الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِمَا بِهِ قَضَى الصَّالِحُونَ قَبْلَك . وَفِي رِوَايَةٍ : فَبِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ . وَعُمَرُ قَدَّمَ الْكِتَابَ ثُمَّ السُّنَّةَ وَكَذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ وَعُمَرُ قَدَّمَ الْكِتَابَ ثُمَّ السُّنَّةُ ثُمَّ الْإِجْمَاعُ . وَكَذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ يُفْتِي بِمَا فِي الْكِتَابِ ثُمَّ بِمَا فِي السُّنَّةِ ثُمَّ بِسُنَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ؛ لِقَوْلِهِ : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } وَهَذِهِ الْآثَارُ ثَابِتَةٌ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمْ مِنْ أَشْهَرِ الصَّحَابَةِ بِالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ . وَلَكِنْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالُوا : يَبْدَأُ الْمُجْتَهِدُ بِأَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَجَدَهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ وَجَدَ نَصًّا خَالَفَهُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِنَصٍّ لَمْ يَبْلُغْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ ؛ الْإِجْمَاعُ نَسَخَهُ وَالصَّوَابُ طَرِيقَةُ السَّلَفِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا خَالَفَهُ نَصٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِجْمَاعِ نَصٌّ مَعْرُوفٌ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّصُّ الْمُحْكَمُ قَدْ ضَيَّعَتْهُ الْأُمَّةُ وَحَفِظَتْ النَّصَّ الْمَنْسُوخَ فَهَذَا لَا يُوجَدُ قَطُّ وَهُوَ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إلَى حِفْظِ مَا نُهِيَتْ عَنْ اتِّبَاعِهِ وَإِضَاعَةِ مَا أُمِرَتْ بِاتِّبَاعِهِ وَهِيَ مَعْصُومَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَمَعْرِفَةُ الْإِجْمَاعِ قَدْ تَتَعَذَّرُ كَثِيرًا أَوْ غَالِبًا فَمَنْ ذَا الَّذِي
يُحِيطُ بِأَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ ؟ بِخِلَافِ النُّصُوصِ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهَا مُمْكِنَةٌ مُتَيَسِّرَةٌ . وَهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَقْضُونَ بِالْكِتَابِ أَوَّلًا لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْسَخُ الْكِتَابَ فَلَا يَكُونُ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ مَنْسُوخٌ بِالسُّنَّةِ بَلْ إنْ كَانَ فِيهِ مَنْسُوخٌ كَانَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخُهُ فَلَا يُقَدِّمُ غَيْرَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ ثُمَّ إذَا لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ طَلَبَهُ فِي السُّنَّةِ وَلَا يَكُونُ فِي السُّنَّةِ شَيْءٌ مَنْسُوخٌ إلَّا وَالسُّنَّةُ نَسَخَتْهُ لَا يَنْسَخُ السُّنَّةَ إجْمَاعٌ وَلَا غَيْرُهُ ؛ وَلَا تُعَارَضُ السُّنَّةُ بِإِجْمَاعِ وَأَكْثَرُ أَلْفَاظِ الْآثَارِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالطَّالِبُ قَدْ لَا يَجِدُ مَطْلُوبَهُ فِي السُّنَّةِ مَعَ أَنَّهُ فِيهَا وَكَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَيَجُوزُ لَهُ إذَا لَمْ يَجِدْهُ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَطْلُبَهُ فِي السُّنَّةِ وَإِذَا كَانَ فِي السُّنَّةِ لَمْ يَكُنْ مَا فِي السُّنَّةِ مُعَارِضًا لِمَا فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ الصَّحِيحُ لَا يُعَارِضُ كِتَابًا وَلَا سُنَّةً . تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ وَصَلَوَاتِهِ عَلَى خَيْرِ بَرِيَّتِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَ كَلَامٍ لَهُ :
وَنَحْنُ نَذْكُرُ " قَاعِدَةً جَامِعَةً " فِي هَذَا الْبَابِ لِسَائِرِ الْأُمَّةِ فَنَقُولُ :
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْإِنْسَانِ أُصُولٌ كُلِّيَّةٌ تُرَدُّ إلَيْهَا الْجُزْئِيَّاتُ لِيَتَكَلَّمَ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ ثُمَّ يَعْرِفُ الْجُزْئِيَّاتِ كَيْفَ وَقَعَتْ ؟ (*) وَإِلَّا فَيَبْقَى فِي كَذِبٍ وَجَهْلٍ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَجَهْلٍ وَظُلْمٍ فِي الْكُلِّيَّاتِ فَيَتَوَلَّدُ فَسَادٌ عَظِيمٌ . فَنَقُولُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَخْطِئَتِهِمْ وَتَأْثِيمِهِمْ وَعَدَمِ تَأْثِيمِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ أُصُولًا جَامِعَةً نَافِعَةً :
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ : أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَعْرِفَ بِاجْتِهَادِهِ الْحَقَّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا نِزَاعٌ ؟ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ فَاجْتَهَدَ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فَلَمْ يَصِلْ إلَى الْحَقِّ ؛ بَلْ قَالَ : مَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ : هَلْ
يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَاقَبَ أَمْ لَا ؟ هَذَا أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الْأَصْلِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كُلُّ قَوْلٍ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ : الْأَوَّلُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ قَدْ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ دَلِيلًا يُعْرَفُ بِهِ يَتَمَكَّنُ كُلُّ مَنْ اجْتَهَدَ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَّ فِي مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ أَوْ فروعية فَإِنَّمَا هُوَ لِتَفْرِيطِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَا لِعَجْزِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ : أَمَّا الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ فَعَلَيْهَا أَدِلَّةٌ قَطْعِيَّةٌ تُعْرَفُ بِهَا فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَفْرِغْ وُسْعَهُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ فَيَأْثَمُ . وَأَمَّا الْمَسَائِلُ الْعَمَلِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَلَهُمْ مَذْهَبَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا كَالْعِلْمِيَّةِ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ مَسْأَلَةٍ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ مَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ آثِمٌ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْمُصِيبُ وَاحِدٌ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ أَصْلِيَّةٍ وَفَرْعِيَّةٍ وَكُلُّ مَنْ سِوَى الْمُصِيبِ فَهُوَ آثِمٌ ؛ لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ وَالْخَطَأُ وَالْإِثْمُ عِنْدَهُمْ مُتَلَازِمَانِ وَهَذَا قَوْلُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيَّ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ . الثَّانِي : أَنَّ الْمَسَائِلَ الْعَمَلِيَّةَ إنْ كَانَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَإِنَّ مَنْ خَالَفَهُ
آثِمٌ مُخْطِئٌ كَالْعِلْمِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ فِي الْبَاطِنِ وَحُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ . وَهَؤُلَاءِ وَافَقُوا الْأَوَّلِينَ فِي أَنَّ الْخَطَأَ وَالْإِثْمَ مُتَلَازِمَانِ وَإِنَّ كُلَّ مُخْطِئٍ آثِمٌ ؛ لَكِنْ خَالَفُوهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ فَقَالُوا : لَيْسَ فِيهَا قَاطِعٌ وَالظَّنُّ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ مَيْلِ النُّفُوسِ إلَى شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ فَجَعَلُوا الِاعْتِقَادَاتِ الظَّنِّيَّةَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَاتِ وَادَّعَوْا أَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حُكْمٌ مَطْلُوبٌ بِالِاجْتِهَادِ وَالْإِثْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمَارَةٌ أَرْجَحُ مِنْ أَمَارَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ أَبِي الهذيل الْعَلَّافِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كالجبائي وَابْنِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الْأَشْعَرِيِّ وَأَشْهُرُهُمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي الْبَاقِلَانِي وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ ابْنِ الْعَرَبِيِّ ؛ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بَسْطًا كَثِيرًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمُخَالِفُونَ لَهُمْ كَأَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : هَذَا الْقَوْلُ أَوَّلُهُ سَفْسَطَةٌ وَآخِرُهُ زَنْدَقَةٌ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَهُوَ مُصِيبٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ إذْ لَا يَتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا إلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأُمُورِ وَذَلِكَ الَّذِي خَفِيَ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ لَا
فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ أَمْثَالِهِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُخْطِئًا وَهُوَ الْمُخْطِئُ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ فَهُوَ آثِمٌ عِنْدَهُمْ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُسْتَدِلَّ قَدْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ وَقَدْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ لَكِنْ إذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ لَا يُعَاقِبُهُ ؛ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَذِّبَ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرَ لِمَنْ يَشَاءُ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا ؛ بَلْ لِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ . وَهَذَا قَوْلُ الْجَهْمِيَّة وَالْأَشْعَرِيَّةِ ؛ وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ وَأَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ قَالَ هَؤُلَاءِ : قَدْ عُلِمَ بِالسَّمْعِ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَهُوَ فِي النَّارِ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُعَذِّبُهُ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يَجْتَهِدْ وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ الْمُخْتَلِفُونَ : فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الفروعيات فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ : لَا عَذَابَ فِيهَا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : لِأَنَّ الشَّارِعَ عَفَا عَنْ الْخَطَأِ فِيهَا وَعَلِمَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ إثْمٌ عَلَى الْمُخْطِئِ فِيهَا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : لِأَنَّ الْخَطَأَ فِي الظَّنِّيَّاتِ مُمْتَنِعٌ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ بَعْضِ الْجَهْمِيَّة وَالْأَشْعَرِيَّةِ . وَأَمَّا الْقَطْعِيَّاتُ فَأَكْثَرُهُمْ يُؤَثِّمُ الْمُخْطِئَ فِيهَا وَيَقُولُ : إنَّ السَّمْعَ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤَثِّمُهُ . وَالْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ هَذَا مَعْنَاهُ : أَنَّهُ كَانَ لَا يُؤَثِّمُ الْمُخْطِئَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ
هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا فِي الْأُصُولِ وَلَا فِي الْفُرُوعِ وَأَنْكَرَ جُمْهُورُ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا الْقَوْلَ وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ فَيَقُولُ : هَذَا قَوْلُ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى كَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَالثَّوْرِيِّ ودَاوُد بْنِ عَلِيٍّ ؛ وَغَيْرِهِمْ لَا يؤثمون مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ وَلَا فِي الفروعية كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ ابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا يَقْبَلُونَ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إلَّا الْخَطَابِيَّة وَيُصَحِّحُونَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ . وَالْكَافِرُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ وَقَالُوا : هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ : أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ وَلَا يُفَسِّقُونَ وَلَا يؤثمون أَحَدًا مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُخْطِئِينَ لَا فِي مَسْأَلَةٍ عَمَلِيَّةٍ وَلَا عِلْمِيَّةٍ قَالُوا : وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ وَانْتَقَلَ هَذَا الْقَوْلُ إلَى أَقْوَامٍ تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَلَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ هَذَا الْقَوْلِ وَلَا غَوْرَهُ . قَالُوا : وَالْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ كَمَا أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ بَلْ وَلَا قَالَهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ عَقْلًا ؛ فَإِنَّ الْمُفَرِّقِينَ بَيْنَ مَا جَعَلُوهُ مَسَائِلَ
أُصُولٍ وَمَسَائِلَ فُرُوعٍ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ صَحِيحٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ بَلْ ذَكَرُوا ثَلَاثَةَ فُرُوقٍ أَوْ أَرْبَعَةً كُلُّهَا بَاطِلَةٌ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَسَائِلُ الْأُصُولِ هِيَ الْعِلْمِيَّةُ الِاعْتِقَادِيَّةُ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْعِلْمُ وَالِاعْتِقَادُ فَقَطْ ؛ وَمَسَائِلُ الْفُرُوعِ هِيَ الْعَمَلِيَّةُ الَّتِي يُطْلَبُ فِيهَا الْعَمَلُ . قَالُوا : وَهَذَا فَرْقٌ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْمَسَائِلَ الْعَمَلِيَّةَ فِيهَا مَا يُكَفِّرُ جَاحِدَهُ مِثْلَ : وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ ؛ وَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَالرِّبَا وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ . وَفِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ مَا لَا يَأْثَمُ الْمُتَنَازِعُونَ فِيهِ كَتَنَازُعِ الصَّحَابَةِ : هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي بَعْضِ النُّصُوصِ : هَلْ قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَا ؟ وَمَا أَرَادَ بِمَعْنَاهُ ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي بَعْضِ الْكَلِمَاتِ : هَلْ هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ أَمْ لَا ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي بَعْضِ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ : هَلْ أَرَادَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَذَا وَكَذَا ؟ وَكَتَنَازُعِ النَّاسِ فِي دَقِيقِ الْكَلَامِ كَمَسْأَلَةِ الْجَوْهَرِ الْفَرْدِ وَتَمَاثُلِ الْأَجْسَامِ ؛ وَبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْفِيرٌ وَلَا تَفْسِيقٌ . قَالُوا : وَالْمَسَائِلُ الْعَمَلِيَّةُ فِيهَا عَمَلٌ وَعِلْمٌ فَإِذَا كَانَ الْخَطَأُ مَغْفُورًا فِيهَا فَاَلَّتِي فِيهَا عِلْمٌ بِلَا عَمَلٍ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ فِيهَا مَغْفُورًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ ؛ وَالْفَرْعِيَّةُ مَا لَيْسَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ . قَالَ أُولَئِكَ : وَهَذَا الْفَرْقُ خَطَأٌ أَيْضًا ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ عَلَيْهَا أَدِلَّةٌ قَطْعِيَّةٌ عِنْدَ مَنْ عَرَفَهَا وَغَيْرِهِمْ لَمْ يَعْرِفْهَا وَفِيهَا مَا هُوَ قَطْعِيٌّ بِالْإِجْمَاعِ كَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ وَوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ ثُمَّ لَوْ أَنْكَرَهَا الرَّجُلُ بِجَهْلِ وَتَأْوِيلٍ لَمْ يُكَفَّرْ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ كَمَا أَنَّ جَمَاعَةً اسْتَحَلُّوا شُرْبَ الْخَمْرِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ مِنْهُمْ قدامة وَرَأَوْا أَنَّهَا حَلَالٌ لَهُمْ ؛ وَلَمْ تُكَفِّرْهُمْ الصَّحَابَةُ حَتَّى بَيَّنُوا لَهُمْ خَطَأَهُمْ فَتَابُوا وَرَجَعُوا . وَقَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَائِفَةٌ أَكَلُوا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ؛ وَلَمْ يؤثمهم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلًا عَنْ تَكْفِيرِهِمْ وَخَطَؤُهُمْ قَطْعِيٌّ . وَكَذَلِكَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَدْ قَتَلَ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ وَكَانَ خَطَؤُهُ قَطْعِيًّا وَكَذَلِكَ الَّذِينَ وَجَدُوا رَجُلًا فِي غَنَمٍ لَهُ فَقَالَ : إنِّي مُسْلِمٌ فَقَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ كَانَ خَطَؤُهُمْ قَطْعِيًّا . وَكَذَلِكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَتَلَ بَنِي جذيمة وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ كَانَ مُخْطِئًا قَطْعًا . وَكَذَلِكَ الَّذِينَ تَيَمَّمُوا إلَى الْآبَاطِ وَعَمَّارٌ الَّذِي تَمَعَّكَ فِي التُّرَابِ لِلْجَنَابَةِ كَمَا تَمَعَّكَ الدَّابَّةُ بَلْ وَاَلَّذِينَ أَصَابَتْهُمْ جَنَابَةٌ فَلَمْ يَتَيَمَّمُوا وَلَمْ يُصَلُّوا كَانُوا مُخْطِئِينَ قَطْعًا . وَفِي زَمَانِنَا لَوْ أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي بَعْضِ الْأَطْرَافِ وَلَمْ
يَعْلَمُوا بِوُجُوبِ الْحَجِّ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لَمْ يُحَدُّوا عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ نَشَئُوا بِمَكَانٍ جُهِلَ . وَقَدْ زَنَتْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ امْرَأَةٌ فَلَمَّا أَقَرَّتْ بِهِ قَالَ عُثْمَانُ : إنَّهَا لَتَسْتَهِلُّ بِهِ اسْتِهْلَالَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ حَرَامٌ . فَلَمَّا تَبَيَّنَ لِلصَّحَابَةِ أَنَّهَا تَعْرِفُ التَّحْرِيمَ لَمْ يَحُدُّوهَا وَاسْتِحْلَالُ الزِّنَا خَطَأٌ قَطْعًا . وَالرَّجُلُ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ . وَمَنْ اعْتَقَدَ بَقَاءَ الْفَجْرِ فَأَكَلَ فَهُوَ مُخْطِئٌ قَطْعًا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْأَكْلُ بَعْدَ الْفَجْرِ ؛ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَفِي الْقَضَاءِ نِزَاعٌ وَكَذَلِكَ مَنْ اعْتَقَدَ غُرُوبَ الشَّمْسِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " قَدْ فَعَلْت " وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْخَطَأِ الْقَطْعِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ أَوْ ظَنِّيَّةٍ . وَالظَّنِّيُّ مَا لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ خَطَأٌ إلَّا إذَا كَانَ أَخْطَأَ قَطْعًا قَالُوا : فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمُخْطِئَ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ أَوْ ظَنِّيَّةٍ يَأْثَمُ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ .
قَالُوا : وَأَيْضًا فَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً هُوَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ بِحَسَبِ حَالِ الْمُعْتَقِدِينَ لَيْسَ هُوَ وَصْفًا لِلْقَوْلِ فِي نَفْسِهِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَقْطَعُ بِأَشْيَاءَ عَلِمَهَا بِالضَّرُورَةِ ؛ أَوْ بِالنَّقْلِ الْمَعْلُومِ صِدْقُهُ عِنْدَهُ وَغَيْرُهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا . وَقَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ ذَكِيًّا قَوِيَّ الذِّهْنِ سَرِيعَ الْإِدْرَاكِ فَيَعْرِفُ مِنْ الْحَقِّ وَيَقْطَعُ بِهِ مَا لَا يَتَصَوَّرُهُ غَيْرُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ لَا عِلْمًا وَلَا ظَنًّا . فَالْقَطْعُ وَالظَّنُّ يَكُونُ بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَبِحَسَبِ قُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّاسِ يَخْتَلِفُونَ فِي هَذَا وَهَذَا فَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً لَيْسَ هُوَ صِفَةً مُلَازِمَةً لِلْقَوْلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ حَتَّى يُقَالَ : كُلُّ مَنْ خَالَفَهُ قَدْ خَالَفَ الْقَطْعِيَّ بَلْ هُوَ صِفَةٌ لِحَالِ النَّاظِرِ الْمُسْتَدِلِّ الْمُعْتَقِدِ وَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ النَّاسُ فَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَطَّرِدُ وَلَا يَنْعَكِسُ . وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بِفَرْقِ ثَالِثٍ وَقَالَ : الْمَسَائِلُ الْأُصُولِيَّةُ هِيَ الْمَعْلُومَةُ بِالْعَقْلِ فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ اسْتَقَلَّ الْعَقْلُ بِدَرْكِهَا فَهِيَ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الَّتِي يَكْفُرُ أَوْ يَفْسُقُ مُخَالِفُهَا . وَالْمَسَائِلُ الفروعية هِيَ الْمَعْلُومَةُ بِالشَّرْعِ قَالُوا : فَالْأَوَّلُ كَمَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ ؛ وَالثَّانِي كَمَسَائِلِ الشَّفَاعَةِ وَخُرُوجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ .
فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا ذَكَرْتُمُوهُ بِالضِّدِّ أَوْلَى فَإِنَّ الْكُفْرَ وَالْفِسْقَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَسْتَقِلُّ بِهَا الْعَقْلُ . إلَى أَنْ قَالَ : وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ فِي الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُقَالُ : إنَّهَا أُصُولُ الدِّينِ كُفْرًا فَهَؤُلَاءِ السَّالِكُونَ هَذِهِ الطُّرُقَ الْبَاطِلَةَ فِي الْعُقَلِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي الشَّرْعِ هُمْ الْكُفَّارُ لَا مَنْ خَالَفَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْخَطَأُ فِيهَا كُفْرًا فَلَا يَكْفُرُ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ كَافِرًا فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ وَلَكِنْ مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْبِدَعِ أَنَّهُمْ يَبْتَدِعُونَ أَقْوَالًا يَجْعَلُونَهَا وَاجِبَةً فِي الدِّينِ بَلْ يَجْعَلُونَهَا مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ كَفِعْلِ الْخَوَارِجِ وَالْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ لَا يَبْتَدِعُونَ قَوْلًا وَلَا يُكَفِّرُونَ مَنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُمْ مُسْتَحِلًّا لِدِمَائِهِمْ كَمَا لَمْ تُكَفِّرْ الصَّحَابَةُ الْخَوَارِجَ مَعَ تَكْفِيرِهِمْ لِعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَمَنْ وَالَاهُمَا وَاسْتِحْلَالِهِمْ لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ . وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِالتَّصْوِيبِ وَالتَّخْطِئَةِ وَالتَّأْثِيمِ وَنَفْيِهِ وَالتَّكْفِيرِ وَنَفْيِهِ ؛ لِكَوْنِهِمْ بَنَوْا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ كُلَّ مُسْتَدِلٍّ قَادِرًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ
فَيُعَذَّبُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ ؛ وَقَوْلُ الْجَهْمِيَّة الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا بَلْ اللَّهُ يُعَذِّبُ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ فَيُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ ذَنْبًا قَطُّ وَيُنَعِّمُ مَنْ كَفَرَ وَفَسَقَ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ الْأَطْفَالَ وَالْمَجَانِينَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَنْبًا قَطُّ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَجْزِمُ بِعَذَابِ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ وَيَقُولُ : لَا أَدْرِي مَا يَقَعُ ؟ وَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ أَنْ يُغْفَرَ لِأَفْسَقِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا وَيُعَذِّبُ الرَّجُلَ الصَّالِحَ عَلَى السَّيِّئَةِ الصَّغِيرَةِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ بِلَا سَبَبٍ أَصْلًا بَلْ بِمَحْضِ الْمَشِيئَةِ . وَأَصْلُ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ إلَى آخِرِ مَا نَقَلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ قَالَ : وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ : أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ اجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ إلَّا مَنْ تَرَكَ مَأْمُورًا أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَعْرُوفُ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَقَوْلِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ الصَّوَابَ مِنْ الْقَوْلَيْنِ .
فَالصَّوَابُ مِنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِي وَافَقُوا فِيهِ السَّلَفَ وَالْجُمْهُورَ وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ طَلَبَ وَاجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ بَلْ اسْتِطَاعَةُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتَةٌ .
وَالْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْقُدْرَةِ وَلَمْ يَخُصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَى الْكُفَّارِ حَتَّى آمَنُوا وَلَا خَصَّ الْمُطِيعِينَ بِمَا فَضَّلَهُمْ بِهِ عَلَى الْعُصَاةِ حَتَّى أَطَاعُوا . وَهَذَا مِنْ أَقْوَالِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّتِي خَالَفُوا بِهَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْعَقْلَ الصَّرِيحَ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ كُلَّ مُسْتَدِلٍّ فَمَعَهُ قُدْرَةٌ تَامَّةٌ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ فَكُلُّهُمْ مَأْمُورُونَ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ ثُمَّ بَعْضُهُمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَعْرِفَةِ جِهَتِهَا وَبَعْضُهُمْ يَعْجَزُ عَنْ ذَلِكَ فَيَغْلَطُ فَيَظُنُّ فِي بَعْضِ الْجِهَاتِ أَنَّهَا جِهَتُهَا وَلَا يَكُونُ مُصِيبًا فِي ذَلِكَ . لَكِنْ هُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي صِلَاتِهِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا فَعَجْزُهُمْ عَنْ الْعِلْمِ بِهَا كَعَجْزِهِ عَنْ التَّوَجُّهِ إلَيْهَا كَالْمُقَيَّدِ وَالْخَائِفِ ؛ وَالْمَحْبُوسِ وَالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ التَّوَجُّهُ إلَيْهَا . وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ فِي الْأَصْلِ الثَّانِي قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا مَنْ عَصَاهُ بِتَرْكِ
الْمَأْمُورِ أَوْ فِعْلِ الْمَحْظُورِ . وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي هَذَا وَافَقُوا الْجَمَاعَةَ بِخِلَافِ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ قَالُوا : بَلْ يُعَذِّبُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَحْتَجُّونَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي نَفْيِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ الْعَقْلِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ أَيْضًا فِي نَفْيِ الْعَذَابِ مُطْلَقًا إلَّا بَعْدَ إرْسَالِ الرُّسُلِ ؛ وَهُمْ يُجَوِّزُونَ التَّعْذِيبَ قَبْلَ إرْسَالِ الرُّسُلِ . فَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : يُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَبْعَثْ إلَيْهِ رَسُولًا لِأَنَّهُ فَعَلَ الْقَبَائِحَ الْعَقْلِيَّةَ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : بَلْ يُعَذِّبُ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ قَبِيحًا قَطُّ كَالْأَطْفَالِ . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَقْلِ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النَّارِ : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِصِيغَةِ الْعُمُومِ أَنَّهُ كُلَّمَا أُلْقِيَ فَوْجٌ سَأَلَهُمْ الْخَزَنَةُ : هَلْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ؟ فَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُمْ قَدْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ فَلَمْ يَبْقَ فَوْجٌ يَدْخُلُ النَّارَ إلَّا وَقَدْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَأْتِهِ نَذِيرٌ لَمْ يَدْخُلْ النَّارَ . وَقَالَ : { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } أَيْ : هَذَا بِهَذَا السَّبَبِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ مَنْ كَانَ غَافِلًا مَا لَمْ يَأْتِهِ
نَذِيرٌ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ تَنَزَّهَ سُبْحَانَهُ عَنْهُ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا كَقَوْلِهِ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وقَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَوْلِهِ : { لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا } وَقَوْلِهِ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا } وَأَمَرَ بِتَقْوَاهُ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ فَقَالَ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَقَدْ دَعَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِقَوْلِهِمْ : { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } فَقَالَ : " قَدْ فَعَلْت " . فَدَلَّتْ هَذِهِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا مَا تَعْجِزُ عَنْهُ خِلَافًا للجهمية الْمُجْبِرَةِ وَدَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ الْمُخْطِئَ وَالنَّاسِيَ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَهَذَا فَصْلُ الْخِطَابِ فِي هَذَا الْبَابِ . فَالْمُجْتَهِدُ الْمُسْتَدِلُّ مِنْ إمَامٍ وَحَاكِمٍ وَعَالِمٍ وَنَاظِرٍ وَمُفْتٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ : إذَا اجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ فَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ كَانَ هَذَا هُوَ الَّذِي كَلَّفَهُ اللَّهُ إيَّاهُ وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ مُسْتَحِقٌّ
لِلثَّوَابِ إذَا اتَّقَاهُ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ أَلْبَتَّةَ خِلَافًا للجهمية الْمُجْبِرَةِ وَهُوَ مُصِيبٌ ؛ بِمَعْنَى : أَنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ لَكِنْ قَدْ يَعْلَمُ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَقَدْ لَا يَعْلَمُهُ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ : كُلُّ مَنْ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ عَلِمَ الْحَقَّ فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَلْ كُلُّ مَنْ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ . وَكَذَلِكَ الْكُفَّارُ : مَنْ بَلَغَهُ دَعْوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ الْكُفْرِ وَعَلِمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ فَآمَنَ بِهِ وَآمَنَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ؛ وَاتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ كَمَا فَعَلَ النَّجَاشِيُّ وَغَيْرُهُ وَلَمْ تُمْكِنْهُ الْهِجْرَةُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا الْتِزَامُ جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ؛ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنْ الْهِجْرَةِ وَمَمْنُوعًا مِنْ إظْهَارِ دِينِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ جَمِيعَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ : فَهَذَا مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . كَمَا كَانَ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ مَعَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَكَمَا كَانَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ بَلْ وَكَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَهْلِ مِصْرَ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا وَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُمْ كُلَّ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّهُ دَعَاهُمْ إلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ قَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا } . وَكَذَلِكَ النَّجَاشِيُّ هُوَ وَإِنْ كَانَ مَلِكَ النَّصَارَى فِلْم يُطِعْهُ قَوْمُهُ فِي
الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بَلْ إنَّمَا دَخَلَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ ؛ وَلِهَذَا { لَمَّا مَاتَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ يُصَلِّي عَلَيْهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ خَرَجَ بِالْمُسْلِمِينَ إلَى الْمُصَلَّى فَصَفَّهُمْ صُفُوفًا وَصَلَّى عَلَيْهِ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَوْتِهِ يَوْمَ مَاتَ وَقَالَ : إنَّ أَخًا لَكُمْ صَالِحًا مِنْ أَهْلِ الْحَبَشَةِ مَاتَ } وَكَثِيرٌ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرِهَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ فِيهَا لِعَجْزِهِ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يُهَاجِرْ وَلَمْ يُجَاهِدْ وَلَا حَجَّ الْبَيْتَ بَلْ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَلَا يَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ وَلَا يُؤَدِّ الزَّكَاةَ الشَّرْعِيَّةَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَظْهَرُ عِنْدَ قَوْمِهِ فَيُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ مُخَالَفَتَهُمْ . وَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ وَاَللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى نَبِيِّهِ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهُ إذَا جَاءَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ إلَّا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ وَحَذَّرَهُ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ . وَهَذَا مِثْلُ الْحُكْمِ فِي الزِّنَا لِلْمُحْصَنِ بِحَدِّ الرَّجْمِ وَفِي الدِّيَاتِ بِالْعَدْلِ ؛ وَالتَّسْوِيَةِ فِي الدِّمَاءِ بَيْنَ الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالنَّجَاشِيُّ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِحُكْمِ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ قَوْمَهُ لَا يُقِرُّونَهُ عَلَى ذَلِكَ وَكَثِيرًا مَا يَتَوَلَّى الرَّجُلُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالتَّتَارِ قَاضِيًا بَلْ وَإِمَامًا وَفِي نَفْسِهِ أُمُورٌ مِنْ الْعَدْلِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا فَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بَلْ هُنَاكَ مَنْ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا
وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عُودِيَ وَأُوذِيَ عَلَى بَعْضِ مَا أَقَامَهُ مِنْ الْعَدْلِ وَقِيلَ : إنَّهُ سُمَّ عَلَى ذَلِكَ . فَالنَّجَاشِيُّ وَأَمْثَالُهُ سُعَدَاءُ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَلْتَزِمُوا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْتِزَامِهِ بَلْ كَانُوا يَحْكُمُونَ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي يُمْكِنُهُمْ الْحُكْمُ بِهَا . وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } وَهَذِهِ الْآيَةُ قَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ ؛ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وقتادة . وَهَذَا مُرَادُ الصَّحَابَةِ وَلَكِنْ هُوَ الْمُطَاعُ فَإِنَّ لَفْظَ الْآيَةِ لَفْظُ الْجَمْعِ لَمْ يُرَدْ بِهَا وَاحِدٌ . وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ : نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِينَ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَثَلَاثِينَ مِنْ الْحَبَشَةِ وَثَمَانِيَةٍ مِنْ الرُّومِ وَكَانُوا عَلَى دِينِ عِيسَى فَآمَنُوا بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلَاءِ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مِثْلَ : عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ يَهُودِيًّا وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا إلَّا هَؤُلَاءِ صَارُوا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يُقَالُ فِيهِمْ : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ
وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ } وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : إنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهِجْرَتِهِمْ وَدُخُولِهِمْ فِي جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ الْمُهَاجِرِينَ الْمُجَاهِدِينَ يُقَالُ : إنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَقَدْ آمَنُوا بِالرَّسُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمَقْتُولِ خَطَأً : { عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَقَوْلُهُ : { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } فَهُوَ مِنْ الْعَدُوِّ وَلَكِنْ هُوَ كَانَ قَدْ آمَنَ وَمَا أَمْكَنَهُ الْهِجْرَةُ وَإِظْهَارُ الْإِيمَانِ وَالْتِزَامُ شَرَائِعِهِ فَسَمَّاهُ مُؤْمِنًا لِأَنَّهُ فَعَلَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِمَكَّةَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَخِفُّونَ بِإِيمَانِهِمْ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ الْهِجْرَةِ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا } { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } فَعَذَرَ سُبْحَانَهُ الْمُسْتَضْعَفَ الْعَاجِزَ عَنْ الْهِجْرَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } فَأُولَئِكَ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ إقَامَةِ دِينِهِمْ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُمْ مَا عَجَزُوا عَنْهُ ؟ فَإِذَا
كَانَ هَذَا فِيمَنْ كَانَ مُشْرِكًا وَآمَنَ : فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَآمَنَ ؟ وَقَوْلُهُ : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قِيلَ : هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَلَيْهِ لِبَاسُ أَهْلِ الْحَرْبِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي صَفِّهِمْ فَيُعْذَرُ الْقَاتِلُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقِتَالِهِ فَتَسْقُطُ عَنْهُ الدِّيَةُ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَقِيلَ : بَلْ هُوَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يُهَاجِرْ . كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَكِنَّ هَذَا قَدْ أَوْجَبَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ . وَقِيلَ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ فَلَا يُعْطَى أَهْلُ الْحَرْبِ دِيَتُهُ بَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فَقَطْ . وَسَوَاءٌ عَرَفَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَقُتِلَ خَطَأً أَوْ ظُنَّ أَنَّهُ كَافِرٌ وَهَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ جريج وَمُقَاتِلٍ وَابْنِ زَيْدٍ يَعْنِي : قَوْلَهُ : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } وَبَعْضُهُمْ قَالَ : إنَّهَا فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ . فَهُوَ كَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَإِنْ أَرَادَ الْعُمُومَ فَهُوَ كَالثَّانِي . وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَرَوَاهُ أَبُو صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَوْلُ مَنْ أَدْخَلَ فِيهَا ابْنَ سَلَامٍ وَأَمْثَالَهُ ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ : { وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } . أَمَّا أَوَّلًا : فَإِنَّ ابْنَ سَلَامٍ أَسْلَمَ فِي أَوَّلِ مَا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَقَالَ : فَلَمَّا رَأَيْت وَجْهَهُ عَرَفْت أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ . وَسُورَةُ آلِ عِمْرَانَ إنَّمَا نَزَلَ ذِكْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيهَا لَمَّا قَدِمَ وَفْدُ نَجْرَانَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ . وَثَانِيًا : أَنَّ ابْنَ سَلَامٍ وَأَمْثَالَهُ هُوَ وَاحِدٌ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِهِمْ وَكَذَلِكَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ فَلَا يُقَالُ فِيهِ : إنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أُجُورٌ مِثْلُ أُجُورِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ وَهُمْ مُلْتَزِمُونَ جَمِيعَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَأَجْرُهُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : { أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } . وَأَيْضًا فَإِنَّ أَمْرَ هَؤُلَاءِ كَانَ ظَاهِرًا مَعْرُوفًا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَشُكُّ فِيهِمْ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْإِخْبَارِ بِهِمْ ؟ وَمَا هَذَا إلَّا كَمَا يُقَالُ : الْإِسْلَامُ دَخَلَ فِيهِ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ كَانَ كِتَابِيًّا وَهَذَا مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ بِأَنَّهُ دِينٌ لَمْ يُعْرَفْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ فِيهِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ إمَّا مُشْرِكًا وَإِمَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إمَّا كِتَابِيًّا وَإِمَّا
أُمِّيًّا . فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي الْإِخْبَارِ بِهَذَا ؟ بِخِلَافِ أَمْرِ النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ مِمَّنْ كَانُوا مُتَظَاهِرِينَ بِكَثِيرٍ مِمَّا عَلَيْهِ النَّصَارَى ؛ فَإِنَّ أَمْرَهُمْ قَدْ يَشْتَبِهُ . وَلِهَذَا ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ : إنَّهُ لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ صَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَائِلٌ : تُصَلِّي عَلَى هَذَا الْعِلْجِ النَّصْرَانِيِّ وَهُوَ فِي أَرْضِهِ ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ هَذَا مَنْقُولٌ عَنْ جَابِرٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَاشَرُوا الصَّلَاةَ عَلَى النَّجَاشِيِّ وَهَذَا بِخِلَافِ ابْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ؛ فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ فِيهِمْ مُنَافِقٌ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَمَا نَزَلَ فِي حَقِّ ابْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ . وَإِنَّ مَنْ هُوَ فِي أَرْضِ الْكُفْرِ يَكُونُ مُؤْمِنًا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالنَّجَاشِيِّ . وَيُشْبِهُ هَذِهِ الْآيَةَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَهْلَ الْكِتَابِ فَقَالَ : { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ } { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ }
{ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } { يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } وَهَذِهِ الْآيَةُ قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ . وَقِيلَ : إنَّ قَوْلَهُ { مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } . هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ . وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ نَمَطِ الَّذِي قَبْلَهُ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مَا بَقُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ لَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ الْمُهَاجِرُونَ الْمُجَاهِدُونَ كَمُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ هُوَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } فَهُوَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مُؤْمِنٌ . وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ . وَلِهَذَا قَالَ : { وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } ثُمَّ قَالَ : { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلَّا أَذًى } وَهَذَا عَائِدٌ إلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ لَا إلَى أَكْثَرِهِمْ . وَلِهَذَا قَالَ : { وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ } وَقَدْ يُقَاتِلُونَ وَفِيهِمْ مُؤْمِنٌ يَكْتُمُ إيمَانَهُ يَشْهَدُ الْقِتَالَ مَعَهُمْ وَلَا يُمْكِنُهُ الْهِجْرَةُ وَهُوَ مُكْرَهٌ عَلَى الْقِتَالِ وَيُبْعَثُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَغْزُو جَيْشٌ هَذَا الْبَيْتَ فَبَيْنَمَا هُمْ بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ إذْ خُسِفَ بِهِمْ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِيهِمْ الْمُكْرَهُ قَالَ : يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ وَإِنْ قُتِلَ وَحُكِمَ عَلَيْهِ بِمَا يُحْكَمُ عَلَى الْكُفَّارِ فَاَللَّهُ يَبْعَثُهُ عَلَى نِيَّتِهِ كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مِنَّا يُحْكَمُ لَهُمْ فِي الظَّاهِرِ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَيُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ . وَالْجَزَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا فِي الْقُلُوبِ لَا عَلَى مُجَرَّدِ الظَّوَاهِرِ ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ { أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْت مُكْرَهًا . قَالَ : أَمَّا ظَاهِرُك فَكَانَ عَلَيْنَا وَأَمَّا سَرِيرَتُك فَإِلَى اللَّهِ } . وَبِالْجُمْلَةِ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْكُفْرِ وَقَدْ آمَنَ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْهِجْرَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرَائِعِ مَا يَعْجِزُ عَنْهَا بَلْ الْوُجُوبُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ حُكْمَهُ فَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ وَبَقِيَ مُدَّةً لَمْ يُصَلِّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْوَاجِبَاتِ مِنْ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ فَشَرِبَهَا لَمْ يُحَدَّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا
اخْتَلَفُوا فِي قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ . وَكَذَلِكَ لَوْ عَامَلَ بِمَا يَسْتَحِلُّهُ مِنْ رِبًا أَوْ مَيْسِرٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ : هَلْ يَفْسَخُ الْعَقْدَ أَمْ لَا ؟ كَمَا لَا نَفْسَخُهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ . وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ نِكَاحًا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ عَلَى عَادَتِهِمْ ثُمَّ لَمَّا بَلَغَتْهُ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ رَأَى أَنَّهُ قَدْ أَخَلَّ بِبَعْضِ شُرُوطِهِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ فِي عِدَّةٍ وَقَدْ انْقَضَتْ . فَهَلْ يَكُونُ هَذَا فَاسِدًا أَوْ يُقِرُّ عَلَيْهِ ؟ كَمَا لَوْ عَقَدَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ . وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الشَّرَائِعَ هَلْ تَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا أَمْ لَا تَلْزَمُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ ؟ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّرَائِعِ النَّاسِخَةِ وَالْمُبْتَدَأَةِ ؟ هَذَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُطْلَقَيْنِ فِي كِتَابٍ لَهُ وَذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ الْوَجْهَ الْمُفَرِّقَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ : أَنَّ النَّسْخَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ حَتَّى يَبْلُغَهُ النَّاسِخُ . وَأَخْرَجَ أَبُو الْخَطَّابِ وَجْهًا فِي ثُبُوتِهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَنْ تَرَكَ الطَّهَارَةَ الْوَاجِبَةَ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِوُجُوبِهَا أَوْ صَلَّى فِي الْمَوْضِعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالنَّهْيِ : هَلْ يُعِيدُ الصَّلَاةَ ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ أَحْمَد . وَالصَّوَابُ فِي هَذَا الْبَابِ كُلِّهِ : أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ إلَّا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ لَا يَقْضِي مَا لَمْ يَعْلَمْ وُجُوبَهُ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ
مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ أَكَلَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَضَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَمْكُثُ جُنُبًا مُدَّةً لَا يُصَلِّي وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ جَوَازَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ كَأَبِي ذَرٍّ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَمَّارٍ لَمَّا أَجْنَبَ وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْقَضَاءِ وَلَا شَكَّ أَنَّ خَلْقًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ وَالْبَوَادِي صَارُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى بَلَغَهُمْ النَّسْخَ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِالْإِعَادَةِ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَهَذَا يُطَابِقُ الْأَصْلَ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْجُمْهُورُ : أَنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا فَالْوُجُوبُ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ وَالْعُقُوبَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
قَوْلُ النَّاسِ : الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ قَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا قَسِيمَ الْآخَرِ . وَيَكُونُ الصَّوَابُ فِي مَوَاضِعَ أَنْ يُقَالَ : السَّمْعِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَنَا : الْعُلُومُ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ يُرَادُ بِهِ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا شَرَّعَ أَنْ يُعْلَمَ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا عَلَّمَهُ الشَّارِعُ . فَالْأَوَّلُ : هُوَ الْعِلْمُ الْمَشْرُوعُ - كَمَا يُقَالُ : الْعَمَلُ الْمَشْرُوعُ - وَهُوَ الْوَاجِبُ أَوْ الْمُسْتَحَبُّ وَرُبَّمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُبَاحُ بِالشَّرْعِ . وَالثَّانِي : هُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الشَّارِعِ وَهُوَ مَا عَلَّمَهُ الرَّسُولُ لِأُمَّتِهِ بِمَا بُعِثَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ وَالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَوْ الْإِجْمَاعُ أَوْ تَوَابِعُ ذَلِكَ . فَالْأَوَّلُ : إضَافَةٌ لَهُ بِحَسَبِ حُكْمِهِ فِي الشَّرْعِ وَالثَّانِي : إضَافَةٌ إلَى
