْحَكَمُ يَعْنِي أَبَا مُعَاذٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : عَمَدَتْ الْيَهُودُ فَنَظَرُوا فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا فَرَغُوا أَخَذُوا يُقَدِّرُونَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ مِمَّا وَصَفُوهُ وَأَنَّهُمْ لَمْ يُقَدِّرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ . وَقَوْلُهُ : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ مَخْلُوقًا مِثْلًا لِلْخَالِقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَأَحَبَّهُ مِثْلَ مَا يُحِبُّ الْخَالِقَ أَوْ وَصَفَهُ بِمِثْلِ مَا يُوصَفُ بِهِ الْخَالِقُ فَهُوَ مُشْرِكٌ سَوَّى بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَعَدَلَ بِرَبِّهِ . وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا كُفُؤَ لَهُ وَلَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا مِثْلَ لَهُ وَمَنْ
جَعَلَهُ مِثْلَ الْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ فَهُوَ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُ مُعَطِّلٌ مُمَثِّلٌ وَالْمُعَطِّلُ شَرٌّ مِنْ الْمُشْرِكِ . وَاَللَّهُ ثَنَّى قِصَّةَ فِرْعَوْنَ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ؛ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا فَإِنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْمُلْكِ وَدَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْعُلُوِّ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهُ لِأَحَدِ مِنْ الْمُعَطِّلِينَ وَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ إلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَيْسَ لِلَّهِ صِفَةٌ يُمَاثِلُهُ فِيهَا غَيْرُهُ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي حَقِّهِ قِيَاسُ التَّمْثِيلِ وَلَا قِيَاسُ الشُّمُولِ الَّذِي تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ ؛ إذْ سُوِّيَ فِيهِ بِالْمَخْلُوقِ ؛ بَلْ قِيَاسُ الْأَوْلَى . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَأَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ بِالتَّنْزِيهِ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ . وَقَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ بِالسَّلْبِ أَوْ ذَاتًا مُجَرَّدَةً فَهَؤُلَاءِ مَثَّلُوهُ بِأَنْقَصِ الْمَعْقُولَاتِ الذِّهْنِيَّةِ وَجَعَلُوهُ دُونَ الْمَوْجُودَاتِ الْخَارِجِيَّةِ . والْنُّفَاةِ الَّذِينَ قَصَدُوا إثْبَاتَ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْجِسْمِ لَمْ يُثْبِتُوا بِذَلِكَ حُدُوثَ شَيْءٍ كَمَا قَدْ بُيِّنَ فِي مَوْضِعِهِ .
ثُمَّ إنَّهُمْ جَعَلُوا عُمْدَتَهُمْ فِي تَنْزِيهِ الرَّبِّ عَنْ النَّقَائِصِ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِ وَمَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ لَمْ يُنَزِّهْ اللَّهَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ النَّقَائِصِ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّهُ
مَا مِنْ صِفَةٍ يَنْفِيهَا لِأَنَّهَا تَسْتَلْزِمُ التَّجْسِيمَ وَتَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ إلَّا يُقَالُ لَهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ نَظِيرُ مَا يَقُولُهُ هُوَ فِي نَفْسِ تِلْكَ الصِّفَةِ . فَإِنْ كَانَ مُثْبِتًا لِبَعْضِ الصِّفَاتِ قِيلَ لَهُ : الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي تَنْفِيهَا كَالْقَوْلِ فِيمَا أَثْبَتّه فَإِنْ كَانَ هَذَا تَجْسِيمًا وَقَوْلًا بَاطِلًا فَهَذَا كَذَلِكَ وَإِنْ قُلْت : أَنَا أُثْبِتُ هَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيقُ بِالرَّبِّ قِيلَ لَهُ : وَكَذَلِكَ هَذَا . وَإِنْ قُلْت : أَنَا أُثْبِتُهُ وَأَنْفِي التَّجْسِيمَ . قِيلَ : وَهَذَا كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَك أَنْ تُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُثْبِتُ الْأَسْمَاءَ وَيَنْفِي الصِّفَاتِ كَالْمُعْتَزِلَةِ قِيلَ لَهُ فِي الصِّفَاتِ مَا يَقُولُهُ هُوَ فِي الْأَسْمَاءِ فَإِذَا كَانَ يُثْبِتُ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ إلَّا جِسْمًا كَانَ إثْبَاتُ أَنَّ لَهُ عِلْمًا وَقُدْرَةً كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَذَلِكَ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُثْبِتُ لَا الْأَسْمَاءَ وَلَا الصِّفَاتِ كالْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ قِيلَ لَهُ : فَلَا بُدَّ أَنْ تُثْبِتَ مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا جِسْمًا وَإِنْ قَالَ : لَا أُسَمِّيهِ بِاسْمِ لَا إثْبَاتَ وَلَا نَفْيَ . قِيلَ لَهُ : سُكُوتُك لَا يَنْفِي الْحَقَائِقَ وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا ثَابِتًا مَوْجُودًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا مَعْدُومًا .
وَأَيْضًا فَإِنْ كُنْت لَمْ تَعْرِفْهُ فَأَنْتَ جَاهِلٌ فَلَا تَتَكَلَّمْ وَإِنْ عَرَفْته فَلَا بُدَّ أَنْ تُمَيِّزَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ : رَبُّ الْعَالَمِينَ أَوْ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ أَوْ الْمَوْجُودُ بِنَفْسِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ أَثْبَتّ حَيًّا مَوْجُودًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَأَثْبَتّه فَاعِلًا وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُ مَا هُوَ كَذَلِكَ إلَّا الْجِسْمَ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ جَاحِدٌ لَهُ قِيلَ لَهُ : فَهَذَا الْوُجُودُ مَشْهُودٌ فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ فَقَدْ يُثْبِتُ جِسْمَ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ مَوْجُودٍ بِنَفْسِهِ وَهُوَ مَا فَرَرْت مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَخْلُوقًا مَصْنُوعًا فَلَهُ خَالِقٌ خَلَقَهُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا أَزَلِيًّا ؛ فَقَدْ ثَبَتَ الْمَوْجُودُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهُنَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ كُلُّ مَنْ بَنَى تَنْزِيهَهُ لِلرَّبِّ عَنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُنَزِّهَهُ عَنْ عَيْبٍ أَصْلًا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ عُمْدَتَهُ نَفْيَ التَّرْكِيبِ . وَمَنْ تَدَبَّرَ مَا ذَكَرُوهُ فِي كُتُبِهِمْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا حُجَّةً عَلَى وُجُودِهِ فَلَا هُمْ أَثْبَتُوهُ وَأَثْبَتُوا لَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ وَلَا نَزَّهُوهُ وَنَفَوْا عَنْهُ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ؛ إذْ كَانَ إثْبَاتُهُ هُوَ إثْبَاتَ حُدُوثِ الْجِسْمِ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا وَالنَّفْيُ اعْتَمَدُوا فِيهِ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِيهِ لَوْ
كَانُوا أَقَامُوا دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ كَوْنِهِ جِسْمًا فَكَيْفَ إذَا لَمْ يُقِيمُوا عَلَى ذَلِكَ دَلِيلًا وَتَنَاقَضُوا . وَهَذَا مِمَّا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَيْسَ مَعَهُ عِلْمٌ لَا عَقْلِيٌّ وَلَا سَمْعِيٌّ ؛ لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ الْأَعْظَمِ لَكِنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ مُعْتَقِدِينَ لِعَقَائِدَ صَحِيحَةٍ عَرَفُوهَا بِالْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَبِمَا سَمِعُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَدِينِ الْمُسْلِمِينَ فَقُلُوبُهُمْ تُثْبِتُ مَا تُثْبِتُ وَتَنْفِي مَا تَنْفِي بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ الْمُكَمَّلَةِ بِالشِّرْعَةِ الْمُنَزَّلَةِ ؛ لَكِنَّهُمْ سَلَكُوا هَذِهِ الطُّرُقَ الْبِدْعِيَّةَ وَلَيْسَ فِيهَا عِلْمٌ أَصْلًا ؛ وَلَكِنْ يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِهِمْ إبْطَالُ بَعْضِهِمْ لِقَوْلِ الْمُبْطِلِ الْآخَرِ وَبَيَانُ تَنَاقُضِهِ . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرُوا الْمَقَالَاتِ الْبَاطِلَةَ فِي الرَّبِّ جَعَلُوا يَرُدُّونَهَا بِأَنَّ ذَلِكَ تَجْسِيمٌ كَمَا فَعَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي هِدَايَةِ الْمُسْتَرْشِدِينَ وَغَيْرُهُ فَلَمْ يُقِيمُوا حُجَّةً عَلَى أُولَئِكَ الْمُبْطِلِينَ وَرَدُّوا كَثِيرًا مِمَّا يَقُولُ الْيَهُودُ بِأَنَّهُ تَجْسِيمٌ وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانُوا أَحْيَانًا يَذْكُرُونَ لَهُ بَعْضَ الصِّفَاتِ كَحَدِيثِ الْحَبْرِ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْيَهُودَ عَلَى أَشْيَاءَ كَقَوْلِهِمْ : ( إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَإِنَّ يَدَهُ مَغْلُولَةٌ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ إنَّهُمْ يُجَسِّمُونَ وَلَا أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ تَجْسِيمًا وَلَا عَابَهُمْ بِذَلِكَ وَلَا رَدَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْبَاطِلَةَ بِأَنَّ هَذَا تَجْسِيمٌ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الْنُّفَاةِ .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَأَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلِمَا فَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ وَأَنَّ أَهْلَهَا مِنْ جِنْسِ الَّذِينَ قَالُوا { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَسَادَ مَا ذَكَرَهُ الرَّازِي مِنْ أَنَّ طَرِيقَةَ الْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ مِنْ أَعْظَمِ الطُّرُقِ وَبَيَّنَّا فَسَادَهَا وَأَنَّهَا لَا تُفِيدُ عِلْمًا وَأَنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَأَنَّ طَرِيقَةَ الْكَمَالِ أَشْرَفُ مِنْهَا وَعَلَيْهَا اعْتِمَادُ الْعُقَلَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَهُوَ قَدْ اعْتَرَفَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ بِأَنَّهُ قَدْ تَأَمَّلَ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا وَجَدَهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَوَجَدَ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ . وَطَرِيقَةُ الْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ لَمْ يَسْلُكْهَا أَحَدٌ قَبْلَ ابْنِ سِينَا وَهُوَ أَخَذَهَا مِنْ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ قَسَّمُوا الْوُجُودَ إلَى مُحْدَثٍ وَقَدِيمٍ فَقَسَّمَهُ هُوَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ ؛ لِيُمْكِنَهُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْفَلَكَ مُمْكِنٌ مَعَ قِدَمِهِ وَخَالَفَ بِذَلِكَ عَامَّةَ الْعُقَلَاءِ مِنْ سَلَفِهِ وَغَيْرِ سَلَفِهِ وَخَالَفَ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمَنْطِقِ مَا ذَكَرَهُ سَلَفُهُ مِنْ أَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَلَكُوا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ انْتَهَتْ بِهِمْ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ ؛ فَإِنَّ
فِرْعَوْنَ جَحَدَ الْخَالِقَ وَكَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ وَهَؤُلَاءِ يَنْتَهِي قَوْلُهُمْ إلَى جَحْدِ الْخَالِقِ وَإِنْ أَثْبَتُوهُ قَالُوا إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا نَادَى أَحَدًا وَلَا نَاجَاهُ . وَعُمْدَتُهُمْ فِي نَفْيِ ذَاتِهِ عَلَى نَفْيِ الْجِسْمِ . وَفِي نَفْيِ كَلَامِهِ وَتَكْلِيمِهِ لِمُوسَى عَلَى أَنَّهُ لَا تَحُلُّهُ الْحَوَادِثُ فَلَا يَبْقَى عِنْدَهُمْ رَبٌّ وَلَا مُرْسَلٌ ؛ فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ يُنَاقِضُ شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْمُبَلِّغُ لِرِسَالَةِ مُرْسِلِهِ وَالرِّسَالَةُ هِيَ كَلَامُهُ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا لَمْ تَكُنْ رِسَالَةٌ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا يَقُومُ بِذَاتِهِ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ والْنُّفَاةِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْكَلَامُ صِفَةُ فِعْلٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ صِفَةُ ذَاتٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ كَالْحَيَاةِ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَهُوَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مُصِيبَةٌ فِي إبْطَالِ بَاطِلِ الْأُخْرَى . وَالدَّلِيلُ يَقُومُ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ وَفِعْلٍ تَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ وَالرَّبُّ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَأَدِلَّةُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ صِفَةُ فِعْلٍ كُلُّهَا إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَهَذَا حَقٌّ وَأَدِلَّةُ مَنْ قَالَ إنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلَامَهُ يَقُومُ بِذَاتِهِ وَهَذَا حَقٌّ وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ أَحَدَهُمَا
كَمَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ أَوْ قَالَ إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ وَلَا أَثْبَتُوا لَهُ كَلَامًا ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : مَا لَا يَعْقِلُ . هَذَا يَقُولُ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَامَ بِالذَّاتِ وَهَذَا يَقُولُ : حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ وَهَذَا يَقُولُ : مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ . وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَ لِطَائِفَةٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ مَا فِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْفَسَادِ وَلَمْ يَعْرِفُوا عَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ حَارُوا وَتَوَقَّفُوا وَقَالُوا : نَحْنُ نُقِرُّ بِمَا عَلَيْهِ عُمُومُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ مَخْلُوقًا أَوْ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ أَوْ مَعْنًى قَائِمٍ بِالذَّاتِ فَلَا نَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهُدَى فِي هَذِهِ الْأُصُولِ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ فِيهَا هُوَ مَعْرِفَةُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ أَنْفَعُ وَأَعْظَمُ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّا يَتَكَلَّمُونَ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ لَا سِيَّمَا وَالْقُلُوبُ تَطْلُبُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فِي هَذِهِ بِالْفِطْرَةِ وَلِمَا قَدْ رَأَوْا مِنْ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهَا . وَهَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ هَذَا الْوَقْفَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَفِيمَا صَنَّفُوهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ كَمَا قَدْ رَأَيْت مِنْهُمْ مِنْ أَكَابِرِ شُيُوخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِمِصْرِ وَالشَّامِ قَدْ صَنَّفُوا فِي أُصُولِ الدِّينِ مَا صَنَّفُوهُ وَلَمَّا تَكَلَّمُوا فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " وَهَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ ؟ أَوْ قَدِيمٌ ؟ أَوْ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ ؟ أَوْ مَعْنًى قَائِمٌ بِالذَّاتِ ؟ نَهَوْا عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَالُوا : الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ مَا قَالَهُ
الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ : أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَيُمْسِكُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ . وَهَؤُلَاءِ تَوَقَّفُوا عَنْ حَيْرَةٍ وَشَكٍّ وَلَهُمْ رَغْبَةٌ فِي الْعِلْمِ وَالْهُدَى وَالدِّينِ وَهُمْ مِنْ أَحْرَصِ النَّاسِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمُوا إلَّا هذه الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ : قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة والسالمية وَكُلُّ طَائِفَةٍ تُبَيَّنُ فَسَادَ قَوْلِ الْأُخْرَى وَفِي كُلِّ قَوْلٍ مِنْ الْفَسَادِ مَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ مِنْ قَبُولِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ هَذِهِ فَرَضُوا بِالْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَكَانَ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ وَكَانَ أَسْبَابُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا هَؤُلَاءِ عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِمْ وَدِينِهِمْ وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ بِطَرِيقَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ كَمَا سَلَكَهَا مَنْ ذَكَرْته مِنْ أَجِلَّاءِ شُيُوخِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى إمْكَانِهَا بِكَوْنِهَا مُرَكَّبَةً كَمَا سَلَكَ الشَّيْخُ الْآخَرُ وَهَذَا يَنْفِي عَنْ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَذَلِكَ نَفْيٌ عَنْهُ أَنَّهُ جِسْمٌ بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ وَحُذَّاقُ النُّظَّارِ الَّذِينَ كَانُوا أَخْبَرَ بِهَذِهِ الطُّرُقِ وَأَعْظَمَ نَظَرًا وَاسْتِدْلَالًا بِهَا وَبِغَيْرِهَا قَدْ عَرَفُوا فَسَادَهَا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ { أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } وَأَخْبَرَ " أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " والله سُبْحَانَهُ يَجْزِي الْإِنْسَانَ بِجِنْسِ عَمَلِهِ فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ؛ فَمَنْ خَالَفَ الرُّسُلَ عُوقِبَ بِمِثْلِ ذَنْبِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَدَحَ فِيهِمْ
وَنَسَبَ مَا يَقُولُونَهُ إلَى أَنَّهُ جَهْلٌ وَخُرُوجٌ عَنْ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ اُبْتُلِيَ فِي عَقْلِهِ وَعِلْمِهِ وَظَهَرَ مِنْ جَهْلِهِ مَا عُوقِبَ بِهِ . وَمَنْ قَالَ عَنْهُمْ إنَّهُمْ تَعَمَّدُوا الْكَذِبَ أَظْهَرَ اللَّهُ كَذِبَهُ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُمْ جُهَّالٌ أَظْهَرَ اللَّهُ جَهْلَهُ فَفِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَقَارُونُ لَمَّا قَالُوا عَنْ مُوسَى إنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ } { إلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } وَطَلَبَ فِرْعَوْنُ إهْلَاكَهُ بِالْقَتْلِ وَصَارَ يَصِفُهُ بِالْعُيُوبِ كَقَوْلِهِ : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } . وَقَالَ : { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ } أَهْلَكَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ وَأَظْهَرَ كَذِبَهُ وَافْتِرَاءَهُ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رُسُلِهِ وَأَذَلَّهُ غَايَةَ الْإِذْلَالِ وَأَعْجَزَهُ عَنْ الْكَلَامِ النَّافِعِ ؛ فَلَمْ يُبَيِّنْ حُجَّةً وَفِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو جَهْلٍ كَانَ يُسَمَّى أَبَا الْحَكَمِ وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ أَبَا جَهْلٍ وَهُوَ كَمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو جَهْلٍ أَهْلَكَ بِهِ نَفْسَهُ وَأَتْبَاعَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا عَنْ الرَّسُولِ إنَّهُ أَبْتَرُ وَقَصَدُوا أَنَّهُ يَمُوتُ فَيَنْقَطِعُ ذِكْرُهُ عُوقِبُوا بِانْبِتَارِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } فَلَا يُوجَدُ مَنْ شَنَأَ الرَّسُولَ إلَّا بَتَرَهُ اللَّهُ حَتَّى أَهْلُ الْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ لِسُنَّتِهِ . قِيلَ لِأَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ إنَّ بِالْمَسْجِدِ قَوْمًا يَجْلِسُونَ لِلنَّاسِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالْبِدْعَةِ
فَقَالَ : مَنْ جَلَسَ لِلنَّاسِ جَلَسَ النَّاسُ إلَيْهِ لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَبْقَوْنَ وَيَبْقَى ذِكْرُهُمْ وَأَهْلَ الْبِدْعَةِ يَمُوتُونَ وَيَمُوتُ ذِكْرُهُمْ .
