الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
بِهَذَا الْهَجْرِ حُصُولٌ مَعْرُوفٌ أَوْ انْدِفَاعٌ مُنْكَرٌ فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ . وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْفَسَادِ مَا يَزِيدُ عَلَى فَسَادِ الذَّنْبِ فَلَيْسَتْ مَشْرُوعَةً . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ شَارِبِ الْخَمْرِ هَلْ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ إذَا سَلَّمَ رُدَّ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ تُشَيَّعُ جِنَازَتُهُ ؟ وَهَلْ يَكْفُرُ إذَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ كَالْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَالْعُدْوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُتَسَتِّرًا بِذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ مُعْلِنًا لَهُ أُنْكِرَ عَلَيْهِ سِرًّا وَسُتِرَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَتَرَ عَبْدًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ وَالْمُتَعَدِّي لَا بُدَّ مِنْ كَفِّ عُدْوَانِهِ وَإِذَا نَهَاهُ الْمَرْءُ سِرًّا فَلَمْ يَنْتَهِ فَعَلَ مَا يَنْكَفُّ بِهِ مِنْ هَجْرٍ وَغَيْرِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْفَعَ فِي الدِّينِ . وَأَمَّا إذَا أَظْهَرَ الرَّجُلُ الْمُنْكَرَاتِ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ عَلَانِيَةً وَلَمْ
يَبْقَ لَهُ غَيْبَةٌ وَوَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَانِيَةً بِمَا يُرْدِعُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ هَجْرٍ وَغَيْرِهِ فَلَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ . وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ أَنْ يَهْجُرُوهُ مَيِّتًا كَمَا هَجَرُوهُ حَيًّا إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ كَفٌّ لِأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُجْرِمِينَ فَيَتْرُكُونَ تَشْيِيعَ جِنَازَتِهِ كَمَا { تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَرَائِمِ } وَكَمَا قِيلَ لسمرة بْنِ جُنْدُبٍ : إنَّ ابْنَك مَاتَ (1) الْبَارِحَةَ . فَقَالَ : لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ : يَعْنِي لِأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ كَقَاتِلِ نَفْسِهِ . وَقَدْ { تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ } . وَكَذَلِكَ هَجَرَ الصَّحَابَةُ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ ظَهَرَ ذَنْبُهُمْ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ الْوَاجِبِ حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . فَإِذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ أُظْهِرَ لَهُ الْخَيْرُ . وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْفَوَاحِشِ أَوْ شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ وَيُعَرَّفُ التَّحْرِيمَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَكَانَ مُرْتَدًّا عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُدْفَنْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا غِيبَةَ لِفَاسِقِ } وَمَا حَدُّ الْفِسْقِ ؟ وَرَجُلٌ شَاجَرَ رَجُلَيْنِ : أَحَدُهُمَا شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ جَلِيسٌ فِي الشُّرْبِ أَوْ آكِلُ حَرَامٍ أَوْ حَاضِرُ الرَّقْصِ أَوْ السَّمَاعِ لِلدُّفِّ أَوْ الشَّبَّابَةِ : فَهَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ إثْمٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ ؟ اُذْكُرُوا بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ } . وَهَذَانِ النَّوْعَانِ يَجُوزُ فِيهِمَا الْغِيبَةُ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُظْهِرًا لِلْفُجُورِ مِثْلَ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَالْبِدَعَ الْمُخَالِفَةِ لِلسُّنَّةِ فَإِذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ عَنْ { أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَيُّهَا
النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَتَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْهُ } فَمَنْ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ وَأَنْ يُهْجَرَ وَيُذَمَّ عَلَى ذَلِكَ . فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ : مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ . بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِذَنْبِهِ مُسْتَخْفِيًا فَإِنَّ هَذَا يُسْتَرُ عَلَيْهِ ؛ لَكِنْ يُنْصَحُ سِرًّا وَيَهْجُرُهُ مَنْ عَرَفَ حَالَهُ حَتَّى يَتُوبَ وَيَذْكُرُ أَمْرَهُ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ . النَّوْعُ الثَّانِي : أَنْ يُسْتَشَارَ الرَّجُلُ فِي مُنَاكَحَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ أَوْ اسْتِشْهَادِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ ؛ فَيَنْصَحُهُ مُسْتَشَارُهُ بِبَيَانِ حَالِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ : قَدْ خَطَبَنِي أَبُو جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةُ فَقَالَ لَهَا : أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ الْخَاطِبَيْنِ لِلْمَرْأَةِ . فَهَذَا حُجَّةٌ لِقَوْلِ الْحَسَنِ : أَتَرْغَبُونَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ اُذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ فَإِنَّ النُّصْحَ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ النُّصْحِ فِي الدُّنْيَا فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَحَ الْمَرْأَةَ فِي دُنْيَاهَا فَالنَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ . وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَتْرُكُ الصَّلَوَاتِ وَيَرْتَكِبُ الْمُنْكَرَاتِ وَقَدْ عَاشَرَهُ
مَنْ يَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ دِينَهُ : بَيَّنَ أَمْرَهُ لَهُ لِتُتَّقَى مُعَاشَرَتُهُ . وَإِذَا كَانَ مُبْتَدِعًا يَدْعُو إلَى عَقَائِدَ تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَوْ يَسْلُكُ طَرِيقًا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيُخَافُ أَنْ يُضِلَّ الرَّجُلُ النَّاسَ بِذَلِكَ : بَيَّنَ أَمْرَهُ لِلنَّاسِ لِيَتَّقُوا ضَلَالَهُ وَيَعْلَمُوا حَالَهُ . وَهَذَا كُلُّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النُّصْحِ وَابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِهَوَى الشَّخْصِ مَعَ الْإِنْسَانِ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ تَحَاسُدٌ أَوْ تَبَاغُضٌ أَوْ تَنَازُعٌ عَلَى الرِّئَاسَةِ فَيَتَكَلَّمُ بِمَسَاوِئِهِ مُظْهِرًا لِلنُّصْحِ وَقَصْدُهُ فِي الْبَاطِنِ الْغَضُّ مِنْ الشَّخْصِ وَاسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ فَهَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ وَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } بَلْ يَكُونُ النَّاصِحُ قَصْدُهُ أَنَّ اللَّهَ يُصْلِحُ ذَلِكَ الشَّخْصَ وَأَنْ يَكْفِيَ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرَهُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَيَسْلُكُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ أَيْسَرَ الطُّرُقِ الَّتِي تُمَكِّنُهُ . وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَحْضُرَ مَجَالِسَ الْمُنْكَرِ بِاخْتِيَارِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُشْرَبُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ } وَرُفِعَ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَمَرَ بِجَلْدِهِمْ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ فِيهِمْ صَائِمًا . فَقَالَ : ابْدَءُوا بِهِ أَمَا سَمِعْتُمْ اللَّهَ يَقُولُ : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } ؟ بَيَّنَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ حَاضِرَ
الْمُنْكَرِ كَفَاعِلِهِ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ فِيهَا مُنْكَرٌ كَالْخَمْرِ وَالزَّمْرِ لَمْ يَجُزْ حُضُورُهَا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَمَنْ حَضَرَ بِاخْتِيَارِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِتَرْكِ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ بُغْضِ إنْكَارِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي يَحْضُرُ مَجَالِسَ الْخَمْرِ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ هُوَ شَرِيكُ الْفُسَّاقِ فِي فِسْقِهِمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْغِيبَةِ هَلْ تَجُوزُ عَلَى أُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ يُعَيَّنُ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ ؟ وَمَا حُكْمُ ذَلِكَ ؟ أَفْتُونَا بِجَوَابِ بَسِيطٍ ؛ لِيَعْلَمَ ذَلِكَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَمِدُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَصْلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْغِيبَةَ هِيَ كَمَا فَسَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا { سُئِلَ عَنْ الْغِيبَةِ فَقَالَ : هِيَ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتّه } . بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ وَأَنَّ الْكَذِبَ
عَلَيْهِ بَهْتٌ لَهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ } . فَالْكَذِبُ عَلَى الشَّخْصِ حَرَامٌ كُلُّهُ سَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا بَرًّا أَوْ فَاجِرًا لَكِنَّ الِافْتِرَاءَ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَشَدُّ ؛ بَلْ الْكَذِبُ كُلُّهُ حَرَامٌ . وَلَكِنْ تُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّرْعِيَّةِ " الْمَعَارِيضِ " وَقَدْ تُسَمَّى كَذِبًا ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يَعْنِي بِهِ الْمُتَكَلِّمُ مَعْنًى وَذَلِكَ الْمَعْنَى يُرِيدُ أَنْ يَفْهَمُهُ الْمُخَاطِبُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا يَعْنِيهِ فَهُوَ الْكَذِبُ الْمَحْضُ وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا يَعْنِيهِ وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَى مَا يَفْهَمُهُ الْمُخَاطَبُ فَهَذِهِ الْمَعَارِيضُ وَهِيَ كَذِبٌ بِاعْتِبَارِ الْأَفْهَامِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ كَذِبًا بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ السَّائِغَةِ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلَّا ثَلَاثَ كِذْبَاتٍ كُلُّهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ : قَوْلُهُ لِسَارَّةَ : أُخْتِي وَقَوْلُهُ : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وَقَوْلُهُ { إنِّي سَقِيمٌ } } وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَعَارِيضُ . وَبِهَا احْتَجَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّعْرِيضِ لِلْمَظْلُومِ وَهُوَ أَنْ يَعْنِيَ بِكَلَامِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْهُ الْمُخَاطَبُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ
الْعُلَمَاءِ : إنَّ مَا رَخَّصَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ مِنْ هَذَا كَمَا فِي حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ الْكَاذِبُ بِاَلَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ ينوي خَيْرًا } . وَلَمْ يُرَخِّصْ فِيمَا يَقُولُ النَّاسُ : إنَّهُ كَذِبٌ ؛ إلَّا فِي ثَلَاثٍ : فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَفِي الْحَرْبِ ؛ وَفِي الرَّجُلِ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ . قَالَ : فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْمَعَارِيضِ خَاصَّةً . وَلِهَذَا نَفَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْمَ الْكَذِبِ بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ وَالْغَايَةِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } وَأَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوَةً وَرَى بِغَيْرِهَا . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ الصِّدِّيقِ فِي سَفَرِ الْهِجْرَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ . { وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْكَافِرِ السَّائِلِ لَهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ : نَحْنُ مِنْ مَاءٍ } وَقَوْلُهُ لِلرَّجُلِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي أَرَادَ الْكُفَّارُ أَسْرَهُ : إنَّهُ أَخِي . وَعَنِيَ أُخُوَّةَ الدِّينِ وَفَهِمُوا مِنْهُ أُخُوَّةَ النَّسَبِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ كُنْت لَأَبَرَّهُمْ وَأَصْدَقَهُمْ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَ الِاغْتِيَابِ وَبَيْنَ الْبُهْتَانِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُخْبِرَ بِمَا يَكْرَهُ أَخُوهُ الْمُؤْمِنُ عَنْهُ إذَا كَانَ صَادِقًا فَهُوَ الْمُغْتَابُ وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ذِكْرُك أَخَاك بِمَا
يَكْرَهُ } مُوَافَقَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } فَجَعَلَ جِهَةَ التَّحْرِيمِ كَوْنَهُ أَخًا أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ ؛ وَلِذَلِكَ تغلظت الْغِيبَةُ بِحَسَبِ حَالِ الْمُؤْمِنِ فَكُلَّمَا كَانَ أَعْظَمَ إيمَانًا كَانَ اغْتِيَابُهُ أَشَدَّ . وَمِنْ جِنْسِ الْغِيبَةِ الْهَمْزُ وَاللَّمْزُ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا فِيهِ عَيْبُ النَّاسِ وَالطَّعْنُ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي الْغِيبَةِ ؛ لَكِنَّ الْهَمْزَ هُوَ الطَّعْنُ بِشِدَّةِ وَعُنْفٍ ؛ بِخِلَافِ اللَّمْزِ فَإِنَّهُ قَدْ يَخْلُو مِنْ الشِّدَّةِ وَالْعُنْفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } أَيْ يَعِيبُك وَيَطْعَنُ عَلَيْك وَقَالَ تَعَالَى { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ } أَيْ لَا يَلْمِزُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَقَالَ : { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } وَقَالَ : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } .
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ : ذِكْرُ النَّاسِ بِمَا يَكْرَهُونَ هُوَ فِي الْأَصْلِ عَلَى وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ذِكْرُ النَّوْعِ ( وَالثَّانِي ذِكْرُ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ الْحَيِّ أَوْ الْمَيِّتِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَكُلُّ صِنْفٍ ذَمَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَجِبُ ذَمُّهُ ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْغِيبَةِ كَمَا أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مَدَحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَجِبُ مَدْحُهُ وَمَا لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لُعِنَ كَمَا أَنَّ مَنْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ . فَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الْكَافِرَ وَالْفَاجِرَ وَالْفَاسِقَ وَالظَّالِمَ وَالْغَاوِيَ وَالضَّالَّ
وَالْحَاسِدَ وَالْبَخِيلَ وَالسَّاحِرَ وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَالسَّارِقَ وَالزَّانِيَ وَالْمُخْتَالَ وَالْفَخُورَ وَالْمُتَكَبِّرَ الْجَبَّارَ وَأَمْثَالَ هَؤُلَاءِ ؛ كَمَا حَمِدَ الْمُؤْمِنَ التَّقِيَّ وَالصَّادِقَ وَالْبَارَّ وَالْعَادِلَ وَالْمُهْتَدِيَ وَالرَّاشِدَ وَالْكَرِيمَ ؛ وَالْمُتَصَدِّقَ وَالرَّحِيمَ وَأَمْثَالَ هَؤُلَاءِ . { وَلَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ } وَالْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَلَعَنَ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ . وَلَعَنَ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا وَلَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيَهَا وَسَاقِيَهَا وَشَارِبَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَلَعَنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى حَيْثُ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا وَلَعَنَ اللَّهُ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ وَذَكَرَ لَعْنَةَ الظَّالِمِينَ . وَاَللَّهُ هُوَ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ وَيُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا . وَالصَّابِرُ الْمُسْتَرْجِعُ عَلَيْهِ صَلَاةٌ مِنْ رَبِّهِ وَرَحْمَةٌ . وَاَللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ وَالطَّيْرُ وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِذَنْبِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ . فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَمْرَ بِالْخَيْرِ وَالتَّرْغِيبَ فِيهِ وَالنَّهْيَ عَنْ الشَّرِّ وَالتَّحْذِيرَ مِنْهُ : فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ ذَلِكَ وَلِهَذَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَلَغَهُ أَنَّ أَحَدًا فَعَلَ مَا يَنْهَى عَنْهُ يَقُولُ : مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ
شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ } { مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أَشْيَاءَ أَتَرَخَّصُ فِيهَا ؟ وَاَللَّهِ إنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ } { مَا بَالُ رِجَالٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ وَلَا أُفْطِرُ ؟ وَيَقُولُ الْآخَرُ : أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ وَلَا أَنَامُ ؟ وَيَقُولُ الْآخَرُ : لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَيَقُولُ الْآخَرُ : لَا آكُلُ اللَّحْمَ ؟ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَلِّقَ الْحَمْدَ وَالذَّمَّ وَالْحُبَّ وَالْبُغْضَ وَالْمُوَالَاةَ وَالْمُعَادَاةَ وَالصَّلَاةَ وَاللَّعْنَ بِغَيْرِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي عَلَّقَ اللَّهُ بِهَا ذَلِكَ : مِثْلَ أَسْمَاءِ الْقَبَائِلِ وَالْمَدَائِنِ وَالْمَذَاهِبِ وَالطَّرَائِقِ الْمُضَافَةِ إلَى الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ ؛ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُرَادُ بِهِ التَّعْرِيفُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } وَقَالَ : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا } وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بأولياء ؛ إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ { أَلَا إنَّ أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ حَيْثُ كَانُوا وَمَنْ كَانُوا } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ . النَّاسُ رَجُلَانِ : مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ .
النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } وَقَالَ : { إنَّهُ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ : إلَّا بِالتَّقْوَى } . فَذَكَرَ الْأَزْمَانَ وَالْعَدْلَ بِأَسْمَاءِ الْإِيثَارِ وَالْوَلَاءِ وَالْبَلَدِ وَالِانْتِسَابِ إلَى عَالِمٍ أَوْ شَيْخٍ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهَا التَّعْرِيفَ بِهِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ غَيْرِهِ فَأَمَّا الْحَمْدُ وَالذَّمُّ وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ فَإِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا سُلْطَانَهُ وَسُلْطَانُهُ كِتَابُهُ فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَجَبَتْ مُوَالَاتُهُ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ وَمَنْ كَانَ كَافِرًا وَجَبَتْ مُعَادَاتُهُ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } . وَمَنْ كَانَ فِيهِ إيمَانٌ وَفِيهِ فُجُورٌ أُعْطِيَ مِنْ الْمُوَالَاةِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ
وَمِنْ الْبُغْضِ بِحَسَبِ فُجُورِهِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ بِمُجَرَّدِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي كَمَا يَقُولُهُ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَلَا يُجْعَلُ الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ بِمَنْزِلَةِ الْفُسَّاقِ فِي الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } فَجَعَلَهُمْ إخْوَةً مَعَ وُجُودِ الِاقْتِتَالِ وَالْبَغْيِ وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْأَنْوَاعِ .
وَأَمَّا الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ فَيُذْكَرُ مَا فِيهِ مِنْ الشَّرِّ فِي مَوَاضِعَ . مِنْهَا الْمَظْلُومُ لَهُ أَنْ يَذْكُرَ ظَالِمَهُ بِمَا فِيهِ . إمَّا عَلَى وَجْهِ دَفْعِ ظُلْمِهِ وَاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ كَمَا { قَالَتْ هِنْدُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ يُعْطِينِي مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي . فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } كَمَا قَالَ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } وَقَالَ وَكِيعٌ : عِرْضُهُ شِكَايَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
مِنَ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ } وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ نَزَلَ بِقَوْمِ فَلَمْ يَقْرُوهُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ ظُلِمَ بِتَرْكِ قِرَاهُ الَّذِي تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُوبِهِ وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاجِبٌ فَكَيْفَ بِمَنْ ظُلِمَ بِمَنْعِ حَقِّهِ الَّذِي اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ إيَّاهُ أَوْ يَذْكُرُ ظَالِمَهُ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ وَلَا دُخُولٍ فِي كَذِبٍ وَلَا ظُلْمِ الْغَيْرِ ؛ وَتَرْكُ ذَلِكَ أَفْضَلُ . وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ النَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ { فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ لَمَّا اسْتَشَارَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَنْكِحُ ؟ وَقَالَتْ : إنَّهُ خَطَبَنِي مُعَاوِيَةُ وَأَبُو جَهْمٍ فَقَالَ : أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَرَجُلٌ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ } وَرُوِيَ : { لَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ } فَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ هَذَا فَقِيرٌ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ حَقِّك وَهَذَا يُؤْذِيك بِالضَّرْبِ . وَكَانَ هَذَا نُصْحًا لَهَا - وَإِنْ تَضَمَّنَ ذِكْرَ عَيْبِ الْخَاطِبِ . وَفِي مَعْنَى هَذَا نُصْحُ الرَّجُلِ فِيمَنْ يُعَامِلُهُ وَمَنْ يُوَكِّلُهُ وَيُوَصِّي إلَيْهِ وَمَنْ يَسْتَشْهِدُهُ ؛ بَلْ وَمَنْ يَتَحَاكَمُ إلَيْهِ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ؛ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ فَكَيْفَ بِالنُّصْحِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْحُكَّامِ وَالشُّهُودِ وَالْعُمَّالِ : أَهْلِ الدِّيوَانِ وَغَيْرِهِمْ ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّ النُّصْحَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ الدِّينُ النَّصِيحَةُ الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } . وَقَدْ قَالُوا لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ فِي أَهْلِ الشُّورَى : أَمِّرْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَجَعَلَ يَذْكُرُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ السِّتَّةِ - وَهُمْ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ - أَمْرًا جَعَلَهُ مَانِعًا لَهُ مِنْ تَعْيِينِهِ . وَإِذَا كَانَ النُّصْحُ وَاجِبًا فِي الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ : مِثْلَ نَقَلَةِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يَغْلَطُونَ أَوْ يَكْذِبُونَ كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : سَأَلْت مَالِكًا وَالثَّوْرِيَّ وَاللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ - أَظُنُّهُ - وَالْأَوْزَاعِي عَنْ الرَّجُلِ يُتَّهَمُ فِي الْحَدِيثِ أَوْ لَا يَحْفَظُ ؟ فَقَالُوا : بَيِّنْ أَمْرَهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيَّ أَنْ أَقُولَ فُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا . فَقَالَ : إذَا سَكَتّ أَنْتَ وَسَكَتّ أَنَا فَمَتَى يُعْرَفُ الْجَاهِلُ الصَّحِيحُ مِنْ السَّقِيمِ . وَمِثْلُ أَئِمَّةِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ الْعِبَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ بَيَانَ حَالِهِمْ وَتَحْذِيرَ الْأُمَّةِ مِنْهُمْ وَاجِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَعْتَكِفُ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ يَتَكَلَّمُ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ ؟ فَقَالَ : إذَا قَامَ وَصَلَّى وَاعْتَكَفَ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ هَذَا أَفْضَلُ . فَبَيَّنَ أَنَّ نَفْعَ هَذَا عَامٌّ لِلْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ مِنْ جِنْسِ الْجِهَادِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ إذْ تَطْهِيرُ سَبِيلِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَمِنْهَاجِهِ وَشِرْعَتِهِ وَدَفْعِ بَغْيِ هَؤُلَاءِ وَعُدْوَانِهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْلَا مَنْ يُقِيمُهُ اللَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ لَفَسَدَ الدِّينُ وَكَانَ فَسَادُهُ أَعْظَمَ مِنْ فَسَادِ اسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا اسْتَوْلَوْا لَمْ يُفْسِدُوا الْقُلُوبَ وَمَا فِيهَا مِنْ الدِّينِ إلَّا تَبَعًا وَأَمَّا أُولَئِكَ فَهُمْ يُفْسِدُونَ الْقُلُوبَ ابْتِدَاءً . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ ؛ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ كَمَا ذَكَرَهُ . فَقِوَامُ الدِّينِ بِالْكِتَابِ الْهَادِي وَالسَّيْفِ النَّاصِرِ { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } . وَالْكِتَابُ هُوَ الْأَصْلُ ؛ وَلِهَذَا أَوَّلُ مَا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ؛ وَمَكَثَ بِمَكَّةَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى هَاجَرَ وَصَارَ لَهُ أَعْوَانٌ عَلَى الْجِهَادِ .