طَرِيقِهِ وَدَلِيلِهِ فَقَوْلُنَا فِي الْأَوَّلِ : عِلْمٌ شَرْعِيٌّ كَمَا يُقَالُ : عَمَلٌ شَرْعِيٌّ وَالثَّانِي : كَمَا يُقَالُ : عِلْمٌ عَقْلِيٌّ وَسَمْعِيٌّ الْأَوَّلُ نُظِرَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ خِطَابُ التَّكْلِيفِ . وَالثَّانِي نُظِرَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ طَرِيقِهِ وَدَلِيلِهِ وَصِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ وَمُطَابَقَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ وَهُوَ مِنْ جِهَةِ خِطَابِ الْإِخْبَارِ . ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ عَلَى قِسْمَيْنِ : فَإِنَّهُ إذَا عَرَفَ أَنَّ الشَّرْعِيَّ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَمَرَ بِهِ . فَمَا أَخْبَرَ بِهِ : إمَّا أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ دَلِيلًا عَقْلِيًّا أَوْ لَا يَذْكُرُ . وَمَا أَمَرَ بِهِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ ؛ أَوْ لَازِمًا لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ وَهُوَ مَا لَا يَتِمُّ مَقْصُودُهُ الْوَاجِبُ أَوْ الْمُسْتَحَبُّ إلَّا بِهِ . فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ . وَإِنْ شِئْت أَنْ تُقَسِّمَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى مَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ فَقَطْ وَإِلَى مَا يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ أَيْضًا فَيَكُونُ شَرْعِيًّا خَبَرًا وَأَمْرًا ؛ فَإِنَّ مَا عُلِمَ بِالشَّرْعِ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ إخْبَارُ الشَّارِعِ أَوْ دَلَالَةُ الشَّارِعِ فَإِذَا عُنِيَ بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ مِثْلَ دَلَالَتِهِ عَلَى آيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَدَلَالَةِ الرِّسَالَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا عَقْلِيًّا . فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمَّا نَبَّهَ الْعُقُولَ عَلَى الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْعِبَرِ اهْتَدَتْ الْعُقُولُ فَعَلِمَتْ مَا هَدَاهَا إلَيْهِ الشَّارِعُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ الْكِبَارِ ؛ مِثْلَ الْإِقْرَارِ بِوُجُودِ الْخَالِقِ وَبِوَحْدَانِيّتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَالْإِقْرَارِ بِالثَّوَابِ وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ : قَدْ دَلَّ الشَّارِعُ عَلَى أَدِلَّتِهِ الْعَقْلِيَّةِ . وَهَذِهِ الْأُصُولُ الَّتِي يُسَمِّيهَا أَهْلُ الْكَلَامِ الْعَقْلِيَّاتِ وَهِيَ مَا تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ فَإِنَّهَا تُعْلَمُ بِالشَّرْعِ لَا أَعْنِي بِمُجَرَّدِ إخْبَارِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِ فَالْعِلْمُ بِهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَبِالرِّسَالَةِ وَإِنَّمَا أَعْنِي بِدَلَالَتِهِ وَهِدَايَتِهِ كَمَا أَنَّ مَا يَتَعَلَّمُهُ الْمُتَعَلِّمُونَ بِبَيَانِ الْمُعَلِّمِينَ وَتَصْنِيفِ الْمُصَنِّفِينَ إنَّمَا هُوَ لِمَا بَيَّنُوهُ لِلْعُقُولِ مِنْ الْأَدِلَّةِ . فَهَذَا مَوْضِعٌ يَجِبُ التَّفَطُّنُ لَهُ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الغالطين مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَمُحَدِّثٍ وَمُتَفَقِّهٍ وَعَامِّيٍّ وَغَيْرِهِمْ : يَظُنُّ أَنَّ الْعِلْمَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ إخْبَارِهِ تَصْدِيقًا لَهُ فَقَطْ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ يُسْتَفَادُ مِنْهُ بِالدَّلَالَةِ وَالتَّنْبِيهِ وَالْإِرْشَادِ جَمِيعُ مَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ . وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الشَّرْعِيِّ : مَا يُعْلَمُ بِإِخْبَارِ الشَّارِعِ . فَهَذَا لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يُمْكِنَ عِلْمُهُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا ؛ أَوْ لَا يُمْكِنُ ؛ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَلِهَذَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ إخْبَارِ الشَّارِعِ وَإِنْ أَمْكَنَ عَلِمَهُ بِالْعَقْلِ فَهَلْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا ؟ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَمْرٌ أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِهِ وَعِلْمُهُ مُمْكِنٌ بِالْعَقْلِ أَيْضًا وَلَمْ يَدُلَّ الشَّارِعُ عَلَى دَلِيلٍ لَهُ عَقْلِيٍّ فَهَذَا مُمْكِنٌ وَلَا نَقْصَ إذَا وَقَعَ مِثْلُ
هَذَا فِي الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا عَرَفَ صِدْقَ الْمُبَلِّغِ جَازَ أَنْ يَعْلَمَ بِخَبَرِهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَنَالُونَ عِلْمَ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَةِ خَبَرِ الشَّارِعِ وَقَدْ أَحْسَنُوا فِي ذَلِكَ حَيْثُ آمَنُوا بِهِ ؛ لَكِنْ هَلْ ذَلِكَ وَاقِعٌ مُطْلَقًا ؟ . وَقَدْ ذَهَبَ خَلَائِقُ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إلَى وُقُوعِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ أُمُورًا قَدْ تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ الشَّارِعُ لَمْ يَذْكُرْ دَلَالَتَهُ الْعَقْلِيَّةَ . وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ وُجُوهَ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا فِيهَا مِنْ جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ وَظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ قَدْ يَقُولُ : إنَّ الشَّارِعَ نَبَّهَ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِالْعَقْلِ عَلَى دَلَالَةٍ عَقْلِيَّةٍ كَمَا قَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الدِّينِ الْكِبَارِ وَفِي هَذَا نَظَرٌ . فَصَارَتْ الْعُلُومُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ : إمَّا أَنْ تُعْلَمَ بِالشَّرْعِ فَقَطْ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ إخْبَارِ الشَّرْعِ مِمَّا لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إلَيْهِ بِحَالِ لَكِنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ قَدْ تُعْلَمُ بِخَبَرٍ آخَرَ غَيْرَ خَبَرِ شَارِعِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِمَّا أَنْ تُعْلَمَ بِالْعَقْلِ فَقَطْ ؛ كَمَرْوِيَّاتِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالصِّنَاعَاتِ . وَإِمَّا أَنْ تُعْلَمَ بِهِمَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ هَدَى إلَى دَلَالَتِهَا كَمَا أَخْبَرَ بِهَا أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهِيَ عَقْلِيَّاتُ الشَّرْعِيَّاتِ ؛ أَوْ عَقْلِيُّ
الشَّارِعِ . أَوْ مَا شُرِعَ عَقْلُهُ . أَوْ الْعَقْلُ الْمَشْرُوعُ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْبَرَ بِهَا فَقَطْ فَهَذِهِ عَقْلِيَّةٌ مِنْ غَيْرِ الشَّارِعِ . فَيَجِبُ التَّفَطُّنُ . لَكِنَّ الْعَقْلِيَّ قَدْ يُعْقَلُ مِنْ الشَّارِعِ وَهُوَ عَامَّةُ أُصُولِ الدِّينِ وَقَدْ يُعْقَلُ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يُعْقَلْ مِنْهُ فَهَذَا فِي وُجُودِهِ نَظَرٌ . وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ عَامَّةَ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَجُمْهُورَ الْمُتَكَلِّمَةِ جَاهِلَةٌ بِمِقْدَارِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَدَلَالَةُ الشَّارِعِ عَلَيْهَا وَيُوهِمُهُمْ عُلُوُّ الْعَقْلِيَّةِ عَلَيْهَا فَإِنَّ جَهْلَهُمْ ابْتَنَى عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ جَاهِلِيَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّ الشَّرْعِيَّةَ مَا أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِهَا . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِخَبَرِهِ فَرْعٌ لِلْعَقْلِيَّاتِ الَّتِي هِيَ الْأُصُولُ فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَشْرِيفُ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ . وَكِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَاطِلَةٌ ؛ فَإِنَّ الشَّرْعِيَّاتِ : مَا أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِهَا وَمَا دَلَّ الشَّارِعُ عَلَيْهَا . وَمَا دَلَّ الشَّارِعُ عَلَيْهِ يَنْتَظِمُ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إلَى عِلْمِهِ بِالْعَقْلِ وَجَمِيعَ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ وَأُصُولِ الدِّينِ وَمَسَائِلِ الْعَقَائِدِ بَلْ قَدْ تَدَبَّرْت عَامَّةَ مَا يَذْكُرُهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْمُتَكَلِّمَةُ وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَوَجَدْت دَلَائِلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَأْتِي بِخُلَاصَتِهِ الصَّافِيَةِ عَنْ الْكَدَرِ وَتَأْتِي بِأَشْيَاءَ
لَمْ يَهْتَدُوا لَهَا وَتَحْذِفُ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنْ الشُّبُهَاتِ وَالْأَبَاطِيلِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَاضْطِرَابِهَا وَقَدْ بَيَّنْت تَفْصِيلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي مَوَاضِعَ . وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِالشَّرْعِيَّةِ مَا شُرِعَ عِلْمُهُ . فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عِلْمٍ مُسْتَحَبٍّ أَوْ وَاجِبٍ وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُبَاحُ وَأُصُولُ الدِّينِ عَلَى هَذَا مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ أَيْضًا وَمَا عُلِمَ بِالْعَقْلِ وَحْدَهُ فَهُوَ مِنْ الشَّرْعِيَّةِ أَيْضًا ؛ إذَا كَانَ عِلْمُهُ مَأْمُورًا بِهِ فِي الشَّرْعِ . وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الشَّرْعِيَّةُ قِسْمَيْنِ : عَقْلِيَّةٌ وَسَمْعِيَّةٌ . وَتُجْعَلُ السَّمْعِيَّةُ هُنَا بَدَلَ الشَّرْعِيَّةِ فِي الطَّرِيقَةِ الْأُولَى وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ عَقْلِيٍّ أَمَرَ الشَّرْعُ بِهِ أَوْ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ فَهُوَ شَرْعِيٌّ أَيْضًا إمَّا بِاعْتِبَارِ الْأَمْرِ أَوْ الدَّلَالَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِهِمَا جَمِيعًا . وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا التَّحْرِيرِ أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ عَنْ مُسَمَّى الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الشَّارِعُ وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ فَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الصِّنَاعَاتِ كَالْفِلَاحَةِ وَالْبِنَايَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْعُلُومِ المفضولة الْمَرْجُوحَةِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ مُسَمَّى الشَّرْعِيَّةِ أَشْرَفُ وَأَوْسَعُ وَأَنَّ بَيْنَ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا لَيْسَ أَحَدُهُمَا قَسِيمَ الْآخَرِ وَإِنَّمَا السَّمْعِيُّ قَسِيمُ الْعَقْلِيِّ وَأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِي الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا وَهُوَ شَرْعِيٌّ بِالِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ : إخْبَارِهِ بِهِ ؛ أَمْرِهِ بِهِ ؛ دَلَالَةٍ عَلَيْهِ . فَتَدَبَّرْ أَنَّ النِّسْبَةَ
إلَى الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ . ثُمَّ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ مِنْ الْعِلْمِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ بِهِ يَعُودُ [ إلَى مَا يَقْصِدُهُ الشَّارِعُ حَقِيقَةً ] (1) أَوْ لُزُومًا مِنْ جِهَةِ مَا لَا يَتَأَتَّى الْمَشْرُوعُ إلَّا بِهِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ يُرِيدُ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ فَقَطْ . وَيُرِيدُ بِهِ الْأَشْعَرِيَّةُ مَا أَثْبَتَهُ الشَّارِعُ . وَقَدْ وَافَقَ كُلَّ فَرِيقٍ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ يَكُونُ تَارَةً مَا أَخْبَرَ بِهِ ؛ وَيَكُونُ تَارَةً مَا أَثْبَتَهُ وَتَارَةً يَجْتَمِعُ الْأَمْرَانِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ : جَامِعٌ نَافِعٌ
الْأَسْمَاءُ الَّتِي عَلَّقَ اللَّهُ بِهَا الْأَحْكَامَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ : مِنْهَا مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ وَمُسَمَّاهُ بِالشَّرْعِ فَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : كَاسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ ؛ وَالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ؛ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ . وَمِنْهُ مَا يُعْرَفُ حَدُّهُ بِاللُّغَةِ ؛ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ؛ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ؛ وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ حَدُّهُ إلَى عَادَةِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ فَيَتَنَوَّعُ بِحَسَبِ عَادَتِهِمْ ؛ كَاسْمِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْقَبْضِ وَالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ يَحُدَّهَا الشَّارِعُ بِحَدِّ ؛ وَلَا لَهَا حَدٌّ وَاحِدٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغَةِ بَلْ يَخْتَلِفُ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ . فَمَا كَانَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا كَانَ مِنْ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ الْمُخَاطَبُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَدْ عَرَفُوا الْمُرَادَ بِهِ ؛ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِمُسَمَّاهُ الْمَحْدُودِ فِي اللُّغَةِ أَوْ الْمُطْلَقِ فِي عُرْفِ النَّاسِ
وَعَادَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ شَرْعِيٍّ وَلَا لُغَوِيٍّ وَبِهَذَا يَحْصُلُ التَّفَقُّهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالِاسْمُ إذَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ مُسَمَّاهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَقَلَهُ عَنْ اللُّغَةِ أَوْ زَادَ فِيهِ بَلْ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ عَرَفَ مُرَادَهُ بِتَعْرِيفِهِ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَمَا كَانَ الْأَمْرُ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهَذَا كَاسْمِ الْخَمْرِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ فَعُرِفَ الْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعَرَبُ قَبْلَ ذَلِكَ تُطْلِقُ لَفْظَ الْخَمْرِ عَلَى كُلِّ مُسْكِرٍ أَوْ تَخُصُّ بِهِ عَصِيرَ الْعِنَبِ . لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ ؛ إذْ الْمَطْلُوبُ مَعْرِفَةُ مَا أَرَادَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهَذَا الِاسْمِ وَهَذَا قَدْ عُرِفَ بِبَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَنَّ الْخَمْرَ فِي لُغَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ كَانَتْ تَتَنَاوَلُ نَبِيذَ التَّمْرِ وَغَيْرَهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ خَمْرٌ غَيْرَهَا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَا أَطْلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَعَلَّقَ بِهِ الْأَحْكَامَ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَيِّدَهُ إلَّا بِدَلَالَةِ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَمِنْ ذَلِكَ اسْمُ الْمَاءِ مُطْلَقٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يُقَسِّمْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قِسْمَيْنِ : طَهُورٌ وَغَيْرُ طَهُورٍ فَهَذَا التَّقْسِيمُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَاءِ فَهُوَ طَاهِرٌ طَهُورٌ سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي طُهْرٍ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ
أَوْ غَيْرِ مُسْتَحَبٍّ ؛ وَسَوَاءٌ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ أَوْ لَمْ تَقَعْ إذَا عُرِفَ أَنَّهَا قَدْ اسْتَحَالَتْ فِيهِ وَاسْتُهْلِكَتْ وَأَمَّا إنْ ظَهَرَ أَثَرُهَا فِيهِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِلْمُحَرَّمِ .
فَصْلٌ :
وَمِنْ ذَلِكَ اسْمُ الْحَيْضِ عَلَّقَ اللَّهُ بِهِ أَحْكَامًا مُتَعَدِّدَةً فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يُقَدَّرْ لَا أَقَلُّهُ وَلَا أَكْثَرُهُ وَلَا الطُّهْرُ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ مَعَ عُمُومِ بَلْوَى الْأُمَّةِ بِذَلِكَ وَاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهِ وَاللُّغَةُ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ قَدْرٍ وَقَدْرٍ فَمَنْ قَدَّرَ فِي ذَلِكَ حَدًّا فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ مَنْ يَحُدُّ أَكْثَرَهُ وَأَقَلَّهُ ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي التَّحْدِيدِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَحُدُّ أَكْثَرَهُ دُونَ أَقَلِّهِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَصَحُّ : أَنَّهُ لَا حَدَّ لَا لِأَقَلِّهِ وَلَا لِأَكْثَرِهِ بَلْ مَا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً فَهُوَ حَيْضٌ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ اسْتَمَرَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ حَيْضٌ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ أَكْثَرَهُ سَبْعَةَ عَشَرَ اسْتَمَرَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ حَيْضٌ . وَأَمَّا إذَا اسْتَمَرَّ الدَّمُ بِهَا دَائِمًا فَهَذَا قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضِ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِنْ الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَارَةً تَكُونُ طَاهِرًا وَتَارَةً تَكُونُ حَائِضًا وَلِطُهْرِهَا أَحْكَامٌ وَلِحَيْضِهَا أَحْكَامٌ .
وَالْعَادَةُ الْغَالِبَةُ أَنَّهَا تَحِيضُ رُبُعَ الزَّمَانِ سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً وَإِلَى ذَلِكَ رَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْتَحَاضَةَ الَّتِي لَيْسَ لَهَا عَادَةٌ وَلَا تَمْيِيزٌ وَالطُّهْرُ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ . إذْ مِنْ النِّسْوَةِ مَنْ لَا تَحِيضُ بِحَالِ وَهَذِهِ إذَا تَبَاعَدَ مَا بَيْنَ أَقْرَائِهَا فَهَلْ تَعْتَدُّ بِثُلُثِ حَيْضٍ أَوْ تَكُونُ كَالْمُرْتَابَةِ تَحِيضُ سَنَةً ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ . وَكَذَلِكَ أَقَلُّهُ عَلَى الصَّحِيحِ لَا حَدَّ لَهُ بَلْ قَدْ تَحِيضُ الْمَرْأَةُ فِي الشَّهْرِ ثَلَاثَ حِيَضٍ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَمْكَنُ لَكِنْ إذَا ادَّعَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا فِيمَا يُخَالِفُ الْعَادَةَ الْمَعْرُوفَةَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَشْهَدَ لَهَا بِطَانَةٌ مِنْ أَهْلِهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ ادَّعَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ . وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْ الرَّحِمِ أَنَّهُ حَيْضٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الدَّمُ الْأَصْلِيُّ الْجَبَلِيُّ وَهُوَ دَمٌ تُرْخِيه الرَّحِمُ وَدَمُ الْفَسَادِ دَمُ عِرْقٍ يَنْفَجِرُ ؛ وَذَلِكَ كَالْمَرَضِ ؛ وَالْأَصْلُ الصِّحَّةُ لَا الْمَرَضُ . فَمَتَى رَأَتْ الْمَرْأَةُ الدَّمَ جَارٍ مِنْ رَحِمِهَا فَهُوَ حَيْضٌ تُتْرَكُ لِأَجْلِهِ الصَّلَاةُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا تَغْتَسِلُ عَقِيبَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْمَعْلُومِ مِنْ السُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ ؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَحِضْنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ امْرَأَةٍ تَكُونُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهَا مُبْتَدَأَةً قَدْ ابْتَدَأَهَا الْحَيْضُ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِالِاغْتِسَالِ عَقِبَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَنْقُولًا لَكَانَ ذَلِكَ حَدًّا لِأَقَلِّ الْحَيْضِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُدَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَالْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ ثَلَاثٌ . وَهِيَ أَحَادِيثُ مَكْذُوبَةٌ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِهِ وَهَذَا قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُنْتَقِلَةُ إذَا تَغَيَّرَتْ عَادَتُهَا بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ أَوْ انْتِقَالٍ فَذَلِكَ حَيْضٌ . حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ اسْتِحَاضَةٌ بِاسْتِمْرَارِ الدَّمِ ؛ فَإِنَّهَا كَالْمُبْتَدَأَةِ . وَالْمُسْتَحَاضَةُ تَرُدُّ إلَى عَادَتِهَا ثُمَّ إلَى تَمْيِيزِهَا ثُمَّ إلَى غَالِبِ عَادَاتِ النِّسَاءِ كَمَا جَاءَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ سُنَّةً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَخَذَ الْإِمَامُ أَحْمَد بِالسُّنَنِ الثَّلَاثِ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَخَذَ بِحَدِيثَيْنِ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ إلَّا بِحَدِيثٍ بِحَسَبِ مَا بَلَغَهُ وَمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . . وَالْحَامِلُ إذَا رَأَتْ الدَّمَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ لَهَا فَهُوَ دَمُ حَيْضٍ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ . وَالنِّفَاسُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ وَلَا لِأَكْثَرِهِ فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ امْرَأَةً رَأَتْ
الدَّمَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ أَوْ سِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ وَانْقَطَعَ فَهُوَ نِفَاسٌ ؛ لَكِنْ إنْ اتَّصَلَ فَهُوَ دَمُ فَسَادٍ ؛ وَحِينَئِذٍ فَالْحَدُّ أَرْبَعُونَ ؛ فَإِنَّهُ مُنْتَهَى الْغَالِبِ جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ . وَلَا حَدَّ لِسِنٍّ تَحِيضُ فِيهِ الْمَرْأَةُ بَلْ لَوْ قُدِّرَ أَنَّهَا بَعْدَ سِتِّينَ أَوْ سَبْعِينَ زَادَ الدَّمُ الْمَعْرُوفُ مِنْ الرَّحِمِ لَكَانَ حَيْضًا . وَالْيَأْسُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ } لَيْسَ هُوَ بُلُوغُ سِنٍّ ، [ فـ ] (1) لَوْ كَانَ بُلُوغُ سَنٍّ لَبَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنَّمَا هُوَ أَنْ تَيْأَسَ الْمَرْأَةُ نَفْسُهَا مِنْ أَنْ تَحِيضَ فَإِذَا انْقَطَعَ دَمُهَا وَيَئِسَتْ مِنْ أَنْ يَعُودَ فَقَدْ يَئِسَتْ مِنْ الْمَحِيضِ وَلَوْ كانت بِنْتَ أَرْبَعِينَ ثُمَّ إذَا تَرَبَّصَتْ وَعَادَ الدَّمُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آيِسَةً وَإِنْ عَاوَدَهَا بَعْدَ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَاوَدَ غَيْرَهَا مِنْ الْآيِسَاتِ والمستريبات . وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا هُوَ الْيَأْسَ فَقَوْلُهُ مُضْطَرِبٌ أَنْ جَعَلَهُ سِنًّا وَقَوْلُهُ مُضْطَرِبٌ إنْ لَمْ يَحُدَّ الْيَأْسَ لَا بِسَنٍّ وَلَا بِانْقِطَاعِ طَمَعِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَحِيضِ وَبِنَفْسِ الْإِنْسَانِ لَا يُعْرَفُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلنِّفَاسِ قَدْرٌ فَسَوَاءٌ وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ تَوْأَمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مَا زَالَتْ تَرَى الدَّمَ فَهِيَ نُفَسَاءُ وَمَا تَرَاهُ مِنْ حِينِ تَشْرَعُ فِي الطَّلْقِ فَهُوَ نِفَاسٌ وَحُكْمُ دَمِ النِّفَاسِ حُكْمُ دَمِ الْحَيْضِ . وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهَذَا بَلْ قَدَّرَ أَقَلَّ الْحَيْضِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَيْسَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ النَّقْلَ فِي ذَلِكَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بَاطِلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ . وَالْوَاقِعُ لَا ضَابِطَ لَهُ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ حَيْضًا إلَّا ثَلَاثًا قَالَ غَيْرُهُ قَدْ عَلِمَ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا يَوْمًا وَلَيْلَةً ، قَدْ عَلِمَ غَيْرُهُ يَوْمًا وَنَحْنُ لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَنْفِيَ مَا لَا نَعْلَمُ وَإِذَا جَعَلْنَا حَدَّ الشَّرْعِ مَا عَلِمْنَاهُ فَقُلْنَا : لَا حَيْضَ دُونَ ثَلَاثٍ أَوْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ يَوْمٍ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَعْلَمْ إلَّا ذَلِكَ كَانَ هَذَا وَضْعَ شَرْعٍ مِنْ جِهَتِنَا بَعْدَ الْعِلْمِ ؛ فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ ؛ وَلَوْ كَانَ هَذَا حَدًّا شَرْعِيًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِمَعْرِفَتِهِ وَبَيَانِهِ مِنَّا كَمَا حَدَّ لِلْأَمَةِ مَا حَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَمِنْ أَمَاكِنِ الْحَجِّ ؛ وَمِنْ نُصُبِ الزَّكَاةِ وَفَرَائِضِهَا ؛ وَعَدَدِ الصَّلَوَاتِ وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا . فَلَوْ كَانَ لِلْحَيْضِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يُقَدِّرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدٌّ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَبَيَّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا لَمْ يَحُدَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ رَدَّ ذَلِكَ إلَى مَا يَعْرِفُهُ النِّسَاءُ وَيُسَمَّى فِي اللُّغَةِ حَيْضًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ إذَا سُئِلُوا عَنْ الْحَيْضِ قَالُوا : سَلُوا النِّسَاءَ فَإِنَّهُنَّ أَعْلَمُ بِذَلِكَ يَعْنِي : هُنَّ يَعْلَمْنَ مَا يَقَعُ مِنْ الْحَيْضِ وَمَا لَا يَقَعُ . وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ تَعَلَّقَ بِالِاسْمِ الدَّالِّ عَلَى الْوَاقِعِ فَمَا وَقَعَ مِنْ دَمٍ فَهُوَ حَيْضٌ إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ أَوْ جُرْحٍ ؛ فَإِنَّ الدَّمَ الْخَارِجَ إمَّا أَنْ تُرْخِيَهُ الرَّحِمُ ؛ أَوْ يَنْفَجِرَ مِنْ عِرْقٍ مِنْ الْعُرُوقِ ؛ أَوْ مِنْ جِلْدِ الْمَرْأَةِ أَوْ
لَحْمِهَا فَيَخْرُجُ مِنْهُ . وَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ عُرُوقٍ صِغَارٍ ؛ لَكِنَّ دَمَ الْجُرْحِ الصَّغِيرِ لَا يَسِيلُ سَيْلًا مُسْتَمِرًّا كَدَمِ الْعِرْقِ الْكَبِيرِ . وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ : إنَّ هَذَا دَمُ عِرْقٍ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ } وَإِنَّمَا يَسِيلُ الْجُرْحُ إذَا انْفَجَرَ عِرْقٌ كَمَا ذَكَرْنَا فَصْدَ الْإِنْسَانِ ؛ فَإِنَّ الدَّمَ فِي الْعُرُوقِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ .
فَصْلٌ :
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ أُمَّتَهُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَقَالَ { صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كُنَّا سَفَرًا أَوْ مُسَافِرِينَ : أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ } وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِكَوْنِ الْخُفِّ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ أَوْ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ . وَسَلِيمًا مِنْ الْخَرْقِ وَالْفَتْقِ أَوْ غَيْرَ سَلِيمٍ فَمَا كَانَ يُسَمَّى خُفًّا وَلَبِسَهُ النَّاسُ وَمَشَوْا فِيهِ مَسَحُوا عَلَيْهِ الْمَسْحَ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَرَسُولُهُ وَكُلَّمَا كَانَ بِمَعْنَاهُ مَسَحَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لِكَوْنِهِ يُسَمَّى خُفًّا مَعْنًى مُؤَثِّرٌ بَلْ الْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِمَا يُلْبَسُ وَيُمْشَى فِيهِ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ .
فَصْلٌ :
وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَّقَ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ بِمُسَمَّى السَّفَرِ وَلَمْ يَحُدَّهُ بِمَسَافَةِ وَلَا فَرْقٍ بَيْنَ طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ وَلَوْ كَانَ لِلسَّفَرِ مَسَافَةٌ مَحْدُودَةٌ لَبَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا لَهُ فِي اللُّغَةِ مَسَافَةٌ مَحْدُودَةٌ فَكُلَّمَا يُسَمِّيهِ أَهْلُ اللُّغَةِ سَفَرًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَقَدْ قَصَرَ أَهْلُ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَرَفَاتٍ وَهِيَ مِنْ مَكَّةَ بَرِيدٌ فَعُلِمَ أَنَّ التَّحْدِيدَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ لَيْسَ حَدًّا شَرْعِيًّا عَامًّا . وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا : كَانَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ لَا يَكُونُ السَّفَرُ إلَّا كَذَلِكَ وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمْ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا لِلْمُسَافِرِ . وَلَا الزَّمَانِ حَدًّا شَرْعِيًّا عَامًّا كَمَوَاقِيتِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ بَلْ حَدُّوهُ لِبَعْضِ النَّاسِ بِحَسَبِ مَا رَأَوْهُ سَفَرًا لِمِثْلِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَكَمَا يَحُدُّ إلْحَادَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ . لَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ مِقْدَارًا مِنْ الْمَالِ يَسْتَوِي فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ بَلْ قَدْ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ بِالْقَلِيلِ وَغَيْرُهُ لَا يُغْنِيهِ أَضْعَافُهُ : لِكَثْرَةِ عِيَالِهِ وَحَاجَاتِهِ وَبِالْعَكْسِ . وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ الْعَظِيمَةَ وَلَا يَكُونُ مُسَافِرًا كَالْبَرِيدِ
إذَا ذَهَبَ مِنْ الْبَلَدِ لِتَبْلِيغِ رِسَالَةٍ أَوْ أَخْذِ حَاجَةٍ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا مِنْ غَيْرِ نُزُولٍ . فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّدَ زَادَ الْمُسَافِرِ وَبَاتَ هُنَاكَ فَإِنَّهُ يُسَمَّى مُسَافِرًا وَتِلْكَ الْمَسَافَةُ يَقْطَعُهَا غَيْرُهُ فَيَكُونُ مُسَافِرًا يَحْتَاجُ أَنْ يَتَزَوَّدَ لَهَا وَيَبِيتَ بِتِلْكَ الْقَرْيَةِ وَلَا يَرْجِعُ إلَّا بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ؛ فَهَذَا يُسَمِّيه النَّاسُ مُسَافِرًا وَذَلِكَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهَا طَرْدًا وَكَرَّ رَاجِعًا عَلَى عَقِبِهِ لَا يُسَمُّونَهُ مُسَافِرًا وَالْمَسَافَةُ وَاحِدَةٌ . فَالسَّفَرُ حَالٌ مِنْ أَحْوَالِ السَّيْرِ لَا يُحَدُّ بِمَسَافَةِ وَلَا زَمَانٍ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْهَبُ إلَى قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَلَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ الْعَوَالِي وَالْعَقِيقِ ثُمَّ يُدْرِكُهُمْ اللَّيْلُ فِي أَهْلِهِمْ وَلَا يَكُونُونَ مُسَافِرِينَ وَأَهْلُ مَكَّةَ لَمَّا خَرَجُوا إلَى مِنًى وَعَرَفَةَ كَانُوا مُسَافِرِينَ يَتَزَوَّدُونَ لِذَلِكَ وَيَبِيتُونَ خَارِجَ الْبَلَدِ وَيَتَأَهَّبُونَ أُهْبَةَ السَّفَرِ بِخِلَافِ مَنْ خَرَجَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْحَاجَاتِ ثُمَّ رَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ وَلَوْ قَطَعَ بَرِيدًا ؛ فَقَدْ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا . وَمَا زَالَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ إلَى الْبَسَاتِينِ الَّتِي حَوْلَ مَدِينَتِهِمْ ؛ وَيَعْمَلُ الْوَاحِدُ فِي بُسْتَانِهِ أَشْغَالًا مِنْ غَرْسٍ وَسَقْيٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا كَانَتْ الْأَنْصَارُ تَعْمَلُ فِي حِيطَانِهِمْ وَلَا يُسَمَّوْنَ مُسَافِرِينَ . وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمْ طُولَ النَّهَارِ وَلَوْ بَاتَ فِي بُسْتَانِهِ وَأَقَامَ فِيهِ أَيَّامًا ؛ وَلَوْ كَانَ الْبُسْتَانُ أَبْعَدَ مِنْ بَرِيدٍ ؛ فَإِنَّ الْبُسْتَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْبَلَدِ عِنْدَهُمْ وَالْخُرُوجُ
إلَيْهِ كَالْخُرُوجِ إلَى بَعْضِ نَوَاحِي الْبَلَدِ ؛ وَالْبَلَدُ الْكَبِيرُ الَّذِي يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ بَرِيدٍ مَتَى سَارَ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ إلَى الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا ؛ فَالنَّاسُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْمُتَنَقِّلِ فِي الْمَسَاكِنِ وَمَا يَتْبَعُهَا وَبَيْنَ الْمُسَافِرِ الرَّاحِلِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ . كَمَا كَانَ أَهْلُ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْهَبُونَ إلَى حَوَائِطِهِمْ وَلَا يَكُونُونَ مُسَافِرِينَ وَالْمَدِينَةُ لَمْ يَكُنْ لَهَا سُورٌ بَلْ كَانَتْ قَبَائِلَ قَبَائِلَ وَدُورًا دُورًا وَبَيْنَ جَانِبَيْهَا مَسَافَةٌ كَبِيرَةٌ فَلَمْ يَكُنْ الرَّاحِلُ مِنْ قَبِيلَةٍ إلَى قَبِيلَةٍ مُسَافِرًا ؛ وَلَوْ كَانَ كُلُّ قَبِيلَةٍ حَوْلَهُمْ حِيطَانُهُمْ وَمَزَارِعُهُمْ فَإِنَّ اسْمَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } فَجُعِلَ النَّاسُ قِسْمَيْنِ : أَهْلُ بَادِيَةٍ هُمْ الْأَعْرَابُ ؛ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ فَكَانَ السَّاكِنُونَ كُلُّهُمْ فِي الْمَدَرِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَهَذَا يَتَنَاوَلُ قُبَاء وَغَيْرَهَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمَدِينَةِ كَانَ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا سُورٌ كَمَا هِيَ الْيَوْمَ . وَالْأَبْوَابُ تُفْتَحُ وَتُغْلَقُ وَإِنَّمَا كَانَ لَهَا أَنْقَابٌ وَتِلْكَ الْأَنْقَابُ وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَ قُبَاء وَغَيْرِهَا لَكِنَّ لَفْظَ الْمَدِينَةِ قَدْ يَعُمُّ حَاضِرَ الْبَلَدِ وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي جَمِيعِ الْمَدَائِنِ يَقُولُ الْقَائِلُ : ذَهَبْت إلَى دِمَشْقَ أَوْ مِصْرَ أَوْ بَغْدَادَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَكَنْت فِيهَا وَأَقَمْت فِيهَا مُدَّةً وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ وَهُوَ إنَّمَا كَانَ سَاكِنًا خَارِجَ السُّورِ فَاسْمُ الْمَدِينَةِ يَعُمُّ تِلْكَ الْمَسَاكِنَ كُلَّهَا ؛ وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ
الْمُسَوَّرُ أَخَصَّ بِالِاسْمِ مِنْ الْخَارِجِ . وَكَذَلِكَ مَدِينَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهَا دَاخِلٌ وَخَارِجٌ تَفْصِلُ بَيْنَهُمَا الْأَنْقَابُ وَاسْمُ الْمَدِينَةِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ لَمْ تَكُنْ تُقَامُ جُمُعَةٌ وَلَا عِيدَانٌ لَا بقُبَاء وَلَا غَيْرِهَا كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْقَبَائِلِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا } هُوَ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَسَاكِنِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْقُرَى الشَّامِلِ لِلْمَدَائِنِ كَقَوْلِهِ : { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } وَقَوْلِهِ : { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } وَقَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } وَقَوْلِهِ : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ الدَّاخِلِيَّةَ وَالْخَارِجِيَّةَ وَإِنْ فَصْل بَيْنَهَا سُورٌ وَنَحْوُهُ ؛ فَإِنَّ الْبَعْثَ وَالْإِهْلَاكَ وَغَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَخُصَّ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَعَامَّةُ الْمَدَائِنِ لَهَا دَاخِلٌ وَخَارِجٌ .
وَلَفْظُ الْكَعْبَةِ هُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمٌ لِنَفْسِ الْبِنْيَةِ ثُمَّ فِي الْقُرْآنِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيمَا حَوْلَهَا كَقَوْلِهِ : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَسْجِدِ وَعَمَّا حَوْلَهُ مِنْ الْحَرَمِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ بَدْرٍ هُوَ اسْمٌ لِلْبِئْرِ وَيُسَمَّى بِهِ مَا حَوْلَهَا . وَكَذَلِكَ أُحُدٌ اسْمٌ لِلْجَبَلِ وَيَتَنَاوَلُ مَا حَوْلَهُ فَيُقَالُ : كَانَتْ الْوَقْعَةُ بِأُحُدٍ ؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ تَحْتَ الْجَبَلِ وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِمَكَانِ الْعَقَبَةِ وَلِمَكَانِ الْقَصْرِ والعقيبة تَصْغِيرُ الْعَقَبَةِ والقصير تَصْغِيرُ قَصْرٍ وَيَكُونُ قَدْ كَانَ هُنَاكَ قَصْرٌ صَغِيرٌ أَوْ عَقَبَةٌ صَغِيرَةٌ ثُمَّ صَارَ الِاسْمُ شَامِلًا لِمَا حَوْلَ ذَلِكَ مَعَ كِبْرِهِ فَهَذَا كَثِيرٌ غَالِبٌ فِي أَسْمَاءِ الْبِقَاعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَرَدِّدَ فِي الْمَسَاكِنِ لَا يُسَمَّى مُسَافِرًا وَإِذَا كَانَ النَّاسُ يَعْتَادُونَ الْمَبِيتَ فِي بَسَاتِينِهِمْ وَلَهُمْ فِيهَا مَسَاكِنُ كَانَ خُرُوجُهُمْ إلَيْهَا كَخُرُوجِهِمْ إلَى بَعْضِ نَوَاحِي مَسَاكِنِهِمْ فَلَا يَكُونُ الْمُسَافِرُ مُسَافِرًا حَتَّى يُسْفِرَ فَيَكْشِفَ وَيُظْهِرَ لِلْبَرِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْمَسَاكِنِ الَّتِي لَا يَسِيرُ السَّائِرُ فِيهَا بَلْ يَظْهَرُ فِيهَا وَيَنْكَشِفُ فِي الْعَادَةِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ السَّفَرَ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مُسَمَّاهُ لُغَةً وَعُرْفًا .
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ ؛ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ ؛ وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ } وَقَالَ : { لَا شَيْءَ فِي الرِّقَّةِ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ } وَقَالَ فِي السَّارِقِ : { يُقْطَعُ إذَا سَرَقَ مَا يَبْلُغُ ثَمَنَ الْمِجَنِّ } وَقَالَ : { تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ } وَالْأُوقِيَّةُ فِي لُغَتِهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَلَمْ يَذْكُرْ لِلدِّرْهَمِ وَلَا لِلدِّينَارِ حَدًّا وَلَا ضَرَبَ هُوَ دِرْهَمًا وَلَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ تُضْرَبُ فِي أَرْضِهِ بَلْ تُجْلَبُ مَضْرُوبَةً مِنْ ضَرْبِ الْكُفَّارِ . وَفِيهَا كِبَارٌ وَصِغَارٌ وَكَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهَا تَارَةً عَدَدًا وَتَارَةً وَزْنًا كَمَا قَالَ : { زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً } وَكَانَ هُنَاكَ وَزَّانٌ يَزِنُ بِالْأَجْرِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إذَا وَزَنُوهَا فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ صَنْجَةٍ يَعْرِفُونَ بِهَا مِقْدَارَ الدَّرَاهِمِ لَكِنَّ هَذَا لَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُقَدِّرْهُ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ : ثَمَانِيَةَ دَوَانِقَ وَسِتَّةَ وَأَرْبَعَةَ فَلَعَلَّ الْبَائِعَ قَدْ يُسَمِّي أَحَدَ تِلْكَ الْأَصْنَافِ فَيُعْطِيه الْمُشْتَرِي مِنْ وَزْنِهَا ثُمَّ هُوَ مَعَ هَذَا أَطْلَقَ لَفْظَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَلَمْ يَحُدَّهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ وَإِنَّ مَنْ مَلَكَ مِنْ
الدَّرَاهِمِ الصِّغَارِ خَمْسَ أَوَاقٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَكَذَلِكَ مِنْ الْوُسْطَى وَكَذَلِكَ مِنْ الْكُبْرَى . وَعَلَى هَذَا فَالنَّاسُ فِي مَقَادِيرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى عَادَاتِهِمْ فَمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ وَجَعَلُوهُ دِرْهَمًا فَهُوَ دِرْهَمٌ ؛ وَمَا جَعَلُوهُ دِينَارًا فَهُوَ دِينَارٌ وَخِطَابُ الشَّارِعِ يَتَنَاوَلُ مَا اعْتَادُوهُ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَإِذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ الْمُعْتَادَةُ بَيْنَهُمْ كِبَارًا لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَمْلِكَ مِنْهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ كَانَتْ صِغَارًا لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَ مِنْهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِطَةً فَمَلَكَ مِنْ الْمَجْمُوعِ ذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ بِضَرْبٍ وَاحِدٍ أَوْ ضُرُوبٍ مُخْتَلِفَةٍ وَسَوَاءٌ كَانَتْ خَالِصَةً أَوْ مَغْشُوشَةً مَا دَامَ يُسَمَّى دِرْهَمًا مُطْلَقًا . وَهَذَا قَوْلُ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . فَأَمَّا إذَا لَمْ يُسَمَّ إلَّا مُقَيَّدًا مِثْلَ : أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُهُ نُحَاسًا فَيُقَالُ لَهُ : دِرْهَمٌ أَسْوَدُ لَا يَدْخُلُ فِي مُطْلَقِ الدِّرْهَمِ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ . وَعَلَى هَذَا فَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَنْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مَغْشُوشَةٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِذَا سَرَقَ السَّارِقُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مِنْ الْكِبَارِ أَوْ الصِّغَارِ أَوْ الْمُخْتَلِطَةِ قُطِعَتْ يَدُهُ . وَأَمَّا الْوَسْقُ فَكَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ سِتُّونَ صَاعًا وَالصَّاعُ
مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ : وَهُوَ صَاعٌ وَاحِدٌ غَيْرُ مُخْتَلَفِ الْمِقْدَارِ وَهُمْ صَنَعُوهُ لَمْ يُجْلَبْ إلَيْهِمْ . فَلَمَّا عَلَّقَ الشَّارِعُ الْوُجُوبَ بِمِقْدَارِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ كَانَ هَذَا تَعْلِيقًا بِمِقْدَارِ مَحْدُودٍ يَتَسَاوَى فِيهِ النَّاسُ بِخِلَافِ الْأَوَاقِي الْخَمْسَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِقْدَارًا مَحْدُودًا يَتَسَاوَى فِيهِ النَّاسُ بَلْ حَدُّهُ فِي عَادَةِ بَعْضِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ حَدِّهِ فِي عَادَةِ بَعْضِهِمْ كَلَفْظِ الْمَسْجِدِ وَالْبَيْتِ وَالدَّارِ وَالْمَدِينَةِ وَالْقَرْيَةِ هُوَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ عَادَاتُ النَّاسِ فِي كِبَرِهَا وَصِغَرِهَا وَلَفْظُ الشَّارِعِ يَتَنَاوَلُهَا كُلَّهَا . وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الصَّاعَ وَالْمُدَّ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى عَادَاتِ النَّاسِ ؛ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ صَاعَ عُمَرَ كَانَ أَكْبَرَ وَبِهِ كَانَ يَأْخُذُ الْخَرَاجَ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ لَكَانَ هَذَا يُمْكِنُ فِيمَا يَكُونُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ فِيهِ مِكْيَالَانِ : كَبِيرٌ وَصَغِيرٌ . وَتَكُونُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ مُقَدَّرَةً بِالْكَبِيرِ وَالْوَسْقُ سِتُّونَ مِكْيَالًا مِنْ الْكَبِيرِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّرَ نِصَابَ الْمُوسِقَاتِ وَمِقْدَارَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِصَاعِ وَلَمْ يُقَدِّرْ بِالْمُدِّ شَيْئًا مِنْ النُّصُبِ وَالْوَاجِبَاتِ لَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ بِهَذَا قَائِلًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إلَّا مَا قَالَهُ السَّلَفُ قَبْلَنَا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ قَطْعًا فَإِنْ كَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ التَّابِعِينَ مَنْ جَعَلَ الصَّاعَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالشَّرْعِ صَارَتْ مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ . وَأَمَّا الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ فَقَدْ عَرَفْت تَنَازُعَ النَّاسِ فِيهِ وَاضْطِرَابَ
أَكْثَرِهِمْ ؛ حَيْثُ لَمْ يَعْتَمِدُوا عَلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ بَلْ جَعَلُوا مِقْدَارَ مَا أَرَادَهُ الرَّسُولُ هُوَ مِقْدَارُ الدَّرَاهِمِ الَّتِي ضَرَبَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ ؛ لِكَوْنِهِ جَمَعَ الدَّرَاهِمَ الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ وَالْمُتَوَسِّطَةَ وَجَعَلَ مُعَدَّلَهَا سِتَّةَ دَوَانِيقَ فَيُقَالُ لَهُمْ : هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ؛ لَكِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَاطَبَ أَصْحَابَهُ وَأُمَّتَهُ بِلَفْظِ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَعِنْدَهُمْ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةُ الْمَقَادِيرِ كَمَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَحُدَّ لَهُمْ الدِّرْهَمَ بِالْقَدْرِ الْوَسَطِ كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بَلْ أَطْلَقَ لَفْظَ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ كَمَا أَطْلَقَ لَفْظَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ ؛ وَالْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ وَالدَّارِ وَالْقَرْيَةِ وَالْمَدِينَةِ وَالْبَيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصْنُوعَاتِ الْآدَمِيِّينَ فَلَوْ كَانَ لِلْمُسَمَّى عِنْدَهُ حَدٌّ لِحَدِّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِاخْتِلَافِ الْمَقَادِيرِ فَاصْطِلَاحُ النَّاسِ عَلَى مِقْدَارِ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ أَمْرٌ عَادِيٌّ . وَلَفْظُ الذِّرَاعِ أَقْرَبُ إلَى الْأُمُورِ الْخِلْقِيَّةِ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ الذِّرَاعَ هُوَ فِي الْأَصْلِ ذِرَاعُ الْإِنْسَانِ وَالْإِنْسَانُ مَخْلُوقٌ فَلَا يُفَضَّلُ ذِرَاعٌ عَلَى ذِرَاعٍ إلَّا بِقَدَرِ مَخْلُوقٍ لَا اخْتِيَارَ فِيهِ لِلنَّاسِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ بِاخْتِيَارِهِمْ مِنْ دِرْهَمٍ وَمَدِينَةٍ وَدَارٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا حَدَّ لَهُ ؛ بَلْ الثِّيَابُ تَتْبَعُ مَقَادِيرَهُمْ وَالدُّورَ وَالْمُدُنَ بِحَسَبِ حَاجَتِهِمْ وَأَمَّا الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ فَمَا يُعْرَفُ لَهُ حَدٌّ طَبْعِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ بَلْ مَرْجِعُهُ إلَى الْعَادَةِ وَالِاصْطِلَاحِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ لَا يَتَعَلَّقُ الْمَقْصُودُ بِهِ ؛ بَلْ الْغَرَضُ أَنْ يَكُونَ مِعْيَارًا لِمَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تُقْصَدُ لِنَفْسِهَا بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى التَّعَامُلِ
بِهَا وَلِهَذَا كَانَتْ أَثْمَانًا ؛ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِهَا نَفْسِهَا ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً بِالْأُمُورِ الطَّبْعِيَّةِ أَوْ الشَّرْعِيَّةِ وَالْوَسِيلَةُ الْمَحْضَةُ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا غَرَضٌ لَا بِمَادَّتِهَا وَلَا بِصُورَتِهَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ كَيْفَمَا كَانَتْ . وَأَيْضًا فَالتَّقْدِيرُ إنَّمَا كَانَ لِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَهِيَ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ فَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي ذَلِكَ حَدًّا مُسْتَوِيًا لَوَجَبَ أَنْ تَعْتَبِرَ خَمْسَةَ أَحْمَالٍ مِنْ أَحْمَالِ كُلِّ قَوْمٍ . وَأَيْضًا فَسَائِرُ النَّاسِ لَا يُسَمُّونَ كُلُّهُمْ صَاعًا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الشَّارِعِ كَمَا يَتَنَاوَلُ الدِّرْهَمَ وَالدِّينَارَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ الصَّاعَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُكَالُ بِهِ ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { صُوَاعَ الْمَلِكِ } فَيَكُونُ كَلَفْظِ الدِّرْهَمِ .
فَصْلٌ :
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْإِطْعَامِ لِعَشَرَةِ مَسَاكِينَ لَمْ يُقَدِّرْهُ الشَّرْعُ بَلْ كَمَا قَالَ اللَّهُ : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَكُلُّ بَلَدٍ يُطْعِمُونَ مِنْ أَوْسَطِ مَا يَأْكُلُونَ كِفَايَةَ غَيْرِهِ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْجِزْيَةِ " و " الدِّيَةِ " فَإِنَّهَا فِعْلَةٌ مِنْ جَزَى يَجْزِي إذَا قَضَى وَأَدَّى وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَجْزِي عَنْك وَلَا تَجْزِي عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك } وَهِيَ فِي الْأَصْلِ جَزَى جِزْيَةً كَمَا يُقَالُ : وَعَدَ عِدَةً وَوَزَنَ زِنَةً . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الدِّيَةِ " هُوَ مِنْ وَدَى يَدِي دِيَةً كَمَا يُقَالُ : وَعَدَ يَعِدُ عِدَةً وَالْمَفْعُولُ يُسَمَّى بَاسِمِ الْمَصْدَرِ كَثِيرًا فَيُسَمَّى الْمُؤَدَّى دِيَةً وَالْمَجْزِيَّ الْمَقْضِيَّ جِزْيَةً كَمَا يُسَمَّى الْمَوْعُودُ وَعْدًا فِي قَوْلِهِ : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { قُلْ إنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً } وَإِنَّمَا رَأَوْا مَا وَعَدُوهُ مِنْ الْعَذَابِ وَكَمَا يُسَمَّى مِثْلُ ذَلِكَ الْإِتَاوَةَ لِأَنَّهُ تُؤْتَى أَيْ : تُعْطَى . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الضَّرِيبَةِ لِمَا يُضْرَبُ عَلَى النَّاسِ . فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا لَيْسَ لَهَا حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَكِنْ يَرْجِعُ إلَى عَادَاتِ النَّاسِ فَإِنْ كَانَ الشَّرْعُ قَدْ حَدَّ لِبَعْضِ حَدًّا كَانَ اتِّبَاعُهُ وَاجِبًا . وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْجِزْيَةِ : هَلْ هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ أَوْ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ ؟ . وَكَذَلِكَ الْخَرَاجُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُقَدَّرَةً بِالشَّرْعِ . { وَأَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ : أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ معافريا } قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْعًا عَامًّا لِكُلِّ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَالَحَ لِأَهْلِ الْبَحْرَيْنِ عَلَى
حَالِمٍ وَلَمْ يُقَدِّرْهُ هَذَا التَّقْدِيرَ وَكَانَ ذَلِكَ جِزْيَةً وَكَذَلِكَ صَالَحَ أَهْلَ نَجْرَانَ عَلَى أَمْوَالٍ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَا مُقَدَّرَةٍ بِذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهَا إلَى مَا يَرَاهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ مَصْلَحَةً وَمَا يَرْضَى بِهِ الْمُعَاهِدُونَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَقًّا يَجْزُونَهُ أَيْ : يَقْصِدُونَهُ وَيُؤَدُّونَهُ . وَأَمَّا الدِّيَةُ فَفِي الْعَمْدِ يُرْجَعُ فِيهَا إلَى رِضَى الْخَصْمَيْنِ وَأَمَّا فِي الْخَطَأِ فَوَجَبَتْ عَيْنًا بِالشَّرْعِ فَلَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِيهَا إلَى تَرَاضِيهِمْ بَلْ قَدْ يُقَالُ : هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ تَقْدِيرًا عَامًّا لِلْأُمَّةِ كَتَقْدِيرِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَقَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَقْوَالِ النَّاسِ فِي جِنْسِهَا وَقَدْرِهَا وَهَذَا أَقْرَبُ الْقَوْلَيْنِ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآثَارُ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا جَعَلَهَا مِائَةً لِأَقْوَامٍ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ الْإِبِلَ ؛ وَلِهَذَا جَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ ذَهَبًا ؛ وَعَلَى أَهْلِ الْفِضَّةِ فِضَّةً ؛ وَعَلَى أَهْلِ الشَّاءِ شَاءً ؛ وَعَلَى أَهْلِ الثِّيَابِ ثِيَابًا ؛ وَبِذَلِكَ مَضَتْ سِيرَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ .
فَصْلٌ :
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك } وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ مَا حُرِّمَ وَطْؤُهُ بِالنِّكَاحِ
حُرِّمَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَا يَحِلُّ التَّسَرِّي بِذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَلَا وَطْءُ السَّرِيَّةِ فِي الْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ وَالْحَيْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحَرِّمُ وَطْءَ الزَّوْجَةِ فِيهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَأَمَّا الِاسْتِبْرَاءُ فَلَمْ تَأْتِ بِهِ السُّنَّةُ مُطْلَقًا فِي كُلِّ مَمْلُوكَةٍ بَلْ قَدْ { نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ } { وَقَالَ فِي سَبَايَا أوطاس : لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ } وَهَذَا كَانَ فِي رَقِيقِ سَبْيٍ وَلَمْ يَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا مَلَكَ بِإِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ . فَالْوَاجِبُ أَنَّهُ إنْ كَانَتْ تُوطَأُ الْمَمْلُوكَةُ لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا حَتَّى تُسْتَبْرَأَ ؛ لِئَلَّا يُسْقِيَ الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ . وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا لَمْ يَكُنْ سَيِّدُهَا يَطَؤُهَا : إمَّا لِكَوْنِهَا بِكْرًا ؛ أَوْ لِكَوْنِ السَّيِّدِ امْرَأَةً أَوْ صَغِيرًا ؛ أَوْ قَالَ وَهُوَ صَادِقٌ : إنِّي لَمْ أَكُنْ أَطَؤُهَا لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِ هَذِهِ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ وَجْهٌ لَا مِنْ نَصٍّ وَلَا مِنْ قِيَاسٍ .
