الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
أَشْبَاهُ النَّصَارَى دَخَلُوا فِي هَذَا وَهَذَا أُولَئِكَ مَثَّلُوا الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَوَصَفُوهُ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ : كَالْفَقْرِ وَالْبُخْلِ وَهَؤُلَاءِ مَثَّلُوا الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ فَوَصَفُوهُ بِخَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَتْهُ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ بَلْ يُثْبِتُونَ لَهُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْ الْأَكْفَاءِ وَالْأَمْثَالِ فَلَا يُعَطِّلُونَ الصِّفَاتِ وَلَا يُمَثِّلُونَهَا بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ فَإِنَّ الْمُعَطِّلَ يَعْبُدُ عَدَمًا وَالْمُمَثِّلَ يَعْبُدُ صَنَمًا وَاَللَّهُ تَعَالَى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ وَإِذَا بَلَّغَهُ الْمُبَلِّغُونَ تَخْتَلِفُ أَصْوَاتُهُمْ بِهِ فَإِذَا أَنْشَدَ الْمُنْشِدُ قَوْلَ لَبِيدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ كَانَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامَ لَبِيَدِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مَعَ أَنَّ أَصْوَاتَ الْمُنْشِدِينَ لَهُ تَخْتَلِفُ وَتِلْكَ الْأَصْوَاتُ لَيْسَتْ صَوْتَ لَبِيَدِ : وَكَذَلِكَ مَنْ رَوَى حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِهِ كَقَوْلِهِ : " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } كَانَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَيُقَالُ لِمَنْ رَوَاهُ : أَدَّى الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ
وَإِنْ كَانَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ الرَّسُولِ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَإِذَا قَرَأَهُ الْقُرَّاءُ فَإِنَّمَا يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ . وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : مَنْ قَالَ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ أَوْ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ : مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ يَعْنِي بِهِ الْقُرْآنَ فَهُوَ جهمي ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَمُسَمَّى هَذَا فِعْلُ الْعَبْدِ وَفِعْلُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ وَيُرَادُ بِاللَّفْظِ الْقَوْلُ الَّذِي يَلْفِظُ بِهِ اللَّافِظُ وَذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ الْقَارِئِ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَإِنَّ هَذَا الَّذِي يَقْرَءُوهُ الْمُسْلِمُونَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ .
وَأَمَّا صَوْتُ الْعَبْدِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَقَدْ صَرَّحَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ صَوْتُ الْعَبْدِ وَلَمْ يَقُلْ أَحْمَد قَطُّ : مَنْ قَالَ إنَّ صَوْتِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَإِنَّمَا قَالَ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ لَفْظِ الْكَلَامِ وَصَوْتِ الْمُبَلِّغِ لَهُ فَرْقٌ وَاضِحٌ فَكُلُّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ بِلَفْظِ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَإِنَّمَا بَلَّغَ لَفْظَ ذَلِكَ الْغَيْرِ لَا لَفْظَ نَفْسِهِ وَهُوَ إنَّمَا بَلَّغَهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَنَفْسُ اللَّفْظِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ حَرَكَاتُ
الْعِبَادِ وَمَا يَحْدُثُ عَنْهَا مِنْ أَصْوَاتِهِمْ وَشَكْلِ الْمِدَادِ وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ التَّالِي وَيَتْلُوهُ وَيَلْفِظُ بِهِ وَيَكْتُبُهُ مَنَعَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ إطْلَاقِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ الَّذِي يَقْتَضِي جَعْلَ صِفَاتِ اللَّهِ مَخْلُوقَةً أَوْ جَعْلَ صِفَاتِ الْعِبَادِ وَمِدَادَهُمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ . وَقَالَ أَحْمَد : نَقُولُ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَيْثُ تَصَرَّفَ : أَيْ حَيْثُ تُلِيَ وَكُتِبَ وَقُرِئَ مِمَّا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ كَلَامُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادِ وَأَفْعَالِهِمْ الَّتِي يَقْرَؤُونَ وَيَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُ كَأَصْوَاتِهِمْ وَمِدَادِهِمْ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَلِهَذَا مَنْ لَمْ يَهْتَدِ إلَى هَذَا الْفَرْقِ يَحَارُ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ وَاحِدٌ وَيَقْرَؤُهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَالْقُرْآنُ لَا يَكْثُرُ فِي نَفْسِهِ بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ الْقُرَّاءِ وَإِنَّمَا يَكْثُرُ مَا يَقْرَءُونَ بِهِ الْقُرْآنَ فَمَا يَكْثُرُ وَيَحْدُثُ فِي الْعِبَادِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَسَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَسَمِعَهُ مُحَمَّدُ مِنْ جِبْرِيلَ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ إلَى النَّاسِ وَأَنْذَرَ بِهِ الْأُمَمَ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } قُرْآنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا هُوَ وَاحِدٌ بِالنَّوْعِ مُتَعَدِّدُ الْأَعْيَانِ كالإنسانية الْمَوْجُودَةِ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَلَا مِنْ بَابِ مَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ مِثْلَ قَوْلِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } فَإِنَّ
الْقُرْآنَ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } فَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ إذَا اجْتَمَعُوا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ مَعَ قُدْرَةِ كُلِّ قَارِئٍ عَلَى أَنْ يَقْرَأَهُ وَيُبَلِّغَهُ . فَعُلِمَ أَنَّ مَا قَرَأَهُ هُوَ الْقُرْآنُ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَأَمَّا الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْقُرْآنِ إذَا وُجِدَ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ هَذَا هُوَ ذَاكَ بِعَيْنِهِ بَلْ هُوَ نَظِيرُهُ وَإِذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِاسْمِ مِنْ الْأَسْمَاءِ : كَآدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَتَكَلَّمَ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا فَإِذَا قُرِئَتْ فِي كَلَامِهِ فَقَدْ بُلِّغَ كَلَامُهُ فَإِذَا أَنْشَأَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ كَلَامًا لَمْ يَكُنْ عَيْنَ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ هُوَ عَيْنُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الْعَبْدُ حَتَّى يُقَالَ : إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَالْحُرُوفَ الْمَوْجُودَةَ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ؛ فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ قَالَ إنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَسْمَاءَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فِي كَلَامِ الْعِبَادِ ادَّعَى أَنَّ الْمَخْلُوقَ إنَّمَا هُوَ النَّظْمُ وَالتَّأْلِيفُ دُونَ الْمُفْرَدَاتِ وَقَائِلُ هَذَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا النَّظْمُ وَالتَّأْلِيفُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ إذَا وُجِدَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ } وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ شَخْصًا اسْمُهُ يَحْيَى وَكِتَابًا بِحَضْرَتِهِ . ( فَإِنْ قِيلَ يَحْيَى هَذَا وَالْكِتَابُ الْحَاضِرُ لَيْسَ هُوَ يَحْيَى وَالْكِتَابُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ نَظِيرَ اللَّفْظِ قِيلَ كَذَلِكَ
سَائِرُ الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ إنَّمَا يُوجَدُ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ الْعِبَادِ لَا فِي كَلَامِ اللَّهِ . وَقَوْلُنَا يُوجَدُ نَظِيرُهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَقْرِيبٌ أَيْ يُوجَدُ فِيمَا نَقْرَؤُهُ وَنَتْلُوهُ فَإِنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ لَفْظِ مُحَمَّدٌ وَيَحْيَى وَإِبْرَاهِيمُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ مِثْلُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ وَكِلَا الصَّوْتَيْنِ مَخْلُوقٌ . وَأَمَّا الصَّوْتُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ فَلَا مِثْلَ لَهُ لَا يُمَاثِلُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَكَلَامُ اللَّهِ هُوَ كَلَامُهُ بِنَظْمِهِ وَنَثْرِهِ وَمَعَانِيهِ . وَذَلِكَ الْكَلَامُ لَيْسَ مِثْلَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ . فَإِذَا قُلْنَا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقُصِدَ بِذَلِكَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ فَذَلِكَ الْقُرْآنُ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ لَا يُمَاثِلُ لَفْظَ الْمَخْلُوقِينَ وَمَعْنَاهُمْ وَأَمَّا إذَا قَصَدْنَا بِهِ الذِّكْرَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ نَقْصِدَ قِرَاءَةَ كَلَامِ اللَّهِ فَإِنَّمَا نَقْصِدُ ذِكْرًا نُنْشِئُهُ نَحْنُ يَقُومُ مَعْنَاهُ بِقُلُوبِنَا وَنَنْطِقُ بِلَفْظِهِ بِأَلْسِنَتِنَا وَمَا أَنْشَأْنَاهُ مِنْ الذِّكْرِ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَفْضَلَ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ فَجَعَلَ دَرَجَتَهَا دُونَ دَرَجَةِ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ . ثُمَّ قَالَ : " { هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ } وَكِلَا قَوْلَيْهِ حَقٌّ وَصَوَابٌ ؛ وَلِهَذَا مَنَعَ أَحْمَد أَنْ يُقَالَ : الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ .
وَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ . وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا يُقَالُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ وَلَا يُقَالُ فِي الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي يَرْوِيهَا عَنْ رَبِّهِ إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ كَقَوْلِهِ : " { يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا } فَكَلَامُ اللَّهِ قَدْ يَكُونُ قُرْآنًا وَقَدْ لَا يَكُونُ قُرْآنًا وَالصَّلَاةُ إنَّمَا تَجُوزُ وَتَصِحُّ بِالْقُرْآنِ . وَكَلَامُ اللَّهِ كُلُّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . فَإِذَا فُهِمَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذَا فَلْيُفْهَمْ فِي نَظَائِرِهِ وَأَنَّ مَا يُوجَدُ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَيُوجَدُ فِي غَيْرِ كَلَامِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ وَيُقَالُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ وَغَيْرِ الْقُرْآنِ بِاعْتِبَارِ لَكِنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْقُرْآنُ وَغَيْرُ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ . فَمَا كَانَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا كَانَ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ عَلَى نَفْيِ الْخَلْقِ أَوْ إثْبَاتِ الْقِدَمِ بِشَيْءِ مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادِ وَأَعْمَالِهِمْ لِوُجُودِ نَظِيرِ ذَلِكَ فِيمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ وَكَلَامُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ شَارَكَهُمْ فِي هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ مَنْ احْتَجَّ عَلَى خَلْقِ مَا هُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِيمَا يُضَافُ إلَى الْعَبْدِ . مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ قَرَءُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ فَقَالَ الجهمي أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُهُمْ مَخْلُوقَةٌ وَهَذَا
هُوَ الْمُسَمَّى بِكَلَامِ اللَّهِ أَوْ يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِي الْمُسَمَّى بِكَلَامِ اللَّهِ فَيَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا . وَقَالَ الْحُلُولِيُّ الِاتِّحَادِيُّ الَّذِي يَجْعَلُ صِفَةَ الْخَالِقِ هِيَ عَيْنَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي : نَسْمَعُهُ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا نَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ فَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالْحُرُوفُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ثُمَّ قَالُوا : الْحُرُوفُ الْمَوْجُودَةُ فِي كَلَامِهِمْ هِيَ هَذِهِ أَوْ مِثْلُ هَذِهِ فَتَكُونُ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ . وَزَادَ بَعْضُ غُلَاتِهِمْ فَجَعَلَ أَصْوَاتَ كَلَامِهِمْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ كَمَا زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْأَعْمَالُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَعْمَالَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَقَالَ : هِيَ الْقَدَرُ وَالشَّرْعُ الْمَشْرُوعُ [ وَقَالَ عُمَرُ : مَا مُرَادُنَا بِالْأَعْمَالِ الْحَرَكَاتُ بَلْ الثَّوَابُ الَّذِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { أَنَّهُ تَأْتِي الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ الطَّيْرِ صَوَافُّ } فَيُقَالُ لَهُ : وَهَذَا الثَّوَابُ مَخْلُوقٌ . وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ] (*) وَبِذَلِكَ أَجَابُوا مَنْ احْتَجَّ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالُوا لَهُ : الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ ثَوَابُ الْقُرْآنِ لَا نَفْسُ الْقُرْآنِ وَثَوَابُ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي ابْتَدَعَهَا طَوَائِفُ وَالْبِدَعُ تَنْشَأُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَهُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ وَافَقَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ قَوْلَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَقَوْلَ الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَلَكِنْ لَمَّا اُمْتُحِنَ النَّاسُ بِمِحْنَةِ الْجَهْمِيَّة وَطُلِبَ مِنْهُمْ تَعْطِيلُ الصِّفَاتِ وَأَنْ يَقُولُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ثَبَّتَ اللَّهُ الْإِمَامَ أَحْمَد فِي تِلْكَ الْمِحْنَةِ ؛ فَدَفَعَ حُجَجَ الْمُعَارِضِينَ الْنُّفَاةِ وَأَظْهَرَ دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا عَلَى الْإِثْبَاتِ فَآتَاهُ اللَّهُ مِنْ الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ مَا صَارَ بِهِ إمَامًا لِلْمُتَّقِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } وَلِهَذَا قِيلَ فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الدُّنْيَا مَا كَانَ أَصْبَرَهُ وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشْبَهَهُ . أَتَتْهُ الْبِدَعُ فَنَفَاهَا وَالدُّنْيَا فَأَبَاهَا فَلَمَّا ظَهَرَ بِهِ مِنْ السُّنَّةِ مَا ظَهَرَ كَانَ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي بَيَانِهَا وَإِظْهَارِهَا أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِمَّا لِغَيْرِهِ فَصَارَ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ عَامَّةِ الطَّوَائِفِ يُعَظِّمُونَهُ وَيَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ . وَقَدْ ذَكَرْت كَلَامَهُ وَكَلَامَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَنُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنَّهُ مُوَافِقٍ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَأَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ
النَّقْلَ الصَّحِيحَ وَلَكِنْ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَغْلَطُونَ إمَّا فِي هَذَا وَإِمَّا فِي هَذَا فَمَنْ عَرَفَ قَوْلَ الرَّسُولِ وَمُرَادَهُ بِهِ كَانَ عَارِفًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ فِي الْمَعْقُولِ مَا يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ عَلَى مَا قَالَهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ : مَعْرِفَةُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهُ فِيهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ حِفْظِهِ أَيْ " مَعْرِفَتُهُ " بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَسَقِيمِهِ . " وَالْفِقْهُ فِيهِ " مَعْرِفَةُ مُرَادِ الرَّسُولِ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ والفروعية أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يُحْفَظَ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَفِقْهٍ . وَهَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ مَنْ احْتَجَّ بِلَفْظِ لَيْسَ بِثَابِتِ عَنْ الرَّسُولِ أَوْ بِلَفْظِ ثَابِتٍ عَنْ الرَّسُولِ وَحَمَلَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا أُتِيَ مِنْ نَفْسِهِ .
وَكَذَلِكَ " الْعَقْلِيَّاتُ الصَّرِيحَةُ " إذَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهَا وَتَرْتِيبُهَا صَحِيحًا لَمْ تَكُنْ إلَّا حَقًّا لَا تُنَاقِضُ شَيْئًا مِمَّا قَالَهُ الرَّسُولُ وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ الصَّانِعُ وَتَوْحِيدُهُ وَصِفَاتُهُ وَصِدْقُ رُسُلِهِ وَبِهَا يُعْرَفُ إمْكَانُ الْمَعَادِ . فَفِي الْقُرْآنِ مِنْ بَيَانِ أُصُولِ الدِّينِ الَّتِي تُعْلَمُ مُقَدَّمَاتُهَا بِالْعَقْلِ الصَّرِيحِ مَا لَا يُوجَدُ مَثَلُهُ فِي كَلَام أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ بَلْ عَامَّةُ مَا يَأْتِي بِهِ حُذَّاقُ النُّظَّارِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ يَأْتِي الْقُرْآنُ بِخُلَاصَتِهَا وَبِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } وَقَالَ : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ } وَقَالَ : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
وَأَمَّا الْحُجَجُ الدَّاحِضَةُ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْمَلَاحِدَةُ وَحُجَجُ الْجَهْمِيَّة مُعَطِّلَةِ الصِّفَاتِ وَحُجَجُ الدَّهْرِيَّةِ وَأَمْثَالُهَا كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ يُصَنِّفُونَ فِي الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ وَأَقْوَالِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا عَقْلِيَّاتٌ فَفِيهَا مِنْ الْجَهْلِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْعِبَادِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ تَقْصِيرُ الطَّائِفَتَيْنِ أَوْ قُصُورُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَمَعْرِفَةِ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْكِتَابُ وَهَذَا هُوَ الْمِيزَانُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ ؛ إذْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَنَازِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ ثُمَّ تَفَرَّقُوا فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا عَيْنَ صِفَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ هِيَ عَيْنَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ . ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ : وَصِفَةُ الْمَخْلُوقِ مَخْلُوقَةٌ فَصِفَةُ الرَّبِّ مَخْلُوقَةٌ فَقَالَ هَؤُلَاءِ : صِفَةُ الرَّبِّ قَدِيمَةٌ فَصِفَةُ الْمَخْلُوقِ قَدِيمَةٌ ثُمَّ احْتَاجَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى طَرْدِ أَصْلِهِ فَخَرَجُوا إلَى أَقْوَالٍ ظَاهِرَةِ الْفَسَادِ : خَرَجَ الْنُّفَاةِ إلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ وَلَا بِشَيْءِ مِنْ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ : لَا التَّوْرَاةِ وَلَا الْإِنْجِيلِ وَلَا غَيْرِهِمَا وَأَنَّهُ لَمْ
يُنَادِ مُوسَى بِنَفْسِهِ نِدَاءً يَسْمَعُهُ مِنْهُ مُوسَى وَلَا تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَلَا التَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ وَخَرَجَ هَؤُلَاءِ إلَى أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْعِبَادِ وَيَتَّصِفُونَ بِهِ يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا وَأَنَّ مَا يَقُومُ بِهِمْ وَيَتَّصِفُونَ بِهِ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِهِمْ حَالًّا فِيهِمْ بَلْ يَكُونُ ظَاهِرًا عَنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ بِهِمْ .
وَلَمَّا تَكَلَّمُوا فِي " حُرُوفِ الْمُعْجَمِ " صَارُوا بَيْنَ قَوْلَيْنِ : طَائِفَةٌ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَقَالَتْ الْحَرْفُ حَرْفَانِ هَذَا قَدِيمٌ وَهَذَا مَخْلُوقٌ كَمَا قَالَ ابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ الْأَكْثَرُونَ وَقَالُوا هَذَا مُخَالَفَةٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْحَرْفِ هِيَ حَقِيقَةُ هَذَا الْحَرْفِ وَقَالُوا الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ . وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ البرزبيني مُصَنَّفًا خَالَفَ بِهِ شَيْخَهُ الْقَاضِيَ أَبَا يَعْلَى مَعَ قَوْلِهِ فِي مُصَنَّفِهِ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَا سَطَّرْته فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَفَدْته وَتَفَرَّعَ عِنْدِي مِنْ شَيْخِنَا وَإِمَامِنَا الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى بْنِ الْفَرَّاءِ وَإِنْ كَانَ قَدْ نَصَرَ خِلَافَ مَا ذَكَرْته فِي هَذَا الْبَابِ فَهُوَ الْعَالِمُ الْمُقْتَدَى بِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ فَإِنِّي مَا رَأَيْت أَحْسَنَ سَمْتًا مِنْهُ وَلَا أَكْثَرَ اجْتِهَادًا مِنْهُ وَلَا تَشَاغُلًا بِالْعِلْمِ مَعَ كَثْرَةِ الْعِلْمِ وَالصِّيَانَةِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ النَّاسِ وَالزَّهَادَةِ فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ وَالْقَنَاعَةِ فِي الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ مَعَ حُسْنِ التَّجَمُّلِ وَعِظَمِ حِشْمَتِهِ عِنْدَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَلَمْ يَعْدِلْ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ شَيْئًا مِنْ نَفَرِ مِنْ الدُّنْيَا .
وَذَكَرَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّ مَا قَالَهُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَد بْنِ الْمُسَيِّبِ الطبري وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ طبرستان وَأَنَّهُ سَمِعَ الْفَقِيهَ عَبْدَ الْوَهَّابِ بْنَ حَلَبَة قَاضِي حَرَّانَ يَقُولُ : هُوَ مَذْهَبُ الْعَلَوِيِّ الْحَرَّانِي وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ . وَذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ طبرستان مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى مَذْهَبِنَا : كَأَبِي مُحَمَّدٍ الكشفل وَإِسْمَاعِيلَ الكاوذري فِي خَلْقٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ يَقُولُونَ إنَّهَا قَدِيمَةٌ قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى : وَكَذَلِكَ حُكِيَ لِي عَنْ طَائِفَةٍ بِالشَّامِ أَنَّهَا تَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ النَّابْلُسِيّ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ أَنَّ أَبَاهُ رَجَعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إلَى هَذَا . وَذَكَرُوهُ عَنْ الشَّرِيفِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى وَتَبِعَهُمْ فِي ذَلِكَ الشَّيْخِ أَبُو الْفَرَجِ المقدسي وَابْنُهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَسَائِر أَتْبَاعِهِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِي وَأَمْثَالُهُ . وَذَكَرَ الْقَاضِي يَعْقُوبُ أَنَّ كَلَامَ أَحْمَد يَحْتَمِلُ الْقَوْلَيْنِ . وَهَؤُلَاءِ تَعَلَّقُوا بِقَوْلِ أَحْمَد لَمَّا قِيلَ لَهُ إنَّ سَرِيًّا السقطي قَالَ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَحْرُفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ . فَقَالَ أَحْمَد هَذَا كُفْرٌ . وَهَؤُلَاءِ تَعَلَّقُوا مِنْ قَوْلِ أَحْمَد بِقَوْلِهِ : كُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى لِسَانِ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَبِقَوْلِهِ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا تَمَّتْ صَلَاتُهُ بِالْقُرْآنِ كَمَا لَا تَتِمُّ بِغَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ . وَبِقَوْلِ أَحْمَد
لَأَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيِّ : أَلَسْت مَخْلُوقًا ؟ قَالَ بَلَى قَالَ أَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْك مَخْلُوقًا ؟ قَالَ بَلَى قَالَ فَكَلَامُك مِنْك وَهُوَ مَخْلُوقٌ .
قُلْت الَّذِي قَالَهُ أَحْمَد فِي هَذَا الْبَابِ صَوَابٌ يُصَدِّقُ بَعْضَهُ بَعْضًا وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ تَنَاقُضٌ وَهُوَ أَنْكَرَهُ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْحُرُوفَ ؛ فَإِنَّ مَنْ قَالَ إنَّ الْحُرُوفَ مَخْلُوقَةٌ كَانَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ : أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِقُرْآنِ عَرَبِيٍّ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مَخْلُوقٌ وَنَصَّ أَحْمَد أَيْضًا عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ وَلَمْ يَجْعَلْ شَيْئًا مِنْهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ وَالسَّرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ بَكْرِ بْنِ خنيس الْعَابِدِ فَكَانَ مَقْصُودُهُمَا بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِي لَا يَعْبُدُ اللَّهَ إلَّا بِأَمْرِهِ هُوَ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَعْبُدُهُ بِرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ وَاسْتَشْهَدَا عَلَى ذَلِكَ بِمَا بَلَغَهُمَا " { أَنَّهُ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْحُرُوفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ } وَهَذَا الْأَثَرُ لَا يَقُومُ بِمِثْلِهِ حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ وَلَكِنَّ مَقْصُودَهُمَا ضَرْبُ الْمَثَلِ أَنَّ الْأَلِفَ مُنْتَصِبَةٌ فِي الْخَطِّ لَيْسَتْ هِيَ مُضْطَجِعَةً كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى يُؤْمَرَ أَكْمَلُ مِمَّنْ فَعَلَ بِغَيْرِ أَمْرٍ . وَأَحْمَد أَنْكَرَ قَوْلَ الْقَائِلِ إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْحُرُوفَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَالَ إنَّ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي لِأَنَّهُ سَلَكَ طَرِيقًا إلَى الْبِدْعَةِ وَمَنْ قَالَ إنْ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ . وَأَحْمَد قَدْ صَرَّحَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا
شَاءَ وَصَرَّحَ أَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَكِنْ أَتْبَاعُ ابْنِ كُلَّابٍ كَالْقَاضِي وَغَيْرِهِ تَأَوَّلُوا كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إذَا شَاءَ الْإِسْمَاعَ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَصَرَّحَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ كَالْقُرْآنِ أَوْ نِدَائِهِ لِمُوسَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ الْمُعَيَّنِ أَنَّهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَإِنَّ اللَّهَ قَامَتْ بِهِ حُرُوفٌ مُعَيَّنَةٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ أَحْمَد وَلَا غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ كَلَامُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرِيحٌ فِي نَقِيضِ هَذَا وَأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِنَّهُ مِنْهُ بَدَأَ ؛ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ ابْتَدَأَ مِنْ غَيْرِهِ وَنُصُوصُهُمْ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْكُتُبِ الثَّابِتَةِ عَنْهُمْ مِثْلِ مَا صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَغَيْرِهِ وَمَا صَنَّفَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَمَا صَنَّفَهُ أَصْحَابُهُ وَأَصْحَابُ أَصْحَابِهِ : كَابْنَيْهِ صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَحَنْبَلٍ وَأَبِي دَاوُد السجستاني صَاحِبِ " السُّنَنِ " وَالْأَثْرَمِ والمروذي وَأَبِي زُرْعَةَ وَأَبِي حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَعَبْدِ الْوَهَّابِ الْوَرَّاقِ
وَعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيِّ وَحَرْبِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الكرماني وَمَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَأَصْحَابِ أَصْحَابِهِ مِمَّنْ جَمَعَ كَلَامَهُ وَأَخْبَارَهُ : كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَأَبِي الْحَسَنِ البناني الأصبهاني وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَمَنْ كَانَ أَيْضًا يَأْتَمُّ بِهِ وَبِأَمْثَالِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ : كَأَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ صَاحِبِ الْجَامِعِ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِي وَأَمْثَالِهِمَا وَمَثَلُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ قُتَيْبَةَ وَأَمْثَالِهِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " الْمَسَائِلِ الطبرستانية " وَ " الكيلانية " بَسْطَ مَذَاهِبِ النَّاسِ وَكَيْفَ تَشَعَّبَتْ وَتَفَرَّعَتْ فِي هَذَا الْأَصْلِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ كَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ وَيَقُولُ إنَّهُ مُتَّبِعٌ لَهُمْ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ أُصُولَ الدِّينِ وَلَا تَقْرِيرَهَا بِالدَّلَائِلِ الْبُرْهَانِيَّةِ وَذَلِكَ لِجَهْلِهِ بِعِلْمِهِمْ ؛ بَلْ لِجَهْلِهِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ مَعَ السَّمْعِيَّةِ ؛ فَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَشْتَرِكُونَ فِي أَصْلٍ فَاسِدٍ ثُمَّ يُفَرِّعُ كُلُّ قَوْمٍ عَلَيْهِ فُرُوعًا فَاسِدَةً يَلْتَزِمُونَهَا كَمَا صَرَّحُوا فِي تَكَلُّمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَبِالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ وَمَا فِيهِمَا مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ مُؤَلَّفًا أَوْ مُفْرَدًا لَمَّا رَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ بَلَغَ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ اشْتَبَهَ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَلَمْ يَهْتَدُوا لِمَوْضِعِ
الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ فَقَالَ هَؤُلَاءِ : هَذَا الَّذِي يُقْرَأُ وَيُسْمَعُ مِثْلَ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ . وَقَالَ هَؤُلَاءِ : هَذَا الَّذِي مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ هُوَ مِثْلُ كَلَامِ اللَّهُ فَيَكُونُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي " كِتَابِ الْإِرْشَادِ " عَنْ بَعْضِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَالَ : شُبْهَةٌ اُعْتُرِضَ بِهَا عَلَى بَعْضِ أَئِمَّتِهِمْ فَقَالَ : أَقَلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَمَارَاتِ الْحَدَثِ كَوْنُهُ مُشْبِهًا لِكَلَامِنَا وَالْقَدِيمُ لَا يُشْبِهُ الْمُحْدَثِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغُلَامِهِ يَحْيَى : يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ يُضَاهِي قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ حَتَّى لَا يُمَيِّزُ السَّامِعُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ حِسُّهُ إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ أَحَدُهُمَا بِقَصْدِهِ وَالْآخِرُ بِقَصْدِهِ فَيُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا بِخَبَرِ الْقَائِلِ لَا بِحِسِّهِ وَإِذَا اشْتَبَهَا إلَى هَذَا الْحَدِّ فَكَيْفَ يَجُوزُ دَعْوَى قِدَمِ مَا يُشَابِهُ الْمُحْدَثَ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ مَعَ أَنَّهُ إنْ جَازَ دَعْوَى قِدَمِ الْكَلَامِ مَعَ كَوْنِهِ مُشَاهِدًا لِلْمُحْدَثِ جَازَ دَعْوَى التَّشْبِيهِ بِظَوَاهِرِ الْآيِ وَالْأَخْبَارِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا فَزِعْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ إلَى نَفْيِ التَّشْبِيهِ خَوْفًا مِنْ جَوَابِ دُخُولِ الْقُرْآنِ بِالْحَدَثِ عَلَيْنَا كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَفْزَعُوا مِنْ الْقَوْلِ بِالْقِدَمِ مَعَ وُجُودِ الشَّبَهِ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِكُمْ يَقُولُ لِقُوَّةِ مَا رَأَى مِنْ الشَّبَهِ بَيْنَهُمَا إنَّ الْكَلَامَ وَاحِدٌ وَالْحُرُوفُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ إنَّهُ قَدِيمٌ مُحْدَثٌ .