وَأَعْدَاءُ الدِّينِ نَوْعَانِ : الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ
بِجِهَادِ الطَّائِفَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } فِي آيَتَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ . فَإِذَا كَانَ أَقْوَامٌ مُنَافِقُونَ يَبْتَدِعُونَ بِدَعًا تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَيُلْبِسُونَهَا عَلَى النَّاسِ وَلَمْ تُبَيَّنْ لِلنَّاسِ : فَسَدَ أَمْرُ الْكِتَابِ وَبُدِّلَ الدِّينُ ؛ كَمَا فَسَدَ دِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَنَا بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّبْدِيلِ الَّذِي لَمْ يُنْكَرْ عَلَى أَهْلِهِ . وَإِذَا كَانَ أَقْوَامٌ لَيْسُوا مُنَافِقِينَ لَكِنَّهُمْ سَمَّاعُونَ لِلْمُنَافِقِينَ : قَدْ الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ حَتَّى ظَنُّوا قَوْلَهُمْ حَقًّا ؛ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَصَارُوا دُعَاةً إلَى بِدَعِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ بَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ ؛ بَلْ الْفِتْنَةُ بِحَالِ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ فَإِنَّ فِيهِمْ إيمَانًا يُوجِبُ مُوَالَاتَهُمْ وَقَدْ دَخَلُوا فِي بِدَعٍ مِنْ بِدَعِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي تُفْسِدُ الدِّينَ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّحْذِيرِ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ وَإِنْ اقْتَضَى ذَلِكَ ذِكْرَهُمْ وَتَعْيِينَهُمْ ؛ بَلْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَلَقَّوْا تِلْكَ الْبِدْعَةَ عَنْ مُنَافِقٍ ؛ لَكِنْ قَالُوهَا ظَانِّينَ أَنَّهَا هُدًى وَأَنَّهَا خَيْرٌ وَأَنَّهَا دِينٌ ؛ وَلَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَوَجَبَ بَيَانُ حَالِهَا . وَلِهَذَا وَجَبَ بَيَانُ حَالِ مَنْ يَغْلَطُ فِي الْحَدِيثِ وَالرِّوَايَةِ وَمَنْ
يَغْلَطُ فِي الرَّأْيِ وَالْفُتْيَا وَمَنْ يَغْلَطُ فِي الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ ؛ وَإِنْ كَانَ الْمُخْطِئُ الْمُجْتَهِدُ مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ وَهُوَ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ . فَبَيَانُ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاجِبٌ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ . وَمَنْ عُلِمَ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ السَّائِغُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرُ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالتَّأْثِيمِ لَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ خَطَأَهُ ؛ بَلْ يَجِبُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى مُوَالَاتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَالْقِيَامُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ حُقُوقِهِ : مِنْ ثَنَاءٍ وَدُعَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَإِنْ عُلِمَ مِنْهُ النِّفَاقُ كَمَا عُرِفَ نِفَاقُ جَمَاعَةٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي وَذَوِيهِ وَكَمَا عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ نِفَاقَ سَائِرِ الرَّافِضَةِ : عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ وَأَمْثَالِهِ : مِثْلَ عَبْدِ الْقُدُّوسِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبِ ؛ فَهَذَا يُذْكَرُ بِالنِّفَاقِ . وَإِنْ أَعْلَنَ بِالْبِدْعَةِ وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ مُؤْمِنًا مُخْطِئًا ذُكِرَ بِمَا يُعْلَمُ مِنْهُ فَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْفُوَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا قَاصِدًا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ بِمَا يَعْلَمُ خِلَافَهُ كَانَ آثِمًا . وَكَذَلِكَ الْقَاضِي وَالشَّاهِدُ وَالْمُفْتِي كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ : رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ
وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ فِي النَّارِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } وَ " اللَّيُّ " هُوَ الْكَذِبُ وَ " الْإِعْرَاضُ " كِتْمَانُ الْحَقِّ ؛ وَمِثْلُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا ؛ وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا } . ثُمَّ الْقَائِلُ فِي ذَلِكَ بِعِلْمِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حُسْنِ النِّيَّةِ فَلَوْ تَكَلَّمَ بِحَقِّ لَقَصَدَ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ أَوْ الْفَسَادَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَرِيَاءً . وَإِنْ تَكَلَّمَ لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ كَانَ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ خُلَفَاءِ الرُّسُلِ . وَلَيْسَ هَذَا الْبَابُ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ : { الْغِيبَةُ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ } فَإِنَّ الْأَخَ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْأَخُ الْمُؤْمِنُ إنْ كَانَ صَادِقًا فِي إيمَانِهِ لَمْ يَكْرَهْ مَا قُلْته مِنْ هَذَا الْحَقِّ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَهَادَةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى ذَوِيهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِالْقِسْطِ وَيَكُونُ شَاهِدًا لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَالِدَيْهِ أَوْ أَقْرَبَيْهِ وَمَتَى كَرِهَ هَذَا الْحَقَّ كَانَ نَاقِصًا فِي إيمَانِهِ يَنْقُصُ مِنْ أُخُوَّتِهِ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ إيمَانِهِ فَلَمْ يَعْتَبِرْ كَرَاهَتَهُ مِنْ الْجِهَةِ الَّتِي نَقَصَ مِنْهَا إيمَانُهُ ؛ إذْ كَرَاهَتُهُ لِمَا
لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ تُوجِبُ تَقْدِيمَ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } . ثُمَّ قَدْ يُقَالُ : هَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي حَدِيثِ الْغِيبَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَقَدْ يُقَالُ : دَخَلَ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ خَصَّ مِنْهُ كَمَا يَخُصُّ الْعُمُومَ اللَّفْظِيَّ وَالْعُمُومَ الْمَعْنَوِيَّ وَسَوَاءٌ زَالَ الْحُكْمُ لِزَوَالِ سَبَبِهِ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعِهِ فَالْحُكْمُ وَاحِدٌ . وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ يُؤَوَّلُ إلَى اللَّفْظِ ؛ إذْ الْعِلَّةُ قَدْ يَعْنِي بِهَا التَّامَّةَ وَقَدْ يَعْنِي بِهَا الْمُقْتَضِيَةَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْتَابُ مُوَافَقَةً لِجُلَسَائِهِ وَأَصْحَابِهِ وَعَشَائِرِهِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْمُغْتَابَ بَرِيءٌ مِمَّا يَقُولُونَ أَوْ فِيهِ بَعْضُ مَا يَقُولُونَ ؛ لَكِنْ يَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ قَطَعَ الْمَجْلِسَ وَاسْتَثْقَلَهُ أَهْلُ الْمَجْلِسِ وَنَفَرُوا عَنْهُ فَيَرَى مُوَافَقَتَهُمْ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَطِيبِ الْمُصَاحَبَةِ وَقَدْ يَغْضَبُونَ فَيَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ فَيَخُوضُ مَعَهُمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ شَتَّى . تَارَةً فِي قَالِبِ دِيَانَةٍ وَصَلَاحٍ فَيَقُولُ : لَيْسَ لِي عَادَةً أَنْ أَذْكُرَ أَحَدًا إلَّا بِخَيْرِ وَلَا أُحِبُّ الْغِيبَةَ وَلَا الْكَذِبَ ؛ وَإِنَّمَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحْوَالِهِ . وَيَقُولُ : وَاَللَّهِ إنَّهُ مِسْكِينٌ أَوْ رَجُلٌ جَيِّدٌ ؛ وَلَكِنْ فِيهِ كَيْت وَكَيْت . وَرُبَّمَا يَقُولُ : دَعُونَا مِنْهُ اللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ ؛ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ اسْتِنْقَاصُهُ وَهَضْمٌ لِجَانِبِهِ . وَيُخْرِجُونَ الْغِيبَةَ فِي قَوَالِبَ صَلَاحٍ وَدِيَانَةٍ يُخَادِعُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ كَمَا يُخَادِعُونَ مَخْلُوقًا ؛ وَقَدْ رَأَيْنَا مِنْهُمْ أَلْوَانًا كَثِيرَةً مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْفَعُ غَيْرَهُ رِيَاءً فَيَرْفَعُ نَفْسَهُ فَيَقُولُ : لَوْ دَعَوْت الْبَارِحَةَ فِي صَلَاتِي لِفُلَانِ ؛ لَمَا بَلَغَنِي عَنْهُ كَيْت وَكَيْت لِيَرْفَعَ نَفْسَهُ وَيَضَعَهُ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ . أَوْ يَقُولُ : فُلَانٌ بَلِيدُ الذِّهْنِ قَلِيلُ الْفَهْمِ ؛ وَقَصْدُهُ مَدْحُ نَفْسِهِ وَإِثْبَاتُ مَعْرِفَتِهِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُ الْحَسَدُ عَلَى الْغِيبَةِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَبِيحَيْنِ : الْغِيبَةِ وَالْحَسَدِ . وَإِذَا أَثْنَى عَلَى شَخْصٍ أَزَالَ ذَلِكَ عَنْهُ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ تَنَقُّصِهِ فِي قَالِبِ دِينٍ وَصَلَاحٍ أَوْ فِي قَالِبِ حَسَدٍ وَفُجُورٍ وَقَدْحٍ لِيُسْقِطَ ذَلِكَ عَنْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَالِبِ تمسخر وَلَعِبٍ لَيُضْحِكَ غَيْرَهُ
بِاسْتِهْزَائِهِ وَمُحَاكَاتِهِ وَاسْتِصْغَارِ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الْغِيبَةَ فِي قَالِبِ التَّعَجُّبِ فَيَقُولُ تَعَجَّبْت مِنْ فُلَانٍ كَيْفَ لَا يَفْعَلُ كَيْت وَكَيْت وَمِنْ فُلَانٍ كَيْفَ وَقَعَ مِنْهُ كَيْت وَكَيْت وَكَيْفَ فَعَلَ كَيْت وَكَيْت فَيُخْرِجُ اسْمَهُ فِي مَعْرِضِ تَعَجُّبِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْرِجُ الِاغْتِمَامَ فَيَقُولُ مِسْكِينٌ فُلَانٌ غَمَّنِي مَا جَرَى لَهُ وَمَا تَمَّ لَهُ فَيَظُنُّ مَنْ يَسْمَعُهُ أَنَّهُ يَغْتَمُّ لَهُ وَيَتَأَسَّفُ وَقَلْبُهُ مُنْطَوٍ عَلَى التَّشَفِّي بِهِ وَلَوْ قَدَرَ لَزَادَ عَلَى مَا بِهِ وَرُبَّمَا يَذْكُرُهُ عِنْدَ أَعْدَائِهِ لِيَشْتَفُوا بِهِ . وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِنْ أَعْظَمِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْمُخَادَعَاتِ لِلَّهِ وَلِخَلْقِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُظْهِرُ الْغِيبَةَ فِي قَالِبِ غَضَبٍ وَإِنْكَارِ مُنْكَرٍ فَيُظْهِرُ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْيَاءَ مِنْ زَخَارِفِ الْقَوْلِ وَقَصْدُهُ غَيْرُ مَا أَظْهَرَ . وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مَقْبُولِ الْقَوْلِ عِنْدَ الْحُكَّامِ يَخْرُجُ لِلْفُرْجَةِ فِي الزَّهْرِ فِي مَوَاسِمِ الْفُرَج حَيْثُ يَكُونُ مَجْمَعُ النَّاسِ وَيَرَى الْمُنْكَرَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَتِهِ وَتَخْرُجُ امْرَأَتُهُ أَيْضًا مَعَهُ . هَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يُقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ ؟
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْضُرَ الْأَمَاكِنَ الَّتِي يَشْهَدُ فِيهَا الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِنْكَارُ ؛ إلَّا لَمُوجِبٍ شَرْعِيٍّ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُضُورِهِ أَوْ يَكُونُ مُكْرَهًا . فَأَمَّا حُضُورُهُ لِمُجَرَّدِ الْفُرْجَةِ وَإِحْضَارِ امْرَأَتِهِ تُشَاهِدُ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَمُرُوءَتِهِ إذَا أَصَرَّ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ بَلَدِ " مَارِدِينَ " هَلْ هِيَ بَلَدُ حَرْبٍ أَمْ بَلَدُ سِلْمٍ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُقِيمِ بِهَا الْهِجْرَةُ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْهِجْرَةُ وَلَمْ يُهَاجِرْ وَسَاعَدَ أَعْدَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ هَلْ يَأْثَمُ فِي ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَأْثَمُ مَنْ رَمَاهُ بِالنِّفَاقِ وَسَبَّهُ بِهِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، دِمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالُهُمْ مُحَرَّمَةٌ حَيْثُ كَانُوا فِي " مَارِدِينَ " أَوْ غَيْرِهَا . وَإِعَانَةُ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ مُحَرَّمَةٌ سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ مَارِدِينَ أَوْ غَيْرَهُمْ . وَالْمُقِيمُ بِهَا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ دِينِهِ وَجَبَتْ الْهِجْرَةُ عَلَيْهِ . وَإِلَّا اُسْتُحِبَّتْ وَلَمْ تَجِبْ . وَمُسَاعَدَتُهُمْ لِعَدُوِّ الْمُسْلِمِينَ بِالْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَمْكَنَهُمْ مِنْ تَغَيُّبٍ أَوْ تَعْرِيضٍ أَوْ مُصَانَعَةٍ ؛ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْهِجْرَةِ تَعَيَّنَتْ . وَلَا يَحِلُّ سَبُّهُمْ عُمُومًا وَرَمْيُهُمْ بِالنِّفَاقِ ؛ بَلْ السَّبُّ وَالرَّمْيُ بِالنِّفَاقِ يَقَعُ عَلَى الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَيَدْخُلُ فِيهَا بَعْضُ
أَهْل مَارِدِينَ وَغَيْرُهُمْ . وَأَمَّا كَوْنُهَا دَارَ حَرْبٍ أَوْ سِلْمٍ فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ : فِيهَا الْمَعْنَيَانِ ؛ لَيْسَتْ " بِمَنْزِلَةِ دَارِ السِّلْمِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ ؛ لِكَوْنِ جُنْدِهَا مُسْلِمِينَ ؛ وَلَا بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْحَرْبِ الَّتِي أَهْلُهَا كُفَّارٌ ؛ بَلْ هِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ يُعَامَلُ الْمُسْلِمُ فِيهَا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَيُقَاتَلُ الْخَارِجُ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مِنْ أَحْمَد ابْنِ تَيْمِيَّة إلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ وَوَلِيِّ أَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ نَائِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُمَّتِهِ ؛ بِإِقَامَةِ فَرْضِ الدِّينِ وَسُنَّتِهِ . أَيَّدَهُ اللَّهُ تَأْيِيدًا يَصْلُحُ بِهِ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيُقِيمُ بِهِ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ } إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ } . وَقَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ الدُّعَاءَ فِي السُّلْطَانِ فَجَعَلَ فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي شَهِدَتْ بِهِ قُلُوبُ الْأُمَّةِ مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ . وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُعِينَهُ فَإِنَّهُ أَفْقَرُ خَلْقِ اللَّهِ إلَى مَعُونَةِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } الْآيَةَ . وَصَلَاحُ أَمْرِ السُّلْطَانِ بِتَجْرِيدِ الْمُتَابَعَةِ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَنَبِيِّهِ وَحَمْلِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ صَلَاحَ أَهْلِ التَّمْكِينِ فِي أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ : إقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . فَإِذَا أَقَامَ الصَّلَاةَ فِي مَوَاقِيتِهَا جَمَاعَةٌ - هُوَ وَحَاشِيَتُهُ وَأَهْلُ طَاعَتِهِ - وَأَمَرَ بِذَلِكَ جَمِيعَ الرَّعِيَّةِ وَعَاقَبَ مَنْ تَهَاوَنَ فِي ذَلِكَ الْعُقُوبَةَ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ فَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَصْلُ ثُمَّ إنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا نَاجَى رَبَّهُ فِي السَّحَرِ وَاسْتَغَاثَ بِهِ وَقَالَ : يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ : أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ التَّمْكِينِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ
تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . } ثُمَّ كَلُّ نَفْعٍ وَخَيْرٍ يُوَصِّلُهُ إلَى الْخَلْقِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الزَّكَاةِ . فَمِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ سَدُّ الفاقات وَقَضَاءُ الْحَاجَاتِ وَنَصْرُ الْمَظْلُومِ وَإِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ : الْأَمْرُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَأَمْرُ نَوَائِبِ الْبِلَادِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ بِاتِّبَاعِ حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاجْتِنَابِهِمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ : النَّهْيُ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ . وَإِذَا تَقَدَّمَ السُّلْطَانُ - أَيَّدَهُ اللَّهُ - بِذَلِكَ فِي عَامَّةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَانَ فِيهِ مِنْ صَلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَاَللَّهُ يُوَفِّقُهُ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رُسُلَهُ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ؛ وَخَتَمَهُمْ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ؛ وَأَيَّدَهُ بِالسُّلْطَانِ النَّصِيرِ الْجَامِعِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقَلَمِ لِلْهِدَايَةِ وَالْحُجَّةِ ؛ وَمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالسَّيْفِ لِلنُّصْرَةِ وَالتَّعْزِيرِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً خَالِصَةً أَخْلَصَ مِنْ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا شَهَادَةً يَكُونُ صَاحِبُهَا فِي حِرْزٍ حَرِيزٍ . ( أَمَّا بَعْدُ فَهَذِهِ رِسَالَةٌ مُخْتَصَرَةٌ فِيهَا جَوَامِعُ مِنْ السِّيَاسَةِ
الْإِلَهِيَّةِ وَالْآيَاتِ النَّبَوِيَّةِ لَا يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةُ اقْتَضَاهَا مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ نُصْحَهُ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ : { إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا : أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تُفَرِّقُوا وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ } . وَهَذِهِ الرِّسَالَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى آيَتَيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؛ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } . قَالَ الْعُلَمَاءُ : نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُولَى فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ ؛ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وَنَزَلَتْ الثَّانِيَةُ فِي الرَّعِيَّةِ مِنْ الْجُيُوشِ وَغَيْرِهِمْ ؛ عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ الْفَاعِلِينَ لِذَلِكَ فِي قَسَمِهِمْ وَحُكْمِهِمْ وَمُغَازِيهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ إلَّا أَنْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِذَا أَمَرُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ؛ فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وُلَاةُ الْأَمْرِ ذَلِكَ أُطِيعُوا فِيمَا يَأْمُرُونَ بِهِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَأُدِّيَتْ حُقُوقُهُمْ إلَيْهِمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } . وَإِذَا كَانَتْ الْآيَةُ قَدْ أَوْجَبَتْ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَالْحُكْمَ بِالْعَدْلِ : فَهَذَانِ جِمَاعُ السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ وَالْوِلَايَةِ الصَّالِحَةِ .
فَصْلٌ :
أَمَّا أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ فَفِيهِ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا الْوِلَايَاتُ : وَهُوَ كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وَتَسَلَّمَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ مِنْ بَنِي شَيْبَةَ طَلَبَهَا مِنْهُ الْعَبَّاسُ . لِيَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ وَسِدَانَةِ الْبَيْتِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَدَفَعَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ إلَى بَنِي شَيْبَةَ . فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلَحَ مَنْ يَجِدُهُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَوَلَّى رَجُلًا وَهُوَ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ وَلَّى رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ
خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ . وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ : لِابْنِ عُمَرَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَوَلَّى رَجُلًا لِمَوَدَّةِ أَوْ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ " . وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ . فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوِلَايَاتِ مِنْ نُوَّابِهِ عَلَى الْأَمْصَارِ ؛ مِنْ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ هُمْ نُوَّابُ ذِي السُّلْطَانِ وَالْقُضَاةِ وَنَحْوِهِمْ وَمِنْ أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَمُقَدِّمِي الْعَسَاكِرِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ وَوُلَاةِ الْأَمْوَالِ : مِنْ الْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَالشَّادِينَ وَالسُّعَاةِ عَلَى الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي لِلْمُسْلِمِينَ . وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يَسْتَنِيبَ وَيَسْتَعْمِلَ أَصْلَحَ مَنْ يَجِدُهُ ؛ وَيَنْتَهِي ذَلِكَ إلَى أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَالْمُقْرِئِينَ وَالْمُعَلِّمِينَ وَأُمَرَاءِ الْحَاجِّ وَالْبَرَدِ وَالْعُيُونِ الَّذِينَ هُمْ الْقُصَّادُ وَخُزَّانِ الْأَمْوَالِ وَحُرَّاسِ الْحُصُونِ وَالْحَدَّادِينَ الَّذِينَ هُمْ الْبَوَّابُونَ عَلَى الْحُصُونِ وَالْمَدَائِنِ وَنُقَبَاءِ الْعَسَاكِرِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَعَرْفَاءِ الْقَبَائِلِ وَالْأَسْوَاقِ وَرُؤَسَاءِ الْقُرَى الَّذِينَ هُمْ " الدَّهَاقِينُ " . فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يُقَدِّمُ الرَّجُلَ لِكَوْنِهِ طَلَبَ الْوِلَايَةَ أَوْ سَبَقَ فِي الطَّلَبِ ؛
بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْمَنْعِ ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ قَوْمًا دَخَلُوا عَلَيْهِ فَسَأَلُوهُ وِلَايَةً ؛ فَقَالَ : إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ } . { وَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا ؛ وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ ؛ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنُ . فَإِنْ عَدَلَ عَنْ الْأَحَقِّ الْأَصْلَحِ إلَى غَيْرِهِ لِأَجْلِ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ أَوْ مُرَافَقَةٍ فِي بَلَدٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ جِنْسٍ : كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ ؛ أَوْ لَرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ ؛ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ أَوْ لِضَغَنِ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْأَحَقِّ أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا ؛ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ وَدَخَلَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ثُمَّ قَالَ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . فَإِنَّ الرَّجُلَ لِحُبِّهِ لِوَلَدِهِ أَوْ لِعَتِيقِهِ قَدْ يُؤْثِرُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ أَوْ يُعْطِيهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ ؛ فَيَكُونُ قَدْ خَانَ أَمَانَتَهُ ؛ وَكَذَلِكَ قَدْ يُؤْثِرُهُ زِيَادَةً فِي
مَالِهِ أَوْ حِفْظِهِ ؛ بِأَخْذِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ أَوْ مُحَابَاةِ مَنْ يُدَاهِنُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ . فَيَكُونُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَانَ أَمَانَتَهُ . ثُمَّ إنَّ الْمُؤَدِّيَ لِلْأَمَانَةِ مَعَ مُخَالَفَةِ هَوَاهُ يُثَبِّتُهُ اللَّهُ فَيَحْفَظُهُ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بَعْدَهُ وَالْمُطِيعُ لِهَوَاهُ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَيُذِلُّ أَهْلَهُ وَيُذْهِبُ مَالَهُ . وَفِي ذَلِكَ الْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ ؛ أَنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ سَأَلَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُحَدِّثَهُ عَمَّا أَدْرَكَ فَقَالَ : أَدْرَكْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ ؛ قِيلَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْفَرْت أَفْوَاهَ بَنِيك مِنْ هَذَا الْمَالِ وَتَرَكْتهمْ فُقَرَاءَ لَا شَيْءَ لَهُمْ - وَكَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ - فَقَالَ : أَدْخِلُوهُمْ عَلَيَّ ؛ فَأَدْخَلُوهُمْ ؛ وَهُمْ بِضْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا لَيْسَ فِيهِمْ بَالِغٌ فَلَمَّا رَآهُمْ ذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : يَا بَنِيَّ وَاَللَّهِ مَا مَنَعْتُكُمْ حَقًّا هُوَ لَكُمْ وَلَمْ أَكُنْ بِاَلَّذِي آخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ فَأَدْفَعَهَا إلَيْكُمْ ؛ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ أَحَدُ رَجُلَيْنِ : إمَّا صَالِحٌ فَاَللَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ؛ وَإِمَّا غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا أُخَلِّفُ لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ قُومُوا عَنِّي . قَالَ : فَلَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ بَنِيهِ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ يَعْنِي أَعْطَاهَا لَمِنْ يَغْزُو عَلَيْهَا . قُلْت : هَذَا وَقَدْ كَانَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَقْصَى الْمَشْرِقِ بِلَادِ التُّرْكِ إلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا وَمِنْ جَزَائِرِ قُبْرُصَ وَثُغُورِ الشَّامِ وَالْعَوَاصِمِ كطرسوس وَنَحْوِهَا إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ . وَإِنَّمَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٌ مِنْ أَوْلَادِهِ مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْئًا يَسِيرًا يُقَالُ : أَقَلُّ مِنْ
عِشْرِينَ دِرْهَمًا - قَالَ وَحَضَرْت بَعْضَ الْخُلَفَاءِ وَقَدْ اقْتَسَمَ تَرِكَتَهُ بَنُوهُ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتّمِائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ ؛ وَلَقَدْ رَأَيْت بَعْضَهُمْ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ - أَيْ يَسْأَلُهُمْ بِكَفِّهِ - وَفِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْحِكَايَاتِ وَالْوَقَائِعِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَسْمُوعَةِ عَمَّا قَبْلَهُ ؛ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ . وَقَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةِ أَمَانَةٌ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي مَوَاضِعَ : مِثْلَ مَا تَقَدَّمَ وَمِثْلَ { قَوْلِهِ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْإِمَارَةِ : إنَّهَا أَمَانَةٌ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ . قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا إضَاعَتُهَا ؟ قَالَ : إذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ } . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْنَى هَذَا ؛ فَإِنَّ وَصِيَّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرَ الْوَقْفِ وَوَكِيلَ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ ؛ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لَهُ بِالْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } . وَلَمْ يَقُلْ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ حَسَنَةٌ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَالِيَ رَاعٍ عَلَى النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ رَاعِي الْغَنَمِ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ؛
فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ ؛ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْوَلَدُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ؛ وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ؛ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ رَاعٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَدَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الخولاني عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ ؛ فَقَالُوا : قُلْ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَمِيرُ . فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ . فَقَالُوا : قُلْ : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَمِيرُ . فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ . فَقَالُوا قُلْ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَمِيرُ . فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ . فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : دَعُوا أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ . فَقَالَ : إنَّمَا أَنْتَ أَجِيرٌ اسْتَأْجَرَك رَبُّ هَذِهِ الْغَنَمِ لِرِعَايَتِهَا ؛ فَإِنْ أَنْتَ هَنَأْت جَرْبَاهَا وَدَاوَيْت مَرْضَاهَا وَحَبَسْت أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا : وَفَاك سَيِّدُهَا أَجْرَك وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَهْنَأْ جَرْبَاهَا وَلَمْ تداو مَرْضَاهَا ؛ وَلَمْ تَحْبِسْ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا عَاقَبَك سَيِّدُهَا . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ الْخَلْقَ عِبَادُ اللَّهِ وَالْوُلَاةُ نُوَّابُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَهُمْ وُكَلَاءُ الْعِبَادِ عَلَى نُفُوسِهِمْ ؛ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَعَ
الْآخَرِ ؛ فَفِيهِمْ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالْوِكَالَةِ ؛ ثُمَّ الْوَلِيُّ وَالْوَكِيلُ متى اسْتَنَابَ فِي أُمُورِهِ رَجُلًا وَتَرَكَ مَنْ هُوَ أَصْلَحَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ الْعَقَارِ مِنْهُ وَبَاعَ السِّلْعَةَ بِثَمَنِ وَهُوَ يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِيهَا بِخَيْرِ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ ؛ فَقَدْ خَانَ صَاحِبَهُ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ بَيْنَ مَنْ حَابَاهُ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أَوْ قَرَابَةٌ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يُبْغِضُهُ وَيَذُمُّهُ وَيَرَى أَنَّهُ قَدْ خَانَهُ وَدَاهَنَ قَرِيبَهُ أَوْ صَدِيقَهُ .