وَهَؤُلَاءِ الْمُشْبِهُونَ لِفِرْعَوْنَ الْجَهْمِيَّة نفاة الصِّفَاتِ الَّذِينَ وَافَقُوا فِرْعَوْنَ فِي جَحْدِهِ وَقَالُوا إنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } . وَكَانَ فِرْعَوْنُ جَاحِدًا لِلرَّبِّ فَلَوْلَا أَنَّ مُوسَى أَخْبَرَهُ أَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ الْعَالَمِ لَمَا قَالَ : { فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إلَّا فِي تَبَابٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ } { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ } { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } . وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَفَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسَ ذَكَرَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى مُوسَى وَأَنَّ مُوسَى قَالَ لَهُ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ إلَى أُمَّتِك كَمَا تَوَاتَرَ هَذَا فِي أَحَادِيثِ الْمِعْرَاجِ فَمُوسَى صَدَّقَ مُحَمَّدًا فِي أَنَّ رَبَّهُ فَوْقُ وَفِرْعَوْنُ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ رَبَّهُ فَوْقُ فَالْمُقِرُّونَ بِذَلِكَ مُتَّبِعُونَ لِمُوسَى وَمُحَمَّدٍ وَالْمُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ مُوَافِقُونَ لِفِرْعَوْنَ . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ النُّظَّارِ وَهِيَ مِمَّا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةُ " وَذَكَرَ عِدَّةَ أَدِلَّةٍ عَقْلِيَّةٍ وَسَمْعِيَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّه فَوْقَ الْعَالَمِ وَقَالَ فِي أَوَّلِهِ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ . قِيلَ لَهُ : قَوْلُنَا الَّذِي نَقُولُ بِهِ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ بِهَا : التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا وَمَا جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبِمَا كَانَ يَقُولُ بِهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ فَإِنَّهُ الْإِمَامُ الْكَامِلُ وَالرَّئِيسُ الْفَاضِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ وَأَوْضَحَ بِهِ الْمَنَاهِجَ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ ؛ فَرَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ
وَكَبِيرٍ مُفَهِّمٍ وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَذَكَرَ جُمْلَةَ الِاعْتِقَادِ وَالْكَلَامَ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَلَى الرُّؤْيَةِ وَمَسْأَلَةَ الْقُرْآنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ الْمُعَطِّلَةَ نفاة الصِّفَاتِ أَوْ نفاة بَعْضِهَا لَا يَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ؛ إذْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ الْإِثْبَاتَ لَا النَّفْيَ ؛ لَكِنْ يَعْتَمِدُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا يَظُنُّونَهُ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً وَيُعَارِضُونَ بِذَلِكَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ مَا يُرْجَعُ إلَيْهِ لَا مِنْ سَمْعٍ وَلَا عَقْلٍ فَلَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ خَبَرًا بَيَّنَ بِهِ الْحَقَّ عَلَى زَعْمِهِمْ وَلَا ذَكَرَ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً تُبَيِّنُ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِمْ بِخِلَافِ غَيْرِ هَذَا فَإِنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الرَّسُولَ ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً عَلَى ثُبُوتِ الرَّبِّ وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ . وَقَدْ يَقُولُونَ أَيْضًا : إنَّهُ أَخْبَرَ بِالْمَعَادِ ؛ لَكِنْ نَفَوْا الصِّفَاتِ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ النَّفْيِ لَمْ يَذْكُرْهُ الرَّسُولُ فَلَمْ يُخْبِرْ بِهِ وَلَا ذَكَرَ دَلِيلًا عَقْلِيًّا عَلَيْهِ ؛ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ الْإِثْبَاتَ وَلَيْسَ هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقًّا فَأَحْوَجَ النَّاسَ إلَى التَّأْوِيلِ أَوْ التَّفْوِيضِ فَلَمَّا نَسَبُوا مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ لَا دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ ، لَا خَبَرَ يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَلَا
دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَيْهِ عَاقَبَهُمْ اللَّهُ بِجِنْسِ ذُنُوبِهِمْ فَكَانَ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذَا الْبَابِ خَارِجًا عَنْ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ الْبُرْهَانِيَّةِ فَإِذَا اخْتَبَرَهُ الْعَارِفُ وَجَدَهُ مِنْ الشُّبُهَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ مِنْ جِنْسِ شُبُهَاتِ أَهْلِ السَّفْسَطَةِ وَالْإِلْحَادِ الَّذِينَ يَقْدَحُونَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَالسَّمْعِيَّاتِ . وَأَمَّا السَّمْعُ فَخِلَافُهُمْ لَهُ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَإِنَّمَا يَظُنُّ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ وَيَتْبَعُهُمْ أَنَّهُمْ أَحْكَمُوا الْعَقْلِيَّاتِ فَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرَ وَجَدَهُمْ كَمَا قَالَ أَهْلُ النَّارِ : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } فَلَمَّا كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ فِي هَذَا الْبَابِ دَلِيلٌ سَمْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ سَلَبَهُمْ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَعْرِفَةَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ حَتَّى كَانُوا مِنْ أَضَلِّ الْبَرِيَّةِ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ قَدْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْ النَّبِيِّينَ وَهَذَا مِيرَاثٌ مِنْ فِرْعَوْنَ وَحِزْبِهِ اللَّعِينِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ أَظْهَرَ فِي الْإِسْلَامِ التَّعْطِيلَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُ فِرْعَوْنَ هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمً فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ إنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ ، إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا . ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَشَكَرَ لَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مَا فَعَلَهُ كَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ . وَهَذَا الْجَعْدُ إلَيْهِ يُنْسَبُ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجَعْدِيُّ آخِرُ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ وَكَانَ شُؤْمُهُ عَادَ عَلَيْهِ حَتَّى زَالَتْ الدَّوْلَةُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ الْبِدَعُ الَّتِي تُخَالِفُ دِينَ الرُّسُلِ انْتَقَمَ اللَّهُ مِمَّنْ خَالَفَ الرُّسُلَ وَانْتَصَرَ لَهُمْ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ الْمَلَاحِدَةُ الْبَاطِنِيَّةُ وَمَلَكُوا الشَّامَ وَغَيْرَهَا ظَهَرَ فِيهَا النِّفَاقُ وَالزَّنْدَقَةُ الَّذِي هُوَ بَاطِنُ أَمْرِهِمْ وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ " إنْكَارُ الصَّانِعِ وَإِنْكَارُ عِبَادَتِهِ " وَخِيَارُ مَا كَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِهِ الرَّفْضُ فَكَانَ خِيَارُهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ الرَّافِضَةُ وَظَهَرَ بِسَبَبِهِمْ الرَّفْضُ وَالْإِلْحَادُ حَتَّى كَانَ مَنْ كَانَ يَنْزِلُ الشَّامَ مِثْلُ بَنِي حَمْدَانَ الْغَالِيَةِ وَنَحْوِهِمْ مُتَشَيِّعِينَ ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مِنْ بَنِي بويه فِي الْمَشْرِقِ . وَكَانَ ابْنُ سِينَا وَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ أَهْلِ دَعْوَتِهِمْ قَالَ : وَبِسَبَبِ ذَلِكَ اشْتَغَلْت فِي الْفَلْسَفَةِ وَكَانَ مَبْدَأُ ظُهُورِهِمْ مِنْ حِينِ تَوَلَّى الْمُقْتَدِرُ وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَ بَعْدُ وَهُوَ مَبْدَأُ انْحِلَالِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ حِينَئِذٍ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْأُمَوِيُّ الَّذِي كَانَ بِالْأَنْدَلُسِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى
بِهَذَا الِاسْمِ وَيَقُولُ : لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ خَلِيفَتَانِ فَلَمَّا وَلِيَ الْمُقْتَدِرُ قَالَ هَذَا صَبِيٌّ لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ فَسُمِّيَ بِهَذَا الِاسْمِ . وَكَانَ بَنُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْقَدَّاحِ الْمَلَاحِدَةُ يُسَمَّوْنَ بِهَذَا الِاسْمِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا فِي الْبَاطِنِ مَلَاحِدَةً زَنَادِقَةً مُنَافِقِينَ وَكَانَ نَسَبُهُمْ بَاطِلًا كَدِينِهِمْ ؛ بِخِلَافِ الْأُمَوِيِّ وَالْعَبَّاسِيِّ فَإِنَّ كِلَاهُمَا نَسَبُهُ صَحِيحٌ وَهُمْ مُسْلِمُونَ كَأَمْثَالِهِمْ مِنْ خُلَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ . فَلَمَّا ظَهَرَ النِّفَاقُ وَالْبِدَعُ وَالْفُجُورُ الْمُخَالِفُ لِدِينِ الرَّسُولِ سُلِّطَتْ عَلَيْهِمْ الْأَعْدَاءُ فَخَرَجَتْ الرُّومُ النَّصَارَى إلَى الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَأَخَذُوا الثُّغُورَ الشَّامِيَّةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ إلَى أَنْ أَخَذُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَبَعْدَ هَذَا بِمُدَّةِ حَاصَرُوا دِمَشْقَ وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ بِأَسْوَأِ حَالٍ بَيْنَ الْكُفَّارِ النَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ الْمَلَاحِدَةِ ؛ إلَى أَنْ تَوَلَّى نُورُ الدِّينِ الشَّهِيدُ وَقَامَ بِمَا قَامَ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَإِظْهَارِهِ وَالْجِهَادِ لِأَعْدَائِهِ ثُمَّ اسْتَنْجَدَ بِهِ مُلُوكُ مِصْرَ بَنُو عُبَيْدٍ عَلَى النَّصَارَى فَأَنْجَدَهُمْ [ وَجَرَتْ فُصُولٌ كَثِيرَةٌ إلَى أَنْ أُخِذَتْ مِصْرُ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ أَخَذَهَا صَلَاحُ الدِّينِ يُوسُفُ بْنُ سَادِيّ (1) وَخَطَبَ بِهَا لِبَنِي الْعَبَّاسِ ؛ فَمِنْ حِينَئِذٍ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ بِمِصْرِ بَعْدَ أَنْ مَكَثَتْ بِأَيْدِي الْمُنَافِقِينَ الْمُرْتَدِّينَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ مِائَةَ سَنَةٍ ] (*) .