قُلْت : وَهَذَا الَّذِي حَكَى عَنْهُ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ الْمَذْكُورِينَ مِنْهُمْ الْقَاضِي يَعْقُوبُ البرزبيني ذَكَرَهُ فِي مُصَنَّفِهِ فَقَالَ : دَلِيلٌ عَاشِرٌ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ بِعَيْنِهَا وَصِفَتِهَا وَمَعْنَاهَا وَفَائِدَتِهَا هِيَ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَالْكِتَابُ بِحُرُوفِهِ قَدِيمٌ ؛ وَكَذَلِكَ هَاهُنَا . قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تِلْكَ لَهَا حُرْمَةٌ وَهَذِهِ لَا حُرْمَةَ لَهَا قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ بَلْ لَهَا حُرْمَةٌ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ لَهَا حُرْمَةٌ لَوَجَبَ أَنْ تُمْنَعَ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ مِنْ مَسِّهَا وَقِرَاءَتِهَا قِيلَ : قَدْ لَا تُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهَا وَمَسِّهَا وَيَكُونُ لَهَا حُرْمَةٌ كَبَعْضِ آيَةٍ لَا تُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَتِهَا وَلَهَا حُرْمَةٌ وَهِيَ قَدِيمَةٌ وَإِنَّمَا لَمْ تُمْنَعْ مِنْ قِرَاءَتِهَا وَمَسِّهَا لِلْحَاجَةِ إلَى تَعْلِيمِهَا كَمَا يُقَالُ فِي الصَّبِيِّ يَجُوزُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طِهَارَةٍ لِلْحَاجَةِ إلَى تَعْلِيمِهِ . فَإِنْ قِيلَ : فَيَجِبُ إذَا حَلَفَ بِهَا حَالِفٌ أَنْ تَنْعَقِدَ يَمِينُهُ وَإِذَا خَالَفَ يَمِينَهُ أَنْ يَحْنَثَ قِيلَ لَهُ : كَمَا فِي حُرُوفِ الْقُرْآنِ مِثْلَهُ نَقُولُ هُنَا . فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ إذَا وَافَقَهَا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي دَلَّ عَلَى أَنَّهَا هِيَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلِمَةِ يَقْصِدُ بِهَا خِطَابَ آدَمِيٍّ فَوَافَقَ صِفَتُهَا صِفَةَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِثْلُ قَوْلِهِ يَا دَاوُد يَا نُوحُ يَا يَحْيَى وَغَيْرُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ وَإِنْ
كَانَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَدِيمَةً وَفِي خِطَابِ الْآدَمِيِّ مُحْدَثَةً ؟ . قِيلَ : كُلُّ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْكَلَامِ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَحُرُوفِهِ فَهُوَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ خِطَابَ آدَمِيٍّ . فَإِنْ قِيلَ : فَيَجِبُ إذَا أَرَادَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ آدَمِيًّا وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ . قِيلَ لَهُ : كَذَلِكَ نَقُولُ وَقَدْ وَرَدَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ ؛ إذْ نَادَاهُ رَجُلٌ مَنَّ الْخَوَارِجِ : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } قَالَ : فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } . وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ : { ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } . قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ إذَا قَالَ : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } وَنَوَى بِهِ خِطَابَ غُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى يَكُونُ الْخِطَابُ مَخْلُوقًا ؟ وَإِنْ نَوَى بِهِ الْقُرْآنَ يَكُونُ قَدِيمًا قِيلَ لَهُ : فِي كِلَا الْحَالَيْنِ يَكُونُ قَدِيمًا ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ عِبَارَةٌ عَمَّا كَانَ مَوْجُودًا فِيمَا لَمْ يَزَلْ وَالْمُحْدَثُ عِبَارَةٌ عَمَّا حَدَثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَالنِّيَّةُ لَا تَجْعَلُ الْمُحْدَثَ قَدِيمًا وَلَا الْقَدِيمَ مُحْدَثًا قَالَ : وَمَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ بَالَغَ فِي الْجَهْلِ وَالْخَطَأِ .
وَقَالَ أَيْضًا : كُلُّ شَيْءٍ يُشَبَّهُ بِشَيْءِ مَا فَإِنَّمَا يُشْبِهُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ وَلَا يُشْبِهُهُ مِنْ جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِثْلَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ كَانَ هُوَ لَا غَيْرُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ تُشْبِهُ حُرُوفَ الْقُرْآنِ فَهِيَ غَيْرُهَا. ا هـ .
قُلْت : هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي يَعْقُوبَ وَأَمْثَالِهِ مَعَ أَنَّهُ أَجَلُّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمَّا كَانَ جَوَابُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ وَالْعَقْلَ خَالَفَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَذْهَبِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ بِهِ .
وَأَجَابَ ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ سُؤَالِ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا مِثْلُ هَذَا بِأَنْ قَالَ : الِاشْتِرَاكُ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُدُوثِ كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا هُوَ تَبَيُّنُهُ لِلشَّيْءِ عَلَى أَصْلِكُمْ وَمَعْرِفَتُهُ بِهِ عَلَى قَوْلِنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَبَيَّنُهُ الْوَاحِدُ مِنَّا وَلَيْسَ مُمَاثِلًا لَنَا فِي كَوْنِنَا عَالِمِينَ . وَكَذَلِكَ كَوْنُهُ قَادِرًا هُوَ صِحَّةُ الْفِعْلِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَيْسَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَرْنَا عَلَيْهَا فَلَيْسَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحَقِيقَةِ حَاصِلًا وَالِافْتِرَاقُ فِي الْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ حَاصِلٌ . قَالَ : " وَجَوَابٌ آخَرُ " لَا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِهِ عَلَى
الْوَجْهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ زَيْدٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقُولُ : يَا يَحْيَى فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ انْتَقَلَ إلَى قَوْلِهِ خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةِ وَتَرَتَّبَ فِي الْوُجُودِ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ تَعْجِزُ عَنْ مَثَلِهِ أَدَوَاتُنَا . فَمَا ذَكَرْته مِنْ الِاشْتِبَاهِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ يَعُودُ إلَى اشْتِبَاهِ التِّلَاوَةِ بِالْكَلَامِ الْمُحْدَثِ فَأَمَّا أَنَّهُ يُشَابِهُ الْكَلَامَ الْقَائِمَ بِذَاتِهِ فَلَا . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : قَالُوا فَهَذَا لَا يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِكُمْ ؛ فَإِنَّ عِنْدَكُمْ التِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَالْقِرَاءَةُ هِيَ الْمَقْرُوءُ . قِيلَ : لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِنَا هِيَ الْمَتْلُوُّ أَنَّهَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ وَإِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْحُرُوفِ الْقَدِيمَةِ فِي الْأَصْوَاتِ الْمُحْدَثَةِ وَظُهُورُهَا فِي الْمُحْدَثِ لَا بُدَّ أَنْ يُكْسِبَهَا صِفَةَ التَّقْطِيعِ لِاخْتِلَافِ الْأَنْفَاسِ وَإِدَارَةِ اللَّهُوَّاتِ ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَيْهَا لَا تَحْمِلُ الْكَلَامَ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّقْطِيعِ وَكَلَامُ الْبَارِي قَائِمٌ بِذَاتِهِ عَلَى خِلَافِ هَذَا التَّقْطِيعِ وَالِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ وَالتَّكْرَارِ والبعدية والقبلية . وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَعْرِفْ حَدَّ الْقَدِيمِ وَادَّعَى قِدَمَ الْأَعْرَاضِ وَتَقَطُّعَ الْقَدِيمِ وَتَقَطُّعُ الْقَدِيمِ عَرَضٌ لَا يَقُومُ بِقَدِيمِ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْقَائِمَ بِذَاتِهِ عَلَى حَدِّ تِلَاوَةِ التَّالِي مِنْ الْقَطْعِ وَالْوَصْلِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّبْعِيدِ والبعدية والقبلية فَقَدْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ . وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ " { أَنَّ مُوسَى سَأَلَهُ بَنُو إسْرَائِيلَ كَيْفَ سَمِعْت كَلَامَ رَبِّك ؟ قَالَ كَالرَّعْدِ الَّذِي لَا يَتَرَجَّعُ } يَعْنِي يَنْقَطِعُ لِعَدَمِ قَطْعِ الْأَنْفَاسِ وَعَدَمِ الْأَنْفَاسِ وَالْآلَاتِ وَالشِّفَاهِ
وَاللُّهُوَاتِ وَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ وَتَوَهَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ التَّالِي أَوْ الْكَلَامُ الَّذِي قَامَ بِذَاتِهِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ التَّقْطِيعِ وَالْوَصْلِ وَالتَّقْرِيبِ وَالتَّبْعِيدِ : فَقَدْ حَكَمَ بِهِ مُحْدَثًا ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ هُوَ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ مِنْ صِفَافِ الْأَدَوَاتِ ا هـ .
قُلْت فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ أَقَلُّ خَطَأً مِمَّا قَالَهُ البرزبيني فَإِنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ بِكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ عَامِدًا لِغَيْرِ مَصْلَحَتِهَا عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ خِلَافَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي يَعْقُوبُ وَمَتَى قَصَدَ بِهِ التِّلَاوَةَ لَمْ تَبْطُلْ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التِّلَاوَةَ وَالْخِطَابَ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد لَا تَبْطُلُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ تَبْطُلُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ . وَمَا ذَكَرُوهُ عَنْ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ ؛ فَإِنَّ قَوْلَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ } هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَمْ يَقْصِدْ عَلِيٌّ أَنْ يَقُولَ لِلْخَارِجِيِّ : وَلَا يَسْتَخِفَّنك الْخَوَارِجُ ؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ أَنْ يُسْمِعَهُ الْآيَةَ وَأَنَّهُ عَامِلٌ بِهَا صَابِرٌ لَا يَسْتَخِفُّهُ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ وَابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ لَهُمْ وَهُوَ بِالْكُوفَةِ : { ادْخُلُوا مِصْرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِصْرَ بِلَا تَنْوِينٍ هِيَ مِصْرُ الْمَدِينَةُ وَهَذِهِ لَمْ تَكُنْ بِالْكُوفَةِ . وَابْنُ مَسْعُودٍ إنَّمَا كَانَ بِالْكُوفَةِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ تِلَاوَةَ الْآيَةِ وَقَصَدَ مَعَ
ذَلِكَ تَنْبِيهَ الْحَاضِرِينَ عَلَى الدُّخُولِ ؛ فَإِنَّهُمْ سَمِعُوا قَوْلَهُ اُدْخُلُوا فَعَلِمُوا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُمْ فِي الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ هُوَ تَلَا الْآيَةَ فَهَذَا هَذَا . وَأَمَّا جَوَابُ ابْنِ عَقِيلٍ فَبَنَاهُ عَلَى أَصْلِ ابْنِ كُلَّابٍ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ هُوَ وَشَيْخُهُ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي وَافَقُوا فِيهِ ابْنَ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ يَكُونُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ بِهِ عِنْدَهُمْ ؛ لِأَنَّهَا حَادِثَةٌ وَاَللَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ حَادِثٌ عِنْدَهُمْ ؛ وَلِهَذَا تَأَوَّلُوا النُّصُوصَ الْمُنَاقِضَةَ لِهَذَا الْأَصْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ سَيَرَى الْأَعْمَالَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ بَعْدَ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ } يَقْتَضِي أَنَّهُ نُودِيَ لَمَّا أَتَاهَا لَمْ يُنَادِ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ .
وَهَذَا الْأَصْلُ هُوَ مِمَّا أَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى ابْنِ كُلَّابٍ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى عَلَى الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِ الْحَارِثِ وَأَمَرَ أَحْمَد بِهَجْرِهِ وَهَجْرِ الْكُلَّابِيَة وَقَالَ : احْذَرُوا مِنْ حَارِثٍ الْآفَةُ كُلُّهَا مِنْ حَارِثٍ فَمَاتَ الْحَارِثُ وَمَا صَلَّى عَلَيْهِ إلَّا نَفَرٌ قَلِيلٌ بِسَبَبِ تَحْذِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد عَنْهُ مَعَ أَنَّ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ مَنْ وَافَقَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ الْحَارِثَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَأَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ صَاحِبُ " التَّعَرُّفُ لِمَذْهَبِ التَّصَوُّفِ " أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ الكلاباذي . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَافَقُوا ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَاخْتَلَفَ كَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَتَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَتَارَةً يَقُولُ بِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَقُومُ بِهِ الْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ وَيَقُولُ إنَّهُ قَامَ بِهِ أَبْصَارُ مُتَجَدِّدَةٌ حِينَ تَجَدُّدِ الْمَرْئِيَّاتِ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَامَ بِهِ عِلْمٌ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ وُجِدَ غَيْرُ الْعِلْمِ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا أَنَّهُ سَيُوجَدُ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ عِدَّةُ آيَاتٍ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ } وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَكَلَامُهُ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَغَيْرِهِ يَخْتَلِفُ تَارَةً يَقُولُ بِهَذَا وَتَارَةً يَقُولُ بِهَذَا فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ مَوَاضِعُ
مُشْكِلَةٌ كَثُرَ فِيهَا غَلَطُ النَّاسِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالِالْتِبَاسِ .
وَالْجَوَابُ الْحَقُّ : أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَا يُمَاثِلُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ كَمَا لَا يُمَاثِلُ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْحُدُوثِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّا إذَا قُلْنَا : لِلَّهِ عِلْمٌ وَلَنَا عِلْمٌ أَوْ لَهُ قُدْرَةٌ وَلَنَا قُدْرَةٌ أَوْ لَهُ كَلَامٌ وَلَنَا كَلَامٌ أَوْ تَكَلَّمَ بِصَوْتِ وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَقُلْنَا صِفَةُ الْخَالِقِ وَصِفَةُ الْمَخْلُوقِ اشْتَرَكَتَا فِي الْحَقِيقَةِ - فَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ حَقِيقَتَهُمَا وَاحِدَةٌ بِالْعَيْنِ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ مُمَاثِلَةٌ لِهَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتَا فِي الصِّفَاتِ الْعَرَضِيَّةِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - وَقَدْ بَيَّنَ فَسَادَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى " الْأَرْبَعِينَ " للرازي وَغَيْرِ ذَلِكَ - فَهَذَا أَيْضًا مَنْ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ ذَاتِ الْبَارِي عَزَّ وَجَلَّ مُمَاثِلَةً لِحَقِيقَةِ ذَوَاتِ الْمَخْلُوقِينَ . وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ فَهَذَا صَحِيحٌ كَمَا أَنَّهُ إذَا قِيلَ : إنَّهُ مَوْجُودٌ أَوْ إنَّ لَهُ ذَاتًا فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالذَّاتِ لَكِنَّ هَذَا الْمُشْتَرِكَ أَمْرٌ كُلِّيٌّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ اشْتَرَكَ فِيهِ مَخْلُوقَانِ كَاشْتِرَاكِ الْجُزْئِيَّاتِ فِي كُلِّيَّاتِهَا بِخِلَافِ اشْتِرَاكِ الْأَجْزَاءِ فِي الْكُلِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ قِسْمَةِ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ كَقِسْمَةِ الْحَيَوَانِ إلَى
نَاطِقٍ وَغَيْرِ نَاطِقٍ وَقِسْمَةِ الْإِنْسَانِ إلَى مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ وَقِسْمَةِ الِاسْمِ إلَى مُعْرَبٍ وَمَبْنِيٍّ وَقِسْمَةِ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ كَقِسْمَةِ الْعَقَارِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَقِسْمَةِ الْكَلَامِ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ فَفِي الْأَوَّلِ إنَّمَا اشْتَرَكَتْ الْأَقْسَامُ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُونَ مُشْتَرِكِينَ فِي شَيْءٍ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ صِفَةٌ لِلَّهِ يُمَاثِلُ بِهَا صِفَةَ الْمَخْلُوقِ بَلْ كُلُّ مَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَعَالَى فَهُوَ مُخَالِفٌ بِالْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ ؛ لِمَا يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ أَعْظَمَ مِمَّا يُخَالِفُ الْمَخْلُوقُ الْمَخْلُوقَ وَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ مُخَالِفًا بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ لِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ فَمُخَالَفَةُ الْخَالِقِ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ فِي الْحَقِيقَةِ أَعْظَمُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَيِّ مَخْلُوقٍ فُرِضَ لِأَيِّ مَخْلُوقٍ فُرِضَ وَلَكِنَّ عِلْمَهُ ثَبَتَ لَهُ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ وَلِقُدْرَتِهِ حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ وَلِكَلَامِهِ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ كَمَا ثَبَتَ لِذَاتِهِ حَقِيقَةُ الذَّاتِيَّةِ وَلِوُجُودِهِ حَقِيقَةُ الْوُجُودِ وَهُوَ أَحَقُّ بِأَنَّ تَثْبُتَ لَهُ صِفَاتُ الْكَمَالِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ . فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا : عِلْمُهُ يُشَارِكُ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَيْسَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ مُشَابِهًا وَلَا مُمَاثِلًا لِمَا سَمِعَهُ مُوسَى مِنْ صَوْتِهِ إلَّا كَمَا يُشْبِهُ وَيُمَاثِلُ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَهَذَا فِي نَفْسِ تَكَلُّمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَسَائِر أَئِمَّةِ السُّنَّةِ كَلَامُهُ تَكَلَّمَ بِهِ وَتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَكَلَّمَ مُوسَى بِصَوْتِ نَفْسِهِ الَّذِي لَا يُمَاثِلُ شَيْئًا مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ .
ثُمَّ إذَا قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِأَصْوَاتِنَا الْمَخْلُوقَةِ الَّتِي لَا تُمَاثِلُ صَوْتَ الرَّبِّ فَالْقُرْآنُ الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُبَلَّغًا عَنْهُ لَا مَسْمُوعًا مِنْهُ وَإِنَّمَا نَقْرَؤُهُ بِحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَعَ الْعَقْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } قَالَ يُزَيِّنُهُ وَيُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ كَمَا قَالَ : " { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } فَنَصَّ أَحْمَد عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ إنَّا نَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِنَا وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ كُلُّهُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ سَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَبَلَّغَهُ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمِعَهُ مُحَمَّدٌ مِنْهُ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ إلَى الْخَلْقِ وَالْخَلْقُ يُبَلِّغُهُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَيَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ فَبَلَّغُوهُ عَنْهُ كَمَا قَالَ : " { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ } فَهُمْ سَمِعُوا اللَّفْظَ مِنْ الرَّسُولِ بِصَوْتِ نَفْسِهِ بِالْحُرُوفِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا وَبَلَّغُوا لَفْظَهُ بِأَصْوَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ عُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ وَاللَّفْظُ الْمُبَلَّغُ هُوَ لَفْظُ الرَّسُولِ وَهُوَ كَلَامُ الرَّسُولِ ؛ فَإِنْ كَانَ صَوْتُ
الْمُبَلِّغِ لَيْسَ صَوْتَ الرَّسُولِ وَلَيْسَ مَا قَامَ بِالرَّسُولِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْإِعْرَاضِ فَارَقَتْهُ وَمَا قَامَتْ بِغَيْرِهِ ؛ بَلْ وَلَا تَقُومُ الصِّفَةُ وَالْعَرَضُ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ . وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْقُولًا فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَصِفَاتُ الْخَالِقِ أَوْلَى بِكُلِّ صِفَةِ كَمَالٍ وَأَبْعَدُ عَنْ كُلِّ صِفَةِ نَقْصٍ وَالتَّبَايُنُ الَّذِي بَيْنَ صِفَةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ مِنْ التَّبَايُنِ الَّذِي بَيْنَ صِفَةِ مَخْلُوقٍ وَمَخْلُوقٍ وَامْتِنَاعُ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ بِالذَّاتِ لِلْخَالِقِ وَصِفَاتِهِ فِي الْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ مِنْ الِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ بِالذَّاتِ لِلْمَخْلُوقِ وَصِفَاتِهِ فِي الْمَخْلُوقِ وَهَذِهِ جُمَلٌ قَدْ بُسِطَتْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . هَذَا مَعَ أَنَّ احْتِجَاجَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ بِأَنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بِقَوْلِهِ : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } مِثْلُ كَلَامِ الْخَالِقِ غَلَطٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ حَتَّى عِنْدَهُمْ فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ هُوَ مَخْلُوقٌ يَقُولُونَ إنَّهُ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ إمَّا الْهَوَاءُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا يَقُولُونَ : إنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِ الشَّجَرَةِ فَسَمِعَهُ مُوسَى . وَمَعْلُومٌ أَنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ لَيْسَتْ مُمَاثِلَةً لِمَا يُسْمَعُ مِنْ الْعَبْدِ وَتِلْكَ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ ؛ كَمَا أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ الَّذِي تَكَلَّمَ هُوَ اللَّهُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُمَاثِلًا لِصَوْتِ الْعَبْدِ .
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ سَوَاءٌ كَانَ مَعْنًى أَوْ حُرُوفًا أَوْ أَصْوَاتًا فَيَقُولُونَ : خَلَقَ لِمُوسَى إدْرَاكًا أَدْرَكَ بِهِ ذَلِكَ الْقَدِيمَ وَبِكُلِّ حَالٍ فَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ إذَا سُمِّعَ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ غَيْرُ مَا قَامَ بِنَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ الْمُنْشِئِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى ؟ . فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي " مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ " أَنْ يَتَحَرَّى أَصْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا تَكَلُّمُ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ هَلْ تَكَلَّمَ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ أَمْ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ ؟ وَالثَّانِي تَبْلِيغُ ذَلِكَ الْكَلَامِ عَنْ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَتَّصِفُ بِهِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالتَّبْلِيغِ الْكَلَامَ الْمُبَلَّغَ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَأَيْضًا فَهَذَانِ الْمُتَنَازِعَانِ إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا : إنَّهَا قَدِيمَةٌ وَلَيْسَ لَهَا مُبْتَدَأٌ وَشَكْلُهَا وَنَقْطُهَا مُحْدَثٌ وَقَالَ الْآخَرُ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِكَلَامِ اللَّهِ وَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِشَكْلِهَا وَنَقْطِهَا قَدْ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمَا أَرَادَا بِالْحُرُوفِ الْحُرُوفَ الْمَكْتُوبَةَ دُونَ الْمَنْطُوقَةِ وَالْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي شَكْلِهَا وَنَقْطِهَا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا كَتَبُوا الْمَصَاحِفَ كَتَبُوهَا غَيْرَ مَشْكُولَةٍ وَلَا مَنْقُوطَةٍ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى حِفْظِهِ فِي صُدُورِهِمْ لَا عَلَى الْمَصَاحِفِ وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ وَلَوْ عُدِمَتْ الْمَصَاحِفُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهَا حَاجَةٌ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَيْسُوا كَأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّغَيُّرَ وَاَللَّهُ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ فَتَلَقَّاهُ تَلَقِّيًا وَحَفِظَهُ فِي قَلْبِهِ لَمْ يُنَزِّلْهُ مَكْتُوبًا كَالتَّوْرَاةِ
وَأَنْزَلَهُ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا لِيُحْفَظَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى كِتَابٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } الْآيَةَ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَك كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } } قَالَ جَمْعُهُ فِي صَدْرِك ثُمَّ تَقْرَؤُهُ : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } قَالَ : فَاسْتَمَعَ لَهُ وَأَنْصَتَ { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أَيْ نُبَيِّنُهُ بِلِسَانِك . فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَقْرَأَهُ ؛ فَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يُنَقِّطُونَ الْمَصَاحِفَ وَيُشَكِّلُونَهَا وَأَيْضًا كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ ؛ فَلَمْ يَحْتَاجُوا إلَى تَقْيِيدِهَا بِالنَّقْطِ وَكَانَ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ قِرَاءَتَانِ يُقْرَأُ بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ مِثْلُ : يَعْمَلُونَ وَتَعْمَلُونَ . فَلَمْ يُقَيِّدُوهُ بِأَحَدِهِمَا لِيَمْنَعُوهُ مِنْ الْأُخْرَى . ثُمَّ إنَّهُ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ لَمَّا حَدَثَ اللَّحْنُ صَارَ بَعْضُ التَّابِعِينَ يُشَكِّلُ الْمَصَاحِفَ وَيُنَقِّطُهَا وَكَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِالْحُمْرَةِ وَيَعْمَلُونَ الْفَتْحَ بِنُقْطَةِ حَمْرَاءَ فَوْقَ الْحَرْفِ وَالْكَسْرَةَ بِنُقْطَةِ حَمْرَاءَ تَحْتَهُ وَالضَّمَّةَ بِنُقْطَةِ حَمْرَاءَ
أَمَامَهُ . ثُمَّ مَدُّوا النُّقْطَةَ وَصَارُوا يَعْمَلُونَ الشَّدَّة بِقَوْلِك " شَدَّ " ؛ وَيَعْمَلُونَ الْمَدَّةَ بِقَوْلِك " مَدَّ " وَجَعَلُوا عَلَامَةَ الْهَمْزَةِ تُشْبِهُ الْعَيْنَ ؛ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ أُخْتُ الْعَيْنِ ثُمَّ خَفَّفُوا ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ عَلَامَةُ الشَّدَّةِ مِثْلَ رَأْسِ السِّينِ وَعَلَامَةُ الْمَدَّةِ مُخْتَصَرَةً كَمَا يَخْتَصِرُ أَهْلُ الدِّيوَانِ أَلْفَاظَ الْعَدَدِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَكَمَا يَخْتَصِرُ الْمُحَدِّثُونَ أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا فَيَكْتُبُونَ أَوَّلَ اللَّفْظِ وَآخِرَهُ عَلَى شَكْلٍ " أَنَا " وَعَلَى شَكْلِ " ثنا " . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُكْرَهُ تَشْكِيلُ الْمَصَاحِفِ وَتَنْقِيطُهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد لَكِنْ لَا نِزَاعَ بَيْنِهِمْ أَنَّ الْمُصْحَفَ إذَا شُكِّلَ وَنُقِّطَ وَجَبَ احْتِرَامُ الشَّكْلِ وَالنَّقْطِ كَمَا يَجِبُ احْتِرَامُ الْحَرْفِ وَلَا تَنَازُعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ مِدَادَ النُّقْطَةِ وَالشَّكْلِ مَخْلُوقٌ كَمَا أَنَّ مِدَادَ الْحَرْفِ مَخْلُوقٌ وَلَا نِزَاعَ بَيْنِهِمْ أَنَّ الشَّكْلَ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَابِ وَالنَّقْطَ يَدُلُّ عَلَى الْحُرُوفِ وَأَنَّ الْإِعْرَابَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا : حِفْظُ إعْرَابِ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ النُّقْطَةَ وَالشَّكْلَةَ بِمَجْرَدِهِمَا لَا حُكْمَ لَهُمَا وَلَا حُرْمَةَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَرَّدَ الْكَلَامُ فِيهِمَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ إعْرَابَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ تَمَامِهِ وَيَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِإِعْرَابِهِ وَالشَّكْلُ يُبَيِّنُ إعْرَابَهُ كَمَا تُبَيِّنُ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ لِلْحَرْفِ الْمَنْطُوقِ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الشَّكْلُ الْمَكْتُوبُ لِلْإِعْرَابِ الْمَنْطُوقِ .
فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ إذَا تَصَوَّرَهَا النَّاسُ عَلَى وَجْهِهَا تَصَوُّرًا تَامًّا ظَهَرَ لَهُمْ الصَّوَابُ وَقَلَّتْ الْأَهْوَاءُ وَالْعَصَبِيَّاتُ وَعَرَفُوا مَوَارِدَ النِّزَاعِ فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اتَّبَعَهُ وَمَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ تَوَقَّفَ حَتَّى يُبَيِّنَهُ اللَّهُ لَهُ وَيَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى ذَلِكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ وَمِنْ أَحْسَنِ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْآخَرِ كَلَامُهُ كُتِبَ بِهَا : يَقْتَضِي أَنَّهُ أَرَادَ بِالْحُرُوفِ مَا يَتَنَاوَلُ الْمَنْطُوقَ وَالْمَكْتُوبَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمَّا إنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . فَهُنَا لَمْ يُرِدْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَرْفِ نَفْسَ الْمِدَادِ وَشَكْلَ الْمِدَادِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرْفَ الْمَنْطُوقَ . وَفِي مُرَادِهِ بِالْحَرْفِ قَوْلَانِ : قِيلَ هَذَا اللَّفْظُ الْمُفْرَدُ . وَقِيلَ أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَرْفِ الِاسْمَ كَمَا قَالَ : أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ .
وَلَفْظُ " الْحَرْفِ وَالْكَلِمَةِ " لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَكَلَّمُ بِهَا مَعْنًى وَلَهُ فِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ مَعْنًى . فَالْكَلِمَةُ فِي لُغَتِهِمْ هِيَ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ أَوْ الْفِعْلِيَّةُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : " { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدِ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ } وَقَالَ : " { إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا رِضْوَانُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يُكْتَبُ لَهُ بِهَا سَخَطُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ لِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ " { لَقَدْ قُلْت بَعْدَك أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْت مُنْذُ الْيَوْمَ لَوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ } وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا } وَقَوْلُهُ : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } وقَوْله تَعَالَى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ } وَقَوْلُهُ : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وَقَوْلُهُ : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ إلَّا
وَالْمُرَادُ بِهِ الْجُمْلَةُ التَّامَّةُ . فَكَثِيرٌ مِنْ النُّحَاةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ ؛ بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ اصْطِلَاحَهُمْ فِي مُسَمَّى الْكَلِمَةِ يَنْقَسِمُ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ هُوَ لُغَةُ الْعَرَبِ وَالْفَاضِلُ مِنْهُمْ يَقُولُ : وَكِلْمَةُ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمُّ وَيَقُولُونَ : الْعَرَبُ قَدْ تَسْتَعْمِلُ الْكَلِمَةَ فِي الْجُمْلَةِ التَّامَّةِ وَتَسْتَعْمِلُهَا فِي الْمُفْرَدِ وَهَذَا غَلَطٌ لَا يُوجَدُ قَطُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لَفْظُ الْكَلِمَةِ إلَّا لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ . وَمِثْلُ هَذَا اصْطِلَاحُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ هُوَ مَا لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ أَوْ مَا لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ ثُمَّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ : وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ الْقَدِيمُ فِي الْمُتَقَدِّمِ عَلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَزَلِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } وَقَالَ : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إفْكٌ قَدِيمٌ } وقَوْله تَعَالَى { قَالُوا تَاللَّهِ إنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ } وَقَالَ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } وَتَخْصِيصُ الْقَدِيمِ بِالْأَوَّلِ عُرْفٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْقِدَمِ فِي لُغَةِ الرَّبِّ ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَفْظُ الْمُحْدَثِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِإِزَاءِ الْقَدِيمِ قَالَ تَعَالَى : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي نَزَلَ قَبْلَهُ لَيْسَ بِمُحْدَثِ بَلْ مُتَقَدِّمٌ . وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ
وَنَظِيرَ هَذَا لَفْظُ " الْقَضَاء " فَإِنَّهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ الْمُرَادُ بِهِ إتْمَامُ الْعِبَادَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } ثُمَّ اصْطَلَحَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَجَعَلُوا لَفْظَ " الْقَضَاءِ " مُخْتَصًّا بِفِعْلِهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا وَلَفْظَ " الْأَدَاءِ " مُخْتَصًّا بِمَا يُفْعَلُ فِي الْوَقْتِ وَهَذَا التَّفْرِيقُ لَا يُعْرَفُ قَطُّ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ ثُمَّ يَقُولُونَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْقَضَاءِ فِي الْأَدَاءِ فَيَجْعَلُونَ اللُّغَةَ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا مِنْ النَّادِرِ . وَلِهَذَا يَتَنَازَعُونَ فِي مُرَادِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا } " وَفِي لَفْظٍ : " { فَأَتِمُّوا } " فَيَظُنُّونَ أَنَّ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ خِلَافًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ قَوْلُهُ : " فَاقْضُوا " كَقَوْلِهِ : " فَأَتِمُّوا " لَمْ يُرِدْ بِأَحَدِهِمَا الْفِعْلَ بَعْدَ الْوَقْتِ ؛ بَلْ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ أَمْرٌ بِالْعِبَادَةِ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا لَكِنَّ الْوَقْتَ وَقْتَانِ : وَقْتٌ عَامٌّ وَوَقْتٌ خَاصٌّ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ : كَالنَّائِمِ وَالنَّاسِي إذَا صَلَّيَا بَعْدَ الِاسْتِيقَاظِ وَالذِّكْرِ فَإِنَّمَا صَلَّيَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ وَقْتًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا .
وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْغَلَطِ فِي فَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَنْشَأَ الرَّجُلُ عَلَى اصْطِلَاحٍ حَادِثٍ فَيُرِيدُ أَنْ يُفَسِّرَ كَلَامَ اللَّهِ بِذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ وَيَحْمِلَهُ عَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ الَّتِي اعْتَادَهَا . وَمَا ذُكِرَ فِي مُسَمَّى " الْكَلَامِ " مَا ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ : وَاعْلَمْ " أَنَّ " فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إنَّمَا وَقَعَتْ عَلَى أَنْ تُحْكَى وَإِنَّمَا يُحْكَى بَعْدَ الْقَوْلِ مَا كَانَ كَلَامًا قَوْلًا ؛ وَإِلَّا فَلَا يُوجَدُ قَطُّ لَفْظُ الْكَلَامِ وَالْكَلِمَةِ إلَّا لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَلَفْظُ الْحَرْفِ يُرَادُ بِهِ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ وَحُرُوفُ الْمَعَانِي وَاسْمُ حُرُوفِ الْهِجَاءِ ؛ وَلِهَذَا سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ : كَيْفَ تَنْطِقُونَ بِالزَّايِ مَنْ زَيْدٌ ؟ فَقَالُوا : زَاي فَقَالَ نَطَقْتُمْ بِالِاسْمِ وَإِنَّمَا الْحَرْفُ زه ؛ فَبَيَّنَ الْخَلِيلُ أَنَّ هَذِهِ الَّتِي تُسَمَّى حُرُوفَ الْهِجَاءِ هِيَ أَسْمَاءٌ . وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ هَذَا " حَرْفٌ مِنْ الْغَرِيبِ " يُعَبِّرُونَ بِذَلِكَ عَنْ الِاسْمِ التَّامِّ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ } " مَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ : " وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ " . وَعَلَى نَهْجِ ذَلِكَ : وَذَلِكَ حَرْفٌ وَالْكِتَابُ حَرْفٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ أَحْرُفٌ وَالْكِتَابَ أَحْرُفٌ وَرُوِيَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ . وَالنُّحَاةُ اصْطَلَحُوا اصْطِلَاحًا خَاصًّا فَجَعَلُوا لَفْظَ " الْكَلِمَةِ " يُرَادُ
بِهِ الِاسْمُ أَوْ الْفِعْلُ أَوْ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي ؛ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ : الْكَلَامُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ . فَجَعَلَ هَذَا حَرْفًا خَاصًّا وَهُوَ الْحَرْفُ الَّذِي جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ ؛ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ كَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الِاسْمَ أَوْ الْفِعْل حَرْفًا فَقَيَّدَ كَلَامَهُ بِأَنْ قَالَ : وَقَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى اسْمٍ وَفِعْلٍ وَحَرْفٍ جَاءَ لِمَعْنَى لَيْسَ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ وَأَرَادَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْكَلَامَ يَنْقَسِمُ إلَى ذَلِكَ قِسْمَةَ الْكُلِّ إلَى أَجْزَائِهِ لَا قِسْمَةَ الْكُلِّيِّ إلَى جُزْئِيَّاتِهِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ الْقِسْمَةَ كَمَا يُقَسَّمُ الْعَقَارُ وَالْمَنْقُولُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ فَيُعْطَى هَؤُلَاءِ قِسْمٌ غَيْرُ قِسْمِ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ الْكَلَامُ هُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَحُرُوفِ الْمَعَانِي فَهُوَ مَقْسُومٌ إلَيْهَا وَهَذَا التَّقْسِيمُ غَيْرُ تَقْسِيمِ الْجِنْسِ إلَى أَنْوَاعِهِ كَمَا يُقَالُ : الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إلَى مُعْرَبٍ وَمَبْنِيٍّ . وَجَاءَ الجزولي وَغَيْرُهُ فَاعْتَرَضُوا عَلَى النُّحَاةِ فِي هَذَا وَلَمْ يَفْهَمُوا كَلَامَهُمْ فَقَالُوا : كُلُّ جِنْسٍ قُسِّمَ إلَى أَنْوَاعِهِ أَوْ أَشْخَاصِ أَنْوَاعِهِ فَاسْمُ الْمَقْسُومِ صَادِقٌ عَلَى الْأَنْوَاعِ وَالْأَشْخَاصِ وَإِلَّا فَلَيْسَتْ أَقْسَامًا لَهُ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ الِاعْتِرَاضَ عَلَى قَوْلِ الزَّجَّاجِ : الْكَلَامُ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَحَرْفٌ . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ وَسَائِر أَئِمَّةِ النُّحَاةِ وَأَرَادُوا بِذَلِكَ الْقِسْمَةَ الْأُولَى الْمَعْرُوفَةَ وَهِيَ قِسْمَةُ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ إلَى أَجْزَائِهَا كَمَا يُقْسَمُ الْعَقَارُ وَالْمَالُ وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ قِسْمَةَ الْكُلِّيَّاتِ - الَّتِي لَا تُوجَدُ كُلِّيَّاتٍ
إلَّا فِي الذِّهْنِ - كَقِسْمَةِ الْحَيَوَانِ إلَى نَاطِقٍ وَبَهِيمٍ وَقِسْمَةِ الِاسْمِ إلَى الْمُعْرَبِ وَالْمَبْنِيِّ . فَإِنَّ الْمُقَسَّمَ هُنَا هُوَ مَعْنًى عَقْلِيٌّ كُلِّيٌّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ .
فَصْلٌ :
وَلَفْظُ " الْحَرْفِ " يُرَادُ بِهِ حُرُوفُ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ قَسِيمَةُ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ : مِثْلُ حُرُوفِ الْجَرِّ وَالْجَزْمِ وَحَرْفَيْ التَّنْفِيسِ وَالْحُرُوفِ الْمُشْبِهَةِ لِلْأَفْعَالِ مِثْلُ " إنَّ وَأَخَوَاتِهَا " وَهَذِهِ الْحُرُوفُ لَهَا أَقْسَامٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ كَمَا يُقَسِّمُونَهَا بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْأَسْمَاءِ وَإِلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْأَفْعَالِ وَيَقُولُونَ : مَا اخْتَصَّ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ كَالْجُزْءِ مِنْهُ كَانَ عَامِلًا كَمَا تَعْمَلُ حُرُوفُ الْجَرِّ وَإِنَّ وَأَخَوَاتُهَا فِي الْأَسْمَاءِ وَكَمَا تَعْمَلُ النَّوَاصِبُ وَالْجَوَازِمُ فِي الْأَفْعَالِ ؛ بِخِلَافِ حَرْفِ التَّعْرِيفِ وَحَرْفَيْ التَّنْفِيسِ : كَالسِّينِ وَسَوْفَ فَإِنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ لِأَنَّهُمَا كَالْجُزْءِ مِنْ الْكَلِمَةِ وَيَقُولُونَ : كَانَ الْقِيَاسُ فِي " مَا " أَنَّهَا لَا تَعْمَلُ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَلَكِنْ أَهْلُ الْحِجَازِ أَعْمَلُوهَا لِمُشَابَهَتِهَا لليس وَبِلُغَتِهِمْ جَاءَ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ : { مَا هَذَا بَشَرًا } { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } .
وَيُقَسِّمُونَ " الْحُرُوفَ " بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهَا إلَى حُرُوفِ اسْتِفْهَامٍ وَحُرُوفِ نَفْيٍ وَحُرُوفِ تَخْصِيصٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُقَسِّمُونَهَا بِاعْتِبَارِ بِنْيَتِهَا كَمَا تُقَسَّمُ الْأَفْعَالُ وَالْأَسْمَاءُ إلَى مُفْرَدٍ وَثُنَائِيٍّ وَثُلَاثِيٍّ وَرُبَاعِيٍّ وَخُمَاسِيٍّ . فَاسْمُ الْحَرْفِ هُنَا مَنْقُولٌ عَنْ اللُّغَةِ إلَى عُرْفِ النُّحَاةِ بِالتَّخْصِيصِ وَإِلَّا فَلَفْظُ الْحَرْفِ فِي اللُّغَةِ يَتَنَاوَلُ الْأَسْمَاءَ وَالْحُرُوفَ وَالْأَفْعَالَ وَحُرُوفَ الْهِجَاءِ تُسَمَّى حُرُوفًا وَهِيَ أَسْمَاءٌ كَالْحُرُوفِ الْمَذْكُورَةِ فِي أَوَائِل السُّوَرِ لِأَنَّ مُسَمَّاهَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ حَرْفُ الْكَلِمَةِ . وَتُقَسَّمُ تَقْسِيمًا آخَرَ إلَى حُرُوفٍ حَلْقِيَّةٍ وَشَفَهِيَّةٍ وَالْمَذْكُورَةُ فِي أَوَائِلِ السُّورِ فِي الْقُرْآنِ هِيَ نِصْفُ الْحُرُوفِ وَاشْتَمَلَتْ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عَلَى أَشْرَفِ نِصْفَيْهِ : عَلَى نِصْفِ الْحَلْقِيَّةِ وَالشَّفَهِيَّةِ وَالْمُطْبَقَةِ ؛ وَالْمُصْمَتَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ . فَإِنَّ لَفْظَ " الْحَرْفِ " أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْحَدُّ وَالطَّرَفُ كَمَا يُقَالُ : حُرُوفُ الرَّغِيفِ وَحَرْفُ الْجَبَلِ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : حَرْفُ كُلِّ شَيْءٍ طَرَفُهُ وَشَفِيرُهُ وَحَدُّهُ وَمِنْهُ حَرْفُ الْجَبَلِ وَهُوَ أَعْلَاهُ الْمُحَدَّدُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَالْآخِرَةِ } فَإِنَّ طَرَفَ الشَّيْءِ إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِرًّا ؛ فَلِهَذَا كَانَ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَلَى السَّرَّاءِ دُونَ الضَّرَّاءِ عَابِدًا لَهُ عَلَى حَرْفٍ : تَارَةً يُظْهِرُهُ وَتَارَةً يَنْقَلِبُ
عَلَى وَجْهِهِ كَالْوَاقِفِ عَلَى حَرْفِ الْجَبَلِ فَسُمِّيَتْ حُرُوفُ الْكَلَامِ حُرُوفًا لِأَنَّهَا طَرَفُ الْكَلَامِ وَحَدُّهُ وَمُنْتَهَاهُ إذْ كَانَ مَبْدَأُ الْكَلَامِ مِنْ نَفْسِ الْمُتَكَلِّمِ وَمُنْتَهَاهُ حَدُّهُ وَحَرْفُهُ الْقَائِمُ بِشَفَتَيْهِ وَلِسَانِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } { وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ } فَلَفْظُ الْحَرْفِ يُرَادُ بِهِ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا . ثُمَّ إذَا كُتِبَ الْكَلَامُ فِي الْمُصْحَفِ سَمَّوْا ذَلِكَ حُرُوفًا فَيُرَادُ بِالْحَرْفِ الشَّكْلُ الْمَخْصُوصُ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ شَكْلٌ مَخْصُوصٌ هِيَ خُطُوطُهُمْ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامَهُمْ وَيُرَادُ بِهِ الْمَادَّةُ وَيُرَادُ بِهِ مَجْمُوعُهَا وَهَذِهِ الْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ تُطَابِقُ الْحُرُوفَ الْمَنْطُوقَةَ وَتُبَيِّنُهَا وَتَدُلُّ عَلَيْهَا فَسُمِّيَتْ بِأَسْمَائِهَا ؛ إذْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَكْتُبُ اللَّفْظَ بِقَلَمِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } إلَى قَوْلِهِ : { مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي أَوَّلِ مَا أَنْزَلَهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ الْهَادِي الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَاَلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى كَمَا قَالَ مُوسَى : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } فَالْخَلْقُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ثُمَّ خَصَّ الْإِنْسَانَ فَقَالَ : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَلَّمَ ؛ فَإِنَّ الْهُدَى وَالتَّعْلِيمَ هُوَ كَمَالُ الْمَخْلُوقَاتِ . وَالْعِلْمُ لَهُ " ثَلَاثُ مَرَاتِبَ " عِلْمٌ بِالْجَنَانِ وَعِبَارَةٌ بِاللِّسَانِ وَخَطٌّ
بِالْبَنَانِ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ أَرْبَعُ وجودات : وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَعِلْمِيٌّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ . وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَاللِّسَانِ وَالْبَنَانِ ؛ لَكِنَّ الْوُجُودَ الْعَيْنِيَّ هُوَ وُجُودُ الْمَوْجُودَاتِ فِي أَنْفُسِهَا وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَمَّا الذِّهْنِيُّ الجناني فَهُوَ الْعِلْمُ بِهَا الَّذِي فِي الْقُلُوبِ وَالْعِبَارَةُ عَنْ ذَلِكَ هُوَ اللِّسَانِيُّ وَكِتَابَةُ ذَلِكَ هُوَ الرَّسْمِيُّ الْبَنَانِيُّ وَتَعْلِيمُ الْخَطِّ يَسْتَلْزِمُ تَعْلِيمَ الْعَبَّارَةِ وَاللَّفْظِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ فَقَالَ : { عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } لِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِالْقَلَمِ يَسْتَلْزِمُ الْمَرَاتِبَ الثَّلَاثَ وَأَطْلَقَ التَّعْلِيمَ ثُمَّ خَصَّ فَقَالَ : { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُودِ كُلِّ شَيْءٍ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِه أَمْ لَا ؟ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ الصَّوَابَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِالْوُجُودِ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْأَعْيَانِ وَبِالْمَاهِيَّةِ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَذْهَانِ فَعَلَى هَذَا فَوُجُودُ الْمَوْجُودَاتِ الثَّابِتُ فِي الْأَعْيَانِ لَيْسَ هُوَ مَاهِيَّتَهَا الْمُتَصَوَّرَةَ فِي الْأَذْهَانِ ؛ لَكِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَوْجُودَ الثَّابِتَ فِي الْأَعْيَانِ وَعَلِمَ الْمَاهِيَّاتِ الْمُتَصَوِّرَةَ فِي الْأَذْهَانِ كَمَا أَنْزَلَ بَيَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةٍ أَنْزَلَهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَقَدْ يُرَادُ بِالْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ كِلَاهُمَا : مَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَعْيَانِ وَمَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَذْهَانِ فَإِذَا أُرِيدَ بِهَذَا وَهَذَا مَا هُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَعْيَانِ أَوْ مَا هُوَ مُتَصَوَّرٌ فِي الْأَذْهَانِ فَلَيْسَ هُمَا فِي الْأَعْيَانِ اثْنَانِ ؛ بَلْ هَذَا هُوَ هَذَا . وَكَذَلِكَ الذِّهْنُ إذَا تَصَوَّرَ شَيْئًا فَتِلْكَ الصُّورَةُ
هِيَ الْمِثَالُ الَّذِي تَصَوَّرَهَا وَذَلِكَ هُوَ وُجُودُهَا الذِّهْنِيُّ الَّذِي تَتَصَوَّرُهُ الْأَذْهَانُ ؛ فَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ . وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَأَمْثَالَهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أَكْثَرَ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى أُصُولِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَتَفَاصِيلِهَا فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى ؛ فَإِنَّ النَّاسَ كَثُرَ نِزَاعُهُمْ فِيهَا حَتَّى قِيلَ : " مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ " حَيَّرَتْ عُقُولَ الْأَنَامِ . وَلَكِنَّ سُؤَالَ هَذَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ الْكَثِيرَ فَإِنَّهُمَا سَأَلَا بِحَسَبِ مَا سَمِعَاهُ وَاعْتَقَدَاهُ وَتَصَوَّرَاهُ فَإِذَا عَرَفَ السَّائِلُ أَصْلَ مَسْأَلَتِهِ وَلَوَازِمَهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَالْمَعَانِي الْمُشْتَبِهَةِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مِنْ الْخَلْقِ مَنْ تَكَلَّمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُقَابِلَهُ آخَرُ بِمِثْلِ إطْلَاقِهِ . وَمِنْ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأَلْفَاظَ " نَوْعَانِ " : نَوْعٌ جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُقِرَّ بِمُوجَبِ ذَلِكَ فَيُثْبِتُ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَنْفِي مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَاللَّفْظُ الَّذِي أَثْبَتَهُ اللَّهُ أَوْ نَفَاهُ حَقٌّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وَالْأَلْفَاظُ
الشَّرْعِيَّةُ لَهَا حُرْمَةٌ . وَمِنْ تَمَامِ الْعِلْمِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مُرَادِ رَسُولِهِ بِهَا لِيُثْبِتَ مَا أَثْبَتَهُ وَيَنْفِيَ مَا نَفَاهُ مِنْ الْمَعَانِي فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ وَنُطِيعَهُ فِي كُلِّ مَا أَوْجَبَ وَأَمَرَ ثُمَّ إذَا عَرَفْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } . وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَيْسَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى نَفْيِهَا أَوْ إثْبَاتِهَا فَهَذِهِ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ أَنْ يُوَافِقَ مَنْ نَفَاهَا أَوْ أَثْبَتَهَا حَتَّى يَسْتَفْسِرَ عَنْ مُرَادِهِ فَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَعْنًى يُوَافِقُ خَبَرَ الرَّسُولِ أَقَرَّ بِهِ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَعْنًى يُخَالِفُ خَبَرَ الرَّسُولِ أَنْكَرَهُ . ثُمَّ التَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي إنْ كَانَ فِي أَلْفَاظِهِ اشْتِبَاهٌ أَوْ إجْمَالٌ عُبِّرَ بِغَيْرِهَا أَوْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِهَا بِحَيْثُ يَحْصُلُ تَعْرِيفُ الْحَقِّ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ نِزَاعِ النَّاسِ سَبَبُهُ أَلْفَاظٌ مُجْمَلَةٌ مُبْتَدَعَةٌ وَمَعَانٍ مُشْتَبِهَةٌ حَتَّى تَجِدَ الرَّجُلَيْنِ يَتَخَاصَمَانِ وَيَتَعَادَيَانِ عَلَى إطْلَاقِ أَلْفَاظٍ وَنَفْيِهَا وَلَوْ سُئِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ مَعْنَى مَا قَالَهُ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْرِفَ دَلِيلَهُ وَلَوْ عَرَفَ دَلِيلَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّ مَنْ خَالَفَهُ يَكُونُ مُخْطِئًا بَلْ يَكُونُ فِي قَوْلِهِ نَوْعٌ مِنْ الصَّوَابِ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا مُصِيبًا مَنْ وَجْهٍ وَهَذَا مُصِيبًا مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي قَوْلٍ ثَالِثٍ .
وَكَثِيرٌ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي " أُصُولِ عُلُومِ الدِّينِ " وَغَيْرِهَا تَجِدُ الرَّجُلَ الْمُصَنِّفَ فِيهَا فِي " الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ " كَمَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَالرُّؤْيَةِ وَالصِّفَاتِ وَالْمَعَادِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَذْكُرُ أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً . وَالْقَوْلُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَكَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ لَيْسَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ ؛ بَلْ وَلَا عَرَفَهُ مُصَنِّفُوهَا وَلَا شَعَرُوا بِهِ وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ تَوْكِيدِ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَهُوَ مِمَّا نُهِيَتْ الْأُمَّةُ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إنَّمَا أَمْرُهُمْ إلَى اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } . وَقَدْ { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْقَدَرِ وَهَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا ؟ وَهَذَا يَقُولُ أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ كَذَا ؟ فَقَالَ : أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ ؟ أَمْ إلَى هَذَا دُعِيتُمْ ؟ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا : أَنْ ضَرَبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضِ اُنْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَافْعَلُوهُ وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ } . وَمِمَّا أُمِرَ النَّاسُ بِهِ أَنْ يَعْمَلُوا بِمُحْكَمِ الْقُرْآنِ وَيُؤْمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة : وَقَدْ كَتَبْت فِي أُصُولِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَوَاعِدَ مُتَعَدِّدَةً وَأُصُولًا كَثِيرَةً وَلَكِنْ هَذَا الْجَوَابُ كُتِبَ وَصَاحِبُهُ مُسْتَوْفِزٌ فِي قَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَهْدِينَا وَسَائِر إخْوَانِنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ : (*)
فِي بَيَانِ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كَلَامُ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا جِبْرِيلَ وَلَا مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِمَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } . { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } . فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ : { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ { قُلْ نَزَّلَهُ } عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ : { بِمَا يُنَزِّلُ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَقَوْلُهُ : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ
بِمَا يُنَزِّلُ } فِيهِ إخْبَارُ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ بَيَانُ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ بِهِ وَلَا أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ . وَلَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فِي الْقُرْآنِ قَدْ يَرِدُ مُقَيَّدًا بِالْإِنْزَالِ مِنْهُ : كَنُزُولِ الْقُرْآنِ وَقَدْ يَرِدُ مُقَيَّدًا بِالْإِنْزَالِ مِنْ السَّمَاءِ وَيُرَادُ بِهِ الْعُلُوُّ ؛ فَيَتَنَاوَلُ نُزُولَ الْمَطَرِ مِنْ السَّحَابِ وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ يَرِدُ مُطْلَقًا فَلَا يَخْتَصُّ بِنَوْعِ مِنْ الْإِنْزَالِ ؛ بَلْ رُبَّمَا يَتَنَاوَلُ الْإِنْزَالَ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ كَقَوْلِهِ : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } وَالْإِنْزَالُ مِنْ ظُهُورِ الْحَيَوَانِ كَإِنْزَالِ الْفَحْلِ الْمَاءَ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَقَوْلُهُ : { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } بَيَانٌ لِنُزُولِ جِبْرِيلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُنَا هُوَ جِبْرِيلُ ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وَفِي قَوْلِهِ { الْأَمِينُ } دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا أُرْسِلَ بِهِ لَا يَزِيدُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهُ فَإِنَّ الرَّسُولَ الْخَائِنَ قَدْ يُغَيِّرُ الرِّسَالَةَ كَمَا قَالَ فِي صِفَتِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } . وَفِي قَوْلِهِ : { مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ } دَلَالَةٌ عَلَى أُمُورٍ : " مِنْهَا " بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ كَلَامٌ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي جِسْمٍ
مِنْ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ يَقُولُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والنجارية والضرارية وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُسَمُّونَ كُلَّ مَنْ نَفَى الصِّفَاتِ وَقَالَ إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ جهميا ؛ فَإِنَّ " جَهْمًا " أَوَّلُ مَنْ ظَهَرَتْ عَنْهُ بِدْعَةُ نَفْيِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَبَالَغَ فِي نَفْيِ ذَلِكَ فَلَهُ فِي هَذِهِ الْبِدْعَةِ مَزِيَّةُ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّفْيِ وَالِابْتِدَاءِ بِكَثْرَةِ إظْهَارِ ذَلِكَ وَالدَّعْوَةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ قَدْ سَبَقَهُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ ؛ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بواسط يَوْمَ النَّحْرِ . وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ عُلُوًّا كَبِيرًا . ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ ؛ وَلَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ وَافَقُوا جَهْمًا فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَهُمْ يُخَالِفُونَهُ فِي مَسَائِلَ غَيْرِ ذَلِكَ : كَمَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ وَبَعْضِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ أَيْضًا وَلَا يُبَالِغُونَ فِي النَّفْيِ مُبَالَغَتَهُ . وَجَهْمٌ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ . أَوْ يَقُولُ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَيَقُولُونَ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ حَقِيقَةً ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْمَعْنَى هُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَجَهْمٌ يَنْفِي الْأَسْمَاءَ أَيْضًا كَمَا نَفَتْهَا الْبَاطِنِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَأَمَّا جُمْهُورُ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَنْفُونَ الْأَسْمَاءَ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ : { مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ } فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ مَخْلُوقٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ : مِنْهُ بَدَأَ أَيْ : هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يُبْتَدَأْ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَتْ الخلقية . وَ " مِنْهَا " أَنَّ قَوْلَهُ : { مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ } فِيهِ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالصَّابِئَةِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَعْظَمُ كُفْرًا وَضَلَالًا مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ . وَ " مِنْهَا " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ - أَيْضًا - تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ مُنَزَّلًا مِنْ اللَّهِ بَلْ مَخْلُوقٌ : إمَّا فِي جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ جِسْمٍ آخَرَ غَيْرِهِمَا كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ خُلِقَ لِيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ثُمَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ خُلِقَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ : الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ أُلْهِمَهُ جِبْرِيلُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ أَوْ أُلْهِمَهُ مُحَمَّدٌ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ أَوْ يَكُونُ أَخَذَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ غَيْرِهِ : فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ هِيَ تَفْرِيعٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْنَا .
وَهَذَا الْقَوْلُ يُوَافِقُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ فِي إثْبَاتِ خَلْقِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَكَذَلِكَ التَّوْرَاةُ الْعِبْرِيَّةُ وَيُفَارِقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . " أَحَدُهُمَا " أَنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ إنَّ الْمَخْلُوقَ كَلَامُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ ؛ لَكِنْ يُسَمَّى كَلَامَ اللَّهِ مَجَازًا وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّتِهِمْ وَجُمْهُورِهِمْ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخَّرِيهِمْ ؛ بَلْ لَفْظُ الْكَلَامِ يُقَالُ عَلَى هَذَا وَهَذَا بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لَكِنَّ هَذَا يَنْقُضُ أَصْلَهُمْ فِي إبْطَالِ قِيَامِ الْكَلَامِ بِغَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَهُمْ مَعَ هَذَا لَا يَقُولُونَ إنَّ الْمَخْلُوقَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً كَمَا تَقُولهُ الْمُعْتَزِلَةُ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهُ كَلَامُهُ حَقِيقَةً بَلْ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ كَلَامٌ حَقِيقَةً وَهَذَا شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ : فَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَقْرَبُ وَقَوْلُ الْآخَرِينَ هُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةِ لَكِنْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقُونَ لِهَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا يُنَازِعُونَهُمْ فِي اللَّفْظِ . " الثَّانِي " أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : لِلَّهِ كَلَامٌ هُوَ مَعْنًى قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ والخلقية يَقُولُونَ : لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ كَلَامٌ . وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ فالْكُلَّابِيَة خَيْرٌ مِنْ الخلقية فِي الظَّاهِرِ ؛ لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ يَقُولُونَ : إنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَمْ يُثْبِتُوا لَهُ كَلَامًا حَقِيقَةً غَيْرَ الْمَخْلُوقِ ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ : فَإِنَّ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ
كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ خَمْسُ مَعَانٍ . وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ وَالْعُقَلَاءُ الْكَثِيرُونَ لَا يَتَّفِقُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَجَحْدِ الضَّرُورَاتِ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُؤٍ وَاتِّفَاقٍ ؛ كَمَا فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ . وَأَمَّا مَعَ التَّوَاطُؤِ فَقَدْ يَتَّفِقُونَ عَلَى الْكَذِبِ عَمْدًا وَقَدْ يَتَّفِقُونَ عَلَى جَحْدِ الضَّرُورَاتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ جَاحِدٌ لِلضَّرُورَةِ وَلَوْ لَمْ يَفْهَمْ حَقِيقَةَ الْقَوْلِ الَّذِي يَعْتَقِدُهُ لِحُسْنِ ظَنِّهِ فِيمَنْ يُقَلِّدُ قَوْلَهُ وَلِمَحَبَّتِهِ لِنَصْرِ ذَلِكَ الْقَوْلِ كَمَا اتَّفَقَتْ النَّصَارَى وَالرَّافِضَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى مَقَالَاتٍ يُعْلَمُ فَسَادُهَا بِالضَّرُورَةِ . وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ : نَحْنُ إذَا عَرَّبْنَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى ذَلِكَ مَعْنَى الْقُرْآنِ ؛ بَلْ مَعَانِي هَذَا لَيْسَتْ مَعَانِي هَذَا وَمَعَانِي هَذَا لَيْسَتْ مَعَانِي هَذَا . وَكَذَلِكَ مَعْنَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لَيْسَ هُوَ مَعْنَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } وَلَا مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ . وَقَالُوا : إذَا جَوَّزْتُمْ أَنْ تَكُونَ الْحَقَائِقُ الْمُتَنَوِّعَةُ شَيْئًا وَاحِدًا فَجَوِّزُوا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ صِفَةً وَاحِدَةً فَاعْتَرَفَ أَئِمَّةُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ لَيْسَ لَهُمْ عَنْهُ جَوَابٌ عَقْلِيٌّ .
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : النَّاسُ فِي الصِّفَاتِ إمَّا مُثْبِتٌ لَهَا وَقَائِلٌ بِالتَّعَدُّدِ وَإِمَّا نَافٍ لَهَا ؛ وَأَمَّا إثْبَاتُهَا وَاتِّحَادُهَا فَخِلَافُ الْإِجْمَاعِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَنْهُ جَوَابٌ كَأَبِي الْحَسَنِ الْآمِدِي وَغَيْرِهِ . " وَالْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُبَيِّنُ بُطْلَانَ هَذَا الْقَوْلِ كَمَا تُبَيِّنُ بُطْلَانَ غَيْرِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } يَقْتَضِي نُزُولَ الْقُرْآنِ مِنْ رَبِّهِ وَالْقُرْآنُ اسْمٌ لِلْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } وَإِنَّمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَا يَقْرَأُ مَعَانِيَهُ الْمُجَرَّدَةَ . وَأَيْضًا فَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ نَزَّلَهُ عَائِدٌ عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } فَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ فَإِذَا كَانَ رُوحُ الْقُدُسِ نَزَلَ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهُ نَزَّلَهُ مَنْ عَيْنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَخْلُوقَةِ وَلَا نَزَّلَهُ مِنْ نَفْسِهِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ عَقِيبَ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } وَهْم كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّمَا يُعَلِّمُهُ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ بَشَرٌ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ مَعَانِيهِ فَقَطْ ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } فَإِنَّهُ تَعَالَى أَبْطَلَ قَوْلَ الْكُفَّارِ بِأَنَّ
لِسَانَ الَّذِي أَلْحَدُوا إلَيْهِ بِأَنْ أَضَافُوا إلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ فَجَعَلُوهُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ مُحَمَّدًا الْقُرْآنَ لِسَانٌ أَعْجَمِيٌّ وَالْقُرْآنُ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظِ { يُلْحِدُونَ } لَمَّا تَضَمَّنَ مِنْ مَعْنَى مَيْلِهِمْ عَنْ الْحَقِّ وَمَيْلُهُمْ إلَى هَذَا الَّذِي أَضَافُوا إلَيْهِ هَذَا الْقُرْآنَ فَإِنَّ لَفْظَ " الْإِلْحَادِ " يَقْتَضِي مَيْلًا عَنْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ بِبَاطِلِ فَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ قَالُوا يُعَلِّمُهُ مَعَانِيَهُ فَقَطْ لَمْ يَكُنْ هَذَا رَدًّا لِقَوْلِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَعَلَّمُ مِنْ الْأَعْجَمِيِّ شَيْئًا بِلُغَةِ ذَلِكَ الْأَعْجَمِيِّ وَيُعَبِّرُ عَنْهُ هُوَ بِعِبَارَتِهِ . وَقَدْ اُشْتُهِرَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ : هُوَ تَعَلَّمَهُ مَنْ شَخْصٍ كَانَ بِمَكَّةَ أَعْجَمِيٌّ . قِيلَ : إنَّهُ كَانَ مَوْلًى لِابْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَإِذَا كَانَ الْكُفَّارُ جَعَلُوا الَّذِي يُعَلِّمُهُ مَا نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ بَشَرًا وَاَللَّهُ أَبْطَلَ ذَلِكَ بِأَنَّ لِسَانَ ذَلِكَ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ : عُلِمَ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَزَلَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ الْمُبِينِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُؤَلِّفْ نَظْمَ الْقُرْآنِ بَلْ سَمِعَهُ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ وَإِذَا كَانَ رُوحُ الْقُدُسِ نَزَلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ عُلِمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ وَلَمْ يُؤَلِّفْهُ هُوَ وَهَذَا بَيَانٌ مِنْ اللَّهِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ سَمِعَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ وَنَزَلَ بِهِ مِنْهُ . وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ } إلَى قَوْلِهِ : { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } وَ " الْكِتَابُ " اسْمٌ لِلْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ بِالضَّرُورَةِ وَالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة أَوْ بَعْضَهُمْ يُفَرِّق بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكِتَابِ اللَّهِ فَيَقُولُ : كَلَامُهُ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكِتَابُهُ هُوَ الْمَنْظُومُ الْمُؤَلَّفُ الْعَرَبِيُّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ . وَ " الْقُرْآنُ " يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّى نَفْسَ مَجْمُوعِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى قُرْآنًا وَكِتَابًا وَكَلَامًا فَقَالَ تَعَالَى { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ } وَقَالَ : { طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ } وَقَالَ : { وَإِذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } إلَى قَوْله تَعَالَى { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي سَمِعُوهُ هُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْكِتَابُ . وَقَالَ : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } وَقَالَ : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } وَقَالَ : { يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } وَقَالَ : { وَالطُّورِ } { وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ } { فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ } وَقَالَ : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } . وَلَكِنَّ لَفْظَ الْكِتَابِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَكْتُوبُ فَيَكُونُ هُوَ الْكَلَامَ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يُكْتَبُ فِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } وَقَالَ : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } .
وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ قَوْلَهُ { وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا } يَتَنَاوَلُ نُزُولَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ . وَقَدْ أَخْبَرَ : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } إخْبَارً مُسْتَشْهِدٍ بِهِمْ لَا مُكَذِّبٍ لَهُمْ . وَقَالَ إنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُمْ يَظُنُّونَهُ أَوْ يَقُولُونَهُ وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا مُطَابِقًا لِلْمَعْلُومِ بِخِلَافِ الْقَوْلِ وَالظَّنِّ الَّذِي يَنْقَسِمُ إلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ ؛ فَعَلِمَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ الْهَوَاءِ وَلَا مِنْ اللَّوْحِ وَلَا مِنْ جِسْمٍ آخَرَ وَلَا مِنْ جِبْرِيلَ وَلَا مِنْ مُحَمَّدٍ وَلَا غَيْرِهِمَا وَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ الْمُقِرُّونَ بِذَلِكَ خَيْرًا مِنْهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } أَنَّهُ أَنْزَلَهُ إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ أَنْزَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا مُفَرَّقًا بِحَسَبِ الْحَوَادِثِ وَلَا يُنَافِي أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قَبْلَ نُزُولِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ } { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ } { مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }
فَإِنَّ كَوْنَهُ مَكْتُوبًا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ . وَفِي صُحُفٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ نَزَلَ بِهِ مِنْ اللَّهِ سَوَاءً كَتَبَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَ بِهِ جِبْرِيلَ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ قَدْ أَنْزَلَهُ مَكْتُوبًا إلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فَقَدْ كَتَبَهُ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يُنَزِّلَهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ وَكَتَبَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَرِيحِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ ثُمَّ إنَّهُ يَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِكِتَابَتِهَا بَعْدَ مَا يَعْمَلُونَهَا ؛ فَيُقَابِلُ بِهِ الْكِتَابَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَلَى الْوُجُودِ وَالْكِتَابَةَ الْمُتَأَخِّرَةَ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ - وَهُوَ حَقٌّ - فَإِذَا كَانَ مَا يَخْلُقُهُ بَائِنًا مِنْهُ قَدْ كَتَبَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكْتُبَ كَلَامَهُ الَّذِي يُرْسِلُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُمْ بِهِ . وَمَنْ قَالَ إنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَ الْقُرْآنَ مِنْ الْكِتَابِ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ كَانَ هَذَا بَاطِلًا مِنْ وُجُوهٍ : " مِنْهَا " أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى بِيَدِهِ فَبَنُو إسْرَائِيلَ أَخَذُوا كَلَامَ اللَّهِ مِنْ الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِ فَإِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ عَنْ الْكِتَابِ
كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَعْلَى مِنْ مُحَمَّدٍ بِدَرَجَةِ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّهُ أَلْقَى إلَى جِبْرِيلَ الْمَعَانِيَ وَأَنَّ جِبْرِيلَ عُبِّرَ عَنْهَا بِالْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ فَقَوْلُهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ أُلْهِمَهُ إلْهَامًا وَهَذَا الْإِلْهَامُ يَكُونُ لِآحَادِ الْمُؤْمِنِينَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } وَقَالَ : { وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } وَقَدْ أَوْحَى إلَى سَائِر النَّبِيِّينَ فَيَكُونُ هَذَا الْوَحْيُ الَّذِي يَكُونُ لِآحَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى مِنْ أَخْذِ مُحَمَّدٍ الْقُرْآنَ عَنْ جِبْرِيلَ ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ الَّذِي عَلَّمَهُ لِمُحَمَّدِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ وَلِهَذَا زَعَمَ ابْنُ عَرَبِيٍّ أَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ : لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ . فَجَعَلَ أَخْذَهُ وَأَخْذَ الْمَلَكِ الَّذِي جَاءَ إلَى الرَّسُولِ مِنْ مَعْدِنٍ وَاحِدٍ وَادَّعَى أَنَّ أَخْذَهُ عَنْ اللَّهِ أَعْلَى مِنْ أَخْذِ الرَّسُولِ لِلْقُرْآنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ جَنْسِهِ . وَأَيْضًا فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } فَفَضَّلَ مُوسَى بِالتَّكْلِيمِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ أَوْحَى إلَيْهِمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أُمُورٍ : عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُ عَبْدَهُ تَكْلِيمًا زَائِدًا عَنْ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ قَسِيمُ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ فَإِنَّ
لَفْظَ التَّكْلِيمِ وَالْوَحْيِ كُلٌّ مِنْهُمَا يَنْقَسِمُ إلَى عَامٍّ وَخَاصٍّ فَالتَّكْلِيمُ هُوَ الْمَقْسُومُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } وَالتَّكْلِيمُ الْمُطْلَقُ هُوَ قَسِيمُ الْوَحْيِ الْخَاصِّ لَيْسَ هُوَ قِسْمًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْوَحْيِ قَدْ يَكُونُ عَامًّا فَيَدْخُلُ فِيهِ التَّكْلِيمُ الْخَاصُّ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِمُوسَى : { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } وَقَدْ يَكُونُ قَسِيمَ التَّكْلِيمِ الْخَاصِّ كَمَا فِي سُورَةِ الشُّورَى وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ الَّذِي خُصَّ بِهِ مُوسَى وَالْوَحْيِ الْعَامِّ الَّذِي يَكُونُ لِآحَادِ الْعِبَادِ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْإِيحَاءِ وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَبَيْنَ إرْسَالِ رَسُولٍ يُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيمَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَ مُوسَى - أَمْرٌ غَيْرُ الْإِيحَاءِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَوْلُهُ : { حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } وَقَوْلُهُ : { حم } { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَأَنَّهُ مُبَلِّغٌ مَأْمُورٌ بِتَبْلِيغِ ذَلِكَ .
وَأَيْضًا فَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ فَإِنْ كَانَ مُوسَى سَمِعَ جَمِيعَ الْمَعْنَى فَقَدْ سَمِعَ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ وَإِنْ سَمِعَ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ وَكِلَاهُمَا يَنْقُضُ قَوْلَهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ فَإِنْ كَانَ مَا يَسْمَعُهُ مُوسَى وَالْمَلَائِكَةُ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كُلَّهُ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلِمَ جَمِيعَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُهُ مُتَضَمِّنٌ لِجَمِيعِ خَبَرِهِ وَجَمِيعِ أَمْرِهِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ كَلَّمَهُ اللَّهُ أَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِ عَالِمًا بِجَمِيعِ أَخْبَارِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ وَهَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ . وَإِنْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يَسْمَعُ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ كَلَامُهُ وَذَلِكَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُمْ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَقَوْلُهُ : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } وَقَوْلُهُ : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } وَقَوْلُهُ : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى } { إنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى } { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } الْآيَاتِ . دَلِيلٌ عَلَى تَكْلِيمٍ سَمِعَهُ مُوسَى . وَالْمَعْنَى الْمُجَرَّدُ لَا يُسْمَعُ بِالضَّرُورَةِ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يُسْمَعُ فَهُوَ مُكَابِرٌ وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَادَاهُ وَالنِّدَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا صَوْتًا مَسْمُوعًا وَلَا يُعْقَلُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظُ النِّدَاءِ بِغَيْرِ صَوْتٍ مَسْمُوعٍ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَوْلُهُ : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ
شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } { إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى } وَقَالَ : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى } { إنِّي أَنَا رَبُّكَ } وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ نُودِيَ وَلَمْ يُنَادَ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ وَلَمَّا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الظَّرْفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } وَمَثَلُ هَذَا قَوْلُهُ : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } فَإِنَّهُ وَقَّتَ النِّدَاءَ بِظَرْفِ مَحْدُودٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّدَاءَ يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الظُّرُوفِ وَجَعَلَ الظَّرْفَ لِلنِّدَاءِ لَا يُسْمَعُ النِّدَاءُ إلَّا فِيهِ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } وَقَوْلُهُ : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَوْقِيتُ بَعْضِ أَقْوَالِ الرَّبِّ بِوَقْتِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ بَلْ الْكَلَامُ الْمُعَيَّنُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ كَلُزُومِ الْحَيَاةِ لِذَاتِهِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مُتَعَاقِبَةٌ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ وَأَنَّهَا مُتَرَتِّبَةٌ فِي ذَاتِهَا مُتَقَارِبَةٌ فِي وُجُودِهَا لَمْ تَزَلْ وَلَا
تَزَالُ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالنِّدَاءُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ الْحُرُوفُ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ بِخِلَافِ الْأَصْوَاتِ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ التَّكْلِيمَ وَالنِّدَاءَ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ خَلْقِ إدْرَاكِ الْمَخْلُوقِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ مَا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ لَا أَنَّهُ يَكُونُ هُنَاكَ كَلَامٌ يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا تَكْلِيمَ ؛ بَلْ تَكْلِيمُهُ عِنْدَهُمْ جَعْلُ الْعَبْدِ سَامِعًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ سَمْعِهِ بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ الْأَعْمَى بَصِيرًا لِمَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ رُؤْيَتِهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ شَيْءٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ الْأَعْمَى . فَعِنْدَهُمْ لَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِ رَبِّهِ سَمِعَ النِّدَاءَ الْقَدِيمَ لَا أَنَّهُ حِينَئِذٍ نُودِيَ . وَلِهَذَا يَقُولُونَ : إنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَهُ لِخَلْقِهِ يَدُلُّ عَنْ قَوْلِ النَّاسِ إنَّهُ يُكَلِّمُ خَلْقَهُ وَهَؤُلَاءِ يَرُدُّونَ عَلَى الخلقية الَّذِينَ يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَيَقُولُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ إنَّهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ الْمُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَيْسَ قَوْلُهُمْ قَوْلَ السَّلَفِ ؛ لَكِنَّ قَوْلَهُمْ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ وَقَوْلُ الخلقية أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ . أَمَّا كَوْنُ قَوْلِهِمْ أَقْرَبَ فَلِأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ كَلَامًا قَائِمًا بِنَفْسِ اللَّهِ وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ ؛ بِخِلَافِ الخلقية الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ فَإِنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ . وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِ
الخلقية أَقْرَبَ فَلِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يُقَدِّرُ اللَّهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ كَلَامِهِ وَلَيْسَ كَلَامُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ بَلْ كَلَامُهُ عِنْدَهُمْ كَحَيَاتِهِ وَهُمْ يَقُولُونَ : الْكَلَامُ عِنْدَنَا صِفَةُ ذَاتٍ لَا صِفَةُ فِعْلٍ . والخلقية يَقُولُونَ صِفَةُ فِعْلٍ لَا صِفَةُ ذَاتٍ وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَنَّهُ صِفَةُ ذَاتٍ وَصْفَةُ فِعْلٍ مَعًا فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُوَافِقٌ لِلسَّلَفِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ . وَاخْتِلَافُهُمْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى شَبِيهُ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَكَرَاهَتِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَفَرَحِهِ وَسُخْطِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مَخْلُوقَةٌ بَائِنَةٌ عَنْهُ تَرْجِعُ إلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا كُلَّهَا تَعُودُ إلَى إرَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْعَيْنِ مُتَعَلِّقَةً بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هِيَ صِفَاتٌ مُتَعَدِّدَةُ الْأَعْيَانِ لَكِنْ يَقُولُ : كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةُ الْعَيْنِ قَدِيمَةٌ قَبْلَ وُجُودِ مُقْتَضَيَاتِهَا كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ أَفْعَالَهُمْ أَسْخَطَتْهُ قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أَيْ أَغْضَبُونَا . وَقَالَ تَعَالَى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } إلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ سَخِطَ عَلَى الْكُفَّارِ لَمَّا كَفَرُوا وَرَضِيَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمَّا آمَنُوا .