فَصْلٌ :
إذَا عُرِفَ هَذَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ إلَّا أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي مَوْجُودِهِ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِتِلْكَ الْوِلَايَةِ فَيَخْتَارُ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ فِي كُلِّ مَنْصِبٍ بِحَسْبِهِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ وَأَخَذَهُ لِلْوِلَايَةِ بِحَقِّهَا فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَقَامَ بِالْوَاجِبِ فِي هَذَا وَصَارَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ ؛ وَإِنْ اخْتَلَّ بَعْضُ الْأُمُورِ بِسَبَبِ مِنْ غَيْرِهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَيَقُولُ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } فَمَنْ أَدَّى الْوَاجِبَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ فَقَدْ اهْتَدَى : وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ ؛ لَكِنْ إنْ كَانَ مِنْهُ عَجْزٌ بِلَا حَاجَةٍ إلَيْهِ أَوْ خِيَانَةٍ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ . وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْأَصْلَحَ فِي كُلِّ مَنْصِبٍ فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لَهَا رُكْنَانِ : الْقُوَّةُ وَالْأَمَانَةُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } وَقَالَ صَاحِبُ مِصْرَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّك الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ جِبْرِيلَ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } . وَالْقُوَّةُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسْبِهَا ؛ فَالْقُوَّةُ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ تَرْجِعُ إلَى شَجَاعَةِ الْقَلْبِ وَإِلَى الْخِبْرَةِ بِالْحُرُوبِ وَالْمُخَادَعَةِ فِيهَا ؛ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ وَإِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْقِتَالِ : مِنْ رَمْيٍ وَطَعْنٍ وَضَرْبٍ وَرُكُوبٍ وَكَرٍّ وَفَرٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ارْمُوا وَارْكَبُوا وَإِنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا وَمَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَيْسَ مِنَّا } وَفِي رِوَايَةٍ : { فَهِيَ نِعْمَةٌ جَحَدَهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَالْقُوَّةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ تَرْجِعُ إلَى الْعِلْمِ بِالْعَدْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ . وَالْأَمَانَةُ تَرْجِعُ إلَى خَشْيَةِ اللَّهِ وَأَلَّا يَشْتَرِيَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
وَتَرَكَ خَشْيَةَ النَّاسِ ؛ وَهَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ الَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى كُلِّ مَنْ حَكَمَ عَلَى النَّاسِ ؛ فِي قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ : قَاضِيَانِ فِي النَّارِ وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ . فَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ . وَرَجُلٌ قَضَى بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ . وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . وَالْقَاضِي اسْمٌ لِكُلِّ مَنْ قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ خَلِيفَةً أَوْ سُلْطَانًا أَوْ نَائِبًا أَوْ وَالِيًا ؛ أَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لِيَقْضِيَ بِالشَّرْعِ أَوْ نَائِبًا لَهُ حَتَّى مَنْ يَحْكُمُ بَيْنَ الصِّبْيَانِ فِي الْخُطُوطِ . إذَا تَخَايَرُوا . هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
فَصْلٌ :
اجْتِمَاعُ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ فِي النَّاسِ قَلِيلٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَشْكُو إلَيْك جَلَدَ الْفَاجِرِ وَعَجْزَ الثِّقَةِ . فَالْوَاجِبُ فِي كُلِّ وِلَايَةِ الْأَصْلَحُ بِحَسْبِهَا . فَإِذَا تَعَيَّنَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ أَمَانَةً وَالْآخَرُ أَعْظَمُ قُوَّةً ؛ قُدِّمَ أَنْفَعُهُمَا لِتِلْكَ الْوِلَايَةِ : وَأَقَلُّهُمَا
ضَرَرًا فِيهَا ؛ فَيُقَدَّمُ فِي إمَارَةِ الْحُرُوبِ الرَّجُلُ الْقَوِيُّ الشُّجَاعُ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ فُجُورٌ - عَلَى الرَّجُلِ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا ؛ كَمَا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد : عَنْ الرَّجُلَيْنِ يَكُونَانِ أَمِيرَيْنِ فِي الْغَزْوِ وَأَحَدُهُمَا قَوِيٌّ فَاجِرٌ وَالْآخَرُ صَالِحٌ ضَعِيفٌ مَعَ أَيِّهِمَا يُغْزَى ؟ فَقَالَ : إمَّا الْفَاجِرُ الْقَوِيُّ فَقَوْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ وَأَمَّا الصَّالِحُ الضَّعِيفُ فَصَلَاحُهُ لِنَفْسِهِ وَضَعْفُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيُغْزَى مَعَ الْقَوِيِّ الْفَاجِرِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ . وَرُوِيَ بِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ } . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاجِرًا كَانَ أَوْلَى بِإِمَارَةِ الْحَرْبِ مِمَّنْ هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ فِي الدِّينِ إذَا لَمْ يَسُدَّ مَسَدَّهُ . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعْمِلُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْحَرْبِ مُنْذُ أَسْلَمَ وَقَالَ : { إنَّ خَالِدَ سَيْفٌ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } . مَعَ أَنَّهُ أَحْيَانًا قَدْ كَانَ يَعْمَلُ مَا يُنْكِرُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إنَّهُ - مَرَّةً - قَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمَّا فَعَلَ خَالِدٌ } لَمَّا أَرْسَلَهُ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَقَتَّلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ بِنَوْعِ شُبْهَةٍ وَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ ذَلِكَ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى وَدَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَمِنَ أَمْوَالَهُمْ ؛ وَمَعَ هَذَا فَمَا زَالَ يُقَدِّمُهُ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلَحَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ وَفِعْلُ مَا فَعَلَ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ .
كَانَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَصْلَحَ مِنْهُ فِي الْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي : لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . نَهَى أَبَا ذَرٍّ عَنْ الْإِمَارَةِ وَالْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ رَآهُ ضَعِيفًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ رَوَى : { مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ } . وَأَمَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً عَمْرَو بْنَ العاص فِي غَزْوَةِ " ذَاتِ السَّلَاسِلِ - اسْتِعْطَافًا لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ بَعَثَهُ إلَيْهِمْ - عَلَى مَنْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَأَمَّرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ ؛ لِأَجْلِ طَلَبِ ثَأْرِ أَبِيهِ . كَذَلِكَ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ لِمَصْلَحَةِ رَاجِحَةٍ مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَكُونُ مَعَ الْأَمِيرِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ . وَهَكَذَا أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا زَالَ يَسْتَعْمِلُ خَالِدًا فِي حَرْبِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَفِي فُتُوحِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَبَدَتْ مِنْهُ هَفَوَاتٌ كَانَ لَهُ فِيهَا تَأْوِيلٌ وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فِيهَا هَوًى فَلَمْ يَعْزِلْهُ مِنْ أَجْلِهَا ؛ بَلْ عَاتَبَهُ عَلَيْهَا ؛ لِرُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ فِي بَقَائِهِ وَأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ الْكَبِيرَ إذَا كَانَ خُلُقُهُ يَمِيلُ إلَى اللِّينِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلُقُ نَائِبِهِ يَمِيلُ إلَى الشِّدَّةِ ؛ وَإِذَا كَانَ خُلُقُهُ يَمِيلُ إلَى الشِّدَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ خُلُقُ نَائِبِهِ يَمِيلُ إلَى اللِّينِ ؛ لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ . وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُؤْثِرُ اسْتِنَابَةَ خَالِدٍ ؛ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُؤْثِرُ عَزْلَ خَالِدٍ وَاسْتِنَابَةَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّ خَالِدًا كَانَ شَدِيدًا كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبَا عُبَيْدَةَ كَانَ لَيِّنًا كَأَبِي بَكْرٍ ؛ وَكَانَ الْأَصْلَحُ لِكُلِّ مِنْهُمَا أَنْ يُوَلِّيَ مَنْ وَلَّاهُ ؛ لِيَكُونَ أَمْرُهُ مُعْتَدِلًا وَيَكُونَ بِذَلِكَ مِنْ خُلَفَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ مُعْتَدِلٌ ؛ حَقًّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ أَنَا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ } وَقَالَ : { أَنَا الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ } . وَأُمَّتُهُ وَسَطٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ } . وَلِهَذَا لَمَّا تَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَارَا كَامِلَيْنِ فِي الْوِلَايَةِ وَاعْتَدَلَ مِنْهُمَا مَا كَانَ يُنْسَبَانِ فِيهِ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لِينِ أَحَدِهَا وَشِدَّةِ الْآخَرِ حَتَّى قَالَ فِيهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا بالذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } . وَظَهَرَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ شَجَاعَةِ الْقَلْبِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَغَيْرِهِمْ : مَا بَرَزَ بِهِ عَلَى عُمَرَ وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَإِذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ فِي الْوِلَايَةِ إلَى الْأَمَانَةِ أَشَدَّ قُدِّمَ الْأَمِينُ : مِثْلُ
حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا ؛ فَأَمَّا اسْتِخْرَاجُهَا وَحِفْظُهَا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ وَأَمَانَةٍ فَيُوَلَّى عَلَيْهَا شَادٌّ قَوِيٌّ يَسْتَخْرِجُهَا بِقُوَّتِهِ وَكَاتِبٌ أَمِينٌ يَحْفَظُهَا بِخِبْرَتِهِ وَأَمَانَتِهِ . وَكَذَلِكَ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ إذَا أَمَرَ الْأَمِيرُ بِمُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ ؛ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْوِلَايَاتِ إذَا لَمْ تَتِمَّ الْمَصْلَحَةُ بِرَجُلِ وَاحِدٍ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدٍ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ الْأَصْلَحِ أَوْ تَعَدُّدِ الْمَوْلَى إذَا لَمْ تَقَعْ الْكِفَايَةُ بِوَاحِدِ تَامٍّ . وَيُقَدَّمُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ : الْأَعْلَمُ الْأَوْرَعُ الْأَكْفَأُ ؛ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْلَمَ وَالْآخَرُ أَوْرَعَ ؛ قُدِّمَ - فِيمَا قَدْ يَظْهَرُ حُكْمُهُ وَيُخَافُ فِيهِ الْهَوَى - الْأَوْرَعُ ؛ وَفِيمَا يَدُقُّ حُكْمُهُ وَيُخَافُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ : الْأَعْلَمُ . فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبُهَاتِ وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ } . وَيُقَدَّمَانِ عَلَى الْأَكْفَأِ إنْ كَانَ الْقَاضِي مُؤَيَّدًا تَأْيِيدًا تَامًّا مِنْ جِهَةِ وَالِي الْحَرْبِ أَوْ الْعَامَّةِ . وَيُقَدِّمُ الْأَكْفَأَ . إنْ كَانَ الْقَضَاءُ يَحْتَاجُ إلَى قُوَّةٍ وَإِعَانَةٍ لِلْقَاضِي أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ إلَى مَزِيدِ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ ؛ فَإِنَّ الْقَاضِيَ الْمُطْلَقَ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلًا قَادِرًا . بَلْ كَذَلِكَ كُلُّ وَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَأَيُّ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقَصَتْ ظَهَرَ الْخَلَلُ بِسَبَبِهِ وَالْكَفَاءَةُ : إمَّا بِقَهْرِ وَرَهْبَةٍ ،
وَإِمَّا بِإِحْسَانِ وَرَغْبَةٍ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا . وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءُ ؛ إلَّا عَالِمٌ فَاسِقٌ أَوْ جَاهِلٌ دَيِّنٌ ؛ فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ ؟ فَقَالَ : إنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الدَّيِّنِ أَكْثَرَ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ قُدِّمَ الدَّيِّنُ . وَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْعِلْمِ أَكْثَرَ لِخَفَاءِ الْحُكُومَاتِ قُدِّمَ الْعَالِمُ . وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُقَدِّمُونَ ذَا الدِّينِ ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُتَوَلِّي مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ ؛ وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ : هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا أَوْ الْوَاجِبُ تَوْلِيَةُ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ كَيْفَمَا تَيَسَّرَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَبُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَوْلِيَةُ غَيْرِ الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ إذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إصْلَاحِ الْأَحْوَالِ حَقًّا يَكْمُلُ فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ وَالْإِمَارَاتِ وَنَحْوِهَا ؛ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ السَّعْيُ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَكَمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَا .
فَصْلٌ :
وَأَهَمُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ مَعْرِفَةُ الْأَصْلَحِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتِمُّ بِمَعْرِفَةِ مَقْصُودِ الْوِلَايَةِ وَمَعْرِفَةِ طَرِيقِ الْمَقْصُودِ ؛ فَإِذَا عُرِفَتْ الْمَقَاصِدُ وَالْوَسَائِلُ تَمَّ الْأَمْرُ . فَلِهَذَا لَمَّا غَلَبَ عَلَى أَكْثَرِ الْمُلُوكِ قَصْدُ الدُّنْيَا ؛ دُونَ الدِّينِ ؛ قَدَّمُوا فِي وِلَايَتِهِمْ مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَقَاصِدِ وَكَانَ مَنْ يَطْلُبُ رِئَاسَةَ نَفْسِهِ يُؤْثِرُ تَقْدِيمَ مَنْ يُقِيمُ رِئَاسَتَهُ ؛ وَقَدْ كَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الَّذِي يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيَخْطُبُ بِهِمْ : هُمْ أُمَرَاءُ الْحَرْبِ الَّذِينَ هُمْ نُوَّابُ ذِي السُّلْطَانِ عَلَى الْأَجْنَادِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ قَدَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى حَرْبٍ كَانَ هُوَ الَّذِي يُؤَمِّرُهُ لِلصَّلَاةِ بِأَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا نَائِبًا عَلَى مَدِينَةٍ كَمَا اسْتَعْمَلَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ وَعُثْمَانَ بْنَ أَبِي العاص عَلَى الطَّائِفِ وَعَلِيًّا وَمُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى عَلَى الْيَمَنِ وَعَمْرَو بْنَ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ : كَانَ نَائِبُهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ وَيُقِيمُ
فِيهِمْ الْحُدُودَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَفْعَلُهُ أَمِيرُ الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُلُوكِ الْأُمَوِيِّينَ وَبَعْضِ الْعَبَّاسِيِّينَ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهَمَّ أَمْرِ الدِّينِ الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَكَانَ إذَا عَادَ مَرِيضًا يَقُولُ : { اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَك يَشْهَدُ لَك صَلَاةً وَيَنْكَأُ لَك عَدُوًّا } . { وَلَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ : يَا مُعَاذُ إنَّ أَهَمَّ أَمْرِك عِنْدِي الصَّلَاةُ } . وَكَذَلِكَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ : " إنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ ؛ فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا وَحَفِظَهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ عَمَلِهِ أَشَدَّ إضَاعَةٍ " { . وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : } الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ { . فَإِذَا أَقَامَ الْمُتَوَلِّي عِمَادَ الدِّينِ : فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَهِيَ الَّتِي تُعِينُ النَّاسَ عَلَى مَا سِوَاهَا مِنْ الطَّاعَاتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَالَ لِنَبِيِّهِ : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } وَقَالَ
تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } . فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلَايَاتِ : إصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الَّذِي مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا ؛ وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ . وَهُوَ نَوْعَانِ : قَسْمُ الْمَالِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ ؛ وَعُقُوبَاتُ الْمُعْتَدِينَ فَمَنْ لَمْ يَعْتَدِ أَصْلَحَ لَهُ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ : " إنَّمَا بَعَثْت عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ كِتَابَ رَبِّكُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَيَقْسِمُوا بَيْنَكُمْ فَيْأَكُمْ " } . فَلَمَّا تَغَيَّرَتْ الرَّعِيَّةُ مِنْ وَجْهِ وَالرُّعَاةِ مِنْ وَجْهٍ ؛ تَنَاقَضَتْ الْأُمُورُ . فَإِذَا اجْتَهَدَ الرَّاعِي فِي إصْلَاحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ زَمَانِهِ وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ فَقَدْ رُوِيَ : { يَوْمٌ مِنْ إمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً } وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ إمَامٌ عَادِلٌ وَأَبْغَضُهُمْ إلَيْهِ إمَامٌ جَائِرٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ : إمَامٌ عَادِلٌ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ
عَيْنَاهُ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ : إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمُ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ : ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٍ وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ وَرَجُلٌ غَنِيٌّ عَفِيفٌ مُتَصَدِّقٌ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { السَّاعِي عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْحَقِّ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا أَمَرَ بِالْجِهَادِ - : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } { وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . فَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَكَلِمَةُ اللَّهِ : اسْمٌ جَامِعٌ لِكَلِمَاتِهِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا كِتَابُهُ وَهَكَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } فَالْمَقْصُودُ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ خَلْقِهِ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى :
{ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } . فَمَنْ عَدَلَ عَنْ الْكِتَابِ قُوِّمَ بِالْحَدِيدِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِالْمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ . وَقَدْ رُوِيَ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَضْرِبَ بِهَذَا - يَعْنِي السَّيْفَ - مَنْ عَدَلَ عَنْ هَذَا - يَعْنِي الْمُصْحَفَ } - فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِنَّهُ يَتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ وَيَنْظُرُ إلَى الرَّجُلَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمَقْصُودِ وَلِيَ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْوِلَايَةُ مَثَلًا - إمَامَةَ صَلَاةٍ فَقَطْ ؛ قُدِّمَ مَنْ قَدَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَإِذَا تَكَافَأَ رَجُلَانِ ؛ وَخَفِيَ أَصْلَحُهُمَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا كَمَا أَقْرَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ لَمَّا تَشَاجَرُوا عَلَى الْأَذَانِ ؛ مُتَابَعَةً لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يستهموا عَلَيْهِ لاستهموا } . فَإِذَا كَانَ التَّقْدِيمُ بِأَمْرِ اللَّهِ إذَا ظَهَرَ وَبِفِعْلِهِ - وَهُوَ مَا يُرَجِّحُهُ بِالْقُرْعَةِ إذَا خَفِيَ الْأَمْرُ - كَانَ الْمُتَوَلِّي قَدْ أَدَّى الْأَمَانَاتِ فِي الْوِلَايَاتِ إلَى أَهْلِهَا .
فَصْلٌ :
الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْأَمَانَاتِ : الْأَمْوَالُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الدُّيُونِ : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } . وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ : الْأَعْيَانُ وَالدُّيُونُ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ : مِثْلَ رَدِّ الْوَدَائِعِ وَمَالِ الشَّرِيكِ وَالْمُوَكَّلِ وَالْمُضَارِبِ وَمَالِ الْمَوْلَى مِنْ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ الْوَقْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ وَفَاءُ الدُّيُونِ مِنْ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ وَبَدَلُ الْقَرْضِ وَصَدَقَاتُ النِّسَاءِ وَأُجُورُ الْمَنَافِعِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } { إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } { إلَّا الْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } أَيْ لَا تُخَاصِمْ عَنْهُمْ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَلِهِمْ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا
نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ } . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بَعْضُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَعْضُهُ فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْجَبَ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ الَّتِي قُبِضَتْ بِحَقِّ ؛ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَظَالِمِ كَذَلِكَ أَدَاءُ الْعَارِيَةِ . وَقَدْ { خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ : الْعَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ ؛ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ } . وَهَذَا الْقِسْمُ يَتَنَاوَلُ الْوُلَاةَ وَالرَّعِيَّةَ فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا : أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْآخَرِ مَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ فَعَلَى ذِي السُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ فِي الْعَطَاءِ أَنْ يُؤْتُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ . وَعَلَى جُبَاةِ الْأَمْوَالِ كَأَهْلِ الدِّيوَانِ أَنْ يُؤَدُّوا إلَى ذِي السُّلْطَانِ مَا يَجِبُ إيتَاؤُهُ إلَيْهِ ؛ كَذَلِكَ عَلَى الرَّعِيَّةِ الَّذِينَ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْحُقُوقُ ؛ وَلَيْسَ لِلرَّعِيَّةِ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْ وُلَاةِ الْأَمْوَالِ مَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ فَيَكُونُونَ مِنْ جِنْسِ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ لِمَنْ تَكُونُ
بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } . وَلَا لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا السُّلْطَانَ مَا يَجِبُ دَفْعُهُ إلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا ؛ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذُكِرَ جَوْرُ الْوُلَاةِ فَقَالَ : { أَدُّوا إلَيْهِمْ الَّذِي لَهُمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ } . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ وَأَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ وَيَكْثُرُونَ . قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ فَقَالَ : أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ ؛ ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ } . وَفِيهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَدُّوا إلَيْهِمْ حَقَّهُمْ ؛ وَاسْأَلُوا اللَّهَ حَقَّكُمْ } . وَلَيْسَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنْ يَقْسِمُوهَا بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ كَمَا يَقْسِمُ الْمَالِكُ مِلْكَهُ ؛ فَإِنَّمَا هُمْ أُمَنَاءُ وَنُوَّابٌ وَوُكَلَاءُ لَيْسُوا مُلَّاكًا ؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي - وَاَللَّهِ - لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا ؛ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُهُ . فَهَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَنْعُ وَالْعَطَاءُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمَالِكُ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ وَكَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُلُوكُ الَّذِينَ يُعْطُونَ مَنْ أَحَبُّوا وَيَمْنَعُونَ مَنْ أَبْغَضُوا وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْسِمُ الْمَالَ بِأَمْرِهِ فَيَضَعُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَهَكَذَا قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - لَوْ وَسَّعْت عَلَى نَفْسِك فِي النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَتَدْرِي مَا مَثَلِي وَمَثَلُ هَؤُلَاءِ ؟ كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَجَمَعُوا مِنْهُمْ مَالًا وَسَلَّمُوهُ إلَى وَاحِدٍ يُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ فَهَلْ يَحِلُّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ؟ . وَحُمِلَ مَرَّةً إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَالٌ عَظِيمٌ مِنْ الْخُمُسِ ؛ فَقَالَ : إنَّ قَوْمًا أَدَّوْا الْأَمَانَةَ فِي هَذَا لِأُمَنَاءَ . فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ : إنَّك أَدَّيْت الْأَمَانَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَدَّوْا إلَيْك الْأَمَانَةَ وَلَوْ رَتَعْت لَرَتَعُوا . وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ كَالسُّوقِ مَا نَفَقَ فِيهِ جُلِبَ إلَيْهِ ؛ هَكَذَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَإِنْ نَفَقَ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْبِرُّ وَالْعَدْلُ وَالْأَمَانَةُ جُلِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ ؛ وَإِنْ نَفَقَ فِيهِ الْكَذِبُ وَالْفُجُورُ
وَالْجَوْرُ وَالْخِيَانَةُ جُلِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ . وَاَلَّذِي عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ وَيَضَعَهُ فِي حَقِّهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ ؛ وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ نُوَّابِهِ ظَلَمَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ آمُرْهُمْ أَنْ يَظْلِمُوا خَلْقَك وَلَا يَتْرُكُوا حَقَّك .