فَكَانَ الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَالْجِهَادُ عَنْ دِينِهِ سَبَبًا لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبِالْعَكْسِ الْبِدَعُ وَالْإِلْحَادُ وَمُخَالَفَةُ مَا جَاءَ بِهِ سَبَبٌ لِشَرِّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَلَمَّا ظَهَرَ فِي الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْجَزِيرَةِ الْإِلْحَادُ وَالْبِدَعُ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ وَلَمَّا أَقَامُوا مَا أَقَامُوهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَقَهْرِ الْمُلْحِدِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ نَصَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } . وَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَشْرِقِ قَائِمِينَ بِالْإِسْلَامِ كَانُوا مَنْصُورِينَ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ وَغَيْرِهِمْ فَلَمَّا ظَهَرَ مِنْهُمْ مَا ظَهَرَ مِنْ الْبِدَعِ وَالْإِلْحَادِ وَالْفُجُورِ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ قَالَ تَعَالَى : { وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا } { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا } { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا } { إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ
لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا } { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا } . وَكَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ يَقُولُ : هُولَاكُو - مَلِكُ التُّرْكِ التَّتَارِ الَّذِي قَهَرَ الْخَلِيفَةَ بِالْعِرَاقِ وَقَتَلَ بِبَغْدَادَ مَقْتَلَةً عَظِيمَةً جِدًّا يُقَالُ : قَتَلَ مِنْهُمْ أَلْفَ أَلْفٍ وَكَذَلِكَ قَتَلَ بِحَلَبِ دَارِ الْمُلْكِ حِينَئِذٍ كَانَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يَقُولُ هُوَ - لِلْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ بُخْتَ نَصَّرَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ . وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ هَؤُلَاءِ دِيَارَ الْمُسْلِمِينَ ظُهُورُ الْإِلْحَادِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ حَتَّى أَنَّهُ صَنَّفَ الرَّازِي كِتَابًا فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَعَمَلِ السِّحْرِ سَمَّاهُ " السِّرُّ الْمَكْتُومُ فِي السِّحْرِ وَمُخَاطَبَةِ النُّجُومِ " وَيُقَالُ : إنَّهُ صَنَّفَهُ لِأُمِّ السُّلْطَانِ عَلَاءِ الدِّينِ مُحَمَّدِ بْنِ لَكْشِ بْنِ جَلَالِ الدِّينِ خَوَارِزْم شاه وَكَانَ مِنْ أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَكَانَ للرازي بِهِ اتِّصَالٌ قَوِيٌّ حَتَّى أَنَّهُ وَصَّى إلَيْهِ عَلَى أَوْلَادِهِ وَصَنَّفَ لَهُ كِتَابًا سَمَّاهُ " الرِّسَالَة الْعَلَائِيَّة فِي الِاخْتِيَارَاتِ السَّمَاوِيَّةِ " . وَهَذِهِ الِاخْتِيَارَاتُ لِأَهْلِ الضَّلَالِ بَدَلُ الِاسْتِخَارَةِ الَّتِي عَلَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ جَابِرٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا
الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ : إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ } وَأَهْلُ النُّجُومِ لَهُمْ اخْتِيَارَاتٌ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا أَخَذَ طَالِعًا سَعِيدًا فَعَمِلَ فِيهِ ذَلِكَ الْعَمَلَ لِيَنْجَحَ بِزَعْمِهِمْ وَقَدْ صَنَّفَ النَّاسُ كُتُبًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَذَكَرُوا كَثْرَةَ مَا يَقَعُ مِنْ خِلَافِ مَقْصُودِهِمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ وَيَأْمُرُونَ بِهِ وَكَمْ يُخْبِرُونَ مِنْ خَبَرٍ فَيَكُونُ كَذِبًا وَكَمْ يَأْمُرُونَ بِاخْتِيَارِ فَيَكُونُ شَرًّا وَالرَّازِي صَنَّفَ الِاخْتِيَارَاتِ لِهَذَا الْمَلِكِ وَذَكَرَ فِيهِ الِاخْتِيَارَ لِشُرْبِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ فِي " السِّرّ الْمَكْتُوم " فِي عِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَدَعْوَتِهَا مَعَ السُّجُودِ لَهَا وَالشِّرْكِ بِهَا وَدُعَائِهَا مِثْلَ مَا يَدْعُو الْمُوَحِّدُونَ رَبَّهُمْ ؛ بَلْ أَعْظَمَ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهَا بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهَا مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَذَكَرَ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إلَى الزُّهْرَةِ بِفِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْغِنَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
وَهَذَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يُقَرِّبُ إلَى الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَهُمْ : إنَّ الْكَوْكَبَ نَفْسَهُ يُحِبُّ ذَلِكَ وَإِلَّا فَالْكَوَاكِبُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِ اللَّهِ مُطِيعَةٌ لِلَّهِ لَا تَأْمُرُ بِشِرْكِ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْمَعَاصِي وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ هِيَ الَّتِي تَأْمُرُ بِذَلِكَ وَيُسَمُّونَهَا رُوحَانِيَّةَ الْكَوَاكِبِ وَقَدْ يَجْعَلُونَهَا مَلَائِكَةً وَإِنَّمَا هِيَ شَيَاطِينُ فَلَمَّا ظَهَرَ بِأَرْضِ الْمَشْرِقِ بِسَبَبِ مِثْلِ هَذَا الْمَلِكِ وَنَحْوِهِ وَمِثْلِ هَذَا الْعَالِمِ وَنَحْوِهِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ التُّرْكَ الْمُشْرِكِينَ الْكُفَّارَ فَأَبَادُوا هَذَا الْمُلْكَ وَجَرَتْ لَهُ أُمُورٌ فِيهَا عِبْرَةٌ لِمَنْ يَعْتَبِرُ وَيَعْلَمُ تَحْقِيقَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ يَقُولُ : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ وَقَالَ : { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ } وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . و " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ دَوْلَةَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَ انْقِرَاضُهَا بِسَبَبِ هَذَا الْجَعْدِ الْمُعَطِّلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ إدْبَارَهَا وَفِي آخِرِ دَوْلَتِهِمْ ظَهَرَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ بِخُرَاسَانَ وَقَدْ قِيلَ : إنَّ أَصْلَهُ مِنْ تِرْمِذَ وَأَظْهَرَ قَوْلَ الْمُعَطِّلَةِ الْنُّفَاةِ الْجَهْمِيَّة . وَقَدْ قُتِلَ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ . وَكَانَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَشْرِقِ أَعْلَم بِحَقِيقَةِ قَوْلِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَلِهَذَا يُوجَدُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَشْرِقِ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْجَهْمِيَّة أَكْثَرُ مِمَّا يُوجَدُ لِغَيْرِهِمْ مَعَ أَنَّ عَامَّةَ
أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ تَكَلَّمُوا فِيهِمْ وَلَكِنْ لَمْ يَكُونُوا ظَاهِرِينَ إلَّا بِالْمَشْرِقِ لَكِنْ قَوِيَ أَمْرُهُمْ لَمَّا مَاتَ الرَّشِيدُ وَتَوَلَّى ابْنُهُ الْمُلَقَّبُ بِالْمَأْمُونِ بِالْمَشْرِقِ وَتَلَقَّى عَنْ هَؤُلَاءِ مَا تَلَقَّاهُ . ثُمَّ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ اجْتَمَعَ بِكَثِيرِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَدَعَا إلَى قَوْلِهِمْ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَكَتَبَ إلَى بَغْدَادَ وَهُوَ بِالثَّغْرِ بطرسوس الَّتِي بِبَلَدِ سِيسَ - وَكَانَتْ إذْ ذَاكَ أَعْظَمَ ثُغُورِ بَغْدَادَ وَمِنْ أَعْظَمِ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُهَا أَهْلُ الدِّينِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَيُرَابِطُونَ بِهَا رَابَطَ بِهَا الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالسَّرِيُّ السقطي وَغَيْرُهُمَا وَتَوَلَّى قَضَاءَهَا أَبُو عُبَيْدٍ وَتَوَلَّى قَضَاءَهَا أَيْضًا صَالِحُ بْنُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَلِهَذَا ذُكِرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ كَثِيرًا فَإِنَّهَا كَانَتْ ثَغْرًا عَظِيمًا فَكَتَبَ مِنْ الثَّغْرِ - إلَى نَائِبِهِ بِبَغْدَادَ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُصْعَبٍ كِتَابًا يَدْعُو النَّاسَ فِيهِ إلَى أَنْ يَقُولُوا : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ ثُمَّ كَتَبَ كِتَابًا ثَانِيًا يَأْمُرُ فِيهِ بِتَقْيِيدِ مَنْ لَمْ يُجِبْهُ وَإِرْسَالِهِ إلَيْهِ فَأَجَابَ أَكْثَرُهُمْ ثُمَّ قَيَّدُوا سَبْعَةً لَمْ يُجِيبُوا فَأَجَابَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ بَعْدَ الْقَيْدِ وَبَقِيَ اثْنَانِ لَمْ يُجِيبَا : الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ نُوحٍ ؛ فَأَرْسَلُوهُمَا إلَيْهِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَا إلَيْهِ ثُمَّ أَوْصَى إلَى أَخِيهِ أَبِي إسْحَاقَ وَكَانَ هَذَا سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَبَقِيَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي الْحَبْسِ إلَى سَنَةِ عِشْرِينَ فَجَرَى مَا جَرَى مِنْ الْمُنَاظَرَةِ حَتَّى قَطَعَهُمْ بِالْحُجَّةِ ثُمَّ لَمَّا خَافُوا الْفِتْنَةَ ضَرَبُوهُ وَأَطْلَقُوهُ وَظَهَرَ مَذْهَبُ
الْنُّفَاةِ الْجَهْمِيَّة وَامْتَحَنُوا النَّاسَ فَصَارَ مَنْ أَجَابَهُمْ أَعْطَوْهُ وَإِلَّا مَنَعُوهُ الْعَطَاءَ وَعَزَلُوهُ مِنْ الْوِلَايَاتِ وَلَمْ يَقْبَلُوا شَهَادَتَهُ وَكَانُوا إذَا افْتَكُّوا الْأَسْرَى يَمْتَحِنُونَ الْأَسِيرَ فَإِنْ أَجَابَهُمْ افْتَدَوْهُ وَإِلَّا لَمْ يَفْتَدُوهُ . وَكَتَبَ قَاضِيهِمْ أَحْمَد بْنُ أَبِي دؤاد عَلَى سِتَارَةِ الْكَعْبَةِ " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " لم يَكْتُبْ وَهُوَ { السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ثُمَّ وَلِيَ الْوَاثِقُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ إلَى أَنْ وَلِيَ الْمُتَوَكِّلُ فَرَفَعَ الْمِحْنَةَ وَظَهَرَتْ حِينَئِذٍ السُّنَّةُ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا عَرَفُوا حَقِيقَةَ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة بَيَّنُوهُ حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة وَكَانَ يَنْشُدُ :
عَجِبْت لِشَيْطَانِ دَعَا النَّاسَ جَهْرَةً * * * إلَى النَّارِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ جَهَنَّمَ
وَقِيلَ لَهُ : بِمَاذَا يُعْرَفُ رَبُّنَا ؟ قَالَ : بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ قِيلَ لَهُ : بِحَدِّ ؟ قَالَ : بِحَدِّ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهَوَيْه وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدارمي وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ .
وَحَقِيقَةُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ هُوَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ وَهُوَ جَحْدُ الْخَالِقِ وَتَعْطِيلُ كَلَامِهِ وَدِينِهِ كَمَا كَانَ فِرْعَوْنُ يَفْعَلُ فَكَانَ يَجْحَدُ الْخَالِقَ جَلَّ جَلَالُهُ وَيَقُولُ : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي } وَيَقُولُ لِمُوسَى { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } وَيَقُولُ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَكَانَ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى أَوْ يَكُونَ لِمُوسَى إلَهٌ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَيُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَطَاعَتَهُ وَيَكُونَ هُوَ الْمَعْبُودَ الْمُطَاعَ . فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ الْنُّفَاةِ يَئُولُ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ كَانَ مُنْتَهَى قَوْلِهِمْ إنْكَارَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَإِنْكَارَ عِبَادَتِهِ وَإِنْكَارَ كَلَامِهِ حَتَّى ظَهَرُوا بِدَعْوَى التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِرْفَانِ فَصَارُوا يَقُولُونَ : الْعَالَمُ هُوَ اللَّهُ وَالْوُجُودُ وَاحِدٌ وَالْمَوْجُودُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ الْخَالِقُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُحْدَثُ الْمَخْلُوقُ وَالرَّبُّ هُوَ الْعَبْدُ مَا ثَمَّ رَبٌّ وَعَبْدٌ وَخَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ ؛ بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ فُرْقَانٌ . وَلِهَذَا صَارُوا يَعِيبُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَيُنْقِصُونَهُمْ ؛ وَيَعِيبُونَ عَلَى نُوحٍ وَعَلَى إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِمَا وَيَمْدَحُونَ فِرْعَوْنَ وَيُجَوِّزُونَ عِبَادَةَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَجَمِيعِ الْأَصْنَامِ وَلَا يَرْضَوْنَ بِأَنْ تُعْبَدَ الْأَصْنَامُ حَتَّى يَقُولُوا : إنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ لَمْ يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ وَأَنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ هُوَ الْعَابِدُ وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَهُوَ الْوُجُودُ كُلُّهُ فَجَحَدُوا الرَّبَّ وَأَبْطَلُوا دِينَهُ وَأَمْرَهُ وَنَهْيَهُ
وَمَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَتَكْلِيمَهُ لِمُوسَى وَغَيْرِهِ . وَقَدْ ضَلَّ فِي هَذَا جَمَاعَةٌ لَهُمْ مَعْرِفَةٌ بِالْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ الْمُنَاسِبِ لِذَلِكَ كَابْنِ سَبْعِينَ وَالصَّدْرِ القونوي تِلْمِيذِ ابْنِ عَرَبِيٍّ والبلياني والتلمساني وَهُوَ مِنْ حُذَّاقِهِمْ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَكَانَ يُظْهِرُ الْمَذْهَبَ بِالْفِعْلِ فَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَيَأْتِي الْمُحَرَّمَاتِ . وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ " فُصُوصَ الْحِكَمِ " لِابْنِ عَرَبِيٍّ وَكَانَ يَظُنُّهُ مِنْ كَلَامِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ فَلَمَّا قَرَأَهُ رَآهُ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ قَالَ فَقُلْت لَهُ : هَذَا الْكَلَامُ يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَقَالَ : الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا وَكَانَ يَقُولُ : ثَبَتَ عِنْدَنَا فِي الْكَشْفِ مَا يُخَالِفُ صَرِيحَ الْمَعْقُولِ . وَحَدَّثَنِي مَنْ كَانَ مَعَهُ وَمَعَ آخَرَ نَظِيرٍ لَهُ فَمَرَّا عَلَى كَلْبٍ أَجْرَبَ مَيِّتٍ بِالطَّرِيقِ عِنْدَ دَارِ الطُّعْمِ فَقَالَ لَهُ رَفِيقُهُ : هَذَا أَيْضًا هُوَ ذَاتُ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ ثَمَّ شَيْءٌ خَارِجٌ عَنْهَا ؟ نَعَمْ الْجَمِيعُ فِي ذَاتِهِ . وَهَؤُلَاءِ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ هُوَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ ؛ لَكِنَّ فِرْعَوْنَ مَا كَانَ يَخَافُ أَحَدًا فَيُنَافِقُهُ فَلَمْ يُثْبِتْ الْخَالِقَ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ مُقِرًّا بِهِ وَكَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إلَّا مَخْلُوقٌ ؛ لَكِنَّ حُبَّ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالظُّلْمِ
دَعَاهُ إلَى الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ كَمَا قَالَ { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ مِنْ وَجْهٍ يُنَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إظْهَارُ جُحُودِ الصَّانِعِ وَمِنْ وَجْهٍ هُمْ ضُلَّالٌ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمَخْلُوقُ فَكَانَ قَوْلُهُمْ هُوَ قَوْلَ فِرْعَوْنَ لَكِنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ مُعَانِدًا مُظْهِرًا لِلْجُحُودِ وَالْعِنَادِ وَهَؤُلَاءِ إمَّا جُهَّالٌ ضُلَّالٌ وَإِمَّا مُنَافِقُونَ مُبْطِنُونَ الْإِلْحَادَ وَالْجُحُودَ يُوَافِقُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ وَحَدَّثَنِي الشَّيْخُ عَبْدُ السَّيِّدِ الَّذِي كَانَ قَاضِيَ الْيَهُودِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَكَانَ مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَمِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ وَأَحْسَنِهِمْ إسْلَامًا أَنَّهُ كَانَ يَجْتَمِعُ بِشَيْخِ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الشَّرَفُ البلاسي يُطْلَبُ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ وَالْعِلْمُ . قَالَ : فَدَعَانِي إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ فَقُلْت لَهُ : قَوْلُكُمْ يُشْبِهُ قَوْلَ فِرْعَوْنَ قَالَ : وَنَحْنُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ فَقُلْت لِعَبْدِ السَّيِّدِ وَاعْتَرَفَ لَك بِهَذَا ؟ قَالَ نَعَمْ وَكَانَ عَبْدُ السَّيِّدِ إذْ ذَاكَ قَدْ ذَاكَرَنِي بِهَذَا الْمَذْهَبِ فَقُلْت لَهُ : هَذَا مَذْهَبٌ فَاسِدٌ وَهُوَ يَئُولُ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ فَحَدَّثَنِي بِهَذَا فَقُلْت لَهُ مَا ظَنَنْت أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ لَكِنْ مَعَ إقْرَارِ الْخَصْمِ مَا يَحْتَاجُ إلَى بَيِّنَةٍ . قَالَ عَبْدُ السَّيِّدِ فَقُلْت لَهُ : لَا أَدَعُ مُوسَى وَأَذْهَبُ
إلَى فِرْعَوْنَ فَقَالَ : وَلِمَ ؟ قُلْت : لِأَنَّ مُوسَى أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ فَانْقَطَعَ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالظُّهُورِ الْكَوْنِيِّ فَقُلْت لِعَبْدِ السَّيِّدِ - وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ - نَفَعَتْك الْيَهُودِيَّةُ يَهُودِيٌّ خَيْرٌ مِنْ فِرْعَوْنِيٍّ . وَفِيهِمْ جَمَاعَاتٌ لَهُمْ عِبَادَةٌ وَزُهْدٌ وَصَدْقٌ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ حَقٌّ وَعَامَّتُهُمْ - الَّذِينَ يُقِرُّونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءُ - لَا يَفْهَمُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ ؛ بَلْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ تَحْقِيقُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَهُمْ مِنْ خَوَاصِّ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَيَحْسَبُونَ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ أُولَئِكَ مِنْ جِنْسِ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَالسَّرِيِّ السقطي والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا عرافهم الَّذِينَ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَيَقُولُونَ مَا يَقُولُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَنَحْوُهُ إنَّ الْأَوْلِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ يَسْتَفِيدُونَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يَأْتِي خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ مُتَجَهِّمَةٌ مُتَفَلْسِفَةٌ يُخْرِجُونَ أَقْوَالَ الْمُتَفَلْسِفَةِ و الْجَهْمِيَّة فِي قَالَبِ الْكَشْفِ .