وَنَظِيرُ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَمَسَائِلِ الْقَدَرِ ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ : إنَّهُ يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ مَقْصُودَةٍ وَإِرَادَةِ الْإِحْسَانِ إلَى الْعِبَادِ ؛ لَكِنْ لَا يُثْبِتُونَ لِفِعْلِهِ حِكْمَةً تَعُودُ إلَيْهِ . وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ لَا يَفْعَلُ لِحِكْمَةِ وَلَا لِمَقْصُودِ أَصْلًا . فَأُولَئِكَ أَثْبَتُوا حِكْمَةً لَكِنْ لَا تَقُومُ بِهِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ حِكْمَةً وَلَا قَصْدًا يَتَّصِفُ بِهِ وَالْفَرِيقَانِ لَا يُثْبِتُونَ لَهُ حِكْمَةً وَلَا مَقْصُودًا يَعُودُ إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ فِي " الْكَلَامِ " : أُولَئِكَ أَثْبَتُوا كَلَامًا هُوَ فِعْلُهُ لَا يَقُومُ بِهِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ مَا لَا يَقُومُ بِهِ لَا يَعُودُ حُكْمُهُ إلَيْهِ . وَالْفَرِيقَانِ يَمْنَعُونَ أَنْ يَقُومَ بِهِ حِكْمَةٌ مُرَادَةٌ لَهُ كَمَا يَمْنَعُ الْفَرِيقَانِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ وَفِعْلٌ يُرِيدُهُ وَقَوْلُ أُولَئِكَ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْفُقَهَاءِ إذْ أَثْبَتُوا الْحِكْمَةَ وَالْمَصْلَحَةَ فِي أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَثْبَتُوا كَلَامًا يَتَكَلَّمُ بِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ إذْ أَثْبَتُوا الصِّفَاتِ وَقَالُوا : لَا يُوصَفُ بِمُجَرَّدِ الْمَخْلُوقِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ أَصْلًا وَلَا يَعُودُ إلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ شَيْءٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَلَا يَكُونُ حَكِيمًا كَرِيمًا وَرَحِيمًا بِحِكْمَةِ وَرَحْمَةٍ لَمْ تَقُمْ بِهِ كَمَا لَا يَكُونُ عَلِيمًا بِعِلْمِ لَمْ يَقُمْ بِهِ وَقَدِيرًا بِقُدْرَةِ لَمْ تَقُمْ بِهِ وَلَا يَكُونُ مُحِبًّا رَاضِيًا غَضْبَانَ بِحُبِّ وَرِضًى وَغَضَبٍ لَمْ يَقُمْ بِهِ . فَكُلٌّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ فِي مَسَائِلِ كَلَامِ اللَّهِ وَأَفْعَالِ اللَّهِ ؛ بَلْ
وَسَائِر صِفَاتِهِ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ مِنْ وَجْهٍ وَخَالَفُوهُمْ مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَ قَوْلُ أَحَدِهِمَا هُوَ قَوْلَ السَّلَفِ دُونَ الْآخَرِ ؛ لَكِنْ الْأَشْعَرِيَّةُ فِي جِنْسِ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ بَلْ وَسَائِر الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ أَقْرَبُ إلَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَة . فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ . قِيلَ : هَذَا بَاطِلٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوْضِعَيْنِ ؛ وَالرَّسُولِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ مُحَمَّدٌ وَالرَّسُولُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى جِبْرِيلُ . قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّكْوِيرِ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ . فَلَوْ كَانَ أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ لِكَوْنِهِ أَحْدَثَ حُرُوفَهُ أَوْ أَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا لَكَانَ الْخَبَرَانِ مُتَنَاقِضَيْنِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي أَحْدَثَهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَلَمْ يَقُلْ : لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَفْظُ " الرَّسُولُ " يَسْتَلْزِمُ مُرْسَلًا لَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
الرَّسُولَ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ ؛ لَا أَنَّهُ أَنْشَأَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ . لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِأَنَّهُ أَنْشَأَ مِنْهُ شَيْئًا وَابْتَدَأَهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَفَّرَ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ الْبَشَرِ بِقَوْلِهِ : { إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ نَظَرَ } { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } { فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } وَمُحَمَّدٌ بَشَرٌ فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَقَدْ كَفَرَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ : هُوَ قَوْلُ بَشَرٍ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ مَلَكٍ فَمَنْ جَعَلَهُ قَوْلًا لِأَحَدِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَقَدْ كَفَرَ ؛ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } فَجَعَلَهُ قَوْلَ الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ مَعَ تَكْفِيرِهِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَا أَنَّهُ قَوْلٌ لَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } فَاَلَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ الرَّسُولِ . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوَاسِمِ وَيَقُولُ : { أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَالْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ
قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا وَمُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَالْمُؤْمِنُونَ يَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَسَمَاعُ مُوسَى سَمَاعٌ مُطْلَقٌ بِلَا وَاسِطَةٍ وَسَمَاعُ النَّاسِ سَمَاعٌ مُقَيَّدٌ بِوَاسِطَةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } . فَفَرَّقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَ مُوسَى - وَبَيْنَ التَّكْلِيمِ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ - كَمَا كَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ بِإِرْسَالِ رَسُولٍ إلَيْهِمْ - وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامِ تَكَلَّمَ بِهِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ بِصَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْمُبَلِّغُونَ عَنْهُ يُبَلِّغُونَ كَلَامَهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ } فَالْمُسْتَمِعُ مِنْهُ يُبَلِّغُ حَدِيثَهُ كَمَا سَمِعَهُ : لَكِنْ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ الرَّسُولِ فَالْكَلَامُ هُوَ كَلَامُ الرَّسُولِ تَكَلَّمَ بِهِ بِصَوْتِهِ وَالْمُبَلِّغُ بَلَّغَ كَلَامَ الرَّسُولِ لَكِنْ بِصَوْتِ نَفْسِهِ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا فِيمَنْ يُبَلِّغُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ فَكَلَامُ الْخَالِقِ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } فَجَعَلَ الْكَلَامَ كَلَامَ الْبَارِي وَجَعَلَ الصَّوْتَ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْعَبْدُ صَوْتَ الْقَارِئِ وَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ لَيْسَتْ هِيَ عَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يُنَادِي
اللَّهُ بِهِ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ كَمَا نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِذَلِكَ بَلْ وَلَا مِثْلَهُ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَلَيْسَ عِلْمُهُ مِثْلَ عِلْمِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا قُدْرَتُهُ مِثْلَ قُدْرَتِهِمْ وَلَا كَلَامُهُ مِثْلَ كَلَامِهِمْ وَلَا نِدَاؤُهُ مِثْلَ نِدَائِهِمْ وَلَا صَوْتُهُ مِثْلَ أَصْوَاتِهِمْ . فَمَنْ قَالَ عَنْ الْقُرْآنِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ : لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ هُوَ كَلَامُ غَيْرِهِ فَهُوَ مُلْحِدٌ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ أَوْ الْمِدَادَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ فَهُوَ مُلْحِدٌ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ ؛ بَلْ هَذَا الْقُرْآنُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ مُثْبَتٌ فِي الْمَصَاحِفِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُبَلَّغًا عَنْهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْقُرَّاءِ لَيْسَ هُوَ مَسْمُوعًا مِنْهُ وَالْإِنْسَانُ يَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَيَرَاهَا فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ فَهَذِهِ رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالْوَاسِطَةِ وَتِلْكَ رُؤْيَةٌ مُطْلَقَةٌ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ يُسْمَعُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ وَيُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ وَالْمَقْصُودُ بِالسَّمَاعِ هُوَ كَلَامُهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرُّؤْيَةِ هُوَ الْمَرْئِيُّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . فَمَنْ عَرَفَ مَا بَيْنَ الْحَالَيْنِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ الَّتِي تُصِيبُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ طَائِفَةً قَالَتْ : هَذَا الْمَسْمُوعُ كَلَامُ اللَّهِ وَالْمَسْمُوعُ صَوْتُ الْعَبْدِ وَصَوْتُهُ مَخْلُوقٌ ؛ فَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ . وَهَذَا جَهْلٌ فَإِنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ
الْمُبَلِّغ وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ مَخْلُوقًا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْكَلَامِ مَخْلُوقًا . وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ " : هَذَا الْمَسْمُوعُ صَوْتُ الْعَبْدِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْمَسْمُوعُ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا جَهْلٌ ؛ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ هُوَ الصَّوْتُ لَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يُسْمَعُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَمِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ . وَ " طَائِفَةٌ " قَالَتْ : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَيَكُونُ هَذَا الصَّوْتُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَهَذَا جَهْلٌ . فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُوَ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَهُوَ الثَّابِتُ إذَا سُمِعَ مِنْ اللَّهِ وَإِذَا سُمِعَ مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ وَإِذَا قِيلَ لِلْمَسْمُوعِ إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَا مَسْمُوعًا مِنْهُ فَهُوَ مَسْمُوعٌ بِوَاسِطَةِ صَوْتِ الْعَبْدِ وَصَوْتُ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ . وَأَمَّا كَلَامُ اللَّهِ نَفْسُهُ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حَيْثُ مَا تَصَرَّفَ . وَهَذِهِ نُكَتٌ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَصْلٌ :
فَإِنْ قِيلَ : مَا مَنْشَأُ هَذَا النِّزَاعِ وَالِاشْتِبَاهِ وَالتَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ ؟ قِيلَ : مُنْشَؤُهُ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ وَعَابُوهُ وَهُوَ الْكَلَامُ الْمُشْتَبَهُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ : فِيهِ مَا يُوَافِقُ الْعَقْلَ وَالسَّمْعَ وَفِيهِ مَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالسَّمْعَ فَيَأْخُذُ هَؤُلَاءِ جَانِبَ النَّفْيِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى نَفْيِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَهَؤُلَاءِ جَانِبَ الْإِثْبَاتِ الْمُشْتَمِلَ عَلَى إثْبَاتِ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَجِمَاعُهُ هُوَ الْكَلَامُ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ ؛ فَكُلُّ كَلَامٍ خَالَفَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا يُخَالِفُ ذَلِكَ إلَّا كَلَامٌ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ وَالسَّمْعِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا تَنَاظَرُوا فِي مَسْأَلَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ اسْتَدَلَّتْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ طَوَائِفِ أَهْلِ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ . ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَدِلِّينَ بِذَلِكَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ قَالُوا : إنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ ثُمَّ تَنَوَّعَتْ طُرُقُهُمْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى . فَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَهُمَا حَادِثَانِ وَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ
الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَهُمَا حَادِثَانِ وَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ الْأَكْوَانِ الْأَرْبَعَةِ : الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَهِيَ حَادِثَةٌ . وَهَذِهِ طُرُقُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَعْرَاضِ . وَتَارَةً يُثْبِتُونَهَا بِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ عَنْ عَرَضٍ مِنْهُ . وَيَقُولُونَ : الْقَابِلُ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ وَعَنْ ضِدِّهِ وَيَقُولُونَ : إنَّ الْأَعْرَاضَ يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهَا لِأَنَّ الْعَرْضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الَّتِي اخْتَارَهَا الْآمِدِيَّ وَزَيَّفَ مَا سِوَاهَا وَذَكَرَ أَنَّ جُمْهُورَ أَصْحَابِهِ اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَيْهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ : كَالْقَاضِي أَبَى يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَمْثَالِهِمْ . وَأَمَّا الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرُهُمْ مِنْ الطَّوَائِفِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِحُدُوثِ كُلِّ جِسْمٍ وَيَقُولُونَ : إنَّ الْقَدِيمَ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهَؤُلَاءِ إذَا قَالُوا بِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ مُوَافَقَةً لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي هَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ الْجِسْمَ الْقَدِيمَ يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ بِخِلَافِ الْأَجْسَامِ الْمُحْدَثَةِ فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ . وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي " السُّكُونِ " هَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ عَدَمِيٌّ ؟
فَمَنْ قَالَ إنَّهُ وُجُودِيٌّ قَالَ إنَّ الْجِسْمَ الَّذِي لَا يَخْلُو عَنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ إذَا انْتَفَتْ عَنْهُ الْحَرَكَةُ قَامَ بِهِ السُّكُونُ الْوُجُودِيُّ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَحْتَجُّ بِتَعَاقُبِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ عَلَى حُدُوثِ الْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ عَدَمِيٌّ : لَمْ يَلْزَمْ مِنْ عَدَمِ الْحَرَكَةِ عَنْ الْمَحَلِّ ثُبُوتُ سُكُونٍ وُجُودِيٍّ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْحَرَكَةُ أَوْ الْحَوَادِثُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ قَوْلِهِ بِامْتِنَاعِ تَعَاقُبِ الْحَوَادِثِ كَمَا هُوَ قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ - يَقُولُونَ : إذَا قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ لَمْ يُعْدَمْ بِقِيَامِهَا سُكُونٌ وُجُودِيٌّ ؛ بَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إنَّهُ يَفْعَلُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا وَلَا يَقُولُونَ : إنَّ عَدَمَ الْفِعْلِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ - كَذَلِكَ الْحَرَكَةُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَقُولُونَ : مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ مُقَدِّمَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَادِثَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقَارِنَهُ أَوْ يَكُونَ بَعْدَهُ وَمَا قَارَنَ الْحَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ وَمَا كَانَ بَعْدَهُ فَهُوَ حَادِثٌ . وَهَذَا الْكَلَامُ مُجْمَلٌ فَإِنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ أَوْ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَادِثَ الْمُعَيَّنَ فَهُوَ حَقٌّ بِلَا رَيْبٍ وَلَا نِزَاعٍ فِيهِ وَكَذَلِكَ إذَا أُرِيدَ بِالْحَادِثِ جُمْلَةُ مَا لَهُ أَوَّلُ أَوْ مَا كَانَ بَعْدَ الْعَدَمِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالْحَوَادِثِ الْأُمُورُ الَّتِي تَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَا إلَى أَوَّلَ . وَقِيلَ : إنَّهُ مَا لَا يَخْلُو عَنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ عَنْهَا فَهُوَ حَادِثٌ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظَاهِرًا وَلَا بَيِّنًا
بَلْ هَذَا الْمَقَامُ حَارَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَفْهَامِ وَكَثِيرٌ فِيهِ النِّزَاعُ وَالْخِصَامُ ؛ وَلِهَذَا صَارَ الْمُسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِمْ : مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا أَثْبَتُوا امْتِنَاعَ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ طُرُقًا قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَذَا الْأَصْلُ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " . فَقِيلَ : مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ وَبِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُطْلَقًا وَهَذَا قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ . وَقِيلَ : بَلْ يَجُوزُ دَوَامُ الْحَوَادِثِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كُلُّ مَا قَارَنَ حَادِثًا بَعْدَ حَادِثٍ لَا إلَى أَوَّلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا ؛ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَرُبَّمَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَالْأَفْلَاكِ كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ مِثْلِ ثامسطيوس وَالْإِسْكَنْدَرِ الأفريدوسي وبرقلس وَالْفَارَابِيّ وَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِمْ . وَأَمَّا جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَرِسْطُو فَلَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ
بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ . ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مُتَنَازِعُونَ فِي قِيَامِ الصِّفَاتِ وَالْحَوَادِثِ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ لَهُمْ وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَسَاطِينِ الْقُدَمَاءِ وَبَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ الْمُعْتَبَرِ وَغَيْرِهِ كَمَا بَسَطْت أَقْوَالَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقِيلَ : بَلْ إنْ كَانَ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْحَوَادِثِ مُمْكِنًا بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى مَفْعُولًا وَمَعْلُولًا وَمَرْبُوبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا . وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا وَهَذَا قَوْلُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَأَسَاطِينِ الْفَلَاسِفَةِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ فَهُوَ حَادِثٌ أَوْ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَهُوَ مَعْلُولٌ أَوْ مَفْعُول أَوْ مُبْتَدَعٌ أَوْ مَصْنُوعٌ فَهُوَ حَادِثٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَفْعُولًا مُسْتَلْزِمًا لِلْحَوَادِثِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا ؛ فَإِنَّ الْقَدِيمَ الْمَعْلُولَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا إلَّا إذَا كَانَ لَهُ مُوجِبٌ قَدِيمٌ بِذَاتِهِ يَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعَهُ أَزَلِيًّا لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ . فَإِنَّ كَوْنَهُ مَفْعُولًا يُنَافِي كَوْنَهُ قَدِيمًا بَلْ قِدَمُهُ يُنَافِي كَوْنَهُ مُمْكِنًا فَلَا يَكُونُ مُمْكِنًا إلَّا مَا كَانَ مُحْدَثًا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَهَذَا قَوْلُ الْفَلَاسِفَةِ الْقُدَمَاءِ قَاطِبَةً كَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ وَإِنَّمَا أَثْبَتَ مُمْكِنًا قَدِيمًا بَعْضُ مُتَأَخِّرِيهِمْ كَابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ خَالَفُوا فِي
ذَلِكَ الْفَلَاسِفَةَ الْقُدَمَاءَ قَاطِبَةً كَمَا خَالَفُوا فِي ذَلِكَ جَمَاهِيرَ الْعُقَلَاءِ مِنْ سَائِر الطَّوَائِفِ ؛ وَلِهَذَا تَنَاقَضُوا فِي أَحْكَامِ الْمُمْكِنِ وَوَرَدَ عَلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ الْأَسْئِلَةِ مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ كَمَا ذَكَرْت ذَلِكَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْأَرْبَعِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ . وَمَا يُدَعَّى مِنْ أَنَّ الْمَعْلُولَ قَدْ يُقَارِنُ عِلَّتَهُ إنَّمَا يُعْقَلُ فِيمَا كَانَ شَرْطًا لَا فَاعِلًا كَقَوْلِهِمْ : حَرَّكْت يَدِي فَتَحَرَّكَ الْخَاتَمُ ؛ فَإِنَّ حَرَكَةَ الْيَدِ شَرْطٌ فِي تَحْرِيكِ الْخَاتَمِ وَالشَّرْطُ وَالْمَشْرُوطُ قَدْ يَتَلَازَمَانِ وَ لَيْسَتْ فَاعِلَةً مُبْدِعَةً لَهَا وَكَذَلِكَ الشُّعَاعُ مَعَ النَّارِ وَالشَّمْسُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَمَّا مَا يَكُونُ فَاعِلًا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَارِنَهُ مَفْعُولُهُ فِي الزَّمَانِ سَوَاءٌ كَانَ فَاعِلًا بِالْإِرَادَةِ أَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِغَيْرِ إرَادَةٍ وَسَوَاءً سُمِّيَ فَاعِلًا بِالذَّاتِ أَوْ بِالطَّبْعِ أَوْ مَا قُدِّرَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مُقَارِنًا لِفَاعِلِهِ فِي الزَّمَانِ كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين . وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ لَمْ يَقُولُوا إنَّ الْفَلَكَ مَفْعُولٌ لِلرَّبِّ وَلَا إنَّهُ مَعْلُولٌ لِعِلَّةِ فَاعِلِيَّةٍ أَبْدَعَتْ ذَاتَه ؛ بَلْ زَعَمُوا أَنَّهُ قَدِيمٌ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ وَأَنَّ لَهُ عِلَّةً غائية يَتَشَبَّهُ بِهَا نَحْوُ حَرَكَةِ الْمَعْشُوقِ يَجِبُ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ وَالْفَلَكُ عِنْدَهُمْ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَلِهَذَا قَالُوا : " الْفَلْسَفَةُ " هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ وَقَوْلُهُمْ - وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ بِاَللَّهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي قَوْلِ ابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَفِيهِمْ مِنْ التَّنَاقُضِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ
مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ - فَلَمْ يَتَنَاقَضُوا فِي إثْبَاتِ مُمْكِنٍ قَدِيمٍ كَتَنَاقُضِ مُتَأَخِّرِيهِمْ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ مُسْتَقِرَّةً فِي فِطَرِ الْعُقَلَاءِ وَكَانَ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ وَالْخَبَرِ بِأَنَّ السَّمَوَاتِ مَخْلُوقَةٌ أَوْ مَصْنُوعَةٌ أَوْ مُفَعْوِلَةٌ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا حَادِثَةٌ ، لَا يَخْطُرُ بِالْفِطَرِ السَّلِيمَةِ إمْكَانُ كَوْنِهَا مُفَعْوِلَةً لِفَاعِلِ فَعَلَهَا مَعَ كَوْنِهَا قَدِيمَةً لَمْ تَزَلْ مَعَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَدَّعِ هَذَا إلَّا هَذِهِ الشِّرْذِمَةُ الْقَلِيلَةُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ مَا اسْتَلْزَمَ الْحَوَادِثَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ يَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهُ فِي الْأَزَلِ ؛ فَإِنَّ الْحَوَادِثَ الْمُتَعَاقِبَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَا يَكُونُ مَجْمُوعُهَا فِي الْأَزَلِ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا أَزَلِيًّا بَلْ الْأَزَلِيُّ هُوَ دَوَامُهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَالْمُوجِبُ بِذَاتِهِ الْمُسْتَلْزِمُ لِمَعْلُولِهِ فِي الْأَزَلِ لَا يَكُونُ مَعْلُولُهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ سَوَاءً كَانَ صَادِرًا عَنْهُ بِوَاسِطَةِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَإِنَّ مَا كَانَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ يَكُونُ مُتَعَاقِبًا حَادِثًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا مُقَارِنًا لِعِلَّتِهِ فِي الْأَزَلِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ إنَّ الْمُقَارِنَ لِذَلِكَ هُوَ الْمُوجِبُ بِذَاتِهِ الَّذِي يَفْعَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ فِي الْأَزَلِ مُوجِبًا بِذَاتِهِ وَلَا عِلَّةً سَابِقَةً تَامَّةً لِشَيْءِ مِنْ الْعَالَمِ فَلَا يَكُونُ مَعَهُ فِي الْأَزَلِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ شَيْءٌ لَكِنْ فَاعِلِيَّتُهُ لِلْمَفْعُولَاتِ تَكُونُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَكُلُّ مَفْعُولٍ يُوجَدُ عِنْدَهُ وُجُودُ كَمَالِ فَاعِلِيَّتِهِ
إذْ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ الْمُسْتَلْزِمُ لِجَمِيعِ شُرُوطِ التَّأْثِيرِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أَثَرُهُ ؛ إذْ لَوْ تَخَلَّفَ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا تَامًّا فَوُجُودُ الْأَثَرِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ وَوُجُودُ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَثَرِ فَلَيْسَ فِي الْأَزَلِ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ فَلَيْسَ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ وَالْأَزَلُ لَيْسَ هُوَ حَدًّا مَحْدُودًا وَلَا وَقْتًا مُعَيَّنًا . بَلْ كُلُّ مَا يُقَدِّرُهُ الْعَقْلُ مِنْ الْغَايَةِ الَّتِي يَنْتَهِي إلَيْهَا فَالْأَزَلُ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا هُوَ قَبْلَ مَا قَدَّرَهُ فَالْأَزَلُ لَا أَوَّلَ لَهُ كَمَا أَنَّ الْأَبَدَ لَا آخِرَ لَهُ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ } فَلَوْ قِيلَ إنَّهُ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ فِي الْأَزَلِ لِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لَهُ دَائِمًا وَذَلِكَ يُنَافِي كَوْنَهُ مَفْعُولًا لَهُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا فِي الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ لِلْمَوْصُوفِ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ : الذَّاتُ مُقْتَضٍ تَامٌّ لِلصِّفَةِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الذَّاتَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلصِّفَةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ الذَّاتَ مُبْدِعَةٌ لِلصِّفَةِ فَإِنَّهُ إذَا تُصُوِّرَ مَعْنَى الْمُبْدِعِ امْتَنَعَ فِي الْمُقَارِنِ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ سَوَاءً سُمِّيَ عِلَّةً فَاعِلَةً أَوْ خَالِقًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَامْتَنَعَ أَنْ يَقُومَ بِالْأَثَرِ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَادِثٍ يَحْدُثُ لَا يَحْدُثُ إلَّا إذَا وُجِدَ مُؤَثِّرُهُ التَّامُّ عِنْدَ حُدُوثِهِ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتُ الْمُؤَثِّرِ مَوْجُودَةً قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ كَمَالِ وُجُودِ شُرُوطِ التَّأْثِيرِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَثَرِ
وَإِلَّا لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَتَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ بِدُونِ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ . وَكُلُّ هَذَا مُمْتَنِعٌ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي الْأَزَلِ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ لِأَنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْحَوَادِثِ قَدِيمًا . وَإِذَا قِيلَ ذَاتُهُ مُقْتَضِيَةٌ لِلْحَادِثِ الثَّانِي بِشَرْطِ انْقِضَاءِ الْأَوَّلِ . قِيلَ : فَلَيْسَ هُوَ مُقْتَضِيًا لِشَيْءِ وَاحِدٍ دَائِمًا فَلَا يَكُونُ مَعَهُ قَدِيمٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ . وَقِيلَ أَيْضًا : هَذَا إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ لِذَاتِهِ أَحْوَالٌ مُتَعَاقِبَةٌ تَخْتَلِفُ الْمَفْعُولَاتُ لِأَجْلِهَا فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنْ لَا يَقُومَ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُتَعَاقِبَةِ ؛ بَلْ حَالُهَا عِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثِ كَحَالِهَا قَبْلَهُ كَانَ امْتِنَاعُ فِعْلِهِ لِلْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْبَائِنَةِ أَعْظَمَ مِنْ امْتِنَاعِ فِعْلِهِ لِحَادِثِ مُعَيَّنٍ فَإِذَا كَانَ الثَّانِي مُمْتَنِعًا عِنْدَهُمْ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى بِالِامْتِنَاعِ وَمَتَى كَانَ لِلذَّاتِ أَحْوَالٌ مُتَعَاقِبَةٌ تَقُومُ بِهَا بَطَلَتْ كُلُّ حُجَّةٍ لَهُمْ عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ وَامْتَنَعَ أَيْضًا قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ إذَا كَانَ الْمَفْعُولُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ وَالْفِعْلُ الْحَادِثُ لَا يَكُونُ مَفْعُولُهُ إلَّا حَادِثًا . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَصْلٌ :
وَإِذَا عُرِفَ الْأَصْلُ الَّذِي مِنْهُ تَفَرَّعَ نِزَاعُ النَّاسِ فِي " مَسْأَلَةِ كَلَامِ اللَّهِ " فَاَلَّذِينَ قَالُوا مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ مُطْلَقًا تَنَازَعُوا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى . فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ : الْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَشِيئَةِ الْمُتَكَلِّمِ وَقُدْرَتِهِ فَيَكُونُ حَادِثًا كَغَيْرِهِ مِنْ الْحَوَادِثِ ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ : وَالرَّبُّ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ فَيَكُونُ الْكَلَامُ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ فَجَعَلُوا كَلَامَهُ مَخْلُوقًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَالَ وَفَعَلَ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ لَا يَتَّصِفُ بِهَا الْخَالِقُ فَلَا يَتَّصِفُ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْوَانِ وَالْأَصْوَاتِ وَالرَّوَائِحِ وَالْحَرَكَةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَكَيْفَ يَتَّصِفُ بِمَا يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَوْ جَاز ذَلِكَ لَكَانَ مَا يَخْلُقُهُ مِنْ إنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ كَلَامَهُ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ خَالِقُ كَلَامِ الْعِبَادِ وَأَفْعَالِهِمْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ كَلَامُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الِاتِّحَادِيَّةِ : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامه سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة والنجارية والضرارية وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ
يَقُولُونَ : إنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَكَلَامِهِمْ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَيَلْزَمُهُمْ هَذَا . وَأَمَّا " الْمُعْتَزِلَةُ " فَلَا يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَكِنَّ الْحُجَّةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِذَلِكَ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : بَلْ الْكَلَامُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِالْمُتَكَلِّمِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيَكُونُ كَلَامُهُ حَادِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . وَهَذَا قَوْلُ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : كَلَامُهُ كُلُّهُ حَادِثٌ لَا مُحْدَثٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ حَادِثٌ وَمُحْدَثٌ . وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُطْلَقًا : الْكَلَامُ لَازِمٌ لِذَاتِ الرَّبِّ كَلُزُومِ الْحَيَاةِ لَيْسَ هُوَ مُتَعَلِّقًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ هُوَ قَدِيمٌ كَقِدَمِ الْحَيَاةِ ؛ إذْ لَوْ قُلْنَا إنَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَادِثًا وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا أَوْ قَائِمًا بِذَاتِ الرَّبِّ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَسَلْسُلَ الْحَوَادِثِ . لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَوْ عَنْ ضِدِّهِ . قَالُوا : وَتَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ مُمْتَنِعٌ ؛ إذْ التَّفْرِيعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ لَمَّا قَالُوا بِقِدَمِ عَيْنِ الْكَلَامِ تَنَازَعُوا فِيهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ :
الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ حُرُوفًا وَلَا أَصْوَاتًا ؛ لِأَنَّ الصَّوْتَ يَسْتَحِيلُ بَقَاؤُهُ كَمَا يَسْتَحِيلُ بَقَاءُ الْحَرَكَةِ وَمَا امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ امْتَنَعَ قِدَمُ عَيْنِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى فَيَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْأَصْوَاتِ الْمُعَيَّنَةِ كَمَا يَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْحَرَكَاتِ الْمُعَيَّنَةِ . لِأَنَّ تِلْكَ لَا تَكُونُ كَلَامًا إلَّا إذَا كَانَتْ مُتَعَاقِبَةً وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مَسْبُوقًا بِغَيْرِهِ فَلَوْ كَانَتْ الْمِيمُ مِنْ ( بِسْمِ اللَّهِ قَدِيمَةً مَعَ كَوْنِهَا مَسْبُوقَةً بِالسِّينِ وَالْبَاءِ لَكَانَ الْقَدِيمُ مَسْبُوقًا بِغَيْرِهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ هُوَ الْمَعْنَى فَقَطْ وَلَا يَجُوزُ تَعَدُّدُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَ لَكَانَ اخْتِصَاصُهُ بِقَدْرِ دُونَ قَدْرٍ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَنَاهَى لَزِمَ وُجُودُ أَعْدَادٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ . قَالُوا : وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ وَهُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ : بَلْ هُوَ حُرُوفٌ قَدِيمَةُ الْأَعْيَانِ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ وَهِيَ مُتَرَتِّبَةٌ فِي ذَاتِهَا لَا فِي وُجُودِهَا كَالْحُرُوفِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْمُصْحَفِ وَلَيْسَ بِأَصْوَاتِ قَدِيمَةٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ هُوَ أَيْضًا أَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ هَؤُلَاءِ بَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إلَّا مُتَعَاقِبَةً وَبَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ الَّتِي تُوجَدُ فِي آنٍ وَاحِدٍ كَمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَصْوَاتِ وَالْمِدَادِ . فَإِنَّ الْأَصْوَاتَ لَا تَبْقَى بِخِلَافِ الْمِدَادِ فَإِنَّهُ جِسْمٌ يَبْقَى وَإِذَا كَانَ الصَّوْتُ لَا يَبْقَى امْتَنَعَ
أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ الْمُعَيَّنُ قَدِيمًا ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ قِدَمُهُ لَزِمَ بَقَاؤُهُ وَامْتَنَعَ عَدَمُهُ وَالْحُرُوفُ الْمَكْتُوبَةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الشَّكْلِ الْقَائِمِ بِالْمِدَادِ أَوْ مَا يُقَدَّرُ بِقَدَرِ الْمِدَادِ : كَالشَّكْلِ الْمَصْنُوعِ فِي حَجَرٍ وَوَرَقٍ فَإِزَالَةُ بَعْضِ أَجْزَائِهِ تَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ نَفْسُ الْمِدَادِ . وَأَمَّا الْحُرُوفُ الْمَنْطُوقَةُ فَقَدْ يُرَادُ بِهَا أَيْضًا الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ الْمُؤَلَّفَةُ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا حُدُودُ الْأَصْوَاتِ وَأَطْرَافُهَا كَمَا يُرَادُ بِالْحَرْفِ فِي الْجِسْمِ حَدُّهُ وَمُنْتَهَاهُ . فَيُقَالُ : حَرْفُ الرَّغِيفِ وَحَرْفُ الْجَبَلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } وَقَدْ يُرَادُ بِالْحُرُوفِ الْحُرُوفُ الْخَيَالِيَّةُ الْبَاطِنَةُ وَهِيَ مَا يَتَشَكَّلُ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمَنْظُومِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ حُرُوفٍ بِدُونِ أَصْوَاتٍ فِي الْحَيِّ النَّاطِقِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لَهُمْ وَعَلَى هَذَا تَنَازَعْت هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْقَائِلَةُ بِقِدَمِ أَعْيَانِ الْحُرُوفِ هَلْ تَكُونُ قَدِيمَةً بِدُونِ أَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ أَمْ لَا بُدّ مِنْ أَصْوَاتٍ قَدِيمَةٍ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ ؟ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِقَدَمِ الْأَصْوَاتِ الْمُعَيَّنَةِ تَنَازَعُوا فِي الْمَسْمُوعِ مِنْ الْقَارِئِ . هَلْ يُسْمَعُ مِنْهُ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ ؟ فَقِيلَ : الْمَسْمُوعُ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَقِيلَ بَلْ الْمَسْمُوعُ هُوَ صَوْتَانِ أَحَدُهُمَا الْقَدِيمُ وَالْآخَرُ الْمُحْدَثُ فَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْقُرْآنِ فَهُوَ الْقَدِيمُ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ الْمُحْدَثُ .