فَصْلٌ :
الْأَمْوَالُ السُّلْطَانِيَّةُ الَّتِي أَصْلُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : الْغَنِيمَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْفَيْءُ . فَأَمَّا " الْغَنِيمَةُ " فَهِيَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي " سُورَةِ الْأَنْفَالِ " الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَسَمَّاهَا أَنْفَالًا ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } الْآيَةَ ؛ وَقَالَ : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي : نُصِرْت
بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ ؛ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدِ قَبْلِي وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةُ وَكَانَ النَّبِيُّ بُعِثَ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمِ فَهُوَ مِنْهُمْ } . رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ . فَالْوَاجِبُ فِي الْمَغْنَمِ تَخْمِيسُهُ وَصَرْفُ الْخُمُسِ إلَى مَنْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ وَقِسْمَةُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغَانِمِينَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ . وَهُمْ الَّذِينَ شَهِدُوهَا لِلْقِتَالِ قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا . وَيَجِبُ قَسَمُهَا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ فَلَا يُحَابَى أَحَدٌ لَا لِرِيَاسَتِهِ وَلَا لِنَسَبِهِ وَلَا لِفَضْلِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يَقْسِمُونَهَا . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ : { أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ؟ } وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَد { عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ يَكُونُ سَهْمُهُ وَسَهْمُ غَيْرِهِ سَوَاءً ؟ قَالَ : ثَكِلَتْك أُمُّك ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ ؛ وَهَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ
إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ؟ } . وَمَا زَالَتْ الْغَنَائِمُ تُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فِي دَوْلَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَدَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَغْزُونَ الرُّومَ وَالتُّرْكَ وَالْبَرْبَرَ ؛ لَكِنْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ زِيَادَةُ نِكَايَةٍ : كَسَرِيَّةِ تَسَرَّتْ مِنْ الْجَيْشِ أَوْ رَجُلٍ صَعِدَ حِصْنًا عَالِيًا فَفَتَحَهُ أَوْ حَمَلَ عَلَى مُقَدَّمِ الْعَدُوِّ فَقَتَلَهُ فَهَزَمَ الْعَدُوَّ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ كَانُوا يُنَفِّلُونَ لِذَلِكَ . وَكَانَ يُنَفِّلُ السِّرِّيَّةَ فِي الْبِدَايَةِ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثُ بَعْدَ الْخُمُسِ . وَهَذَا النَّفْلُ ؛ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْخُمُسِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ؛ لِئَلَّا يُفَضِّلَ بَعْضَ الْغَانِمِينَ عَلَى بَعْضٍ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لِمَصْلَحَةِ دِينِيَّةٍ ؛ لَا لِهَوَى النَّفْسِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ . وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الشَّامِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَعَلَى هَذَا فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ وَالثُّلُثَ بِشَرْطِ وَغَيْرِ شَرْطٍ وَيُنَفِّلُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ بِالشَّرْطِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : مَنْ دَلَّنِي عَلَى قَلْعَةٍ فَلَهُ كَذَا أَوْ مَنْ جَاءَنِي بِرَأْسِ فَلَهُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَقِيلَ : لَا يُنَفِّلُ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثِ وَلَا يُنَفِّلُهُ إلَّا بِالشَّرْطِ . وَهَذَانِ قَوْلَانِ لِأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . كَذَلِكَ - عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ -
لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ : مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ ؛ كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ . إذَا رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً عَلَى الْمَفْسَدَةِ . وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَجْمَعُ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمُهَا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدِ أَنْ يَغُلَّ مِنْهَا شَيْئًا { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَإِنَّ الْغُلُولَ خِيَانَةٌ . وَلَا تَجُوزُ النُّهْبَةُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا . فَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ الْجَمْعَ وَالْقِسْمَةَ وَأَذِنَ فِي الْأَخْذِ إذْنًا جَائِزًا : فَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا بِلَا عُدْوَانٍ حَلَّ لَهُ بَعْدَ تَخْمِيسِهِ وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ فَهُوَ إذْنٌ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَأْذَنْ أَوْ أَذِنَ إذْنًا غَيْرَ جَائِزٍ : جَازَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ مَا يُصِيبُهُ بِالْقِسْمَةِ مُتَحَرِّيًا لِلْعَدْلِ فِي ذَلِكَ . وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَمْعَ الْغَنَائِمِ وَالْحَالُ هَذِهِ وَأَبَاحَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا ما يَشَاءُ : فَقَدْ تَقَابَلَ الْقَوْلَانِ تَقَابُلَ الطَّرَفَيْنِ وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ . وَالْعَدْلُ فِي الْقِسْمَةِ : أَنْ يُقْسَمَ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ذِي الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ ؛ هَكَذَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ : لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ . وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ ؛ وَلِأَنَّ الْفَرَسَ يَحْتَاجُ إلَى مَئُونَةِ نَفْسِهِ وَسَائِسِهِ - وَمَنْفَعَةُ الْفَارِسِ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ رَاجِلِينَ - وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يُسَوَّى بَيْنَ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ وَالْهَجِينِ
فِي هَذَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الْهَجِينُ يُسْهَمُ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ كَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ . وَالْفَرَسُ الْهَجِينُ : الَّذِي تَكُونُ أُمُّهُ نَبَطِيَّةٌ - وَيُسَمَّى الْبِرْذَوْنَ - وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ التتري سَوَاءٌ كَانَ حِصَانًا أَوْ خَصِيًّا وَيُسَمَّى الأكديش أَوْ رمكة وَهِيَ الْحِجْرُ ؛ كَانَ السَّلَفُ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ الْحِصَانَ لِقُوَّتِهِ وَحِدَّتِهِ وَلِلْإِغَارَةِ وَالْبَيَاتِ الْحِجْرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا صَهِيلٌ يُنْذِرُ الْعَدُوَّ فَيَحْتَرِزُونَ وَلِلسَّيْرِ الْخَصِيُّ لِأَنَّهُ أَصْبَرُ عَلَى السَّيْرِ . وَإِذَا كَانَ الْمَغْنُومُ مَالًا - قَدْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ذَلِكَ : مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ وَعَرَفَ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ - فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَتَفَارِيعُ الْمَغَانِمِ وَأَحْكَامُهَا : فِيهَا آثَارٌ وَأَقْوَالٌ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَعْضِهَا وَتَنَازَعُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا ؛ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ ذِكْرُ الْجُمَلِ الْجَامِعَةِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الصَّدَقَاتُ فَهِيَ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ؛ فَقَدْ رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ بِقَسْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ ؛ وَلَكِنْ جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ
كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك } . فَالْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ يَجْمَعُهَا مَعْنَى الْحَاجَةِ إلَى الْكِفَايَةِ ؛ فَلَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ وَلَا لِقَوِيِّ مُكْتَسِبٍ ( وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ) هُمْ الَّذِينَ يَجْبُونَهَا وَيَحْفَظُونَهَا وَيَكْتُبُونَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ . ( وَالْمُؤَلَّفَةُ )قُلُوبُهُمْ فَنَذْكُرُهُمْ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَالِ الْفَيْءِ . ( وَفِي الرِّقَابِ ) يَدْخُلُ فِيهِ إعَانَةُ الْمُكَاتِبِينَ وَافْتِدَاءُ الْأَسْرَى وَعِتْقُ الرِّقَابِ . هَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ فِيهَا . وَالْغَارِمِينَ هُمْ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ دُيُونٌ لَا يَجِدُونَ وَفَاءَهَا فَيُعْطُونَ وَفَاءَ دُيُونِهِمْ وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا إلَّا أَنْ يَكُونُوا غَرِمُوهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُعْطُونَ حَتَّى يَتُوبُوا . ( وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ) وَهُمْ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا يُعْطُونَ مِنْ مَالِ اللَّهِ مَا يَكْفِيهِمْ لِغَزْوِهِمْ فَيُعْطُونَ مَا يَغْزُونَ بِهِ ؛ أَوْ تَمَامَ مَا يَغْزُونَ بِهِ مِنْ خَيْلٍ وَسِلَاحٍ وَنَفَقَةٍ وَأُجْرَةٍ ؛ وَالْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( وَابْنُ السَّبِيلِ ) هُوَ الْمُجْتَازُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْفَيْءُ فَأَصْلُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ بَدْرٍ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى مَا وَصَفَ فَدَخَلَ فِي الصِّنْفِ الثَّالِثِ كُلُّ مَنْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ كَمَا دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . وَمَعْنَى قَوْلِهِ : { فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ } . أَيْ مَا
حَرَّكْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ خَيْلًا وَلَا إبِلًا . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّ الْفَيْءَ هُوَ مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ ؛ لِأَنَّ إيجَافَ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ هُوَ مَعْنَى الْقِتَالِ . وَسُمِّيَ فَيْئًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْأَمْوَالَ إعَانَةً عَلَى عِبَادَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ . فَالْكَافِرُونَ بِهِ أَبَاحَ أَنْفُسَهُمْ الَّتِي لَمْ يَعْبُدُوهُ بِهَا وَأَمْوَالَهُمْ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ ؛ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ وَأَفَاءَ إلَيْهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ كَمَا يُعَادُ عَلَى الرَّجُلِ مَا غُصِبَ مِنْ مِيرَاثِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ وَهَذَا مِثْلُ الْجِزْيَةِ الَّتِي عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَالُ الَّذِي يُصَالِحُ عَلَيْهِ الْعَدُوَّ أَوْ يَهْدُونَهُ إلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ كَالْحِمْلِ الَّذِي يُحْمَلُ مِنْ بِلَادِ النَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ ؛ وَمَا يُؤْخَذُ مَنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَهُوَ الْعُشْرُ وَمِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إذَا اتَّجَرُوا فِي غَيْرِ بِلَادِهِمْ وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ . هَكَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْخُذُ . وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يَنْقُضُ الْعَهْدَ مِنْهُمْ وَالْخَرَاجِ الَّذِي كَانَ مَضْرُوبًا فِي الْأَصْلِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ إنَّهُ يَجْتَمِعُ مِنْ الْفَيْءِ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ : كَالْأَمْوَالِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ مِثْلَ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ ؛ وكالغصوب وَالْعَوَارِيِّ وَالْوَدَائِعِ :
الَّتِي تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ . فَهَذَا وَنَحْوُهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْفَيْءَ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَمُوتُ عَلَى عَهْدِهِ مَيِّتٌ إلَّا وَلَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ لِظُهُورِ الْأَنْسَابِ فِي أَصْحَابِهِ وَقَدْ مَاتَ مَرَّةً رَجُلٌ مِنْ قَبِيلَةٍ فَدَفَعَ مِيرَاثَهُ إلَى أَكْبَرِ رَجُلٍ مِنْ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ أَيْ : أَقْرَبِهِمْ نَسَبًا إلَى جَدِّهِمْ وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ فِي قَوْلٍ مَنْصُوصٍ وَغَيْرِهِ وَمَاتَ رَجُلٌ لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا عَتِيقًا لَهُ فَدَفَعَ مِيرَاثَهُ إلَى عَتِيقِهِ وَقَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ . وَدَفَعَ مِيرَاثَ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ يَتَوَسَّعُونَ فِي دَفْعِ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ إلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ . وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا الصَّدَقَاتِ وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ؛ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ . وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَمْوَالِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ ؛ دِيوَانٌ جَامِعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلْ كَانَ يُقْسَمُ الْمَالُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَثُرَ الْمَالُ وَاتَّسَعَتْ الْبِلَادُ وَكَثُرَ النَّاسُ فَجَعَلَ دِيوَانَ الْعَطَاءِ لِلْمُقَاتِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ وَدِيوَانُ الْجَيْشِ - فِي هَذَا الزَّمَانِ - مُشْتَمِلٌ عَلَى
أَكْثَرِهِ ؛ وَذَلِكَ الدِّيوَانُ هُوَ أَهَمُّ دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَانَ لِلْأَمْصَارِ دَوَاوِينُ الْخَرَاجِ وَالْفَيْءِ وَمَا يُقْبَضُ مِنْ الْأَمْوَالِ ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يُحَاسِبُونَ الْعُمَّالَ عَلَى الصَّدَقَاتِ وَالْفَيْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَصَارَتْ الْأَمْوَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا قَبْلَهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ يَسْتَحِقُّ الْإِمَامُ قَبْضَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَنَوْعٌ يَحْرُمُ أَخْذُهُ بِالْإِجْمَاعِ كَالْجِبَايَاتِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَجْلِ قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ أَوْ عَلَى حَدٍّ ارْتَكَبَهُ وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ وَكَالْمُكُوسِ الَّتِي لَا يَسُوغُ وَضْعُهَا اتِّفَاقًا . وَنَوْعٌ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَتَنَازُعٌ كَمَالٍ مَنْ لَهُ ذُو رَحِمٍ وَلَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الظُّلْمُ مِنْهُ الْوُلَاةُ وَالرَّعِيَّةُ : هَؤُلَاءِ يَأْخُذُونَ مَا لَا يَحِلُّ وَهَؤُلَاءِ يَمْنَعُونَ مَا يَجِبُ كَمَا قَدْ يَتَظَالَمُ الْجُنْدُ وَالْفَلَّاحُونَ . وَكَمَا قَدْ يَتْرُكُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْجِهَادِ مَا يَجِبُ وَيَكْنِزُ الْوُلَاةُ مِنْ مَالِ اللَّهِ مَا لَا يَحِلُّ كَنْزُهُ . وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَاتُ عَلَى أَدَاءِ الْأَمْوَالِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ مِنْهَا مَا يُبَاحُ أَوْ يَجِبُ ؛ وَقَدْ يَفْعَلُ مَا لَا يَحِلُّ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : إنَّ كُلَّ مَنْ عَلَيْهِ مَالٌ يَجِبُ أَدَاؤُهُ ؛ كَرَجُلِ
عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ مُضَارَبَةٌ أَوْ شَرِكَةٌ أَوْ مَالٌ لِمُوَكِّلِهِ أَوْ مَالُ يَتِيمٍ أَوْ مَالُ وَقْفٍ أَوْ مَالٌ لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ أَوْ عِنْدَهُ دَيْنٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ : مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ ؛ وَعَرَفَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ حَتَّى يُظْهِرَ الْمَالَ أَوْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهِ . فَإِذَا عَرَفَ الْمَالَ وَصَبَرَ عَلَى الْحَبْسِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي الْحَقَّ مِنْ الْمَالِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ضَرْبِهِ وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَالِهِ وَمِنْ الْإِيفَاءِ ضُرِبَ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَقَّ أَوْ يُمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ؛ لِمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَ " اللَّيُّ " هُوَ الْمَطْلُ : وَالظَّالِمُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَالتَّعْزِيرَ . وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ : أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا أَوْ تَرَكَ وَاجِبًا اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ كَانَ تَعْزِيرًا يَجْتَهِدُ فِيهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ فَيُعَاقِبُ الْغَنِيَّ الْمُمَاطِلَ بِالْحَبْسِ فَإِنْ أَصَرَّ عُوقِبَ بِالضَّرْبِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ : مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالسِّلَاحِ سَأَلَ بَعْضَ الْيَهُودِ - وَهُوَ سَعْيَةَ عَمَّ حيي بْنِ أَخْطَبَ - عَنْ كَنْزِ مَالِ حيي بْنِ أَخْطَبَ . فَقَالَ : أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ فَقَالَ : الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَدَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْيَةَ إلَى الزُّبَيْرِ فَمَسَّهُ بِعَذَابِ فَقَالَ : قَدْ رَأَيْت حييا يَطُوفُ فِي خَرِبَةٍ هَهُنَا فَذَهَبُوا فَطَافُوا فَوَجَدُوا الْمِسْكَ فِي الْخَرِبَةِ } وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ ذِمِّيًّا وَالذِّمِّيُّ لَا تَحِلُّ عُقُوبَتُهُ إلَّا بِحَقِّ ؛ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مَا يَجِبُ إظْهَارُهُ مِنْ دَلَالَةٍ وَاجِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ . وَمَا أَخَذَهُ الْعُمَّالُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ الْعَادِلِ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْهُمْ ؛ كَالْهَدَايَا الَّتِي يَأْخُذُونَهَا بِسَبَبِ الْعَمَلِ . قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ . وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ - فِي كِتَابِ الْهَدَايَا - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي حميد الساعدي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الأزد ؛ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللتبية عَلَى الصَّدَقَةِ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَالُ الرَّجُلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا
وَلَّانَا اللَّهُ ؛ فَيَقُولُ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ ؟ فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ . فَيَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا ؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا إلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ ؛ إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عَفْرَتَيْ إبِطَيْهِ ؛ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت ؟ ثَلَاثًا } .