وَعِنْدَ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَنَّ جِبْرِيلَ إنَّمَا هُوَ خَيَالٌ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ لَيْسَ هُوَ مَلَكًا يَأْتِي مِنْ السَّمَاءِ وَالنَّبِيُّ عِنْدَهُمْ يَأْخُذُ مِنْ هَذَا الْخَيَالِ وَأَمَّا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فِي زَعْمِهِمْ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْخَيَالُ ؛ فَهُوَ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ . وَهُمْ يُعَظِّمُونَ فِرْعَوْنَ . وَيَقُولُونَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ " قَالَ : وَلَمَّا كَانَ فِرْعَوْنُ فِي مَنْصِبِ التَّحَكُّمِ صَاحِبِ الْوَقْتِ وَأَنَّهُ جَارٍ فِي الْعُرْفِ الناموسي ؛ لِذَلِكَ قَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } أَيْ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ أَرْبَابًا بِنِسْبَةِ مَا فَأَنَا الْأَعْلَى مِنْهُمْ بِمَا أُعْطِيته فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْحُكْمِ فِيكُمْ قَالَ : وَلَمَّا عَلِمَتْ السَّحَرَةُ صِدْقَ فِرْعَوْنَ فِيمَا قَالَهُ لَمْ يُنْكِرُوهُ وَأَقَرُّوا لَهُ بِذَلِكَ . وَقَالُوا لَهُ : { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } قَالَ : فَصَحَّ قَوْلُ فِرْعَوْنَ { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَإِنْ كَانَ فِرْعَوْنُ عَيْنَ الْحَقِّ . وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُمْ أَنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : وَإِذَا نَهَقَ الْحِمَارُ وَنَبَحَ الْكَلْبُ سَجَدُوا لَهُ وَقَالُوا هَذَا هُوَ اللَّهُ فَإِنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ الْمَظَاهِرِ . قَالَ : فَقُلْت لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَيْضًا مَظْهَرٌ مِنْ الْمَظَاهِرِ فَاجْعَلُوهُ كَسَائِرِ الْمَظَاهِرِ وَأَنْتُمْ تُعَظِّمُونَ الْمَظَاهِرَ كُلَّهَا أَوْ اُسْكُتُوا عَنْهُ قَالَ فَقَالُوا لِي : مُحَمَّدٌ نُبْغِضُهُ فَإِنَّهُ أَظْهَرَ الْفَرْقَ وَدَعَا إلَيْهِ وَعَاقَبَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ قَالَ :
فَتَنَاقَضُوا فِي مَذْهَبِهِمْ الْبَاطِلِ وَجَعَلُوا الْكَلْبَ وَالْحِمَارَ أَفْضَلَ مِنْ أَفْضَلِ الْخَلْقِ قَالَ لِي : وَهُمْ يُصَرِّحُونَ بِاللَّعْنَةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ وَكُفْرًا بِالرَّحْمَنِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ فَسَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ وَنُبَاحَ الْكَلْبِ فَتَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا } فَهُمْ إذَا سَمِعُوا نَهِيقَ الْحِمَارِ وَنُبَاحَ الْكَلْبِ تَكُونُ الشَّيَاطِينُ قَدْ حَضَرَتْ فَيَكُونُ سُجُودُهُمْ لِلشَّيَاطِينِ . وَكَانَ فِيهِمْ شَيْخٌ جَلِيلٌ مِنْ أَعْظَمِهِمْ تَحْقِيقًا - لَكِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسُبُّونَ الْأَنْبِيَاءَ - وَقَدْ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ " فَكُّ الْأَزْرَارِ عَنْ أَعْنَاقِ الْأَسْرَارِ " ذَكَرَ فِيهِ مُخَاطَبَةً جَرَتْ لَهُ مَعَ إبْلِيسَ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ مَا مَعْنَاهُ : إنَّكُمْ قَدْ غَلَبْتُمُونِي وَقَهَرْتُمُونِي وَنَحْوَ هَذَا لَكِنْ جَرَتْ لِي قِصَّةٌ تَعَجَّبْت مِنْهَا مَعَ شَيْخٍ مِنْكُمْ فَإِنِّي تَجَلَّيْت لَهُ فَقُلْت : أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَسَجَدَ لِي فَتَعَجَّبْت كَيْفَ سَجَدَ لِي . قَالَ هَذَا الشَّيْخُ : فَقُلْت لَهُ : ذَاكَ أَفْضَلُنَا وَأَعْلَمُنَا وَأَنْتَ لَمْ تَعْرِفْ قَصْدَهُ مَا رَأَى فِي الْوُجُودِ اثْنَيْنِ وَمَا رَأَى إلَّا وَاحِدًا فَسَجَدَ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ إبْلِيسَ وَغَيْرِهِ فَجَعَلَ هَذَا الشَّيْخُ ذَاكَ الَّذِي سَجَدَ لإبليس لَا يُمَيِّزُ
بَيْنَ الرَّبِّ وَغَيْرِهِ ؛ بَلْ جَعَلَ إبْلِيسَ هُوَ اللَّهَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ جَعَلَهُ أَفْضَلَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ . وَلِهَذَا عَابَ ابْنُ عَرَبِيٍّ نُوحًا أَوَّلَ رَسُولٍ بُعِثَ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ وَأَنْجَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ وَأَهْلَكَ سَائِرَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَمَّا كَذَّبُوهُ ؛ فَلَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَعَظَّمَ قَوْمه الْكُفَّار الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَأَنَّهُمْ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ وَأَنَّ خَطَايَاهُمْ خَطَتْ بِهِمْ فَغَرِقُوا فِي بِحَارِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَهَذَا عَادَتُهُ يَنْتَقِصُ الْأَنْبِيَاءَ وَيَمْدَحُ الْكُفَّارَ كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَغَيْرِهِمْ . وَمَدَحَ عُبَّادَ الْعِجْلِ وَتَنَقَّصَ هَارُونَ وَافْتَرَى عَلَى مُوسَى . فَقَالَ : وَكَانَ مُوسَى أَعْلَمَ بِالْأَمْرِ مِنْ هَارُونَ ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا عَبَدَهُ أَصْحَابُ الْعِجْلِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ قَضَى أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا إيَّاهُ وَمَا قَضَى اللَّهُ بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ فَكَانَ عَتْبُ مُوسَى أَخَاهُ هَارُونَ لَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ فِي إنْكَارِهِ وَعَدَمِ اتِّسَاعِهِ ؛ فَإِنَّ الْعَارِفَ مَنْ يَرَى الْحَقَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ ؛ بَلْ يَرَاهُ عَيْنَ كُلِّ شَيْءٍ فَذَكَرَ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ عَتَبَ عَلَى هَارُونَ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْعِجْلِ وَأَنَّهُ لَمْ يَسَعْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَهُ فَإِنَّ الْعَارِفَ مَنْ يَرَى الْحَقَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ ؛ بَلْ يَرَاهُ عَيْنَ كُلِّ شَيْءٍ .
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَعَلَى اللَّهِ وَعَلَى عُبَّادِ الْعِجْلِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى أَنَّهُ أَنْكَرَ الْعِجْلَ إنْكَارًا أَعْظَمَ مِنْ إنْكَارِ هَارُونَ وَأَنَّهُ أَخَذَ بِلِحْيَةِ هَارُونَ لَمَّا لَمْ يَدَعْهُمْ وَيَتَّبِعْ مُوسَى لِمَعْرِفَتِهِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } { قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } { فَرَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَى } { قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا } { أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } { قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } . قُلْت لِبَعْضِ هَؤُلَاءِ : هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا عَنْ مُوسَى
وَهَارُونَ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ أَوْ يُخَالِفُهُ ؟ فَقَالَ : لَا بَلْ يُخَالِفُهُ قُلْت : فَاخْتَرْ لِنَفْسِك إمَّا الْقُرْآنَ وَإِمَّا كَلَامَ ابْنِ عَرَبِيٍّ . وَكَذَلِكَ قَالَ عَنْ نُوحٍ قَالَ : لَوْ أَنَّ نُوحًا جَمَعَ لِقَوْمِهِ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ لَأَجَابُوهُ أَيْ ذَكَرَ لَهُمْ فَدَعَاهُمْ جِهَارًا ثُمَّ دَعَاهُمْ إسْرَارًا إلَى أَنْ قَالَ : وَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ مَكْرٌ بِالْمَدْعُوِّ ؛ لِأَنَّهُ مَا عُدِمَ مِنْ الْبِدَايَةِ فَيُدْعَى إلَى الْغَايَةِ { أَدْعُو إلَى اللَّهِ } فَهَذَا عَيْنُ الْمَكْرِ { عَلَى بَصِيرَةٍ } فَنَبَّهَ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فَأَجَابُوهُ مَكْرًا كَمَا دَعَاهُمْ فَجَاءَ الْمُحَمَّدِيُّ وَعَلِمَ أَنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ مَا هِيَ مِنْ حَيْثُ هُوِيَّتِه وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ أَسْمَائِهِ فَقَالَ : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } فَجَاءَ بِحَرْفِ الْغَايَةِ وَقَرَنَهَا بِالِاسْمِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَالَمَ كَانَ تَحْتَ حَيْطَةِ اسْمٍ إلَهِيٍّ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ فَقَالُوا فِي مَكْرِهِمْ : { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } فَإِنَّهُمْ إذَا تَرَكُوهُمْ جَهِلُوا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَجْهًا يَعْرِفُهُ مَنْ يَعْرِفُهُ وَيَجْهَلُهُ مَنْ يَجْهَلُهُ كَمَا قَالَ فِي الْمُحَمَّدِيِّينَ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } أَيْ حَكَمَ فَالْعَارِفُ يَعْرِفُ مَنْ عَبَدَ وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ حَتَّى عُبِدَ وَأَنَّ التَّفْرِيقَ وَالْكَثْرَةَ كَالْأَعْضَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ وَكَالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الصُّورَةِ الرُّوحَانِيَّةِ فَمَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ .
وَهُوَ دَائِمًا يُحَرِّفُ الْقُرْآنَ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ } فَهِيَ الَّتِي خَطَتْ بِهِمْ فَغَرِقُوا فِي بِحَارِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَهِيَ الْحَيْرَةُ { فَأُدْخِلُوا نَارًا } فِي عَيْنِ الْمَاءِ فِي الْمُحَمَّدِيِّينَ { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } سَجَرْت التَّنُّورَ أَوْقَدْته { فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } فَكَانَ اللَّهُ عَيْنَ أَنْصَارِهِمْ فَهَلَكُوا فِيهِ إلَى الْأَبَدِ وَقَوْلُهُ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } بِمَعْنَى أَمَرَ وَأَوْجَبَ وَفَرَضَ . وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى ( وَوَصَّى رَبُّك أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ فَجَعَلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدَّرَ وَشَاءَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَمَا قَدَرَهُ فَهُوَ كَائِنٌ فَجَعَلَ مَعْنَاهَا كُلُّ مَعْبُودٍ هُوَ اللَّهُ وَأَنَّ أَحَدًا مَا عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ قَطُّ وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْفِرْيَةِ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى كِتَابِهِ وَعَلَى دِينِهِ وَعَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ . فَإِنَّ اللَّهَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ ؛ بَلْ يَعْبُدُونَ الشَّيْطَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } { وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى :
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } { إنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ : { إذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } { يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا } { يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا } { يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } { قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا } { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا } { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } وَهَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ يَقُولُونَ : مَا عَبَدْنَا غَيْرَ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا
لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ } { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } . قَالَ أَبُو قلابة : هِيَ لِكُلِّ مُفْتَرٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ يُذِلَّهُ اللَّهُ .
وَالْجَهْمِيَّة الْنُّفَاةِ كُلُّهُمْ مُفْتَرُونَ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ إنَّمَا يَقُودُونَ قَوْلَهُمْ إلَى فِرْيَةٍ عَلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِهِمْ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ وُجُودَ الْخَالِقِ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقِ هُمْ أَعْظَمُ افْتِرَاءً مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ يَحِلُّ فِيهِ وَهَؤُلَاءِ يجهلون مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ أَوْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ وَهُوَ أَنَّ الْخَالِقَ اتَّحَدَ مَعَ الْمَخْلُوقِ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ شَيْئَانِ مُتَبَايِنَانِ ثُمَّ اتَّحَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى مِنْ اتِّحَادِ اللَّاهُوتِ مَعَ النَّاسُوتِ وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ . وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ وُجُودٌ لِغَيْرِهِ حَتَّى يَتَّحِدَ مَعَ وُجُودِهِ وَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ تَنَاقُضًا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا ثَمَّ غَيْرٌ وَلَا سِوَى وَتَقُولُ السَّبْعِينِيَّةُ لَيْسَ إلَّا اللَّهُ بَدَلَ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ يَقُولُونَ
هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ لَا يَرَوْنَ هَذَا . فَإِذَا كَانَ مَا ثَمَّ غَيْرٌ وَلَا سِوَى فَمَنْ الْمَحْجُوبُ وَمَنْ الْحَاجِبُ ؟ وَمَنْ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْجُوبِ وَعَمَّ حُجِبَ ؟ فَقَدْ أَثْبَتُوا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ : قَوْمٌ مَحْجُوبُونَ وَقَوْمٌ لَيْسُوا بِمَحْجُوبِينَ وَأَمْرٌ انْكَشَفَ لِهَؤُلَاءِ وَحُجِبَ عَنْ أُولَئِكَ . فَأَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ مَا ثَمَّ اثْنَانِ وَلَا وُجُودَانِ ؟ كَمَا حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّهُ قَالَ للتلمساني : فَعَلَى قَوْلِكُمْ لَا فَرْقَ بَيْنَ امْرَأَةِ الرَّجُلِ وَأُمِّهِ وَابْنَتِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ الْجَمِيعُ عِنْدَنَا سَوَاءٌ ؛ لَكِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ فَقِيلَ لَهُمْ : فَمَنْ الْمُخَاطِبُ لِلْمَحْجُوبِينَ أَهُوَ هُمْ أَمْ غَيْرُهُمْ ؟ فَإِنْ كَانُوا هُمْ فَقَدْ حَرُمَ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا زَعَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ دُونَهُ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَهُ فَقَدْ أَثْبَتَ غيرين وَعِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ غَيْرٌ . وَهَؤُلَاءِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْوَاحِدُ بِالنَّوْعِ بِالْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ فَإِنَّهُ يُقَالُ : الْوُجُودُ وَاحِدٌ كَمَا يُقَالُ : الْإِنْسَانِيَّةُ وَاحِدَةٌ والحيوانية وَاحِدَةٌ أَيْ يَعْنِي وَاحِدٌ كُلِّيٌّ وَهَذَا الْكُلِّيُّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَظَنُّوا هَذَا الْكُلِّيَّ ثَابِتًا فِي الْخَارِجِ ثُمَّ ظَنُّوهُ هُوَ اللَّهُ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ كُلِّيٌّ مَعَ كَوْنِهِ كُلِّيًّا وَإِنَّمَا يَكُونُ كُلِّيًّا فِي الذِّهْنِ وَإِذَا قُدِّرَ فِي الْخَارِجِ كُلِّيٌّ فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمُعَيَّنَاتِ وَقَائِمٌ بِهَا لَيْسَ هُوَ مُتَمَيِّزًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ فَحَيَوَانِيَّةُ الْحَيَوَانِ وَإِنْسَانِيَّةُ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ قُدِّرَتْ مُعَيَّنَةً أَوْ مُطْلَقَةً هِيَ صِفَةٌ لَهُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ مُبْدِعَةً لَهُ وَلَوْ
قُدِّرَ وُجُودُهَا مُجَرَّدًا عَنْ الْعِيَانِ عَلَى رَأْيِ مَنْ أَثْبَتَ " الْمُثُلَ الأفلاطونية " فَتَثْبُتُ الْمَاهِيَّاتُ الْكُلِّيَّةُ مُجَرَّدَةً عَنْ الْمَوْصُوفَاتِ وَيُدَّعَى أَنَّهَا قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ مِثْلُ إنْسَانِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ وَحَيَوَانِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ وَهَذَا خَيَالٌ بَاطِلٌ . وَهَذَا الَّذِي جَعَلَهُ مُجَرَّدًا هُوَ مُجَرَّدٌ فِي الذِّهْنِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ كُلِّيٌّ مُجَرَّدٌ وَإِذَا قُدِّرَ ثُبُوتٌ كُلِّيٌّ مُجَرَّدٌ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ مُسَمَّى الْوُجُودِ فَهَذَا يَتَنَاوَلُ وُجُودَ الْمُحْدَثَاتِ كُلِّهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ وُجُودَ الْقَدِيمِ وَهَذَا لَا يَكُونُ مُبْدِعًا لِشَيْءِ وَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ؛ إذْ لَيْسَ وَصْفُهُ بِذَلِكَ بِأَوْلَى مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ جَاهِلٌ مَيِّتٌ وَالْخَالِقُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عَلِيمًا قَدِيرًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . ثُمَّ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْخَالِقُ فَهَذَا غَيْرُ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ الْمَخْلُوقَةِ فَقَدْ ثَبَتَ وُجُودَانِ أَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ وَأَحَدُهُمَا مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ فَيَكُونُ الْآخَرُ الْخَالِقُ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ وَلَا يُمْكِنُ جَحْدُ وُجُودِ الْأَعْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ وَلَكِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ الْمُغَيَّبَاتِ كَمَا يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ فَيَظُنُّ أَنَّ مَا لَمْ يَشْهَدْهُ قَدْ عُدِمَ فِي نَفْسِهِ وَفَنِيَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَا عُدِمَ وَفَنِيَ شُهُودُهُ لَهُ وَعِلْمُهُ بِهِ وَنَظَرُهُ إلَيْهِ فَالْمَعْدُومُ الْفَانِي صِفَةُ هَذَا الشَّخْصِ وَإِلَّا فَالْمَوْجُودَاتُ فِي نَفْسِهَا بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْمَعْدُومِ . وَعَدَمُ الْمَشْهُودِ لَيْسَ شُهُودًا لِلْعَدَمِ ؛ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْحَالَ يَعْتَرِي كَثِيرًا مِنْ السَّالِكِينَ
يَغِيبُ أَحَدُهُمْ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا فَنَاءً وَاصْطِلَامًا وَهَذَا فَنَاءٌ عَنْ شُهُودِ تِلْكَ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ لَا أَنَّهَا فِي نَفْسِهَا فَنِيَتْ وَمَنْ قَالَ : فَنِيَ مَا لَمْ يَكُنْ وَبَقِيَ مَا لَمْ يَزَلْ فَالتَّحْقِيقُ - إذَا كَانَ صَادِقًا - أَنَّهُ فَنِيَ شُهُودُهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ وَبَقِيَ شُهُودُهُ لَمَّا لَمْ يَزَلْ لَا أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ فَنِيَ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ بَاقٍ مَوْجُودٌ ؛ وَلَكِنْ يَتَوَهَّمُونَ إذَا لَمْ يَشْهَدُوهُ أَنَّهُ قَدْ عُدِمَ فِي نَفْسِهِ . وَمِنْ هُنَا دَخَلَتْ طَائِفَةٌ فِي الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ فَأَحَدُهُمْ قَدْ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى قَلْبِهِ ذِكْرُ اللَّهِ وَيَسْتَغْرِقَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى لَهُ مَذْكُورٌ مَشْهُودٌ لِقَلْبِهِ إلَّا اللَّهُ وَيَفْنَى ذِكْرُهُ وَشُهُودُهُ لِمَا سِوَاهُ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَدْ فَنِيَتْ وَأَنَّ نَفْسَهُ فَنِيَتْ حَتَّى يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَأَنَّ الْوُجُودَ هُوَ اللَّهُ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ غَلَطُ أَبِي يَزِيدَ وَنَحْوِهِ حَيْثُ قَالَ : مَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِالْفَنَاءِ عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُ يَفْنَى بِعِبَادَةِ اللَّهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ . وَبِمَحَبَّتِهِ وَطَاعَتِهِ
وَخَشْيَتِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ وَطَاعَتِهِ وَخَشْيَتِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ وَهُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ فَنِيَ مِنْ قَلْبِهِ التَّأَلُّهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَبَقِيَ فِي قَلْبِهِ تَأَلُّهُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَفَنِيَ مِنْ قَلْبِهِ حُبُّ غَيْرِ اللَّهِ وَخَشْيَةُ غَيْرِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ وَبَقِيَ فِي قَلْبِهِ حُبُّ اللَّهِ وَخَشْيَةُ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ . وَهَذَا الْفَنَاءُ يُجَامِعُ الْبَقَاءَ فَيَتَخَلَّى الْقَلْبُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ مَعَ تَحَلِّي الْقَلْبِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلِ { قُلْ : أَسْلَمْت لِلَّهِ وَتَخَلَّيْت } وَهُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ بِالنَّفْيِ مَعَ الْإِثْبَاتِ ؛ نَفْيِ إلَهِيَّةِ غَيْرِهِ مَعَ إثْبَاتِ إلَهِيَّتِهِ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إلَهٌ إلَّا اللَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْبُودٌ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إلَّا اللَّهُ ؛ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا ثَابِتًا فِي الْقَلْبِ ؛ فَلَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ مَنْ يَأْلَهُهُ الْقَلْبُ وَيَعْبُدُهُ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَيَخْرُجُ مِنْ الْقَلْبِ كُلُّ تَأَلُّهٍ لِغَيْرِ اللَّهِ وَيَثْبُتُ فِيهِ تَأَلُّهُ اللَّهِ وَحْدَهُ ؛ إذْ كَانَ لَيْسَ ثَمَّ إلَهٌ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ . وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ لِلَّهِ مَقْرُونَةٌ بِالْبَرَاءَةِ وَالْعَدَاوَةِ لِكُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ وَلِمَنْ عَبَدَهُمْ قَالَ تَعَالَى عَنْ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وَقَالَ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ
الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } . قَلَتْ لِبَعْضِ مَنْ خَاطَبْته مِنْ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ : قَوْلُ الْخَلِيلِ : { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } مِمَّنْ تَبَرَّأَ الْخَلِيلُ أَتَبَرَّأَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَكُمْ مَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ قَطُّ ؟ وَالْخَلِيلُ قَدْ تَبَرَّأَ مِنْ كُلِّ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ إلَّا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ لَنَا وَفِيمَنْ مَعَهُ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ قَالَ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلَّا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ :
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ } وَهَذَا تَصْدِيقُ قَوْله تَعَالَى تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ كُلُّ عَمَلٍ بَاطِلٌ إلَّا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إذْ أُنْزِلَتْ إلَيْكَ وَادْعُ إلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } .
و " الْإِلَهُ " هُوَ الْمَأْلُوهُ أَيْ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُؤَلَّهَ أَيْ يُعْبَدَ وَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُؤَلَّهَ وَيُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ مِنْ لَدُنْ عَرْشِهِ إلَى قَرَارِ أَرْضِهِ بَاطِلٌ وَفِعَالٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٌ مِثْلُ لَفْظِ الرِّكَابِ وَالْحِمَالِ ؛ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ وَالْمَحْمُولِ . وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَرْتَجِزُونَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ يَقُولُونَ :
هَذَا الْحِمَالُ لَا حَمَّالُ خَيْبَر * * * هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وَأَطْهَر
وَإِذَا قِيلَ : هَذَا هُوَ الْإِمَامُ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُؤْتَمَّ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ : { إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي
قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } فَعَهْدُهُ بِالْإِمَامَةِ لَا يَنَالُ الظَّالِمَ فَالظَّالِمُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْتَمَّ بِهِ فِي ظُلْمِهِ وَلَا يُرْكَنَ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَرْكَنُوا إلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } فَمَنْ ائْتَمَّ بِمَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَعَبَدَ مَنْ لَا يَصْلُحُ لِلْعِبَادَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَدْ غَلِطَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَظَنُّوا أَنَّ " الْإِلَهَ " بِمَعْنَى الْفَاعِلِ وَجَعَلُوا الْإِلَهِيَّةَ هِيَ الْقُدْرَةُ وَالرُّبُوبِيَّةُ فَالْإِلَهُ هُوَ الْقَادِرُ وَهُوَ الرَّبُّ وَجَعَلُوا الْعِبَادَ مَأْلُوهِينَ كَمَا أَنَّهُمْ مربوبون . فَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ مُتَنَازِعُونَ فِي أُمُورٍ لَكِنَّ إمَامَهُمْ ابْنَ عَرَبِيٍّ يَقُولُ : الْأَعْيَانُ ثَابِتَةٌ فِي الْعَدَمِ وَوُجُودُ الْحَقِّ فَاضَ عَلَيْهَا ؛ فَلِهَذَا قَالَ : فَنَحْنُ جَعَلْنَاهُ بمألوهيتنا إلَهًا . فَزَعَمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ جَعَلَتْ الرَّبَّ إلَهًا لَهَا حَيْثُ كَانُوا مَأْلُوهِينَ وَمَعْنَى مَأْلُوهِينَ عِنْدَهُ مربوبين وَكَوْنُهُمْ مَأْلُوهِينَ حَيْثُ كَانَتْ أَعْيَانُهُمْ ثَابِتَةً فِي الْعَدَمِ . وَفِي كَلَامِهِمْ مِنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ مِمَّا فِيهِ تَنَقُّصٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ مَا لَا يُحْصَى فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . و " التَّحْقِيقُ " أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءِ فِي الْخَارِجِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَيَكْتُبُهُ وَقَدْ يَذْكُرُهُ
وَيُخْبِرُ بِهِ فَيَكُونُ سَبَبًا فِي الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ وَالْكِتَابِ لَا فِي الْخَارِجِ كَمَا قَالَ : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ الْإِنْسَانِ وَمُعَلِّمُهُ فَهُوَ الَّذِي { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } وَهُوَ { الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِلَهَ بِمَعْنَى الرَّبِّ فَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَرْبُوبَ مَرْبُوبًا فَيَكُونُ عَلَى هَذَا هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَأْلُوهَ مَأْلُوهًا وَالْمَرْبُوبُ لَمْ يَجْعَلْهُ رَبًّا بَلْ رُبُوبِيَّتُهُ صِفَةٌ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَرْبُوبَ وَجَعَلَهُ مَرْبُوبًا وَهُوَ إذَا آمَنَ بِالرَّبِّ وَاعْتَقَدَ رُبُوبِيَّتَهُ وَأَخْبَرَ بِهَا كَانَ قَدْ اتَّخَذَ اللَّهَ رَبًّا وَلَمْ يَبْغِ رَبًّا سِوَى اللَّهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ رَبًّا سِوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَقَالَ : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَهُوَ أَيْضًا فِي نَفْسِهِ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ لَا إلَهَ غَيْرُهُ فَإِذَا عَبَدَهُ الْإِنْسَانُ فَقَدْ وَحَّدَهُ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ وَلَا اتَّخَذَ إلَهًا غَيْرَهُ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا } وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } فَالْمَخْلُوقُ لَيْسَ بِإِلَهِ فِي نَفْسِهِ لَكِنَّ عَابِدَهُ اتَّخَذَهُ إلَهًا وَجَعَلَهُ إلَهًا وَسَمَّاهُ
إلَهًا وَذَلِكَ كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ بَلْ يَضُرُّهُ كَمَا أَنَّ الْجَاهِلَ إذَا اتَّخَذَ إمَامًا وَمُفْتِيًا وَقَاضِيًا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَؤُمَّ وَلَا يُفْتِيَ وَلَا يَقْضِيَ وَغَيْرُ اللَّهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُتَّخَذَ إلَهًا يُعْبَدُ وَيُدْعَى فَإِنَّهُ لَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْهُ الْجَدُّ . وَمَنْ دَعَا مَنْ لَا يَسْمَعُ دُعَاءَهُ أَوْ يَسْمَعُ وَلَا يَسْتَجِيبُ لَهُ فَدُعَاؤُهُ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ وَكُلُّ مَنْ سِوَى اللَّهِ إمَّا أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِي أَوْ يَسْمَعُ وَلَكِنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ فَإِنَّ غَيْرَ اللَّهِ لَا يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فَغَيْرُ اللَّهِ لَا مَالِكٌ لِشَيْءِ وَلَا شَرِيكٌ فِي شَيْءٍ وَلَا هُوَ مُعَاوِنٌ لِلرَّبِّ فِي شَيْءٍ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ لَهُ شَفَاعَةٌ إنْ كَانَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَلَكِنْ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْذَنَ لِلشَّافِعِ أَنْ يَشْفَعَ وَأَنْ يَأْذَنَ لِلْمَشْفُوعِ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ وَمَنْ دُونَهُ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ أَلْبَتَّةَ فَلَا يَصْلُحُ مَنْ سِوَاهُ لِأَنْ يَكُونَ إلَهًا مَعْبُودًا كَمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا رَازِقًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
فَصْلٌ :
وَهَؤُلَاءِ كَانَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ ضَلَالِهِمْ مُشَارَكَتُهُمْ لِلْفَلَاسِفَةِ وَتَلَقِّيهمْ عَنْهُمْ فَإِنَّ أُولَئِكَ الْقَوْمَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَإِنَّ الرَّسُولَ بُعِثَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى : يُبَيِّنُ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَيُخْبِرُ النَّاسَ بِالْغَيْبِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُمْ مَعْرِفَتُهُ بِعُقُولِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَمْ يُفِدْ النَّاسَ عِلْمًا بِخَبَرِهِ وَلَا بِدَلَالَتِهِ وَإِنَّمَا خَاطَبَ خِطَابًا جُمْهُورِيًّا لِيُصْلِحَ بِهِ الْعَامَّةَ فَيَعْتَقِدُوا فِي الرَّبِّ وَالْمَعَادِ اعْتِقَادًا يَنْفَعُهُمْ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا وَبَاطِلًا ، وَحَقِيقَةُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ تَكْذِبُ فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ لَكِنْ كَذِبًا لِلْمَصْلَحَةِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْ خَبَرِهِمْ عِلْمًا وَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَخْبَارُهُمْ مُطَابِقَةً لِلْمُخْبَرِ فَكَيْفَ يُثْبِتُونَ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً عَلَى ثُبُوتِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ . والمتكلمون - الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُمْ لَا يُخْبِرُونَ إلَّا بِصِدْقِ وَلَكِنْ يَسْلُكُونَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ غَيْرَ طَرِيقِهِمْ - مُبْتَدِعُونَ مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ اشْتَمَلَ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ فَكَيْفَ بِهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ الْمُفْتَرِينَ ؟ وَلِهَذَا لَا يَعْتَنُونَ بِالْقُرْآنِ وَلَا بِتَفْسِيرِهِ وَلَا بِالْحَدِيثِ وَكَلَامِ السَّلَفِ ، وَإِنْ
تَعَلَّمُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلِأَجْلِ تَعَلُّقِ الْجُمْهُورِ بِهِ لِيَعِيشُوا بَيْنَهُمْ بِذِكْرِهِ ؛ لَا لِاعْتِقَادِهِمْ مُوجَبَهُ فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا بِخِلَافِ طَوَائِفِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ وَتَفْسِيرَهُ مَعَ مَا فِيهِمْ مِنْ الْبِدَعِ . وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَوْلَى التَّتَارُ عَلَى بَغْدَادَ وَكَانَ الطوسي مُنَجِّمًا لِهُولَاكُوَ اسْتَوْلَى عَلَى كُتُبِ النَّاسِ الْوَقْفِ وَالْمِلْكِ فَكَانَ كُتُبُ الْإِسْلَامِ مِثْلُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالرَّقَائِقِ يُعْدِمُهَا وَأَخَذَ كُتُبَ الطِّبِّ وَالنُّجُومِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فَهَذِهِ عِنْدَهُ هِيَ الْكُتُبُ الْمُعَظَّمَةُ وَكَانَ بَعْضُ مَنْ أَعْرِفُهُ قَارِئًا خَطِيبًا لَكِنْ كَانَ يُعَظِّمُ هَؤُلَاءِ وَيَرْتَاضُ رِيَاضَةً فَلْسَفِيَّةً سِحْرِيَّةً حَتَّى يَسْتَخْدِمَ الْجِنَّ وَكَانَ بَعْضُ الشَّيَاطِينِ أَلْقَى إلَيْهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَسْتَوْلُونَ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ يَقُولُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا يَا فُلَانُ عَنْ قَلِيلٍ يُرَى هَذَا الْجَامِعُ جَامِعُ دِمَشْقَ يُقْرَأُ فِيهِ الْمَنْطِقُ وَالطَّبِيعِيُّ وَالرِّيَاضِيُّ وَالْإِلَهِيُّ ثُمَّ يُرْضِيهِ فَيَقُولُ : وَالْعَرَبِيَّةُ أَيْضًا وَالْعَرَبِيَّةُ إنَّمَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهَا لِأَجْلِ خِطَابِ الرَّسُولِ بِهَا فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْ الْأَصْلِ كَانَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَصْحَابِ الْمُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ حَطَبِ النَّارِ .
فَصْلٌ :
أَوَّلُ التَّفَرُّقِ وَالِابْتِدَاعِ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَقْتَلِ " عُثْمَانَ " وَافْتِرَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَلَمَّا اتَّفَقَ عَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ عَلَى التَّحْكِيمِ أَنْكَرَتْ الْخَوَارِجُ وَقَالُوا لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ وَفَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَنَاظَرَهُمْ فَرَجَعَ نِصْفُهُمْ وَالْآخَرُونَ أَغَارُوا عَلَى مَاشِيَةِ النَّاسِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ فَقَتَلُوا ابْنَ خباب وَقَالُوا كُلُّنَا قَتَلَهُ فَقَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْلُ مَذْهَبِهِمْ تَعْظِيمُ الْقُرْآنِ وَطَلَبُ اتِّبَاعِهِ لَكِنْ خَرَجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَهُمْ لَا يَرَوْنَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْقُرْآنَ كَالرَّجْمِ وَنِصَابِ السَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَضَلُّوا ؛ فَإِنَّ الرَّسُولَ أَعْلَمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ قَدْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَجَوَّزُوا عَلَى النَّبِيِّ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا فَلَمْ يُنَفِّذُوا لِحُكْمِ النَّبِيِّ وَلَا لِحُكْمِ الْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ بَلْ قَالُوا : إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَمَنْ وَالَاهُمَا قَدْ حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فَكَفَّرُوا الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا وَبِغَيْرِهِ وَتَكْفِيرُهُمْ وَتَكْفِيرُ سَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَتَيْنِ :
إحْدَاهُمَا : أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ الْقُرْآنَ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ مَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ يَكْفُرُ وَلَوْ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ مُذْنِبًا مُعْتَقِدًا لِلْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ .
وَبِإِزَائِهِمْ " الشِّيعَةُ " غَلَوْا فِي الْأَئِمَّةِ وَجَعَلُوهُمْ مَعْصُومِينَ يَعْلَمُونَ كُلَّ شَيْءٍ وَأَوْجَبُوا الرُّجُوعَ إلَيْهِمْ فِي جَمِيعِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَلَا يُعَرِّجُونَ لَا عَلَى الْقُرْآنِ وَلَا عَلَى السُّنَّةِ ؛ بَلْ عَلَى قَوْلِ مَنْ ظَنُّوهُ مَعْصُومًا وَانْتَهَى الْأَمْرُ إلَى الِائْتِمَامِ بِإِمَامِ مَعْدُومٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَكَانُوا أَضَلَّ مِنْ الْخَوَارِجِ فَإِنَّ أُولَئِكَ يَرْجِعُونَ إلَى الْقُرْآنِ وَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ غَلِطُوا فِيهِ وَهَؤُلَاءِ لَا يَرْجِعُونَ إلَى شَيْءٍ بَلْ إلَى مَعْدُومٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ثُمَّ إنَّمَا يَتَمَسَّكُونَ بِمَا يُنْقَلُ لَهُمْ عَنْ بَعْضِ الْمَوْتَى فَيَتَمَسَّكُونَ بِنَقْلِ غَيْرِ مُصَدَّقٍ عَنْ قَائِلٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا أَكْذَبَ الطَّوَائِفِ وَالْخَوَارِجُ صَادِقُونَ فَحَدِيثُهُمْ مِنْ أَصَحِّ الْحَدِيثِ وَحَدِيثُ الشِّيعَةِ مِنْ أَكْذَبِ الْحَدِيثِ . وَلَكِنَّ الْخَوَارِجَ دِينُهُمْ الْمُعَظَّمُ مُفَارَقَةُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَالشِّيعَةُ تَخْتَارُ هَذَا لَكِنَّهُمْ عَاجِزُونَ وَالزَّيْدِيَّةُ تَفْعَلُ هَذَا وَالْإِمَامِيَّةُ تَارَةً تَفْعَلُهُ وَتَارَةً يَقُولُونَ لَا نَقْتُلُ إلَّا تَحْتَ رَايَةِ إمَامٍ مَعْصُومٍ وَالشِّيعَةُ اسْتَتْبَعُوا أَعْدَاءَ الْمِلَّةِ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلِهَذَا أَوْصَتْ الْمَلَاحِدَةُ - مِثْلُ الْقَرَامِطَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْبَحْرَيْنِ وَهُمْ مِنْ أَكْفَرِ الْخَلْقِ وَمِثْلُ قَرَامِطَةِ الْمَغْرِبِ وَمِصْرَ وَهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ بِالتَّشَيُّعِ - أَوْصَوْا بِأَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَابِ التَّشَيُّعِ فَإِنَّهُمْ
يَفْتَحُونَ الْبَابَ لِكُلِّ عَدُوٍّ لِلْإِسْلَامِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ وَهُمْ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ فَحَضَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ : وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي ثَلَاثًا } فَوَصَّى الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ لَمْ يَجْعَلْهُمْ أَئِمَّةً يُرْجِعُ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ فَانْتَحَلَتْ الْخَوَارِجُ كِتَابَ اللَّهِ وَانْتَحَلَتْ الشِّيعَةُ أَهْلَ الْبَيْتِ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ مُتَّبِعٍ لِمَا انْتَحَلَهُ ؛ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ خَالَفُوا السُّنَّةَ الَّتِي أَمَرَ الْقُرْآنُ بِاتِّبَاعِهَا وَكَفَّرُوا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَمَرَ الْقُرْآنُ بِمُوَالَاتِهِمْ وَلِهَذَا تَأَوَّلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } وَصَارُوا يَتَتَبَّعُونَ الْمُتَشَابِهَ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُمْ بِمَعْنَاهُ وَلَا رُسُوخٍ فِي الْعِلْمِ وَلَا اتِّبَاعٍ لِلسُّنَّةِ وَلَا مُرَاجَعَةٍ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ . وَأَمَّا مُخَالَفَةُ الشِّيعَةِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا قَدْ بُسِطَتْ فِي مَوَاضِعَ .
فَصْلٌ :
ثُمَّ حَدَثَ فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ " الْقَدَرِيَّةُ " فَكَانَتْ الْخَوَارِجُ تَتَكَلَّمُ فِي حُكْمِ اللَّهِ الشَّرْعِيِّ : أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَحُكْمِ مَنْ وَافَقَ ذَلِكَ وَمَنْ خَالَفَهُ وَمَنْ يَكُونُ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا وَهِيَ " مَسَائِلُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " وَسُمُّوا مُحَكِّمَةً لِخَوْضِهِمْ فِي التَّحْكِيمِ بِالْبَاطِلِ وَكَانَ الرَّجُلُ إذَا قَالَ : لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ قَالُوا : هُوَ مُحَكِّمٌ أَيْ خَائِضٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ فَخَاضَ أُولَئِكَ فِي شَرْعِ اللَّهِ بِالْبَاطِلِ وَأَمَّا " الْقَدَرِيَّةُ " فَخَاضُوا فِي قَدَرِهِ بِالْبَاطِلِ.
وَأَصْلُ ضَلَالِهِمْ ظَنُّهُمْ أَنَّ الْقَدَرَ يُنَاقِضُ الشَّرْعَ فَصَارُوا حِزْبَيْنِ حِزْبًا يُعَظِّمُونَ الشَّرْعَ وَالْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَاتِّبَاعَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَهَجْرَ مَا يُبْغِضُهُ وَمَا يُسْخِطُهُ وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَدَرِ فَقَطَعُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَنَقَضُوا عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ كَمَا قَطَعَتْ الْخَوَارِجُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ مِنْ اتِّفَاقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ الْجَمَاعَةِ فَفَرَّقُوا بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْكِتَابِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَطَعُوا
مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَكَذَلِكَ " الْقَدَرِيَّةُ " فَصَارُوا حِزْبَيْنِ . " حِزْبًا " يُغَلِّبُ الشَّرْعَ فَيُكَذِّبُ بِالْقَدَرِ وَيَنْفِيهِ أَوْ يَنْفِي بَعْضَهُ . و " حِزْبًا " يُغَلِّبُ الْقَدَرَ فَيَنْفِي الشَّرْعَ فِي الْبَاطِنِ أَوْ يَنْفِي حَقِيقَتَهُ وَيَقُولُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الْجَمِيعُ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ يُبْغِضُهُ ؛ لَكِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ يَأْمُرُ بِهَذَا وَيَنْهَى عَنْ مِثْلِهِ فَجَحَدُوا الْفَرْقَ وَالْفَصْلَ الَّذِي بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَبَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَبَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْفَرْقِ فَأَنْكَرُوا الْجَمْعَ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ وَأَثْبَتُوا لِغَيْرِ اللَّهِ الِانْفِرَادَ بِالْأَحْدَاثِ وَشُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ كَمَا فَعَلَتْ الْمَجُوسُ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْإِيمَانُ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ إلَّا مَعَ تَعْجِيزِهِ أَوْ تَجْهِيلِهِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ إنْ لَمْ يُجْعَلْ عَاجِزًا وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَخِيلًا . كَمَا أَنَّ " الْقَدَرِيَّةَ الْمُجَبِّرَةَ " قَالُوا : لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَالِمًا قَادِرًا
إلَّا بِتَسْفِيهِهِ وَتَجْوِيرِهِ . فَهَؤُلَاءِ نَفَوْا حِكْمَتَهُ وَعَدْلَهُ وَأُولَئِكَ نَفَوْا قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ أَوْ قُدْرَتَهُ وَمَشِيئَتَهُ وَعِلْمَهُ وَهَؤُلَاءِ ضَاهَوْا الْمَجُوسَ فِي الْإِشْرَاكِ بِرُبُوبِيَّتِهِ حَيْثُ جَعَلُوا غَيْرَهُ خَالِقًا وَأُولَئِكَ ضَاهَوْا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ عِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ غَيْرِهِ بَلْ يُجَوِّزُونَ عِبَادَةَ غَيْرِهِ كَمَا يُجَوِّزُونَ عِبَادَتَهُ وَيَقُولُونَ : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } الْآيَةَ وَهَؤُلَاءِ مُنْتَهَى تَوْحِيدِهِمْ تَوْحِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ فَأَمَّا تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ الْمُتَضَمِّنُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِكَوْنِ اللَّهِ يُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَيُبْغِضُ مَا نَهَى عَنْهُ فَهُمْ يُنْكِرُونَهُ وَلِهَذَا هُمْ أَكْثَرُ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ وَأَكْثَرُ شِرْكًا وَتَجْوِيزًا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُنْتَهَى مُتَكَلِّمِيهِمْ وَعُبَّادِهِمْ تَجْوِيزُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَأَنَّ الْعَارِفَ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ صَاحِبُ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ وَأَمَّا عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ فَبَاحَ بِهَا مُتَأَخِّرُوهُمْ كالرَّازِي صَنَّفَ فِيهَا مُصَنَّفًا وَابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِمَا يُصَرِّحُونَ بِجَوَازِ عِبَادَتِهَا وَبِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي ذَلِكَ . ف " الْقَدَرِيَّةُ " أَصْلُهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ ؛ إذْ لَوْ كَانَ قَادِرًا لَفَعَلَ غَيْرَ مَا فَعَلَ فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ وَقَالُوا : تَثْبُتُ حِكْمَتُهُ كَمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ ذَلِكَ يُوجِبُ السَّفَهَ وَالظُّلْمَ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ؛ بِخِلَافِ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ
فَلَا يُلَامُ عَلَيْهِ وَقَالَتْ : " الْمُجَبِّرَةُ " بَلْ قُدْرَتُهُ ثَابِتَةٌ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ لِحِكْمَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْفِعْلِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ الْحَاجَةِ وَلَا عَدْلَ وَلَا ظُلْمَ بَلْ كُلُّ مَا أَمْكَنَ فِعْلُهُ فَهُوَ عَدْلٌ وَلَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ مَا هُوَ حَسَنٌ يَنْبَغِي الْأَمْرُ بِهِ وَقَبِيحٌ يَنْبَغِي النَّهْيُ عَنْهُ وَلَا مَعْرُوفَ وَمُنْكَرَ ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِكُلِّ شَيْءٍ وَيَنْهَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ . ثُمَّ مَنْ حَقَّقَ مِنْهُمْ أَنْكَرَ الشَّرْعَ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنْكَرَ النُّبُوَّاتِ مَعَ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى أَنْ يَأْمُرَ بِشَيْءِ وَيَنْهَى عَنْ شَيْءٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ لَا يَجِدُونَ عَنْهُ مَحِيصًا ؛ لَكِنْ مَنْ اتَّبَعَ الْأَنْبِيَاءَ يَأْمُرُ بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَنْفَعُ غَيْرَهُ وَيَنْهَى عَمَّا يَضُرُّهُ وَيَضُرُّ غَيْرَهُ وَمَنْ خَالَفَ الْأَنْبِيَاءَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا يَضُرُّ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْفَعُ فَيَسْتَحِقُّ عَذَابَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقِرًّا بِالنُّبُوَّةِ فَأَنْكَرَ الشَّرْعَ فِي الْبَاطِنِ وَقَالَ : الْعَارِفُ لَا يَسْتَحْسِنُ حَسَنَةً وَلَا يَسْتَقْبِحُ سَيِّئَةً صَارَ مُنَافِقًا يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ وَيَقُولُ الشَّرْعُ لِأَجْلِ الْمَارَسْتَانِ ؛ وَلِهَذَا يُسَمَّوْنَ " بَاطِنِيَّةً " كَمَا سَمَّوْا الْمَلَاحِدَةَ " بَاطِنِيَّةً " فَإِنَّ كِلَاهُمَا يُبْطِنُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ يُبْطِنُونَ تَعْطِيلَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَمُنْتَهَى الْجَهْمِيَّة الْمُجَبِّرَةِ إمَّا مُشْرِكُونَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَإِمَّا مُنَافِقُونَ يُبْطِنُونَ الشِّرْكَ ؛ وَلِهَذَا يَظُنُّونَ بِاَللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ وَأَنَّهُ لَا يَنْصُرُ مُحَمَّدًا
وَأَتْبَاعَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وَهُمْ يَتَعَلَّقُونَ بِقَوْلِهِ : { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } وَبِأَنَّهُ { يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } وَلِذَلِكَ لَمَّا ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ التَّتَارُ وَأَهْلُ الْكِتَابِ كَثُرَ فِي عُبَّادِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ مَنْ صَارَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ إمَّا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَإِمَّا بَاطِنًا وَقَالَ : إنَّهُ مَعَ الْحَقِيقَةِ وَمَعَ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَصَارُوا يَحْتَجُّونَ لِمَنْ هُوَ مُعَظِّمٌ لِلرُّسُلِ عَمَّا لَا يُوَافِقُ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَمُوَالَاةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَالدُّخُولِ فِي دِينِهِمْ وَمُجَاهَدَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُمْ هُوَ بِأَمْرِ الرَّسُولِ فَتَارَةً تَأْتِيهِمْ شَيَاطِينُهُمْ بِمَا يُخَيِّلُونَ لَهُمْ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ مِنْ نُورٍ وَأَنَّ الرَّسُولَ أَمَرَ بِقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْكُفَّارِ لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَصَوْا . وَلِمَا ظَهَرَ أَنَّ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ خُفَرَاءُ لَهُمْ مِنْ الرِّجَالِ الْمُسْلِمِينَ بِرِجَالِ الْغَيْبِ وَأَنَّ لَهُمْ خَوَارِقَ تَقْتَضِي أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ صَارَ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ثَلَاثَةَ أَحْزَابٍ . حِزْبٌ يُكَذِّبُونَ بِوُجُودِ هَؤُلَاءِ ؛ وَلَكِنْ عَايَنَهُمْ النَّاسُ وَثَبَتَ ذَلِكَ عَمَّنْ عَايَنَهُمْ أَوْ حَدَّثَهُ الثقاة بِمَا رَأَوْهُ وَهَؤُلَاءِ إذَا رَأَوْهُمْ أَوْ تَيَقَّنُوا وُجُودَهُمْ خَضَعُوا لَهُمْ .