وَقِيلَ : بَلْ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ غَيْرُ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْعَبْدِ .
وَتَنَازَعُوا فِي " الْقُرْآنِ " هَلْ يُقَالُ إنَّهُ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ وَالصُّدُورِ أَمْ لَا يُقَالُ ذَلِكَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . فَقِيلَ : هُوَ ظَاهِرٌ فِي الْمُحْدَثِ لَيْسَ بِحَالِّ فِيهِ . وَقِيلَ : بَلْ الْقُرْآنُ حَالٌّ فِي الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ فَهَؤُلَاءِ الخلقية والحادثية والاتحادية والاقترانية أَصْلُ قَوْلِهِمْ أَنَّ مَا لَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ فَهُوَ حَادِثٌ مُطْلَقًا . وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْأَصْلِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ بَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُهُ حَادِثًا يُرِيدُ أَنَّهُ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَجْعَلُ الْحَادِثَاتِ إرَادَاتٍ وَتَصَوُّرَاتٍ لَا حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا . وَالدَّارِبِيَّ وَغَيْرُهُ يَمِيلُونَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَجْعَلَ كَلَامَ اللَّهِ حَادِثًا أَوْ قَدِيمًا وَإِذَا كَانَ حَادِثًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فِي غَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَادِثًا فِي ذَاتِهِ وَإِذَا كَانَ قَدِيمًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَدِيمُ الْمَعْنَى فَقَطْ أَوْ اللَّفْظَ فَقَطْ أَوْ كِلَاهُمَا فَإِذَا كَانَ الْقَدِيمُ هُوَ الْمَعْنَى فَقَطْ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى قَدْ عُرِفَ . وَأَمَّا قِدَمُ اللَّفْظِ فَقَطْ فَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ؛ لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ هُوَ اللَّفْظُ . وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَلَيْسَ هُوَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ بَلْ هُوَ الْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ وَهُمَا قَدِيمَانِ لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ فَهَذَا يَقُولُ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ هُوَ اللَّفْظُ
فَقَطْ إمَّا الْحُرُوفُ الْمُؤَلَّفَةُ وَإِمَّا الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ ؛ لَكِنَّهُ يَقُولُ إنَّ مَعْنَاهُ قَدِيمٌ . وَأَمَّا " الْفَرِيقُ الثَّانِي " الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُطْلَقًا وَأَنَّ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ بِنَفْسِهِ يَجُوزُ أَنْ تَتَعَقَّبَ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ فَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ كَمَا يَقُولُونَ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ مَعْلُولَةً لِعِلَّةِ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ لَكِنْ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْمِلَلِ كَابْنِ سِينَا وَنَحْوِهِ مِنْهُمْ قَالُوا إنَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ الْمُوجِبِ لَهَا بِذَاتِهِ وَأَمَّا أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ لَهَا عِلَّةً غائية تَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا فِي تَحَرُّكِهَا كَمَا يُحَرِّكُ الْمَعْشُوقُ عَاشِقَهُ وَلَمْ يُثْبِتُوا لَهَا مُبْدِعًا مُوجِبًا وَلَا مُوجِبًا قَائِمًا بِذَاتِهِ وَلَا قَالُوا إنَّ الْفَلَكَ مُمْكِنٌ بِنَفْسِهِ وَاجِبٌ بِغَيْرِهِ بَلْ الْفَلَكُ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ بِنَفْسِهِ لَكِنْ قَالُوا مَعَ ذَلِكَ : إنَّ لَهُ عِلَّةً غائية يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهَا لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِهَا فَجَعَلُوا الْوَاجِبَ بِنَفَسِهِ الَّذِي لَا فَاعِلَ لَهُ مُفْتَقِرًا إلَى عِلَّةٍ غائية مُنْفَصِلَةٍ عَنْهُ هَذِهِ حَقِيقَةُ قَوْلِ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعِهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُثْبِتُوا الْأَوَّلَ عَالِمًا بِغَيْرِهِ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ عِنْدَهُمْ مُبْدِعًا لِلْفَلَكِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُبْدِعًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَفْعُولِهِ كَمَا قَالَ : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } وَلِهَذَا كَانَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ مَنْ أَعْظَمِ الْأَقْوَالِ فَسَادًا بِخِلَافِ أَقْوَالِهِمْ فِي الطَّبِيعِيَّاتِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ أَشَدَّ فَسَادًا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ
مِنْ قَوْلِ ابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَلَمْ يُثْبِتْ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ " الْعِلَّةَ الْأُولَى " بِطَرِيقَةِ الْوُجُودِ وَلَا قَسَّمُوا الْوُجُودَ الْقَدِيمَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ بَلْ الْمُمْكِنُ عِنْدَهُمْ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَلَا أَثْبَتُوا لِلْمَوْجُودِ الْوَاجِبِ الْخَصَائِصَ الْمُمَيِّزَةَ لِلرَّبِّ عَنْ الْأَفْلَاكِ بَلْ هَذَا مِنْ تَصَرُّفِ مُتَأَخِّرِيهِمْ الَّذِينَ خَلَطُوا فَلْسَفَتَهُمْ بِكَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ وَإِنَّمَا أَثْبَتَ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِطَرِيقَةِ الْوُجُودِ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ . وَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وُجُودُ الْحَوَادِثِ بِلَا مُحْدِثٍ أَصْلًا أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَوَّلَ عِلَّةً غائية لِلْحَرَكَةِ فَظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ فَاعِلًا لَهَا . فَقَوْلُهُمْ فِي حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ نَظِيرُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ فِي حَرَكَةِ الْحَيَوَانِ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ تَنَاقَضَ قَوْلُهُمْ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ بِأَنَّ فِعْلَ الْحَيَوَانِ صَادِرٌ عَنْ غَيْرِهِ . لِكَوْنِ الْقُدْرَةِ وَالدَّاعِي مُسْتَلْزِمَيْنِ وُجُودَ الْفِعْلِ وَالْقُدْرَةُ وَالدَّاعِي كِلَاهُمَا مِنْ غَيْرِ الْعَبْدِ . فَيُقَالُ لَهُمْ : فَقُولُوا هَكَذَا فِي حَرَكَةِ الْفَلَكِ بِقُدْرَتِهِ وَدَاعِيهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَا صَادِرَيْنِ عَنْ غَيْرِهِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِنَفْسِهِ هُوَ الْمُحْدَثَ لِتِلْكَ الْحَوَادِثِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي يَقُولُهُ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ بِذَاتِهِ الْقَدِيمَ الَّذِي يُقَارِنُهُ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ
حَادِثٌ بِوَاسِطَةِ أَوْ بِلَا وَاسِطَةٍ فَإِنَّ صُدُورَ الْحَوَادِثِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ . وَإِذَا قَالُوا الْحَرَكَةُ بِتَوَسُّطِهِ أَيْ بِتَوَسُّطِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ قِيلَ لَهُمْ : فَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي حُدُوثِ الْحَرَكَةِ الْفَلَكِيَّةِ فَإِنَّ الْحَرَكَةَ الْحَادِثَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لَهَا عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً مُسْتَلْزِمَةً لِمَعْلُولِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ ؛ إذْ الْقَوْلُ بِمُقَارَنَةِ الْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ فِي الْأَزَلِ وَوُجُودِهِ مَعَهَا يُنَاقِضُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْمَعْلُولُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْلُولِ عَنْ الْأَزَلِ بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لَهَا ذَاتًا بَسِيطَةً لَا يَقُومُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْمُخْتَلِفَةِ ؛ بَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لَهَا ذَاتًا مَوْصُوفَةً لَا يَقُومُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَحْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ الْمَذْكُورَةِ ؛ فَإِنَّ التَّجَدُّدَ وَالتَّعَدُّدَ الْمَوْجُودَ فِي الْمَعْلُولَاتِ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ بَسِيطَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَصَارَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْحَوَادِثَ الْعُلْوِيَّةَ وَالسُّفْلِيَّةَ لَا مُحْدِثَ لَهَا . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ كَلَامُ اللَّهِ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ الصَّافِيَةِ كَمَا أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ مَا يَتَشَكَّلُ فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ فَلَا يُثْبِتُونَ لَهُ كَلَامًا خَارِجًا عَمَّا فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ وَلَا مَلَائِكَةَ خَارِجَةً عَمَّا فِي نُفُوسِهِمْ غَيْرَ " الْعُقُولِ الْعَشَرَةِ " وَ " النُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ التِّسْعَةِ " مَعَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ إنَّهَا أَعْرَاضٌ وَقَدْ بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ الْمُجَرَّدَاتِ
الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ وَالْمَوَادُّ وَالصُّوَرُ إنَّمَا وُجُودُهَا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . وَأَمَّا " الصِّنْفُ الثَّالِثُ " الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْغَنِيِّ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى غَيْرِهِ وَالْفَقِيرِ الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا بِالْغَنِيِّ فَقَالُوا : كُلُّ مَا قَارَنَ الْحَوَادِثَ مِنْ الْمُمْكِنَات فَهُوَ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مَرْبُوبٌ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِيمَا هُوَ فَقِيرٌ مُمْكِنٌ مَرْبُوبٌ شَيْءٌ قَدِيمٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ تُقَارِنَهُ حَوَادِثُ لَا أَوَّلَ لَهَا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ حَرَكَاتُ الْفَلَكِ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِهِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا " الرَّبُّ تَعَالَى " إذَا قِيلَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ أَوْ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا لِمَا يَشَاءُ لَمْ يَكُنْ دَوَامُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَدَوَامُ كَوْنِهِ فَاعِلًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مُمْتَنِعًا ؛ بَلْ هَذَا هُوَ الْوَاجِبُ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ فَالرَّبُّ أَحَقُّ أَنْ يَتَّصِفَ بِالْكَلَامِ مِنْ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِالْكَلَامِ ؛ إذْ كَلُّ كَمَالٍ لَا نَقْصَ فِيهِ ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ الْوَاجِبَ الْخَالِقَ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ مِنْ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ الْمَخْلُوقِ ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمَخْلُوقِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الْخَالِقِ وَمَا جَازَ اتِّصَافُهُ بِهِ مِنْ الْكَمَالِ وَجَبَ لَهُ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ لَهُ لَكَانَ إمَّا مُمْتَنِعًا وَهُوَ مُحَالٌ بِخِلَافِ الْفَرْضِ وَإِمَّا مُمْكِنًا فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَالرَّبُّ
لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِ كَمَالِهِ إلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ مُعْطِي الْكَمَالِ أَحَقُّ بِالْكَمَالِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَكْمَلَ مِنْهُ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ مُعْطِيًا لَهُ الْكَمَالَ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ ؛ بَلْ هُوَ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ مُسْتَحِقٌّ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا عَلَى غَيْرِهِ فَيَجِبُ ثُبُوتُ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَالْمُتَكَلِّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ يَكُونُ الْكَلَامُ لَازِمًا لَهُ بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاَلَّذِي لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ أَكْمَلُ مِمَّنْ صَارَ الْكَلَامُ يُمْكِنُهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ . وَحِينَئِذٍ فَكَلَامُهُ قَدِيمٌ مَعَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يُنَادِي وَيَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ قِدَمُ صَوْتٍ مُعَيَّنٍ وَإِذَا كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ وَالْإِنْجِيلِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْبَاءِ قَبْلَ السِّينِ وَإِنْ كَانَ نَوْعُ الْبَاءِ وَالسِّينِ قَدِيمًا لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ الْمُعَيَّنَةُ وَالسِّينُ الْمُعَيَّنَةُ قَدِيمَةً ؛ لِمَا عُلِمَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْعَيْنِ وَهَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ فِي الْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَبِهِ تَنْحَلُّ الْإِشْكَالَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى وَحْدَةِ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَتَعَدُّدِهَا وَقِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا وَكَذَلِكَ تَزُولُ بِهِ الْإِشْكَالَاتُ الْوَارِدَةُ فِي أَفْعَالِ الرَّبِّ وَقِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا وَحُدُوثِ الْعَالَمِ . وَإِذَا قِيلَ : إنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ قَدِيمَةٌ بِمَعْنَى النَّوْعِ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ إنَّ عَيْنَ اللَّفْظِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ زَيْدٌ وَعَمْرٌو قَدِيمٌ
فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْحِسِّ . وَالْمُتَكَلِّمُ يَعْلَمُ أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِهِ بِنَوْعِهَا . وَأَمَّا نَفْسُ الصَّوْتِ الْمُعَيَّنُ الَّذِي قَامَ بِهِ التَّقْطِيعُ أَوْ التَّأْلِيفُ الْمُعَيَّنُ لِذَلِكَ الصَّوْتِ ؛ فَيُعْلَمُ أَنَّ عَيْنَهُ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ وَالْمَنْقُولُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مُطَابِقٌ لِهَذَا الْقَوْلِ ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقٌ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ : " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْحُرُوفَ سَجَدَتْ لَهُ إلَّا الْأَلِفُ فَقَالَتْ لَا أَسْجُدُ حَتَّى أُؤْمَرَ " مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ نُقِلَتْ لَأَحْمَدَ عَنْ سَرِيٍّ السقطي . وَهُوَ نَقَلَهَا عَنْ بَكْرِ بْنِ خنيس الْعَابِدِ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ أُولَئِكَ الشُّيُوخِ بِهَا إلَّا بَيَانَ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ فِعْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ وَالشَّرْعِ هُوَ أَكْمَلُ مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ بِغَيْرِ شَرْعٍ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعِبَادِ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِمَا تُحِبُّهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِهِ فَقَصْدُ أُولَئِكَ الشُّيُوخِ أَنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْأَمْرِ وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا حَتَّى يُؤْمَرَ بِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ عَبَدَهُ بِمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَذَكَرُوا هَذِهِ الْحِكَايَةَ الإسرائيلية شَاهِدًا لِذَلِكَ مَعَ أَنَّ هَذِهِ لَا إسْنَادَ لَهَا وَلَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمٌ وَلَكِنَّ الإسرائيليات إذَا ذُكِرَتْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِشْهَادِ بِهَا لِمَا عُرِفَ صِحَّتُهُ لَمْ يَكُنْ بِذِكْرِهَا بَأْسٌ وَقَصَدُوا بِذَلِكَ الْحُرُوفَ الْمَكْتُوبَةَ ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ مُنْتَصِبَةٌ وَغَيْرُهَا لَيْسَ كَذَلِكَ مَعَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَخَطُّ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ لَا يُمَاثِلُ خَطَّ الْعَرَبِيِّ وَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ أُولَئِكَ الْأَشْيَاخِ أَنَّ نَفْسَ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ مَخْلُوقَةٌ بَائِنَةٌ عَنْ اللَّهِ ؛
بَلْ هَذَا شَيْءٌ لَعَلَّهُ لَمْ يَخْطُرْ بِقُلُوبِهِمْ وَالْحُرُوفُ الْمَنْطُوقَةُ لَا يُقَالُ فِيهَا إنَّهَا مُنْتَصِبَةٌ وَلَا سَاجِدَةٌ فَمَنْ احْتَجَّ بِهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَلَا بِالتَّوْرَاةِ الْعِبْرِيَّةِ فَقَدْ قَالَ عَنْهُمْ مَا لَمْ يَقُولُوهُ . وَأَمَّا الْإِمَامُ أَحْمَد : فَإِنَّهُ أَنْكَرَ إطْلَاقَ هَذَا الْقَوْلِ وَمَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ أَنَّ نَفْسَ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقَةٌ كَمَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ حَرْفًا مِنْ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ مَخْلُوقٌ فَهَذَا جهمي يَسْلُكُ طَرِيقًا إلَى الْبِدْعَةِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ إنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ . فَقَدْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ - أَوْ كَمَا قَالَ - وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ نَوْعَ الْحُرُوفِ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْ اللَّهِ كَائِنًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَزِمَ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُ اللَّهِ الْعَرَبِيُّ وَالْعِبْرِيُّ وَنَحْوُهُمَا مَخْلُوقًا وَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى عَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَلَامَهُ فَطَرِيقَةُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مُطَابِقَةٌ لِلْقَوْلِ الثَّالِثِ الْمُوَافِقِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ . وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الكرجي الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ " سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَد يَقُولُ : سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَحْمَد يَقُولُ : سَمِعْت الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ الإسفراييني يَقُولُ : مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَالْقُرْآنُ حَمَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةُ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي نَتْلُوهُ نَحْنُ مَقْرُوءٌ بِأَلْسِنَتِنَا وَفِيمَا بَيْنُ الدَّفَّتَيْنِ وَمَا فِي صُدُورِنَا مَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا . وَمَحْفُوظًا وَمَقْرُوءًا وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذِكْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ الْكَلَامِ فِي سَائِر الصِّفَاتِ : كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ فِي تَعَدُّدِ الصِّفَةِ وَاتِّحَادِهَا وَقِدَمِهَا وَحُدُوثِهَا أَوْ قِدَمِ النَّوْعِ دُونَ الْأَعْيَانِ أَوْ إثْبَاتِ صِفَةٍ كُلِّيَّةٍ عُمُومِيَّةٍ مُتَنَاوِلَةِ الْأَعْيَانِ مَعَ تَجَدُّدِ كُلِّ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأَعْيَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ هَذِهِ مَوَاضِعُ مُشْكِلَةٌ وَهِيَ مِنْ مَحَارَاتِ الْعُقُولِ . وَلِهَذَا اضْطَرَبَ فِيهَا طَوَائِفُ مِنْ أَذْكِيَاءِ النَّاسِ وَنُظَّارِهِمْ وَاَللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَمَّنْ قَالَ : اخْتِلَافُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى " ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ " فَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ قَدِيمُ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ وَهُمْ الْحَشْوِيَّةُ وَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ حَادِثٌ بِالصَّوْتِ وَالْحَرْفِ وَهُمْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ تَابَعَهُمْ وَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ لَا بِصَوْتِ وَلَا حَرْفٍ إلَّا مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ وَهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ ؟
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ اخْتِلَافَ الْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِ اللَّهِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ " إلَخْ هُوَ كَلَامٌ بِحَسَبِ مَا بَلَغَهُ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ إنَّمَا يَذْكُرُ فِيهَا بَعْضَ اخْتِلَافِ النَّاسِ . فَقَوْمٌ يَحْكُونَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ كَأَبِي الْمَعَالِي وَنَحْوِهِ . وَقَوْمٌ يَحْكُونَ خَمْسَةً أَوْ سِتَّةً كالشَّهْرَستَانِي وَنَحْوِهِ .
وَالْأَقْوَالُ الَّتِي قَالَهَا الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْقِبْلَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبْلُغُ سَبْعَةً أَوْ أَكْثَرَ .
الْأَوَّلُ : " قَوْلُ الْمُتَفَلْسِفَةِ " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ مُتَصَوِّفٍ وَمُتَكَلِّمٍ كَابْنِ سِينَا وَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الصَّابِئَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ خَارِجٌ عَنْ نُفُوسِ الْعِبَادِ ؛ بَلْ هُوَ مَا يَفِيضُ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ الْمَعَانِي : إعْلَامًا وَطَلَبًا : إمَّا مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَإِمَّا مُطْلَقًا كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ مُتَصَوِّفَةِ الْفَلَاسِفَةِ . وَهَذَا قَوْلُ الصَّابِئَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : الْكَلَامُ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا إلَّا فِي نَفْسِهِ وَصَاحِبُ " مِشْكَاةِ الْأَنْوَارِ " وَأَمْثَالُهُ فِي كَلَامِهِ مَا يُضَاهِي كَلَامَ هَؤُلَاءِ أَحْيَانًا وَإِنْ كَانَ أَحْيَانًا يُكَفِّرُهُمْ وَهَذَا الْقَوْلُ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ يَقُولُ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَة وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ يَخْلُقُهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ فَمِنْ ذَلِكَ الْجِسْمِ ابْتَدَأَ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا يَقُومُ - عِنْدَهُمْ - بِاَللَّهِ كَلَامٌ وَلَا إرَادَةٌ وَأَوَّلُ هَؤُلَاءِ " الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ " الَّذِي ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ - لَمَّا خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ - وَقَالَ : ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ
يُكَلِّمُ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ دَعَوْا مَنْ دَعَوْهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ إلَى مَقَالَتِهِمْ حَتَّى اُمْتُحِنَ النَّاسُ فِي الْقُرْآنِ بِالْمِحْنَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي إمَارَةِ الْمَأْمُونِ وَالْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ شَأْنَ مَنْ ثَبَتَ فِيهَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ : كَالْإِمَامِ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمُوَافَقِيهِ وَكَشَفَهَا اللَّهُ عَنْ النَّاسِ فِي إمَارَةِ الْمُتَوَكِّلِ وَظَهَرَ فِي الْأُمَّةِ " مَقَالَةُ السَّلَفِ " : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَمْ يُبْتَدَأْ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ - كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة - بَلْ هُوَ مِنْهُ نَزَلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { حم } { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَقَوْلُهُ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } . ثُمَّ لَمَّا شَاعَتْ الْمِحْنَةُ كَثُرَ اضْطِرَابُ النَّاسِ وَتَنَازُعُهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - الْمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ - يَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمْ قَوْلًا يُخَالِفُ بِهِ صَاحِبَهُ وَقَدْ لَا يَشْعُرُ أَحَدُهُمْ بِخِلَافِ الْأَدِلَّةِ وَصَارَ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ - كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد مَعَ كَوْنِ الظَّاهِرِ الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ - بَيْنَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَنَازُعٌ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : قَوْلُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ الْبَصْرِيِّ وَمَنْ اتَّبَعَهُ : كالقلانسي وَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا . وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ لَيْسَتْ أَنْوَاعًا لَهُ يَنْقَسِمُ الْكَلَامُ إلَيْهَا وَإِنَّمَا كُلُّهَا صِفَاتٌ لَهُ إضَافِيَّةٌ كَمَا يُوصَفُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ بِأَنَّهُ ابْنٌ لِزَيْدِ وَعَمٌّ لِعَمْرِو وَخَالٌ لِبَكْرِ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ فِي الْأَزَلِ وَإِنَّهُ فِي الْأَزَلِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ يَصِيرُ أَمْرًا وَنَهْيًا عِنْدَ وُجُودِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ عِدَّةُ مَعَانٍ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ . وَقَدْ أَلْزَمَ النَّاسُ أَصْحَابَ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَجْعَلُوا الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْحَيَاةَ شَيْئًا وَاحِدًا فَاعْتَرَفَ مُحَقِّقُوهُمْ بِصِحَّةِ الْإِلْزَامِ .
وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ - مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْبِدْعَةِ - يَقُولُونَ إنَّ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ كَمَا يَقُولُونَ : إنَّ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ كَمَا يَقُولُونَ : إنَّ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَإِنَّ الْعَالِمَ يَكُونُ عَالِمًا بِعِلْمِ يَقُومُ بِغَيْرِهِ وَالْقَادِرَ يَكُونُ قَادِرًا بِقُدْرَةِ تَقُومُ بِغَيْرِهِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ . وَكَمَا يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ : إنَّ فَسَادَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقُدْرَةُ هِيَ الْإِرَادَةُ وَإِنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْعَالِمُ وَالْقُدْرَةَ هِيَ الْقَادِرُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ .
الْقَوْلُ الرَّابِعُ : قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ مِنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ وَلَهَا مَعَ ذَلِكَ مَعَانٍ تَقُومُ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ وَهَؤُلَاءِ يُوَافِقُونَ الْأَشْعَرِيَّةَ والْكُلَّابِيَة فِي أَنَّ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ خَلْقِ إدْرَاكٍ لِلْمُتَكَلِّمِ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مُنْفَصِلًا عَنْ الْمُسْتَمِعِ . ثُمَّ إنَّ جُمْهُورَ هَؤُلَاءِ لَا يَقُولُونَ إنَّ تِلْكَ الْأَصْوَاتَ هِيَ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْقَارِئِينَ بَلْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَهُمْ أَهْلُ . . . (1)
يَقُولُونَ : إنَّ الصَّوْتَ الْقَدِيمَ يُسْمَع مِنْ الْقَارِئِ . ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ تَارَةً : إنَّ الْقَدِيمَ نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْقَارِئِ وَتَارَةً يَقُولُونَ : إنَّهُ يُسْمَعُ مِنْ الْقَارِئِ صَوْتَانِ قَدِيمًا وَمُحْدَثًا . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَقُولُونَ بِحُلُولِ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ ظَهَرَ فِيهِ كَمَا يَظْهَرُ الْوَجْهُ فِي الْمِرْآةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ وَلَا الْأَقْوَالُ قَبْلَهُ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّتِهَا وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَا الْإِمَامُ أَحْمَد وَلَا أَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ وَلَا غَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ هُمْ متفقون عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فكيف بِمَنْ قَالَ صَوْتِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ قَالَ صَوْتِي قَدِيمٌ . وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ : فَهَذَا مَا رَأَيْنَاهُ فِي كِتَابِ أَحَدٍ مِنْ طَوَائِفِ الْإِسْلَامِ وَلَا نَقَلَهُ أَحَدٌ عَنْ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ ؛ وَلَكِنَّ طَائِفَةً يَسْكُتُونَ عَنْ التَّكَلُّمِ فِي الْمِدَادِ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ وَيَقُولُونَ : لَا نَقُولُ إنَّهُ قَدِيمٌ ؛ وَلَكِنْ نَسْكُتُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ . وَقَدْ حَكَاهُ طَائِفَةٌ عَمَّنْ سَمَّوْهُمْ الْحَشْوِيَّةَ الْقَوْلُ بِقِدَمِ الْمِدَادِ وَقَالُوا : إنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْمِحْبَرَةِ كَانَ مُحْدَثًا فَلَمَّا صَارَ فِي الْوَرَقِ صَارَ قَدِيمًا .