وَكَذَلِكَ مُحَابَاةُ الْوُلَاةِ فِي الْمُعَامَلَةِ مِنْ الْمُبَايَعَةِ وَالْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِنْ نَوْعِ الْهَدِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا شَاطَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عُمَّالِهِ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ وَدِينٌ لَا يُتَّهَمُ بِخِيَانَةِ ؛ وَإِنَّمَا شَاطَرَهُمْ لَمَّا كَانُوا خُصُّوا بِهِ لِأَجْلِ الْوِلَايَةِ مِنْ مُحَابَاةٍ وَغَيْرِهَا وَكَانَ الْأَمْرُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إمَامَ عَدْلٍ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ . فَلَمَّا تَغَيَّرَ الْإِمَامُ وَالرَّعِيَّةُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ الْوَاجِبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ وَلَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ . وَقَدْ يُبْتَلَى النَّاسُ مِنْ الْوُلَاةِ بِمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْهَدِيَّةِ وَنَحْوِهَا ؛ لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَظَالِمِ مِنْهُمْ وَيَتْرُكُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ
فَيَكُونُ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ عِوَضًا عَلَى كَفِّ ظُلْمٍ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ مُبَاحَةٍ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ هَذَا ؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ وَأَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ ؛ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ كَفُّ الظُّلْمِ عَنْهُمْ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ الَّتِي لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهَا : مِنْ تَبْلِيغِ ذِي السُّلْطَانِ حَاجَاتِهِمْ وَتَعْرِيفِهِ بِأُمُورِهِمْ وَدَلَالَتِهِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ وَصَرْفِهِ عَنْ مَفَاسِدِهِمْ ؛ بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ اللَّطِيفَةِ وَغَيْرِ اللَّطِيفَةِ ؛ كَمَا يَفْعَلُ ذَوُو الْأَغْرَاضِ مِنْ الْكُتَّابِ وَنَحْوِهِمْ فِي أَغْرَاضِهِمْ . فَفِي حَدِيثِ هِنْدَ بْنِ أَبِي هَالَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا ؛ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ ذَا سُلْطَانٍ حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا : ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ الْأَقْدَامُ } وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أمامة الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ عَلَيْهَا هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا } وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : السُّحْتُ أَنْ يَطْلُبَ الْحَاجَةَ لِلرَّجُلِ فَتُقْضَى لَهُ فَيُهْدَى إلَيْهِ هَدِيَّةٌ فَيَقْبَلُهَا وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَسْرُوقٍ : أَنَّهُ كَلَّمَ ابْنَ زِيَادٍ فِي مَظْلِمَةٍ فَرَدَّهَا فَأَهْدَى لَهُ صَاحِبُهَا وَصِيفًا فَرَدَّهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : سَمِعْت ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ : مَنْ
رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلِمَةً فَرَزَأَهُ عَلَيْهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا فَهُوَ سُحْتٌ ؛ فَقُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا كُنَّا نَرَى السُّحْتَ إلَّا الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ قَالَ : ذَاكَ كُفْرٌ . فَأَمَّا إذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ يَسْتَخْرِجُ مِنْ الْعُمَّالِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ هُوَ وَذَوُوه فَلَا يَنْبَغِي إعَانَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذْ كُلٌّ مِنْهَا ظَالِمٌ كَلِصِّ سَرَقَ مِنْ لِصّ وَكَالطَّائِفَتَيْن الْمُقْتَتِلَتَيْن عَلَى عَصَبَيْهِ وَرِئَاسَةٍ ؛ وَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا عَلَى ظُلْمٍ ؛ فَإِنَّ التَّعَاوُنَ نَوْعَانِ : الْأَوَّلُ : تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى : مِنْ الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَإِعْطَاءِ الْمُسْتَحَقِّينَ ؛ فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَمَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ فَقَدْ تَرَكَ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ مُتَوَهِّمًا أَنَّهُ مُتَوَرِّعٌ . وَمَا أَكْثَرَ مَا يَشْتَبِهُ الْجُبْنُ وَالْفَشَلُ بِالْوَرَعِ إذْ كَلٌّ مِنْهُمَا كَفٌّ وَإِمْسَاكٌ . وَالثَّانِي : تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ كَالْإِعَانَةِ عَلَى دَمٍ مَعْصُومٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ مَعْصُومٍ أَوْ ضَرْبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . نَعَمْ إذَا كَانَتْ الْأَمْوَالُ قَدْ أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا إلَى أَصْحَابِهَا كَكَثِيرِ مِنْ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ ؛ فَالْإِعَانَةُ عَلَى صَرْفِ هَذِهِ
الْأَمْوَالِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدَادِ الثُّغُورِ وَنَفَقَةِ الْمُقَاتِلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ؛ إذْ الْوَاجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ - إذَا لَمْ يُمْكِنْ مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا وَرَدُّهَا عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى وَرَثَتِهِمْ - أَنْ يَصْرِفَهَا - مَعَ التَّوْبَةِ إنْ كَانَ هُوَ الظَّالِمُ - إلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . هَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ أَخَذَهَا فَعَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا ذَلِكَ كَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ رَدِّهَا : كَانَتْ الْإِعَانَةُ عَلَى إنْفَاقِهَا فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا بِيَدِ مَنْ يُضَيِّعُهَا عَلَى أَصْحَابِهَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } الْمُفَسِّرُ لِقَوْلِهِ : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } وَعَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلُهَا ؛ وَتَعْطِيلُ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلُهَا فَإِذَا تَعَارَضَتْ كَانَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ مَعَ احْتِمَالِ أَدْنَاهَا : هُوَ الْمَشْرُوعُ . وَالْمُعِينُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مَنْ أَعَانَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ أَمَّا مَنْ
أَعَانَ الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ الظُّلْمِ عَنْهُ أَوْ عَلَى أَدَاءِ الْمَظْلِمَةِ : فَهُوَ وَكِيلُ الْمَظْلُومِ ؛ لَا وَكِيلُ الظَّالِمِ ؛ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقْرِضُهُ أَوْ الَّذِي يَتَوَكَّلُ فِي حَمْلِ الْمَالِ لَهُ إلَى الظَّالِمِ . مِثَالُ ذَلِكَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ إذَا طَلَبَ ظَالِمٌ مِنْهُ مَالًا فَاجْتَهَدَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ بِمَالِ أَقَلَّ مِنْهُ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ فِي الدَّفْعِ ؛ فَهُوَ مُحْسِنٌ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ . وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الْمَالِكِ مِنْ الْمُنَادِينَ وَالْكُتَّابِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِي يَتَوَكَّلُ لَهُمْ فِي الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ وَدَفْعِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ ؛ لَا يَتَوَكَّلُ لِلظَّالِمِينَ فِي الْأَخْذِ . كَذَلِكَ لَوْ وُضِعَتْ مَظْلِمَةٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَوْ دَرْبٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَتَوَسَّطَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مُحْسِنٌ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ وَقَسَّطَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَلَا ارْتِشَاءٍ بَلْ تَوَكَّلَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ وَالْإِعْطَاءِ : كَانَ مُحْسِنًا ؛ لَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ وَكِيلُ الظَّالِمِينَ مُحَابِيًا مُرْتَشِيًا مَخْفَرًا لِمَنْ يُرِيدُ وَآخِذًا مِمَّنْ يُرِيدُ . وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ هُمْ وَأَعْوَانُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ ثُمَّ يُقْذَفُونَ فِي النَّارِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمَصَارِفُ : فَالْوَاجِبُ أَنْ يَبْدَأَ فِي الْقِسْمَةِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ : كَعَطَاءِ مَنْ يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةٌ عَامَّةٌ . فَمِنْهُمْ الْمُقَاتِلَةُ : الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ النُّصْرَةِ وَالْجِهَادِ وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْفَيْءِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِمْ ؛ حَتَّى اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَالِ الْفَيْءِ : هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ أَوْ مُشْتَرَكٌ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ ؟ وَأَمَّا سَائِرُ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ فَلِجَمِيعِ الْمَصَالِحِ وِفَاقًا إلَّا مَا خُصَّ بِهِ نَوْعٌ كَالصَّدَقَاتِ وَالْمَغْنَمِ . وَمِنْ الْمُسْتَحَقِّينَ ذَوُو الْوِلَايَاتِ عَلَيْهِمْ : كَالْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالسُّعَاةِ عَلَى الْمَالِ : جَمْعًا وَحِفْظًا وَقِسْمَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ . حَتَّى أَئِمَّةُ الصَّلَاةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَكَذَا صَرْفُهُ فِي الْأَثْمَانِ وَالْأُجُورِ لِمَا يَعُمُّ نَفْعُهُ : مِنْ سَدَادِ الثُّغُورِ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَعِمَارَةِ مَا يَحْتَاجُ إلَى عِمَارَتِهِ مِنْ طُرُقَاتِ النَّاسِ : كَالْجُسُورِ وَالْقَنَاطِرِ وَطُرُقَاتِ الْمِيَاهِ كَالْأَنْهَارِ . وَمِنْ الْمُسْتَحَقِّينَ : ذَوُو الْحَاجَاتِ ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا هَلْ يُقَدَّمُونَ
فِي غَيْرِ الصَّدَقَاتِ مِنْ الْفَيْءِ وَنَحْوِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُقَدَّمُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَالُ اُسْتُحِقَّ بِالْإِسْلَامِ فَيَشْتَرِكُونَ فِيهِ كَمَا يَشْتَرِكُ الْوَرَثَةُ فِي الْمِيرَاثِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ يُقَدَّمُونَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَدِّمُ ذَوِي الْحَاجَاتِ كَمَا قَدَّمَهُمْ فِي مَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ ؛ إنَّمَا هُوَ الرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ . فَجَعَلَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : ذَوُو السَّوَابِقِ الَّذِينَ بِسَابِقَتِهِمْ حَصَلَ الْمَالُ . الثَّانِي : مَنْ يُغْنِي عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ لَهُمْ كَوُلَاةِ الْأُمُورِ وَالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَجْتَلِبُونَ لَهُمْ مَنَافِعَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . الثَّالِثُ : مَنْ يُبْلِي بَلَاءً حَسَنًا فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ كَالْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الْأَجْنَادِ وَالْعُيُونِ مِنْ الْقُصَّادِ وَالنَّاصِحِينَ وَنَحْوِهِمْ . الرَّابِعُ : ذَوُو الْحَاجَاتِ . وَإِذَا حَصَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ مُتَبَرِّعٌ فَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ بِهِ ؛ وَإِلَّا أُعْطِيَ مَا يَكْفِيهِ أَوْ قَدْرَ عَمَلِهِ . إذَا عَرَفْت أَنَّ الْعَطَاءَ يَكُونُ بِحَسَبِ مَنْفَعَةِ
الرَّجُلِ وَبِحَسَبِ حَاجَتِهِ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ وَفِي الصَّدَقَاتِ أَيْضًا فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّجُلُ إلَّا كَمَا يَسْتَحِقُّهُ نُظَرَاؤُهُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِي غَنِيمَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ . وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ لِهَوَى نَفْسِهِ : مِنْ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ مَوَدَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْطِيَهُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ مِنْهُ كَعَطِيَّةِ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الصِّبْيَانِ المردان : الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ وَنَحْوِهِمْ وَالْبَغَايَا وَالْمُغَنِّينَ وَالْمَسَاخِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ أَوْ إعْطَاءِ الْعَرَّافِينَ مِنْ الْكُهَّانِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَنَحْوِهِمْ . لَكِنْ يَجُوزُ - بَلْ يَجِبُ - الْإِعْطَاءُ لِتَأْلِيفِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفِ قَلْبِهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ ذَلِكَ كَمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْعَطَاءَ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَكَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ الْفَيْءِ وَنَحْوِهِ وَهُمْ السَّادَةُ الْمُطَاعُونَ فِي عَشَائِرِهِمْ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَيِّدَ بَنِي تَمِيمٍ وعُيَيْنَة بْنَ حِصْنٍ سَيِّدَ بَنِي فَزَارَةَ وَزَيْدَ الْخَيْرِ الطَّائِيَّ سَيِّدَ بَنِي نَبْهَانَ وَعَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيَّ سَيِّدَ بَنِي كِلَابٍ وَمِثْلَ سَادَاتِ قُرَيْشٍ مِنْ الطُّلَقَاءِ : كَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَعَدَدٍ كَثِيرٍ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
{ بَعَثَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِذُهَيْبَةِ فِي تُرْبَتِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ : الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الحنظلي وعُيَيْنَة بْنِ حِصْنٍ الفزاري وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ سَيِّدِ بَنِي كِلَابٍ وَزَيْدِ الْخَيْرِ الطَّائِيِّ سَيِّدِ بَنِي نَبْهَانَ . قَالَ : فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ فَقَالُوا : يُعْطِي صَنَادِيدَ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي إنَّمَا فَعَلْت ذَلِكَ لِتَأْلِيفِهِمْ فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ : اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ إنْ عَصَيْته ؟ أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي قَالَ : ثُمَّ أَدْبَرَ الرِّجْلُ فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ وَيَرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ وعُيَيْنَة بْنَ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ فَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ :
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ * * * بَيْنَ عُيَيْنَة وَالْأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ * * * يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا * * * وَمَنْ يُخْفَضُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعُ
قَالَ : فَأَتَمَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَ " الْعَبِيدُ " اسْمُ فَرَسٍ لَهُ .
وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ نَوْعَانِ : كَافِرٌ وَمُسْلِمٌ . فَالْكَافِرُ : إمَّا أَنْ يُرْجَى بِعَطِيَّتِهِ مَنْفَعَةٌ : كَإِسْلَامِهِ ؛ أَوْ دَفْعُ مَضَرَّتِهِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِذَلِكَ . وَالْمُسْلِمُ الْمُطَاعُ يُرْجَى . بِعَطِيَّتِهِ الْمَنْفَعَةُ أَيْضًا كَحُسْنِ إسْلَامِهِ . أَوْ إسْلَامُ نَظِيرِهِ أَوْ جِبَايَةُ الْمَالِ مِمَّنْ لَا يُعْطِيهِ إلَّا لِخَوْفِ أَوْ النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ . أَوْ كَفُّ ضَرَرِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَنْكَفَّ إلَّا بِذَلِكَ . وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَطَاءِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ إعْطَاءَ الرُّؤَسَاءِ وَتَرْكُ الضُّعَفَاءِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ ؛ فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ؛ فَإِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ مَصْلَحَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ كَانَ مِنْ جِنْسِ عَطَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادَ كَانَ مِنْ جِنْسِ عَطَاءِ فِرْعَوْنَ ؛ وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ ذَوُو الدِّينِ الْفَاسِدِ كَذِي الخويصرة الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ فِيهِ مَا قَالَ وَكَذَلِكَ حِزْبُهُ الْخَوَارِجُ أَنْكَرُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَصَدَ
بِهِ الْمَصْلَحَةَ مِنْ التَّحْكِيمِ وَمَحْوِ اسْمِهِ وَمَا تَرَكَهُ مِنْ سَبْيِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصِبْيَانِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَعَهُمْ دِينًا فَاسِدًا لَا يَصْلُحُ بِهِ دُنْيَا وَلَا آخِرَةٌ كَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ الْوَرَعُ الْفَاسِدُ بِالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا فِيهِ تَرْكٌ ؛ فَيَشْتَبِهُ تَرْكُ الْفَسَادِ ؛ لِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَالنَّفَقَةِ : جُبْنًا وَبُخْلًا ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . كَذَلِكَ قَدْ يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ ظَنًّا أَوْ إظْهَارًا أَنَّهُ وَرَعٌ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ كِبْرٌ وَإِرَادَةٌ لِلْعُلُوِّ ؛ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ كَامِلَةٌ فَإِنَّ النِّيَّةَ لِلْعَمَلِ كَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ ؛ وَإِلَّا فَكَلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّاجِدِ لِلَّهِ وَالسَّاجِدِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ قَدْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ فَصُورَتُهُمَا وَاحِدَةٌ ؛ ثُمَّ هَذَا أَقْرَبُ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } . وَفِي الْأَثَرِ { أَفْضَلُ الْإِيمَانِ : السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ } . فَلَا تَتِمُّ رِعَايَةُ الْخَلْقِ وَسِيَاسَتُهُمْ إلَّا بِالْجُودِ الَّذِي هُوَ الْعَطَاءُ ؛ وَالنَّجْدَةُ الَّتِي هِيَ الشَّجَاعَةُ ؛ بَلْ لَا يَصْلُحُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا إلَّا بِذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ مَنْ لَا يَقُومُ بِهِمَا سَلَبَهُ [ اللَّهُ ] (1) الْأَمْرَ وَنَقَلَهُ إلَى غَيْرِهِ ؛ كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ } { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ الَّذِي هُوَ السَّخَاءُ وَالْقِتَالِ الَّذِي هُوَ الشَّجَاعَةُ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : { وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . } وَبَيَّنَ أَنَّ الْبُخْلَ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } الْآيَةَ . وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ
جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } . وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْأَمْثَالِ الْعَامِّيَّةِ : " لَا طَعْنَةَ وَلَا جَفْنَةَ " وَيَقُولُونَ : " لَا فَارِسَ الْخَيْلِ وَلَا وَجْهَ الْعَرَبِ " . وَلَكِنْ افْتَرَقَ النَّاسُ هُنَا ثَلَاثَ فِرَقٍ : فَرِيقٌ غَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ فَلَمْ يَنْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ الْمَعَادِ وَرَأَوْا أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَقُومُ إلَّا بِعَطَاءِ وَقَدْ لَا يَتَأَتَّى الْعَطَاءُ إلَّا بِاسْتِخْرَاجِ أَمْوَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا ؛ فَصَارُوا نَهَّابِينَ وَهَّابِينَ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَلَّى عَلَى النَّاسِ إلَّا مَنْ يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ فَإِنَّهُ إذَا تَوَلَّى الْعَفِيفُ الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يُطْعِمُ سَخِطَ عَلَيْهِ الرُّؤَسَاءُ وَعَزَلُوهُ ؛ إنْ لَمْ يَضُرُّوهُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ . وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ وَأَهْمَلُوا الْآجِلَ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ فَعَاقِبَتُهُمْ عَاقِبَةٌ رَدِيئَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مَا يُصْلِحُ عَاقِبَتَهُمْ مِنْ تَوْبَةٍ وَنَحْوِهَا . وَفَرِيقٌ عِنْدَهُمْ خَوْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَدِينٌ يَمْنَعُهُمْ عَمَّا يَعْتَقِدُونَهُ قَبِيحًا مِنْ ظُلْمِ الْخَلْقِ وَفِعْلِ الْمَحَارِمِ . فَهَذَا حَسَنٌ وَاجِبٌ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَعْتَقِدُونَ مَعَ ذَلِكَ : أَنَّ السِّيَاسَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمَا يَفْعَلُهُ أُولَئِكَ مِنْ الْحَرَامِ فَيَمْتَنِعُونَ عَنْهَا مُطْلَقًا ؛ وَرُبَّمَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ جُبْنٌ أَوْ بُخْلٌ أَوْ ضِيقُ خُلُقٍ يَنْضَمُّ إلَى مَا مَعَهُمْ مِنْ الدِّينِ فَيَقَعُونَ أَحْيَانًا فِي تَرْكِ وَاجِبٍ يَكُونُ تَرْكُهُ
أَضَرَّ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ يَقَعُونَ فِي النَّهْيِ عَنْ وَاجِبٍ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . وَقَدْ يَكُونُونَ مُتَأَوِّلِينَ . وَرُبَّمَا اعْتَقَدُوا أَنَّ إنْكَارَ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقِتَالِ فَيُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ وَهَؤُلَاءِ لَا تَصْلُحُ بِهِمْ الدُّنْيَا وَلَا الدِّينُ الْكَامِلُ ؛ لَكِنْ قَدْ يَصْلُحُ بِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدِّينِ وَبَعْضُ أُمُورِ الدُّنْيَا . وَقَدْ يُعْفَى عَنْهُمْ فِيمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ فَأَخْطَئُوا وَيُغْفَرُ لَهُمْ قُصُورُهُمْ . وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ لَا يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُعْطِي غَيْرَهُ وَلَا يَرَى أَنَّهُ يَتَأَلَّفُ النَّاسَ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ ؛ لَا بِمَالِ وَلَا بِنَفْعِ وَيَرَى أَنَّ إعْطَاءَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ نَوْعِ الْجَوْرِ وَالْعَطَاءِ الْمُحَرَّمِ . الْفَرِيقُ الثَّالِثُ : الْأُمَّةُ الْوَسَطُ وَهُمْ أَهْلُ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ وَخَاصَّتِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ إنْفَاقُ الْمَالِ وَالْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ - وَإِنْ كَانُوا رُؤَسَاءَ - بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إلَى صَلَاحِ الْأَحْوَالِ وَلِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الدِّينُ وَعِفَّتُهُ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَأْخُذُ مَالًا يَسْتَحِقُّهُ . فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } وَلَا تَتِمُّ السِّيَاسَةُ الدِّينِيَّةُ إلَّا بِهَذَا وَلَا يَصْلُحُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا إلَّا
بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُطْعِمُ النَّاسَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَى طَعَامِهِ وَلَا يَأْكُلُ هُوَ إلَّا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ ثُمَّ هَذَا يَكْفِيهِ مِنْ الْإِنْفَاقِ أَقَلَّ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْأَوَّلُ فَإِنَّ الَّذِي يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ تَطْمَعُ فِيهِ النُّفُوسُ مَا لَا تَطْمَعُ فِي الْعَفِيفِ وَيَصْلُحُ بِهِ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ مَا لَا يَصْلُحُونَ بِالثَّانِي ؛ فَإِنَّ الْعِفَّةَ مَعَ الْقُدْرَةِ تُقَوِّي حُرْمَةَ الدِّينِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ : أَنَّ هِرَقْلَ مَلِكَ الرُّومِ سَأَلَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ ؟ قَالَ : يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ } . وَفِي الْأَثَرِ : { أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَى إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَا إبْرَاهِيمُ : أَتَدْرِي لِمَ اتَّخَذَتْك خَلِيلًا ؟ لِأَنِّي رَأَيْت الْعَطَاءَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ الْأَخْذِ } . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الرِّزْقِ وَالْعَطَاءِ الَّذِي هُوَ السَّخَاءُ وَبَذْلُ الْمَنَافِعِ نَظِيرُهُ فِي الصَّبْرِ وَالْغَضَبِ الَّذِي هُوَ الشَّجَاعَةُ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ . فَإِنَّ النَّاسَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ يَغْضَبُونَ لِنُفُوسِهِمْ وَلِرَبِّهِمْ . وَقِسْمٌ لَا يَغْضَبُونَ لِنُفُوسِهِمْ وَلَا لِرَبِّهِمْ . وَالثَّالِثُ - وَهُوَ الْوَسَطُ - الَّذِي يَغْضَبُ لِرَبِّهِ لَا لِنَفْسِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ : خَادِمًا لَهُ وَلَا امْرَأَةً . وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا
نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ حُرُمَاتُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ } . فَأَمَّا مَنْ يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ لَا لِرَبِّهِ أَوْ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُعْطِي غَيْرَهُ . فَهَذَا الْقِسْمُ الرَّابِعُ شَرُّ الْحَلْقِ ؛ لَا يَصْلُحُ بِهِمْ دِينٌ وَلَا دُنْيَا . كَمَا أَنَّ الصَّالِحِينَ أَرْبَابُ السِّيَاسَةِ الْكَامِلَةِ هُمْ الَّذِينَ قَامُوا بِالْوَاجِبَاتِ وَتَرَكُوا الْحُرُمَاتِ وَهُمْ الَّذِينَ يُعْطُونَ مَا يُصْلِحُ الدِّينَ بِعَطَائِهِ وَلَا يَأْخُذُونَ إلَّا مَا أُبِيحَ لَهُمْ وَيَغْضَبُونَ لِرَبِّهِمْ إذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُهُ وَيَعْفُونَ عَنْ حُقُوقِهِمْ وَهَذِهِ أَخْلَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَذْلِهِ وَدَفْعِهِ وَهِيَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ . وَكُلَّمَا كَانَ إلَيْهَا أَقْرَبُ كَانَ أَفْضَلَ . فَلْيَجْتَهِدْ الْمُسْلِمُ فِي التَّقَرُّبِ إلَيْهَا بِجُهْدِهِ وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قُصُورٍ . أَوْ تَقْصِيرِهِ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ كَمَالَ مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدِّينِ فَهَذَا فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } فَإِنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ يَكُونُ فِي الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ وَهُمَا قِسْمَانِ : فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ لِقَوْمِ مُعَيَّنِينَ ؛ بَلْ مَنْفَعَتُهَا لِمُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَوْعٍ مِنْهُمْ . وَكُلُّهُمْ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا . وَتُسَمَّى حُدُودَ اللَّهِ وَحُقُوقَ اللَّهِ : مِثْلَ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَالسُّرَّاقِ وَالزُّنَاةِ وَنَحْوِهِمْ وَمِثْلَ الْحُكْمِ فِي الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا الَّتِي لَيْسَتْ لِمُعَيَّنِ . فَهَذِهِ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إمَارَةٍ : بَرَّةً كَانَتْ أَوْ فَاجِرَةً . فَقِيلَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْبَرَّةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا . فَمَا بَالُ الْفَاجِرَةِ ؟ فَقَالَ : يُقَامُ بِهَا الْحُدُودُ وَتَأْمَنُ بِهَا السُّبُلُ وَيُجَاهَدُ بِهَا الْعَدُوُّ وَيُقْسَمُ بِهَا الْفَيْءُ . وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ عَلَى الْوُلَاةِ الْبَحْثُ عَنْهُ وَإِقَامَتُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ وَكَذَلِكَ تُقَامُ الشَّهَادَةُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ : هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ بِمَا لَهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا
يَحْتَاجُ إلَى مُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ بِالْحَدِّ وَقَدْ اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَالِ ؛ لِئَلَّا يَكُونُ لِلسَّارِقِ فِيهِ شُبْهَةٌ . وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ إقَامَتُهُ عَلَى الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالضَّعِيفِ وَلَا يَحِلُّ تَعْطِيلُهُ ؛ لَا بِشَفَاعَةِ وَلَا بِهَدِيَّةِ وَلَا بِغَيْرِهِمَا وَلَا تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ فِيهِ . وَمَنْ عَطَّلَهُ لِذَلِكَ - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إقَامَتِهِ - فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَهُوَ مِمَّنْ اشْتَرَى بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا . وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ . وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ . وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ دَيِّنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ . قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا رَدْغَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } فَذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكَمَاءَ وَالشُّهَدَاءَ وَالْخُصَمَاءَ وَهَؤُلَاءِ أَرْكَانُ الْحُكْمِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ فَقَالُوا : مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا : وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ : يَا أُسَامَةُ : أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ؟ إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ
كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا } . فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ ؛ فَإِنَّ أَشْرَفَ بَيْتٍ كَانَ فِي قُرَيْشٍ بَطْنَانِ ؛ بَنُو مَخْزُومٍ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ . فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى هَذِهِ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهَا - الَّتِي هِيَ جُحُودُ الْعَارِيَةِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَوْ سَرِقَةِ أُخْرَى غَيْرَهَا عَلَى قَوْلِ آخَرِينَ - وَكَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الْقَبَائِلِ وَأَشْرَفِ الْبُيُوتِ وَشَفَعَ فِيهَا حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةُ غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ دُخُولَهُ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ ثُمَّ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِسَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ - وَقَدْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ - فَقَالَ : { لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا } . وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الَّتِي قُطِعَتْ يَدُهَا تَابَتْ وَكَانَتْ تَدْخُلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْضِي حَاجَتَهَا . فَقَدْ رُوِيَ : { إنَّ السَّارِقَ إذَا تَابَ سَبَقَتْهُ يَدُهُ إلَى الْجَنَّةِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ سَبَقَتْهُ يَدُهُ إلَى النَّارِ } . وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ : أَنَّ جَمَاعَةً أَمْسَكُوا لِصًّا لِيَرْفَعُوهُ إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَلَقَّاهُمْ الزُّبَيْرُ فَشَفَعَ فِيهِ فَقَالُوا : إذَا رُفِعَ إلَى عُثْمَانَ فَاشْفَعْ فِيهِ عِنْدَهُ فَقَالَ : " إذَا بَلَغَتْ الْحُدُودُ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ " . يَعْنِي الَّذِي يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ . { وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ
أُمَيَّةَ نَائِمًا عَلَى رِدَاءٍ لَهُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ لِصٌّ فَسَرَقَهُ فَأَخَذَهُ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَعَلَى رِدَائِي تَقْطَعُ يَدَهُ ؟ أَنَا أَهَبُهُ لَهُ . فَقَالَ : فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ يَعْنِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّك لَوْ عَفَوْت عَنْهُ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ لَكَانَ فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ رُفِعَ إلَيَّ فَلَا . فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحَدِّ لَا بِعَفْوِ وَلَا بِشَفَاعَةِ وَلَا بِهِبَةِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ - فِيمَا أَعْلَمُ - عَلَى أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ وَاللِّصَّ وَنَحْوَهُمَا إذَا رُفِعُوا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ثُمَّ تَابُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُمْ ؛ بَلْ تَجِبُ إقَامَتُهُ وَإِنْ تَابُوا فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ فِي التَّوْبَةِ كَانَ الْحَدُّ كَفَّارَةً لَهُمْ كَانَ تَمْكِينُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ التَّوْبَةِ - بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا ؛ وَالتَّمْكِينُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَصَّاصِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ . وَأَصْلُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } فَإِنَّ الشَّفَاعَةَ إعَانَةُ الطَّالِبِ حَتَّى يَصِيرَ مَعَهُ شَفْعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا فَإِنْ أَعَانَهُ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى كَانَتْ شَفَاعَةً حَسَنَةً وَإِنْ أَعَانَهُ عَلَى إثْمٍ وَعُدْوَانٍ كَانَتْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً وَالْبِرُّ مَا أَمَرْت بِهِ وَالْإِثْمُ مَا نَهَيْت عَنْهُ . وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَاسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ فَالتَّائِبُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَاقٍ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِلْعُمُومِ وَالْمَفْهُومِ وَالتَّعْلِيلِ . هَذَا إذَا كَانَ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ . فَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِقْرَارِ وَجَاءَ مُقِرًّا بِالذَّنْبِ تَائِبًا : فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد : أَنَّهُ لَا تَجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ بَلْ إنْ طَلَبَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ أُقِيمَ وَإِنْ ذَهَبَ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ حَدٌّ . وَعَلَى هَذَا حُمِلَ { حَدِيثُ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ لَمَّا قَالَ : فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ } وَحَدِيثُ الَّذِي قَالَ " أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ " مَعَ آثَارٍ أُخَرَ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَعَافَوْا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ } وَفِي سُنَنِ النَّسَائِي وَابْنِ مَاجَه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا } . وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبٌ لِنَقْصِ الرِّزْقِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَإِذَا
أُقِيمَتْ الْحُدُودُ ظَهَرَتْ طَاعَةُ اللَّهِ وَنَقَصَتْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَحَصَلَ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الزَّانِي أَوْ السَّارِقِ أَوْ الشَّارِبِ أَوْ قَاطِعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِمْ مَالٌ تَعَطَّلَ بِهِ الْحُدُودُ ؛ لَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا لِغَيْرِهِ . وَهَذَا الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لِتَعْطِيلِ الْحَدِّ سُحْتٌ خَبِيثٌ وَإِذَا فَعَلَ وَلِيُّ الْأَمْرِ ذَلِكَ فَقَدْ جَمَعَ فَسَادَيْنِ عَظِيمَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَعْطِيلُ الْحَدِّ وَالثَّانِي : أَكْلُ السُّحْتِ . فَتَرْكُ الْوَاجِبِ وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ السُّحْتَ مِنْ الرِّشْوَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْبِرْطِيلَ وَتُسَمَّى أَحْيَانًا الْهَدِيَّةَ وَغَيْرَهَا . وَمَتَى أَكَلَ السُّحْتَ وَلِيُّ الْأَمْرِ احْتَاجَ أَنْ يَسْمَعَ الْكَذِبَ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ وَغَيْرِهَا . وَقَدْ { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ - الْوَاسِطَةُ - الَّذِي بَيْنَهُمَا } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ . فَقَالَ صَاحِبُهُ - وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ - نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وائذن لِي . فَقَالَ : قُلْ . فَقَالَ : إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا فِي أَهْلِ
هَذَا - يَعْنِي أَجِيرًا - فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَافْتَدَيْت مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَخَادِمٍ وَإِنِّي سَأَلْت رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمُ . فَقَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ : الْمِائَةُ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْك . وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَاغْدُ يَا أنيس عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَاسْأَلْهَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا . فَسَأَلَهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إنَّهُ لَمَّا بَذَلَ عَنْ الْمُذْنِبِ هَذَا الْمَالَ لِدَفْعِ الْحَدِّ عَنْهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُفَعِ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ وَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ : مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَالْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ تَعْطِيلَ الْحَدِّ بِمَالِ يُؤْخَذُ أَوْ غَيْرِهِمْ لَا يَجُوزُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَالْمُحَارِبِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِتَعْطِيلِ الْحَدِّ مَالٌ سُحْتٌ خَبِيثٌ . كَثِيرٌ مِمَّا يُوجَدُ مِنْ فَسَادِ أُمُورِ النَّاسِ إنَّمَا هُوَ لِتَعْطِيلِ الْحَدِّ بِمَالِ أَوْ جَاهٍ وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ فَسَادُ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْقُرَى وَالْأَمْصَارِ : مِنْ الْأَعْرَابِ وَالتُّرْكُمَانِ وَالْأَكْرَادِ وَالْفَلَّاحِينَ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ كَقَيْسِ وَيَمَنَ وَأَهْلِ الْحَاضِرَةِ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّاسِ وَأَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ وَأُمَرَاءِ النَّاسِ وَمُقَدِّمِيهِمْ وَجُنْدِهِمْ وَهُوَ سَبَبُ سُقُوطِ حُرْمَةِ الْمُتَوَلِّي وَسُقُوطِ قَدْرِهِ مِنْ الْقُلُوبِ وَانْحِلَالِ أَمْرِهِ فَإِذَا ارْتَشَى وَتَبَرْطَلَ عَلَى تَعْطِيلِ حَدٍّ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ أَنْ يُقِيمَ حَدًّا آخَرَ
وَصَارَ مِنْ جِنْسِ الْيَهُودِ الْمَلْعُونِينَ . وَأَصْلُ الْبِرْطِيلِ هُوَ الْحَجَرُ الْمُسْتَطِيلُ سُمِّيَتْ بِهِ الرِّشْوَةُ لِأَنَّهَا تُلْقِمُ الْمُرْتَشِيَ عَنْ التَّكَلُّمِ بِالْحَقِّ كَمَا يَلْقَمُهُ الْحَجَرُ الطَّوِيلُ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { إذَا دَخَلَتْ الرِّشْوَةُ مِنْ الْبَابِ خَرَجَتْ الْأَمَانَةُ مِنْ الْكُوَّةِ } . وَكَذَلِكَ إذَا أُخِذَ مَالٌ لِلدَّوْلَةِ عَلَى ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا السُّحْتِ الَّذِي يُسَمَّى التَّأْدِيبَاتِ . أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَعْرَابَ الْمُفْسِدِينَ أَخَذُوا لِبَعْضِ النَّاسِ ثُمَّ جَاءُوا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ فَقَادُوا إلَيْهِ خَيْلًا يُقَدِّمُونَهَا لَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كَيْفَ يَقْوَى طَمَعُهُمْ فِي الْفَسَادِ وَتَنْكَسِرُ حُرْمَةُ الْوِلَايَةِ وَالسَّلْطَنَةِ وَتَفْسُدُ الرَّعِيَّةُ ؟ كَذَلِكَ الْفَلَّاحُونَ وَغَيْرُهُمْ كَذَلِكَ شَارِبُ الْخَمْرِ إذَا أَخَذَ فَدَفَعَ بَعْضَ مَالِهِ : كَيْفَ يَطْمَعُ الْخَمَّارُونَ فَيَرْجُونَ إذَا أَمْسَكُوا أَنْ يَفْتَدُوا بِبَعْضِ أَمْوَالِهِمْ فَيَأْخُذُهَا ذَلِكَ الْوَالِي سُحْتًا لَا يُبَارَكُ فِيهَا وَالْفَسَادُ قَائِمٌ . وَكَذَلِكَ ذَوُو الْجَاهِ إذَا حَمُوا أَحَدًا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ مِثْلَ أَنْ يَرْتَكِبَ بَعْضُ الْفَلَّاحِينَ جَرِيمَةً ثُمَّ يَأْوِي إلَى قَرْيَةِ نَائِبِ السُّلْطَانِ أَوْ أَمِيرِهِ فَيُحْمَى عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي حَمَاهُ مِمَّنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا } . فَكُلُّ مَنْ آوَى مُحْدِثًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحْدِثِينَ
فَقَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : { إنَّ مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ } فَكَيْفَ بِمَنْ مَنَعَ الْحُدُودَ بِقُدْرَتِهِ وَيَدِهِ وَاعْتَاضَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ بِسُحْتِ مِنْ الْمَالِ يَأْخُذُهُ لَا سِيَّمَا الْحُدُودُ عَلَى سُكَّانِ الْبَرِّ ؛ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ فَسَادِهِمْ حِمَايَةَ الْمُعْتَدِينَ مِنْهُمْ بِجَاهِ أَوْ مَالٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ لِلْوَالِي : سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً فَذَلِكَ جَمِيعُهُ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مِثْلُ تَضْمِينِ الْحَانَاتِ وَالْخَمْرِ فَإِنَّ مَنْ مُكِّنَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَعَانَ أَحَدًا عَلَيْهِ بِمَالِ يَأْخُذُهُ مِنْهُ فَهُوَ مَنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ . وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ عَلَى هَذَا يُشْبِهُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَأُجْرَةِ الْمُتَوَسِّطِ فِي الْحَرَامِ : الَّذِي يُسَمَّى الْقَوَّادَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . فَمَهْرُ الْبَغِيِّ الَّذِي يُسَمَّى حُدُورَ الْقِحَابِ . وَفِي مَعْنَاهُ مَا يُعْطَاهُ الْمُخَنَّثُونَ الصِّبْيَانُ مِنْ الْمَمَالِيكِ أَوْ الْأَحْرَارِ عَلَى الْفُجُورِ بِهِمْ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ : مِثْلُ حَلَاوَةِ الْمُنَجِّمِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُبَشِّرَةِ بِزَعْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَوَلِيُّ الْأَمْرِ إذَا تَرَكَ إنْكَارَ الْمُنْكَرَاتِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَيْهَا بِمَالِ يَأْخُذُهُ : كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُقَدِّمِ الْحَرَامِيَّةِ الَّذِي يُقَاسِمُ الْمُحَارِبِينَ عَلَى الْأَخِيذَةِ وَبِمَنْزِلَةِ الْقَوَّادِ الَّذِي يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى فَاحِشَةٍ
وَكَانَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ عَجُوزِ السُّوءِ امْرَأَةِ لُوطٍ الَّتِي كَانَتْ تُدِلُّ الْفُجَّارَ عَلَى ضَيْفِهِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلَّا امْرَأَتَكَ إنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ } . فَعَذَّبَ اللَّهُ عَجُوزَ السُّوءِ الْقَوَّادَةَ بِمِثْلِ مَا عَذَّبَ قَوْمَ السُّوءِ الَّذِينَ كَانُوا يَحْمِلُونَ الْخَبَائِثَ وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا جَمِيعَهُ أَخْذُ مَالٍ لِلْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَوَلِيُّ الْأَمْرِ إنَّمَا نُصِّبَ لِيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ . فَإِذَا كَانَ الْوَالِي يُمْكِنُ مِنْ الْمُنْكَرِ بِمَالِ يَأْخُذُهُ كَانَ قَدْ أَتَى بِضِدِّ الْمَقْصُودِ مِثْلَ مَنْ نَصَّبْته لِيُعِينَك عَلَى عَدُوِّك فَأَعَانَ عَدُوَّك عَلَيْك . وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ مَالًا لِيُجَاهِدَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَاتَلَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ .
يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ الْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ فَإِنَّ صَلَاحَ الْمَعَاشِ وَالْعِبَادِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَبِهِ صَارَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ : { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ
عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } . فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَذَابَ لَمَّا نَزَلَ نَجَّى الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذَ الظَّالِمِينَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ . وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِ مِنْ عِنْدِهِ } . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { إنَّ الْمَعْصِيَةَ إذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ } . وَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحُكْمِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَحُقُوقِهِ : مَقْصُودُهُ الْأَكْبَرُ : هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ : مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَالْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ جَمِيعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ وَيُعَاقِبُ التَّارِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ
فَإِنْ كَانَ التَّارِكُونَ طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً قُوتِلُوا عَلَى تَرْكِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِ الزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا وَعَلَى اسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا كَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَكُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ مِنْ الْتِزَامِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يَجِبُ جِهَادُهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِنْ كَانَ التَّارِكُ لِلصَّلَاةِ وَاحِدًا فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ حَتَّى يُصَلِّيَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَصَلَّى وَإِلَّا قُتِلَ . وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا فَاسِقًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ كَافِرًا وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا أَمَّا إذَا جَحَدَ وُجُوبَهَا فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ مَنْ جَحَدَ سَائِرَ الْوَاجِبَاتِ الْمَذْكُورَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَجِبُ الْقِتَالُ عَلَيْهَا . فَالْعُقُوبَةُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ هِيَ مَقْصُودُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ . { قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . قَالَ : لَا تَسْتَطِيعُهُ أَوْ لَا تُطِيقُهُ . قَالَ : أَخْبِرْنِي بِهِ ؟ قَالَ : هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ
وَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ ؟ قَالَ : وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . وَقَالَ : { إنَّ فِي الْجَنَّةِ لِمِائَةِ دَرَجَةٍ بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ نَحْوَ سَبِيلِهِ } كِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ } { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }.
فَصْلٌ :
وَمِنْ ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ : الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ النَّاسَ بِالسِّلَاحِ فِي الطُّرُقَاتِ وَنَحْوِهَا لِيَغْصِبُوهُمْ الْمَالَ مُجَاهَرَةً : مِنْ الْأَعْرَابِ وَالتُّرْكُمَانِ وَالْأَكْرَادِ وَالْفَلَّاحِينَ وَفَسَقَةِ الْجُنْدِ أَوْ مَرَدَةِ الْحَاضِرَةِ
أَوْ غَيْرِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . وَقَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ - : " إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَصُلِّبُوا وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَلَمْ يُصَلَّبُوا وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا نَفَوْا مِنْ الْأَرْضِ " . وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِمْ فَيَقْتُلُ مَنْ رَأَى قَتْلَهُ مَصْلَحَةً وَإِنْ كَانَ لَمْ يُقْتَلْ : مِثْلَ أَنْ يَكُونَ رَئِيسًا مُطَاعًا فِيهَا وَيَقْطَعُ مَنْ رَأَى قَطْعَهُ مَصْلَحَةً ؛ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ذَا جَلَدٍ وَقُوَّةٍ فِي أَخْذِ الْمَالِ . كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا الْمَالَ قُتِّلُوا وَقُطِّعُوا وَصُلِّبُوا . وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ . فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ قَدْ قَتَلَ فَإِنَّهُ يُقَتِّلُهُ الْإِمَامُ حَدَا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بِحَالِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ . ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَا يَكُونُ أَمْرُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا لِعَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا أَوْ خُصُومَةٍ أَوْ نَحْوِ
ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا دَمُهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا عَفَوْا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِغَرَضِ خَاصٍّ . وَأَمَّا الْمُحَارِبُونَ فَإِنَّمَا يَقْتُلُونَ لِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ فَضَرَرُهُمْ عَامٌّ ؛ بِمَنْزِلَةِ السُّرَّاقِ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ حَدًّا لِلَّهِ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ غَيْرَ مُكَافِئٍ لِلْقَاتِلِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا أَوْ الْقَاتِلُ مُسْلِمًا وَالْمَقْتُولُ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُقْتَلُ فِي الْمُحَارَبَةِ ؟ وَالْأَقْوَى أَنَّهُ يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ لِلْفَسَادِ الْعَامِّ حَدًّا كَمَا يُقَطَّعُ إذَا أَخَذَ أَمْوَالَهُمْ وَكَمَا يُحْبَسُ بِحُقُوقِهِمْ .
وَإِذَا كَانَ الْمُحَارِبُونَ الْحَرَامِيَّةُ جَمَاعَةً فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ وَالْبَاقُونَ لَهُ أَعْوَانٌ وَرَدَّهُ لَهُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يُقْتَلُ الْمُبَاشِرُ فَقَطْ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ يُقْتَلُونَ وَلَوْ كَانُوا مِائَةً وَأَنَّ الرِّدَّةَ وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ رَبِيئَةَ الْمُحَارِبِينَ . وَالرَّبِيئَةُ هُوَ النَّاظِرُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ يَنْظُرُ مِنْهُ لَهُمْ مَنْ يَجِيءُ . وَلِأَنَّ الْمُبَاشِرَ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ بِقُوَّةِ الرَّدْءِ وَمَعُونَتِهِ . وَالطَّائِفَة إذَا انْتَصَرَ بَعْضُهَا بِبَعْضِ حَتَّى صَارُوا مُمْتَنِعِينَ فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَالْمُجَاهِدِينَ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَرُدُّ مُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ } . يَعْنِي أَنَّ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَسَرَّتْ مِنْهُ سَرِيَّةٌ فَغَنِمَتْ مَالًا فَإِنَّ الْجَيْشَ يُشَارِكُهَا فِيمَا غَنِمَتْ ؛ لِأَنَّهَا بِظَهْرِهِ وَقُوَّتِهِ تَمَكَّنَتْ ؛ لَكِنْ تُنَفَّلُ عَنْهُ نَفْلًا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ إذَا كَانُوا فِي بِدَايَتِهِمْ الرُّبُعُ بَعْدَ الْخُمُسِ فَإِذَا رَجَعُوا إلَى أَوْطَانِهِمْ وَتَسَرَّتْ سَرِيَّةٌ نَفَّلَهُمْ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ وَكَذَلِكَ لَوْ غَنِمَ الْجَيْشُ غَنِيمَةً شَارَكَتْهُ السَّرِيَّةُ لِأَنَّهَا فِي مَصْلَحَةِ الْجَيْشِ كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَلْحَةِ وَالزُّبَيْرِ يَوْمَ بَدْرٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُمَا فِي مَصْلَحَةِ الْجَيْشِ فَأَعْوَانُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ وَأَنْصَارِهَا مِنْهَا فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ . وَهَكَذَا الْمُقْتَتِلُونَ عَلَى بَاطِلٍ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ ؛ مِثْلَ الْمُقْتَتِلِينَ عَلَى عَصَبِيَّةِ وَدَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ ؛ كَقَيْسِ وَيُمَنِّ وَنَحْوِهِمَا ؛ هُمَا ظَالِمَتَانِ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ } . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَتَضَمَّنَ كُلُّ طَائِفَةٍ مَا أَتْلَفَتْهُ لِلْأُخْرَى مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ . وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ عَيْنَ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الْوَاحِدَةَ الْمُمْتَنِعَ بَعْضُهَا بِبَعْضِ كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَفِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } .
وَأَمَّا إذَا أَخَذُوا الْمَالَ فَقَطْ وَلَمْ يَقْتُلُوا - كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ كَثِيرًا - فَإِنَّهُ يُقَطَّعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ } . تُقَطَّعُ الْيَدُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَالرِّجْلُ الَّتِي يَمْشِي عَلَيْهَا وَتُحْسَمُ يَدُهُ وَرَجُلُهُ بِالزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ وَنَحْوِهِ ؛ لِيَنْحَسِمَ الدَّمُ فَلَا يَخْرُجُ فَيُفْضِي إلَى تَلَفِهِ وَكَذَلِكَ تُحْسَمُ يَدُ السَّارِقِ بِالزَّيْتِ . وَهَذَا الْفِعْلُ قَدْ يَكُونُ أزجر مِنْ الْقَتْلِ ؛ فَإِنَّ الْأَعْرَابَ وَفَسَقَةَ الْجُنْدِ وَغَيْرِهِمْ إذَا رَأَوْا دَائِمًا مَنْ هُوَ بَيْنَهُمْ مَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ذَكَرُوا بِذَلِكَ جُرْمَهُ فَارْتَدَعُوا ؛ بِخِلَافِ الْقَتْلِ فَإِنَّهُ قَدْ يَنْسَى ؛ وَقَدْ يُؤْثِرُ بَعْضُ النُّفُوسِ الْأَبِيَّةِ قَتْلَهُ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ مِنْ خِلَافٍ فَيَكُونُ هَذَا أَشَدَّ تَنْكِيلًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ . وَأَمَّا إذَا شَهَرُوا السِّلَاحَ وَلَمْ يَقْتُلُوا نَفْسًا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا ثُمَّ أَغْمَدُوهُ أَوْ هَرَبُوا وَتَرَكُوا الْحِرَابَ فَإِنَّهُمْ يُنْفَوْنَ . فَقِيلَ : نَفْيُهُمْ تَشْرِيدُهُمْ فَلَا يَتْرُكُونَ يَأْوُونَ فِي بَلَدٍ . وَقِيلَ : هُوَ حَبْسُهُمْ . وَقِيلَ : هُوَ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ أَصْلَحَ مِنْ نَفْيٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . وَالْقَتْلُ الْمَشْرُوعُ : هُوَ ضَرْبُ الرَّقَبَةِ بِالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْوَحُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ وَكَذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ قَتْلَ مَا يُبَاحُ قَتْلُهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ
إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ : { إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قَتَلَةُ أَهْلِ الْإِيمَانِ } . وَأَمَّا الصَّلْبُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ رَفْعُهُمْ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ لِيَرَاهُمْ النَّاسُ وَيَشْتَهِرَ أَمْرُهُمْ وَهُوَ بَعْدَ الْقَتْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُصَلَّبُونَ ثُمَّ يُقَتَّلُونَ وَهُمْ مُصَلَّبُونَ . وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَتْلَهُمْ بِغَيْرِ السَّيْفِ حَتَّى قَالَ : يُتْرَكُونَ عَلَى الْمَكَانِ الْعَالِي حَتَّى يَمُوتُوا حَتْفَ أُنُوفِهِمْ بِلَا قَتْلٍ .
فَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ وَقَدْ { قَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً إلَّا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ حَتَّى الْكُفَّارُ إذَا قَتَلْنَاهُمْ فَإِنَّا لَا نُمَثِّلُ بِهِمْ بَعْدَ الْقَتْلِ وَلَا نَجْدَعُ آذَانَهُمْ وَأُنُوفَهُمْ وَلَا نَبْقُرُ بُطُونَهُمْ إلَّا إنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ بِنَا فَنَفْعَلُ بِهِمْ مِثْلَ مَا فَعَلُوا } . وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلَّا بِاللَّهِ } قِيلَ إنَّهَا نَزَلَتْ لِمَا مَثَّلَ الْمُشْرِكُونَ بِحَمْزَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ شُهَدَاءَ أُحُدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَئِنْ أَظْفَرَنِي اللَّهُ بِهِمْ لَأُمَثِّلَنَّ بِضَعْفَيْ مَا مَثَّلُوا بِنَا } فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ - وَإِنْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ
مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } وَقَوْلِهِ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ جَرَى بِالْمَدِينَةِ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْخِطَابَ فَأُنْزِلَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً - فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بَلْ نَصْبِرُ " وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بريدة بْنِ الحصيب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ يَقُولُ : اُغْزُوَا بِسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ وَلَا تَغْلُوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا } .
وَلَوْ شَهَرُوا السِّلَاحَ فِي الْبُنْيَانِ - لَا فِي الصَّحْرَاءِ - لِأَخْذِ الْمَالِ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ لَيْسُوا مُحَارِبِينَ بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ يُدْرِكُهُ الْغَوْثُ إذَا اسْتَغَاثَ بِالنَّاسِ . وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : إنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْبُنْيَانِ وَالصَّحْرَاءِ وَاحِدٌ . وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ - فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ - وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَد وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ بَلْ هُمْ فِي الْبُنْيَانِ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ مِنْهُمْ فِي الصَّحْرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ مَحَلُّ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ تَنَاصُرِ النَّاسِ وَتَعَاوُنِهِمْ فَإِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ يَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَسْلُبُونَ الرَّجُلَ فِي دَارِهِ جَمِيعَ مَالِهِ وَالْمُسَافِرُ
لَا يَكُونُ مَعَهُ - غَالِبًا - إلَّا بَعْضُ مَالِهِ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لَا سِيَّمَا هَؤُلَاءِ الْمُتَحَزِّبُونَ الَّذِينَ تُسَمِّيهِمْ الْعَامَّةُ فِي الشَّامِ وَمِصْرَ الْمِنْسَرَ وَكَانُوا يُسَمُّونَ بِبَغْدَادَ الْعَيَّارِينَ وَلَوْ حَارَبُوا بِالْعَصَا وَالْحِجَارَةِ الْمَقْذُوفَةِ بِالْأَيْدِي أَوْ الْمَقَالِيعِ وَنَحْوِهَا : فَهُمْ مُحَارِبُونَ أَيْضًا . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لَا مُحَارَبَةَ إلَّا بِالْمُحَدَّدِ . وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ : عَلَى أَنَّ الْمُحَارَبَةَ تَكُونُ بِالْمُحَدَّدِ وَالْمُثَقَّلِ . وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهِ خِلَافٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ . فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ مَنْ قَاتَلَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ فَهُوَ مُحَارِبٌ قَاطِعٌ كَمَا أَنَّ مَنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ وَمَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسَيْفِ أَوْ رُمْحٍ أَوْ سَهْمٍ أَوْ حِجَارَةٍ أَوْ عَصًا فَهُوَ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . وَأَمَّا إذَا كَانَ يَقْتُلُ النُّفُوسَ سِرًّا لِأَخْذِ الْمَالِ ؛ مِثْلَ الَّذِي يَجْلِسُ فِي خَانٍ يُكْرِيهِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ فَإِذَا انْفَرَدَ بِقَوْمِ مِنْهُمْ قَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ . أَوْ يَدْعُو إلَى مَنْزِلِهِ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ لِخِيَاطَةِ أَوْ طِبٍّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَقْتُلُهُ وَيَأْخُذُ مَالَهُ وَهَذَا يُسَمَّى الْقَتْلُ غِيلَةً وَيُسَمِّيهِمْ بَعْضُ الْعَامَّةِ الْمُعَرِّجِينَ فَإِذَا كَانَ لِأَخْذِ الْمَالِ فَهَلْ هُمْ كَالْمُحَارِبِينَ أَوْ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْقَوَدِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالْحِيلَةِ كَالْقَتْلِ مُكَابَرَةً كِلَاهُمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ضَرَرُ هَذَا أَشَدَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَدْرِي بِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُحَارِبَ هُوَ الْمُجَاهِرُ بِالْقِتَالِ ؛ وَأَنَّ هَذَا الْمُغْتَالَ يَكُونُ أَمْرُهُ إلَى وَلِيِّ الدَّمِ . وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ضَرَرُ هَذَا أَشَدَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِهِ . وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِيمَنْ يَقْتُلُ السُّلْطَانُ كَقَتَلَةِ عُثْمَانَ . وَقَاتِلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَلْ هُمْ كَالْمُحَارِبِينَ فَيُقَتَّلُونَ حَدًّا أَوْ يَكُونُ أَمْرُهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ - عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ - لِأَنَّ فِي قَتْلِهِ فَسَادًا عَامًّا .
فَصْلٌ :
وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ . فَأَمَّا إذَا طَلَبَهُمْ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ بِلَا عُدْوَانٍ فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ . وَمَتَى لَمْ يَنْقَادُوا إلَّا بِقِتَالِ يُفْضِي إلَى قَتْلِهِمْ كُلِّهِمْ قُوتِلُوا وَإِنْ أَفْضَى إلَى ذَلِكَ ؛ سَوَاءٌ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا أَوْ لَمْ يَقْتُلُوا . وَيُقَتَّلُونَ فِي الْقِتَالِ كَيْفَمَا أَمْكَنَ : فِي الْعُنُقِ وَغَيْرِهِ . وَيُقَاتَلُ مَنْ قَاتَلَ مَعَهُمْ مِمَّنْ يَحْمِيهِمْ وَيُعِينُهُمْ . فَهَذَا قِتَالٌ وَذَاكَ إقَامَةُ حَدٍّ . وَقِتَالُ هَؤُلَاءِ أَوْكَدُ مِنْ قَتْلِ الطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ .
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَحَزَّبُوا لِفَسَادِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَهَلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ إقَامَةَ دِينٍ وَلَا مُلْكٍ . وَهَؤُلَاءِ كَالْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يَأْوُونَ إلَى حِصْنٍ أَوْ مَغَارَةٍ أَوْ رَأْسِ جَبَلٍ أَوْ بَطْنِ وَادٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ : يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ وَإِذَا جَاءَهُمْ جُنْدُ وَلِيِّ الْأَمْرِ يَطْلُبُهُمْ لِلدُّخُولِ فِي طَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْجَمَاعَةِ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ : قَاتَلُوهُمْ وَدَفَعُوهُمْ ؛ مِثْلَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْحَاجِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الطُّرُقَاتِ أَوْ الْجَبَلِيَّةِ الَّذِينَ يَعْتَصِمُونَ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ أَوْ الْمَغَارَاتِ ؛ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ . وَكَالْأَحْلَافِ الَّذِينَ تَحَالَفُوا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " النهيضة " فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا ذَكَرْنَا ؛ لَكِنْ قِتَالُهُمْ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْكُفَّارِ إذَا لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا وَلَا تُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَهَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا أَخَذُوا وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ عَيْنَ الْآخِذِ . وَكَذَلِكَ لَوْ عُلِمَ عَيْنُهُ ؛ فَإِنَّ الرِّدْءَ وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ كَمَا قُلْنَاهُ ؛ لَكِنْ إذَا عُرِفَ عَيْنُهُ كَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَيَرُدُّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ كَانَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ رِزْقِ الطَّائِفَةِ الْمُقَاتِلَة لَهُمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ . بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْ قِتَالِهِمْ التَّمَكُّنُ مِنْهُمْ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَمَنْعِهِمْ مِنْ الْفَسَادِ فَإِذَا جُرِحَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ جُرْحًا مُثْخَنًا لَمْ يُجْهَزْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ
إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ . وَإِذَا هَرَبَ وَكَفَانَا شَرَّهُ لَمْ نَتَّبِعْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ نَخَافُ عَاقِبَتَهُ وَمَنْ أَسَرَّ مِنْهُمْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي يُقَامُ عَلَى غَيْرِهِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُشَدِّدُ فِيهِمْ حَتَّى يَرَى غَنِيمَةَ أَمْوَالِهِمْ وَتَخْمِيسَهَا ؛ وَأَكْثَرُهُمْ يَأْبَوْنَ ذَلِكَ . فَأَمَّا إذَا تَحَيَّزُوا إلَى مَمْلَكَةِ طَائِفَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَعَانُوهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . قُوتِلُوا كَقِتَالِهِمْ .
وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ خِفَارَةً أَوْ ضَرِيبَةً مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ عَلَى الرُّءُوسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَحْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا مكاس عَلَيْهِ عُقُوبَةُ المكاسين . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ قَتْلِهِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ؛ فَإِنَّ الطَّرِيقَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الغامدية : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ } وَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِينَ - الَّذِينَ تُرَادُ أَمْوَالُهُمْ - قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يَجِبُ أَنْ يُبْذَلَ لَهُمْ مِنْ الْمَالِ لَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إذَا أَمْكَنَ قِتَالُهُمْ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمِنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } . وَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ " الصَّائِلُ " وَهُوَ الظَّالِمُ بِلَا تَأْوِيلٍ
وَلَا وِلَايَةٍ فَإِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْمَالَ جَازَ دَفْعُهُ بِمَا يُمْكِنُ فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا الْقِتَالُ قُوتِلَ وَإِنْ تَرَكَ الْقِتَالَ وَأَعْطَاهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ جَازَ وَأَمَّا إذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْحُرْمَةَ - مِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ الزِّنَا بِمَحَارِمِ الْإِنْسَانِ أَوْ يَطْلُبَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ الصَّبِيِّ الْمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ الْفُجُورَ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُمْكِنُ وَلَوْ بِالْقِتَالِ وَلَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ بِحَالِ ؛ بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ جَائِزٌ وَبَذْلَ الْفُجُورِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ جَائِزٍ . وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ قَتْلَ الْإِنْسَانِ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ . وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَهَذَا إذَا كَانَ لِلنَّاسِ سُلْطَانٌ فَأَمَّا إذَا كَانَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فِتْنَةٌ مِثْلَ أَنْ يَخْتَلِفَ سُلْطَانَانِ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَقْتَتِلَانِ عَلَى الْمُلْكِ فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمَا بَلَدَ الْآخَرِ وَجَرَى السَّيْفُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْفِتْنَةِ أَوْ يَسْتَسْلِمُ فَلَا يُقَاتِلُ فِيهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَإِذَا ظَفَرَ السُّلْطَانُ بِالْمُحَارِبِينَ الْحَرَامِيَّةِ - وَقَدْ أَخَذُوا الْأَمْوَالَ الَّتِي لِلنَّاسِ - فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْرِجْ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ الَّتِي لِلنَّاسِ وَيَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ مَعَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ . وَكَذَلِكَ السَّارِقُ ؛ فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ إحْضَارِ الْمَالِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِمْ عَاقَبَهُمْ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ حَتَّى يُمَكَّنُوا مَنْ أَخْذِهِ بِإِحْضَارِهِ أَوْ تَوْكِيلِ مَنْ يَحْضُرُهُ أَوْ الْإِخْبَارِ بِمَكَانِهِ كَمَا يُعَاقَبُ كُلُّ مُمْتَنِعٍ
عَنْ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ لِلرَّجُلِ فِي كِتَابِهِ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ إذَا نَشَزَتْ فَامْتَنَعَتْ مِنْ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا حَتَّى تُؤَدِّيَهُ . فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ وَالْعُقُوبَةُ حَقٌّ لِرَبِّ الْمَالِ فَإِنْ أَرَادَ هِبَتَهُمْ الْمَالَ أَوْ الْمُصَالَحَةَ عَلَيْهِ أَوْ الْعَفْوَ عَنْ عُقُوبَتِهِمْ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْعَفْوِ عَنْهُ بِحَالِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلْزِمَ رَبَّ الْمَالِ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ . وَإِنْ كَانَتْ الْأَمْوَالُ قَدْ تَلِفَتْ بِالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ أَوْ عِنْدَ السَّارِقِ . فَقِيلَ : يَضْمَنُونَهَا لِأَرْبَابِهَا كَمَا يَضْمَنُ سَائِرُ الْغَارِمِينَ . وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَتَبْقَى مَعَ الْإِعْسَارِ فِي ذِمَّتِهِمْ إلَى مَيْسَرَةٍ . وَقِيلَ : لَا يَجْتَمِعُ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ . وَقِيلَ : يَضْمَنُونَهَا مَعَ الْيَسَارِ فَقَطْ دُونَ الْإِعْسَارِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَلَا يَحِلُّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ جُعْلًا عَلَى طَلَبِ الْمُحَارِبِينَ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ وَارْتِجَاعِ أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْهُمْ وَلَا عَلَى طَلَبِ السَّارِقِينَ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِلْجُنْدِ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمْ فِي طَلَبِهِمْ ؛ بَلْ طَلَبُ هَؤُلَاءِ مَنْ نَوْعِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَخْرُجُ فِيهِ جُنْدُ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَخْرُجُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْغَزَوَاتِ الَّتِي تُسَمَّى البيكار . وَيُنْفِقُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ فِي هَذَا مِنْ الْمَالِ الَّذِي يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى سَائِرِ الْغُزَاةِ فَإِنْ كَانَ لَهُمْ إقْطَاعٌ أَوْ عَطَاءٌ يَكْفِيهِمْ وَإِلَّا أَعْطَاهُمْ تَمَامَ كِفَايَةِ غَزْوِهِمْ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ مِنْ الصَّدَقَاتِ ؛
فَإِنَّ هَذَا مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ . فَإِنْ كَانَ عَلَى أَبْنَاءِ السَّبِيلِ الْمَأْخُوذِينَ زَكَاةً مِثْلَ التُّجَّارِ الَّذِينَ قَدْ يُؤْخَذُونَ فَأَخَذَ الْإِمَامُ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَنَفَقَةِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الْمُحَارِبِينَ جَازَ . وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ قَوِيَّةٌ تَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفٍ فَأَعْطَى الْإِمَامُ مِنْ الْفَيْءِ وَالْمَصَالِحِ وَالزَّكَاةِ لِبَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ يُعِينُهُمْ عَلَى إحْضَارِ الْبَاقِينَ أَوْ لِتَرْكِ شَرِّهِ فَيَضْعُفُ الْبَاقُونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ جَازَ وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأُصُولِ الشَّرِيعَةِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ الْإِمَامُ مَنْ يَضْعُفُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْحَرَامِيَّةِ وَلَا مَنْ يَأْخُذُ مَالًا مِنْ الْمَأْخُوذِينَ : التُّجَّارُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ ؛ بَلْ يُرْسِلُ مِنْ الْجُنْدِ الْأَقْوِيَاءَ الْأُمَنَاءَ ؛ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ فَيُرْسِلُ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ . فَإِنْ كَانَ بَعْضُ نُوَّابِ السُّلْطَانِ أَوْ رُؤَسَاءُ الْقُرَى وَنَحْوُهُمْ يَأْمُرُونَ الْحَرَامِيَّةَ بِالْأَخْذِ فِي الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ حَتَّى إذَا أَخَذُوا شَيْئًا قَاسَمَهُمْ وَدَافَعَ عَنْهُمْ وَأَرْضَى الْمَأْخُوذِينَ بِبَعْضِ أَمْوَالِهِمْ أَوْ لَمْ يُرْضِهِمْ فَهَذَا أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ مُقَدَّمِ الْحَرَامِيَّةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِدُونِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ هَذَا . وَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مَا يُقَالُ فِي الرِّدْءِ وَالْعَوْنِ لَهُمْ . فَإِنْ قَتَلُوا قُتِلَ هُوَ عَلَى قَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَكْثَرِ أَهْلِ
الْعِلْمِ . وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ وَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلَ وَصُلِبَ وَعَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُقْطَعُ وَيُقْتَلُ وَيُصْلَبُ . وَقِيلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ هَذَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ ؛ لَكِنْ لَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمْ قَاسَمَهُمْ الْأَمْوَالَ وَعَطَّلَ بَعْضَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ .
وَمَنْ آوَى مُحَارِبًا أَوْ سَارِقًا أَوْ قَاتِلًا وَنَحْوَهُمْ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ لِآدَمِيِّ وَمَنَعَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ الْوَاجِبَ بِلَا عُدْوَانٍ فَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الْجُرْمِ . وَقَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا } وَإِذَا ظَفَرَ بِهَذَا الَّذِي آوَى الْمُحْدِثَ فَإِنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ إحْضَارَهُ أَوْ الْإِعْلَامَ بِهِ فَإِنْ امْتَنَعَ عُوقِبَ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ الْحَدَثِ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُعَاقِبُ الْمُمْتَنِعَ مِنْ أَدَاءِ الْمَالِ الْوَاجِبِ . فَمَنْ وَجَبَ حُضُورُهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ يُعَاقِبُ مَنْ مَنَعَ حُضُورَهَا . وَلَوْ كَانَ رَجُلًا يَعْرِفُ مَكَانَ الْمَالِ الْمَطْلُوبِ بِحَقِّ أَوْ الرَّجُلَ الْمَطْلُوبَ بِحَقِّ وَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْلَامُ بِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ . وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ . فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَذَلِكَ وَاجِبٌ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ النَّفْسُ أَوْ الْمَالُ مَطْلُوبًا بِبَاطِلِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ الْإِعْلَامُ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ؛ بَلْ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ
نَصْرَ الْمَظْلُومِ وَاجِبٌ ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا . قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا . فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ : تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرٍ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْعِ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ : أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِفْشَاءَ الْسَّلَامِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ وَعَنْ الشُّرْبِ بِالْفِضَّةِ وَعَنْ الْمَيَاثِرِ وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْقَسِّيِّ وَالدِّيبَاجِ وَالْإِسْتَبْرَقِ } . فَإِنْ امْتَنَعَ هَذَا الْعَالِمُ بِهِ مِنْ الْإِعْلَامِ بِمَكَانِهِ جَازَتْ عُقُوبَتُهُ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ حَتَّى يُخْبَرَ بِهِ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ . فَعُوقِبَ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا إذَا عَرَفَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ . وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي مَا تَتَوَلَّاهُ الْوُلَاةُ وَالْقُضَاةُ وَغَيْرُهُمْ فِي كُلِّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ وَاجِبٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَلَيْسَ هَذَا بِمُطَالَبَةِ لِلرَّجُلِ بِحَقِّ وَجَبٍ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا عُقُوبَةٍ عَلَى جِنَايَةِ غَيْرِهِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَّا لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ } . وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ بِمَالِ قَدْ
وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ لَيْسَ وَكَيْلًا وَلَا ضَامِنًا وَلَا لَهُ عِنْدَهُ مَالٌ . أَوْ يُعَاقِبُ الرَّجُلُ بِجَرِيرَةِ قَرِيبِهِ أَوْ جَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَدْ أَذْنَبَ لَا بِتَرْكِ وَاجِبٍ وَلَا بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ فَهَذَا الَّذِي لَا يَحِلُّ . فَأَمَّا هَذَا فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِ نَفْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ مَكَانَ الظَّالِمِ الَّذِي يَطْلُبُ حُضُورَهُ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ أَوْ يَعْلَمُ مَكَانَ الْمَالِ الَّذِي قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حُقُوقُ الْمُسْتَحِقِّينَ فَيَمْتَنِعُ مِنْ الْإِعَانَةِ وَالنُّصْرَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ إمَّا مُحَابَاةً أَوْ حَمِيَّةً لِذَلِكَ الظَّالِمُ كَمَا قَدْ يَفْعَلُ أَهْلُ الْعَصَبِيَّةِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَإِمَّا مُعَادَاةً أَوْ بُغْضًا لِلْمَظْلُومِ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } . وَإِمَّا إعْرَاضًا - عَنْ الْقِيَامِ لِلَّهِ وَالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ - وَجُبْنًا وَفَشْلًا وَخِذْلَانًا لِدِينِهِ كَمَا يَفْعَلُ التَّارِكُونَ لِنَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ وَكِتَابِهِ الَّذِينَ إذَا قِيلَ لَهُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلُوا إلَى الْأَرْضِ . وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهَذَا الضَّرْبُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَمَنْ لَمْ يَسْلُكْ هَذِهِ السُّبُلَ عَطَّلَ الْحُدُودَ وَضَيَّعَ الْحُقُوقَ وَأَكَلَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ . وَهُوَ يُشْبِهُ مَنْ عِنْدَهُ مَالُ الظَّالِمِ الْمُمَاطِلِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ وَقَدْ
امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ لِحَاكِمِ عَادِلٍ يُوَفِّي بِهِ دِينَهُ أَوْ يُؤَدِّي مِنْهُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ لِأَهْلِهِ أَوْ أَقَارِبِهِ أَوْ مَمَالِيكِهِ أَوْ بَهَائِمِهِ . وَكَثِيرًا مَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ حَقٌّ بِسَبَبِ غَيْرِهِ كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِسَبَبِ حَاجَةِ قَرِيبِهِ وَكَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ . وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ التَّعْزِيرِ عُقُوبَةٌ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَالًا أَوْ نَفْسًا يَجِبُ إحْضَارُهُ وَهُوَ لَا يَحْضُرُهُ ؛ كَالْقُطَّاعِ وَالسُّرَّاقِ وَحُمَاتِهِمْ ؛ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ خَبِيرٌ بِهِ وَهُوَ لَا يُخْبِرُ بِمَكَانِهِ . فَأَمَّا إنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِخْبَارِ وَالْإِحْضَارِ لِئَلَّا يَتَعَدَّى عَلَيْهِ الطَّالِبُ أَوْ يَظْلِمُهُ فَهَذَا مُحْسِنٌ . وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَيَجْتَمِعُ شُبْهَةٌ وَشَهْوَةٌ . وَالْوَاجِبُ تَمْيِيزُ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ . وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا فِي الرُّؤَسَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ إذَا اسْتَجَارَ بِهِمْ مُسْتَجِيرٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ أَوْ صَدَاقَةٌ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الْحَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ وَالْعِزَّةَ بِالْإِثْمِ وَالسُّمْعَةَ عِنْدَ الْأَوْبَاشِ : أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُ - وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا مُبْطِلًا - عَلَى الْحَقِّ الْمَظْلُومِ ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَظْلُومُ رَئِيسًا يُنَادِيهِمْ ويناويهم فَيَرَوْنَ فِي تَسْلِيمِ الْمُسْتَجِيرِ بِهِمْ إلَى مَنْ يناويهم ذُلًّا أَوْ عَجْزًا ؛ وَهَذَا - عَلَى الْإِطْلَاقِ - جَاهِلِيَّةٌ مَحْضَةٌ . وَهِيَ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ سَبَبَ كَثِيرٍ مِنْ حُرُوبِ الْأَعْرَابِ كَحَرْبِ الْبَسُوسِ الَّتِي كَانَتْ بَيْن بَنِي بَكْرٍ وَتَغْلِبَ إلَى نَحْوِ هَذَا وَكَذَلِكَ سَبَبُ دُخُولِ التُّرْكِ وَالْمَغُولِ دَارَ الْإِسْلَامِ
وَاسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَى مُلُوكِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ وَخُرَاسَانَ : كَانَ سَبَبُهُ نَحْوَ هَذَا . وَمَنْ أَذَلَّ نَفْسَهُ لِلَّهِ فَقَدْ أَعَزَّهَا وَمَنْ بَذَلَ الْحَقَّ مِنْ نَفْسِهِ فَقَدْ أَكْرَمَ نَفْسَهُ فَإِنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ وَمَنْ اعْتَزَّ بِالظُّلْمِ : مِنْ مَنْعِ الْحَقِّ وَفِعْلِ الْإِثْمِ فَقَدْ أَذَلَّ نَفْسَهُ وَأَهَانَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ هَذَا الضَّرْبِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } . وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ اسْتَجَارَ بِهِ مُسْتَجِيرٌ - إنْ كَانَ مَظْلُومًا يَنْصُرُهُ وَلَا يَثْبُتُ أَنَّهُ مَظْلُومٌ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ؛ فَطَالَمَا اشْتَكَى الرَّجُلُ وَهُوَ ظَالِمٌ ؛ بَلْ يَكْشِفُ خَبَرَهُ مِنْ خَصْمِهِ وَغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا رَدَّهُ عَنْ الظُّلْمِ بِالرِّفْقِ إنْ أَمْكَنَ ؛ إمَّا مِنْ صُلْحٍ أَوْ حُكْمٍ بِالْقِسْطِ وَإِلَّا فَبِالْقُوَّةِ . وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ ظَالِمًا مَظْلُومًا كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ قَيْس وَيُمَنِّ
وَنَحْوِهِمْ وَأَكْثَرِ الْمُتَدَاعِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْبَوَادِي أَوْ كَانَا جَمِيعًا غَيْرُ ظَالِمِينَ لِشُبْهَةِ أَوْ تَأْوِيلٍ أَوْ غَلَطٍ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا : سَعَى بَيْنَهُمَا بِالْإِصْلَاحِ أَوْ الْحُكْمِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَمِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ فِي الْحَقِّ ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ فِي الْبَاطِلِ } وَقَالَ : { خَيْرُكُمْ الدَّافِعُ عَنْ قَوْمِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ } . وَقَالَ : { مَثَلُ الَّذِي يَنْصُرُ قَوْمَهُ بِالْبَاطِلِ كَبَعِيرِ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ فَهُوَ يَجُرُّ بِذَنْبِهِ } . وَقَالَ : { مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بهن أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا } . وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ : مِنْ نَسَبٍ أَوْ بَلَدٍ أَوْ جِنْسٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ : فَهُوَ مِنْ عَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ بَلْ { لَمَّا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَقَالَ المهاجري : يَا لِلْمُهَاجِرِينَ
وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : يَا لِلْأَنْصَارِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ } . وَغَضِبَ لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا السَّارِقُ فَيَجِبُ قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَدِّ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ تَأْخِيرُهُ ؛ لَا بِحَبْسِ وَلَا مَالٍ يَفْتَدِي بِهِ وَلَا غَيْرِهِ ؛ بَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ وَغَيْرِهَا ؛ فَإِنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مِنْ الْعِبَادَاتِ كَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ بِعِبَادِهِ ؛ فَيَكُونُ الْوَالِي شَدِيدًا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ ؛ لَا تَأْخُذُهُ رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فَيُعَطِّلُهُ . وَيَكُونُ قَصْدُهُ رَحْمَةَ الْخَلْقِ بِكَفِّ النَّاسِ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ ؛ لِإِشْفَاءِ غَيْظِهِ وَإِرَادَةِ الْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ ؛ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ إذَا أَدَّبَ وَلَدَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَفَّ عَنْ تَأْدِيبِ وَلَدِهِ - كَمَا تُشِيرُ بِهِ الْأُمُّ رِقَّةً وَرَأْفَةً - لَفَسَدَ الْوَلَدُ وَإِنَّمَا يُؤَدِّبُهُ رَحْمَةً بِهِ وَإِصْلَاحًا لِحَالِهِ ؛ مَعَ أَنَّهُ يَوَدُّ وَيُؤْثِرُ أَنْ لَا يَحُوجَهُ إلَى تَأْدِيبٍ وَبِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي يَسْقِي الْمَرِيضَ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ وَبِمَنْزِلَةِ قَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ وَالْحَجْمِ وَقَطْعِ
الْعُرُوقِ بِالْفِصَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْإِنْسَانِ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ وَمَا يُدْخِلُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ لِيَنَالَ بِهِ الرَّاحَةَ . فَهَكَذَا شُرِّعَتْ الْحُدُودُ وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الْوَالِي فِي إقَامَتِهَا فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ قَصْدُهُ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لَهُمْ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُمْ وَابْتَغَى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةَ أَمْرِهِ : أَلَانَ اللَّهُ لَهُ الْقُلُوبَ وَتَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ وَكَفَاهُ الْعُقُوبَةَ الْبَشَرِيَّةَ وَقَدْ يَرْضَى الْمَحْدُودُ إذَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ . وَأَمَّا إذَا كَانَ غَرَضُهُ الْعُلُوَّ عَلَيْهِمْ وَإِقَامَةَ رِيَاسَتِهِ لِيُعَظِّمُوهُ أَوْ لِيَبْذُلُوا لَهُ مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَمْوَالِ انْعَكَسَ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ . وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ نَائِبًا لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ قَدْ سَاسَهُمْ سِيَاسَةً صَالِحَةً فَقَدِمَ الْحَجَّاجُ مِنْ الْعِرَاقِ وَقَدْ سَامَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ فَسَأَلَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَنْ عُمَرَ . كَيْفَ هَيْبَتُهُ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَنْظُرَ إلَيْهِ . قَالَ : كَيْفَ مَحَبَّتُكُمْ لَهُ ؟ قَالُوا : هُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَهْلِنَا قَالَ : فَكَيْفَ أَدَبُهُ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْأَسْوَاطِ إلَى الْعَشَرَةِ قَالَ : هَذِهِ هَيْبَتُهُ وَهَذِهِ مَحَبَّتُهُ وَهَذَا أَدَبُهُ هَذَا أَمْرٌ مِنْ السَّمَاءِ . وَإِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ حُسِمَتْ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ . فَإِنْ
سَرَقَ ثَانِيًا : قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى . فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا وَرَابِعًا : فَفِيهِ قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَحَدُهُمَا : تُقْطَعُ أَرْبَعَتُهُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَالثَّانِي أَنَّهُ يُحْبَسُ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْكُوفِيِّينَ وَأَحْمَد فِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى . وَإِنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ إذَا سَرَقَ نِصَابًا وَهُوَ رُبُعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ . فَمَنْ سَرَقَ ذَلِكَ قُطِعَ بِالِاتِّفَاقِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ { قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ } وَالْمِجَنُّ التُّرْسُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ : { اقْطَعُوا فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ } وَكَانَ رُبُعُ الدِّينَارِ يَوْمئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَالدِّينَارُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا . وَلَا يَكُونُ السَّارِقُ سَارِقًا حَتَّى يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ حِرْزٍ . فَأَمَّا الْمَالُ
الضَّائِعُ مِنْ صَاحِبِهِ وَالثَّمَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي الشَّجَرِ فِي الصَّحْرَاءِ بِلَا حَائِطٍ وَالْمَاشِيَةُ الَّتِي لَا رَاعِيَ عِنْدَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ فَلَا قَطْعَ فِيهِ لَكِنْ يُعَزَّرُ الْآخِذُ وَيُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْغُرْمُ كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي التَّضْعِيفِ وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ } وَالْكَثْرُ جُمَّارُ النَّخْلِ . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سَمِعْت رَجُلًا مِنْ مزينة يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْت أَسْأَلُك عَنْ الضَّالَّةِ مِنْ الْإِبِلِ قَالَ : مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَأْكُلُ الشَّجَرَ وَتَرِدُ الْمَاءَ فَدَعْهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا . قَالَ : فَالضَّالَّةُ مِنْ الْغَنَمِ ؟ قَالَ : لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ تَجْمَعُهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا : قَالَ : فَالْحَرِيسَةُ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَرَاتِعِهَا ؟ قَالَ : فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ وَضَرْبٌ نَكَالٌ . وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا مِنْ أَكْمَامِهَا قَالَ : مَنْ أَخَذَ مِنْهَا بِفَمِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ وَضَرْبٌ نَكَالٌ وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةٌ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ } . رَوَاهُ أَهْلُ
السُّنَنِ . لَكِنَّ هَذَا سِيَاقُ النَّسَائِي . وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَلَا الْخَائِنِ قَطْعٌ } فَالْمُنْتَهِبُ الَّذِي يَنْهَبُ الشَّيْءَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ وَالْمُخْتَلِسُ الَّذِي يَجْتَذِبُ الشَّيْءَ فَيُعْلَمُ بِهِ قَبْلَ أَخْذِهِ وَأَمَّا الطَّرَّارُ وَهُوَ الْبَطَّاطُ الَّذِي يَبِطُ الْجُيُوبَ وَالْمَنَادِيلَ وَالْأَكْمَامَ وَنَحْوَهَا فَإِنَّهُ يُقْطَعُ عَلَى الصَّحِيحِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الزَّانِي : فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا فَإِنَّهُ يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ كَمَا رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الأسلمي وَرَجَمَ الغامدية وَرَجَمَ الْيَهُودِيَّيْنِ وَرَجَمَ غَيْرَ هَؤُلَاءِ وَرَجَمَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يُجْلَدُ قَبْلَ الرَّجْمِ مِائَةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِنْ كَانَ غَيْرُ مُحْصَنٍ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةُ جَلْدَةٍ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيُغَرَّبُ عَامًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَرَى وُجُوبَ التَّغْرِيبِ . وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ أَوْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ ؛ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْتَفِي بِشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ رَجَعَ
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَسْقُطُ . وَالْمُحْصَنُ مَنْ وَطِئَ - وَهُوَ حُرٌّ مُكَلَّفٌ - لِمَنْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا فِي قُبُلِهَا وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً . وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ مُسَاوِيَةً لِلْوَاطِئِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . . وَهَلْ تُحْصَنُ الْمُرَاهِقَةُ لِلْبَالِغِ ؛ وَبِالْعَكْسِ ؟ فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ مُحْصَنُونَ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ وَذَلِكَ أَوَّلُ رَجْمٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا وُجِدَتْ حُبْلَى وَلَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ وَلَا سَيِّدٌ وَلَمْ تَدَعْ شُبْهَةً فِي الْحَبَلِ . فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : لَا حَدَّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَبِلَتْ مُكْرَهَةً أَوْ بِتَحَمُّلِ . أَوْ بِوَطْءِ شُبْهَةٍ . وَقِيلَ : بَلْ تُحَدُّ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَالَاتِ النَّادِرُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا كَاحْتِمَالِ كَذِبِهَا وَكَذِبِ الشُّهُودِ .
وَأَمَّا اللِّوَاطُ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : حَدُّهُ كَحَدِّ الزِّنَا . وَقَدْ قِيلَ : دُونَ ذَلِكَ . وَالصَّحِيحُ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ : أَنْ يُقْتَلَ الِاثْنَانِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ . سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَنِ رَوَوْا عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْبِكْرِ يُوجَدُ عَلَى اللُّوطِيَّةِ . قَالَ : يُرْجَمُ . وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُ ذَلِكَ . وَلَمْ تَخْتَلِفْ الصَّحَابَةُ فِي قَتْلِهِ ؛ وَلَكِنْ تَنَوَّعُوا فِيهِ . فَرُوِيَ عَنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ قَتْلُهُ وَعَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ يُلْقَى عَلَيْهِ جِدَارٌ حَتَّى يَمُوتَ تَحْتَ الْهَدْمِ وَقِيلَ : يُحْبَسَانِ فِي أَنْتَنِ مَوْضِعٍ حَتَّى يَمُوتَا . وَعَنْ بَعْضِهِمْ : أَنَّهُ يُرْفَعُ عَلَى أَعْلَى جِدَارٍ فِي الْقَرْيَةِ وَيُرْمَى مِنْهُ وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ كَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِقَوْمِ لُوطٍ . وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى قَالَ : يُرْجَمُ . وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ السَّلَفِ . قَالُوا لِأَنَّ اللَّهَ رَجَمَ قَوْمَ لُوطٍ وَشَرَعَ رَجْمَ الزَّانِي تَشْبِيهًا بِرَجْمِ قَوْمِ لُوطٍ فَيُرْجَمُ الِاثْنَانِ سَوَاءٌ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ مَمْلُوكَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا وَالْآخَرُ حُرًّا إذَا كَانَا بَالِغَيْنِ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ بَالِغٍ عُوقِبَ بِمَا دُونَ الْقَتْلِ وَلَا يُرْجَمُ إلَّا الْبَالِغُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ : فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ إنْ شَرِبَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ } وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ جَلَدَ الشَّارِبَ غَيْرَ مَرَّةٍ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ . وَالْقَتْلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَنْسُوخٌ . وَقِيلَ : هُوَ مُحْكَمٌ . يُقَالُ : هُوَ تَعْزِيرٌ يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ . وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ أَرْبَعِينَ . وَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ وَضَرَبَ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ ثَمَانِينَ . وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَضْرِبُ مَرَّةً أَرْبَعِينَ وَمَرَّةً ثَمَانِينَ } . فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : يَجِبُ ضَرْبُ الثَّمَانِينَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْوَاجِبُ أَرْبَعُونَ وَالزِّيَادَةُ يَفْعَلُهَا الْإِمَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إذَا أَدْمَنَ النَّاسُ الْخَمْرَ . أَوْ كَانَ الشَّارِبُ مِمَّنْ لَا يَرْتَدِعُ بِدُونِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ .
فَأَمَّا مَعَ قِلَّةِ الشَّارِبِينَ وَقُرْبِ أَمْرِ الشَّارِبِ فَتَكْفِي الْأَرْبَعُونَ . وَهَذَا أَوْجُهُ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا كَثُرَ الشُّرْبُ - زَادَ فِيهِ النَّفْيَ وَحَلْقَ الرَّأْسِ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهُ فَلَوْ غُرِّبَ الشَّارِبُ مَعَ الْأَرْبَعِينَ لِيَنْقَطِعَ خَبَرُهُ أَوْ عَزْلُهُ عَنْ وِلَايَتِهِ كَانَ حَسَنًا ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلَغَهُ عَنْ بَعْضِ نُوَّابِهِ أَنَّهُ تَمَثَّلَ بِأَبْيَاتِ فِي الْخَمْرِ فَعَزَلَهُ . وَالْخَمْرُ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَلْدِ شَارِبِهَا كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ مِنْ أَيِّ أَصْلٍ كَانَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الثِّمَارِ كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالتِّينِ . أَوْ الْحُبُوبِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ . أَوْ الطُّلُولِ كَالْعَسَلِ . أَوْ الْحَيَوَانِ كَلَبَنِ الْخَيْلِ . بَلْ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ شَجَرُ عِنَبٍ وَإِنَّمَا كَانَتْ تُجْلَبُ مِنْ الشَّامِ كَانَ عَامَّةُ شَرَابِهِمْ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَمْرٌ . وَكَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ الْحُلْوَ وَهُوَ أَنْ يُنْبَذَ فِي الْمَاءِ تَمْرٌ وَزَبِيبٌ
أَيْ يُطْرَحُ فِيهِ وَالنُّبَذُ الطَّرْحُ - لِيَحْلُوَ الْمَاءُ لَا سِيَّمَا كَثِيرٌ مِنْ مِيَاهِ الْحِجَازِ فَإِنَّ فِيهِ مُلُوحَةً فَهَذَا النَّبِيذُ حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْكِرُ ؛ كَمَا يَحِلُّ شُرْبُ عَصِيرِ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا هَذَا النَّبِيذَ فِي أَوْعِيَةِ الْخَشَبِ أَوْ الجرى وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنْ التُّرَابِ أَوْ الْقَرْعِ أَوْ الظُّرُوفِ الْمُزَفَّتَةِ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا فِي الظُّرُوفِ الَّتِي تُرْبَطُ أَفْوَاهِهَا بِالْأَوْكِيَةِ ؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ تَدِبُّ فِي النَّبِيذِ دَبِيبًا خَفِيفًا وَلَا يَشْعُرُ الْإِنْسَانُ فَرُبَّمَا شَرِبَ الْإِنْسَانُ مَا قَدْ دَبَّتْ فِيهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ فَإِذَا كَانَ السِّقَاءُ مُوكًى انْشَقَّ الظَّرْفُ إذَا غَلَا فِيهِ النَّبِيذُ فَلَا يَقَعُ الْإِنْسَانُ فِي مَحْذُورٍ وَتِلْكَ الْأَوْعِيَةُ لَا تَنْشَقُّ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ بَعْدَ هَذَا فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ وَقَالَ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَانْتَبَذُوا وَلَا تَشْرَبُوا الْمُسْكِرَ } فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ أَوْ لَمْ يُثْبِتْهُ فَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ وَأَنَّهُ نَاسِخٌ فَرَخَّصَ فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَسَمِعَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ الْمُسْكِرُ فَتَرَخَّصُوا فِي شُرْبِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ . وَتَرَخَّصُوا فِي الْمَطْبُوخِ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا لَمْ يُسْكِرْ الشَّارِبَ .
وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ كُلَّ مُسْكِرِ خَمْرٍ يُجْلَدُ شَارِبُهُ وَلَوْ شَرِبَ مِنْهُ قَطْرَةً وَاحِدَةً لِتَدَاوٍ أَوْ غَيْرِ تَدَاوٍ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ يَتَدَاوَى بِهَا فَقَالَ : إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءِ . وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْهَا } . وَالْحَدُّ وَاجِبٌ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ اعْتَرَفَ الشَّارِبُ ؛ فَإِنْ وُجِدَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ رُئِيَ وَهُوَ يتقيؤها وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَقَدْ قِيلَ : لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَ مَا لَيْسَ بِخَمْرِ أَوْ شَرِبَهَا جَاهِلًا بِهَا أَوْ مُكْرَهًا وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَقِيلَ : بَلْ يُجْلَدُ إذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْكِرٌ . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ : كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ؛ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَأَحْمَد فِي غَالِبِ نُصُوصِهِ وَغَيْرِهِمَا . وَالْحَشِيشَةُ الْمَصْنُوعَةُ مِنْ وَرَقِ الْعِنَبِ حَرَامٌ أَيْضًا يُجْلَدُ صَاحِبُهَا كَمَا يُجْلَدُ شَارِبُ الْخَمْرِ وَهِيَ أَخْبَثُ مِنْ الْخَمْرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْلَ وَالْمِزَاجَ حَتَّى يَصِيرَ فِي الرَّجُلِ تَخَنُّثٌ وَدِيَاثَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وَالْخَمْرُ أَخْبَثُ ؛ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ وَكِلَاهُمَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الصَّلَاةِ . وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حَدِّهَا وَرَأَى أَنَّ آكِلَهَا
يُعَزَّرُ بِمَا دُونَ الْحَدِّ ؛ حَيْثُ ظَنَّهَا تُغَيِّرُ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ طَرِبٍ بِمَنْزِلَةِ الْبَنْجِ وَلَمْ نَجِدْ لِلْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا كَلَامًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ آكِلُوهَا يَنْشَوْنَ عَنْهَا وَيَشْتَهُونَهَا كَشَرَابِ الْخَمْرِ وَأَكْثَرَ وَتَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ إذَا أَكْثَرُوا مِنْهَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْأُخْرَى : مِنْ الدِّيَاثَةِ وَالتَّخَنُّثِ وَفَسَادِ الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ جَامِدَةً مَطْعُومَةً لَيْسَتْ شَرَابًا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَتِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . فَقِيلَ : هِيَ نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ الْمَشْرُوبَةِ وَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ . وَقِيلَ : لَا ؛ لِجُمُودِهَا . وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ جَامِدِهَا وَمَائِعِهَا . وَبِكُلِّ حَالٍ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ لَفْظًا وَمَعْنًى . { قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ : الْبِتْعُ وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ . وَالْمِزْرُ وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعُ الْكَلِمِ وَخَوَاتِيمُهُ . فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا وَمِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا وَمِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا وَمِنْ التَّمْرِ خَمْرًا وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا وَأَنَا أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ } . رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ ؛ وَلَكِنْ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ؛ أَنَّهُ خَطَبَ بِهِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ " وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي رِوَايَةٍ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ } رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } . وَصَحَّحَهُ الْحُفَّاظُ . وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَرَابٍ يَشْرَبُونَهُ بِأَرْضِهِمْ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَا : الْمِزْرُ فَقَالَ : أَمُسْكِرٌ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ؛ إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عِرْقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلّ مُخَمَّرٍ خَمْرٌ كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أُوتِيَهُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ كُلَّ مَا غَطَّى الْعَقْلَ وَأَسْكَرَ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ وَلَا تَأْثِيرٍ لِكَوْنِهِ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا ؛ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ يَصْطَبِغُ بِهَا وَالْحَشِيشَةُ قَدْ تُذَابُ فِي الْمَاءِ وَتُشْرَبُ ؛ فَكُلُّ خَمْرٍ يُشْرَبُ وَيُؤْكَلُ وَالْحَشِيشَةُ تُؤْكَلُ وَتُشْرَبُ وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ ؛ وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي خُصُوصِهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ أَكْلُهَا مِنْ قَرِيبٍ فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ قَدْ أُحْدِثَتْ أَشْرِبَةٌ مُسْكِرَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْكَلِمِ الْجَوَامِعِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
فَصْلٌ :
وَمِنْ الْحُدُودِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ حَدُّ الْقَذْفِ فَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ مُحْصَنًا بِالزِّنَا أَوْ اللِّوَاطِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَالْمُحْصَنُ هُنَا : هُوَ الْحُرُّ الْعَفِيفُ وَفِي بَابِ حَدِّ الزِّنَا هُوَ الَّذِي وَطِئَ وَطْئًا كَامِلًا فِي نِكَاحٍ تَامٍّ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَلَا كَفَّارَةٌ كَاَلَّذِي يُقَبِّلُ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ أَوْ يُبَاشِرُ بِلَا جِمَاعٍ أَوْ يَأْكُلُ مَا لَا يَحِلُّ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ أَوْ يَقْذِفُ النَّاسَ بِغَيْرِ الزِّنَا أَوْ يَسْرِقُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَلَوْ شَيْئًا يَسِيرًا أَوْ يَخُونُ أَمَانَتَهُ كَوُلَاةِ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ الْوُقُوفِ وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا خَانُوا فِيهَا وَكَالْوُكَلَاءِ وَالشُّرَكَاءِ إذَا خَانُوا أَوْ يَغُشُّ فِي مُعَامَلَتِهِ كَاَلَّذِينَ يَغُشُّونَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ يُطَفِّفُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ أَوْ يَشْهَدُ بِالزُّورِ أَوْ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ أَوْ يَرْتَشِي فِي حُكْمِهِ أَوْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَوْ يَعْتَدِي عَلَى رَعِيَّتِهِ أَوْ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوْ يُلَبِّي دَاعِيَ الْجَاهِلِيَّةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ : فَهَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ تَعْزِيرًا وَتَنْكِيلًا وَتَأْدِيبًا بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْوَالِي عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي النَّاسِ وَقِلَّتِهِ . فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا زَادَ فِي الْعُقُوبَةِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَلِيلًا . وَعَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ ؛ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُدْمِنِينَ عَلَى الْفُجُورِ زِيدَ فِي عُقُوبَتِهِ ؛ بِخِلَافِ الْمُقِلِّ مِنْ ذَلِكَ . وَعَلَى حَسَبِ كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ ؛ فَيُعَاقِبُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِنِسَاءِ النَّاسِ وَأَوْلَادِهِمْ بِمَا لَا يُعَاقَبُ مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَّا لِمَرْأَةِ
وَاحِدَةٍ أَوْ صَبِيٍّ وَاحِدٍ . وَلَيْسَ لِأَقَلِّ التَّعْزِيرِ حَدٌّ ؛ بَلْ هُوَ بِكُلِّ مَا فِيهِ إيلَامِ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ وَتَرْكِ قَوْلٍ وَتَرْكِ فِعْلٍ فَقَدْ يُعَزَّرُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَالْإِغْلَاظِ لَهُ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِهَجْرِهِ وَتَرْكِ السَّلَامَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتُوبَ إذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ " الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا " وَقَدْ يُعَزَّرُ بِعَزْلِهِ عَنْ وِلَايَتِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُعَزِّرُونَ بِذَلِكَ ؛ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَرْكِ اسْتِخْدَامِهِ فِي جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ كَالْجُنْدِيِّ الْمُقَاتِلِ إذَا فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ ؛ فَإِنَّ الْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَطْعَ أَجْرِهِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا فَعَلَ مَا يُسْتَعْظَمُ فَعَزَلَهُ عَنْ إمَارَتِهِ تَعْزِيرًا لَهُ وَكَذَلِكَ قَدْ يُعَزَّرُ بِالْحَبْسِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَسْوِيدِ وَجْهِهِ وَإِرْكَابِهِ عَلَى دَابَّةٍ مَقْلُوبًا ؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ فَإِنَّ الْكَاذِبَ سَوَّدَ الْوَجْهَ فَسَوَّدَ وَجْهَهُ وَقَلَبَ الْحَدِيثَ فَقَلَبَ رُكُوبَهُ . وَأَمَّا أَعْلَاهُ ؛ فَقَدْ قِيلَ : " لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ " . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يَبْلُغُ بِهِ الْحَدَّ . ثُمَّ هُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : " لَا يَبْلُغُ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ " : لَا يَبْلُغُ بِالْحُرِّ أَدْنَى حُدُودِ الْحُرِّ وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ أَوْ الثَّمَانُونَ وَلَا يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ أَدْنَى حُدُودِ الْعَبْدِ وَهِيَ
الْعِشْرُونَ أَوْ الْأَرْبَعُونَ . وَقِيلَ ؛ بَلْ لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ مِنْهُمَا حَدَّ الْعَبْدِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَبْلُغُ بِكُلِّ ذَنْبٍ حَدَّ جِنْسِهِ وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ جِنْسٍ آخَرَ فَلَا يَبْلُغُ بِالسَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ قَطْعَ الْيَدِ وَإِنْ ضُرِبَ أَكْثَرَ مَنْ حَدِّ الْقَاذِفِ وَلَا يَبْلُغُ بِمَنْ فَعَلَ مَا دُونَ الزِّنَا حَدَّ الزَّانِي وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ وَأَخَذَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةَ ضَرْبَةٍ ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَة ضَرْبَةٍ . وَرُوِيَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُجِدَا فِي لِحَافٍ : " يُضْرَبَانِ مِائَةً " . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَأْتِي جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ : إنْ كَانَتْ أَحَلَّتْهَا لَهُ جُلِدَ مِائَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَلَّتْهَا لَهُ : رُجِمَ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فَحُكِيَ عَنْهُ : أَنَّ مِنْ الْجَرَائِمِ مَا يَبْلُغُ بِهِ الْقَتْلَ . وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد فِي مِثْلِ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ إذَا تَجَسَّسَ لِلْعَدُوِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَحْمَد تَوَقَّفَ فِي قَتْلِهِ وَجَوَّزَ مَالِكٌ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ - كَابْنِ عَقِيلٍ - قَتْلَهُ وَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى .