الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
وَذَكَرَ الْقَوْلَ الْحَقَّ فِي الْمَسِيحِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ بِتَثْلِيثِهِمْ وَكَفَرُوا بِرُسُلِهِ بِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ . فَكَفَرُوا بِأَصْلَيْ الْإِسْلَامِ الْعَامِّ الَّتِي هِيَ الشَّهَادَةُ لِلَّهِ بالوحدانية فِي الْأُلُوهِيَّةِ وَالشَّهَادَةِ لِلرُّسُلِ بِالرِّسَالَةِ وَذَكَرَ أَنَّ الْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ الْمَلَائِكَةَ أَوْلَادَهُ كَالْمَسِيحِ وَعَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ .
وَلِهَذَا قَالَ : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } فَذَكَرَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ جَمِيعًا . وَقَدْ نَفَى فِي كِتَابِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْوِلَادَةَ وَنَفَى اتِّخَاذَ الْوَلَدِ جَمِيعًا . فَقَالَ : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ } الْآيَةَ وَقَالَ : { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } وَقَالَ : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ } { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ } { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } { أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً
مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ } { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } وَقَالَ : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاَلَّذِينَ قَالُوا : وَلَدَ اللَّهُ ؛ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَاَلَّذِينَ قَالُوا : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ : لَمْ يُرِدْ عُقَلَاؤُهُمْ وِلَادَةً حِسِّيَّةً مِنْ جِنْسِ وِلَادَةِ الْحَيَوَانِ بِانْفِصَالِ جُزْءٍ مِنْ ذَكَرِهِ فِي أُنْثَاهُ يَكُونُ مِنْهُ الْوَلَدُ . فَإِنَّ النَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ مَا أَظُنُّ عُقَلَاؤُهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَصَفُوا الْوِلَادَةَ الْعَقْلِيَّةَ الرُّوحَانِيَّةَ مِثْلَ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى : إنَّ الْجَوْهَرَ الَّذِي هُوَ اللَّهُ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْكَلِمَةُ مِنْ وَجْهٍ تَدَرَّعَتْ بِإِنْسَانِ مَخْلُوقٍ مِنْ مَرْيَمَ فَيَقُولُونَ تَدَرَّعَ اللَّاهُوتُ بِالنَّاسُوتِ فَظَاهِرُهُ - وَهُوَ الدِّرْعُ وَالْقَمِيصُ - بَشَرٌ وَبَاطِنُهُ - وَهُوَ الْمُتَدَرِّعُ - لَاهُوتٌ هُوَ الِابْنُ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ لِتَوَلُّدِ هَذَا مِنْ الْأَبِ الَّذِي هُوَ جَوْهَرُ الْوُجُودِ.
فَهَذِهِ الْبُنُوَّةُ مُرَكَّبَةٌ عِنْدَهُمْ مِنْ أَصْلَيْنِ : :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْجَوْهَرَ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ تُولَدُ مِنْ الْجَوْهَرِ الَّذِي هُوَ الْأَبُ كَتَوَلُّدِ الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ مِنْ الْعَالِمِ الْقَائِلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْجَوْهَرَ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ وَتَدَرَّعَ بِهِ وَذَلِكَ الْجَوْهَرُ هُوَ الْأَبُ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الِابْنُ مِنْ وَجْهٍ . فَلِهَذَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ تَارَةً أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ . وَتَارَةً أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَأَمَّا حِكَايَتُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنْ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ فَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ : اللَّهُ وَالْمَسِيحُ وَأُمُّهُ كَمَا قَالَ : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } وَلِهَذَا قَالَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أَيْ غَايَةُ الْمَسِيحِ الرِّسَالَةُ وَغَايَةُ أُمِّهِ : الصديقية لَا يَبْلُغَانِ إلَى اللَّاهُوتِيَّةِ ؛ فَهَذَا حُجَّةُ هَذَا . وَهُوَ ظَاهِرٌ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَقَانِيمُ الثَّلَاثَةُ وَهِيَ الْأَبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ . فَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فَإِنَّ قَوْلَهُ : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أَيْ مُبْدِعُهُمَا كَمَا ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْبَقَرَةِ ؛ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا بَدِيعَةٌ سَمَاوَاتُهُ وَأَرْضُهُ كَمَا تَحْتَمِلُهُ الْعَرَبِيَّةُ لَوْلَا السِّيَاقُ . لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ مَا زَعَمُوهُ مَنْ خَرْقِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ لَهُ وَمِنْ كَوْنِهِ اتَّخَذَ وَلَدًا .
وَهَذَا يَنْتَفِي بِضِدِّهِ كَوْنُهُ أَبْدَعَ السَّمَوَاتِ ثُمَّ قَالَ : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } وَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَدِلَّةٍ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ . أَحَدُهَا : كَوْنُهُ لَيْسَ لَهُ صَاحِبَةٌ ؛ فَهَذَا نَفْيُ الْوِلَادَةِ الْمَعْهُودَةِ : وَقَوْلُهُ : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } نَفْيٌ لِلْوِلَادَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَهِيَ التَّوَلُّدُ ؛ لِأَنَّ خَلْقَ كُلِّ شَيْءٍ يُنَافِي تَوَلُّدَهَا عَنْهُ . وَقَوْلُهُ : { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } يُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ لَمَّا ادَّعَتْ النَّصَارَى أَنَّ الْمُتَّحِدَ بِهِ هُوَ الْكَلِمَةُ الَّتِي يُفَسِّرُونَهَا بِالْعِلْمِ وَالصَّابِئَةُ الْقَائِلُونَ بِالتَّوَلُّدِ وَالْعِلَّةِ لَا يَجْعَلُونَهُ عَالِمًا بِكُلِّ شَيْءٍ - ذَكَرَ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَهُ رَدًّا عَلَى الصَّابِئَةِ وَنَفْيِهَا عَنْ غَيْرِهِ رَدًّا عَلَى النَّصَارَى . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ مَنْ قَالَ بِتَوَلُّدِ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ - الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ - أَظْهَرُ فِي كَوْنِهِمْ يَقُولُونَ إنَّهُ وَلَدَ الْمَلَائِكَةَ وَأَنَّهُمْ بَنُوهُ وَبَنَاتُهُ فَالْعُقُولُ بَنُوهُ وَالنُّفُوسُ بَنَاتُهُ : مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى . وَدَخَلَ فِي هَذَا مَنْ تَفَلْسَفَ مِنْ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى أَنِّي أَعْرِفُ كَبِيرًا لَهُمْ سُئِلَ عَنْ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ : فَقَالَ بِمَنْزِلَةِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى . فَقَدْ جَعَلَهُمْ كَالِابْنِ وَالْبِنْتِ وَهُمْ يَجْعَلُونَهُمْ متولدين عَنْهُ تَوَلُّدَ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ ؛ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفُكَّ ذَاتَهُ عَنْ مَعْلُولِهِ وَلَا مَعْلُولَهُ عَنْهُ كَمَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْصِلَ نَفْسَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ شُعَاعِ الشَّمْسِ مَعَ الشَّمْسِ وَأَبْلَغَ .
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ الَّتِي وَلَدَهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْأَفْلَاكِ : الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ كَاتِّصَالِ اللَّاهُوتِ بِجَسَدِ الْمَسِيحِ فَيَعْبُدُونَهَا كَمَا عَبَدَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحَ إلَّا أَنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ؛ وَهُمْ أَحَقُّ بِالشِّرْكِ مِنْ النَّصَارَى ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ اللَّهِ وَلَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَلَا صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ وَالنَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مَا يَعْبُدُونَ إلَّا مَا اتَّحَدَ بِاَللَّهِ لَا لِمَا وَلَدَهُ مِنْ الْمَعْلُولَاتِ . ثُمَّ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ وَالْكَوَاكِبَ وَأَرْوَاحَ الْبَشَرِ وَأَجْسَادَهُمْ : اتَّخَذَ الْأَصْنَامَ عَلَى صُوَرِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ أَسْبَابِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ . وَلِهَذَا كَانَ الْخَلِيلُ إمَامُ الْحُنَفَاءِ : مُخَاطِبًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَاَلَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مَعَ إشْرَاكِهِمْ وَاعْتِرَافِهِمْ بِأَصْلِ الْجَمِيعِ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّتَهُمْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَأُولَئِكَ هُمْ الصَّابِئُونَ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ مَلَكَهُمْ نمروذ . وَعُلَمَاؤُهُمْ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الْيُونَانِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ الَّذِينَ كَانُوا بِأَرْضِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا وَجَزَائِرِ الْبَحْرِ قَبْلَ النَّصَارَى وَكَانُوا بِهَذِهِ الْبِلَادِ فِي أَيَّامِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ بَنِي إسْرَائِيلَ فَيَغْلِبُونَ تَارَةً وَيُغْلَبُونَ تَارَةً وسنحاريب وبختنصر وَنَحْوُهُمَا : هُمْ مُلُوكُ الصَّابِئَةِ بَعْدَ الْخَلِيلِ . والنمروذ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ .
فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الرَّدِّ لِمَقَالَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيهَا : مِنْ إثْبَاتِ الْوِلَادَةِ لِلَّهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَفْهَمُ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَاتِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى شَيْئَيْنِ : إلَى تَصَوُّرِ مَقَالَتِهِمْ بِالْمَعْنَى لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ وَإِلَى تَصَوُّرِ مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا . فَتَجِدُ الْمَعْنَى الَّذِي عَنَوْهُ قَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى ذِكْرِهِ وَإِبْطَالِهِ . وَأَمَّا اتِّحَادُ الْوَلَدِ فَيُفَسَّرُ بِعَيْنِ الْوِلَادَةِ . وَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ لَا مِنْ بَابِ الصِّفَاتِ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ .
فَصْلٌ :
فَهَذَا نَفْيُ كَوْنِهِ - سُبْحَانَهُ - وَالِدًا لِشَيْءِ أَوْ مُتَّخِذًا لِشَيْءِ وَلَدًا بِأَيِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْوِلَادَةِ أَوْ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ أَيًّا كَانَ . وَأَمَّا نَفْيُ كَوْنِهِ مَوْلُودًا : فَيَتَضَمَّنُ نَفْيَ كَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ التَّوَالُدِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ وَسَائِرَ مَا تَوَلَّدَ مَنْ غَيْرِهِ : فَهُوَ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ . وَرَدٌّ عَلَى الدَّجَّالِ الَّذِي يَقُولُ : أَنَّهُ اللَّهُ وَرَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ فِي بَشَرٍ : أَنَّهُ اللَّهُ مِنْ غَالِيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي عَلِيٍّ وَبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ أَوْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ كَمَا قَالَ قَوْمٌ ذَلِكَ فِي عَلِيٍّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَالُوهُ فِي الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا وَقَالَهُ قَوْمٌ فِي الْحَلَّاجِ وَقَوْمٌ فِي الْحَاكِمِ بِمِصْرِ وَقَوْمٌ فِي الشَّيْخِ عَدِيٍّ وَقَوْمٌ فِي يُونُسَ القنيني وَقَوْمٌ يَعُمُّونَهُ فِي الْمَشَايِخِ وَيُصَوِّبُونَ هَذَا كُلَّهُ . فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَمْ يُولَدْ } نَفْيٌ لِهَذَا كُلِّهِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ مَوْلُودُونَ ؛ وَاَللَّهُ لَمْ يُولَدْ . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْمَسِيحَ فِي الْقُرْآنِ قَالَ : ابْنُ مَرْيَمَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَقَوْلِهِ : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ } وَقَوْلُهُ : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } وَقَوْلِهِ :
{ إذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ } وَقَوْلِهِ : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } وَقَوْلِهِ : { وَقَوْلِهِمْ إنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ } .
وَفِي ذَلِكَ فَائِدَتَانِ :
إحْدَاهُمَا : بَيَانٌ أَنَّهُ مَوْلُودٌ وَاَللَّهُ لَمْ يُولَدْ .
وَالثَّانِيَةُ : نِسْبَتُهُ إلَى مَرْيَمَ ؛ بِأَنَّهُ ابْنُهَا لَيْسَ هُوَ ابْنَ اللَّهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } فَإِنَّهُ حَكَى قَوْلَهُمْ الَّذِي قَالُوهُ وَهُمْ قَدْ نَسَبُوهُ إلَى اللَّهِ أَنَّهُ ابْنُهُ فَلَمْ يُضَمِّنُوا ذَلِكَ قَوْلَهُمْ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ . وَقَوْلُهُ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } نَفْيٌ لِلشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ جَعَلَ شَيْئًا كُفُوًا لِلَّهِ فِي شَيْءٍ مِنْ خَوَاصِّ الرُّبُوبِيَّةِ مِثْلُ خَلْقِ الْخَلْقِ وَالْإِلَهِيَّةِ ؛ كَالْعِبَادَةِ لَهُ وَدُعَائِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ نُكَتٌ تُبَيِّنُ اشْتِمَالَ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي أَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ الْإِلَهِيَّةَ ؛ بِاتِّحَادِ أَوْ حُلُولٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ : فَإِنَّهُمْ لَا يَقْتَصِرُونَ فِي كُفْرِهِمْ عَلَى أَنَّهُ وَلَدَ شَيْئًا أَوْ اتَّخَذَ وَلَدًا أَوْ أَنَّهُ بَشَرٌ مَوْلُودٌ ؛ لِاتِّحَادِ الرَّبِّ بِهِ . فَإِنَّ هَذَا جَمِيعَهُ يَقْتَضِي إثْبَاتَ شَيْئَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ اتَّحَدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ أَوْ حَلَّ فِيهِ وَهَذَا إنَّمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُ بِالِاتِّحَادِ الْخَاصِّ الْمُقَيَّدِ أَوْ الْحُلُولِ الْخَاصِّ الْمُقَيَّدِ . وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ مَا ثَمَّ غَيْرُهُ وَلَا سِوَاهُ وَلَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا وَلَا هُوَ رَبُّ شَيْءٍ وَلَا مَالِكُ شَيْءٍ وَلَا لَهُ عَبْدٌ وَلَا عَابِدٌ وَلَا دَاعٍ يَدْعُوهُ فَيُجِيبُهُ وَلَا مُضْطَرٌّ يَضْطَرُّ إلَيْهِ فَيُجِيبُهُ وَلَا سَائِلٌ يَسْأَلُهُ فَيُجِيبُهُ وَإِنَّمَا يَشْهَدُ الْعَبْدُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ ؛ إذَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ شُهُودِ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي خَيَالِهِ . فَإِذَا انْكَشَفَ حِجَابُ قَلْبِهِ عِنْدَهُمْ : رَأَى مَا ثَمَّ اثْنَيْنِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ حَتَّى يَكُونَ أَحَدُهُمَا خَالِقًا وَالْآخَرُ مَخْلُوقًا أَوْ أَحَدُهُمَا عَابِدًا وَالْآخَرُ رَبًّا أَوْ أَحَدُهُمَا وَالِدًا وَالْآخَرُ مَوْلُودًا أَوْ أَحَدُهُمَا شَرِيكًا لِلْآخَرِ أَوْ شَفِيعًا عِنْدَهُ حَتَّى يَتَقَرَّبَ بِعِبَادَتِهِ إلَيْهِ .
وَهَذَا قَوْلُ الْحُذَّاقِ مِنْهُمْ كالتلمساني وَابْنِ الْفَارِضِ ؛ والتلمساني أَعْرَفُ بِحَقَائِقِ قَوْلِهِمْ .
وَأَمَّا ابْنُ عَرَبِيٍّ فَيَقُولُ : هَذَا كُلُّهُ فِي الذَّوَاتِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ لَا فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فَأَمَّا الْوُجُودُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ رَبٌّ وَعَبْدٌ وَخَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ وَدَاعٍ وَمُجِيبٌ وَإِنَّمَا الْوُجُودُ لَمَّا فَاضَ عَلَى الْأَعْيَانِ فَظَهَرَ فِيهَا حَصَلَ التَّفَرُّقُ مِنْ جِهَةِ الْأَعْيَانِ ؛ كَتَفَرُّقِ النُّورِ فِي الزُّجَاجِ ؛ لِاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ . فَهَؤُلَاءِ ؛ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ لَا تُحْصَى وَقِصَصِ اللَّهِ الَّتِي قَصَّهَا عَنْ فِرْعَوْنَ الَّذِي هُوَ رَئِيسُهُمْ : يَتَضَمَّنُ الرَّدَّ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ أَنْكَرَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ يَكُونَ لِمُوسَى إلَهٌ يَطَّلِعُ إلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْ هَذَا الْوُجُودَ الَّذِي هُوَ الْعَالَمُ . وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ : إنَّمَا يُقِرُّونَ بِهَذَا الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ هَذَا الْعَالَمُ فَمَا ثَمَّ غَيْرُهُ عِنْدَهُمْ وَيَقُولُونَ : هُوَ اللَّهُ وَهُوَ الْإِنْسَانُ الْكَبِيرُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مِنْ أَحْمَدَ ابْنِ تَيْمِيَّة : إلَى الشَّيْخِ الْعَارِفِ الْقُدْوَةِ السَّالِكِ النَّاسِكِ أَبِي الْفَتْحِ نَصْرٍ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ مَا فَتَحَ بِهِ عَلَى قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ وَنَصَرَهُ عَلَى شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي جَهْرِهِ وَإِخْفَائِهِ وَنَهَجَ بِهِ الطَّرِيقَةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ الْمُوَافِقَةَ لِشِرْعَتِهِ وَكَشَفَ بِهِ الْحَقِيقَةَ الدِّينِيَّةَ الْمُمَيَّزَةَ بَيْنَ خَلْقِهِ وَطَاعَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ ؛ حَتَّى يَظْهَرَ لِلنَّاسِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَلِمَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالْكَلِمَاتِ الدِّينِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ الصَّالِحِينَ وَمَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ كَمَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ .
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَنْعَمَ عَلَى الشَّيْخِ وَأَنْعَمَ بِهِ نِعْمَةً بَاطِنَةً وَظَاهِرَةً فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَجَعَلَ لَهُ عِنْدَ خَاصَّةِ الْمُسْلِمِينَ - الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا - مَنْزِلَةً عَلِيَّةً وَمَوَدَّةً إلَهِيَّةً ؛ لِمَا مَنَحَهُ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ حُسْنِ الْمَعْرِفَةِ وَالْقَصْدِ فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ أَصْلٌ لِطَرِيقِ الْهُدَى وَالْعِبَادَةِ . وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْمَلِ مَحَبَّةٍ فِي أَكْمَلِ مَعْرِفَةٍ فَأَخْرَجَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - الَّتِي هِيَ أَصْلُ الْأَعْمَالِ - الْمَحَبَّةَ الَّتِي فِيهَا إشْرَاكٌ وَإِجْمَالٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } . وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلذَّوْقِ الْإِيمَانِيِّ وَالْوَجْدِ الدِّينِيِّ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } فَجَعَلَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُودَ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ مُعَلَّقًا بِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْفَاضِلَةِ وَبِالْمَحَبَّةِ فِيهِ فِي اللَّهِ وَبِكَرَاهَةِ ضِدِّ الْإِيمَانِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ الْعَبَّاسِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا }
فَجَعَلَ ذَوْقَ طَعْمِ الْإِيمَانِ مُعَلَّقًا بِالرِّضَى بِهَذِهِ الْأُصُولِ كَمَا جَعَلَ الْوَجْدَ مُعَلَّقًا بِالْمَحَبَّةِ ؛ لِيُفَرِّقَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَثَمَرَةُ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَبَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ إذْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا فَلَهُ ذَوْقٌ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ . وَلِهَذَا طَالَبَ اللَّهُ تَعَالَى مُدَّعِي مَحَبَّتِهِ بِقَوْلِهِ : { إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : ادَّعَى قَوْمٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّهَ ؛ فَطَالَبَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَجَعَلَ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ مُوجِبَةً لِمُتَابَعَةِ رَسُولِهِ وَجَعَلَ مُتَابَعَةَ رَسُولِهِ مُوجِبَةً لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ عَبْدَهُ . وَقَدْ ذَكَرَ نَعْتَ الْمُحِبِّينَ فِي قَوْلِهِ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } فَنَعَتَ الْمُحِبِّينَ الْمَحْبُوبِينَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ الَّذِي نَعَتَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ الْجَامِعِ بَيْنَ مَعْنَى الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ الْمُفَرِّقِ فِي الْمِلَّتَيْنِ قَبْلَنَا : وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالْعِزَّةُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَالذِّلَّةُ وَالرَّحْمَةُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَهُ وَجْدٌ وَحُبٌّ مُجْمَلٌ مُطْلَقٌ كَمَا قَالَ فِيهِ كَبِيرٌ مِنْ كُبَرَائِهِمْ :
مُشَرَّدٌ عَنْ الْوَطَنِ * * * مُبْعَدٌ عَنْ السَّكَنِ
يَبْكِي الطُّولُ والدمن * * * يَهْوِي وَلَا يَدْرِي لِمَنْ
فَالشَّيْخُ - أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْهِ - قَدْ جَعَلَ اللَّهَ فِيهِ مِنْ النُّورِ وَالْمَعْرِفَةِ - الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْمَحَبَّةِ وَالْإِرَادَةِ - مَا تَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَحَبَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْمُفَصَّلَةُ عَنْ الْمُجْمَلَةِ الْمُشْتَرِكَةُ وَكَمَا يَقَعُ هَذَا الْإِجْمَالُ فِي الْمَحَبَّةِ يَقَعُ أَيْضًا فِي التَّوْحِيدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أُمِّ الْكِتَابِ الَّتِي هِيَ مَفْرُوضَةٌ عَلَى الْعَبْدِ - وَوَاجِبَةٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ - أَنْ يَقُولَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ : نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي أَوْ قَالَ فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } . وَلِهَذَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ مَعَانِيَهَا فِي الْقُرْآنِ وَمَعَانِيَ الْقُرْآنِ فِي الْمُفَصَّلِ وَمَعَانِيَ الْمُفَصَّلِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَمَعَانِيَ
أُمِّ الْكِتَابِ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ ثناه اللَّهُ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } . { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي نُسُكِهِ : اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَلَك } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُسْتَحِقُّ التَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ دُعَاؤُهُ وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِي : دُعَاءُ الْعِبَادَةِ بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ وَالطَّاعَةِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَالْخَشْيَةِ وَالرَّجَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي تَأَلُّهِهِ وَعِبَادَتِهِ وَدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ وَالسُّؤَالِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُ سُبْحَانَهُ بِمُقْتَضَى رُبُوبِيَّتِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ . وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةِ فِي الْعِبَادَةِ بِاسْمِ اللَّهِ وَفِي السُّؤَالِ بِاسْمِ الرَّبِّ فَيَقُولُ الْمُصَلِّي وَالذَّاكِرُ : اللَّهُ أَكْبَرُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ ؛ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَكَلِمَاتُ الْأَذَانِ : اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إلَى آخِرِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَفِي السُّؤَالِ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } { رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ } { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } { رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَوَجِّهِينَ السَّالِكِينَ يَشْهَدُ فِي سُلُوكِهِ الرُّبُوبِيَّةَ والقيومية الْكَامِلَةَ الشَّامِلَةَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ ؛ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ قَائِمَةٌ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِيذُ بِهَا فَيَقُولُ : { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَنُ } . فَيَغِيبُ وَيَفْنَى بِهَذَا التَّوْحِيدِ الرَّبَّانِيِّ عَمَّا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَيْضًا وَمَطْلُوبٌ مِنْهُ وَهُوَ مَحْبُوبُ الْحَقِّ وَمُرْضِيهِ مِنْ التَّوْحِيدِ الْإِلَهِيِّ ؛ الَّذِي هُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَالْأَمْرُ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَالنَّهْيُ عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَالْحُبُّ فِيهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ هَذَا التَّوْحِيدِ وَأَخَذَ بِالْأَوَّلِ : فَهُوَ يُشْبِهُ الْقَدَرِيَّةَ المشركية الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا } . وَمَنْ أَخَذَ بِالثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ : فَهُوَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَلَا شَاءَ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ كَمَا تَقُولُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالرَّافِضَةُ وَيَقَعُ فِي ( كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ . وَالْأَوَّلُ ذَهَبَ إلَيْهِ طَوَائِفُ مِنْ الْإِبَاحِيَّةِ الْمُنْحَلِّينَ عَنْ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَإِنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ ذَلِكَ عِنْدَ أَهْوَائِهِمْ وَإِلَّا فَهُوَ لَا يَسْتَمِرُّ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمُتَأَلِّهَةِ
الْخَارِجِينَ عَنْ الشَّرِيعَةِ خَفْوِ الْعَدُوِّ (1) وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ لَهُمْ زهادات وَعِبَادَاتٍ فِيهَا مَا هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ فَيُفِيدُهُمْ أَحْوَالًا فِيهَا مَا هُوَ فَاسِدٌ يُشْبِهُونَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ الرُّهْبَانَ وَعُبَّادَ البدود . وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ : كَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ إذَا دَخَلُوا إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَمْسَكُوا وَأَنَا انْفَتَحَتْ لِي فِيهِ رَوْزَنَةً فَنَازَعْت أَقْدَارَ الْحَقِّ بِالْحَقِّ لِلْحَقِّ وَالْوَلِيُّ مَنْ يَكُونُ مُنَازِعًا لِلْقَدَرِ لَا مَنْ يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ تَكَلَّمَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَيْ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُورٌ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيَدْفَعُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابُهُ قَدْ قُدِّرَتْ فَيَدْفَعُ قَدَرَ اللَّهِ بِقَدَرِ اللَّهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَلْتَقِيَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ { قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ أَرَأَيْت أَدْوِيَةً نَتَدَاوَى بِهَا وَرُقًى نسترقي بِهَا وَتُقًى نَتَّقِيهَا هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ هُنَّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ } . وَإِلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَشَارَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِي أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ إنَّمَا هِيَ أَرْبَعٌ : وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك وَوَاحِدَةٌ بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي ؟ فَأَمَّا
الَّتِي لِي : فَتَعْبُدْنِي لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَأَمَّا الَّتِي لَك فَعَمَلُك أَجْزِيك بِهِ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إلَيْهِ وَأَمَّا الَّتِي هِيَ بَيْنِي وَبَيْنَك فَمِنْك الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَ خَلْقِي فَأْتِ إلَى النَّاسِ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَأْتُوهُ إلَيْك } .
ثُمَّ إنَّ التَّوْحِيدَ الْجَامِعَ لِتَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ أَوْ تَوْحِيدِ أَحَدِهِمَا : لِلْعَبْدِ فِيهِ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ :
أَحَدُهَا : مَقَامُ الْفَرْقِ وَالْكَثْرَةِ بِإِنْعَامِهِ مِنْ كَثْرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَأْمُورَاتِ .
وَالثَّانِي : مَقَامُ الْجَمْعِ وَالْفَنَاءِ بِحَيْثُ يَغِيبُ بِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ . وَبِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمُوَحِّدِهِ عَنْ تَوْحِيدِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْره وَبِمَحْبُوبِهِ عَنْ حُبِّهِ ؛ فَهَذَا فَنَاءٌ عَنْ إدْرَاكِ السَّوِيِّ وَهُوَ فَنَاءُ الْقَاصِرِينَ . وَأَمَّا الْفَنَاءُ الْكَامِلُ الْمُحَمَّدِيُّ : فَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ عِبَادَةِ السَّوِيِّ وَالِاسْتِعَانَةِ بِالسَّوِيِّ وَإِرَادَةِ وَجْهِ السَّوِيِّ وَهَذَا فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ وَهُوَ شُهُودُ التَّفْرِقَةِ فِي الْجَمْعِ وَالْكَثْرَةِ فِي الْوَحْدَةِ فَيَشْهَدُ قِيَامَ الْكَائِنَاتِ مَعَ تَفَرُّقِهَا بِإِقَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَرُبُوبِيَّتِهِ . وَيَرَى أَنَّهُ مَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا رَبِّي آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وَأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ وَنَوَاصِيَهُمْ بِيَدِهِ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ وَلَا مُعْطِيَ وَلَا مَانِعَ وَلَا حَافِظَ وَلَا مُعِزَّ وَلَا مُذِلَّ سِوَاهُ ؛ وَيَشْهَدُ أَيْضًا
فِعْلَ الْمَأْمُورَاتِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَتَرْكَ الشُّبُهَاتِ مَعَ كَثْرَتِهَا لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهَذَا هُوَ الدِّينُ الْجَامِعُ الْعَامُّ الَّذِي اشْتَرَكَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْإِسْلَامُ الْعَامُّ وَالْإِيمَانُ الْعَامُّ ؛ وَبِهِ أُنْزِلَتْ السُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ ؛ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَبِقَوْلِهِ : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ عَلَيْهِ بَابَ مَا جَاءَ أَنَّ دِينَ الْأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } فَجَمَعَ فِي الْمِلَلِ الْأَرْبَعِ : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } وَذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ . وَخَصَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ الْإِيمَانُ الْخَاصُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي قَالَ فِيهِ : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } وَالشِّرْعَةُ هِيَ الشَّرِيعَةُ وَالْمِنْهَاجُ هُوَ الطَّرِيقَةُ وَالدِّينُ الْجَامِعُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الدِّينِيَّةُ وَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ فَالْحَقِيقَةُ الْمَقْصُودَةُ الدِّينِيَّةُ الْمَوْجُودَةُ الْكَوْنِيَّةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ .
فَأَمَّا الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ الْإِسْلَامِيَّانِ فَهُوَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } وَبِهَا أُنْزِلَتْ السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ ؛ إذْ فِي الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ شُرِّعَتْ الشَّرَائِعُ وَسُنَّتْ السُّنَنُ وَنَزَلَتْ الْأَحْكَامُ وَالْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ .
فَهَذَا التَّوْحِيدُ : هُوَ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَإِلَيْهِ تُشِيرُ مَشَايِخُ الطَّرِيقَةِ وَعُلَمَاءُ الدِّينِ لَكِنَّ بَعْضَ ذَوِي الْأَحْوَالِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ فِي حَالِ الْفَنَاءِ الْقَاصِرِ سُكْرٌ وَغَيْبَةٌ عَنْ السَّوِيِّ وَالسُّكْرِ وُجِدَ بِلَا تَمْيِيزٍ . فَقَدْ يَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالِ : سُبْحَانِي أَوْ مَا فِي الْجُبَّةِ إلَّا اللَّهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تُؤْثَرُ عَنْ أَبِي يَزِيدَ البسطامي أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَصِحَّاءِ وَكَلِمَاتُ السَّكْرَانِ تُطْوَى وَلَا تُرْوَى وَلَا تُؤَدَّى ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ سُكْرُهُ بِسَبَبِ مَحْظُورٍ مِنْ عِبَادَةٍ أَوْ وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ . فَأَمَّا إذَا كَانَ السَّبَبُ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ السَّكْرَانُ مَعْذُورًا لَا فَرْقَ فِي ذَاكَ بَيْنَ السُّكْرِ الْجُسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ ؛ فَسُكْرُ الْأَجْسَامِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَسُكْرُ النُّفُوسِ بِالصُّوَرِ وَسُكْرُ الْأَرْوَاحِ بِالْأَصْوَاتِ . وَفِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ : غَلِطَ مَنْ غَلِطَ بِدَعْوَى الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ الْعَيْنِيِّ فِي مِثْلِ دَعْوَى النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَدَعْوَى الْغَالِيَةِ فِي عَلِيٍّ وَأَهْلِ الْبَيْتِ وَدَعْوَى قَوْمٍ مِنْ الْجُهَّالِ الْغَالِيَةِ فِي مِثْلِ الْحَلَّاجِ أَوْ الْحَاكِمِ بِمِصْرِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَرُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الِاتِّحَادُ النَّوْعِيُّ الْحُكْمِيُّ بِالِاتِّحَادِ الْعَيْنِيِّ الذَّاتِيِّ .
فَالْأَوَّلُ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ : عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ مَرِضَ عَبْدِي فُلَانٌ ؛ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ . عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي فَيَقُولُ رَبِّي : كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا جَاعَ ؛ فَلَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي } . فَفَسَّرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ جُوعُ عَبْدِهِ وَمَحْبُوبِهِ لِقَوْلِهِ : { لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي } وَلَمْ يَقُلْ لَوَجَدْتنِي قَدْ أَكَلْته وَلِقَوْلِهِ : { لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ } وَلَمْ يَقُلْ لَوَجَدْتنِي إيَّاهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُحِبَّ يَتَّفِقُ هُوَ وَمَحْبُوبُهُ بِحَيْثُ يَرْضَى أَحَدُهُمَا بِمَا يَرْضَاهُ الْآخَرُ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُبْغِضُ مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَرْضَى الْحَقُّ لِرِضَاهُمْ وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ وَالْكَامِلُ الْمُطْلَقُ فِي هَؤُلَاءِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِيهِ : { إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } وَقَالَ : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } وَقَالَ { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } . " وَقَدْ جَاءَ فِي الْإِنْجِيلِ الَّذِي بِأَيْدِي النَّصَارَى كَلِمَاتٌ مُجْمَلَةٌ إنْ صَحَّ أَنَّ الْمَسِيحَ قَالَهَا فَهَذَا مَعْنَاهَا كَقَوْلِهِ أَنَا وَأَبِي وَاحِدٌ . مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى أَبِي " وَنَحْوِ ذَلِكَ
وَبِهَا ضَلَّتْ النَّصَارَى حَيْثُ اتَّبَعُوا الْمُتَشَابِهَ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَاظَرُوهُ فِي الْمَسِيحِ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي } فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ إذَا تَقَرَّبَ إلَيْهِ الْعَبْدُ بِالنَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ بَعْدَ الْفَرَائِضِ أَحَبَّهُ الْحَقُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَقَدْ غَلِطَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا قُرْبُ النَّوَافِلِ وَأَنَّ قُرْبَ الْفَرَائِضِ أَنْ يَكُونَ هُوَ إيَّاهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ فَهَذَا الْقُرْبُ يَجْمَعُ الْفَرَائِضَ وَالنَّوَافِلَ ؛ فَهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا يُشْبِهُهَا هِيَ أُصُولُ مَذْهَبِ أَهْلِ الطَّرِيقَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ . وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ ذَكَرَ عِنْدَ خِدْمَتِكُمْ الْكَلَامَ فِي مَذْهَبِ الِاتِّحَادِيَّةِ وَكُنْت قَدْ كَتَبْت إلَى خِدْمَتِكُمْ كِتَابًا اقْتَضَى الْحَالُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ أَنْ أَشَرْت فِيهِ إشَارَةً لَطِيفَةً إلَى حَالِ هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَكُنْ الْقَصْدُ بِهِ وَاَللَّهِ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا الشَّيْخُ هُوَ مَجْمَعُ الْمُؤْمِنِينَ فَعَلَيْنَا أَنْ نُعِينَهُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِمَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ فَقَدْ أَرْسَلَ إلَى الدَّاعِي مَنْ طَلَبَ كَشْفَ حَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ .
وَقَدْ كَتَبْت فِي ذَلِكَ كِتَابًا رُبَّمَا يُرْسَلُ إلَى الشَّيْخِ وَقَدْ كَتَبَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ عِمَادُ الدِّينِ فِي ذَلِكَ رَسَائِلَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ - وَكَفَى بِهِ عَلِيمًا - لَوْلَا أَنِّي أَرَى دَفْعَ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ عَنْ أَهْلِ طَرِيقِ اللَّهِ تَعَالَى السَّالِكِينَ إلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ - وَهُوَ شَبِيهٌ بِدَفْعِ التَّتَارِ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ - لَمْ يَكُنْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ حَاجَةٌ إلَى أَنْ تُكْشَفَ أَسْرَارُ الطَّرِيقِ وَتُهْتَكَ أَسْتَارُهَا ؛ وَلَكِنَّ الشَّيْخَ - أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ - يَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ بَلْ الْمَقْصُودَ بِخَلْقِ الْخَلْقِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ : أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَهُوَ دَعْوَةُ الْخَلَائِقِ إلَى خَالِقِهِمْ بِمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا } { وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } . وَهَؤُلَاءِ مَوَّهُوا عَلَى السَّالِكِينَ : التَّوْحِيدَ - الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْكُتُبَ وَبَعَثَ بِهِ الرُّسُلَ - بِالِاتِّحَادِ الَّذِي سَمَّوْهُ تَوْحِيدًا وَحَقِيقَتُهُ تَعْطِيلُ الصَّانِعِ وَجُحُودُ الْخَالِقِ . وَإِنَّمَا كُنْت قَدِيمًا مِمَّنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِابْنِ عَرَبِيٍّ وَيُعَظِّمُهُ : لِمَا رَأَيْت فِي كُتُبِهِ مِنْ الْفَوَائِدِ مِثْلِ كَلَامِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ " الْفُتُوحَاتِ " " والكنة " " وَالْمُحْكَمِ الْمَرْبُوطِ " " وَالدُّرَّةِ الْفَاخِرَةِ " " وَمَطَالِعِ النُّجُومِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَمْ نَكُنْ بَعْدُ اطَّلَعْنَا عَلَى
حَقِيقَةِ مَقْصُودِهِ وَلَمْ نُطَالِعْ الْفُصُوصَ وَنَحْوَهُ وَكُنَّا نَجْتَمِعُ مَعَ إخْوَانِنَا فِي اللَّهِ نَطْلُبُ الْحَقَّ وَنَتَّبِعُهُ وَنَكْشِفُ حَقِيقَةَ الطَّرِيقِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ عَرَفْنَا نَحْنُ مَا يَجِبُ عَلَيْنَا . فَلَمَّا قَدِمَ مِنْ الْمَشْرِقِ مَشَايِخُ مُعْتَبَرُونَ وَسَأَلُوا عَنْ حَقِيقَةِ الطَّرِيقَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ وَحَقِيقَةِ حَالِ هَؤُلَاءِ : وَجَبَ الْبَيَانُ . وَكَذَلِكَ كَتَبَ إلَيْنَا مِنْ أَطْرَافِ الشَّامِ : رِجَالٌ سَالِكُونَ أَهْلُ صِدْقٍ وَطُلِبَ أَنْ أَذْكُرَ النُّكَتَ الْجَامِعَةَ لِحَقِيقِيَّةِ مَقْصُودِهِمْ . وَالشَّيْخُ - أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنُورِ قَلْبِهِ وَذَكَاءِ نَفْسِهِ وَحَقَّقَ قَصْدَهُ مِنْ نُصْحِهِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَلِإِخْوَانِهِ السَّالِكِينَ - يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ مَا يَرْجُو بِهِ رِضْوَانَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَغْفِرَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ : لَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ خَبَرٌ مِنْ حِينِ ظَهَرَتْ دَوْلَةُ التَّتَارِ وَإِلَّا فَكَانَ الِاتِّحَادُ الْقَدِيمُ هُوَ الِاتِّحَادُ الْمُعَيَّنُ وَذَلِكَ أَنَّ الْقِسْمَةَ رُبَاعِيَّةٌ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ : إمَّا مُعَيَّنٌ فِي شَخْصٍ وَإِمَّا مُطْلَقٌ . أَمَّا الِاتِّحَادُ وَالْحُلُولُ الْمُعَيَّنُ : كَقَوْلِ النَّصَارَى وَالْغَالِيَةِ فِي الْأَئِمَّةِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَفِي الْمَشَايِخِ مِنْ جُهَّالِ الْفُقَرَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِهِ فِي مُعَيَّنٍ ؛ إمَّا بِالِاتِّحَادِ كَاتِّحَادِ الْمَاءِ وَاللَّبَنِ وَهُوَ قَوْلُ الْيَعْقُوبِيَّةِ وَهُمْ السُّودَانُ وَمِنْ الْحَبَشَةِ وَالْقِبْطِ ؛ وَإِمَّا بِالْحُلُولِ وَهُوَ قَوْلُ النسطورية وَإِمَّا بِالِاتِّحَادِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَهُوَ قَوْلُ الملكانية .
وَأَمَّا الْحُلُولُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِذَاتِهِ حَالٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَهَذَا تَحْكِيهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ عَنْ قُدَمَاءِ الْجَهْمِيَّة وَكَانُوا يُكَفِّرُونَهُمْ بِذَلِكَ . وَأَمَّا مَا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ مِنْ الِاتِّحَادِ الْعَامِّ . فَمَا عَلِمْت أَحَدًا سَبَقَهُمْ إلَيْهِ إلَّا مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ الصَّانِعِ مِثْلَ فِرْعَوْنَ وَالْقَرَامِطَةِ - وَذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ عَيْنَ وُجُودِ الْحَقِّ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَلْقِ وَأَنَّ وُجُودَ ذَاتِ اللَّهِ خَالِقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ هِيَ نَفْسُ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ غَيْرَهُ وَلَا أَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا أَنَّهُ غَنِيٌّ وَمَا سِوَاهُ فَقِيرٌ . لَكِنْ تَفَرَّقُوا عَلَى ثَلَاثَةِ طُرُقٍ وَأَكْثَرُ مَنْ يَنْظُرُ فِي كَلَامِهِمْ لَا يَفْهَمُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُبْهَمٌ .
( الْأَوَّلُ ) أَنْ يَقُولُوا : إنَّ الذَّوَاتِ بِأَسْرِهَا كَانَتْ ثَابِتَةً فِي الْعَدَمِ ذَاتُهَا أَبَدِيَّةٌ أَزَلِيَّةٌ حَتَّى ذَوَاتُ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْمَعَادِنِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَأَنَّ وُجُودَ الْحَقِّ فَاضَ عَلَى تِلْكَ الذَّوَاتِ فَوُجُودُهَا وُجُودُ الْحَقِّ وَذَوَاتُهَا لَيْسَتْ ذَوَاتِ الْحَقِّ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ فَمَا كُنْت بِهِ فِي ثُبُوتِك ظَهَرْت بِهِ فِي وُجُودِك . وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا أَغْنَى أَحَدًا وَلَا أَسْعَدَهُ وَلَا أَشْقَاهُ وَإِنَّمَا وُجُودُهُ فَاضَ عَلَى الذَّوَاتِ فَلَا تَحْمَدْ إلَّا نَفْسَك وَلَا تَذُمَّ إلَّا نَفْسَك .
وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا هُوَ سِرُّ الْقَدَرِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا عَلِمَ الْأَشْيَاءَ مِنْ جِهَةِ رُؤْيَتِهِ لَهَا ثَابِتَةً فِي الْعَدَمِ خَارِجًا عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ . وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ ذَرَّةً مِنْ الْعَالَمِ وَأَنَّهُمْ قَدْ يَعْلَمُونَ الْأَشْيَاءَ مِنْ حَيْثُ عَلِمَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَيَكُونُ عِلْمُهُمْ وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ مَعْدِنٍ وَاحِدٍ وَأَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَفْضَلَ مِنْ خَاتَمِ الرُّسُلِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يأخذون مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحَى بِهِ الرُّسُلُ . وَيَقُولُونَ : إنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا عَبَدُوا إلَّا اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } مَعْنَى حَكَمَ ؛ لَا مَعْنَى أَمَرَ فَمَا عُبِدَ غَيْرُ اللَّهِ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا قَضَى بِشَيْءِ إلَّا وَقَعَ . وَيَقُولُونَ : إنَّ الدَّعْوَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَكْرٌ بِالْمَدْعُوِّ فَإِنَّهُ مَا عُدِمَ مِنْ الْبِدَايَةِ فَيُدْعَى إلَى الْغَايَةِ وَأَنَّ قَوْمَ نُوحٍ قَالُوا : { لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا } لِأَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوهُمْ لَتَرَكُوا مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا تَرَكُوا مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ لِلْحَقِّ فِي كُلِّ مَعْبُودٍ وَجْهًا يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَهُ وَيُنْكِرُهُ مَنْ أَنْكَرَهُ وَأَنَّ التَّفْرِيقَ وَالْكَثْرَةَ كَالْأَعْضَاءِ فِي الصُّورَةِ الْمَحْسُوسَةِ وَكَالْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ فِي الصُّورَةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَأَنَّ الْعَارِفَ مِنْهُمْ يَعْرِفُ مَنْ عَبَدَ وَفِي أَيِّ صُورَةٍ ظَهَرَ حَتَّى عَبَدَ . فَإِنَّ الْجَاهِلَ يَقُولُ : هَذَا حَجَرٌ وَشَجَرٌ وَالْعَارِفُ يَقُولُ : هَذَا مَجْلًى إلَهِيٌّ يَنْبَغِي تَعْظِيمُهُ فَلَا يَقْتَصِرُ فَإِنَّ النَّصَارَى إنَّمَا كَفَرُوا لِأَنَّهُمْ خَصَّصُوا
وَإِنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ مَا أَخْطَئُوا إلَّا مِنْ حَيْثُ اقْتِصَارُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ بَعْضِ الْمَظَاهِرِ وَالْعَارِفُ يَعْبُدُ كُلَّ شَيْءٍ . وَاَللَّهُ يَعْبُدُ أَيْضًا كُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ غِذَاؤُهُ بِالْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَهُوَ غِذَاؤُهَا بِالْوُجُودِ وَهُوَ فَقِيرٌ إلَيْهَا وَهِيَ فَقِيرَةٌ إلَيْهِ وَهُوَ خَلِيلُ كُلِّ شَيْءٍ بِهَذَا الْمَعْنَى وَيَجْعَلُونَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى هِيَ مُجَرَّدُ نِسْبَةٍ وَإِضَافَةٍ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ وَلَيْسَتْ أُمُورًا عَدَمِيَّةً . وَيَقُولُونَ : " مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى : الْعَلِيُّ عَنْ مَاذَا وَمَا ثَمَّ إلَّا هُوَ ؟ وَعَلَى مَاذَا وَمَا ثَمَّ غَيْرُهُ ؟ فَالْمُسَمَّى مُحْدَثَاتٌ وَهِيَ الْعَلِيَّةُ لِذَاتِهَا وَلَيْسَتْ إلَّا هُوَ وَمَا نَكَحَ سِوَى نَفْسِهِ وَمَا ذَبَحَ سِوَى نَفْسِهِ وَالْمُتَكَلِّمُ هُوَ عَيْنُ الْمُسْتَمِعِ " . وَأَنَّ مُوسَى إنَّمَا عَتَبَ عَلَى هَارُونَ حَيْثُ نَهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ لِضِيقِهِ وَعَدَمِ اتِّسَاعِهِ وَأَنَّ مُوسَى كَانَ أَوْسَعَ فِي الْعِلْمِ ؛ فَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ وَأَنَّ أَعْلَى مَا عُبِدَ الْهَوَى وَأَنَّ كُلَّ مَنْ اتَّخَذَ آلِهَهُ هَوَاهُ فَمَا عَبَدَ إلَّا اللَّهَ وَفِرْعَوْنُ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَعْظَمِ الْعَارِفِينَ وَقَدْ صَدَّقَهُ السَّحَرَةُ فِي قَوْلِهِ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَفِي قَوْلِهِ : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي } . وَكُنْت أُخَاطِبُ بِكَشْفِ أَمْرِهِمْ لِبَعْضِ الْفُضَلَاءِ الضَّالِّينَ وَأَقُولُ إنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ الْمُنْكِرِ لِوُجُودِ الْخَالِقِ الصَّانِعِ ؛ حَتَّى حَدَّثَنِي بَعْضٌ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ كُبَرَائِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ وَيَقُولُونَ نَحْنُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ .
وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا هِيَ قَوْلُ صَاحِبِ الْفُصُوصِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا مَاتَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ حَقِيقَةَ مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ الْفُصُوصِ الْمُضَافُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَاءَ بِهِ : وَهُوَ مَا إذَا فَهِمَهُ الْمُسْلِمُ عَلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَجَمِيعَ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَلْ جَمِيعَ عَوَامِّ أَهْلِ الْمِلَلِ ؛ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ : يَبْرَءُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ بَعْضِ هَذَا الْقَوْلِ فَكَيْفَ مِنْهُ كُلِّهِ ؟ . وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَالْكُفَّارَ أَهْلَ الْكِتَابِ يَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْخَالِقِ الْبَارِئِ الْمُصَوِّرِ - الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ - رَبِّهِمْ وَرَبِّ آبَائِهِمْ الْأَوَّلِينَ - رَبِّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ عَيْنُ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا نَفْسُ الْمَصْنُوعَاتِ كَمَا يَقُولُهُ هَؤُلَاءِ حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ لَوْ زَالَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ زَالَتْ حَقِيقَةُ اللَّهِ ؛ وَهَذَا مُرَكَّبٌ مِنْ أَصْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي الْعَدَمِ - كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ - وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ - كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ - كَفَّرَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا .
وَإِنَّمَا غَلِطَ هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا - وَأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ - وَبَيْنَ ثُبُوتِهَا فِي الْخَارِجِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ مَذْهَبَ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا فَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَبَيْنَ الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ الْخَارِجِيِّ .
وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةُ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَذَكَرَ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ : وَهِيَ الْوُجُودُ الْعَيْنِيُّ الَّذِي خَلَقَهُ وَالْوُجُودُ الرَّسْمِيُّ الْمُطَابِقُ لِلَّفْظِيِّ الدَّالُّ عَلَى الْعِلْمِيِّ وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَهُ . وَلِهَذَا ذَكَرَ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَرَاتِبِ الثَّلَاثَةِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ - أَعْنِي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ خَارِجٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا وَدَلَالَتُهُ وَاضِحَةٌ لَكِنَّهُ قَدْ اُبْتُدِعَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ نَحْوِ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ وَابْنُ عَرَبِيٍّ وَافَقَ أَصْحَابَهُ وَهُوَ أَحَدُ أَصْلَيْ مَذْهَبِهِ الَّذِي فِي الْفُصُوصِ .
وَالْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ وُجُودَ الْمُحْدَثَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ : هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ لَيْسَ غَيْرُهُ وَلَا سِوَاهُ ؛ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ابْتَدَعَهُ وَانْفَرَدَ بِهِ عَنْ جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ وَهُوَ قَوْلُ بَقِيَّةِ الِاتِّحَادِيَّةِ لَكِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ أَقْرَبُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَحْسَنُ كَلَامًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْمَظَاهِرِ
فَيُقِرُّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالشَّرَائِعَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَيَأْمُرُ بِالسُّلُوكِ بِكَثِيرِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الْمَشَايِخُ مِنْ الْأَخْلَاقِ وَالْعِبَادَاتِ وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ يَأْخُذُونَ مِنْ كَلَامِهِ سُلُوكَهُمْ فَيَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ حَقَائِقَهُ وَمَنْ فَهِمَهَا مِنْهُمْ وَوَافَقَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ قَوْلَهُ .
( وَأَمَّا ) صَاحِبُهُ الصَّدْرُ الرُّومِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ مُتَفَلْسِفًا فَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَالْإِسْلَامِ وَلِهَذَا كَانَ الْفَاجِرُ التِّلْمِسَانِيُّ الْمُلَقَّبُ بِالْعَفِيفِ يَقُولُ : كَانَ شَيْخِي الْقَدِيمُ مُتَرَوِّحَنَا مُتَفَلْسِفًا وَالْآخَرُ فَيْلَسُوفًا مُتَرَوِّحَنَا - يَعْنِي الصَّدْرَ الرُّومِيَّ - فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَخَذَ عَنْهُ وَلَمْ يُدْرِكْ ابْنُ عَرَبِيٍّ فِي كِتَابِ مِفْتَاحِ غَيْبِ الْجَمْعِ وَالْوُجُودِ وَغَيْرِهِ يَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَالْمُعَيَّنُ كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْحَيَوَانِ الْمُطْلَقِ وَالْحَيَوَانِ الْمُعَيَّنِ وَالْجِسْمِ الْمُطْلَقِ وَالْجِسْمِ الْمُعَيَّنِ ؛ وَالْمُطْلَقُ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا لَا يُوجَدُ الْمُطْلَقُ إلَّا فِي الْأَعْيَانِ الْخَارِجَةِ . فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ : إنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وُجُودٌ أَصْلًا وَلَا حَقِيقَةً وَلَا ثُبُوتٌ إلَّا نَفْسُ الْوُجُودِ الْقَائِمِ بِالْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ هُوَ وَشَيْخُهُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرَى أَصْلًا وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ وَلَا صِفَةٌ وَيُصَرِّحُونَ بِأَنَّ ذَاتَ الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْبَوْلِ وَالْعَذِرَةِ : عَيْنُ وُجُودِهِ - تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ . ( وَأَمَّا ) الْفَاجِرُ التِّلْمِسَانِيُّ : فَهُوَ أَخْبَثُ الْقَوْمِ وَأَعْمَقُهُمْ فِي الْكُفْرِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ كَمَا يُفَرِّقُ ابْنُ عَرَبِيٍّ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ
كَمَا يُفَرِّقُ الرُّومِيُّ وَلَكِنْ عِنْدَهُ مَا ثَمَّ غَيْرُ وَلَا سِوَى بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . وَأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَشْهَدُ السِّوَى مَا دَامَ مَحْجُوبًا فَإِذَا انْكَشَفَ حِجَابُهُ رَأَى أَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرُ يُبَيِّنُ لَهُ الْأَمْرُ . وَلِهَذَا : كَانَ يَسْتَحِلُّ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ حَتَّى حَكَى عَنْهُ الثِّقَاتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْبِنْتُ وَالْأُمُّ وَالْأَجْنَبِيَّةُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْمَحْجُوبُونَ قَالُوا حَرَامٌ فَقُلْنَا حَرَامٌ عَلَيْكُمْ . وَكَانَ يَقُولُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِرْكٌ لَيْسَ فِيهِ تَوْحِيدٌ وَإِنَّمَا التَّوْحِيدُ فِي كَلَامِنَا . وَكَانَ يَقُولُ : أَنَا مَا أُمْسِكُ شَرِيعَةً وَاحِدَةً وَإِذَا أَحْسَنَ الْقَوْلَ يَقُولُ : الْقُرْآنُ يُوصِلُ إلَى الْجَنَّةِ وَكَلَامُنَا يُوصِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَشَرَحَ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي لَهُ . وَلَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ قَدْ صَنَعَ فِيهِ أَشْيَاءَ وَشِعْرُهُ فِي صِنَاعَةِ الشِّعْرِ جَيِّدٌ ؛ وَلَكِنَّهُ كَمَا قِيلَ : لَحْمُ خِنْزِيرٍ فِي طَبَقٍ صِينِيٍّ وَصِنْفٌ للنصيرية عَقِيدَةٌ ؛ وَحَقِيقَةُ أَمْرِهِمْ أَنَّ الْحَقَّ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ وَأَجْزَاءَ الْمَوْجُودَاتِ بِمَنْزِلَةِ أَمْوَاجِهِ : وَأَمَّا ابْنُ سَبْعِينَ : فَإِنَّهُ فِي الْبَدْوِ وَالْإِحَاطَةِ يَقُولُ أَيْضًا بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ غَيْرُ وَكَذَلِكَ ابْنُ الْفَارِضِ فِي آخِرِ نَظْمِ السُّلُوكِ لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ هَلْ يَقُولُ بِمِثْلِ قَوْلِ التِّلْمِسَانِيِّ أَوْ قَوْلِ الرُّومِيِّ أَوْ قَوْلِ ابْنِ عَرَبِيٍّ ؟ وَهُوَ إلَى كَلَامِ التِّلْمِسَانِيِّ أَقْرَبُ لَكِنْ مَا رَأَيْت فِيهِمْ مَنْ كَفَرَ هَذَا الْكُفْرَ الَّذِي
مَا كَفَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ مِثْلَ التِّلْمِسَانِيِّ وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ البلياني مِنْ مَشَايِخِ شِيرَازَ .