وَرَأَيْنَا طَوَائِفَ يُكَذِّبُونَ هَؤُلَاءِ فِي النَّقْلِ وَكَأَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ أَنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ بِمُجَرَّدِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ إطْلَاقِ قَوْلِهِمْ أَوْ لَمَّا ظَنُّوهُ لَازِمًا لَهُمْ أَوْ لَمَّا سَمِعُوهُ مِمَّنْ يُجَازِفُ فِي النَّقْلِ وَلَا يُحَرِّرُهُ وَرُبَّمَا سَمِعُوهُ مِنْ بَعْضِ عَوَامِّهِمْ إنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ وَقَعَ . وَهَذَا الْبَابُ وَقَعَ فِيهِ غَلَطٌ بِهَذَا السَّبَبِ حَتَّى غَلِطَ النَّاسُ عَلَى مَنْ يُعَظِّمُونَهُ ؛ وَبِهَذَا السَّبَبِ غَلَّطَ أَبَا طَالِبٍ " الْإِمَامُ أَحْمَد " فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَرَأَ عَلَيْهِ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَسَأَلَهُ هَذَا مَخْلُوقٌ ؟ فَقَالَ لَهُ أَحْمَد هَذَا لَيْسَ بِمَخْلُوقِ . فَبَلَغَهُ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَغَضِبَ عَلَيْهِ أَحْمَد وَقَالَ . أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ فَقَالَ : لَا . وَلَكِنْ قَرَأْت عَلَيْك : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَقُلْت لَك : هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقُلْت نَعَمْ . فَقَالَ : فَلِمَ حَكَيْت عَنِّي أَنِّي قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ فَقَالَ : لَمْ أَحْكِهِ عَنْك وَإِنَّمَا حَكَيْته عَنْ نَفْسِي قَالَ : فَلَا تَقُلْ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَسْمَعْ عَالِمًا يَقُولُ هَذَا ؛ وَلَكِنْ قُلْ : الْقُرْآنُ حَيْثُ تَصَرَّفَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَلِهَذَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " إنَّ " اللَّفْظِيَّةَ " هَؤُلَاءِ يَذْكُرُونَ قَوْلَهُمْ عَنْ أَحْمَد وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَ دِقَّةَ قَوْلِهِ وَمَوْضِعُ الشُّبْهَةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ هَذَا فَالْإِشَارَةُ تَكُونُ إلَى الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بَلَغَ بِهِ مِنْ حَرَكَاتِ الْعَبْدِ وَصَوْتِهِ كَمَا أَنَّ
الرَّجُلَ إذَا كَتَبَ اسْمَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَسَمِعَ قَائِلًا يَذْكُرُ اللَّهَ فَقَالَ هَذَا رَبِّي كَانَ صَادِقًا وَلَوْ قِيلَ لَهُ : أَتَعْبُدُ هَذَا ؟ لَقَالَ نَعَمْ . - لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ - أَلَا تَعْلَمُ الْمَكْتُوبَ ؟ وَالِاسْمُ يُرَادُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الْمُسَمَّى فَإِذَا قَالَ : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ } فَالْمُرَادُ أَنَّ الْمُسَمَّى الَّذِي اسْمُهُ مُحَمَّدٌ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ وَالْخَطِّ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ . وَمِنْ هُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي " الِاسْمِ " هَلْ هُوَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرُهُ وَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يُمْنَعَ مَنْ كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ وَيُقَالَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ } . وَاَلَّذِينَ أَطْلَقُوا أَنَّهُ الْمُسَمَّى كَانَ أَصْلُ مَقْصُودِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الْمُسَمَّى وَأَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الِاسْمُ فَالْإِشَارَةُ بِهِ إلَى مُسَمَّاهُ وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ حَمِدْت اللَّهَ وَدَعَوْت اللَّهَ وَعَبَدْت اللَّهَ فَهُوَ لَا يُرِيدُ إلَّا أَنَّهُ عَبَدَ الْمُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ . وَاَلَّذِينَ نَفَوْا ذَلِكَ رَأَوْا أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ أَوْ الْخَطِّ لَيْسَ هُوَ الْأَعْيَانَ الْمُسَمَّاةَ بِذَلِكَ وَآخَرُونَ فَرَّقُوا بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالِاسْمِ فَجَعَلُوا الْأَلْفَاظَ هِيَ التَّسْمِيَةَ وَجَعَلُوا الِاسْمَ هُوَ الْأَعْيَانَ الْمُسَمَّاةَ بِالْأَلْفَاظِ فَخَرَجُوا عَنْ مُوجَبِ اللُّغَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .
وَأَصْلُ مَقْصُودِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا صَحِيحٌ ؛ إلَّا مَنْ تَوَسَّلَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ إلَى قَوْلٍ بَاطِلٍ : مِثْلِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة إنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى ؛ فَإِنَّهُمْ تَوَسَّلُوا بِذَلِكَ إلَى أَنْ يَقُولُوا : أَسْمَاءُ اللَّهِ غَيْرُهُ . ثُمَّ قَالُوا : وَمَا كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى سَمَّى نَفْسَهُ بِاسْمِ وَلَا تَكَلَّمَ بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَلَا يَكُونُ لَهُ كَلَامٌ تَكَلَّمَ بِهِ ؛ بَلْ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ إلَّا مَا كَانَ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْهُ . فَهَؤُلَاءِ لَمَّا عَلِمَ السَّلَفُ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ بَاطِلٌ أَنْكَرُوا إطْلَاقَهُمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ وَأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ الشَّيْءَ الْبَائِنَ عَنْ غَيْرِهِ وَيَحْتَمِلُ الشَّيْءَ الَّذِي لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَلَا هُوَ بَائِنٌ عَنْهُ . فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ غَيْرُهُ لِيَجْعَلَهُ بَائِنًا عَنْهُ كَانَ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحًا وَإِنْ كَانَ فِي الْعِبَارَةِ تَقْصِيرٌ . وَهَكَذَا أَنْكَرَ الْأَئِمَّةُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَقَالُوا : مَنْ قَالَ هُوَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي " التِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ " لِأَنَّ اللَّفْظَ وَالتِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ يُرَادُ بِهِمَا الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ فَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ وَيُرَادُ بِ " اللَّفْظِ " نَفْسُ الْمَلْفُوظِ كَمَا يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ نَفْسُ الْكَلَامِ وَهُوَ الْقُرْآنُ نَفْسُهُ . وَمَنْ قَالَ كَلَامُ
اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَهُ الْمُسْلِمُونَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ النَّاسُ كَلَامَ مُحَدِّثٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } قَالُوا : هَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ . لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ وَتَكَلَّمَ بِصَوْتِهِ ثُمَّ الْمُبَلِّغُ لَهُ عَنْهُ بَلَّغَهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ فَالْكَلَامُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِمَعَانِيهِ وَأَلَّفَ حُرُوفَهُ بِصَوْتِهِ وَالْمُبَلِّغُ لَهُ بَلَّغَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَصَوْتِ نَفْسِهِ . فَإِذَا قَالُوا : هَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ إشَارَتُهُمْ إلَى نَفْسِ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ حُرُوفُهُ وَنَظْمُهُ وَمَعَانِيهِ لَا إلَى مَا اخْتَصَّ بِهِ الْمُبَلِّغُ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ ؛ بَلْ يُضِيفُونَ الصَّوْتَ إلَى الْمُبَلِّغِ فَيَقُولُونَ صَوْتٌ حَسَنٌ وَمَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مِنْ فَصَاحَةِ حُرُوفِهِ وَنَظْمِهِ وَبَلَاغَةِ مَعَانِيهِ فَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً لَا إلَى الْمُبَلِّغِ لَهُ ؛ وَلَكِنْ يُضَافُ إلَى الْمُبَلِّغِ حُسْنُ الْأَدَاءِ : كَتَجْوِيدِ الْحُرُوفِ وَتَحْسِينِ الصَّوْتِ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } .
{ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ؟ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } وَقَالَ : { اللَّهُ أَشَدُّ أَذْنًا إلَى الرَّجُلِ يُحَسِّنُ الصَّوْتَ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَة إلَى قَيْنَتِهِ } . فَبَيَّنَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْمَسْمُوعَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ فَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمَسْمُوعَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ هُوَ كَلَامُ الْقَارِئِينَ كَانَ فَسَادُ قَوْلِهِ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ الْعَبْدِ أَوْ هُوَ صَوْتُ اللَّهِ كَانَ فَسَادُ قَوْلِهِ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا ؛ بَلْ هَذَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ سَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَسَمِعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِبْرِيلَ وَسَمِعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ نَبِيِّهِمْ . ثُمَّ بَلَّغَهُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْوَسَائِطِ فِيهِ إلَّا التَّبْلِيغُ بِأَفْعَالِهِ وَصَوْتِهِ لَمْ يُحْدِثْ مِنْهُمْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ حُرُوفِهِ وَلَا نَظْمِهِ وَلَا مَعَانِيهِ ؛ بَلْ جَمِيعُ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى .
الْقَوْلُ الْخَامِسُ : قَوْلُ الهشامية والكَرَّامِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَادِثٌ قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ ؛ بَلْ مَا زَالَ عِنْدَهُمْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَإِلَّا فَوُجُودُ الْكَلَامِ عِنْدَهُمْ فِي الْأَزَلِ مُمْتَنِعٌ ؛ كَوُجُودِ
الْأَفْعَالِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ مَنْ وَافَقَهُمْ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ . وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ حَادِثَةٌ بِذَاتِ الرَّبِّ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ . وَلَا يَقُولُونَ : إنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ وَالْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ ؛ بَلْ يَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ .
الْقَوْلُ السَّادِسُ : قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَئِمَّتِهِمْ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ وَالْقُرْآنُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَيْسَ بِبَائِنِ عَنْهُ مَخْلُوقًا . وَلَا يَقُولُونَ إنَّهُ صَارَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ حَادِثٌ ؛ بَلْ مَا زَالَ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَإِنْ كَانَ كَلَّمَ مُوسَى وَنَادَاهُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَلَامُهُ لَا يَنْفَدُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . وَيَقُولُونَ : مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ الصَّحِيحَةُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الْعُقُولُ الزَّكِيَّةُ الصَّرِيحَةُ فَلَا يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى صِفَاتِ الْكَمَالِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَيَجْعَلُونَهُ كَالْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ . فَلَا تُكَلِّمُ عَابِدِيهَا وَلَا تَهْدِيهِمْ سَبِيلًا وَلَا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا تَمْلِكْ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا .
وَمَنْ جَعَلَ كَلَامَ اللَّهِ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ الْمُتَّصِفُ بِهِ هُوَ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَتَكُونُ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ لِمُوسَى { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ } وَلِهَذَا اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ عَلَى مَنْ قَالَ ذَلِكَ . وَقَالُوا هَذَا نَظِيرُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } أَيْ هَذَا كَلَامٌ قَائِمٌ بِغَيْرِ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا صَرَّحَ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ الِاتِّحَادِيَّةُ : كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَنَحْوِهِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ . وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ - الْمُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ - لَا يَقُولُونَ إنَّ الرَّبَّ كَانَ مَسْلُوبًا صِفَاتِ الْكَمَالِ فِي الْأَزَلِ وَإِنَّهُ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ حَتَّى حَدَثَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ كَالطِّفْلِ . وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ يَجْعَلُونَ الْكَلَامَ لِغَيْرِهِ فَيَسْلُبُونَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَيَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ لَا عَلَى كَلَامٍ مَخْلُوقٍ وَلَا غَيْرِهِ . وَهُمْ إنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْعَجْزِ عَنْ الْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ فَهُوَ لَازِمٌ لِقَوْلِهِمْ . والكَرَّامِيَة فَرُّوا مِنْ الْأَوَّلِ ؛ وَجَعَلُوهُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَقُومُ بِهِ ؛ لَكِنْ لَمْ يَجْعَلُوهُ مُتَكَلِّمًا فِي الْأَزَلِ ؛ بَلْ وَلَا قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ فِي الْحَقِيقَةِ فِي الْأَزَلِ . والْكُلَّابِيَة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ السالمية وَنَحْوِهِمْ وَصَفُوهُ بِالْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ وَقَالُوا : إنَّهُ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا لَكِنْ لَمْ يَجْعَلُوهُ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ وَلَا مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا
يَكُونُ بِهِ مُكَلِّمًا لِغَيْرِهِ ؛ لَكِنْ يَخْلُقُ لِغَيْرِهِ إدْرَاكًا بِمَا لَمْ يَزَلْ كَمَا يُزِيلُ الْعَمَى عَنْ الْأَعْمَى الَّذِي لَا يَرَى الشَّمْسَ الَّتِي كَانَتْ ظَاهِرَةً مُتَجَلِّيَةً لَا أَنَّ الشَّمْسَ فِي نَفْسِهَا تَجَلَّتْ وَظَهَرَتْ وَهَذَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي رُؤْيَتِهِ إنَّهَا لَيْسَتْ إلَّا مُجَرَّدُ خَلْقِ الْإِدْرَاكِ لَيْسَ هُنَاكَ حُجُبٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الرَّائِي فَلَا يَكْشِفُ حِجَابًا وَلَا يَرْفَعُ حِجَابًا . وَالْقُرْآنُ مَعَ الْحَدِيثِ وَمَعَ الْعَقْلِ يَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } وَلَوْ كَانَ الْحِجَابُ هُوَ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ : لَكَانَ الْوَحْيُ وَإِرْسَالُ الرُّسُلِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } وَفِي الصَّحِيحِ : { إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ ؛ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ : مَا هُوَ ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُنْجِيَنَا مِنْ النَّارِ ؟ قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ } وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَ " أَيْضًا " فَقَوْلُ الْكُلَّابِيَة : إنَّ الْحَقَائِقَ الْمُتَنَوِّعَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَقَوْلُ الْآخَرِينَ إنَّ الْأَصْوَاتَ الْمُتَضَادَّةَ تَجْتَمِعُ فِي آنٍ وَاحِدٍ مِمَّا يَقُولُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ : فَقَوْمٌ إلَى أَنَّهُ قَدِيمُ الصَّوْتِ وَالْحَرْفِ وَهُمْ الْحَشْوِيَّةُ . إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ إنَّ نَفْسَ الْأَصْوَاتِ مُجْتَمِعَةٌ فِي الْأَزَلِ : فَهَذَا قَوْلُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْحَدِيثِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : " حَشْوِيَّةٌ " فَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ لَهُ مُسَمًّى مَعْرُوفٌ لَا فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ ؛ وَلَكِنْ يُذْكَرُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ . وَقَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حَشْوِيًّا . وَأَصْلُ ذَلِكَ : أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ قَالَتْ قَوْلًا تُخَالِفُ بِهِ الْجُمْهُورَ وَالْعَامَّةَ يُنْسَبُ إلَى أَنَّهُ قَوْلُ الْحَشْوِيَّةِ أَيْ الَّذِينَ هُمْ حَشْوٌ فِي النَّاسِ لَيْسُوا مِنْ الْمُتَأَهِّلِينَ عِنْدَهُمْ ؛ فَالْمُعْتَزِلَةُ تُسَمِّي مَنْ أَثْبَتَ الْقَدَرَ حَشْوِيًّا وَالْجَهْمِيَّة يُسَمُّونَ مُثْبِتَةَ الصِّفَاتِ حَشْوِيَّةً وَالْقَرَامِطَةُ - كَأَتْبَاعِ الْحَاكِمِ - يُسَمُّونَ مَنْ أَوْجَبَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ حَشْوِيًّا . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الرَّافِضَةَ يُسَمُّونَ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ قَوْلَ الْجُمْهُورِ وَكَذَلِكَ الْفَلَاسِفَةُ تُسَمِّي ذَلِكَ قَوْلَ الْجُمْهُورِ فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَوْلُ الْعَامَّةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ . فَإِنْ كَانَ قَائِلُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْخَاصَّةَ لَا تَقُولُهُ ؛ وَإِنَّمَا تَقُولُهُ الْعَامَّةُ وَالْجُمْهُورُ فَأَضَافَهُ إلَيْهِمْ وَسَمَّاهُمْ حَشْوِيَّةً . وَالطَّائِفَةُ تُضَافُ تَارَةً إلَى الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ مَقَالَتِهَا كَمَا يُقَالُ : الْجَهْمِيَّة والإباضية والأزارقة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ والكَرَّامِيَة
وَيُقَالُ فِي أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ : مَالِكِيَّةٌ وَحَنَفِيَّةٌ وَشَافِعِيَّةٌ وَحَنْبَلِيَّةٌ . وَتَارَةً تُضَافُ إلَى قَوْلِهَا وَعَمَلِهَا كَمَا يُقَالُ : الرَّوَافِضُ وَالْخَوَارِجُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَلَفْظَةُ الْحَشْوِيَّةِ لَا يَنْبَنِي لَا عَنْ هَذَا وَلَا عَنْ هَذَا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَقَوْمٌ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ حَادِثٌ بِالصَّوْتِ وَالْحَرْفِ - وَهُمْ الْجَهْمِيَّة - فَهُوَ كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَقَالَاتِ النَّاسِ . فَإِنَّ الْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَيْسَ لَهُ كَلَامٌ وَإِنَّمَا خَلَقَ شَيْئًا فَعُبِّرَ عَنْهُ وَمِنْهُمْ قَالَ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ . وَأَمَّا الكَرَّامِيَة فَتَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ . وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّهُ حَادِثٌ قَائِمٌ بِهِ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْجَهْمِيَّة ؛ بَلْ يَرُدُّونَ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ الرَّدِّ وَهُمْ أَعْظَمُ مُبَايَنَةً لَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ . وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ الْقُرْآنَ حَادِثٌ فِي ذَاتِ اللَّهِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ كُلَّهُ حَادِثٌ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ التومني وَزُهَيْرٍ الْبَابِيِّ ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الأصبهاني بَلْ وَالْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُ وَطَوَائِفُ كَثِيرَةٌ يُذْكَرُ عَنْهُمْ هَذَا فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ حَادِثٌ كَانَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَلَا يَقُولُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَقَوْمٌ نَحَوْا إلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ لَا بِصَوْتِ وَلَا حَرْفٍ إلَّا مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ اللَّهِ - وَهُمْ الْأَشْعَرِيَّةُ - فَهَذَا صَحِيحٌ ؛ وَلَكِنْ هَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُ مَنْ قَالَهُ فِي الْإِسْلَامِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كُلَّابٍ ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ كَانُوا يُثْبِتُونَ لِلَّهِ تَعَالَى مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَالْجَهْمِيَّة تُنْكِرُ هَذَا وَهَذَا فَوَافَقَ ابْنُ كُلَّابٍ السَّلَفَ عَلَى الْقَوْلِ بِقِيَامِ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَجَاءَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ بَعْدَهُ - وَكَانَ تِلْمِيذًا لِأَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِي الْمُعْتَزِلِيِّ ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ مَقَالَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَيَّنَ تَنَاقُضَهُمْ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَبَالَغَ فِي مُخَالَفَتِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ حَتَّى نَسَبُوهُ بِذَلِكَ إلَى قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَالْوَاقِفَةِ - وَسَلَكَ فِي الصِّفَاتِ طَرِيقَةَ ابْنِ كُلَّابٍ . وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ اتَّبَعَهُ كَالْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ . وَقَوْلُهُ : فَمَنْ قَالَ إنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ الْمَلْفُوظَ بِهِمَا عَيْنُ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ فَلِأَهْلِ الْحَقِّ فِيهِ رَأْيَانِ : رَأْيٌ بِتَكْفِيرِهِ وَرَأْيٌ بِتَبْدِيعِهِ إلَى قَوْلِهِ : وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْحَرْفَ اللِّسَانِيَّ وَالْحَرْفَ الْبَنَانِيَّ كِلَاهُمَا مُقَيَّدٌ بِزِمَامِ تَصَرُّفِهِ .
فَيُقَالُ : أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمِدَادَ الْمَكْتُوبَ قَدِيمٌ فَمَا عَلِمْنَا قَائِلًا مَعْرُوفًا قَالَ بِهِ وَمَا رَأَيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ أَحَدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ لَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٍ وَلَا الشَّافِعِيِّ وَلَا أَحْمَد ؛ بَلْ رَأَيْنَا فِي كُتُبِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إنْكَارَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ وَتَكْذِيبَ مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِي الْمُصْحَفِ حَرْفًا قَدِيمًا لَيْسَ هُوَ الْمِدَادَ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ لَيْسَ بِحَالِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ حَالٌّ . وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ مَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الشَّكْلَ : شَكْلَ الْحَرْفِ وَصُورَتَهُ ؛ لَا مَادَّتَهُ الَّتِي هِيَ مِدَادُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ أَصْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ قَدِيمٌ هُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلٌ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَجُمْهُورُ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ هَذَا الْقَوْلَ . وَكَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ فِي إنْكَارِ هَذَا الْقَوْلِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ بَعْضُهُ كَلَامُ
اللَّهِ وَبَعْضُهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآيَةِ الدَّيْنِ و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } مَعْنًى وَاحِدٌ فَهُوَ مُفْتَرٍ مُبْتَدِعٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ . وَأَمَّا " التَّكْفِيرُ " : فَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَنْ اجْتَهَدَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَدَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَ : لَمْ يُكَفَّرْ ؛ بَلْ يُغْفَرُ لَهُ خَطَؤُهُ . وَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَشَاقَّ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ : فَهُوَ كَافِرٌ . وَمَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَقَصَّرَ فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَتَكَلَّمَ بِلَا عَلَمٍ : فَهُوَ عَاصٍ مُذْنِبٌ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ فَاسِقًا وَقَدْ تَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ تَرْجَحُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ . فَ " التَّكْفِيرُ " يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الشَّخْصِ فَلَيْسَ كُلُّ مُخْطِئٍ وَلَا مُبْتَدَعٍ وَلَا جَاهِلٍ وَلَا ضَالٍّ يَكُونُ كَافِرًا ؛ بَلْ وَلَا فَاسِقًا بَلْ وَلَا عَاصِيًا لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " وَقَدْ غَلِطَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَئِمَّةِ الطَّوَائِفِ الْمَعْرُوفِينَ عِنْدَ النَّاسِ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَغَالِبُهُمْ يَقْصِدُ وَجْهًا مِنْ الْحَقِّ فَيَتَّبِعُهُ وَيَعْزُبُ عَنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لَا يُحَقِّقُهُ فَيَبْقَى عَارِفًا بِبَعْضِ الْحَقِّ جَاهِلًا بِبَعْضِهِ ؛ بَلْ مُنْكِرًا لَهُ . وَمِنْ هَهُنَا نَشَأَ نِزَاعُهُمْ فَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ : رَأَوْا أَنَّ
الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِقُدْرَةِ الْمُتَكَلِّمِ . وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْ كَلَامًا لَازِمًا لِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ لَا يُعْقَلُ ؛ فَإِنَّهُ إنْ جُعِلَ مَعْنًى وَاحِدًا كَانَ مُكَابَرَةً لِلْعَقْلِ وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ أَصْوَاتًا أَزَلِيَّةً ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّ مَا كَانَ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ وَمَشِيئَتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَمَا انْفَصَلَ عَنْهُ فَهُوَ مَخْلُوقٌ . وَلِهَذَا أَنْكَرُوا أَنْ يَجِيءَ أَوْ يَأْتِيَ أَوْ يَنْزِلَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَآخَرُونَ وَافَقُوهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي أَحْدَثَهُ أُولَئِكَ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؛ لَكِنْ رَأَوْا أَنَّ كَلَامًا لَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ لَا يَكُونُ كَلَامًا لَهُ . فَقَالُوا : إنَّ كَلَامَهُ قَائِمٌ بِهِ . ثُمَّ رَأَى " فَرِيقٌ " أَنَّ قِدَمَ الْأَصْوَاتِ مُمْتَنِعٌ فَجَعَلُوا الْقَدِيمَ هُوَ الْمَعْنَى ثُمَّ رَأَوْا أَنَّ تَعَدُّدَ الْمَعَانِي الْقَدِيمَةِ مُمْتَنِعٌ وَأَنَّهُ يُفْضِي إلَى وُجُودِ مَعَانِي لَا نِهَايَةَ لَهَا فَقَالُوا هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ . وَرَأَى " فَرِيقٌ آخَرُ " أَنَّ كَوْنَ الْمَعَانِي الْمُتَنَوِّعَةِ مَعْنًى وَاحِدًا مُمْتَنِعٌ وَكَوْنَ الرَّبِّ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِحُرُوفِ الْقُرْآنِ بَلْ خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ مُوَافَقَةً لِمَنْ جَعَلَ الْكَلَامَ لَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الْحُرُوفَ الْمَنْظُومَةَ - كَالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ - إنْ قَالُوا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ كَلَامُهُ قَائِمًا بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ ؛ وَإِنْ قَالُوا لَيْسَ كَلَامًا لِلَّهِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا لِمَنْ خُلِقَتْ فِيهِ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ الْعَرَبِيُّ كَلَامًا لِلَّهِ ؛ بَلْ كَلَامًا لِمَنْ خُلِقَ فِيهِ . وَهَذَا
هُوَ الَّذِي أَنْكَرُوهُ عَلَى مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ . وَاَلَّذِي قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ لَمْ يَقُلْ إلَّا هَذَا ؛ فَلَزِمَهُمْ أَنْ يُوَافِقُوا فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنْ ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ قَوْلًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ يُخَالِفُ الْعَقْلَ وَالنَّقْلَ : وَهُوَ إثْبَاتُ مَعْنًى وَاحِدٍ يَكُونُ هُوَ جَمِيعَ مَعَانِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ؛ لَكِنَّهُمْ إنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ أَقْوَالٍ ظَنُّوهَا بَاطِلَةً فَلَمْ يَقْصِدُوا إلَّا الْفِرَارَ عَمَّا رَأَوْهُ بَاطِلًا فَوَقَعُوا فِي أَقْوَالٍ لَهَا لَوَازِمُ تَقْتَضِي بُطْلَانَهَا أَيْضًا . فَلَمَّا رَأَى هَذَا " الْفَرِيقُ الثَّانِي " مَا أَجَابَ بِهِ هَؤُلَاءِ قَالُوا : إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ . فَرَدَّ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ . وَقَالُوا : إنَّ الْأَصْوَاتَ مُتَضَادَّةٌ فِي نَفْسِهَا وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَأَقَلُّ مَا فِي الْأُمُورِ الْقَدِيمَةِ أَنْ تَكُونَ مُجْتَمِعَةً وَقَالُوا لَهُمْ : الْأَصْوَاتُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَرَكَاتِ الْمُسْتَلْزَمَةِ لِلْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ فَلَا تَكُونُ الْأَصْوَاتُ إلَّا بِقُدْرَةِ وَإِرَادَةٍ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَدِيمَ الْعَيْنِ ؛ لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي كَوْنِهِ قَدِيمَ النَّوْعِ . وَقَالُوا : الْأَصْوَاتُ هِيَ فِي نَفْسِهَا يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهَا وَمَا امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ امْتَنَعَ قِدَمُهُ فَامْتَنَعَ قِدَمُ الْأَصْوَاتِ . وَقَالَ " آخَرُونَ " : إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ حَادِثَةٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ لَكِنْ يَمْتَنِعُ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَا تَكُونُ أَزَلِيَّةً وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُنْجِيهِمْ مِنْ
سَائِر مَا وَقَعَ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنْكِرُ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ الرَّبِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ نَفَتْ أَنْ يَقُومَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعَانِي وَعَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَالْحَوَادِثِ فَسَمَّوْا مَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ أَعْرَاضًا . وَمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ وَالنُّزُولِ حَوَادِثَ . وَقَالُوا - لِسَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجُمْهُورِهَا : - إنْ قُلْتُمْ الْكَلَامُ الْمُعَيَّنُ لَازِمٌ لَهُ فَقَدْ قُلْتُمْ إنَّهُ تَقُومُ بِهِ الْأَعْرَاضُ وَإِنْ قُلْتُمْ يَتَكَلَّمُ بِاخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ فَقَدْ قُلْتُمْ تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ . فَقَالَ هَؤُلَاءِ : كَلَامُ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَوْلُهُمْ لَا تَقُومُ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورُ : كَلَامٌ بَاطِلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ . وَهُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ ؛ فَإِنَّ إثْبَاتَ عَالِمٍ بِلَا عِلْمٍ وَقَادِرٍ بِلَا قُدْرَةٍ وَحَيٍّ بِلَا حَيَاةٍ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ . وَكَذَلِكَ إثْبَاتُ خَالِقٍ وَعَادِلٍ بِلَا خَلْقٍ وَلَا عَدْلٍ وَإِثْبَاتُ فَاعِلٍ لَا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ وَإِثْبَاتُ رَبٍّ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ ؛ بَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَادِ سَلْبٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهُ كَمَا أَنَّ إثْبَاتَ رَبٍّ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَقْدِرُ سَلْبٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْهُ.