وَحِزْبٌ عَرَفُوهُمْ وَرَجَعُوا إلَى الْقَدَرِ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ ثَمَّ فِي الْبَاطِنِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ غَيْرَ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ . وَحِزْبٌ مَا أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ خَارِجِينَ عَنْ دَائِرَةِ الرَّسُولِ فَقَالُوا : يَكُونُ الرَّسُولُ هُوَ مُمِدًّا لِلطَّائِفَتَيْنِ لِهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَهَؤُلَاءِ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ جَاهِلُونَ بِدِينِهِ وَشَرْعِهِ وَاَلَّذِينَ قَبْلَهُمْ يُجَوِّزُونَ اتِّبَاعَ دِينٍ غَيْرِ دِينِهِ وَطَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِ . وَكَانَتْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بِدِمَشْقَ لَمَّا فُتِحَتْ عَكَّا ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَتْبَاعِ الشَّيَاطِينِ وَأَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ هُمْ الْجِنُّ وَأَنَّ الَّذِينَ مَعَ الْكُفَّارِ شَيَاطِينُ وَأَنَّ مَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْإِنْسِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِهِمْ شَيْطَانٌ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ أَعْدَاءِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } . وَكَانَ سَبَبُ الضَّلَالِ عَدَمَ الْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَأَصْلُهُ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يُسَوُّونَ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَسْخُوطِ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ جَرَتْ أُمُورٌ يَطُولُ وَصْفُهَا . وَلَمَّا جَاءَ قازان وَقَدْ أَسْلَمَ دِمَشْقُ انْكَشَفَتْ أُمُورٌ أُخْرَى فَظَهَرَ أَنَّ
اليونسية كَانُوا قَدْ ارْتَدُّوا وَصَارُوا كُفَّارًا مَعَ الْكُفَّارِ . وَحَضَرَ عِنْدِي بَعْضُ شُيُوخِهِمْ وَاعْتَرَفَ بِالرِّدَّةِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَحَدَّثَنِي بِفُصُولِ كَثِيرَةٍ فَقُلْت لَهُ لَمَّا ذَكَرَ لِي احْتِجَاجَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ : فَهَبْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ بَغْدَادَ كَانُوا قَدْ عَصَوْا وَكَانَ فِي بَغْدَادَ بِضْعَةَ عَشَرَ بَغِيًّا فَالْجَيْشُ الْكُفَّارُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ جَاءُوا كَانُوا شَرًّا مِنْ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُنَّ يَزْنِينَ اخْتِيَارًا فَأَخَذَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكُونَ عَشَرَاتِ الْأُلُوفِ مِنْ حَرَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَسَرَارِيهِمْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ وَرَدُّوهُمْ عَنْ الْإِسْلَامِ إلَى الْكُفْرِ وَأَظْهَرُوا الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَدِينَ النَّصَارَى وَتَعْظِيمَ الصَّلِيبِ حَتَّى بَقِيَ الْمُسْلِمُونَ مَقْهُورِينَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ تَضَاعِيفِ مَا كَانَ يَفْعَلُ مِنْ الْمَعَاصِي فَهَلْ يَأْمُرُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا وَيَرْضَى بِهَذَا فَتَبَيَّنَ لَهُ وَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ وَأَخْبَرَنِي عَنْ رِدَّةِ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الشُّيُوخِ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَتْ شَيَاطِينُ الْمُشْرِكِينَ تُكْرِهُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ فِي الْبَاطِنِ وَتُعَذِّبُهُمْ إنْ لَمْ يَرْتَدُّوا فَقُلْت كَانَ هَذَا لِضَعْفِ إيمَانِهِمْ وَتَوْحِيدِهِمْ وَالْمَادَّةِ الَّتِي يَشْهَدُونَهَا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ وَإِلَّا فَالشَّيَاطِينُ لَا سُلْطَانَ لَهُمْ عَلَى قُلُوبِ الْمُوَحِّدِينَ وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ بَلْ أَنَّهُمْ رِجَالٌ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ الْإِنْسِ وَكَّلَهُمْ اللَّهُ بِتَصْرِيفِ الْأَمْرِ فَبَيَّنْت لَهُمْ أَنَّ رِجَالَ الْغَيْبِ هُمْ الْجِنُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ
رَهَقًا } وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمْ إنْسٌ فَمِنْ جَهْلِهِ وَغَلَطِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَ يُؤْنِسُونَ أَيْ يَشْهَدُونَ وَيَرَوْنَ ؛ إنَّمَا يَحْتَجِبُ الْإِنْسِيُّ أَحْيَانًا لَا يَكُونُ دَائِمًا مُحْتَجِبًا عَنْ أَبْصَارِ الْإِنْسِ ؛ بِخِلَافِ الْجِنِّ فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ { إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ } . وَكَانَ غَيْرَ هَذَا مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ يَذْكُرُ عَنْ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّكْرَانِ أَنَّ " هُولَاكُو " مَلِكَ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ رَأَى ابْنَ السَّكْرَانِ شَيْخًا مَحْلُوقَ الرَّأْسِ عَلَى صُورَةِ شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الدِّينِ وَالطَّرِيقِ آخِذًا بِفَرَسِ هُولَاكُو قَالَ : فَلَمَّا رَأَيْته أَنْكَرْت هَذَا وَاسْتَعْظَمْت أَنْ يَكُونَ شَيْخٌ مِنْ شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ يَقُودُ فَرَسَ مَلِكِ الْمُشْرِكِينَ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ فَقُلْت : يَا هَذَا أَوْ كَلِمَةٌ نَحْوُ هَذَا فَقَالَ تَأْمُرُ بِأَمْرِ أَوْ قَالَ لَهُ : هَلْ يَفْعَلُ هَذَا بِأَمْرِ أَوْ فَعَلْت هَذَا بِأَمْرِ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ بِأَمْرِ فَسَكَتَ ابْنُ السَّكْرَانِ وَأَقْنَعَهُ هَذَا الْجَوَابُ وَكَانَ هَذَا لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِالْفُرْقَانِ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَظَنَّ أَنَّ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الشُّيُوخُ فِي قُلُوبِهِمْ هُوَ مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ مَنْ قَالَ : حَدَّثَنِي قَلْبِي عَنْ رَبِّي فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ يُنَاجِيهِ وَمَنْ قَالَ : أَخَذْتُمْ عِلْمَكُمْ مَيِّتًا عَنْ مَيِّتٍ وَأَخَذْنَا عِلْمَنَا عَنْ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ هُوَ كَذَلِكَ وَهَذَا أَضَلُّ مِمَّنْ ادَّعَى الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى وَاسِطَتِهِمْ . وَجَوَابُ هَذَا أَنْ يُقَالَ لَهُ : بِأَمْرِ مَنْ تَأْمُرُ ؟ فَإِنْ قَالَ : بِأَمْرِ اللَّهِ
قِيلَ : بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ الْقُرْآنَ أَمْ بِأَمْرِ وَقَعَ فِي قَلْبِك ؟ فَإِنْ قَالَ : بِالْأَوَّلِ ظَهَرَ كَذِبُهُ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكُفَّارِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ لِقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ لِأَجْلِ ذُنُوبٍ فَعَلُوهَا وَيَجْعَلَ الدَّارَ تُعْبَدُ بِهَا الْأَوْثَانُ وَيُضْرَبُ فِيهَا بِالنَّوَاقِيسِ وَيُقْتَلُ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرْعِ وَيُعَظَّمُ النجسية عُلَمَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَقَسَاوِسَةُ النَّصَارَى وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ عَدَاوَةً لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ مِنْ جِنْسِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَأُولَئِكَ عُصَاةٌ مِنْ عُصَاةِ أُمَّتِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مُنَافِقُونَ كَثِيرُونَ فَالْمُنَافِقُونَ يُبْطِنُونَ نِفَاقَهُمْ . وَإِنْ قَالَ : بِأَمْرِ وَقَعَ فِي قَلْبِي لَمْ يَكْذِبْ لَكِنْ يُقَالُ مِنْ أَيْنَ لَك أَنَّ هَذَا رَحْمَانِيٌّ وَلِمَ لَا يَكُونُ الشَّيْطَانُ هُوَ الَّذِي أَمَرَك بِهَذَا ؟ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِنْ رَجَعَ إلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ الْجَمِيعَ بِمَشِيئَتِهِ قِيلَ لَهُ : فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَا يَفْعَلُهُ الشَّيْطَانُ وَالْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ هُوَ بِالْأَمْرِ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ بِالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ فَجَمِيعُ الْخَلْقِ دَاخِلُونَ تَحْتَهُ ؛ لَكِنْ مَنْ فَعَلَ بِمُجَرَّدِ هَذَا الْأَمْرِ لَا بِأَمْرِ الرَّسُولِ فَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهُوَ مُسْتَوْجِبٌ لِعَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ عَابِدٌ لِغَيْرِ اللَّهِ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ وَهُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَمِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } قَالَ اللَّهُ : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَكَيْفَ تَأْمُرُ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَتُسَلِّطُ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَتْلُ الْكُفَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ كَمَا لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَفْحَشِ الْفَوَاحِشِ إذَا جُعِلَتْ الْفَاحِشَةُ اسْمًا لِكُلِّ مَا يَعْظُمُ قُبْحُهُ فَكَانَتْ جَمِيعُ الْقَبَائِحِ السَّيِّئَةِ دَاخِلَةً فِي الْفَحْشَاءِ . وَكَانَ أَيْضًا بِالشَّامِ بَعْضُ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ بِبَعْلَبَكَّ - الشَّيْخُ عُثْمَانُ شَيْخُ دَيْرِ نَاعِسٍ - يَأْتِيهِ خَفِيرُ الفرنج النَّصَارَى رَاكِبًا أَسَدًا وَيَخْلُو بِهِ وَيُنَاجِيهِ وَيَقُولُ : يَا شَيْخُ عُثْمَانُ وُكِّلْت بِحِفْظِ خَنَازِيرِهِمْ فَيَعْذُرُهُ عُثْمَانُ وَأَتْبَاعُهُ فِي ذَلِكَ وَيَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِهَذَا كَمَا أَمَرَ الْخَضِرَ أَنْ يَفْعَلَ مَا فَعَلَ كَمَا عَذَرَ ابْنُ السَّكْرَانِ وَأَمْثَالُهُ خُفَرَاءَ الْمُشْرِكِينَ التَّتَارِ . وَالْجَوَابُ لِهَذَا كَالْجَوَابِ لِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ : وَكَّلَك اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا ؟
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الدِّينَ أَمَرَ أَنْ يُوَالِيَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا يَتَّخِذَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ؛ بَلْ أَمَرَك أَنْ تُبْغِضَهُمْ وَتُجَاهِدَهُمْ بِمَا اسْتَطَعْت هُوَ أَمَرَك أَنْ تَتَوَكَّلَ بِحِفْظِ خَنَازِيرِهِمْ فَإِنْ قَالَ : هَذَا ظَهَرَ كَذِبُهُ وَإِنْ قَالَ : بَلْ هُوَ أَمْرٌ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي لَمْ يَكْذِبْ وَقِيلَ لَهُ : فَهَذَا مِنْ أَمْرِ الشَّيْطَانِ لَا مِنْ أَمْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ ؛ وَلَكِنَّهُ مِنْ الْأَمْرِ الَّذِي كَوَّنَهُ وَقَدَّرَهُ كَشِرْكِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا } . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ الرِّجَالَ الَّذِينَ يُؤَيَّدُ بِهِمْ الْكُفَّارُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ هُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ كَالْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلَةِ بِبَنِي آدَمَ الْمُعَقِّبَاتِ . فَقُلْت لِشَيْخِ كَانَ مِنْ شُيُوخِهِمْ : مُحَمَّدٌ أُرْسِلَ إلَى الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَلَمْ يُرْسَلْ إلَى الْمَلَائِكَةِ فَكُلُّ إنْسِيٍّ أَوْ جِنِّيٍّ خَرَجَ عَنْ الْإِيمَانِ بِهِ فَهُوَ عَدُوٌّ لِلَّهِ لَا وَلِيٌّ لِلَّهِ ؛ بِخِلَافِ الْمَلَائِكَةِ . ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : الْمَلَائِكَةُ لَا يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى الْمَعَاصِي وَلَا عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّمَا يُعَاوِنُهُمْ عَلَى ذَلِكَ الشَّيَاطِينُ ؛ وَلَكِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَكُونُ مُوَكَّلَةً بِخَلْقِهِمْ وَرِزْقِهِمْ وَكِتَابَةِ أَعْمَالِهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَعْصِيَةِ فَهَذَا الْجَوَابُ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .
وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُمْ مِنْ جِنْسِ الشَّيَاطِينِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ وَكَانَ هَذَا الشَّيْخُ هُوَ وَأَبُوهُ مِنْ خُفَرَاءِ الْكُفَّارِ وَكَانَ وَالِدُهُ يُقَالُ لَهُ : " مُحَمَّدٌ الْخَالِدِيُّ " نِسْبَةً إلَى شَيْطَانٍ كَانَ يُقَرِّبُهُ يُقَالُ لَهُ الشَّيْخُ خَالِدٌ وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ مِنْ الْإِنْسِ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ . وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْأَنْبِيَاءُ ضَيَّعُوا الطَّرِيقَ وَلَعَمْرِي لَقَدْ ضَيَّعُوا طَرِيقَ الشَّيَاطِينِ : شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَهَؤُلَاءِ الْمَشَايِخُ : الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ يُوَالُونَ الشُّيُوخَ الَّذِينَ يُوَالُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ خُفَرَاءُ الْكُفَّارِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ اشْتَرَكُوا هُمْ وَهُمْ فِي أَصْلِ ضَلَالَةٍ وَهُوَ : أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْخَوَارِقَ الشَّيْطَانِيَّةَ مِنْ جِنْسِ الْكَرَامَاتِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } فَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ عَشَوْا عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَعَنْ الرُّوحِ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ إلَى نَبِيِّهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ نُورًا يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَبِهِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَمُعْجِزَاتِهِمْ وَبَيْنَ خَوَارِقِ السَّحَرَةِ وَالْكُهَّانِ ؛ إذْ هَذَا " مَذْهَبُ الْجَهْمِيَّة الْمُجَبِّرَةِ " وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ فَلَا يَجْعَلُونَ اللَّهَ يُحِبُّ مَا أَمَرَ بِهِ وَيُبْغِضُ مَا نَهَى عَنْهُ بَلْ يَجْعَلُونَ كُلَّ مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّهُ
وَيَرْضَاهُ فَبَقِيَ جَمِيعُ الْأُمُورِ عِنْدَهُمْ سَوَاءً وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ بِنَوْعِ مِنْ الْخَوَارِقِ فَمَنْ كَانَ لَهُ خَارِقٌ جَعَلُوهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَخَضَعُوا لَهُ إمَّا اتِّبَاعًا لَهُ وَإِمَّا مُوَافَقَةً لَهُ وَمَحَبَّةً وَإِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا لَهُ حَالَهُ فَلَا يُحِبُّوهُ وَلَا يُبْغِضُوهُ إذْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَعْرِفُونَ بِهِ الْمَعْرُوفَ وَيُنْكِرُونَ بِهِ الْمُنْكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ { مَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ } وَمَيِّتُو الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا وَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { إنْ الْفِتْنَةَ تُعْرَضُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّمَا قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ وَأَيُّمَا قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى تَبْقَى الْقُلُوبُ عَلَى قَلْبَيْنِ : قَلْبٌ أَبْيَضُ مِثْلُ الصَّفَا لَا يَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَقَلْبٌ أَسْوَدُ مُرْبَادٌّ لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ } . فَهَؤُلَاءِ الْعُبَّادُ الزُّهَّادُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ بِآرَائِهِمْ وَذَوْقِهِمْ وَوَجْدِهِمْ لَا
بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُنْتَهَاهُمْ اتِّبَاعُ أَهْوَائِهِمْ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ حَقِيقَتُهُمْ هِيَ قَوْلَ " الْجَهْمِيَّة الْمُجَبِّرَةِ " فَرَأَوْا أَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ اشْتَرَكَتْ فِي الْمَشِيئَةِ وَلَمْ يُمَيِّزُوا بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ بِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ هَذَا وَيَرْضَاهُ وَهَذَا يُبْغِضُهُ وَيُسْخِطُهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمَعْرُوفَ وَيُبْغِضُ الْمُنْكَرَ فَإِذَا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا نُكِتَ فِي قُلُوبِهِمْ نُكَتٌ سُودٌ فَسُوِّدَ قُلُوبُهُمْ فَيَكُونُ الْمَعْرُوفُ مَا يَهْوَوْنَهُ وَيُحِبُّونَهُ وَيَجِدُونَهُ وَيَذُوقُونَهُ وَيَكُونُ الْمُنْكَرُ مَا يَهْوَوْنَ بُغْضَهُ وَتَنْفِرُ عَنْهُ قُلُوبُهُمْ كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا { عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي هَؤُلَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ مَنْ يَنْفِرُونَ عَنْ الْقُرْآنِ وَالشَّرْعِ كَمَا تَنْفِرُ الْحُمُرُ الْمُسْتَنْفِرَةُ الَّتِي تَفِرُّ مِنْ الرُّمَاةِ وَمِنْ الْأَسَدِ وَلِهَذَا يُوصَفُونَ بِأَنَّهُمْ إذَا قِيلَ لَهُمْ قَالَ الْمُصْطَفَى نَفَرُوا . وَكَانَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ بْنُ مِعْضَادٍ يَقُولُ - لِمَنْ رَآهُ مِنْ هَؤُلَاءِ كاليونسية وَالْأَحْمَدِيَّةِ - يَا خَنَازِيرُ يَا أَبْنَاءَ الْخَنَازِيرِ مَا أَرَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عِنْدَكُمْ رَائِحَةً { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً } كُلٌّ مِنْهُمْ يُرِيدُ أَنْ يُحَدِّثَهُ قَلْبُهُ عَنْ رَبِّهِ فَيَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةِ الرَّسُولِ { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَ " الْقَدَرِيَّةِ الْجَهْمِيَّة الْمُجَبِّرَةِ " أَعْظَمُ مُنَاقَضَةً
لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَوْلِ الْنُّفَاةِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ مُظْهِرِينَ لِهَذَا فِي زَمَنِ السَّلَفِ ؛ بَلْ كُلَّمَا ضَعُفَ نُورُ النُّبُوَّةِ أَظْهَرُوا حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَمُنْتَهَاهُمْ الشِّرْكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَهَذَا جِمَاعُ الْكُفْرِ كَمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ وَتَصْدِيقَ الرُّسُلِ جِمَاعُ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا صَارُوا مَعَ أَهْلِ الْكُفْرِ الْمَحْضِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " الْقَدَرِيَّةَ الْمُجَبِّرَةَ " مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا أَنَّ " النَّافِيَةَ " مِنْ جِنْسِ الْمَجُوسِ وَأَنَّ الْمُجَبِّرَةَ مَا عِنْدَهُمْ سِوَى الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَالنَّافِيَةُ تَنْفِي الْقُدْرَةَ الْعَامَّةَ وَالْمَشِيئَةَ التَّامَّةَ وَتَزْعُمُ أَنَّهَا تُثْبِتُ الْحِكْمَةَ وَالْعَدْلَ وَفِي الْحَقِيقَةِ كِلَاهُمَا نَافٍ لِلْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَأُولَئِكَ يَتَعَلَّقُونَ بِقَوْلِهِ : { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } و { اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } وَهَذَا ذَكَرَهُ اللَّهُ إثْبَاتًا لِقُدْرَتِهِ لَا نَفْيًا لِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ ؛ بَلْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَلَا أَحَدَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَارِضَهُ إذَا شَاءَ شَيْئًا بَلْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مَا يَشَاءُ ؛ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَشَاءُ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَهَا ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَقُولَن أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ }
وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يُقَالُ : افْعَلْ كَذَا إنْ شِئْت لِمَنْ قَدْ يَفْعَلُهُ مُكْرَهًا فَيَفْعَلُ مَا لَا يُرِيدُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا مُكْرِهَ لَهُ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا يَشَاءُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } و { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ هُوَ لِإِثْبَاتِ قُدْرَتِهِ عَلَى مَا يَشَاءُ وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الْنُّفَاةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ لَمْ يَشَأْ كُلَّ مَا كَانَ بَلْ لَا يَشَاءُ إلَّا الطَّاعَةَ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ شَاءَهَا وَلَمْ تَكُنْ مِمَّنْ عَصَاهُ وَلَيْسَ هُوَ قَادِرًا عِنْدَهُمْ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ لَا مُطِيعًا وَلَا عَاصِيًا . فَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَحْتَجُّ بِهَا الْمُجَبِّرَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْنُّفَاةِ كَمَا أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْنُّفَاةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَكَمٌ عَادِلٌ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْخَلْقَ عَبَثًا وَنَحْوَ ذَلِكَ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجَبِّرَةِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَلَا هَذِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ ؛ بَلْ مَا تَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَذْهَبِ الْأُخْرَى وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ بَاطِلٌ وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ وَبَعْضُهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَمَارَوْنَ فِي الْقَدَرِ . هَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا ؟ وَهَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا ؟ فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ فَقَالَ : أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ ؟ أَمْ إلَى هَذَا دُعِيتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ ؟ } وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد فِي بَعْضِ مُنَاظَرَتِهِ لِمَنْ صَارَ يَضْرِبُ الْآيَاتِ
بَعْضَهَا بِبَعْضِ : إنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ هَذَا . فَمَنْ دَفَعَ نُصُوصًا يَحْتَجُّ بِهَا غَيْرُهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا بَلْ آمَنَ بِمَا يَحْتَجُّ صَارَ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضِ . وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ وَقَدْ تَرَكُوا كُلُّهُمْ بَعْضَ النُّصُوصِ وَهُوَ مَا يَجْمَعُ تِلْكَ الْأَقْوَالَ فَصَارُوا كَمَا قَالَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . فَإِذَا تَرَكَ النَّاسُ بَعْضَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ إذْ لَمْ يَبْقَ هُنَا حَقٌّ جَامِعٌ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ ؛ بَلْ { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْحَقِّ إلَّا مَا وَافَقُوا فِيهِ الرَّسُولَ وَهُوَ مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ شَرْعِهِ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا أَمَرَ بِهِ وَأَمَّا مَا ابْتَدَعُوهُ فَكُلُّهُ ضَلَالَةٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْبِدْعَةُ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِمَّا أَخَذُوا بِهِ مِنْ الشِّرْعَةِ يَجْعَلُونَ تِلْكَ هِيَ " الْأُصُولَ الْعَقْلِيَّةَ " كَالْقَدَرِيَّةِ الْمُجَبِّرَةِ والْنُّفَاةِ فَكِلَاهُمَا يَجْعَلُ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْأُصُولِ - وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْعَقْلِيَّاتِ - أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِمَّا تَلَقَّوْهُ مِنْ الشَّرْعِ ؛ فَالْمُعْتَزِلَةُ يَجْعَلُونَ الْعَقْلِيَّاتِ هِيَ الْخَبَرِيَّاتِ وَالْأَمْرِيَّاتِ جَمِيعًا كَالْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ
لَكِنْ يَقُولُونَ أَيْضًا إنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَهَا وَلَكِنْ لَهُمْ فِيهَا تَخْلِيطٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَكَذَلِكَ مَا ابْتَدَعُوهُ فِي الْخَبَرِيَّاتِ كَإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِطَرِيقَةِ الْأَعْرَاضِ وَاسْتِلْزَامِهَا لِلْأَجْسَامِ وَهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرَ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ " . وَجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ هُمْ أَعْظَمُ نَفْيًا مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يَنْفُونَ الْأَسْمَاءَ مَعَ الصِّفَاتِ وَهُمْ رُءُوسُ الْمُجَبِّرَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَافَقَتْهُمْ فِي الْجَبْرِ ؛ لَكِنْ نَازَعُوهُمْ نِزَاعًا لَفْظِيًّا فِي إثْبَاتِ الْكَسْبِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَقْلِيَّةَ - وَهِيَ الْعِلْمُ بِمَا يَجِبُ لِلرَّبِّ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ - هِيَ أَعْظَمُ الْعُلُومِ وَأَشْرَفُهَا وَأَنَّهُمْ بَرَزُوا بِهَا عَلَى الصَّحَابَةِ وَأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يُعَلِّمْهَا الصَّحَابَةَ : إمَّا لِكَوْنِهِ وَكَّلَهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأُمَّةِ وَإِمَّا لِكَوْنِ الصَّحَابَةِ كَانُوا مَشْغُولِينَ عَنْهَا بِالْجِهَادِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ قَالَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُبَلِّغُوهُ وَلَمْ يَشْغَلْهُمْ بِالْأَدِلَّةِ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ . وَهَذِهِ هِيَ " الْأُصُولُ الْعَقْلِيَّةُ " الَّتِي يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا هُمْ وَمَنْ يُوَافِقُهُمْ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي تَبَعًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَمْثَالِهِ وَهُوَ وَأَتْبَاعُهُ يُنَاقِضُونَ عَبْدَ الْجَبَّارِ وَأَمْثَالَهُ كَمَا نَاقَضَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَمْثَالُهُ أَبَا عَلِيٍّ وَأَبَا هَاشِمٍ .
وَكُلُّ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بَاطِلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ تَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الدِّينِ وَيُقَدِّمُونَهَا عَلَى الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا يُعَظِّمُهُ الْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ وَالْفُقَرَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ مِنْ الْخَوَارِقِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَيُفَضِّلُونَهَا عَلَى الْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعِبَادَاتُ الشَّرْعِيَّةُ هِيَ الَّتِي مَعَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَتِلْكَ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ وَإِنْ كَانَتْ أَعْظَمَ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِبَادَاتِ حَتَّى يَقُولُوا : نِهَايَةُ الصُّوفِيِّ ابْتِدَاءُ الْفَقِيهِ وَنِهَايَةُ الْفَقِيهِ ابْتِدَاءُ الْمُوَلَّهِ . وَكَذَلِكَ صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " يَذْكُرُ فِي كُلِّ بَابٍ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ فَالْأُولَى وَهِيَ أَهْوَنُهَا عِنْدَهُمْ تُوَافِقُ الشَّرْعَ فِي الظَّاهِرِ وَالثَّانِيَةُ قَدْ تُوَافِقُ الشَّرْعَ وَقَدْ لَا تُوَافِقُ وَالثَّالِثَةُ فِي الْأَغْلَبِ تُخَالِفُ ؛ لَا سِيَّمَا فِي " التَّوْحِيدِ " و " الْفَنَاءِ " و " الرَّجَاءِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي ابْتَدَعُوهُ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَهُمْ مِمَّا وَافَقُوا فِيهِ الرُّسُلَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ يُفَضِّلُ نَوَافِلَهُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَهَذَا كَثِيرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَفَقِّرَةِ يَدَّعُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ بَاطِنًا وَأَنَّ لِذَلِكَ الْبَاطِنِ بَاطِنًا إلَى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لِلْقُرْآنِ بَاطِنٌ وَلِلْبَاطِنِ بَاطِنٌ إلَى سَبْعَةِ أَبْطُنٍ } وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ : لَوْ شِئْت لأوقرت مِنْ تَفْسِيرِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ كَذَا وَكَذَا حِمْلَ جَمَلٍ وَيَقُولُونَ : إنَّمَا هُوَ مِنْ عِلْمِنَا إذْ هُوَ اللدني . وَيَقُولُونَ كَلَامًا مَعْنَاهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا يَصْلُحُ لَهُمْ فَإِنَّهُ أَمَرَ قَوْمًا بِالْإِمْسَاكِ وَقَوْمًا بِالْإِنْفَاقِ وَقَوْمًا بِالْكَسْبِ وَقَوْمًا بِتَرْكِ الْكَسْبِ . وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا ذَكَرَتْهُ أَشْيَاخُنَا فِي " الْعَوَارِفِ " وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْمُحَقِّقِينَ وَرُبَّمَا ذَكَرُوا أَنَّ
حُذَيْفَةَ كَانَ يَعْلَمُ أَسْمَاءَ الْمُنَافِقِينَ خَصَّهُ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { حَفِظْت جِرَابَيْنِ } . وَيَرْوُونَ كَلَامًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ أَنَّهُ قَالَ : لِلْعَارِفِينَ خَزَائِنُ أَوْدَعُوهَا عُلُومًا غَرِيبَةً يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِلِسَانِ الْأَبَدِيَّةِ يُخْبِرُونَ عَنْهَا بِلِسَانِ الْأَزَلِيَّةِ وَيَقُولُونَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَخْزُونِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ فَإِذَا نَطَقُوا بِهِ لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا أَهِلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ } . فَهَلْ مَا ادَّعَوْهُ صَحِيحًا أَمْ لَا ؟ . فَسَيِّدِي يُبَيِّنُ لَنَا مَقَالَاتِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ وَقَفَ عَلَى كَلَامٍ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ الْوَاحِدِيَّ قَالَ : أَلَّفَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي كِتَابًا سَمَّاهُ " حَقَائِقُ التَّفْسِيرِ " إنْ صَحَّ عَنْهُ فَقَدْ كَفَرَ وَوَقَفْت عَلَى هَذَا الْكِتَابِ فَوَجَدْت كَلَامَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنْهُ أَوْ مَا شَابَهَهُ فَمَا رَأْيُ سَيِّدِي فِي ذَلِكَ ؟ وَهَلْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِلْقُرْآنِ بَاطِنٌ } الْحَدِيثُ يُفَسِّرُونَهُ عَلَى مَا يَرَوْنَهُ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَمَوَاجِيدِهِمْ الْمَرْدُودَةِ شَرْعًا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلَقَةِ الَّتِي لَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ ؛ وَلَكِنْ يُرْوَى عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ مَوْقُوفًا أَوْ مُرْسَلًا { إنَّ لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَحَدًّا وَمَطْلَعًا } وَقَدْ شَاعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ : " عِلْمُ الظَّاهِرِ وَعِلْمُ الْبَاطِنِ " و " أَهْلُ الظَّاهِرِ وَأَهْلُ الْبَاطِنِ " . وَدَخَلَ فِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ حَقٌّ وَبَاطِلٌ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لَكِنْ نَذْكُرُ هُنَا جُمَلًا مِنْ ذَلِكَ فَنَقُولُ : قَوْلُ الرَّجُلِ : " الْبَاطِنُ " إمَّا أَنْ يُرِيدَ عِلْمَ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ مِثْلَ الْعِلْمِ بِمَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعِلْمِ بِالْغُيُوبِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعِلْمَ الْبَاطِنَ أَيْ الَّذِي يَبْطُنُ عَنْ فَهْمِ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ عَنْ فَهْمِ مَنْ وَقَفَ مَعَ الظَّاهِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِلْمَ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالظَّاهِرِ كَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَاطِنِ كَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَمِنْهُ مَا هُوَ عِلْمٌ بِالشَّهَادَةِ وَهُوَ مَا يَشْهَدُهُ النَّاسُ بِحَوَاسِّهِمْ وَمِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْغَيْبِ وَهُوَ مَا غَابَ عَنْ إحْسَاسِهِمْ . وَأَصْلُ الْإِيمَانِ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الم } { ذَلِكَ
الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } وَالْغَيْبُ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْأُمُورِ الْعَامَّةِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ ؛ فَإِنَّ وَصْفَ الرِّسَالَةِ هُوَ مِنْ الْغَيْبِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } . وَالْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْقُلُوبِ . - كَالْعِلْمِ بِالِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَالْإِرَادَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَالْعِلْمِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَخَشْيَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالْحُبِّ فِيهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ وَالرِّضَا بِحُكْمِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالْعِلْمِ بِمَا يُحْمَدُ وَيُذَمُّ مِنْ أَخْلَاقِ النُّفُوسِ كَالسَّخَاءِ وَالْحَيَاءِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأُمُورِ بَاطِنَةٍ فِي الْقُلُوبِ وَنَحْوِهِ - قَدْ يُقَالُ : لَهُ : " عِلْمُ الْبَاطِنِ " أَيْ عِلْمٌ بِالْأَمْرِ الْبَاطِنِ فَالْمَعْلُومُ هُوَ الْبَاطِنُ وَأَمَّا الْعِلْمُ الظَّاهِرُ فَهُوَ ظَاهِرٌ يُتَكَلَّمُ بِهِ وَيُكْتَبُ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَأَتْبَاعُهُمْ بَلْ غَالِبُ آيِ الْقُرْآنِ هُوَ مِنْ هَذَا
الْعِلْمِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ { وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } . بَلْ هَذَا الْعِلْمُ هُوَ الْعِلْمُ بِأُصُولِ الدِّينِ ؛ فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْقَلْبِ أَصْلٌ لِقَوْلِ اللِّسَانِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ أَصْلٌ لِعَمَلِ الْجَوَارِحِ وَالْقَلْبُ هُوَ مَلِكُ الْبَدَنِ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِمَا يُصْلِحُ بَاطِنَهُ وَيُفْسِدُهُ وَلَمْ يَقْصِدْ صَلَاحَ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ وَدَفْعِ النِّفَاقِ كَانَ مُنَافِقًا إنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُظْهِرُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَهُوَ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } وَكَلَامُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الْإِجَارَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْحَيْضِ وَالطَّهَارَةِ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْعِلْمَ ظَاهِرٌ مَوْجُودٌ مَقُولٌ بِاللِّسَانِ مَكْتُوبٌ فِي الْكُتُبِ ؛ وَلَكِنْ مَنْ كَانَ بِأُمُورِ الْقَلْبِ أَعْلَمَ كَانَ أَعْلَمَ بِهِ وَأَعْلَمَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ . وَعَامَّةُ النَّاسِ يَجِدُونَ هَذِهِ الْأُمُورَ فِي أَنْفُسِهِمْ ذَوْقًا وَوَجْدًا فَتَكُونُ
مَحْسُوسَةً لَهُمْ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ ؛ لَكِنَّ النَّاسَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ مُتَفَاضِلُونَ تَفَاضُلًا عَظِيمًا فَأَهْلُ الطَّبَقَةِ الْعُلْيَا يَعْلَمُونَ حَالَ أَهْلِ السُّفْلَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ كَمَا أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَنْزِلُ الْأَعْلَى إلَى الْأَسْفَلِ وَلَا يَصْعَدُ الْأَسْفَلُ إلَى الْأَعْلَى وَالْعَالِمُ يَعْرِفُ الْجَاهِلَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلًا وَالْجَاهِلُ لَا يَعْرِفُ الْعَالِمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا ؛ فَلِهَذَا كَانَ فِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنَةِ وَحَقَائِقِ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ مَا لَا يَعْرِفُهُ إلَّا خَوَاصُّ النَّاسِ فَيَكُونُ هَذَا الْعِلْمُ بَاطِنًا مِنْ جِهَتَيْنِ : مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْمَعْلُومِ بَاطِنًا وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْعِلْمِ بَاطِنًا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ . ثُمَّ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْعِلْمِ يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَا لَا يَدْخُلُ فِي غَيْرِهِ فَمَا وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ كَالْكَلَامِ فِي الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْعِلْمِ الْبَاطِنِ الْعِلْمُ الَّذِي يَبْطُنُ عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ أَوْ عَنْ بَعْضِهِمْ فَهَذَا عَلَى نَوْعَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " بَاطِنٌ يُخَالِفُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ . و " الثَّانِي " لَا يُخَالِفُهُ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ ؛ فَمَنْ ادَّعَى عِلْمًا بَاطِنًا أَوْ عِلْمًا بِبَاطِنِ وَذَلِكَ يُخَالِفُ الْعِلْمَ الظَّاهِرَ كَانَ مُخْطِئًا إمَّا مُلْحِدًا زِنْدِيقًا وَإِمَّا جَاهِلًا ضَالًّا . وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ الظَّاهِرِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا فَإِنَّ الْبَاطِنَ إذَا لَمْ يُخَالِفْ الظَّاهِرَ لَمْ يُعْلَمْ بُطْلَانُهُ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَتِهِ لِلظَّاهِرِ الْمَعْلُومِ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ قُبِلَ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ رُدَّ وَإِلَّا أُمْسِكَ عَنْهُ وَأَمَّا الْبَاطِنُ الْمُخَالِفُ لِلظَّاهِرِ الْمَعْلُومِ فَمِثْلُ مَا يَدَّعِيهِ الْبَاطِنِيَّةُ الْقَرَامِطَةُ مِنْ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغُلَاةِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين . وَشَرُّ هَؤُلَاءِ الْقَرَامِطَةُ فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ لِلْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ بَاطِنًا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ ؛ فَيَقُولُونَ : " الصَّلَاةُ " الْمَأْمُورُ بِهَا لَيْسَتْ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَوْ هَذِهِ الصَّلَاةَ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَا الْعَامَّةُ وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَالصَّلَاةُ فِي حَقِّهِمْ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِنَا و " الصِّيَامُ " كِتْمَانُ أَسْرَارِنَا و " الْحَجُّ " السَّفَر إلَى زِيَارَةِ شُيُوخِنَا الْمُقَدَّسِينَ وَيَقُولُونَ : إنَّ " الْجَنَّةَ " لِلْخَاصَّةِ : هِيَ التَّمَتُّعُ فِي الدُّنْيَا بِاللَّذَّاتِ و " النَّارُ " هِيَ الْتِزَامُ الشَّرَائِعِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ أَثْقَالِهَا وَيَقُولُونَ : إنَّ " الدَّابَّةَ " الَّتِي يُخْرِجُهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ هِيَ الْعَالِمُ النَّاطِقُ بِالْعِلْمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَإِنَّ " إسْرَافِيلَ " الَّذِي يَنْفُخُ فِي الصُّورِ هُوَ الْعَالِمُ الَّذِي يَنْفُخُ بِعِلْمِهِ فِي الْقُلُوبِ حَتَّى تَحْيَا و " جِبْرِيلُ " هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ الَّذِي تَفِيضُ عَنْهُ الْمَوْجُودَاتُ و " الْقَلَمُ " هُوَ الْعَقْلُ الْأَوَّلُ