وَمِنْ شِعْرِهِ :
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَيْنُهُ
وَأَيْضًا : وَمَا أَنْتَ غَيْرَ الْكَوْنِ بَلْ أَنْتَ عَيْنُهُ وَيَفْهَمُ هَذَا السِّرَّ مَنْ هُوَ ذَائِقُهُ
وَأَيْضًا : وَتَلْتَذُّ إنْ مَرَّتْ عَلَى جَسَدِي يَدِي لِأَنِّي فِي التَّحْقِيقِ لَسْت سِوَاكُمْ
وَأَيْضًا : مَا بَالُ عِيسِك لَا يُقِرُّ قَرَارَهَا وَإِلَامَ ظِلُّك لَا يَنِي مُتَنَقِّلًا فَلَسَوْفَ تَعْلَمُ أَنَّ سَيْرَك لَمْ يَكُنْ إلَّا إلَيْك إذَا بَلَغْت الْمَنْزِلَا
وَأَيْضًا : مَا الْأَمْرُ إلَّا نَسَقٌ وَاحِدٌ مَا فِيهِ مِنْ حَمْدٍ وَلَا ذَمَّ وَإِنَّمَا الْعَادَةُ قَدْ خَصَّصَتْ وَالطَّبْعُ وَالشَّارِعُ فِي الْحُكْمِ وَأَيْضًا : يَا عَاذِلِي أَنْتَ تَنْهَانِي وَتَأْمُرُنِي وَالْوَجْدُ أَصْدَقُ نهاء وَأَمَّارٍ فَإِنْ أُطِعْك وَأَعْصِ الْوَجْدَ عُدْت عَمِي عَنْ الْعِيَانِ إلَى أَوْهَامِ أَخْبَارِ
فَعَيْنُ مَا أَنْتَ تَدْعُونِي إلَيْهِ إذَا حَقَّقْته تَرَهُ الْمَنْهِيَّ يَا جَارِي
وَأَيْضًا وَمَا الْبَحْرُ إلَّا الْمَوْجُ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ وَإِنْ فَرَّقَتْهُ كَثْرَةُ الْمُتَعَدِّدِ
إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْعَارِ وَفِي النَّثْرِ مَا لَا يُحْصَى وَيُوهِمُونَ الْجُهَّالَ أَنَّهُمْ مَشَايِخُ الْإِسْلَامِ وَأَئِمَّةُ الْهُدَى الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْأُمَّةِ مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْأَوْزَاعِي وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَبِشْرٍ الْحَافِي وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَشَقِيقٍ البلخي وَمَنْ لَا يُحْصَى كَثْرَةٌ . إلَى مِثْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ : مِثْلُ الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ القواريري وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَعُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ - إلَى أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ إلَى مِثْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الكيلاني وَالشَّيْخِ عَدِيٍّ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَالشَّيْخِ أَبِي مَدِينٍ وَالشَّيْخِ عَقِيلٍ وَالشَّيْخِ أَبِي الْوَفَاءِ وَالشَّيْخِ رَسْلَانَ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحِيمِ وَالشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ اليونيني وَالشَّيْخِ الْقُرَشِيِّ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَخُرَاسَانَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين . كُلُّ هَؤُلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ وَمَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
لَيْسَ هُوَ خَلْقَهُ وَلَا جُزْءًا مِنْ خَلْقِهِ وَلَا صِفَةً لِخَلْقِهِ بَلْ هُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ بَائِنٌ بِذَاتِهِ الْمُعَظَّمَةِ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ الْإِلَهِيَّةُ ؛ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ فَطَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ الْعُقُولُ . وَكَثِيرًا مَا كُنْت أَظُنُّ أَنَّ ظُهُورَ مِثْلِ هَؤُلَاءِ أَكْبَرُ أَسْبَابِ ظُهُورِ التَّتَارِ وَانْدِرَاسِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ مُقَدِّمَةُ الدَّجَّالِ الْأَعْوَرِ الْكَذَّابِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ وَأَعْظَمُ . وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ صَاحِبِ الْفُصُوصِ فَإِنَّ بَعْضَ الْمَظَاهِرِ والمستجليات : يَكُونُ أَعْظَمَ لِعِظَمِ ذَاتِهِ الثَّابِتَةِ فِي الْعَدَمِ ؛ وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ الرُّومِيِّ فَإِنَّ بَعْضَ الْمُتَعَيِّنَاتِ يَكُونُ أَكْبَرَ فَإِنَّ بَعْضَ جُزْئِيَّاتِ الْكُلِّيِّ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ ؛ وَأَمَّا عَلَى الْبَقِيَّةِ فَالْكُلُّ أَجْزَاءٌ مِنْهُ وَبَعْضُ الْجُزْءِ أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ . فَالدَّجَّالُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ : مِثْلُ فِرْعَوْنَ مِنْ كِبَارِ الْعَارِفِينَ وَأَكْبَرُ مِنْ الرُّسُلِ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَمُوسَى قَاتِلُ فِرْعَوْنَ الَّذِي يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ وَيُسَلِّطُ اللَّهُ تَعَالَى مَسِيحَ الْهُدَى - الَّذِي قِيلَ فِيهِ إنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ - عَلَى مَسِيحِ الضَّلَالَةِ الَّذِي قَالَ : إنَّهُ اللَّهُ .
وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَعْجَبُ مِنْ كَوْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّهُ أَعْوَرُ } وَكَوْنِهِ قَالَ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ } وَابْنُ الْخَطِيبِ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ دَلَائِلِ الْحُدُوثِ وَالنَّقْصِ عَلَى الدَّجَّالِ ؛ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَعْوَرُ . فَلَمَّا رَأَيْنَا حَقِيقَةَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ وَتَدَبَّرْنَا مَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّصَارَى وَالْحُلُولِيَّةُ : ظَهَرَ سَبَبُ دَلَالَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ فَإِنَّهُ بُعِثَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ يُجَوِّزُ ظُهُورَ الرَّبِّ فِي الْبَشَرِ أَوْ يَقُولُ إنَّهُ هُوَ الْبَشَرُ : كَانَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَوَرِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهُ . وَقَدْ خَاطَبَنِي قَدِيمًا شَخْصٌ مِنْ خِيَارِ أَصْحَابِنَا - كَانَ يَمِيلُ إلَى الِاتِّحَادِ ثُمَّ تَابَ مِنْهُ - وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَبَيَّنْت لَهُ وَجْهَهُ . وَجَاءَ إلَيْنَا شَخْصٌ كَانَ يَقُولُ . إنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فَزَعَمَ أَنَّ الْحَلَّاجَ لَمَّا قَالَ : أَنَا الْحَقُّ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى لِسَانِهِ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَبَيَّنْت لَهُ فَسَادَ هَذَا وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الصَّحَابَةُ بِمَنْزِلَةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَكَانَ مَنْ خَاطَبَهُ هَؤُلَاءِ أَعْظَمَ مِنْ مُوسَى ؛ لِأَنَّ مُوسَى سَمِعَ الْكَلَامَ الْإِلَهِيَّ مِنْ الشَّجَرَةِ وَهَؤُلَاءِ يَسْمَعُونَ مِنْ الْجِنِّ النَّاطِقِ .
وَهَذَا يَقُولُهُ قَوْمٌ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ جُهَّالٌ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الِاتِّحَادِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ الْفَاجِرُ التِّلْمِسَانِيُّ وَذَوُوهُ وَبَيْنَ الِاتِّحَادِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ النَّصَارَى وَالْغَالِيَةُ .
وَقَدْ كَانَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَسَادَاتُ الْأَئِمَّةِ ؛ يَرَوْنَ كُفْرَ الْجَهْمِيَّة أَعْظَمَ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَإِنَّمَا كَانُوا يُلَوِّحُونَ تَلْوِيحًا وَقَلَّ أَنْ كَانُوا يُصَرِّحُونَ بِأَنَّ ذَاتَه فِي مَكَانٍ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ فَهُمْ أَخْبَثُ وَأَكْفَرُ مِنْ أُولَئِكَ الْجَهْمِيَّة وَلَكِنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ أَعْلَمُ بِالْإِسْلَامِ وَبِحَقَائِقِهِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَدْ لَا يَفْهَمُ تَغْلِيظَهُمْ فِي ذَمِّ الْمَقَالَةِ حَتَّى يَتَدَبَّرَهَا وَيُرْزَقَ نُورَ الْهُدَى فَلَمَّا اطَّلَعَ السَّلَفُ عَلَى سِرِّ الْقَوْلِ نَفَرُوا مِنْهُ . وَهَذَا كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : مُتَكَلِّمَةُ الْجَهْمِيَّة لَا يَعْبُدُونَ شَيْئًا وَمُتَعَبِّدَةُ الْجَهْمِيَّة يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ . وَذَلِكَ لِأَنَّ مُتَكَلِّمَهُمْ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ تَأَلُّهٌ وَلَا تَعَبُّدٌ فَهُوَ يَصِفُ رَبَّهُ بِصِفَاتِ الْعَدَمِ وَالْمَوَاتِ . وَأَمَّا الْمُتَعَبِّدُ فَفِي قَلْبِهِ تَأَلُّهٌ وَتَعَبُّدٌ وَالْقَلْبُ لَا يَقْصِدُ إلَّا مَوْجُودًا لَا مَعْدُومًا فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْبُدَ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ إمَّا الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ وَإِمَّا بَعْضُ الْمَظَاهِرِ : كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْبَشَرِ وَالْأَوْثَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ قَوْلَ الِاتِّحَادِيَّةِ يَجْمَعُ كُلَّ شِرْكٍ فِي الْعَالَمِ وَهُمْ لَا يُوَحِّدُونَ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَإِنَّمَا يُوَحِّدُونَ الْقَدْرَ الْمُشْتَرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ فَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ .
وَلِهَذَا حَدَّثَنِي الثِّقَةُ أَنَّ ابْنَ سَبْعِينَ كَانَ يُرِيدُ الذَّهَابَ إلَى الْهِنْدِ وَقَالَ : إنَّ أَرْضَ الْإِسْلَامِ لَا تَسَعُهُ ؛ لِأَنَّ الْهِنْدَ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ . وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الِاتِّحَادِيَّةِ وَأَعْرَفَ نَاسًا لَهُمْ اشْتِغَالٌ بِالْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ وَقَدْ تَأَلَّهُوا عَلَى طَرِيقِ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ ؛ فَإِذَا أَخَذُوا يَصِفُونَ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ بِالْكَلَامِ قَالُوا لَيْسَ بِكَذَا لَيْسَ بِكَذَا وَوَصَفُوهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ رَبَّ الْمَخْلُوقَاتِ كَمَا يَقُولُهُ الْمُسْلِمُونَ لَكِنْ يَجْحَدُونَ صِفَاتِ الْخَالِقِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ . وَإِذَا صَارَ لِأَحَدِهِمْ ذَوْقٌ وَوَجْدٌ : تَأَلَّهَ وَسَلَكَ طَرِيقَ الِاتِّحَادِيَّةِ وَقَالَ : إنَّهُ هُوَ الْمَوْجُودَاتُ كُلُّهَا ؛ فَإِذَا قِيلَ لَهُ أَيْنَ ذَلِكَ النَّفْيُ مِنْ هَذَا الْإِثْبَاتِ ؟ قَالَ : ذَلِكَ وجدي وَهَذَا ذَوْقِيٌّ . فَيُقَالُ لِهَذَا الضَّالِّ : كُلُّ ذَوْقٍ وَوَجْدٍ لَا يُطَابِقُ الِاعْتِقَادَ فَأَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا بَاطِلٌ وَإِنَّمَا الْأَذْوَاقُ وَالْمَوَاجِيدُ نَتَائِجُ الْمَعَارِفِ وَالِاعْتِقَادَاتِ فَإِنَّ عِلْمَ الْقَلْبِ وَحَالَهُ مُتَلَازِمَانِ فَعَلَى قَدْرِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ يَكُونُ الْوَجْدُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْحَالُ . وَلَوْ سَلَكَ هَؤُلَاءِ طَرِيقَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - الَّذِينَ أَمَرُوا بِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَوَصَفُوهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ - وَاتَّبَعُوا طَرِيقَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ : لَسَلَكُوا طَرِيقَ الْهُدَى وَوَجَدُوا بَرْدَ الْيَقِينِ وَقُرَّةَ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ الرُّسُلَ
جَاءُوا بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ وَالصَّابِئَةُ الْمُعَطِّلَةُ جَاءُوا بِنَفْيٍ مُفَصَّلٍ وَإِثْبَاتٍ مُجْمَلٍ فَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى فِي الْإِثْبَاتِ : { إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا وَفِي النَّفْيِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } { وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } . وَهَذَا الْكِتَابُ مَعَ أَنِّي قَدْ أَطَلْت فِيهِ الْكَلَامَ عَلَى الشَّيْخِ - أَيَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ الْإِسْلَامَ وَنَفَعَ الْمُسْلِمِينَ بِبَرَكَةِ أَنْفَاسِهِ وَحُسْنِ مَقَاصِدِهِ وَنُورِ قَلْبِهِ - فَإِنَّ مَا فِيهِ نُكَتٌ مُخْتَصَرَةٌ فَلَا يُمْكِنُ شَرْحُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي كِتَابٍ وَلَكِنْ ذَكَرْت لِلشَّيْخِ - أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ - مَا اقْتَضَى الْحَالَ أَنْ أَذْكُرَهُ - وَحَامِلُ الْكِتَابِ مُسْتَوْفٍ عَجْلَانُ وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُصْلِحَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ عَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ إلَى مَا يُقَرِّبُهُمْ وَأَنْ يَجْعَلَ الشَّيْخَ مِنْ دُعَاةِ الْخَيْرِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِمْ : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
مَا تَقَوُّلُ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ فِي الْحَلَّاجِ ؟ وَفِيمَنْ قَالَ : أَنَا أَعْتَقِدُ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلَّاجُ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ وَيَقُولُ : إنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا كَمَا قُتِلَ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ ؟ وَيَقُولُ : الْحَلَّاجُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْكَلَامِ وَهَلْ قُتِلَ بِسَيْفِ الشَّرِيعَةِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَنْ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْحَلَّاجُ مِنْ الْمَقَالَاتِ الَّتِي قُتِلَ الْحَلَّاجُ عَلَيْهَا فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالَاتِ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ : أَنَا اللَّهُ . وَقَوْلِهِ : إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ . وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ وَ { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } الْآيَاتِ وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } الْآيَتَيْنِ . فَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَفَّرَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِاَللَّهِ
وَرَسُولِهِ : كَانَ مِنْ أَعْظَمِ دَعْوَاهُمْ الْحُلُولُ وَالِاتِّحَادُ بِالْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ فَمَنْ قَالَ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ فِي غَيْرِ الْمَسِيحِ - كَمَا تَقُولُهُ الْغَالِيَةُ فِي عَلِيٍّ وَكَمَا تَقُولُهُ الْحَلَّاجِيَّةُ فِي الْحَلَّاجِ وَالْحَاكِمِيَّةُ فِي الْحَاكِمِ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ - فَقَوْلُهُمْ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ النَّصَارَى لِأَنَّ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ أَتْبَاعِ الدَّجَّالِ الَّذِي يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ لِيُتْبَعَ مَعَ أَنَّ الدَّجَّالَ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ أَمْطِرِي فَتُمْطِرَ وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي فَتَنْبُتَ : وَلِلْخَرِبَةِ أَخْرِجِي كُنُوزَك فَتَخْرُجَ مَعَهُ كُنُوزَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيَقْتُلُ رَجُلًا مُؤْمِنًا ثُمَّ يَأْمُرُ بِهِ فَيَقُومُ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ الْأَعْوَرُ الْكَذَّابُ الدَّجَّالُ فَمَنْ ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ بِدُونِ هَذِهِ الْخَوَارِقِ : كَانَ دُونَ هَذَا الدَّجَّالِ . وَالْحَلَّاجُ : كَانَتْ لَهُ مخاريق وَأَنْوَاعٌ مِنْ السِّحْرِ وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنْ الْآلِهَةِ : فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الْحَلَّاجُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ نَطَقَ عَلَى لِسَانِ الْحَلَّاجِ وَأَنَّ الْكَلَامَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْحَلَّاجِ كَانَ كَلَامَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ هُوَ الْقَائِلَ عَلَى لِسَانِهِ : أَنَا اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَحِلُّ فِي الْبَشَرِ وَلَا تَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ بَشَرٍ وَلَكِنْ يُرْسِلُ الرُّسُلَ بِكَلَامِهِ فَيَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا أَمَرَهُمْ بِبَلَاغِهِ فَيَقُولُ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ مَا أَمَرَهُمْ
بِقَوْلِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَا إنَّ اللَّهَ قَالَ عَلَى لِسَانِ نَبِيهِ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ } . فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُرْسَلِ وَالرَّسُولِ : قَدْ يُقَالُ إنَّهُ يَقُولُ عَلَى لِسَانِ الْآخَرِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ للمروذي : قُلْ عَلَى لِسَانِي مَا شِئْت وَكَمَا يُقَالُ : هَذَا يَقُولُ عَلَى لِسَانِ السُّلْطَانِ كَيْتَ وَكَيْتَ فَمِثْلُ هَذَا مَعْنَاهُ مَفْهُومٌ . وَأَمَّا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى الْبَشَرِ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ : فَهَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ وَأَمَّا إذَا ظَهَرَ مِثْلُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ غَائِبِ الْعَقْلِ قَدْ رُفِعَ عَنْهُ الْقَلَمُ لِكَوْنِهِ مُصْطَلِمًا فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الفنا وَالسُّكْرِ فَهَذَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي حَالٍ رُفِعَ عَنْهُ فِيهِمَا الْقَلَمُ فَالْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَكِنَّ الْقَائِلَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ . وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِضُ لِمَنْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ سُلْطَانُ الْحُبِّ مَعَ ضَعْفِ الْعَقْلِ كَمَا يُقَالُ : إنَّ مَحْبُوبًا أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْيَمِّ فَأَلْقَى الْمُحِبُّ نَفْسَهُ خَلْفَهُ فَقَالَ : أَنَا وَقَعْت فَلِمَ وَقَعْت خَلْفِي ؟ قَالَ : غِبْت بِك عَنِّي فَظَنَنْت أَنَّك أَنِّي . وَقَدْ يَنْتَهِي بَعْضُ النَّاسِ إلَى مَقَامٍ يَغِيبُ فِيهِ بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ . فَإِذَا ذَهَبَ تَمْيِيزُ هَذَا وَصَارَ غَائِبَ الْعَقْلِ - بِحَيْثُ يُرْفَعُ عَنْهُ الْقَلَمُ - لَمْ يَكُنْ مُعَاقَبًا عَلَى مَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ خَطَأٌ وَضَلَالٌ وَأَنَّهُ حَالٌ نَاقِصٌ ؛ لَا يَكُونُ لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ .
وَمَا يُحْكَى عَنْ الْحَلَّاجِ مِنْ ظُهُورِ كَرَامَاتٍ لَهُ عِنْدَ قَتْلِهِ مِثْلِ كِتَابَةِ دَمِهِ عَلَى الْأَرْضِ : اللَّهُ اللَّهُ وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ بِالْقَتْلِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ : فَكُلُّهُ كَذِبٌ . فَقَدْ جَمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَخْبَارَ الْحَلَّاجِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا ذَكَرَ ثَابِتُ بْنُ سِنَانٍ فِي أَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ - وَقَدْ شَهِدَ مَقْتَلَهُ - وَكَمَا ذَكَرَ - إسْمَاعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ الحطفي فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ - وَقَدْ شَهِدَ قَتْلَهُ - وَكَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَكَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي الْمُعْتَمَدِ وَكَمَا ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمْ وَكَمَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ ؛ فِيمَا جَمَعَا مِنْ أَخْبَارِهِ . وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي فِي طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ : إنَّ أَكْثَرَ الْمَشَايِخِ أَخْرَجُوهُ عَنْ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَبُو الْقَاسِمِ القشيري فِي رِسَالَتِهِ مِنْ الْمَشَايِخِ ؛ الَّذِينَ عَدَّهُمْ مِنْ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ . وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرَ الْحَلَّاجَ بِخَيْرِ لَا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنْ الْمَشَايِخِ ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقِفُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَهُ وَأَبْلَغُ مَنْ يُحْسِنُ بِهِ الظَّنَّ يَقُولُ : إنَّهُ وَجَبَ قَتْلُهُ فِي الظَّاهِرِ فَالْقَاتِلُ مُجَاهِدٌ وَالْمَقْتُولُ شَهِيدٌ وَهَذَا أَيْضًا خَطَأٌ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا قَوْلٌ بَاطِلٌ فَإِنَّ وُجُوبَ قَتْلِهِ عَلَى مَا أَظْهَرَهُ مِنْ الْإِلْحَادِ أَمْرٌ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ يُظْهِرُ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُ الْإِلْحَادَ إلَى أَصْحَابِهِ : صَارَ زِنْدِيقًا فَلَمَّا أُخِذَ وَحُبِسَ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَالْفُقَهَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ فَأَكْثَرُهُمْ لَا يَقْبَلُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلُ
الْمَدِينَةِ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ . وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قُتِلَ مِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ قُتِلَ ظُلْمًا .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْحَلَّاجَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ.
فَالْمُتَكَلِّمُ بِهَذَا جَاهِلٌ قَطْعًا مُتَكَلِّمٌ بِمَا لَا يَعْلَمُ لَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْحَلَّاجِ أَقْوَالُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ - فَإِنَّ وَلِيَّ اللَّهِ مَنْ مَاتَ عَلَى وِلَايَةِ اللَّهِ يُحِبُّهُ وَيَرْضَى عَنْهُ وَالشَّهَادَةُ بِهَذَا لِغَيْرِ مَنْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ : لَا تَجُوزُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ . وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ : إلَى أَنَّهُ لَا يُشْهَدُ بِذَلِكَ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ مَنْ اسْتَفَاضَ فِي الْمُسْلِمِينَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ شُهِدَ لَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا خَيْرًا فَقَالَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ : وَجَبَتْ وَجَبَتْ قَالَ : هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } . فَإِذَا جُوِّزَ أَنْ يُشْهَدَ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ إمَّا بِنَصِّ وَإِمَّا بِشَهَادَةِ الْأُمَّةِ - فَالْحَلَّاجُ : لَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ فَجُمْهُورُ الْأُمَّةِ يَطْعَنُ عَلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ مِنْ
أَهْلِ الْإِلْحَادِ - إنْ قَدَرَ عَلَى أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ وَلِيُّ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الصَّلَاحِ . فَهَذَا الَّذِي أَثْنَى عَلَى الْحَلَّاجِ وَوَافَقَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ ضَالٌّ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ فِيمَنْ قُتِلَ بِسَيْفِ الشَّرْعِ عَلَى الزَّنْدَقَةِ أَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا وَكَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ فَقَدْ قُتِلَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَالْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَغَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبُ وَبَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ الْأَعْمَى وَالسُّهْرَوَرْدِي وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَقُلْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ فِي هَؤُلَاءِ إنَّهُمْ قُتِلُوا ظُلْمًا وَأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَمَا بَالُ الْحَلَّاجِ تَفَرَّدَ عَنْ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَقَتَلَهُمْ الْكُفَّارُ وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ اُسْتُشْهِدُوا قَتَلَهُمْ الْكُفَّارُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَالْحُسَيْنُ وَنَحْوُهُمْ قَتَلَهُمْ الْخَوَارِجُ الْبُغَاةُ لَمْ يُقْتَلُوا بِحُكْمِ الشَّرْعِ عَلَى مَذَاهِبِ فُقَهَاءِ أَئِمَّةِ الدِّينِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَحْرِيمِ دِمَاءِ هَؤُلَاءِ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى دَمِ الْحَلَّاجِ وَأَمْثَالِهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : إنَّ الْإِطْلَاعَ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّنْ يَعْرِفُ طَرِيقَ الْوِلَايَةِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى . وَمِنْ أَعْظَمِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى أَنْ يَجْتَنِبَ مَقَالَةَ أَهْلِ الْإِلْحَادِ - كَأَهْلِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ - فَمَنْ وَافَقَ الْحَلَّاجَ عَلَى مَثَلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِالْإِيمَانِ
وَالتَّقْوَى فَلَا يَكُونُ عَارِفًا بِطَرِيقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُمَيَّزَ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمْ . الثَّالِثُ : إنَّ هَذَا الْقَائِلَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ عَلَى مَقَالَتِهِ فَيَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ فَشَهَادَتُهُ لَهُ بِالْوِلَايَةِ شَهَادَةٌ لِنَفْسِهِ كَشَهَادَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ لِأَنْفُسِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فِيمَا لَا يُعْلَمُ فِيهِ كَذِبُهُ وَلَا صِدْقُهُ مَرْدُودَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ لِنَفْسِهِ وَلِطَائِفَتِهِ الَّذِينَ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ ؟ . الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : أَمَّا كَوْنُ الْحَلَّاجِ عِنْدَ الْمَوْتِ تَابَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ أَوْ لَمْ يَتُبْ : فَهَذَا غَيْبٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا كَوْنُهُ إنَّمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا عِنْدَ الِاصْطِلَامِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ كَانَ يُصَنِّفُ الْكُتُبَ وَيَقُولُهُ وَهُوَ حَاضِرٌ وَيَقْظَانُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ غَيْبَةَ الْعَقْلِ تَكُونُ عُذْرًا فِي رَفْعِ الْقَلَمِ وَكَذَلِكَ الشُّبْهَةُ الَّتِي تُرْفَعُ مَعَهَا قِيَامُ الْحُجَّةِ : قَدْ تَكُونُ عُذْرًا فِي الظَّاهِرِ . فَهَذَا لَوْ فُرِضَ : لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ قُتِلَ ظُلْمًا وَلَا يُقَالَ إنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ وَلَا يُشْهَدُ بِمَا لَا يُعْلَمُ : فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَغَايَةُ الْمُسْلِمِ الْمُؤْمِنِ إذَا عَذَرَ الْحَلَّاجَ أَنْ يَدَّعِيَ فِيهِ الِاصْطِلَامَ وَالشُّبْهَةَ . وَأَمَّا أَنْ يُوَافِقَهُ عَلَى مَا قُتِلَ عَلَيْهِ فَهَذَا حَالُ أَهْلِ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ قَتْلَ مِثْلِهِ فَهُوَ مَارِقٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ .
وَنَحْنُ إنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَعْرِفَ التَّوْحِيدَ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ وَنَعْرِفَ طَرِيقَ اللَّهِ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ وَقَدْ عَلِمْنَا بِكِلَيْهِمَا أَنَّ مَا قَالَهُ الْحَلَّاجُ بَاطِلٌ وَأَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُ مِثْلِهِ وَأَمَّا نَفْسُ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ؟ هَلْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ لَهُ أَمْرٌ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ بِهِ مِنْ تَوْبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ؟ فَهَذَا أَمْرٌ إلَى اللَّهِ وَلَا حَاجَةَ لِأَحَدِ إلَى الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَحُجَّةُ الْأَنَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّ مَا ثَمَّ إلَّا اللَّهُ ، فَقَالَ شَخْصٌ كُلُّ مَنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ فَقَدْ كَفَرَ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَوْلُ الْقَائِلِ مَا ثَمَّ إلَّا اللَّهُ : لَفْظٌ مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ مَعْنًى صَحِيحًا وَمَعْنًى بَاطِلًا فَإِنْ أَرَادَ مَا ثَمَّ خَالِقٌ إلَّا اللَّهُ وَلَا رَبٌّ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُجِيبُ الْمُضْطَرِّينَ وَيَرْزُقُ الْعِبَادَ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ الَّذِي يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِ وَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ وَيُسْتَعَاذُ بِهِ وَيَلْتَجِئُ الْعِبَادُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْهُ الْجَدُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَالَ : { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } . فَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا صَحِيحَةٌ وَهِيَ مِنْ صَرِيحِ التَّوْحِيدِ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ
فَالْعِبَادُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَخَافُوا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ } . وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَى إلَّا اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } . وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتَوَكَّلُوا إلَّا عَلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } . وَلَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . وَلَا يَدْعُوا إلَّا اللَّهَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } سَوَاءٌ كَانَ دُعَاءَ عِبَادَةٍ أَوْ دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ .
وَأَمَّا إنْ أَرَادَ الْقَائِلُ : " مَا ثَمَّ إلَّا اللَّهُ " مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الِاتِّحَادِ ؛ مِنْ أَنَّهُ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ إلَّا اللَّهُ وَيَقُولُونَ : لَيْسَ إلَّا اللَّهُ أَيْ لَيْسَ مَوْجُودٌ إلَّا اللَّهُ وَيَقُولُونَ : إنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ وُجُودُ الْخَالِقِ وَالْخَالِقُ هُوَ الْمَخْلُوقُ وَالْمَخْلُوقُ هُوَ الْخَالِقُ وَالْعَبْدُ هُوَ الرَّبُّ وَالرَّبُّ هُوَ الْعَبْدُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الِاتِّحَادِيَّةِ الَّذِينَ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَلَا يُثْبِتُونَ الْمُبَايَنَةَ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي تُوجَدُ فِي كَلَامِ ابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَابْنِ الْفَارِضِ والتلمساني وَنَحْوِهِمْ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ . وَكَذَلِكَ مَنْ يَقُولُ بِالْحُلُولِ كَمَا يَقُولُهُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَيَجْعَلُونَهُ مُخْتَلِطًا بِالْمَخْلُوقَاتِ حَتَّى إنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَهُ فِي الْكِلَابِ وَالْخَنَازِيرِ وَالنَّجَاسَاتِ أَوْ يَجْعَلُونَ وُجُودَ ذَلِكَ وُجُودَهُ فَمَنْ أَرَادَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فَهُوَ مُلْحِدٌ ضَالٌّ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ } فَهَلْ هَذَا مُوَافِقٌ لِمَا يَقُولُهُ الِاتِّحَادِيَّةُ : بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَوْلُهُ { لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ } : مَرْوِيٌّ بِأَلْفَاظِ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : { يَقُولُ اللَّهُ : يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ . يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } وَفِي لَفْظٍ : { لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } وَفِي لَفْظٍ : { يَقُولُ ابْنُ آدَمَ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ وَأَنَا الدَّهْرُ } . فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ { بِيَدِي الْأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ الزَّمَانُ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالزَّمَانُ هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ؛ فَدَلَّ نَفْسُ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ يُقَلِّبُ الزَّمَانَ وَيُصَرِّفُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ } { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } . وَإِزْجَاءُ السَّحَابِ سَوْقُهُ . وَالْوَدْقُ الْمَطَرُ .
فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ لِلْمَطَرِ وَإِنْزَالَهُ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّهُ سَبَبُ الْحَيَاةِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ثُمَّ قَالَ : { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } إذْ تَقْلِيبُهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ : تَحْوِيلُ أَحْوَالِ الْعَالَمِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ خَلْقِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَذَلِكَ سَبَبُ تَحْوِيلِ النَّاسِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ الْمُتَضَمِّنُ رَفْعَ قَوْمٍ وَخَفْضَ آخَرِينَ . وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِخَلْقِهِ الزَّمَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } وَقَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } وَقَوْلِهِ : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ الَّتِي تُبَيِّنُ أَنَّهُ خَالِقُ الزَّمَانِ . وَلَا يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الزَّمَانُ ؛ فَإِنَّ الزَّمَانَ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ . وَالْحَرَكَةُ مِقْدَارُهَا مِنْ بَابِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِغَيْرِهَا : كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ . وَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ هُوَ مِنْ بَابِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْيَانِ فَإِنَّ الْأَعْرَاضَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا بَلْ هِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى مَحَلٍّ تَقُومُ بِهِ وَالْمُفْتَقِرُ إلَى مَا يُغَايِرُهُ لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ بَلْ بِذَلِكَ الْغَيْرِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا بِهِ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْخَالِقُ ؟ . ثُمَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يَحْتَاجَ إلَيْهِ مَا سِوَاهُ وَهَذِهِ صِفَةُ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ .
وَأَهْلُ الْإِلْحَادِ - الْقَائِلُونَ بِالْوَحْدَةِ أَوْ الْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ - لَا يَقُولُونَ إنَّهُ هُوَ الزَّمَانُ وَلَا إنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ هُوَ مَجْمُوعُ الْعَالَمِ أَوْ حَالٌ فِي مَجْمُوعِ الْعَالَمِ . فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ شُبْهَةٌ لَهُمْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - مُقَلِّبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَكَيْفَ وَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ بِيَدِهِ الْأَمْرُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا : فَلِلنَّاسِ فِي الْحَدِيثِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ . أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خَرَجَ الْكَلَامُ فِيهِ لِرَدِّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أَوْ مَنَعُوا أَغْرَاضَهُمْ أَخَذُوا يَسُبُّونَ الدَّهْرَ وَالزَّمَانَ يَقُولُ أَحَدُهُمْ قَبَّحَ اللَّهُ الدَّهْرَ الَّذِي شَتَّتَ شَمْلَنَا وَلَعَنَ اللَّهُ الزَّمَانَ الَّذِي جَرَى فِيهِ كَذَا وَكَذَا . وَكَثِيرًا مَا جَرَى مِنْ كَلَامِ الشُّعَرَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ نَحْوُ هَذَا كَقَوْلِهِمْ : يَا دَهْرُ فَعَلْت كَذَا . وَهُمْ يَقْصِدُونَ سَبَّ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْأُمُورِ وَيُضِيفُونَهَا إلَى الدَّهْرِ فَيَقَعُ السَّبُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ تِلْكَ الْأُمُورَ وَأَحْدَثَهَا وَالدَّهْرُ مَخْلُوقٌ لَهُ هُوَ الَّذِي يُقَلِّبُهُ وَيُصَرِّفُهُ . وَالتَّقْدِيرُ : أَنَّ ابْنَ آدَمَ يَسُبُّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ وَأَنَا فَعَلْتهَا ؛ فَإِذَا سَبَّ الدَّهْرَ فَمَقْصُودُهُ سَبُّ الْفَاعِلِ وَإِنْ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الدَّهْرِ فَالدَّهْرُ لَا فِعْلَ لَهُ ؛ وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ .
وَهَذَا كَرَجُلِ قَضَى عَلَيْهِ قَاضٍ بِحَقِّ أَوْ أَفْتَاهُ مُفْتٍ بِحَقِّ فَجَعَلَ يَقُولُ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَضَى بِهَذَا أَوْ أَفْتَى بِهَذَا وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفُتْيَاهُ فَيَقَعُ السَّبُّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ السَّابُّ - لِجَهْلِهِ - أَضَافَ الْأَمْرَ إلَى الْمُبَلِّغِ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمُبَلَّغُ لَهُ فِعْلٌ مِنْ التَّبْلِيغِ بِخِلَافِ الزَّمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَلِّبُهُ وَيُصَرِّفُهُ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ : إنَّ الدَّهْرَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَاهُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ . وَرَوَوْا فِي بَعْضِ الْأَدْعِيَةِ : يَا دَهْرُ يَا ديهور يَا ديهار وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ وَهُوَ الْآخِرُ لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ ؛ فَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ إنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِهِ يُسَمَّى دَهْرًا بِكُلِّ حَالٍ . فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ - وَهُوَ مِمَّا عُلِمَ بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ - أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ هُوَ الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ الزَّمَانُ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الزَّمَانِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الزَّمَانَ الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ . وَكَذَلِكَ مَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } . قَالُوا عَلَى مِقْدَارِ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ فِي الدُّنْيَا ؛ وَ فِي الْآخِرَةِ يَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمُ الْمَزِيدِ وَالْجَنَّةُ لَيْسَ فِيهَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ ؛ وَلَكِنْ تُعْرَفُ الْأَوْقَاتُ بِأَنْوَارِ أُخَرَ قَدْ رُوِيَ أَنَّهَا تَظْهَرُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَالزَّمَانُ هُنَالِكَ مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ الَّتِي بِهَا تَظْهَرُ تِلْكَ الْأَنْوَارُ .
وَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ سَيَّالٌ هُوَ الدَّهْرُ ؟ هَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ فَأَثْبَتَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ مِنْ أَصْحَابِ أَفْلَاطُونَ كَمَا أَثْبَتُوا الْكُلِّيَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ فِي الْخَارِجِ الَّتِي تُسَمَّى الْمُثُلَ الأفلاطونية وَالْمُثُلَ الْمُطْلَقَةَ ؛ وَأَثْبَتُوا الْهَيُولَى الَّتِي هِيَ مَادَّةٌ مُجَرَّدَةٌ عَنْ الصُّوَرِ وَأَثْبَتُوا الْخَلَاءَ جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ . وَأَمَّا جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ : فَيَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ يُقَدِّرُهَا الذِّهْنُ وَيَفْرِضُهَا فَيَظُنُّ الغالطون أَنَّ هَذَا الثَّابِتَ فِي الْأَذْهَانِ هُوَ بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ كَمَا ظَنُّوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وُجُودُهُ فِي الذِّهْنِ ؛ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ إلَّا شَيْءٌ مُعَيَّنٌ وَهِيَ الْأَعْيَانُ وَمَا يَقُومُ بِهَا مِنْ الصِّفَاتِ فَلَا مَكَانَ إلَّا الْجِسْمُ أَوْ مَا يَقُومُ بِهِ وَلَا زَمَانَ إلَّا مِقْدَارُ الْحَرَكَةِ وَلَا مَادَّةً مُجَرَّدَةً عَنْ الصُّوَرِ ؛ بَلْ وَلَا مَادَّةً مُقْتَرِنَةً بِهَا غَيْرُ الْجِسْمِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَلَا صُورَةً إلَّا مَا هُوَ عَرْضٌ قَائِمٌ بِالْجِسْمِ أَوْ مَا هُوَ جِسْمٌ يَقُومُ بِهِ الْعَرْضُ وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
(*) تَمَّ الْمَوْجُودُ الْآنَ مِنْ كِتَابِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَيَلِيهِ كِتَابُ مُجْمَلُ اعْتِقَادِ السَّلَفِ
الْجُزْءُ الْثَّالِثُ
كِتَابُ مُجْمَلِ اعْتِقَادِ السَّلَفِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ سَأَلَنِي مَنْ تَعَيَّنَتْ إجَابَتُهُمْ أَنْ أَكْتُبَ لَهُمْ مَضْمُونَ مَا سَمِعُوهُ مِنِّي فِي بَعْضِ الْمَجَالِسِ ؛ مِنْ الْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَفِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى تَحْقِيقِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ ، وَكَثْرَةِ الِاضْطِرَابِ
فِيهِمَا . فَإِنَّهُمَا مَعَ حَاجَةِ كُلِّ أَحَدٍ إلَيْهِمَا وَمَعَ أَنَّ أَهْلَ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعِبَادِ : لَا بُدَّ أَنْ يَخْطِرَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَوَاطِرِ وَالْأَقْوَالِ مَا يَحْتَاجُونَ مَعَهُ إلَى بَيَانِ الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ لَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ مَنْ خَاضَ فِي ذَلِكَ بِالْحَقِّ تَارَةً وَبِالْبَاطِلِ تَارَاتٍ وَمَا يَعْتَرِي الْقُلُوبَ فِي ذَلِكَ : مِنْ الشُّبَهِ الَّتِي تُوقِعُهَا فِي أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ فَالْكَلَامُ فِي بَابِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ : هُوَ مِنْ بَابِ الْخَبَرِ الدَّائِرِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْكَلَامُ فِي الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ : هُوَ مِنْ بَابِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ : الدَّائِرُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَبَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالْبُغْضِ : نَفْيًا وَإِثْبَاتًا.
وَالْإِنْسَانُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ؛ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَبَيْنَ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْحَضِّ وَالْمَنْعِ ؛ حَتَّى إنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَبَيْنَ النَّوْعِ الْآخَرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَمَعْرُوفٌ عِنْدَ أَصْنَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَكَمَا ذَكَرَهُ الْمُقَسِّمُونَ لِلْكَلَامِ ؛ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالنَّحْوِ وَالْبَيَانِ فَذَكَرُوا أَنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ : خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ ، وَالْخَبَرُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، وَالْإِنْشَاءُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ إبَاحَةٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَلَا بُدَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يُثْبِتَ لِلَّهِ مَا يَجِبُ إثْبَاتُهُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ مِمَّا يُضَادُّ هَذِهِ الْحَالَ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي أَحْكَامِهِ
مِنْ أَنْ يُثْبِتَ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ فَيُؤْمِنَ بِخَلْقِهِ الْمُتَضَمِّنِ كَمَالَ قُدْرَتِهِ وَعُمُومَ مَشِيئَتِهِ وَيُثْبِتَ أَمْرَهُ الْمُتَضَمِّنَ بَيَانَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ : مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَيُؤْمِنَ بِشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ إيمَانًا خَالِيًا مِنْ الزَّلَلِ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ ( التَّوْحِيدَ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ : وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ وَالْأَوَّلُ يَتَضَمَّنُ ( التَّوْحِيدَ فِي الْعِلْمِ وَالْقَوْلِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ سُورَةُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَدَلَّ عَلَى الْآخَرِ سُورَةُ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } وَهُمَا سُورَتَا الْإِخْلَاصِ وَبِهِمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ - التَّوْحِيدُ فِي الصِّفَاتِ - فَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ : نَفْيًا وَإِثْبَاتًا ؛ فَيُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَيَنْفِي عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ .
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ طَرِيقَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ .
وَكَذَلِكَ يَنْفُونَ عَنْهُ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ الصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ إلْحَادٍ : لَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي آيَاتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ
فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } الْآيَةَ . فَطَرِيقَتُهُمْ تَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مَعَ نَفْيِ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ : إثْبَاتًا بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهًا بِلَا تَعْطِيلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } . فَفِي قَوْلِهِ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } رَدٌّ لِلتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَقَوْلُهُ : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } . رَدٌّ لِلْإِلْحَادِ وَالتَّعْطِيلِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ : بَعَثَ رُسُلَهُ ( بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَنَفَوْا عَنْهُ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } أَيْ نَظِيرًا يَسْتَحِقُّ مِثْلَ اسْمِهِ . وَيُقَالُ : مُسَامِيًا يُسَامِيهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا مَثِيلًا أَوْ شَبِيهًا وَقَالَ تَعَالَى { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يَصِفُونَ } { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ؟ وَقَالَ تَعَالَى : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } { أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ } { أَلَا إنَّهُمْ مِنْ إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ } { وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } { أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ } { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } { فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { إلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } { وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } { وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا يَصِفُهُ الْمُفْتَرُونَ الْمُشْرِكُونَ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ الْإِفْكِ وَالشِّرْكِ وَحَمِدَ نَفْسَهُ ؛ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ بِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَدِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَمَّا ( الْإِثْبَاتُ الْمُفَصَّلُ : فَإِنَّهُ ذَكَرَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا أَنْزَلَهُ فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ كَقَوْلِهِ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } الْآيَةَ بِكَمَالِهَا وَقَوْلِهِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } السُّورَةَ وَقَوْلِهِ : { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }
{ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَوْلِهِ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } وَقَوْلِهِ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ } وَقَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَقَوْلِهِ : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } وَقَوْلِهِ : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } وَقَوْلِهِ { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَوْلِهِ : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ
سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ مِنْ إثْبَاتِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَإِثْبَاتِ وَحْدَانِيِّتِهِ بِنَفْيِ التَّمْثِيلِ مَا هَدَى اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ إلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ . وَأَمَّا مَنْ زَاغَ وَحَادَ عَنْ سَبِيلِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَمَنْ دَخَلَ فِي هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّابِئَةِ والمتفلسفة وَالْجَهْمِيَّة وَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ : فَإِنَّهُمْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَلَا يُثْبِتُونَ إلَّا وُجُودًا مُطْلَقًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ التَّحْصِيلِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى وُجُودٍ فِي الْأَذْهَانِ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ فِي الْأَعْيَانِ فَقَوْلُهُمْ يَسْتَلْزِمُ غَايَةَ التَّعْطِيلِ وَغَايَةَ التَّمْثِيلِ ؛ فَإِنَّهُمْ يُمَثِّلُونَهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ ؛ وَيُعَطِّلُونَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ تَعْطِيلًا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الذَّاتِ . فَغُلَاتُهُمْ يَسْلُبُونَ عَنْهُ النَّقِيضَيْنِ فَيَقُولُونَ : لَا مَوْجُودَ وَلَا مَعْدُومَ وَلَا حَيَّ وَلَا مَيِّتَ وَلَا عَالِمَ وَلَا جَاهِلَ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ إذَا وَصَفُوهُ بِالْإِثْبَاتِ شَبَّهُوهُ بِالْمَوْجُودَاتِ وَإِذَا وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ شَبَّهُوهُ بِالْمَعْدُومَاتِ
فَسُلِبُوا النَّقِيضَيْنِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ ؛ وَحَرَّفُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَوَقَعُوا فِي شَرٍّ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ إذْ سَلْبُ النَّقِيضَيْنِ كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ كِلَاهُمَا مِنْ الْمُمْتَنِعَاتِ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ . أَنَّ الْوُجُودَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ وَاجِبٍ بِذَاتِهِ غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ ؛ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ ؛ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ وَلَا الْعَدَمُ فَوَصَفُوهُ بِمَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ أَوْ الْوُجُودِ أَوْ الْقِدَمِ . وَقَارَبَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَأَتْبَاعَهُمْ فَوَصَفُوهُ بِالسُّلُوبِ وَالْإِضَافَاتِ دُونَ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ وَجَعَلُوهُ هُوَ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ وَقَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِيمَا خَرَجَ عَنْهُ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَجَعَلُوا الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفَ ، فَجَعَلُوا الْعِلْمَ عَيْنَ الْعَالِمِ مُكَابَرَةً لِلْقَضَايَا الْبَدِيهَاتِ وَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ الْأُخْرَى فَلَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ جَحْدًا لِلْعُلُومِ الضَّرُورِيَّاتِ وَقَارَبَهُمْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ ؛ فَأَثْبَتُوا لِلَّهِ الْأَسْمَاءَ دُونَ مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ الصِّفَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْعَلِيمَ وَالْقَدِيرَ ؛ وَالسَّمِيعَ ؛ وَالْبَصِيرَ ؛ كَالْأَعْلَامِ الْمَحْضَةِ الْمُتَرَادِفَاتِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ عَلِيمٌ بِلَا عِلْمٍ قَدِيرٌ بِلَا قُدْرَةٍ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بِلَا سَمْعٍ وَلَا بَصَرٍ فَأَثْبَتُوا الِاسْمَ دُونَ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ الصِّفَاتِ
وَالْكَلَامُ عَلَى فَسَادِ مَقَالَةِ هَؤُلَاءِ وَبَيَانِ تَنَاقُضِهَا بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ الْمُطَابِقِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَهَؤُلَاءِ جَمِيعُهُمْ يَفِرُّونَ مِنْ شَيْءٍ فَيَقَعُونَ فِي نَظِيرِهِ وَفِي شَرٍّ مِنْهُ مَعَ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ وَلَوْ أَمْعَنُوا النَّظَرَ لَسَوَّوْا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْمَعْقُولَاتُ ؛ وَلَكَانُوا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِينَ يَرَوْنَ أَنَّمَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِ وَيَهْدِي إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ . وَلَكِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمَجْهُولَاتِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْمَعْقُولَاتِ يُسَفْسِطُونَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَيُقَرْمِطُونَ فِي السَّمْعِيَّاتِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَوْجُودٍ قَدِيمٍ غَنِيٍّ عَمَّا سِوَاهُ إذْ نَحْنُ نُشَاهِدُ حُدُوثَ الْمُحْدَثَاتِ : كَالْحَيَوَانِ وَالْمَعْدِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَادِثُ مُمْكِنٌ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُمْتَنِعٍ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَالْمُمْكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } فَإِذَا لَمْ يَكُونُوا خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ وَلَا هُمْ الْخَالِقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ تَعَيَّنَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ .
وَإِذَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ فِي الْوُجُودِ مَا هُوَ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَمَا هُوَ مُحْدَثٌ مُمْكِنٌ يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ : فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ وَهَذَا
مَوْجُودٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اتِّفَاقِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذَا مِثْلَ وُجُودِ هَذَا بَلْ وُجُودُ هَذَا يَخُصُّهُ وَوُجُودُ هَذَا يَخُصُّهُ وَاتِّفَاقُهُمَا فِي اسْمٍ عَامٍّ : لَا يَقْتَضِي تَمَاثُلَهُمَا فِي مُسَمَّى ذَلِكَ الِاسْمِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ وَلَا فِي غَيْرِهِ . فَلَا يَقُولُ عَاقِلٌ إذَا قِيلَ أَنَّ الْعَرْشَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ وَأَنَّ الْبَعُوضَ شَيْءٌ مَوْجُودٌ : إنَّ هَذَا مِثْلَ هَذَا ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي مُسَمَّى الشَّيْءِ وَالْوُجُودِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ غَيْرُهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ بَلْ الذِّهْنُ يَأْخُذُ مَعْنًى مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا هُوَ مُسَمَّى الِاسْمِ الْمُطْلَقِ وَإِذَا قِيلَ هَذَا مَوْجُودٌ وَهَذَا مَوْجُودٌ : فَوُجُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا يَخُصُّهُ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ؛ مَعَ أَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ بِأَسْمَاءِ وَسَمَّى صِفَاتِهِ بِأَسْمَاءِ ؛ وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءُ مُخْتَصَّةً بِهِ إذَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ لَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ وَسَمَّى بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ بِأَسْمَاءِ مُخْتَصَّةٍ بِهِمْ مُضَافَةٍ إلَيْهِمْ تُوَافِقُ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ إذَا قُطِعَتْ عَنْ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ ؛ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ اتِّفَاقِ الِاسْمَيْنِ وَتَمَاثُلِ مُسَمَّاهُمَا وَاتِّحَادِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّجْرِيدِ عَنْ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ : اتِّفَاقُهُمَا وَلَا تَمَاثُلَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَتَّحِدَ مُسَمَّاهُمَا عِنْدَ الْإِضَافَةِ وَالتَّخْصِيصِ .
فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ حَيًّا فَقَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ حَيًّا ؛ فَقَالَ : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } وَلَيْسَ هَذَا الْحَيُّ مِثْلَ هَذَا الْحَيِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْحَيَّ اسْمٌ لِلَّهِ مُخْتَصٌّ بِهِ وَقَوْلَهُ :
{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } اسْمٌ لِلْحَيِّ الْمَخْلُوقِ مُخْتَصٌّ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَّفِقَانِ إذَا أُطْلِقَا وَجُرِّدَا عَنْ التَّخْصِيصِ ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ لِلْمُطْلَقِ مُسَمًّى مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَلَكِنَّ الْعَقْلَ يَفْهَمُ مِنْ الْمُطْلَقِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ وَعِنْدَ الِاخْتِصَاصِ يُقَيِّدُ ذَلِكَ بِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الْخَالِقُ عَنْ الْمَخْلُوقِ وَالْمَخْلُوقُ عَنْ الْخَالِقِ وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا فِي جَمِيعِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ يُفْهَمُ مِنْهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ بِالْمُوَاطَأَةِ وَالِاتِّفَاقِ وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بِالْإِضَافَةِ وَالِاخْتِصَاصِ : الْمَانِعَةُ مِنْ مُشَارَكَةِ الْمَخْلُوقِ لِلْخَالِقِ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَكَذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ نَفْسَهُ عَلِيمًا حَلِيمًا وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ عَلِيمًا فَقَالَ : { وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ } يَعْنِي إسْحَاقَ وَسَمَّى آخَرَ حَلِيمًا فَقَالَ : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ } يَعْنِي إسْمَاعِيلَ وَلَيْسَ الْعَلِيمُ كَالْعَلِيمِ وَلَا الْحَلِيمُ كَالْحَلِيمِ ، وَسَمَّى نَفْسَهُ سَمِيعًا بَصِيرًا فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا فَقَالَ : { إنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } وَلَيْسَ السَّمِيعُ كَالسَّمِيعِ وَلَا الْبَصِيرُ كَالْبَصِيرِ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالرَّءُوفِ الرَّحِيمِ . فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِالرَّءُوفِ الرَّحِيمِ فَقَالَ : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } وَلَيْسَ الرَّءُوفُ كَالرَّءُوفِ وَلَا الرَّحِيمُ كَالرَّحِيمِ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْمَلِكِ . فَقَالَ : { الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ } وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِالْمَلِكِ فَقَالَ { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } وَلَيْسَ الْمَلِكُ كَالْمَلِكِ . وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْمُؤْمِنِ الْمُهَيْمِنِ وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِالْمُؤْمِنِ فَقَالَ : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } وَلَيْسَ الْمُؤْمِنُ كَالْمُؤْمِنِ وَسَمَّى نَفْسَهُ بِالْعَزِيزِ فَقَالَ : { الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ بِالْعَزِيزِ فَقَالَ : { قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ } وَلَيْسَ الْعَزِيزُ كَالْعَزِيزِ وَسَمَّى نَفْسَهُ الْجَبَّارَ الْمُتَكَبِّرَ وَسَمَّى بَعْضَ خَلْقِهِ بِالْجَبَّارِ الْمُتَكَبِّرِ قَالَ : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } وَلَيْسَ الْجَبَّارُ كَالْجَبَّارِ وَلَا الْمُتَكَبِّرُ كَالْمُتَكَبِّرِ وَنَظَائِرُ هَذَا مُتَعَدِّدَةٌ وَكَذَلِكَ سَمَّى صِفَاتِهِ بِأَسْمَاءِ وَسَمَّى صِفَاتِ عِبَادِهِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فَقَالَ : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } وَقَالَ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } وَسَمَّى صِفَةَ الْمَخْلُوقِ عِلْمًا وَقُوَّةً فَقَالَ : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } وَقَالَ : { فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } وَقَالَ : { اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً } وَقَالَ : { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ } وَقَالَ : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } أَيْ بِقُوَّةِ وَقَالَ : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ } أَيْ ذَا الْقُوَّةِ وَلَيْسَ الْعِلْمُ كَالْعِلْمِ وَلَا الْقُوَّةُ كَالْقُوَّةِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَشِيئَةِ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَقَالَ : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ : { إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ } { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } وَكَذَلِكَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْإِرَادَةِ وَعَبْدَهُ بِالْإِرَادَةِ فَقَالَ : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَحَبَّةِ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْمَحَبَّةِ فَقَالَ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَقَالَ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالرِّضَا وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالرِّضَا فَقَالَ : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ لَيْسَتْ مِثْلَ مَشِيئَةِ الْعَبْدِ ، وَلَا إرَادَتَهُ مِثْلَ إرَادَتِهِ وَلَا مَحَبَّتَهُ مِثْلَ مَحَبَّتِهِ ، وَلَا رِضَاهُ مِثْلَ رِضَاهُ وَكَذَلِكَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَمْقُتُ الْكُفَّارَ وَوَصَفَهُمْ بِالْمَقْتِ فَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ تُدْعَوْنَ إلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } وَلَيْسَ الْمَقْتُ مِثْلَ الْمَقْتِ
وَهَكَذَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمَكْرِ وَالْكَيْدِ كَمَا وَصَفَ عَبْدَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ } وَقَالَ { إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا } { وَأَكِيدُ كَيْدًا } وَلَيْسَ الْمَكْرُ كَالْمَكْرِ وَلَا الْكَيْدُ كَالْكَيْدِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ فَقَالَ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْعَمَلِ فَقَالَ { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَلَيْسَ الْعَمَلُ كَالْعَمَلِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْمُنَادَاةِ وَالْمُنَاجَاةِ فَقَالَ : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } وَقَالَ : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } وَقَالَ : { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا } وَوَصَفَ عِبَادَهُ بِالْمُنَادَاةِ وَالْمُنَاجَاةِ فَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَقَالَ : { إذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ } وَقَالَ : { إذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } وَلَيْسَ الْمُنَادَاةُ وَلَا الْمُنَاجَاةُ كَالْمُنَاجَاةِ وَالْمُنَادَاةِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّكْلِيمِ فِي قَوْلِهِ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَقَوْلِهِ : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } وَقَوْلِهِ : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالتَّكْلِيمِ فِي قَوْلِهِ : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } وَلَيْسَ التَّكْلِيمُ كَالتَّكْلِيمِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّنْبِئَةِ وَوَصَفَ بَعْضَ الْخَلْقِ بِالتَّنْبِئَةِ فَقَالَ : { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } وَلَيْسَ الْإِنْبَاءُ كَالْإِنْبَاءِ
وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالتَّعْلِيمِ وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالتَّعْلِيمِ فَقَالَ : { الرَّحْمَنِ } { عَلَّمَ الْقُرْآنَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ } { عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } وَقَالَ : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } وَقَالَ : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } وَلَيْسَ التَّعْلِيمُ كَالتَّعْلِيمِ وَهَكَذَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْغَضَبِ فَقَالَ : { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ } وَوَصَفَ عَبْدَهُ بِالْغَضَبِ فِي قَوْلِهِ : { فَرَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا } وَلَيْسَ الْغَضَبُ كَالْغَضَبِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ فِي سَبْعِةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَوَصَفَ بَعْضَ خَلْقِهِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى غَيْرِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } وَقَوْلِهِ : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } وَقَوْلِهِ : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } وَلَيْسَ الِاسْتِوَاءُ كَالِاسْتِوَاءِ وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِبَسْطِ الْيَدَيْنِ فَقَالَ : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } وَوَصَفَ بَعْضَ خَلْقِهِ بِبَسْطِ الْيَدِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } وَلَيْسَ الْيَدُ كَالْيَدِ وَلَا الْبَسْطُ كَالْبَسْطِ ؛ وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْبَسْطِ الْإِعْطَاءَ وَالْجُودَ : فَلَيْسَ إعْطَاءُ اللَّهِ كَإِعْطَاءِ خَلْقِهِ وَلَا جُودُهُ كَجُودِهِمْ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ .
فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَنَفْيِ مُمَاثَلَتِهِ بِخَلْقِهِ فَمَنْ قَالَ : لَيْسَ لِلَّهِ عِلْمٌ وَلَا قُوَّةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا يُحِبُّ وَلَا يَرْضَى وَلَا نَادَى وَلَا نَاجَى وَلَا اسْتَوَى : كَانَ مُعَطِّلًا جَاحِدًا مُمَثِّلًا لِلَّهِ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ وَمَنْ قَالَ لَهُ عِلْمٌ كَعِلْمِي أَوْ قُوَّةٌ كَقُوَّتِي أَوْ حُبٌّ كَحُبِّي أَوْ رِضَاءٌ كَرِضَايَ أَوْ يَدَانِ كيداي أَوْ اسْتِوَاءٌ كَاسْتِوَائِي كَانَ مُشَبِّهًا مُمَثِّلًا لِلَّهِ بِالْحَيَوَانَاتِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتٍ بِلَا تَمْثِيلٍ وَتَنْزِيهٍ بِلَا تَعْطِيلٍ وَيَتَبَيَّنُ هَذَا ( بِأَصْلَيْنِ شَرِيفَيْنِ ) وَمَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى - وَ ( بِخَاتِمَةٍ جَامِعَةٍ )
فَصْلٌ :
فَأَمَّا الْأَصْلَانِ : فَأَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ :
الْقَوْلُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي بَعْضٍ
فَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يَقُولُ : بِأَنَّ اللَّهَ حَيٌّ بِحَيَاةِ عَلِيمٌ بِعِلْمِ قَدِيرٌ بِقُدْرَةِ سَمِيعٌ بِسَمْعِ بَصِيرٌ بِبَصَرِ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ مُرِيدٌ بِإِرَادَةِ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ حَقِيقَةً وَيُنَازِعُ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَكَرَاهَتِهِ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَجَازًا وَيُفَسِّرُهُ إمَّا بِالْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ النِّعَمِ وَالْعُقُوبَاتِ فَيُقَالُ لَهُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا نَفَيْتَهُ وَبَيْنَ مَا أَثْبَتَهُ بَلْ الْقَوْلُ فِي أَحَدِهِمَا كَالْقَوْلِ فِي الْآخَرِ ؛ فَإِنْ قُلْت : إنَّ إرَادَتَهُ مِثْلُ إرَادَةِ الْمَخْلُوقِينَ فَكَذَلِكَ مَحَبَّتُهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبُهُ وَهَذَا هُوَ التَّمْثِيلُ وَإِنْ قُلْت : إنَّ لَهُ إرَادَةً تَلِيقُ بِهِ ؛ كَمَا أَنَّ لِلْمَخْلُوقِ إرَادَةً تَلِيقُ بِهِ قِيلَ لَك : وَكَذَلِكَ لَهُ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ وَلِلْمَخْلُوقِ مَحَبَّةٌ تَلِيقُ بِهِ وَلَهُ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بِهِ وَلِلْمَخْلُوقِ رِضًا وَغَضَبٌ يَلِيقُ بِهِ وَإِنْ قُلْت : الْغَضَبُ غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ فَيُقَالُ لَهُ : وَالْإِرَادَةُ
مَيْلُ النَّفْسِ إلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ فَإِنْ قُلْت : هَذِهِ إرَادَةُ الْمَخْلُوقِ قِيلَ لَك : وَهَذَا غَضَبُ الْمَخْلُوقِ وَكَذَلِكَ يَلْزَمُ الْقَوْلُ فِي كَلَامِهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ إنْ نُفِيَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ ؛ فَهَذَا مُنْتَفٍ عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَجَمِيعِ الصِّفَاتِ وَإِنْ قَالَ : أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِهَذَا إلَّا مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِينَ ؛ فَيَجِبُ نَفْيُهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ : وَهَكَذَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ فَهَذَا الْمُفَرِّقُ بَيْنَ بَعْضِ الصِّفَاتِ وَبَعْضٍ يُقَالُ لَهُ : فِيمَا نَفَاهُ كَمَا يَقُولُهُ هُوَ لِمُنَازِعِهِ فِيمَا أَثْبَتَهُ فَإِذَا قَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ : لَيْسَ لَهُ إرَادَةٌ وَلَا كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِالْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْمُعْتَزِلِيِّ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَتَّصِفُ بِهَا الْقَدِيمُ وَلَا تَكُونُ كَصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ فَهَكَذَا يَقُولُ لَهُ الْمُثْبِتُونَ لِسَائِرِ الصِّفَاتِ مِنْ الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ : تِلْكَ الصِّفَاتُ أَثْبَتَهَا بِالْعَقْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْحَادِثَ دَلَّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَالتَّخْصِيصَ دَلَّ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالْإِحْكَامَ دَلَّ عَلَى الْعِلْمِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَيَاةِ وَالْحَيُّ لَا يَخْلُو عَنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ أَوْ ضِدِّ ذَلِكَ
قَالَ لَهُ سَائِرُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ :
لَك جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ : عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ فَهَبْ أَنَّ مَا سَلَكْت مِنْ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفِيهِ وَلَيْسَ لَك أَنْ تَنْفِيَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لِأَنَّ النَّافِيَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَا عَلَى الْمُثْبِتِ وَالسَّمْعُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مُعَارِضٌ عَقْلِيٌّ وَلَا سَمْعِيٌّ فَيَجِبُ إثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ الدَّلِيلُ السَّالِمُ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِنَظِيرِ مَا أَثْبَتَ بِهِ تِلْكَ مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ فَيُقَالُ نَفْعُ الْعِبَادِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ دَلَّ عَلَى الرَّحْمَةِ كَدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَإِكْرَامُ الطَّائِعِينَ يَدُلُّ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ وَعِقَابُ الْكَافِرِينَ يَدُلُّ عَلَى بُغْضِهِمْ كَمَا قَدْ ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ وَالْخَبَرِ : مِنْ إكْرَامِ أَوْلِيَائِهِ وَعِقَابِ أَعْدَائِهِ وَالْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ فِي مَفْعُولَاتِهِ وَمَأْمُورَاتِهِ - وَهِيَ مَا تَنْتَهِي إلَيْهِ مَفْعُولَاتُهُ وَمَأْمُورَاتُهُ مِنْ الْعَوَاقِبِ الْحَمِيدَةِ - تَدُلُّ عَلَى حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ ؛ كَمَا يَدُلُّ التَّخْصِيصُ عَلَى الْمَشِيئَةِ وَأَوْلَى لِقُوَّةِ الْعِلَّةِ الغائية ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِي مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ النِّعَمِ وَالْحِكَمِ : أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ
وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِمَّنْ يُنْكِرُ الصِّفَاتِ وَيُقِرُّ بِالْأَسْمَاءِ كَالْمُعْتَزِلِيِّ الَّذِي يَقُولُ : إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَيُنْكِرُ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ قِيلَ لَهُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ إثْبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَإِنَّك إنْ قُلْت : إثْبَاتُ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَقْتَضِي تَشْبِيهًا أَوْ تَجْسِيمًا لِأَنَّا لَا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مُتَّصِفًا بِالصِّفَاتِ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ قِيلَ لَك : وَلَا نَجِدُ فِي الشَّاهِدِ مَا هُوَ مُسَمًّى حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ فَإِنْ نَفَيْت مَا نَفَيْت لِكَوْنِك لَمْ تَجِدْهُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا لِلْجِسْمِ فَانْفِ الْأَسْمَاءَ بَلْ وَكُلَّ شَيْءٍ لِأَنَّك لَا تَجِدُهُ فِي الشَّاهِدِ إلَّا لِلْجِسْمِ فَكُلُّ مَا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ يَحْتَجُّ بِهِ نَافِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى ؛ فَمَا كَانَ جَوَابًا لِذَلِكَ كَانَ جَوَابًا لِمُثْبِتِي الصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُخَاطَبُ مِنْ الْغُلَاةِ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَقَالَ لَا أَقُولُ : هُوَ مَوْجُودٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا عَلِيمٌ وَلَا قَدِيرٌ ؛ بَلْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لِمَخْلُوقَاتِهِ إذْ هِيَ مَجَازٌ لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ بِالْمَوْجُودِ الْحَيِّ الْعَلِيمِ قِيلَ لَهُ : كَذَلِكَ إذَا قُلْت : لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيٍّ وَلَا عَلِيمٍ وَلَا قَدِيرٍ كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمَعْدُومَاتِ وَذَلِكَ أَقْبَحُ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْمَوْجُودَاتِ فَإِنْ قَالَ : أَنَا أَنْفِي النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ قِيلَ لَهُ : فَيَلْزَمُك التَّشْبِيهُ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّقِيضَانِ مِنْ الْمُمْتَنِعَاتِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا
أَوْ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ يُوصَفُ ذَلِكَ بِاجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ أَوْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ أَوْ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ أَوْ يُوصَفُ بِنَفْيِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَنَفْيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَنَفْيِ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فَإِنْ قُلْت إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ عَمَّا يَكُونُ قَابِلًا لَهُمَا وَهَذَانِ يَتَقَابَلَانِ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ ؛ لَا تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ فَإِنَّ الْجِدَارَ لَا يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَلَا بَصِيرٌ وَلَا حَيٌّ وَلَا مَيِّتٌ إذْ لَيْسَ بِقَابِلِ لَهُمَا قِيلَ لَك : أَوَّلًا هَذَا لَا يَصِحُّ فِي الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فإنهما مُتَقَابِلَانِ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ وَأَمَّا مَا ذَكَرْته مِنْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ : فَهَذَا اصْطِلَاحٌ اصْطَلَحَتْ عَلَيْهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ وَالِاصْطِلَاحَاتُ اللَّفْظِيَّةُ لَيْسَتْ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } فَسَمَّى الْجَمَادَ مَيِّتًا وَهَذَا مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَقِيلَ لَك ثَانِيًا : فَمَا لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْبَصَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُتَقَابِلَاتِ أَنْقَصُ مِمَّا يَقْبَلُ ذَلِكَ - فَالْأَعْمَى الَّذِي يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْبَصَرِ أَكْمَلُ مِنْ الْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَأَنْتَ فَرَرْت مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْحَيَوَانَاتِ الْقَابِلَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَوَصَفْته بِصِفَاتِ الْجَامِدَاتِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ
وَأَيْضًا فَمَا لَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ : أَعْظَمُ امْتِنَاعًا مِنْ الْقَابِلِ لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ؛ بَلْ وَمِنْ اجْتِمَاعِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَنَفْيِهِمَا جَمِيعًا فَمَا نَفَيْت عَنْهُ قَبُولَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ . كَانَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا نَفَيْت عَنْهُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَإِذَا كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا فِي صَرَائِحِ الْعُقُولِ فَذَاكَ أَعْظَمُ امْتِنَاعًا ؛ فَجَعَلْت الْوُجُودَ الْوَاجِبَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ هُوَ أَعْظَمُ الْمُمْتَنِعَاتِ وَهَذَا غَايَةُ التَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ مِنْهُمْ مَنْ يُصَرِّحُ بِرَفْعِ النَّقِيضَيْنِ : الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ؛ وَرَفْعُهُمَا كَجَمْعِهِمَا . وَمَنْ يَقُولُ لَا أُثْبِتُ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَامْتِنَاعُهُ عَنْ إثْبَاتِ أَحَدِهِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنَّمَا هُوَ كَجَهْلِ الْجَاهِلِ وَسُكُوتِ السَّاكِتِ الَّذِي لَا يُعَبِّرُ عَنْ الْحَقَائِقِ وَإِذَا كَانَ مَا لَا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ أَعْظَمَ امْتِنَاعًا مِمَّا يُقَدَّرُ قَبُولُهُ لَهُمَا - مَعَ نَفْيِهِمَا عَنْهُ - فَمَا يُقَدَّرُ لَا يَقْبَلُ الْحَيَاةَ وَلَا الْمَوْتَ وَلَا الْعِلْمَ وَلَا الْجَهْلَ وَلَا الْقُدْرَةَ وَلَا الْعَجْزَ وَلَا الْكَلَامَ وَلَا الْخَرَسَ وَلَا الْعَمَى وَلَا الْبَصَرَ وَلَا السَّمْعَ وَلَا الصَّمَمَ : أَقْرَبُ إلَى الْمَعْدُومِ الْمُمْتَنِعِ مِمَّا يُقَدَّرُ قَابِلًا لَهُمَا - مَعَ نَفْيِهِمَا عَنْهُ - وَحِينَئِذٍ فَنَفْيُهُمَا مَعَ كَوْنِهِ قَابِلًا لَهُمَا أَقْرَبُ إلَى الْوُجُودِ وَالْمُمْكِنِ وَمَا جَازَ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ - قَابِلًا - وَجَبَ لَهُ ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّفِ صِفَاتِهِ عَلَى غَيْرِهِ ؛ فَإِذَا جَازَ الْقَبُولُ وَجَبَ ؛ وَإِذَا جَازَ وُجُودُ الْقَبُولِ وَجَبَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَبَيْنَ وُجُوبِ اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا : اتِّفَاقُ الْمُسَمَّيَيْنِ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ : لَيْسَ هُوَ
التَّشْبِيهَ وَالتَّمْثِيلَ الَّذِي نَفَتْهُ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّاتُ وَالْعَقْلِيَّاتُ وَإِنَّمَا نَفَتْ مَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاكَهُمَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ الْخَالِقُ مِمَّا يَخْتَصُّ بِوُجُوبِهِ أَوْ جَوَازِهِ أَوْ امْتِنَاعِهِ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرَكَهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ وَلَا يَشْرَكَهُ مَخْلُوقٌ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَمَّا مَا نَفَيْته فَهُوَ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَتَسْمِيَتُك ذَلِكَ تَشْبِيهًا وَتَجْسِيمًا تَمْوِيهٌ عَلَى الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ كُلَّ مَعْنًى سَمَّاهُ مُسَمٍّ بِهَذَا الِاسْمِ يَجِبُ نَفْيُهُ ؛ وَلَوْ سَاغَ هَذَا لَكَانَ كُلُّ مُبْطِلٍ يُسَمِّي الْحَقَّ بِأَسْمَاءِ يَنْفِرُ عَنْهَا بَعْضُ النَّاسِ لِيُكَذِّبَ النَّاسُ بِالْحَقِّ الْمَعْلُومِ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ : أَفْسَدَتْ الْمَلَاحِدَةُ عَلَى طَوَائِفِ النَّاسِ عَقْلَهُمْ وَدِينَهُمْ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ إلَى أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَالْجَهَالَةِ وَأَبْلَغِ الْغَيِّ وَالضَّلَالَةِ وَإِنْ قَالَ نفاة الصِّفَاتِ : إثْبَاتُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ مُسْتَلْزِمٌ تَعَدُّدَ الصِّفَاتِ وَهَذَا تَرْكِيبٌ مُمْتَنِعٌ قِيلَ : وَإِذَا قُلْتُمْ : هُوَ مَوْجُودٌ وَاجِبٌ وَعَقْلٌ وَعَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ . أَفَلَيْسَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا ؟ فَهَذِهِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَغَايِرَةٌ فِي الْعَقْلِ وَهَذَا تَرْكِيبٌ عِنْدَكُمْ وَأَنْتُمْ تُثْبِتُونَهُ وَتُسَمُّونَهُ تَوْحِيدًا فَإِنْ قَالُوا : هَذَا تَوْحِيدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ هَذَا تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا قِيلَ لَهُمْ : وَاتِّصَافُ الذَّاتِ بِالصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لَهَا تَوْحِيدٌ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ تَرْكِيبًا مُمْتَنِعًا
وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ عَالِمًا هُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ قَادِرًا وَلَا نَفْسُ ذَاتِهِ هُوَ نَفْسُ كَوْنِهِ عَالِمًا قَادِرًا ؛ فَمَنْ جَوَّزَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْمَوْصُوفَ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ سَفْسَطَةً ثُمَّ إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ إنْ جَوَّزَ ذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذَا هُوَ وُجُودَ هَذَا فَيَكُونُ الْوُجُودُ وَاحِدًا بِالْعَيْنِ لَا بِالنَّوْعِ وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ هُوَ وُجُودَ الْوَاجِبِ كَانَ وُجُودُ كُلِّ مَخْلُوقٍ يُعْدَمُ بِعَدَمِ وُجُودِهِ وَيُوجَدُ بَعْدَ عَدَمِهِ : هُوَ نَفْسُ وُجُودِ الْحَقِّ الْقَدِيمِ الدَّائِمِ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْعَدَمَ وَإِذَا قُدِّرَ هَذَا كَانَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ مَوْصُوفًا بِكُلِّ تَشْبِيهٍ وَتَجْسِيمٍ وَكُلِّ نَقْصٍ وَكُلِّ عَيْبٍ ؛ كَمَا يُصَرِّحُ بِذَلِكَ أَهْلُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ الَّذِينَ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ أَقْوَالُ نفاة الصِّفَاتِ بَاطِلَةً عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَهَذَا بَابٌ مُطَّرِدٌ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْنُّفَاةِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الصِّفَاتِ : لَا يَنْفِي شَيْئًا فِرَارًا مِمَّا هُوَ مَحْذُورٌ إلَّا وَقَدْ أَثْبَتَ مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ نَظِيرُ مَا فَرَّ مِنْهُ فَلَا بُدَّ فِي آخِرِ الْأَمْرِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ مَوْجُودًا وَاجِبًا قَدِيمًا مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ تُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ فِيهَا مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ فَيُقَالُ لَهُ : هَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَمْعِ الصِّفَاتِ وَكُلُّ مَا تُثْبِتُهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ : فَلَا بُدَّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى قَدْرٍ تَتَوَاطَأُ فِيهِ الْمُسَمَّيَاتُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا فُهِمَ الْخِطَابُ ؛ وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ مَا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ وَامْتَازَ عَنْ خَلْقِهِ : أَعْظَمُ مِمَّا يَخْطِرُ بِالْبَالِ أَوْ يَدُورُ فِي الْخَيَالِ .
وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِالْأَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُقَالَ :
الْقَوْلُ فِي الصِّفَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الذَّاتِ :
فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ . فَإِذَا كَانَ لَهُ ذَاتٌ حَقِيقَةً لَا تُمَاثِلُ الذَّوَاتَ . فَالذَّاتُ مُتَّصِفَةٌ بِصِفَاتِ حَقِيقَةً لَا تُمَاثِلُ سَائِرَ الصِّفَاتِ فَإِذَا قَالَ السَّائِلُ : كَيْفَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ؟ قِيلَ لَهُ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْلَمُهُ الْبَشَرُ وَلَا يُمْكِنُهُمْ الْإِجَابَةُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : كَيْفَ يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ؟ قِيلَ لَهُ : كَيْفَ هُوَ ؟ فَإِذَا قَالَ : لَا أَعْلَمُ كَيْفِيَّتَهُ قِيلَ لَهُ : وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ نُزُولِهِ إذْ الْعِلْمُ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الْمَوْصُوفِ وَهُوَ فَرْعٌ لَهُ وَتَابِعٌ لَهُ ؛ فَكَيْفَ تُطَالِبُنِي بِالْعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَتَكْلِيمِهِ وَاسْتِوَائِهِ وَنُزُولِهِ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ وَإِذَا كُنْت تُقِرُّ بِأَنَّ لَهُ حَقِيقَةً ثَابِتَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسْتَوْجِبَةً لِصِفَاتِ الْكَمَالِ
لَا يُمَاثِلُهَا شَيْءٌ فَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَكَلَامُهُ وَنُزُولُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي لَا يُشَابِهُهُ فِيهَا سَمْعُ الْمَخْلُوقِينَ وَبَصَرُهُمْ وَكَلَامُهُمْ وَنُزُولُهُمْ وَاسْتِوَاؤُهُمْ وَهَذَا الْكَلَامُ لَازِمٌ لَهُمْ فِي الْعَقْلِيَّاتِ وَفِي تَأْوِيلِ السَّمْعِيَّاتِ : فَإِنَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا وَنَفَى شَيْئًا بِالْعَقْلِ - إذَا - أُلْزِمَ فِيمَا نَفَاهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِيمَا أَثْبَتَهُ وَلَوْ طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَحْذُورِ فِي هَذَا وَهَذَا : لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا فَرْقًا وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ لنفاة بَعْضِ الصِّفَاتِ دُونَ بَعْضٍ - الَّذِينَ يُوجِبُونَ فِيمَا نَفَوْهُ : إمَّا التَّفْوِيضَ ؛ وَإِمَّا التَّأْوِيلَ الْمُخَالِفَ لِمُقْتَضَى اللَّفْظِ - قَانُونٌ مُسْتَقِيمٌ . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : لِمَ تَأَوَّلْتُمْ هَذَا وَأَقْرَرْتُمْ هَذَا وَالسُّؤَالُ فِيهِمَا وَاحِدٌ ؟ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ صَحِيحٌ فَهَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي النَّفْيِ وَكَذَا تَنَاقُضُهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَوَّلَ النُّصُوصَ عَلَى مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يُثْبِتُهَا فَإِنَّهُمْ إذَا صَرَفُوا النَّصَّ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُقْتَضَاهُ إلَى مَعْنًى آخَرَ : لَزِمَهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ مَا كَانَ يَلْزَمُهُمْ فِي الْمَعْنَى الْمَصْرُوفِ عَنْهُ فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : تَأْوِيلُ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَسَخَطِهِ : هُوَ إرَادَتُهُ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ؛ كَانَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْإِرَادَةِ نَظِيرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي الْحُبِّ وَالْمَقْتِ وَالرِّضَا وَالسَّخَطِ
وَلَوْ فَسَّرَ ذَلِكَ بِمَفْعُولَاتِهِ وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ مَا فَرَّ مِنْهُ فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ أَوَّلًا بِالْفَاعِلِ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ الْمَفْعُولُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى فِعْلِ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَسْخَطُهُ وَيُبْغِضُهُ الْمُثِيبُ الْمُعَاقِبُ فَهُمْ إنْ أَثْبَتُوا الْفِعْلَ عَلَى مِثْلِ الْوَجْهِ الْمَعْقُولِ فِي الشَّاهِدِ لِلْعَبْدِ مَثَّلُوا وَإِنْ أَثْبَتُوهُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمَثَلَانِ الْمَضْرُوبَانِ : فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَخْبَرَنَا عَمَّا فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ : مِنْ أَصْنَافِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِسِ والمناكح وَالْمَسَاكِنِ ؛ فَأَخْبَرَنَا أَنَّ فِيهَا لَبَنًا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَمَاءً وَلَحْمًا وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَفَاكِهَةً وَحُورًا وَقُصُورًا وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءَ وَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْحَقَائِقُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهَا هِيَ مُوَافِقَةٌ فِي الْأَسْمَاءِ لِلْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لَهَا ؛ بَلْ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّبَايُنِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى : فَالْخَالِقُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لِلْمَخْلُوقَاتِ مِنْهُ مُبَايَنَةَ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ وَمُبَايَنَتُهُ لِمَخْلُوقَاتِهِ : أَعْظَمُ مِنْ مُبَايَنَةِ مَوْجُودِ الْآخِرَةِ لِمَوْجُودِ الدُّنْيَا إذْ الْمَخْلُوقُ أَقْرَبُ إلَى الْمَخْلُوقِ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الِاسْمِ مِنْ الْخَالِقِ إلَى الْمَخْلُوقِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ ، وَلِهَذَا افْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ثَلَاثَ فِرَقٍ :
فَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ وَأَتْبَاعُهُمْ : آمَنُوا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ
الْآخِرِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِالْمُبَايَنَةِ الَّتِي بَيْنَ مَا فِي الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مُبَايَنَةَ اللَّهِ لِخَلْقِهِ أَعْظَمُ وَالْفَرِيقُ الثَّانِي : الَّذِينَ أَثْبَتُوا مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَنَفَوْا كَثِيرًا مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ ؛ مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَرِيقُ الثَّالِثُ : نَفَوْا هَذَا وَهَذَا كَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَالْفَلَاسِفَةِ أَتْبَاعِ الْمَشَّائِينَ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ حَقَائِقَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ ، ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَجْعَلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ فَيَجْعَلُونَ الشَّرَائِعَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَالْمَحْظُورَاتِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا : لَهَا تَأْوِيلَاتٌ بَاطِنَةٌ تُخَالِفُ مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا كَمَا يَتَأَوَّلُونَ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ فَيَقُولُونَ : إنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ مَعْرِفَةُ أَسْرَارِهِمْ ، وَإِنَّ صِيَامَ رَمَضَانَ كِتْمَانُ أَسْرَارِهِمْ ، وَإِنَّ حَجَّ الْبَيْتِ السَّفَرُ إلَى شُيُوخِهِمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهَا كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَى الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَتَحْرِيفٌ لِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَإِلْحَادٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَقَدْ يَقُولُونَ الشَّرَائِعُ تَلْزَمُ الْعَامَّةَ دُونَ الْخَاصَّةِ فَإِذَا صَارَ الرَّجُلُ
مِنْ عَارِفِيهِمْ وَمُحَقِّقِيهِمْ وَمُوَحِّدِيهِمْ : رَفَعُوا عَنْهُ الْوَاجِبَاتِ وَأَبَاحُوا لَهُ الْمَحْظُورَاتِ وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى التَّصَوُّفِ وَالسُّلُوكِ مَنْ يَدْخُلُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ وَهَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةُ : هُمْ الْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى الْمَلَاحِدَةِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ : يَحْتَجُّ بِهِ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَنْ يُشْرِكُ هَؤُلَاءِ فِي بَعْضِ إلْحَادِهِمْ فَإِذَا أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى الصِّفَاتِ وَنَفَى عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ - كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ - كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يُوَافِقُ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ وَيَهْدِمُ أَسَاسَ الْإِلْحَادِ وَالضَّلَالَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ الَّتِي فِيهَا مُمَاثَلَةٌ لِخَلْقِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مَثِيلَ لَهُ ؛ بَلْ لَهُ " الْمَثَلُ الْأَعْلَى " فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ هُوَ وَالْمَخْلُوقَاتُ فِي قِيَاسِ تَمْثِيلٍ وَلَا فِي قِيَاسِ شُمُولٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ وَلَكِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْ كَمَالٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ ، وَكُلَّ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ نَقْصٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِالتَّنْزِيهِ عَنْهُ ، فَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ مُنَزَّهًا عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِ مَعَ الْمُوَافَقَةِ فِي الِاسْمِ : فَالْخَالِقُ أَوْلَى أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقِ ، وَإِنْ حَصَلَتْ مُوَافَقَةٌ فِي الِاسْمِ وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَثَلِ الثَّانِي ،
وَهُوَ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي فِينَا - فَإِنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ بِصِفَاتِ ثُبُوتِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ وَقَدْ أَخْبَرَتْ النُّصُوصُ أَنَّهَا تَعْرُجُ وَتَصْعَدُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ وَأَنَّهَا تُقْبَضُ مِنْ الْبَدَنِ وَتُسَلُّ مِنْهُ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرَةُ مِنْ الْعَجِينَةِ وَالنَّاسُ مُضْطَرِبُونَ فِيهَا ؛ فَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا مِنْ الْبَدَنِ أَوْ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : أَنَّهَا النَّفْسُ أَوْ الرِّيحُ الَّتِي تردد فِي الْبَدَنِ وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : إنَّهَا الْحَيَاةُ أَوْ الْمِزَاجُ أَوْ نَفْسُ الْبَدَنِ وَمِنْهُمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفَلْسَفَةِ يَصِفُونَهَا بِمَا يَصِفُونَ بِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ وَهِيَ أُمُورٌ لَا يَتَّصِفُ بِهَا إلَّا مُمْتَنِعُ الْوُجُودِ فَيَقُولُونَ : لَا هِيَ دَاخِلَةٌ فِي الْبَدَنِ وَلَا خَارِجَةٌ وَلَا مُبَايِنَةٌ لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةٌ لَهُ وَلَا مُتَحَرِّكَةٌ وَلَا سَاكِنَةٌ وَلَا تَصْعَدُ وَلَا تَهْبِطُ وَلَا هِيَ جِسْمٌ وَلَا عَرَضٌ وَقَدْ يَقُولُونَ : أَنَّهَا لَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْمُعَيَّنَةَ وَالْحَقَائِقَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا تُدْرِكُ الْأُمُورَ الْكُلِّيَّةَ الْمُطْلَقَةَ وَقَدْ يَقُولُونَ : أَنَّهَا لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَةً لَهُ وَلَا مُدَاخِلَةً وَرُبَّمَا قَالُوا لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَةً عَنْهَا مَعَ تَفْسِيرِهِمْ لِلْجِسْمِ بِمَا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ فَيَصِفُونَهَا بِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الَّتِي تُلْحِقُهَا بِالْمَعْدُومِ وَالْمُمْتَنِعِ
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : إثْبَاتُ مِثْلِ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ قَالُوا : بَلْ هَذَا مُمْكِنٌ بِدَلِيلِ أَنَّ الْكُلِّيَّاتِ مُمْكِنَةٌ مَوْجُودَةٌ وَهِيَ غَيْرُ مُشَارٍ إلَيْهَا وَقَدْ غَفَلُوا عَنْ كَوْنِ الْكُلِّيَّاتِ لَا تُوجَدُ كُلِّيَّةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْعِيَانِ ؛ فَيَعْتَمِدُونَ فِيمَا يَقُولُونَهُ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْخَيَالِ الَّذِي لَا يَخْفَى فَسَادُهُ عَلَى غَالِبِ الْجُهَّالِ وَاضْطِرَابُ الْنُّفَاةِ وَالْمُثْبِتَةِ فِي الرُّوحِ كَثِيرٌ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّوحَ - الَّتِي تُسَمَّى بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ - لَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْبَدَنِ وَلَا مِنْ جِنْسِ الْعَنَاصِرِ وَالْمُوَلَّدَاتِ مِنْهَا ؛ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ فَصَارَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَهَا إلَّا بِالسُّلُوبِ الَّتِي تُوجِبُ مُخَالَفَتَهَا لِلْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ وَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَهَا مِنْ جِنْسِ الْأَجْسَامِ الْمَشْهُودَةِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا جِسْمٌ أَوْ لَيْسَتْ بِجِسْمِ يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ فَإِنَّ لَفْظَ الْجِسْمِ لِلنَّاسِ فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ غَيْرُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ : الْجِسْمُ هُوَ الْجَسَدُ وَالْبَدَنُ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالرُّوحُ لَيْسَتْ جِسْمًا ؛ وَلِهَذَا يَقُولُونَ : الرُّوحُ وَالْجِسْمُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ }
وَأَمَّا أَهْلُ الْكَلَامِ : فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْجِسْمُ هُوَ الْمَوْجُودُ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّهُ مُشَارٌ إلَيْهِ إشَارَةً حِسِّيَّةً وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ مُرَكَّبًا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا بَلْ هُوَ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهِ وَيُقَالُ : إنَّهُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ ؛ فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَتْ الرُّوحُ مِمَّا يُشَارُ إلَيْهَا وَيَتْبَعُهَا بَصَرُ الْمَيِّتِ - كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الرُّوحَ إذَا خَرَجَتْ تَبِعَهَا الْبَصَرُ وَأَنَّهَا تُقْبَضُ وَيُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ } - كَانَتْ الرُّوحُ جِسْمًا بِهَذَا الِاصْطِلَاحِ وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الرُّوحَ إذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً حَيَّةً عَالِمَةً قَادِرَةً سَمِيعَةً بَصِيرَةً : تَصْعَدُ وَتَنْزِلُ وَتَذْهَبُ وَتَجِيءُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ ، وَالْعُقُولُ قَاصِرَةٌ عَنْ تَكْيِيفِهَا وَتَحْدِيدِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا لَهَا نَظِيرًا . وَالشَّيْءُ إنَّمَا تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ بِمُشَاهَدَتِهِ أَوْ مُشَاهَدَةِ نَظِيرِهِ . فَإِذَا كَانَتْ الرُّوحُ مُتَّصِفَةً بِهَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَ عَدَمِ مُمَاثَلَتِهَا لِمَا يُشَاهَدُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ : فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِمُبَايَنَتِهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ مَعَ اتِّصَافِهِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ؛ وَأَهْلُ الْعُقُولِ هُمْ أَعْجَزُ عَنْ أَنْ يَحُدُّوهُ أَوْ يُكَيِّفُوهُ مِنْهُمْ عَنْ أَنْ يَحُدُّوا الرُّوحَ أَوْ يُكَيِّفُوهَا .
فَإِذَا كَانَ مَنْ نَفَى صِفَاتِ الرُّوحِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا لَهَا وَمَنْ مَثَّلَهَا بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ جَاهِلًا مُمَثِّلًا لَهَا بِغَيْرِ شَكْلِهَا وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ ثَابِتَةٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ مُسْتَحِقَّةٌ لِمَا لَهَا مِنْ الصِّفَاتِ : الْخَالِقُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَنْ نَفَى صِفَاتِهِ جَاحِدًا مُعَطِّلًا وَمَنْ قَاسَهُ بِخَلْقِهِ جَاهِلًا بِهِ مُمَثِّلًا " وَهُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ثَابِتٌ بِحَقِيقَةِ الْإِثْبَاتِ مُسْتَحِقٌّ لِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْخَاتِمَةُ الْجَامِعَةُ فَفِيهَا قَوَاعِدُ نَافِعَةٌ
الْقَاعِدَةُ الْأُولَى :
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ فَالْإِثْبَاتُ كَإِخْبَارِهِ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَالنَّفْيُ كَقَوْلِهِ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ إثْبَاتًا وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ النَّفْيِ لَيْسَ فِيهِ مَدْحٌ وَلَا كَمَالٌ ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ عَدَمٌ مَحْضٌ ؛ وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَيْسَ بِشَيْءِ وَمَا لَيْسَ بِشَيْءِ فَهُوَ كَمَا قِيلَ : لَيْسَ بِشَيْءِ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَدْحًا أَوْ كَمَالًا وَلِأَنَّ النَّفْيَ الْمَحْضَ يُوصَفُ بِهِ الْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ وَالْمَعْدُومُ وَالْمُمْتَنِعُ لَا يُوصَفُ بِمَدْحِ وَلَا كَمَالٍ .
فَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ النَّفْيِ مُتَضَمِّنًا لِإِثْبَاتِ مَدْحٍ كَقَوْلِهِ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } فَنَفْيُ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ : يَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحَيَاةِ وَالْقِيَامِ ؛ فَهُوَ مُبَيِّنٌ لِكَمَالِ أَنَّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } أَيْ لَا يُكْرِثُهُ وَلَا يُثْقِلُهُ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَمَامِهَا بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الْقَادِرِ إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الشَّيْءِ بِنَوْعِ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ فَإِنَّ هَذَا نَقْصٌ فِي قُدْرَتِهِ وَعَيْبٌ فِي قُوَّتِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ } فَإِنَّ نَفْيَ الْعُزُوبِ مُسْتَلْزِمٌ لِعِلْمِهِ بِكُلِّ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } فَإِنَّ نَفْيَ مَسِّ اللُّغُوبِ الَّذِي هُوَ التَّعَبُ وَالْإِعْيَاءُ دَلَّ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَنِهَايَةِ الْقُوَّةِ بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَلْحَقُهُ مِنْ التَّعَبِ والكلال مَا يَلْحَقُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } إنَّمَا نَفَى الْإِدْرَاكَ الَّذِي هُوَ الْإِحَاطَةُ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَنْفِ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُرَى وَلَيْسَ فِي كَوْنِهِ لَا يُرَى مَدْحٌ ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْمَعْدُومُ مَمْدُوحًا وَإِنَّمَا الْمَدْحُ فِي كَوْنِهِ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ رُئِيَ ؛ كَمَا أَنَّهُ لَا يُحَاطُ بِهِ وَإِنْ عُلِمَ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا عُلِمَ لَا يُحَاطُ بِهِ عِلْمًا : فَكَذَلِكَ إذَا رُئِيَ لَا يُحَاطُ بِهِ رُؤْيَةً
فَكَانَ فِي نَفْيِ الْإِدْرَاكِ مِنْ إثْبَاتِ عَظَمَتِهِ مَا يَكُونُ مَدْحًا وَصِفَةَ كَمَالٍ وَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ لَا عَلَى نَفْيِهَا لَكِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ مَعَ عَدَمِ الْإِحَاطَةِ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَإِذَا تَأَمَّلْت ذَلِكَ : وَجَدْت كُلَّ نَفْيٍ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتًا هُوَ مِمَّا لَمْ يَصِفْ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَاَلَّذِينَ لَا يَصِفُونَهُ إلَّا بِالسُّلُوبِ : لَمْ يُثْبِتُوا فِي الْحَقِيقَةِ إلَهًا مَحْمُودًا بَلْ وَلَا مَوْجُودًا وَكَذَلِكَ مَنْ شَارَكَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَرَى أَوْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ أَوْ لَمْ يَسْتَوِ عَلَى الْعَرْشِ وَيَقُولُونَ : لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ وَلَا محايثا لَهُ ؛ إذْ هَذِهِ الصِّفَاتُ يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ بِهَا الْمَعْدُومُ ؛ وَلَيْسَتْ هِيَ صِفَةً مُسْتَلْزِمَةً صِفَةَ ثُبُوتٍ وَلِهَذَا " قَالَ مَحْمُودُ بْنُ سبكتكين " لِمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ فِي الْخَالِقِ : مَيِّزْ لَنَا بَيْنَ هَذَا الرَّبِّ الَّذِي تُثْبِتُهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومِ . وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَا يَنْزِلُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ صِفَةُ مَدْحٍ وَلَا كَمَالٍ ؛ بَلْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهَا تَشْبِيهٌ لَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ أَوْ الْمَعْدُومَاتِ فَهَذِهِ الصِّفَاتُ : مِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْمَعْدُومُ وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ إلَّا الْجَمَادَاتُ وَالنَّاقِصُ فَمَنْ قَالَ : لَا هُوَ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَاخِلٌ لِلْعَالَمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : لَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَا قَدِيمٌ وَلَا مُحْدَثٌ وَلَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَالَمِ وَلَا مُقَارِنٌ لَهُ
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ وَلَا مُتَكَلِّمٍ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا أَصَمَّ أَعْمَى أَبْكَمَ . فَإِنْ قَالَ : الْعَمَى عَدَمُ الْبَصَرِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَقْبَلَ الْبَصَرَ وَمَا لَمْ يَقْبَلْ الْبَصَرَ كَالْحَائِطِ لَا يُقَالُ لَهُ أَعْمَى وَلَا بَصِيرٌ قِيلَ لَهُ : هَذَا اصْطِلَاحٌ اصْطَلَحْتُمُوهُ وَإِلَّا فَمَا يُوصَفُ بِعَدَمِ الْحَيَاةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ : يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِالْمَوْتِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالْعُجْمَةِ وَأَيْضًا فَكُلُّ مَوْجُودٍ يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَنَقَائِضِهَا فَإِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى جَعْلِ الْجَمَادِ حَيًّا كَمَا جَعَلَ عَصَى مُوسَى حَيَّةً ابْتَلَعَتْ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ وَأَيْضًا فَاَلَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْظَمُ نَقْصًا مِمَّنْ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا مَعَ اتِّصَافِهِ بِنَقَائِضِهَا . فَالْجَمَادُ الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالْبَصَرِ وَلَا الْعَمَى وَلَا الْكَلَامِ وَلَا الْخَرَسِ : أَعْظَمُ نَقْصًا مِنْ الْحَيِّ الْأَعْمَى الْأَخْرَسِ فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْبَارِي لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِذَلِكَ : كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ أَعْظَمُ مِمَّا إذَا وُصِفَ بِالْخَرَسِ وَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ مَعَ أَنَّهُ إذَا جُعِلَ غَيْرَ قَابِلٍ لَهَا كَانَ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِوَاحِدِ مِنْهَا . وَهَذَا تَشْبِيهٌ بِالْجَمَادَاتِ ؛ لَا بِالْحَيَوَانَاتِ ، فَكَيْفَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّا يَزْعُمُ أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالْحَيِّ
وَأَيْضًا فَنَفْسُ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ كَمَا أَنَّ إثْبَاتَهَا كَمَالٌ فَالْحَيَاةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعْيِينِ الْمَوْصُوفِ بِهَا صِفَةُ كَمَالٍ ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْفِعْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ وَمَا كَانَ صِفَةَ كَمَالٍ : فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ مَعَ اتِّصَافِ الْمَخْلُوقِ بِهِ : لَكَانَ الْمَخْلُوقُ أَكْمَلَ مِنْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةَ كَالْقَرَامِطَةِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ : يَنْفُونَ عَنْهُ تَعَالَى اتِّصَافَهُ بِالنَّقِيضَيْنِ حَتَّى يَقُولُونَ لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيٍّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخُلُوَّ عَنْ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ فِي بَدَائِهِ الْعُقُولِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَآخَرُونَ وَصَفُوهُ بِالنَّفْيِ فَقَطْ فَقَالُوا لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا سَمِيعٍ وَلَا بَصِيرٍ ؛ وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ أُولَئِكَ مِنْ وَجْهٍ وَأُولَئِكَ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهٍ فَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ وَصْفَهُ بِنَقِيضِ ذَلِكَ كَالْمَوْتِ وَالصَّمَمِ وَالْبُكْمِ قَالُوا إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ وَهَذَا الِاعْتِذَارُ يَزِيدُ قَوْلَهُمْ فَسَادًا وَكَذَلِكَ مَنْ ضَاهَى هَؤُلَاءِ - وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ إذَا قِيلَ هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي ضَرُورَةِ الْعَقْلِ كَمَا إذَا قِيلَ : لَيْسَ بِقَدِيمِ وَلَا مُحْدَثٍ - وَلَا وَاجِبٍ وَلَا مُمْكِنٍ وَلَا قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَلَا قَائِمٍ بِغَيْرِهِ قَالُوا هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ قَابِلًا لِذَلِكَ وَالْقَبُولُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُتَحَيِّزِ فَإِذَا انْتَفَى التَّحَيُّزُ انْتَفَى قَبُولُ هَذَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ .
فَيُقَالُ لَهُمْ عِلْمُ الْخَلْقِ بِامْتِنَاعِ الْخُلُوِّ مِنْهُ هَذَيْنِ النَّقِيضَيْنِ : هُوَ عِلْمٌ مُطْلَقٌ لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَوْجُودٌ وَالتَّحَيُّزُ الْمَذْكُورُ : إنْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ الأحياز الْمَوْجُودَةِ تُحِيطُ بِهِ فَهَذَا هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْعَالَمِ ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ أَيْ مُبَايِنٌ لَهَا مُتَمَيِّزٌ عَنْهَا فَهَذَا هُوَ الْخُرُوجُ فَالْمُتَحَيِّزُ يُرَادُ بِهِ تَارَةً مَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ وَتَارَةً مَا هُوَ خَارِجُ الْعَالَمِ فَإِذَا قِيلَ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ كَانَ مَعْنَاهُ لَيْسَ بِدَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ ، فَهُمْ غَيَّرُوا الْعِبَارَةَ لِيُوهِمُوا مَنْ لَا يَفْهَمُ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ أَنَّ هَذَا مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عُلِمَ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ ؛ كَمَا فَعَلَ أُولَئِكَ بِقَوْلِهِمْ لَيْسَ بِحَيِّ وَلَا مَيِّتٍ وَلَا مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ وَلَا عَالِمٍ وَلَا جَاهِلٍ .
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ :
أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ عَنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ - سَوَاءٌ عَرَفْنَا مَعْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ - لِأَنَّهُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ؛ فَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا مَعَ أَنَّ هَذَا الْبَابَ يُوجَدُ عَامَّتُهُ مَنْصُوصًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَلْ وَلَا لَهُ : أَنْ يُوَافِقَ أَحَدًا عَلَى إثْبَاتِ لَفْظِهِ أَوْ نَفْيِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مُرَادَهُ فَإِنْ أَرَادَ حَقًّا قُبِلَ وَإِنْ أَرَادَ بَاطِلًا رُدَّ وَإِنْ اشْتَمَلَ كَلَامُهُ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ لَمْ يُقْبَلْ مُطْلَقًا وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ مَعْنَاهُ بَلْ يُوقَفُ اللَّفْظُ وَيُفَسَّرُ الْمَعْنَى كَمَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَفْظُ الْجِهَةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ اللَّهِ فَيَكُونُ مَخْلُوقًا كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ نَفْسُ الْعَرْشِ أَوْ نَفْسُ السَّمَوَاتِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا إذَا أُرِيدَ بِالْجِهَةِ مَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِي النَّصِّ إثْبَاتُ لَفْظِ الْجِهَةِ وَلَا نَفْيُهُ كَمَا فِيهِ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ وَالِاسْتِوَاءِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالْعُرُوجِ إلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ
إلَّا الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ وَالْخَالِقُ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ ؛ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . فَيُقَالُ لِمَنْ نَفَى الْجِهَةَ : أَتُرِيدُ بِالْجِهَةِ أَنَّهَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ ؟ فَاَللَّهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَمْ تُرِيدُ بِالْجِهَةِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ اللَّهُ فِي جِهَةٍ : أَتُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَالَمِ ؟ أَوْ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ دَاخِلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ فَإِنْ أَرَدْت الْأَوَّلَ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ أَرَدْت الثَّانِيَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّحَيُّزِ : إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ تَحُوزُهُ الْمَخْلُوقَاتُ فَاَللَّهُ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ ؛ بَلْ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقْبِضُ اللَّهُ الْأَرْضَ وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ ؟ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { وَإِنَّهُ لَيَدْحُوهَا كَمَا يَدْحُو الصِّبْيَانَ بِالْكُرَةِ } وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { مَا السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ إلَّا كَخَرْدَلَةِ فِي يَدِ أَحَدِكُمْ } وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ أَيْ مُبَايِنٌ لَهَا مُنْفَصِلٌ عَنْهَا لَيْسَ حَالًّا فِيهَا : فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ : فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ .
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ :
إذَا قَالَ الْقَائِلُ : ظَاهِرُ النُّصُوصِ مُرَادٌ أَوْ ظَاهِرُهَا لَيْسَ بِمُرَادِ فَإِنَّهُ يُقَالُ : لَفْظُ الظَّاهِرِ فِيهِ إجْمَالٌ وَاشْتِرَاكٌ فَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا التَّمْثِيلُ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ أَوْ مَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ ؛ وَلَكِنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ هَذَا ظَاهِرَهَا وَلَا يَرْتَضُونَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كُفْرًا وَبَاطِلًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ الَّذِي وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ إلَّا مَا هُوَ كُفْرٌ أَوْ ضَلَالٌ وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ ظَاهِرَهَا ذَلِكَ يَغْلَطُونَ مِنْ وَجْهَيْنِ : تَارَةً يَجْعَلُونَ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ ظَاهِرَ اللَّفْظِ حَتَّى يَجْعَلُوهُ مُحْتَاجًا إلَى تَأْوِيلٍ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَتَارَةً يَرُدُّونَ الْمَعْنَى الْحَقَّ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ بَاطِلٌ ( فَالْأَوَّلُ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ : { عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي } الْحَدِيثَ وَفِي الْأَثَرِ الْآخَرِ : { الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ أَوْ قَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ } وَقَوْلِهِ : { قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ } فَقَالُوا : قَدْ عُلِمَ أَنْ لَيْسَ فِي قُلُوبِنَا أَصَابِعُ الْحَقِّ
فَيُقَالُ لَهُمْ : لَوْ أَعْطَيْتُمْ النُّصُوصَ حَقَّهَا مِنْ الدَّلَالَةِ لَعَلِمْتُمْ أَنَّهَا لَمْ تَدُلَّ إلَّا عَلَى حَقٍّ أَمَّا ( الْوَاحِدُ فَقَوْلُهُ : { الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ صَافَحَهُ وَقَبَّلَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ } صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ لَيْسَ هُوَ صِفَةً لِلَّهِ وَلَا هُوَ نَفْسُ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ : { فَمَنْ قَبَّلَهُ وَصَافَحَهُ فَكَأَنَّمَا صَافَحَ اللَّهَ وَقَبَّلَ يَمِينَهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشَبَّهَ لَيْسَ هُوَ الْمُشَبَّهَ بِهِ فَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ مُسْتَلِمَهُ لَيْسَ مُصَافِحًا لِلَّهِ ؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ يَمِينِهِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ ظَاهِرُهُ كُفْرًا لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى التَّأْوِيلِ . مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؟ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ : فَهُوَ فِي الصَّحِيحِ مُفَسَّرًا : { يَقُولُ اللَّهُ عَبْدِي جُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي فَيَقُولُ : رَبِّ كَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا جَاعَ فَلَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ : رَبِّ كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَمْرَضْ وَلَا يَجُعْ وَلَكِنْ مَرِضَ عَبْدُهُ وَجَاعَ عَبْدُهُ فَجَعَلَ جُوعَهُ جُوعَهُ وَمَرَضَهُ مَرَضَهُ مُفَسِّرًا ذَلِكَ بِأَنَّك لَوْ أَطْعَمْته لَوَجَدْت ذَلِكَ عِنْدِي وَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ ؛ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْحَدِيثِ لَفْظٌ يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُ { قُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ } فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ أَنَّ الْقَلْبَ مُتَّصِلٌ بِالْأَصَابِعِ وَلَا مُمَاسٌّ لَهَا وَلَا أَنَّهَا فِي جَوْفِهِ وَلَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ هَذَا بَيْنَ يَدَيَّ مَا يَقْتَضِي مُبَاشَرَتَهُ لِيَدَيْهِ وَإِذَا قِيلَ : السَّحَابُ الْمُسَخَّرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ مُمَاسًّا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلَ أَنْ يُجْعَلَ اللَّفْظُ نَظِيرًا لِمَا لَيْسَ مِثْلَهُ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } ؟ فَقِيلَ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا } ؟ فَهَذَا لَيْسَ مِثْلَ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ هُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الْأَيْدِي ؛ فَصَارَ شَبِيهًا بِقَوْلِهِ : { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } وَهُنَا أَضَافَ الْفِعْلَ إلَيْهِ فَقَالَ : { لِمَا خَلَقْتُ } ثُمَّ قَالَ : { بِيَدَيَّ } وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ هُنَا ذَكَرَ نَفْسَهُ الْمُقَدَّسَةَ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ وَفِي الْيَدَيْنِ ذَكَرَ لَفْظَ التَّثْنِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وَهُنَاكَ أَضَافَ الْأَيْدِيَ إلَى صِيغَةِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } . وَهَذَا فِي ( الْجَمْعِ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { بِيَدِهِ الْمُلْكُ } وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ فِي ( الْمُفْرَدِ فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَذْكُرُ نَفْسَهُ تَارَةً بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ مُظْهَرًا أَوْ مُضْمَرًا وَتَارَةً بِصِيغَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ : { إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَلَا يَذْكُرُ نَفْسَهُ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ قَطُّ ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ تَقْتَضِي التَّعْظِيمَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ ؛ وَرُبَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَعَانِي أَسْمَائِهِ
وَأَمَّا صِيغَةُ التَّثْنِيَةِ فَتَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ الْمَحْصُورِ وَهُوَ مُقَدَّسٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَوْ قَالَ : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } لَمَا كَانَ كَقَوْلِهِ : { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ : { بِيَدِهِ الْمُلْكُ } وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ وَلَوْ قَالَ خَلَقْت بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ لَكَانَ مُفَارِقًا لَهُ ؛ فَكَيْفَ إذَا قَالَ خَلَقْت بِيَدَيَّ ؟ بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ هَذَا مَعَ دَلَالَاتِ الْأَحَادِيثِ الْمُسْتَفِيضَةِ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { الْمُقْسِطُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ : الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَ النُّصُوصِ الْمُتَنَازَعِ فِي مَعْنَاهَا مِنْ جِنْسِ ظَاهِرِ النُّصُوصِ الْمُتَّفَقِ عَلَى مَعْنَاهَا - وَالظَّاهِرُ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْجَمِيعِ - فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ مُرَادٌ : كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا بِهَذَا الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُ كَعِلْمِنَا وَقُدْرَتُهُ كَقُدْرَتِنَا وَكَذَلِكَ لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَيٌّ حَقِيقَةً عَالِمٌ حَقِيقَةً قَادِرٌ حَقِيقَةً ؛ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُمْ أَنَّهُ مِثْلُ الْمَخْلُوقِ الَّذِي هُوَ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ؛ فَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَقَوْلِهِ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ اسْتِوَاءً كَاسْتِوَاءِ الْمَخْلُوقِ وَلَا حُبًّا كَحُبِّهِ وَلَا رِضًا كَرِضَاهُ
فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ يَظُنُّ أَنَّ ظَاهِرَ الصِّفَاتِ تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لَزِمَهُ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ظَاهِرِ ذَلِكَ مُرَادًا وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ ظَاهِرَهَا مَا يَلِيقُ بِالْخَالِقِ وَيَخْتَصُّ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُ هَذَا الظَّاهِرِ وَنَفْيُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ ؛ وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ وَلَا السَّمْعِ مَا يَنْفِي هَذَا إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَنْفِي بِهِ سَائِرَ الصِّفَاتِ فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدًا وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ صِفَاتِنَا مِنْهَا مَا هِيَ أَعْيَانٌ وَأَجْسَامٌ وَهِيَ أَبْعَاضٌ لَنَا كَالْوَجْهِ وَالْيَدِ : وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعَانٍ وَأَعْرَاضٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ بِنَا : كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ . ثُمَّ إنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الرَّبَّ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ : لَمْ يَقُلْ الْمُسْلِمُونَ إنَّ ظَاهِرَ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ مِثْلُ مَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا ؛ فَكَذَلِكَ لَمَّا وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ مُرَادٍ لِأَنَّ مَفْهُومَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَمَفْهُومِهِ فِي حَقِّنَا بَلْ صِفَةُ الْمَوْصُوفِ تُنَاسِبُهُ . فَإِذَا كَانَتْ نَفْسُهُ الْمُقَدَّسَةُ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَصِفَاتُهُ كَذَاتِهِ لَيْسَتْ كَصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَنِسْبَةُ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ صِفَةِ الْخَالِقِ إلَيْهِ وَلَيْسَ الْمَنْسُوبُ كَالْمَنْسُوبِ وَلَا الْمَنْسُوبُ إلَيْهِ كَالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ ؛ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَلَمْ يُشَبِّهْ الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ .
وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِـ :
الْقَاعِدَةِ الرَّابِعَةِ :
وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الصِّفَاتِ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهَا ؛ أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ كُلِّهَا أَنَّهَا تُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ثُمَّ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الَّذِي فَهِمَهُ فَيَقَعُ فِي ( أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَحَاذِيرِ : - ( أَحَدُهَا كَوْنُهُ مِثْلَ مَا فَهِمَهُ مِنْ النُّصُوصِ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَظَنَّ أَنَّ مَدْلُولَ النُّصُوصِ هُوَ التَّمْثِيلُ ( الثَّانِي أَنَّهُ إذَا جَعَلَ ذَلِكَ هُوَ مَفْهُومَهَا وَعَطَّلَهُ بَقِيَتْ النُّصُوصُ مُعَطَّلَةً عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ اللَّائِقَةِ بِاَللَّهِ . فَيَبْقَى مَعَ جِنَايَتِهِ عَلَى النُّصُوصِ ؛ وَظَنِّهِ السَّيِّئِ الَّذِي ظَنَّهُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ - حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمَا هُوَ التَّمْثِيلُ الْبَاطِلُ - قَدْ عَطَّلَ مَا أَوْدَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي كَلَامِهِمَا مِنْ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ وَالْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ اللَّائِقَةِ بِجَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى ( الثَّالِثُ أَنَّهُ يَنْفِي تِلْكَ الصِّفَاتِ عَنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛ فَيَكُونُ مُعَطِّلًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ
الرَّابِعُ : أَنَّهُ يَصِفُ الرَّبَّ بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفَاتِ مِنْ صِفَاتِ الْأَمْوَاتِ وَالْجَمَادَاتِ أَوْ صِفَاتِ الْمَعْدُومَاتِ فَيَكُونُ قَدْ عَطَّلَ بِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الرَّبُّ وَمَثَّلَهُ بِالْمَنْقُوصَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَعَطَّلَ النُّصُوصَ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَجَعَلَ مَدْلُولَهَا هُوَ التَّمْثِيلَ بِالْمَخْلُوقَاتِ . فَيُجْمَعُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَفِي اللَّهِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْثِيلِ يَكُونُ مُلْحِدًا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ .
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ النُّصُوصَ كُلَّهَا دَلَّتْ عَلَى وَصْفِ الْإِلَهِ بِالْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ - فَأَمَّا عُلُوُّهُ وَمُبَايَنَتُهُ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَيُعْلَمُ بِالْعَقْلِ الْمُوَافِقِ لِلسَّمْعِ ؛ وَأَمَّا الِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ فَطَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ هُوَ السَّمْعُ . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصْفٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَهُ وَلَا مُدَاخِلَهُ فَيَظُنُّ الْمُتَوَهِّمُ أَنَّهُ إذَا وُصِفَ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ : كَانَ اسْتِوَاؤُهُ كَاسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ ؛ كَقَوْلِهِ : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } { لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ } فَيَتَخَيَّلُ لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ كَحَاجَةِ الْمُسْتَوِي عَلَى الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ فَلَوْ غَرِقَتْ السَّفِينَةُ لَسَقَطَ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا وَلَوْ عَثَرَتْ الدَّابَّةُ لَخَرَّ الْمُسْتَوِي عَلَيْهَا . فَقِيَاسُ هَذَا أَنَّهُ لَوْ عَدِمَ الْعَرْشُ لَسَقَطَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ يُرِيدُ بِزَعْمِهِ أَنْ يَنْفِيَ هَذَا فَيَقُولَ : لَيْسَ اسْتِوَاؤُهُ بِقُعُودِ وَلَا اسْتِقْرَارٍ
وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ مُسَمَّى الْقُعُودِ وَالِاسْتِقْرَارِ يُقَالُ فِيهِ مَا يُقَالُ فِي مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاخِلَةً فِي ذَلِكَ : فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالْقُعُودِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَلَيْسَ هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوِيًا وَلَا مُسْتَقِرًّا وَلَا قَاعِدًا وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي مُسَمَّى ذَلِكَ إلَّا مَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ فَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا وَنَفْيُ الْآخَرِ تَحَكُّمٌ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ مُسَمَّى الِاسْتِوَاءِ وَالِاسْتِقْرَارِ وَالْقُعُودِ فُرُوقًا مَعْرُوفَةً . وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنْ يُعْلَمَ خَطَأُ مَنْ يَنْفِي الشَّيْءَ مَعَ إثْبَاتِ نَظِيرِهِ وَكَأَنَّ هَذَا الْخَطَأَ مِنْ خَطَئِهِ فِي مَفْهُومِ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُ اسْتِوَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَالْفُلْكِ وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الِاسْتِوَاءَ إلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ كَمَا أَضَافَ إلَيْهِ سَائِرَ أَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ . فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ ثُمَّ اسْتَوَى كَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَدَّرَ فَهَدَى وَأَنَّهُ بَنَى السَّمَاءَ بِأَيْدٍ وَكَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ مَعَ مُوسَى وَهَارُونَ يَسْمَعُ وَيَرَى وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَلَمْ يَذْكُرْ اسْتِوَاءً مُطْلَقًا يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِ وَلَا عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْمَخْلُوقَ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اسْتِوَاءً أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ فَلَوْ قُدِّرَ - عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ الْمُمْتَنِعِ - أَنَّهُ هُوَ مِثْلُ خَلْقِهِ - تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ - لَكَانَ اسْتِوَاؤُهُ مِثْلَ اسْتِوَاءِ خَلْقِهِ أَمَّا إذَا كَانَ هُوَ لَيْسَ مُمَاثِلًا لِخَلْقِهِ بَلْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ الْغَنِيُّ عَنْ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْعَرْشِ وَلِغَيْرِهِ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ
وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا اسْتِوَاءً يَخُصُّهُ لَمْ يَذْكُرْ اسْتِوَاءً يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ وَلَا يَصْلُحُ لَهُ - كَمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرُؤْيَتِهِ وَسَمْعِهِ وَخَلْقِهِ إلَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ - فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ الْعَرْشُ لَخَرَّ مَنْ عَلَيْهِ ؟ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا هَلْ هَذَا إلَّا جَهْلٌ مَحْضٌ وَضَلَالٌ مِمَّنْ فَهِمَ ذَلِكَ وَتَوَهَّمَهُ أَوْ ظَنَّهُ ظَاهِرَ اللَّفْظِ وَمَدْلُولَهُ أَوْ جَوَّزَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الْغَنِيِّ عَنْ الْخَلْقِ ؟ بَلْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ جَاهِلًا فَهِمَ مِثْلَ هَذَا وَتَوَهَّمَهُ لَبُيِّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ وَأَنَّهُ لَمْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ أَصْلًا كَمَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَظَائِرِهِ فِي سَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ الرَّبُّ نَفْسَهُ . فَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } فَهَلْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ بِنَاءَهُ مِثْلُ بِنَاءِ الْآدَمِيِّ الْمُحْتَاجِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى زِنْبِيلٍ وَمَجَارِفَ وَضَرْبِ لَبِنٍ وَجَبَلِ طِينٍ وَأَعْوَانٍ ؟ ثُمَّ قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَالَمَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ وَلَمْ يَجْعَلْ عَالِيَهُ مُفْتَقِرًا إلَى سَافِلِهِ فَالْهَوَاءُ فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَى أَنْ تَحْمِلَهُ الْأَرْضُ وَالسَّحَابُ أَيْضًا فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَ مُفْتَقِرًا إلَى أَنْ تَحْمِلَهُ وَالسَّمَوَاتُ فَوْقَ الْأَرْضِ وَلَيْسَتْ مُفْتَقِرَةً إلَى حَمْلِ الْأَرْضِ لَهَا ؛ فَالْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ
وَمَلِيكُهُ إذَا كَانَ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ : كَيْفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى خَلْقِهِ أَوْ عَرْشِهِ ؟ أَوْ كَيْفَ يَسْتَلْزِمُ عُلُوُّهُ عَلَى خَلْقِهِ هَذَا الِافْتِقَارَ وَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَلْزَمِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ ؟ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ مَا ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ مِنْ الْغِنَى عَنْ غَيْرِهِ فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَقُّ بِهِ وَأَوْلَى وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِي دَاخِلِ السَّمَوَاتِ فَهُوَ جَاهِلٌ ضَالٌّ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كُنَّا إذَا قُلْنَا : إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ فِي السَّمَاءِ يَقْتَضِي ذَلِكَ فَإِنَّ حَرْفَ ( فِي مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَبِمَا بَعْدَهُ - فَهُوَ بِحَسَبِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ فِي الْمَكَانِ وَكَوْنِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ وَكَوْنِ الْعَرَضِ فِي الْجِسْمِ وَكَوْنِ الْوَجْهِ فِي الْمِرْآةِ وَكَوْنِ الْكَلَامِ فِي الْوَرَقِ فَإِنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ خَاصَّةً يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ حَرْفُ ( فِي مُسْتَعْمَلًا فِي ذَلِكَ فَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ؟ لَقِيلَ فِي السَّمَاءِ وَلَوْ قِيلَ : الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ ؟ لَقِيلَ الْجَنَّةُ فِي السَّمَاءِ ؛ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ دَاخِلَ السَّمَوَاتِ بَلْ وَلَا الْجَنَّةُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ } فَهَذِهِ الْجَنَّةُ سَقْفُهَا الَّذِي هُوَ الْعَرْشُ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ . مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ فِي
السَّمَاءِ يُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ سَوَاءٌ كَانَتْ فَوْقَ الْأَفْلَاكِ أَوْ تَحْتَهَا قَالَ تَعَالَى : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلَى السَّمَاءِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وَلَمَّا كَانَ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى ؛ وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ : إنَّهُ فِي السَّمَاءِ أَنَّهُ فِي الْعُلُوِّ وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ . وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ لَمَّا قَالَ لَهَا أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ إنَّمَا أَرَادَتْ الْعُلُوَّ مَعَ عَدَمِ تَخْصِيصِهِ بِالْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ وَحُلُولِهِ فِيهَا وَإِذَا قِيلَ : الْعُلُوُّ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا فَمَا فَوْقَهَا كُلَّهَا هُوَ فِي السَّمَاءِ وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ ظَرْفٌ وُجُودِيٌّ يُحِيطُ بِهِ إذْ لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ إلَّا اللَّهُ كَمَا لَوْ قِيلَ : الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْعَرْشُ فِي شَيْءٍ آخَرَ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ السَّمَاءَ الْمُرَادُ بِهَا الْأَفْلَاكُ : كَانَ الْمُرَادُ إنَّهُ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } وَكَمَا قَالَ : { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } وَكَمَا قَالَ : { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ } وَيُقَالُ : فُلَانٌ فِي الْجَبَلِ وَفِي السَّطْحِ وَإِنْ كَانَ عَلَى أَعْلَى شَيْءٍ فِيهِ .
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ :
أَنَّا نَعْلَمُ لَمَّا أُخْبِرْنَا بِهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ . فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَقَالَ : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } وَقَالَ : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } وَقَالَ : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } . فَأَمَرَ بِتَدَبُّرِ الْكِتَابِ كُلِّهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ } وَجُمْهُورُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ أبي بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : التَّفْسِيرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ تَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ وَتَفْسِيرٌ تَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَطَائِفَةٍ : أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ وَقَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ : عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ وَأَسْأَلُهُ عَنْ تَفْسِيرِهَا وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فَإِنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ قَدْ صَارَ بِتَعَدُّدِ الِاصْطِلَاحَاتِ مُسْتَعْمَلًا فِي ثَلَاثَةِ مَعَانٍ :
أَحَدُهَا : وَهُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ : أَنَّ التَّأْوِيلَ هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ ؛ لِدَلِيلِ يَقْتَرِنُ بِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَنَاهُ أَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَأْوِيلِ نُصُوصِ الصِّفَاتِ وَتَرْكِ تَأْوِيلِهَا ؛ وَهَلْ ذَلِكَ مَحْمُودٌ أَوْ مَذْمُومٌ أَوْ حَقٌّ أَوْ بَاطِلٌ ؟ .
الثَّانِي : أَنَّ التَّأْوِيلَ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ كَمَا يَقُولُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَمْثَالُهُ - مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّفْسِيرِ - وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ التَّأْوِيلِ وَمُجَاهِدٌ إمَامُ الْمُفَسِّرِينَ ؛ قَالَ الثَّوْرِيُّ : " إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ " وَعَلَى تَفْسِيرِهِ يَعْتَمِدُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا فَإِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْلَمُ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَالْمُرَادُ بِهِ مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ .
الثَّالِثُ مِنْ مَعَانِي التَّأْوِيلِ : هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يُؤَوَّلُ إلَيْهَا الْكَلَامُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } . فَتَأْوِيلُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِ الْمُعَادِ هُوَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِيهِ مِمَّا يَكُونُ : مِنْ الْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ لَمَّا سَجَدَ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ قَالَ : { يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } فَجَعَلَ عَيْنَ مَا وَجَدَ فِي الْخَارِجِ هُوَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا الثَّانِي : هُوَ تَفْسِيرُ الْكَلَامِ وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يُفَسَّرُ بِهِ اللَّفْظُ حَتَّى يُفْهَمَ مَعْنَاهُ أَوْ تُعْرَفَ عِلَّتُهُ أَوْ دَلِيلُهُ وَهَذَا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ هُوَ عَيْنُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ . { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ يَعْنِي قَوْلَهُ : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ } وَقَوْلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة : السُّنَّةُ هِيَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ : هُوَ تَأْوِيلُ الْأَمْرِ بِهِ وَنَفْسَ الْمَوْجُودِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ هُوَ تَأْوِيلُ الْخَبَرِ وَالْكَلَامُ خَبَرٌ وَأَمْرٌ وَلِهَذَا يَقُولُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ : الْفُقَهَاءُ أَعْلَمُ بِالتَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا
ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ يَعْلَمُونَ تَفْسِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ ؛ لِعِلْمِهِمْ بِمَقَاصِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَعْلَمُ أَتْبَاعُ بقراط وَسِيبَوَيْهِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ مَقَاصِدِهِمَا مَا لَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ اللُّغَةِ ؛ وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِخِلَافِ تَأْوِيلِ الْخَبَرِ . إذَا عُرِفَ ذَلِكَ : فَتَأْوِيلُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ هُوَ حَقِيقَةٌ لِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِمَا لَهَا مِنْ حَقَائِقِ الصِّفَاتِ وَتَأْوِيلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ تَعَالَى مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ هُوَ نَفْسُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلِهَذَا مَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ نَعْمَلُ بِمُحْكَمِهِ وَنُؤْمِنُ بِمُتَشَابِهِهِ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ فِيهِ أَلْفَاظٌ مُتَشَابِهَةٌ يُشْبِهُ مَعَانِيهَا مَا نَعْلَمُهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ فِي الْجَنَّةِ لَحْمًا وَلَبَنًا وَعَسَلًا وَخَمْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهَذَا يُشْبِهُ مَا فِي الدُّنْيَا لَفْظًا وَمَعْنًى ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِثْلَهُ وَلَا حَقِيقَتَهُ فَأَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتُهُ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَسْمَاءِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ تَشَابُهٌ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَجْلِهَا الْخَالِقُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ ، وَلَا حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَتِهِ وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْغَائِبِ لَا يُفْهَمُ إنْ لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بِالْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ مَعَانِيهَا فِي الشَّاهِدِ وَيُعْلَمُ بِهَا مَا فِي الْغَائِبِ بِوَاسِطَةِ الْعِلْمِ بِمَا فِي الشَّاهِدِ ؛ مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَارِقِ الْمُمَيِّزِ وَأَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْغَيْبِ أَعْظَمُ مِمَّا يُعْلَمُ فِي الشَّاهِدِ وَفِي الْغَائِبِ
مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ فَنَحْنُ إذَا أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِالْغَيْبِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ : مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ عَلِمْنَا مَعْنَى ذَلِكَ وَفَهِمْنَا مَا أُرِيدَ مِنَّا فَهْمُهُ بِذَلِكَ الْخِطَابِ وَفَسَّرْنَا ذَلِكَ وَأَمَّا نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهَا مِثْلَ الَّتِي لَمْ تَكُنْ بَعْدُ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ عَنْ قَوْله تَعَالَى { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } قَالُوا : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ ، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ قَبْلَهُ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَمِنْ اللَّهِ الْبَيَانُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْإِيمَانُ فَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَعْلُومٌ وَأَنَّ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ مَجْهُولٌ ، وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي كَلَامِ السَّلَفِ ، وَالْأَئِمَّةُ يَنْفُونَ عِلْمَ الْعِبَادِ بِكَيْفِيَّةِ صِفَاتِ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ اللَّهُ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا هُوَ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ : { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَهَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك } وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمُسْنَدِ ، وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ وَقَدْ أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ لِلَّهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا اسْتَأْثَرَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ .
فَمَعَانِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . فَنَحْنُ نَفْهَمُ مَعْنَى ذَلِكَ وَنُمَيِّزُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا اتَّفَقَتْ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى ذَاتِ اللَّهِ مَعَ تَنَوُّعِ مَعَانِيهَا فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ مُتَوَاطِئَةٌ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ مُتَبَايِنَةٌ مِنْ جِهَةِ الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ مُحَمَّدٍ وَأَحْمَدَ وَالْمَاحِي وَالْحَاشِرِ وَالْعَاقِبِ . وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْقُرْآنِ مِثْلُ الْقُرْآنِ وَالْفُرْقَانِ وَالْهُدَى وَالنُّورِ وَالتَّنْزِيلِ وَالشِّفَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهَا هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَرَادِفَةِ - لِاتِّحَادِ الذَّاتِ - أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَبَايِنَةِ لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ ؟ كَمَا إذَا قِيلَ : السَّيْفُ وَالصَّارِمُ وَالْمُهَنَّدُ وَقُصِدَ بِالصَّارِمِ مَعْنَى الصَّرْمِ وَفِي الْمُهَنَّدِ النِّسْبَةُ إلَى الْهِنْدِ ؛ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ فِي الذَّاتِ مُتَبَايِنَةٌ فِي الصِّفَاتِ وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ وَبِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ جَعَلَ مِنْهُ مَا هُوَ مُحْكَمٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَشَابِهٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ الْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ ؛ وَالْإِحْكَامُ وَالتَّشَابُهُ الَّذِي يَخُصُّ بَعْضَهُ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحْكَمَ آيَاتِهِ كُلَّهَا ، وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كُلَّهُ مُتَشَابِهٌ وَالْحُكْمُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فَالْحَاكِمُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ، وَالْحُكْمُ فَصْلٌ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَاتِ عِلْمًا وَعَمَلًا إذَا مَيَّزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ النَّافِعِ وَتَرْكَ الضَّارِّ فَيُقَالُ : حَكَمْت السَّفِيهَ وَأَحْكَمْته إذَا أَخَذْت عَلَى يَدَيْهِ وَحَكَمْت الدَّابَّةَ وَأَحْكَمْتهَا إذَا جَعَلْت لَهَا حَكَمَةً وَهُوَ مَا أَحَاطَ بِالْحَنَكِ مِنْ اللِّجَامِ وَإِحْكَامُ الشَّيْءِ إتْقَانُهُ فَإِحْكَامُ الْكَلَامِ إتْقَانُهُ بِتَمْيِيزِ الصِّدْقِ مِنْ الْكَذِبِ فِي أَخْبَارِهِ وَتَمْيِيزِ الرُّشْدِ مِنْ الْغَيِّ فِي أَوَامِرِهِ ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِمَعْنَى الْإِتْقَانِ فَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ حَكِيمًا بِقَوْلِهِ : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } فَالْحَكِيمُ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ ؛ كَمَا جَعَلَهُ يَقُصُّ بِقَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وَجَعَلَهُ مُفْتِيًا فِي قَوْلِهِ : { قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } أَيْ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَجَعَلَهُ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } وَأَمَّا التَّشَابُهُ الَّذِي يَعُمُّهُ فَهُوَ ضِدُّ الِاخْتِلَافِ الْمَنْفِيِّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : { وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ } { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } . فَالتَّشَابُهُ هُنَا : هُوَ تَمَاثُلُ الْكَلَامِ وَتَنَاسُبُهُ : بِحَيْثُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ؛ فَإِذَا أَمَرَ بِأَمْرِ لَمْ يَأْمُرْ بِنَقِيضِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ؛ بَلْ يَأْمُرُ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ أَوْ بِمَلْزُومَاتِهِ ؛ وَإِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَلْ يَنْهَى عَنْهُ أَوْ عَنْ نَظِيرِهِ أَوْ عَنْ مَلْزُومَاتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَسْخٌ وَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِثُبُوتِ شَيْءٍ لَمْ يُخْبِرْ بِنَقِيضِ ذَلِكَ بَلْ يُخْبِرُ بِثُبُوتِهِ أَوْ بِثُبُوتِ مَلْزُومَاتِهِ وَإِذَا أَخْبَرَ بِنَفْيِ شَيْءٍ لَمْ يُثْبِتْهُ بَلْ يَنْفِيهِ أَوْ يَنْفِي لَوَازِمَهُ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ الَّذِي يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا فَيُثْبِتُ الشَّيْءَ تَارَةً وَيَنْفِيهِ أُخْرَى أَوْ يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَيَمْدَحُ أَحَدَهُمَا وَيَذُمُّ الْآخَرَ فَالْأَقْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ هُنَا : هِيَ الْمُتَضَادَّةُ . وَالْمُتَشَابِهَةُ : هِيَ الْمُتَوَافِقَةُ وَهَذَا التَّشَابُهُ يَكُونُ فِي الْمَعَانِي وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْأَلْفَاظُ فَإِذَا كَانَتْ الْمَعَانِي يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُعَضِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيُنَاسِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضِ وَيَقْتَضِي بَعْضُهَا بَعْضًا : كَانَ الْكَلَامُ مُتَشَابِهًا ؛ بِخِلَافِ الْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ الَّذِي يُضَادُّ بَعْضُهُ بَعْضًا فَهَذَا التَّشَابُهُ الْعَامُّ : لَا يُنَافِي الْإِحْكَامَ الْعَامَّ بَلْ هُوَ مُصَدِّقٌ لَهُ فَإِنَّ الْكَلَامَ
الْمُحْكَمَ الْمُتْقَنَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا بِخِلَافِ الْإِحْكَامِ الْخَاصِّ ؛ فَإِنَّهُ ضِدُّ التَّشَابُهِ الْخَاصِّ وَالتَّشَابُهُ الْخَاصُّ هُوَ مُشَابَهَةُ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ إنَّهُ هُوَ أَوْ هُوَ مِثْلُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَالْإِحْكَامُ هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَهَذَا التَّشَابُهُ إنَّمَا يَكُونُ بِقَدْرِ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْفَاصِلِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَهْتَدِي لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ مُشْتَبِهًا عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَهْتَدِي إلَى ذَلِكَ ؛ فَالتَّشَابُهُ الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ مَعَهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الْإِضَافِيَّةِ بِحَيْثُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ وَمِثْلُ هَذَا يَعْرِفُ مِنْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مَا يُزِيلُ عَنْهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ كَمَا إذَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِمَا يَشْهَدُونَهُ فِي الدُّنْيَا فَظَنَّ أَنَّهُ مِثْلُهُ فَعَلِمَ الْعُلَمَاءُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ مُشْبِهًا لَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الشُّبَهُ الَّتِي يَضِلُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ وَهِيَ مَا يَشْتَبِهُ فِيهَا الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ حَتَّى تَشْتَبِهَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ ؛ وَمَنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الشُّبُهَاتِ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ لِلشَّيْءِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ بِمَا لَا يُشْبِهُهُ فِيهِ فَمَنْ عَرَفَ الْفَصْلَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ : اهْتَدَى لِلْفَرْقِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ الِاشْتِبَاهُ
وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ ؛ وَمَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا وَيَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَيَفْتَرِقَانِ فِي شَيْءٍ فَبَيْنَهُمَا اشْتِبَاهٌ مِنْ وَجْهٍ وَافْتِرَاقٌ مِنْ وَجْهٍ فَلِهَذَا كَانَ ضَلَالُ بَنِي آدَمَ مِنْ قِبَلِ التَّشَابُهِ وَالْقِيَاسِ الْفَاسِدِ لَا يَنْضَبِطُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ ؛ فَالتَّأْوِيلُ : فِي الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ ، وَالْقِيَاسُ : فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَهُوَ كَمَا قَالَ وَالتَّأْوِيلُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَشَابِهَةِ ، وَالْقِيَاسُ الْخَطَأُ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَعَانِي الْمُتَشَابِهَةِ وَقَدْ وَقَعَ بَنُو آدَمَ فِي عَامَّةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّلَالَاتِ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إلَى مَنْ يَدَّعِي التَّحْقِيقَ وَالتَّوْحِيدَ وَالْعِرْفَانَ مِنْهُمْ إلَى أَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الرَّبِّ بِوُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ فَظَنُّوا أَنَّهُ هُوَ فَجَعَلُوا وُجُودَ الْمَخْلُوقَاتِ عَيْنَ وُجُودِ الْخَالِقِ مَعَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَبْعَدَ عَنْ مُمَاثَلَة شَيْءٍ وَأَنْ يَكُونَ إيَّاهُ أَوْ مُتَّحِدًا بِهِ ؛ أَوْ حَالًّا فِيهِ مِنْ الْخَالِقِ مَعَ الْمَخْلُوقِ فَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ وُجُودُ الْخَالِقِ بِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا حَتَّى ظَنُّوا وُجُودَهَا وُجُودَهُ ؛ فَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ ضَلَالًا مِنْ جِهَةِ الِاشْتِبَاهِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ فَرَأَوْا الْوُجُودَ وَاحِدًا وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ وَالْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ وَآخَرُونَ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ إذَا قِيلَ : الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ لَزِمَ
التَّشْبِيهُ وَالتَّرْكِيبُ فَقَالُوا : لَفْظُ الْوُجُودِ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَخَالَفُوا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُقَلَاءُ مَعَ اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ مِنْ أَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إلَى قَدِيمٍ وَمُحْدَثٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَوْجُودَاتِ وَطَائِفَةٌ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَوْجُودَاتُ تَشْتَرِكُ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ مَوْجُودٌ مُشْتَرَكٌ فِيهِ وَزَعَمُوا أَنَّ فِي الْخَارِجِ عَنْ الْأَذْهَانِ كُلِّيَّاتٍ مُطْلَقَةً مِثْلَ وُجُودٍ مُطْلَقٍ وَحَيَوَانٍ مُطْلَقٍ وَجِسْمٍ مُطْلَقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَخَالَفُوا الْحِسَّ وَالْعَقْلَ وَالشَّرْعَ وَجَعَلُوا مَا فِي الْأَذْهَانِ ثَابِتًا فِي الْأَعْيَانِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ نَوْعِ الِاشْتِبَاهِ وَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْأُمُورِ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَعَلِمَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَالتَّشَابُهِ وَالِاخْتِلَافِ ؛ وَهَؤُلَاءِ لَا يَضِلُّونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحْكَمِ الْفَارِقِ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَصْلِ وَالِافْتِرَاقِ وَهَذَا كَمَا أَنَّ لَفْظَ ( إنَّا ) وَ ( نَحْنُ ) وَغَيْرُهُمَا مِنْ صِيَغِ الْجَمْعِ يَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ لَهُ شُرَكَاءُ فِي الْفِعْلِ وَيَتَكَلَّمُ بِهَا الْوَاحِدُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَهُ صِفَاتٌ تَقُومُ كُلُّ صِفَةٍ مَقَامَ وَاحِدٍ وَلَهُ أَعْوَانٌ تَابِعُونَ لَهُ ؛ لَا شُرَكَاءَ لَهُ فَإِذَا تَمَسَّكَ النَّصْرَانِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } وَنَحْوَهُ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ كَانَ الْمُحْكَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا يُزِيلُ مَا هُنَاكَ مِنْ
الِاشْتِبَاهِ ؛ وَكَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ مُبَيِّنًا لِمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعَظَمَةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَطَاعَةِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ وَأَمَّا حَقِيقَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ حَقَائِقِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَمَا لَهُ مِنْ الْجُنُودِ الَّذِينَ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ فَلَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا هُوَ { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلَّا هُوَ } وَهَذَا مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ بِخِلَافِ الْمَلِكِ مِنْ الْبَشَرِ إذَا قَالَ : قَدْ أَمَرْنَا لَك بِعَطَاءِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ وَأَعْوَانُهُ مِثْلُ كَاتِبِهِ وَحَاجِبِهِ وَخَادِمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أُمِرُوا بِهِ وَقَدْ يَعْلَمُ مَا صَدَرَ عَنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْ اعْتِقَادَاتِهِ وَإِرَادَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لَا يُعْلِمُ عِبَادَهُ الْحَقَائِقَ الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا مِنْ صِفَاتِهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يَعْلَمُونَ حَقَائِقَ مَا أَرَادَ بِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلَا حَقَائِقَ مَا صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ الْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّشَابُهَ يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُتَوَاطِئَةِ وَإِنْ زَالَ الِاشْتِبَاهُ بِمَا يُمَيِّزُ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ : مِنْ إضَافَةٍ أَوْ تَعْرِيفٍ كَمَا إذَا قِيلَ : فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ فَهُنَاكَ قَدْ خَصَّ هَذَا الْمَاءَ بِالْجَنَّةِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ مَاءِ الدُّنْيَا لَكِنَّ حَقِيقَةَ مَا امْتَازَ بِهِ ذَلِكَ الْمَاءُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا وَهُوَ مَعَ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ - مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ - مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ
وَكَذَلِكَ مَدْلُولُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهَا الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ يُنْكِرُونَ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَأَمْثَالِهِمْ - مِنْ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ - تَأْوِيلَ مَا تَشَابَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ كَمَا قَالَ أَحْمَدُ : فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة فِيمَا شَكَّتْ فِيهِ مِنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ وَتَأَوَّلَتْهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَإِنَّمَا ذَمَّهُمْ لِكَوْنِهِمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ تَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَلَمْ يَنْفِ مُطْلَقَ لَفْظِ التَّأْوِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ : مِنْ أَنَّ لَفْظَ التَّأْوِيلِ يُرَادُ بِهِ التَّفْسِيرُ الْمُبَيِّنُ لِمُرَادِ اللَّهِ بِهِ فَذَلِكَ لَا يُعَابُ بَلْ يُحْمَدُ وَيُرَادُ بِالتَّأْوِيلِ الْحَقِيقَةُ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهَا فَذَاكَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا : اضْطَرَبَتْ أَقْوَالُهُ مِثْلُ طَائِفَةٍ يَقُولُونَ إنَّ التَّأْوِيلَ بَاطِلٌ وَإِنَّهُ يَجِبُ إجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } وَيَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إبْطَالِ التَّأْوِيلِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّ هُنَاكَ تَأْوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ يَنْفُونَ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا وَجِهَةُ الْغَلَطِ أَنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ هُوَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ .
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمَذْمُومُ وَالْبَاطِلُ : فَهُوَ تَأْوِيلُ أَهْل التَّحْرِيفِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ وَيَدَّعُونَ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ إلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيَدَّعُونَ أَنَّ فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الْمَحْذُورِ مَا هُوَ نَظِيرُ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ بِالْعَقْلِ وَيَصْرِفُونَهُ إلَى مَعَانٍ هِيَ نَظِيرُ الْمَعَانِي الَّتِي نَفَوْهَا عَنْهُ فَيَكُونُ مَا نَفَوْهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَثْبَتُوهُ فَإِنْ كَانَ الثَّابِتُ حَقًّا مُمْكِنًا كَانَ الْمَنْفِيُّ مِثْلَهُ وَإِنْ كَانَ الْمَنْفِيُّ بَاطِلًا مُمْتَنِعًا كَانَ الثَّابِتُ مِثْلَهُ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَنْفُونَ التَّأْوِيلَ مُطْلَقًا وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّا خُوطِبْنَا فِي الْقُرْآنِ بِمَا لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ ؛ أَوْ بِمَا لَا مَعْنَى لَهُ أَوْ بِمَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ لِأَنَّا إذَا لَمْ نَفْهَمْ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَجُزْ لَنَا أَنْ نَقُولَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ وَلَا يُوَافِقُهُ ؛ لَا مَكَانَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ : لَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ الْمَعْلُومَ لَنَا فَإِنَّهُ لَا ظَاهِرَ لَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ فَلَا تَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى دَلَالَةً عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ فَلَا يَكُونُ تَأْوِيلًا وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ دَلَالَتِهِ عَلَى مَعَانٍ لَا نَعْرِفُهَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ . فَإِنَّ تِلْكَ الْمَعَانِيَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَدْ لَا نَكُونُ عَارِفِينَ بِهَا وَلِأَنَّا إذَا لَمْ نَفْهَمْ اللَّفْظَ وَمَدْلُولَهُ فَلِأَنْ لَا نَعْرِفَ الْمَعَانِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا اللَّفْظُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ إشْعَارَ اللَّفْظِ بِمَا يُرَادُ بِهِ أَقْوَى مِنْ إشْعَارِهِ بِمَا لَا يُرَادُ بِهِ ؛ فَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ لَا إشْعَارَ لَهُ بِمَعْنَى
مِنْ الْمَعَانِي وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنًى أَصْلًا لَمْ يَكُنْ مُشْعِرًا بِمَا أُرِيدَ بِهِ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ مُشْعِرًا بِمَا لَمْ يُرَدْ بِهِ أَوْلَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُتَأَوَّلٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ الِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ الْمُخْتَصُّ بِالْخَلْقِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِالظَّاهِرِ هَذَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ . لَكِنْ إذَا قَالَ هَؤُلَاءِ : أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الظَّاهِرَ أَوْ أَنَّهَا تَجْرِي عَلَى الْمَعَانِي الظَّاهِرَةِ مِنْهَا كَانُوا مُتَنَاقِضِينَ وَإِنْ أَرَادُوا بِالظَّاهِرِ هُنَا مَعْنًى وَهُنَاكَ مَعْنًى : فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ كَانَ تَلْبِيسًا وَإِنْ أَرَادُوا بِالظَّاهِرِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ أَيْ تَجْرِي عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهُ كَانَ إبْطَالُهُمْ لِلتَّأْوِيلِ أَوْ إثْبَاتُهُ تَنَاقُضًا ؛ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ تَأْوِيلًا أَوْ نَفَاهُ فَقَدْ فَهِمَ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي . وَبِهَذَا التَّقْسِيمِ يَتَبَيَّنُ تَنَاقُضُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ وَمُثْبِتِيهَا فِي هَذَا الْبَابِ .
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ :
أَنَّهُ لِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : لَا بُدَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ ضَابِطٍ يُعْرَفُ بِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذْ الِاعْتِمَادُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ أَوْ مُطْلَقِ الْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ لَيْسَ بِسَدِيدِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا بَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ فَالنَّافِي إنْ اعْتَمَدَ فِيمَا يَنْفِيهِ عَلَى أَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ قِيلَ لَهُ : إنْ أَرَدْت أَنَّهُ مُمَاثِلٌ لَهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ وَإِنْ أَرَدْت أَنَّهُ مُشَابِهٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ أَوْ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الِاسْمِ لَزِمَك هَذَا فِي سَائِرِ مَا تُثْبِتُهُ وَأَنْتُمْ إنَّمَا أَقَمْتُمْ الدَّلِيلَ عَلَى إبْطَالِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمَاثُلِ الَّذِي فَسَّرْتُمُوهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا يَجُوزُ عَلَى الْآخَرِ وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ وَيَجِبُ لَهُ مَا يَجِبُ لَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ إثْبَاتَ التَّشْبِيهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ مِمَّا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ ؛ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ امْتِنَاعُهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ هَذَا نَفْيُ التَّشَابُهِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَلَكِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ التَّشْبِيهَ مُفَسَّرًا بِمَعْنَى مِنْ الْمَعَانِي ثُمَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ الْمَعْنَى قَالُوا : إنَّهُ مُشَبِّهٌ وَمُنَازِعُهُمْ يَقُولُ : ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ مِنْ التَّشْبِيهِ .
وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ لَفْظِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ يَقُولُونَ : كُلُّ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ صِفَةً قَدِيمَةً فَهُوَ مُشَبِّهٌ مُمَثِّلٌ فَمَنْ قَالَ إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا قَدِيمًا أَوْ قُدْرَةً قَدِيمَةً كَانَ عِنْدَهُمْ مُشَبِّهًا مُمَثِّلًا لِأَنَّ الْقَدِيمَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ هُوَ أَخَصُّ وَصْفِ الْإِلَهِ فَمَنْ أَثْبَتَ لَهُ صِفَةً قَدِيمَةً فَقَدْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَثَلًا قَدِيمًا وَيُسَمُّونَهُ مُمَثَّلًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَمُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ لَا يُوَافِقُونَهُمْ عَلَى هَذَا بَلْ يَقُولُونَ : أَخَصُّ وَصْفِهِ مَا لَا يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ مِثْلُ كَوْنِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ وَالصِّفَةُ لَا تُوصَفُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الصفاتية مَنْ لَا يَقُولُ فِي الصِّفَاتِ إنَّهَا قَدِيمَةٌ بَلْ يَقُولُ : الرَّبُّ بِصِفَاتِهِ قَدِيمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ قَدِيمٌ وَصِفَتُهُ قَدِيمَةٌ وَلَا يَقُولُ : هُوَ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَانِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ وَصِفَاتُهُ قَدِيمَانِ ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ : ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُشَارَكَةَ الصِّفَةِ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِهِ فَإِنَّ الْقِدَمَ لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ بَلْ مِنْ خَصَائِصِ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِ وَإِلَّا فَالذَّاتُ الْمُجَرَّدَةُ لَا وُجُودَ لَهَا عِنْدَهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَخْتَصَّ بِالْقِدَمِ وَقَدْ يَقُولُونَ : الذَّاتُ مُتَّصِفَةٌ بِالْقِدَمِ وَالصِّفَاتُ مُتَّصِفَةٌ بِالْقِدَمِ وَلَيْسَتْ الصِّفَاتُ إلَهًا وَلَا رَبًّا كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ مُحْدَثٌ وَصِفَاتُهُ مُحْدَثَةٌ وَلَيْسَتْ صِفَاتُهُ نَبِيًّا .
فَهَؤُلَاءِ إذَا أَطْلَقُوا عَلَى الصفاتية اسْمَ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ : كَانَ هَذَا بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِمْ الَّذِي يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أُولَئِكَ ثُمَّ تَقُولُ لَهُمْ أُولَئِكَ : هَبْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ بَعْضِ النَّاسِ تَشْبِيهًا فَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَنْفِهِ عَقْلٌ وَلَا سَمْعٌ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ نَفْيُ مَا نَفَتْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ وَالْقُرْآنُ قَدْ نَفَى مُسَمَّى الْمِثْلِ وَالْكُفْءِ وَالنِّدِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَقُولُونَ الصِّفَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ مِثْلَ الْمَوْصُوفِ وَلَا كُفُؤَهُ وَلَا نِدَّهُ فَلَا يَدْخُلُ فِي النَّصِّ وَأَمَّا الْعَقْلُ : فَلَمْ يَنْفِ مُسَمَّى التَّشْبِيهِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَقُولُونَ : إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ مُتَحَيِّزٍ وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ الصِّفَاتُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِسَائِرِ الْأَجْسَامِ وَهَذَا هُوَ التَّشْبِيهُ وَكَذَلِكَ يَقُولُ : هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الصفاتية الَّذِينَ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ وَيَنْفُونَ عُلُوَّهُ عَلَى الْعَرْشِ وَقِيَامَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ : الصِّفَاتُ قَدْ تَقُومُ بِمَا لَيْسَ بِجِسْمِ وَأَمَّا الْعُلُوُّ عَلَى الْعَالَمِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا إذَا كَانَ جِسْمًا فَلَوْ أَثْبَتْنَا عُلُوَّهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا وَحِينَئِذٍ فَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَلْزَمُ التَّشْبِيهُ فَلِهَذَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ الْعُلُوَّ وَنَحْوَهُ مُشَبِّهًا وَلَا يُسَمُّونَ مَنْ أَثْبَتَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ وَنَحْوَهُ مُشَبِّهًا كَمَا يَقُولُ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ وَأَمْثَالُهُ .
وَكَذَلِكَ يُوَافِقُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَمْثَالُهُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْعُلُوَّ صِفَةً خَبَرِيَّةً كَمَا هُوَ أَوَّلُ قَوْلَيْ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى فَيَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْوَجْهِ وَقَدْ يَقُولُونَ : أَنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ لَا يُنَافِي الْجِسْمَ كَمَا يَقُولُونَهُ فِي سَائِرِ الصِّفَاتِ وَالْعَاقِلُ إذَا تَأَمَّلَ وَجَدَ الْأَمْرَ فِيمَا نَفَوْهُ كَالْأَمْرِ فِيمَا أَثْبَتُوهُ لَا فَرْقَ وَأَصْلُ كَلَامِ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ عَلَى أَنَّ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّجْسِيمِ وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ . وَالْمُثْبِتُونَ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا تَارَةً بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَتَارَةً بِمَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ وَتَارَةً بِمَنْعِ كُلٍّ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَتَارَةً بالاستفصال وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ قَوْلٌ بَاطِلٌ سَوَاءٌ فَسَّرُوا الْجِسْمَ بِمَا يُشَارُ إلَيْهِ أَوْ بِالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْمَوْجُودِ أَوْ بِالْمُرَكَّبِ مِنْ الْهَيُولَى وَالصُّورَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا فَسَّرُوهُ بِالْمُرَكَّبِ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ وَعَلَى أَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ فَهَذَا يُبْنَى عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ ؛ وَعَلَى إثْبَاتِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَعَلَى أَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي ذَلِكَ ( وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ التَّشْبِيهَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ تَجْسِيمًا بِنَاءً عَلَى تَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَالْمُثْبِتُونَ يُنَازِعُونَهُمْ فِي اعْتِقَادِهِمْ ؛ كَإِطْلَاقِ الرَّافِضَةِ النَّصْبَ عَلَى
مَنْ تَوَلَّى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُ فَهُوَ ناصبي وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُنَازِعُونَهُمْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ : إنَّ الشَّيْئَيْنِ لَا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفَانِ مِنْ وَجْهٍ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا فِيهِ حُجَجَ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ وَحُجَجَ مَنْ نَفَى ذَلِكَ ، وَبَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِتَمَاثُلِهَا وَأَيْضًا فَالِاعْتِمَادُ بِهَذَا الطَّرِيقِ عَلَى نَفْيِ التَّشْبِيهِ اعْتِمَادٌ بَاطِلٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا أَثْبَتَ تَمَاثُلَ الْأَجْسَامِ فَهُمْ لَا يَنْفُونَ ذَلِكَ إلَّا بِالْحُجَّةِ الَّتِي يَنْفُونَ بِهَا الْجِسْمَ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ الْجِسْمَ وَثَبَتَ امْتِنَاعُ الْجِسْمِ : كَانَ هَذَا وَحْدَهُ كَافِيًا فِي نَفْيِ ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ نَفْيُ ذَلِكَ إلَى نَفْيِ مُسَمَّى التَّشْبِيهِ لَكِنَّ نَفْيَ التَّجْسِيمِ يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى نَفْيِ هَذَا التَّشْبِيهِ بِأَنْ يُقَالَ : لَوْ ثَبَتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا لَكَانَ جِسْمًا ؛ ثُمَّ يُقَالُ : وَالْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فَيَجِبُ اشْتِرَاكُهَا فِيمَا يَجِبُ وَيَجُوزُ وَيَمْتَنِعُ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ . لَكِنْ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ مُعْتَمِدًا فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ عَلَى نَفْيِ التَّجْسِيمِ ؛ فَيَكُونُ أَصْلُ نَفْيِهِ نَفْيُ الْجِسْمِ وَهَذَا مَسْلَكٌ آخَرُ سَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مُجَرَّدَ الِاعْتِمَادِ فِي نَفْيِ مَا يُنْفَى عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَا يُفِيدُ إذْ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا يَشْتَبِهَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ الِاعْتِمَادِ عَلَى نَفْيِ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَنْهُ فَإِنَّ هَذِهِ طَرِيقَةٌ صَحِيحَةٌ وَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ لَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَنَفَى مُمَاثَلَةَ غَيْرِهِ لَهُ فِيهَا فَإِنَّ هَذَا نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ وَهَذَا حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ : وَهُوَ أَنْ لَا يَشْرَكُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَشْيَاءِ فِيمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَكُلُّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ أَحَدٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إثْبَاتُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ مُمَاثَلَتِهِ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الشَّيْءَ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ مِنْ وَجْهٍ جَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَوَجَبَ لَهُ مَا وَجَبَ لَهُ وَامْتَنَعَ عَلَيْهِ مَا امْتَنَعَ عَلَيْهِ .
قِيلَ : هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ مَا يَمْتَنِعُ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَلَا نَفْيُ مَا يَسْتَحِقُّهُ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا كَمَا إذَا قِيلَ : إنَّهُ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَلِيمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَقَدْ سُمِّيَ بَعْضُ الْمَخْلُوقَاتِ حَيًّا سَمْعِيًّا عَلِيمًا بَصِيرًا فَإِذَا قِيلَ : يَلْزَمُ أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْجُودًا حَيًّا عَلِيمًا سَمِيعًا بَصِيرًا قِيلَ : لَازِمُ هَذَا الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ مُمْتَنِعًا عَلَى الرَّبِّ تَعَالَى فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي حُدُوثًا وَلَا إمْكَانًا وَلَا نَقْصًا وَلَا شَيْئًا مِمَّا يُنَافِي صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ
وَذَلِكَ أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ هُوَ مُسَمَّى الْوُجُودِ أَوْ الْمَوْجُودُ أَوْ الْحَيَاةُ أَوْ الْحَيُّ أَوْ الْعِلْمُ أَوْ الْعَلِيمُ أَوْ السَّمْعُ أَوْ الْبَصَرُ أَوْ السَّمِيعُ أَوْ الْبَصِيرُ أَوْ الْقُدْرَةُ أَوْ الْقَدِيرُ وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ؛ فَلَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكٌ لَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ وَلَا فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ الْقَدِيمِ فَإِنَّ مَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا يَمْتَنِعُ اشْتِرَاكُهُمَا فِيهِ فَإِذَا كَانَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي اشْتَرَكَا فِيهِ صِفَةَ كَمَالٍ كَالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَصَائِصِ الْخَالِقِ لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ هَذَا مَحْذُورٌ أَصْلًا ؛ بَلْ إثْبَاتُ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ ، فَكُلُّ مَوْجُودَيْنِ لَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مَنْ مِثْلِ هَذَا وَمَنْ نَفْيِ هَذَا لَزِمَهُ تَعْطِيلُ وُجُودِ كُلِّ مَوْجُودٍ وَلِهَذَا لَمَّا اطَّلَعَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة سَمُّوهُمْ مُعَطِّلَةً وَكَانَ جَهْمٌ يُنْكِرُ أَنْ يُسَمَّى اللَّهُ شَيْئًا وَرُبَّمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة هُوَ شَيْءٌ لَا كَالْأَشْيَاءِ فَإِذَا نَفَى الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ مُطْلَقًا لَزِمَ التَّعْطِيلُ الْعَامُّ .
وَالْمَعَانِي الَّتِي يُوصَفُ بِهَا الرَّبُّ تَعَالَى كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بَلْ الْوُجُودُ وَالثُّبُوتُ وَالْحَقِيقَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : تَجِبُ لَوَازِمُهَا فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ اللَّازِمِ ، وَخَصَائِصُ الْمَخْلُوقِ الَّتِي يَجِبُ تَنْزِيهُ الرَّبِّ عَنْهَا لَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَصْلًا بَلْ تِلْكَ مِنْ لَوَازِمِ مَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ وُجُودٍ وَحَيَاةٍ وَعِلْمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ خَصَائِصِ الْمَخْلُوقِينَ وَمَلْزُومَاتِ خَصَائِصِهِمْ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مَنْ فَهِمَهُ فَهْمًا جَيِّدًا وَتَدَبَّرَهُ : زَالَتْ عَنْهُ عَامَّةُ الشُّبُهَاتِ وَانْكَشَفَ لَهُ غَلَطُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَذْكِيَاءِ فِي هَذَا الْمَقَامَ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَبُيِّنَ فِيهَا أَنَّ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ الْكُلِّيَّ لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُعَيَّنًا مُقَيَّدًا وَأَنَّ مَعْنَى اشْتِرَاكِ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ هُوَ تَشَابُهُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْعَامَّ يُطْلَقُ عَلَى هَذَا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ فِي الْخَارِجِ لَا يُشَارِكُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فِيهِ بَلْ كُلُّ مَوْجُودٍ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مُتَنَاقِضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ ؛ فَتَارَةً يَظُنُّ أَنَّ إثْبَاتَ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ الْبَاطِلَ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَهُ حُجَّةً فِيمَا يَظُنُّ نَفْيَهُ مِنْ الصِّفَاتِ حَذَرًا مِنْ مَلْزُومَاتِ التَّشْبِيهِ وَتَارَةً يَتَفَطَّنُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ هَذَا عَلَى تَقْدِيرٍ فَيُجِيبُ بِهِ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنْ الصِّفَاتِ لِمَنْ احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْنُّفَاةِ وَلِكَثْرَةِ الِاشْتِبَاهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ : وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ أَوْ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ ؟ وَهَلْ لَفْظُ الْوُجُودِ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ أَوْ التَّوَاطُؤِ أَوْ التَّشْكِيكِ ؟ كَمَا وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي إثْبَاتِ الْأَحْوَالِ وَنَفْيِهَا