قَالَ هَؤُلَاءِ : فَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْكَلَامِ حُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ . بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ سَلِمْنَا مِنْ هَذِهِ الْمَحَاذِيرِ وَلَمْ يَكُنْ مِنَّا مَحْذُورٌ شَرْعِيٌّ وَلَا عَقْلِيٌّ . فَقَالَ لَهُمْ " الْفَرِيقُ السَّابِعُ " : وَلَكِنْ جَعَلْتُمُوهُ عَاجِزًا عَنْ الْكَلَامِ فِي الْأَزَلِ مَسْلُوبًا لِلْكَمَالِ وَلَزِمَكُمْ أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَ مِنْ الْأَزَلِ إلَى الْأَبَدِ لَمْ يَتَكَلَّمْ ثُمَّ تَكَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا حَادِثًا فَيَحْتَاجُ إلَى سَبَبٍ حَادِثٍ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ الْحَادِثِ كَالْقَوْلِ فِي الْأَوَّلِ ؛ فَيَلْزَمُ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ . فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا بَطَلَ قَوْلُكُمْ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَقُولُوا لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ كَمَا قَالَهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَجَمَاهِيرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَإِنَّكُمْ حِينَئِذٍ تَكُونُونَ قَدْ وَصَفْتُمْ رَبَّكُمْ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ أَزَلًا وَأَبَدًا . قَالُوا : وَهَذَا الْقَوْلُ خَيْرٌ مِنْ سَائِر الْأَقْوَالِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ الْمَعْقُولَ وَصَحِيحَ الْمَنْقُولِ . فَقَالَ لَهُمْ أُولَئِكَ : هَذَا يَسْتَلْزِمُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَقَالَ لَهُمْ هَؤُلَاءِ : هَذَا كَلَامٌ مُبْتَدَعٌ وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ لَمْ يَأْتِ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ : بَلْ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الْمُعْتَزِلَة وَمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ الكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ : ظَنُّوا أَنَّهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ يُثْبِتُونَ حُدُوثَ الْعَالَمِ . بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمُحْدَثَةِ وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ
مُحْدَثٌ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ " الْفَلَاسِفَةَ الدَّهْرِيَّةَ " الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي قَالُوهُ وَجَعَلُوهُ مُسْتَلْزِمًا لِحُدُوثِ الْعَالَمِ هُوَ مُنَاقِضٌ لِحُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ هُوَ مُنَاقِضٌ لِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ . فَهُمْ قَصَدُوا نَصْرَ الْإِسْلَامِ بِمَا يُنَافِي دِينَ الْإِسْلَامِ . وَلِهَذَا كَثُرَ ذَمُّ السَّلَفِ لِمَثَلِ هَذَا الْكَلَامِ وَهَذَا هُوَ أَصْلُ " الْكَلَامِ الْمَذْمُومِ " عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَيُمْكِنُ عَدَمُهُ فَلَا يُوجَدُ إلَّا بِمُقْتَضٍ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ وَإِنْ جَازَ وُجُودُهُ بِدُونِ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْمَخْلُوقَاتُ - الَّتِي يُمْكِنُ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا - وُجِدَتْ بِلَا فَاعِلٍ فَلَا بُدَّ لِلْمُمْكِنَاتِ مِنْ وُجُودِ وَاجِبٍ يَحْصُلُ بِهِ وُجُودُهَا وَلَا تَكُونُ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي التَّامِّ مُحْتَمِلَةً لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ؛ بَلْ يَكُونُ وُجُودُهَا لَازِمًا حَتْمًا . فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِذَا شَاءَ الرَّبُّ شَيْئًا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ لَا يَكُونَ ؛ بَلْ يَجِبُ كَوْنُهُ بِمَشِيئَةِ الرَّبِّ تَعَالَى الْمُسْتَلْزَمَةِ لِقُدْرَتِهِ . قَالُوا : وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَالْحَادِثُ الَّذِي يُمْكِنُ وُجُودُهُ وَيُمْكِنُ عَدَمُهُ إذَا حَدَثَ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ مَعَ اسْتِوَاءِ نِسْبَتِهِ إلَى جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَاسْتِوَاءِ نِسْبَةِ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ وَالْأَوْقَاتِ إلَى مَشِيئَةِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تُخَصَّصُ بَعْضُ الْحَوَادِثِ بِالْحُدُوثِ وَبَعْضُ
الْأَزْمِنَةِ بِالْحُدُوثِ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّصٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ يَقْتَضِي الْحُدُوثَ . وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ : فَهُوَ يُبْطِلُ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ فَلَا بُدَّ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ لِحُدُوثِ الْحَوَادِثِ سَبَبٌ حَادِثٌ ؛ وَحِينَئِذٍ فَمَا مِنْ حَادِثٍ إلَّا وَهُوَ مَسْبُوقٌ بِحَادِثِ . وَحِينَئِذٍ : فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ إذَا كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْكَنَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصِيرَ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِحَالِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي حُدُوثَ الْحَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَيَقْتَضِي أَنَّهُ تَجَدَّدَ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا أَمْكَنَ ثُبُوتُهُ فِي الْأَزَلِ ؛ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ . وَذَلِكَ لِأَنَّ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يُمْكِنُ اتِّصَافُ الرَّبِّ بِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ ثُبُوتُهَا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُعْطِيَ لَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمُعْطِيَ غَيْرِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّبَّ تَعَالَى وَرَبُّ الْعَالَمِينَ الْخَالِقُ مَا سِوَاهُ الَّذِي يُعْطِيهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَا يَكُونُ غَيْرَهُ رَبًّا لَهُ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ . وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ اتِّصَافُهُ بِالْكَلَامِ إذَا شَاءَ أَزَلًا وَأَبَدًا . قَالَ هَؤُلَاءِ : وَهَذَا الْأَصْلُ يُبْطِلُ حُجَّةَ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةَ الَّتِي
احْتَجُّوا بِهَا عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ وَعَجَزْتُمْ أَنْتُمْ مُعَاشِرَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعُكُمْ - مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ - عَنْهَا فَإِنَّهُمْ أَلْزَمُوكُمْ عَلَى أُصُولِكُمْ ؛ إذْ قَدَّرْتُمْ ثُبُوتَ مَوْجُودٍ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا بَلْ يَمْتَنِعُ مِنْهُ فِي الْأَزَلِ كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ مِنْهُ : مِنْ كَلَامٍ أَوْ فِعْلٍ . فَقَالُوا : إذَا قَدَّرْنَا وُجُودَ هَذَا وَأَنَّهُ يَبْقَى دَائِمًا أَبَدًا لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا ثُمَّ تَكَلَّمَ وَفَعَلَ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ أَوْجَبَ حُدُوثَ هَذَا الْكَلَامِ وَالْفِعْلِ إمَّا حُدُوثُ قُدْرَةٍ أَوْ إرَادَةٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ . فَأَمَّا إذَا قُدِّرَ حَالُهُ فِيمَا لَا يَزَالُ كَحَالِهِ فِيمَا لَمْ يَزَلْ : امْتَنَعَ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ كَلَامٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ غَيْرُ فِعْلٍ . فَهَذِهِ حُجَّةُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَيْكُمْ ؛ وَأَنْتُمْ لَمْ تُجِيبُوهُمْ إلَّا بِالْمُكَابَرَةِ أَوْ بِالْإِلْزَامِ " فَالْمُكَابَرَةُ " دَعْوَاكُمْ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ بِلَا حُدُوثِ سَبَبٍ ؛ بَلْ جَعَلْتُمْ نَفْسَ الْقُدْرَةِ أَوْ الْإِرَادَةِ الْقَدِيمَةِ : تُخَصِّصُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَنْ الْمِثْلِ الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا مَعَ أَنَّ نِسْبَتَهَا إلَى جَمِيعِ الْمُتَمَاثِلَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ . وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِالضَّرُورَةِ : فَهُوَ يَسُدُّ عَلَيْكُمْ طَرِيقَ " إثْبَاتِ الصَّانِعِ " فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحَوَادِثَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ وَالْمُخَصَّصُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ وَالتَّرْجِيحُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ ؛ إذَا كَانَ الْمُخَصِّصُ أَوْ الْمُرَجِّحُ مِنْ الْمُمَكَّنَاتِ أَوْ الْمُحْدَثَاتِ . وَأَمَّا " الْإِلْزَامُ " فَقَوْلُكُمْ إنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ لَازِمٌ لِلْفَلَاسِفَةِ كَمَا هُوَ
لَازِمٌ لَنَا . فَإِنَّ الْحَوَادِثَ إذَا امْتَنَعَ حُدُوثُهَا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ - وَلَيْسَ عِنْدَكُمْ إلَّا الْعِلَّةُ التَّامَّةُ الْأَزَلِيَّةُ - لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ مُحْدِثٌ . وَأَمَّا نَحْنُ إذَا سَلَكْنَا طَرِيقَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا فَنَقُولُ لِهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ : بَلْ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ كَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَحَدَثَتْ بِأَسْبَابِ حَدَثَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِذَا قُلْنَا : إنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ - و { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } - كَانَ مَا يَحْدُثُ حَادِثًا بِمَا شَاءَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ مِنْ كَلَامِهِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا قِيلَ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فِي إرَادَتِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَأَمْكَنَنَا أَنْ نُجِيبَ الْفَلَاسِفَةَ بِجَوَابِ آخَرَ مُرَكَّبٍ عَنَّا وَعَنْكُمْ . فَنَقُولُ لَهُمْ . وُجُودُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا مُمْكِنٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ ؟ . فَإِنْ قُلْتُمْ مُمْتَنِعٌ : لَزِمَكُمْ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَأَمْكَنَ حِينَئِذٍ صِحَّةُ قَوْلِ الكَرَّامِيَة وَنَحْوِهِمْ . وَإِنْ قُلْتُمْ : هُوَ مُمْكِنٌ . قِيلَ : فَمُمْكِنٌ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْعَالَمُ حَدَثَ بِسَبَبِ حَادِثٍ قَبْلَهُ . وَكَذَلِكَ السَّبَبُ الْآخَرُ لَا إلَى غَايَةٍ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ مَقَامَاتٌ دَقِيقَةٌ مُشْكِلَةٌ
بِسَبَبِهَا افْتَرَقَتْ الْأُمَّةُ وَاخْتَلَفَتْ . فَإِذَا اجْتَهَدَ الرَّجُلُ فِي مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ وَأَخْطَأَ فِي الْمَوَاضِعِ الدَّقِيقَةِ الَّتِي تَشْتَبِهُ عَلَى أَذْكِيَاءِ الْمُؤْمِنِينَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ خَطَايَاهُ ؛ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ : " قَدْ فَعَلْت " .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : وَمَنْ قَالَ : كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ إذْ الصَّوْتُ وَالْحَرْفُ لَازِمُهُمَا الْحُدُوثُ فَكَمَا لِذَاتِهِ التَّنْزِيهُ عَنْ سِمَاتِ الْخَلْقِ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ الْحَقُّ . فَيُقَالُ لَهُ : لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ وَسَائِر أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْخَالِقَ مُنَزَّهٌ عَنْ سِمَاتِ الْحُدُوثِ فَإِنَّ قِدَمَهُ ضَرُورِيٌّ ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى حُدُوثِهِ وَ " السِّمَةُ " هِيَ الْعَلَامَةُ وَالدَّلِيلُ . وَلَكِنْ مُنَازَعُوك فِي الصَّوْتِ وَالْحَرْفِ : جُمْهُورُ الْخَلَائِقِ ؛ إذْ لَمْ يُوَافِقْ الْكُلَّابِيَة عَلَى قَوْلِهِمْ أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ لَا الْجَهْمِيَّة وَلَا الْمُعْتَزِلَةُ وَلَا الضرارية وَلَا النجارية وَلَا الكَرَّامِيَة وَلَا السالمية وَلَا جُمْهُورُ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ وَلَا جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَلَا الْفَلَاسِفَةُ : لَا الإلهيون وَلَا الطبائعيون عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ . وَخُصُومُهُمْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْحُرُوفُ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ فِي مَحَلٍّ مُنْفَصِلٍ عَنْ اللَّهِ كَمَا يَقُولُونَ هُمْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ يَقُولُونَ : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ لِلَّهِ
كَلَامٌ غَيْرُهُ كَمَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ بَلْ أَجْمَعَتْ الْأُمَمُ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يُعْقَلُ إلَّا كَذَلِكَ . فَإِنْ قُلْتُمْ : هَذَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ . لَزِمَكُمْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ مَخْلُوقًا وَإِنْ قُلْتُمْ : لَيْسَ ذَلِكَ كَلَامَ اللَّهِ خَالَفْتُمْ الْمَعْلُومَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ وَإِنْ قُلْتُمْ نُسَمِّي هَذَا كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا كَلَامَ اللَّهِ كِلَاهُمَا حَقِيقَةً بِطْرِيق الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ . قِيلَ لَكُمْ : فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمَخْلُوقَ فِي غَيْرِهِ هُوَ كَلَامٌ لَهُ حَقِيقَةً بَطَلَ أَصْلُ حُجَّتِكُمْ الَّتِي احْتَجَجْتُمْ بِهَا حَيْثُ قُلْتُمْ الْكَلَامُ لَا يَكُونُ كَلَامًا إلَّا لِمَنْ قَامَ بِهِ وَلَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَحِلُّ فِي غَيْرِهِ . وَقَالُوا لَكُمْ أَيْضًا : إثْبَاتُ الْمَعْنَى الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ غَيْرُ هَذِهِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ وُجُودِهِ ثُمَّ إثْبَاتِ قِدَمِهِ ثُمَّ إثْبَاتِ حُدُوثِهِ وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ أَنْتُمْ فِيهَا مُنْقَطِعُونَ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ وَكَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ فُضَلَاءُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ . وَ " الْفَرِيقُ الثَّانِي " يَقُولُ لَكُمْ : إنَّا نُسَلِّمُ لَكُمْ أَنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ مُحْدَثَةٌ ؛ لَكِنْ نَقُولُ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ الْقَائِمُ بِذَاتِهِ فَإِنْ قُلْتُمْ هَذَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ مَحَلًّا لِلْحَوَادِثِ قَالُوا لَكُمْ : وَنَفْسُ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ الَّذِي تَلَقَّيْتُمُوهُ عَنْهُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ وَلَا شَرْعِيَّةٌ
وَقَدْ اعْتَرَفَ فُضَلَاؤُكُمْ بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يَلْزَمُ جُمْهُورَ الطَّوَائِفِ . وَقَالَ لَكُمْ مُنَازِعُوكُمْ : قَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ . وَ " الْفَرِيقُ الثَّالِثُ " يَقُولُ لَكُمْ : هَبْ أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ أَهِيَ مُحْدَثَةُ الْأَعْيَانِ أَمْ نَوْعُهَا مُحْدَثٌ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : إنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا مُحْدَثٌ لَمْ يَنْفَعْكُمْ . وَإِنْ قُلْتُمْ بَلْ النَّوْعُ مُحْدَثٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى . قِيلَ لَكُمْ : هَذَا مِمَّا يُنَازِعُكُمْ فِيهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَعَ جُمْهُورِ الْفَلَاسِفَةِ وَيُنَازِعُكُمْ فِيهِ أَئِمَّةُ الْمِلَلِ وَأَئِمَّةُ النِّحَلِ وَيُنَازِعُكُمْ فِيهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَالْأَئِمَّةُ ؛ مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمَجُوسِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا ابْتَدَعَ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْإِسْلَامِ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ ذَمَّهُمْ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَأَعْلَامُ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مَعْلُومًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ وَمُبْتَدِعُهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَقْلَ دَلَّ عَلَيْهِ . وَيَثْبُتُ بِهِ حُدُوثُ الْعَالَمِ وَالْعِلْمُ بِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَهُ : الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ وَأَنَّهُ مُنَافٍ مُضَادٌّ لِحُدُوثِ الْعَالَمِ وَلِإِثْبَاتِ الصَّانِعِ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : كَمَا لِذَاتِهِ التَّنْزِيهُ عَنْ سِمَاتِ الْخَلْقِ فَكَذَلِكَ لِقَوْلِهِ الْحَقَّ . فَهَذَا مِنْ جِنْسِ سَجْعِ الْكُهَّانِ الَّذِي لَا يُقِيمُ حَقًّا وَلَا يُبْطِلُ بَاطِلًا فَهَلْ تَقُولُ إنَّ كُلَّ مَا وُصِفَ بِهِ الرَّبُّ مِنْ الصِّفَاتِ يَتَّصِفُ بِهِ كُلُّ مَا لَهُ مِنْ الْكَلِمَاتِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ ؟ وَإِذَا قِيلَ : إنَّ الرَّبَّ تَعَالَى إلَهٌ قَادِرٌ خَالِقٌ مَعْبُودٌ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ كَلِمَاتِهِ وَصِفَاتِهِ إلَهًا قَادِرًا خَالِقًا مَعْبُودًا ؟ وَهَذَا الْقَوْلُ يُضَاهِي قَوْلَ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالُوا : كَمَا أَنَّ أُقْنُومَ الْوُجُودِ إلَهٌ فَكَذَلِكَ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ وَالرُّوحِ فَيُثْبِتُونَ لِلصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتُوهَا لِلذَّاتِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِمَحَلِّ لَا يُوجَدُ بِغَيْرِهِ إذْ لَا بُدَّ لِلْكَلَامِ مِنْ مَحَلٍّ لَا يُوجَدُ الْكَلَامُ بِدُونِهِ فَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَفْتَقِرَ الرَّبُّ إلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ كَمَا يَفْتَقِرُ الْكَلَامُ إلَى ذَلِكَ ؟ وَلَكِنْ يَجِبُ تَنْزِيهُ كَلَامِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ ؛ إذْ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْكَمَالِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ . وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُوَ عَنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَعَ أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِهَا بَعْضُ مَخْلُوقَاتِهِ فَالْمَوْصُوفُ الْوَاجِبُ الْوُجُودُ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ أَحَقُّ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ فَمِنْ الْخَالِقِ اسْتَفَادَهُ وَالْخَالِقُ أَوْهَبَهُ إيَّاهُ وَأَعْطَاهُ فَوَاهِبُ الْكَمَالِ وَمُعْطِيهِ أَحَقُّ بِهِ وَأَوْلَى .
وَهَذَا مِمَّا يُعَبِّرُ عَنْهُ كُلُّ قَوْمٍ بِاصْطِلَاحِهِمْ حَتَّى تَقُولَ الْمُتَفَلْسِفَةُ : كُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِلْمَعْلُولِ فَهُوَ مِنْ كَمَالِ الْعِلَّةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَخْلُوقَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْءٌ أَصْلًا ؛ بَلْ كَلُّ مَا لَهُ فَمِنْ خَالِقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَلْتَعْلَمْ أَنَّ الْحَرْفَ اللِّسَانِيَّ وَالْحَرْفَ الْبَنَانِيَّ : كِلَاهُمَا مُقَيَّدٌ بِزَمَانِ يَصْرِفُهُ الْمَوْلَى مُتَكَلِّمٌ قَبْلَ الزَّمَانِ فَتَعَالَى كَلَامُهُ عَنْ أَنَّ تَكْتَنِفَهُ الحدثان فَقَدْ عَرَفَ مُنَازَعَةَ الْمُنَازِعِينَ لَهُ فِي هَذَا وَلَمْ يَذْكُرْ إلَّا مُجَرَّدَ الدَّعْوَى وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ تَصَوُّرَ الدَّعْوَى مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ وَأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مُقَدِّمَاتٌ يُنَازِعُهُ فِيهَا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ وَآخِرُهَا يَنْتَهِي إلَى مُقَدِّمَاتٍ تَلَقَّوْهَا عَنْ شُيُوخِهِمْ الْمُعْتَزِلَةِ ؛ فَإِنَّ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةَ إنَّمَا أَخَذُوا مُقَدِّمَاتِ هَذَا الْكَلَامِ وَمَادَّتَهُ مِنْهُمْ . وَقَدْ عُرِفَ حَالُهُمْ فِي ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ الْمَوْلَى مُتَكَلِّمٌ قَبْلَ الزَّمَانِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَبْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَقَبْلَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فَهَذَا حَقٌّ ؛ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَلَّمَ بِهِ عِبَادَهُ وَيُكَلِّمُهُمْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ؟ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّهُ قَبْلَ خَلْقِ الْعَالَمِ كَانَ مُنَادِيًا لِمُوسَى قَائِلًا لَهُ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } ؟
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَبْلَ مَا يُوصَفُ بِالْقَبْلِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الزَّمَانَ مِقْدَارُ الْفِعْلِ وَالْحَرَكَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الْأَزَلِ فَقَدْ عَرَفَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ يُنَازِعُونَهُ فِي هَذَا مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْمِلَلِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَقَوْلُهُ : إنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ أَدَاتَانِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عَنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِ اللَّهِ كَمَا يُعَبِّرُ الْإِنْسَانُ عَمَّا قَامَ بِهِ مِنْ الطَّلَبِ . تَارَةً بِالْبَنَانِ وَتَارَةً بِاللِّسَانِ وَتَارَةً بِالرَّأْسِ عِنْدَ طَلَبِ الرَّوَاحِ وَعِنْدَ طَلَبِ الْإِتْيَانِ فَهَذَا مَذْهَبُ الْحَقِّ وَمَرْكَبُ الصِّدْقِ . فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا عَلَيْهِ اعْتِرَاضَاتٌ : " أَحَدُهَا " أَنْ يُقَالَ : مَا ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ ؟ أَهُوَ وَاحِدٌ كَمَا يَقُولُهُ الْأَشْعَرِيُّ وَهُوَ عِنْدَهُ مَدْلُولُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَدْلُولُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَالدِّينِ وَمَدْلُولِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَسُورَةِ الْكَوْثَرِ ؟ أَمْ هُوَ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ ؟ فَإِنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ : كَانَ فَسَادُهُ مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ ثُمَّ يُقَالُ : التَّصْدِيقُ فَرْعُ التَّصَوُّرِ وَنَحْنُ لَا نَتَصَوَّرُ هَذَا فَبَيِّنْ لَنَا مَعْنَاهُ . ثُمَّ تَكَلَّمْ عَلَى إثْبَاتِهِ فَإِنْ قَالَ : هُوَ نَظِيرُ الْمَعَانِي الْمَوْجُودَةِ فِينَا كَانَ هَذَا الْكَلَامُ بَعْدَ النُّزُولِ عَمَّا يَحْتَمِلُهُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الَّذِي فِينَا مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَإِمَّا مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ أَمْرٌ بِكُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَخَبَرٌ عَنْ كُلِّ مَخْبَرٍ عَنْهُ فَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ .
" الثَّانِي " أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهُ مُتَصَوَّرٌ . فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِهِ ؟ وَمَا الدَّلِيلُ عَلَى قِدَمِهِ ؟ . " الثَّالِثُ " أَنْ يُقَالَ : قَوْلُك الصَّوْتُ وَالْحَرْفُ عِبَارَةٌ عَنْهُ . أَتَعْنِي بِهِ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ أَوْ الْحُرُوفَ الْمَوْجُودَةَ فِي التِّلَاوَةِ وَالْمَصَاحِفِ وَإِمَّا حُرُوفًا وَأَصْوَاتًا غَيْرَ هَذِهِ . فَإِنْ قُلْت بِالْأَوَّلِ كَانَ بَاطِلًا مِنْ وُجُوهٍ : " أَحَدُهَا " : أَنَّهُ كُلُّ مَنْ أَجَادَ الْقِرَاءَةَ عُبِّرَ عَمَّا فِي نَفْسِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عُبِّرَ عَمَّا فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْمَخْلُوقُ أَقْدَرَ مِنْ الْخَالِقِ . " الثَّانِي " أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْقُرَّاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَفْقَهُونَ أَكْثَرَ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالتَّعْبِيرُ عَمَّا فِي نَفْسِ الْمُعَبِّرِ فَرْعٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ جَمِيعَ مَعَانِي الْقُرْآنِ - كَلَامِ اللَّهِ - فَكَيْفَ يُعَبِّرُ عَنْ تِلْكَ الْمَعَانِي " الثَّالِثُ " أَنَّ النَّاسَ لَا يَفْهَمُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ إلَّا بِدَلَالَةِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى مَعَانِيهِ ؛ فَإِذَا سَمِعُوا أَلْفَاظَهُ وَتَدَبَّرُوهُ كَانَ اللَّفْظُ لَهُمْ دَلِيلًا عَلَى الْمَعَانِي وَالْمُسْتَدِلُّ بِاللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ الْمُتَكَلِّمُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْمُعَبِّرَ بِاللَّفْظِ عَنْ الْمَعْنَى يَعْرِفُ الْمَعْنَى أَوَّلًا
ثُمَّ يَدُلُّ غَيْرَهُ عَلَيْهِ بِالْعِبَارَةِ وَالنَّاسُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ضِدِّ هَذِهِ الْحَالِ ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونُوا هُمْ الْمُعَبِّرِينَ بِهِ .
" الرَّابِعُ " أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ مِنْ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهِ إلَّا الْحِفْظُ وَالتَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ ؛ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا حَفِظَ خُطَبَ الْخُطَبَاءِ وَشِعْرَ الشُّعَرَاءِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُعَبِّرَ عَمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ الْكَلَامِ ؛ بَلْ يَكُونُ الْكَلَامُ كَلَامَهُمْ وَهُوَ قَدْ حَفِظَهُ وَأَدَّاهُ وَبَلَّغَهُ . فَكَيْفَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " الْخَامِسُ " إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ وُجُودِ كُلِّ الْقُرَّاءِ وَأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ . وَإِنْ قُلْت : بَلْ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ الْمُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَعَانِي الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ مِنْ حُرُوفٍ وَأَصْوَاتٍ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِ الْقُرَّاءِ : وَلَكِنْ كُلٌّ مِنْ الْقُرَّاءِ حَفِظَ ذَلِكَ النَّظْمَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ قِيلَ لَك . فَحِينَئِذٍ قَدْ كَانَ ثَمَّ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ غَيْرُ هَذِهِ الْأَصْوَاتِ الْمَسْمُوعَةِ مِنْ الْقُرَّاءِ وَغَيْرُ الْمِدَادِ الْمَكْتُوبِ فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا هُوَ
الْحَقُّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهُ مَا ثَمَّ إلَّا الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالذَّاتِ أَوْ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ لَيْسَ بِحَقِّ . وَيُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ : فَتِلْكَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ أَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ ؟ أَمْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا فِي غَيْرِهِ ؟ فَإِنْ قُلْت : هِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَزِمَك مَا فَرَرْت مِنْهُ حَيْثُ أَقْرَرْت أَنَّ لِلَّهِ كَلَامًا هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ كَمَا يَقُولُهُ جُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ قُلْت : لَيْسَتْ كَلَامًا لِلَّهِ فَهَذِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا لِلَّهِ . وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : مَنْ قَالَ لَفْظِي عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ : فَقَدْ انْسَلَخَ عَنْ رِبْقَةِ الْعَقْلِ وَغَرِقَ فِي بَحْرِ العماية وَالْجَهْلِ . فَيُقَالُ : قَوْلُ الْقَائِلِ : لَفْظِي " عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ " كَلَامٌ مُجْمَلٌ . فَإِنَّ " اللَّفْظَ " فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا كَمَا أَنَّ " التِّلَاوَةَ وَالْقِرَاءَةَ " فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ تَلَا يَتْلُو وَقَرَأَ يَقْرَأُ وَيُعَبِّرُ بِاللَّفْظِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ عَنْ نَفْسِ الْكَلَامِ الْمَلْفُوظِ بِهِ الْمَتْلُوِّ الْمَقْرُوءِ . فَإِنَّ النَّاسَ إذَا قَالُوا : اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى . لَمْ يُرِيدُوا بِاللَّفْظِ الْمَصْدَرَ ؛ بَلْ يُرِيدُونَ بِهِ الْمَلْفُوظَ بِهِ . وَإِذَا قَالُوا لِمَنْ سَمِعُوهُ يَتَكَلَّمُ : هَذِهِ أَلْفَاظٌ حَسَنَةٌ أَرَادُوا بِهِ مَا يَلْفِظُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَا يَلْفِظُ مِنْ