فَصْلٌ :
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَهُمْ : الَّذِينَ يَنْصُرُونَ الرَّجُلَ وَيُعِينُونَهُ وَكَانَتْ الْعَاقِلَةُ عَلَى عَهْدِهِ هُمْ عَصَبَتُهُ . فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ جَعَلَهَا عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ ؛ وَلِهَذَا اخْتَلَفَ فِيهَا الْفُقَهَاءُ
فَيُقَالُ : أَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ هُمْ مَحْدُودُونَ بِالشَّرْعِ أَوْ هُمْ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُعِينُهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ . فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ لَمْ يَعْدِلْ عَنْ الْأَقَارِبِ ؛ فَإِنَّهُمْ الْعَاقِلَةُ عَلَى عَهْدِهِ . وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي جَعَلَ الْعَاقِلَةَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ مَنْ يَنْصُرُ الرَّجُلَ وَيُعِينُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ . فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يَنْصُرُهُ وَيُعِينُهُ أَقَارِبُهُ كَانُوا هُمْ الْعَاقِلَةَ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيوَانٌ وَلَا عَطَاءٌ فَلَمَّا وَضَعَ عُمَرُ الدِّيوَانَ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ جُنْدَ كُلِّ مَدِينَةٍ يَنْصُرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيُعِينُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا أَقَارِبَ فَكَانُوا هُمْ الْعَاقِلَةَ . وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ : وَإِلَّا فَرَجُلٌ قَدْ سَكَنَ بِالْمَغْرِبِ وَهُنَاكَ مِنْ يَنْصُرُهُ وَيُعِينُهُ كَيْفَ تَكُونُ عَاقِلَتُهُ مَنْ بِالْمَشْرِقِ فِي مَمْلَكَةٍ أُخْرَى وَلَعَلَّ أَخْبَارُهُ قَدْ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ ؟ وَالْمِيرَاثُ يُمْكِنُ حِفْظُهُ لِلْغَائِبِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَضَى فِي الْمَرْأَةِ الْقَاتِلَةِ أَنَّ عَقْلَهَا عَلَى عَصَبَتِهَا ؛ وَأَنَّ مِيرَاثَهَا لِزَوْجِهَا وَبَنِيهَا } فَالْوَارِثُ غَيْرُ الْعَاقِلَةِ . وَكَذَلِكَ تَأْجِيلُهَا ثَلَاثَ سِنِينَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُؤَجِّلْهَا بَلْ قَضَى بِهَا حَالَّةً وَعُمَرُ أَجَّلَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ . فَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَقُولُونَ لَا تَكُونُ إلَّا مُؤَجَّلَةً . كَمَا قَضَى بِهِ عُمَرُ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ إجْمَاعًا وَبَعْضُهُمْ قَالَ : لَا تَكُونُ إلَّا حَالَّةً . وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَعْجِيلَهَا وَتَأْجِيلَهَا بِحَسَبِ الْحَالِ وَالْمَصْلَحَةِ فَإِنْ كَانُوا مَيَاسِيرَ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِمْ فِي التَّعْجِيلِ أُخِذَتْ
حَالَّةً وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةٌ جُعِلَتْ مُؤَجَّلَةً . وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد : أَنَّ التَّأْجِيلَ لَيْسَ بِوَاجِبِ كَمَا ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ وَاجِبٌ مُوَافَقَةً لِمَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ يَجْعَلُ الْأُمَّةَ يَجُوزُ لَهَا نَسْخُ شَرِيعَةِ نَبِيِّهَا ؛ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يُنْسَخُ ؛ وَهَذَا مِنْ أَنْكَرِ الْأَقْوَالِ عِنْدَ أَحْمَد . فَلَا تُتْرَكُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ إلَّا بِسُنَّةٍ ثَابِتَةٍ وَيَمْتَنِعُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ سُنَّةٍ إلَّا وَمَعَ الْإِجْمَاعِ سُنَّةٌ مَعْلُومَةٌ نَعْلَمُ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى .
فَصْلٌ :
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةِ الْخُمُسِ : { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْفَيْءِ . وَقَالَ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ : { لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } الْآيَةُ فَأَطْلَقَ اللَّهُ ذِكْرَ الْأَصْنَافِ ؛ وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَلْ عَلَى خِلَافِهَا فَمَنْ أَوْجَبَ بِاللَّفْظِ التَّسْوِيَةَ فَقَدْ قَالَ مَا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ التَّسْوِيَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَاجِبَةً ؟ بَلْ وَلَا مُسْتَحَبَّةً فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِعْطَاءُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا بَلْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ . وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا فِي الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ : يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ ثُلُثًا وَيَتَصَدَّقَ بِثُلُثِ ؛ فَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يُوجِبُ التَّفْضِيلَ ؛ وَإِلَّا فَلَوْ قُدِّرَ كَثْرَةُ الْفُقَرَاءِ لَاسْتَحْبَبْنَا الصَّدَقَةَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَكَذَلِكَ إذَا قُدِّرَ كَثْرَةُ مَنْ يَهْدِي إلَيْهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ؛ وَكَذَلِكَ الْأَكْلُ . فَحَيْثُ كَانَ الْأَخْذُ بِالْحَاجَةِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِالْحَاجَةِ وَالْمَنْفَعَةِ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ بِخِلَافِ الْمَوَارِيثِ فَإِنَّهَا قُسِمَتْ بِالْأَنْسَابِ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا أَهْلُهَا فَإِنَّ اسْمَ الِابْنِ يَتَنَاوَلُ الْكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ وَالْقَوِيَّ وَالضَّعِيفَ وَلَمْ يَكُنْ الْأَخْذُ لَا لِحَاجَتِهِ وَلَا لِمَنْفَعَتِهِ ؛ بَلْ لِمُجَرَّدِ نَسَبِهِ ؛ فَلِهَذَا سَوَّى فِيهَا بَيْنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ . وَأَمَّا هَذِهِ الْمَوَاضِعُ فَالْأَخْذُ فِيهَا بِالْحَاجَةِ وَالْمَنْفَعَةِ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْنَافِ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً ؛ بَلْ الْعَطَاءُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْمَنْفَعَةِ كَمَا كَانَ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ مُعَلَّقًا بِذَلِكَ وَالْوَاوُ تَقْتَضِي
التَّشْرِيكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَالْمَذْكُورُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ إلَّا هَؤُلَاءِ فَيَشْتَرِكُونَ فِي أَنَّهَا حَلَالٌ لَهُمْ وَلَيْسَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ مُطْلَقُ الْحَلِّ يَشْتَرِكُونَ فِي التَّسْوِيَةِ فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا بِحَالِ . وَمِثْلُهُ يُقَالُ فِي كَلَامِ الْوَاقِفِ وَالْمُوصِي وَكَانَ بَعْضُ الْوَاقِفِينَ قَدْ وَقَفَ عَلَى الْمُدَرِّسِ وَالْمُعِيدِ وَالْقَيِّمِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ ؛ وَجَرَى الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فَقُلْنَا : يُعْطِي بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ فَطَلَبَ الْمُدَرِّسُ الْخُمُسَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الظَّنِّ ؛ فَقِيلَ لَهُ : فَأَعْطِي الْقَيِّمَ أَيْضًا الْخُمُسَ لِأَنَّهُ نَظِيرُ الْمُدَرِّسِ فَظَهَرَ بُطْلَانُ حُجَّتِهِ . آخِرُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْل :
قَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ مَنْ عَدَلَ عَنْ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ إلَى مَا نَشَأَ عَلَيْهِ مِنْ دِينِ آبَائِهِ وَهَذَا هُوَ التَّقْلِيدُ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ : أَنْ يَتَّبِعَ غَيْرَ الرَّسُولِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ الرَّسُولَ وَهَذَا حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَالرَّسُولُ طَاعَتُهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَكُلِّ مَكَانٍ ؛ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ . وَهَذَا مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ : { إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وَقَالَ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } وَقَالَ : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ
أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَقَالَ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } . وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ طَاعَةَ الرَّسُولِ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ فِي قَرِيبٍ مِنْ أَرْبَعِينَ مَوْضِعًا مِنْ الْقُرْآنِ وَطَاعَتُهُ طَاعَةُ اللَّهِ : وَهِيَ : عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَذَلِكَ هُوَ دِينُ اللَّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَكُلُّ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ بِطَاعَتِهِ مِنْ عَالِمٍ وَأَمِيرٍ وَوَالِدٍ وَزَوْجٍ ؛ فَلِأَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَةٌ لِلَّهِ . وَإِلَّا فَإِذَا أَمَرَ بِخِلَافِ طَاعَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا طَاعَةَ لَهُ وَقَدْ يَأْمُرُ الْوَالِدُ وَالزَّوْجُ بِمُبَاحٍ فَيُطَاعَ وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا أَمَرَ عَالِمًا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَالْعَالِمُ إذَا أَفْتَى الْمُسْتَفْتِيَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُسْتَفْتِي أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ الْمُطِيعُ لِهَؤُلَاءِ عَاصِيًا وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ فَطَاعَتُهُ فِي ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ ؛ وَلِهَذَا نَقَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْعَالِمِ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ إذَا كَانَ قَدْ اجْتَهَدَ وَاسْتَدَلَّ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ؛ فَهُنَا لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ قَالَ خِلَافَ ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ وَلَكِنْ هَلْ يَجُوزُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ يُقَلِّدُ ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ : فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا لَا يَجُوزُ . وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ جَوَازُهُ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ وَحَكَى بَعْضُ النَّاسِ ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد
وَلَمْ يَعْرِفْ هَذَا النَّاقِلُ قَوْلَ أَحْمَد كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَتَقْلِيدُ الْعَاجِزِ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ لِلْعَالِمِ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَفِي صِفَةِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ تَفْصِيلٌ وَنِزَاعٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ التَّقْلِيدَ الْمُحَرَّمَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ : أَنْ يُعَارِضَ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَائِنًا مَنْ كَانَ الْمُخَالِفُ لِذَلِكَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا } { يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا } { لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } إلَى قَوْلِهِ : { وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } فَذَكَرَ بَرَاءَةَ الْمَتْبُوعِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ فِي خِلَافِ طَاعَةِ اللَّهِ ذَكَرَ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ : { وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ } فَالْإِلَهُ الْوَاحِدُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَالْمُطَاعُ فَمَنْ أَطَاعَ
مَتْبُوعًا فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الذَّمِّ قَالَ تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } . ثُمَّ خَاطَبَ النَّاسَ بِأَكْلِ مَا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَأَنْ لَا يَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فِي خِلَافِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَأْمُرُ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ فَيَقُولُوا : هَذَا حَرَامٌ وَهَذَا حَلَالٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُونَهُ عَلَى اللَّهِ فِي الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ بِلَا عِلْمٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ } . ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ إذَا قِيلَ لَهُمْ : { اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } فَلَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ ؛ بَلْ عِنْدَهُمْ اتِّبَاعُ سَلَفِهِمْ وَهُوَ الَّذِي اعْتَادُوهُ وَتَرَبَّوْا عَلَيْهِ . ثُمَّ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ خُصُوصًا فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } { إنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } فَأَمَرَهُمْ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ مِمَّا رَزَقَهُمْ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمَقْصُودُونَ بِالرِّزْقِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْحَلَّ هُنَا
لِأَنَّهُ إنَّمَا حَرَّمَ مَا ذَكَرَ فَمَا سِوَاهُ حَلَالٌ لَهُمْ وَالنَّاسُ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِأَكْلِ مَا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَهُوَ إنَّمَا أَحَلَّ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارُ لَمْ يُحِلَّ لَهُمْ شَيْئًا فَالْحِلُّ مَشْرُوطٌ بِالْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَعِنْ بِرِزْقِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ لَمْ يُحِلَّ لَهُ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ أَيْضًا لَمْ يُحَرِّمْهُ فَلَا يُقَالُ : إنَّ اللَّهَ أَحَلَّهُ لَهُمْ وَلَا حَرَّمَهُ وَإِنَّمَا حَرَّمَ عَلَى الَّذِينَ هَادُوا مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ . وَلِهَذَا أَنْكَرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا عَلَى مَنْ حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ كَقَوْلِهِ : { قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ } ثُمَّ قَالَ : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الْآيَاتِ . وَقَالَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ } الْآيَةَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ بِبَغْيِهِمْ فَقَالَ : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وَقَالَ : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } . وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ : أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ بَاقٍ عَلَيْهِمْ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ لَا يَزُولُ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَحْرِيمُ عُقُوبَةٍ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَبَغْيِهِمْ ؛ وَهَذَا لَمْ يُزَلْ بَلْ زَادَ وتغلظ فَكَانُوا أَحَقَّ بِالْعُقُوبَةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِهَذَا التَّحْرِيمِ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا هَذَا وَهَذَا ؛ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ قَدْ زَالَ لَمْ يَسْتَثْنِهِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَزُولُ إلَّا بِتَحْلِيلٍ مِنْهُ وَهُوَ إنَّمَا أَحَلَّ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } وَقَوْلِهِ : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } وَهَذَا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِهَذَا قَالَ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } ثُمَّ قَالَ : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } فَلَوْ كَانَ مَا أُحِلَّ لَنَا حِلًّا لَهُمْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى هَذَا وَقَوْلُهُ : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا مِمَّا يَسْتَحِلُّونَهُ هُمْ كَصَيْدِ الْحَرَمِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَهَلْ يَدْخُلُ فِي طَعَامِهِمْ الَّذِي أُحِلَّ لَنَا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْنَا . مِثْلَ مَا إذَا ذَكَّوْا الْإِبِلَ ؟ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ - وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد - تَحْرِيمُهُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : حِلُّهُ . وَهَلْ الْعِلَّةُ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا ذَكَاتَهُ ؛ أَوْ الْعِلَّةُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِهِمْ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ .
وَإِذَا ذَبَحُوا لِلْمُسْلِمِ : فَهَلْ هُوَ كَمَا إذَا ذَبَحُوا لِأَنْفُسِهِمْ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ . وَفِي جَوَازِ ذَبْحِهِمْ النُّسُكَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ يَحِلُّ ذَبْحُهُمْ قَوْلَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد فَالْمَنْعُ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْجَوَازُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فَإِذَا كَانَ الذَّابِحُ يَهُودِيًّا صَارَ فِي الذَّبْحِ عِلَّتَانِ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ . ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مَنْ يَقُولُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ بَلْ تَقْلِيدًا لِسَلَفِهِ ذَكَرَ حَالَ مَنْ يَكْتُمُ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فَهَذَا حَالُ مَنْ كَتَمَ عِلْمَ الرَّسُولِ وَذَاكَ حَالُ مَنْ عَدَلَ عَنْهَا إلَى خِلَافِهَا وَالْعَادِلُ عَنْهَا إلَى خِلَافِهَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ قَلَّدَ أَحَدًا مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ الرَّسُولِ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبًا أَوْ تَابِعًا أَوْ أَحَدَ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ الْأَرْبَعَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ . وَأَمَّا مَنْ ظَنَّ أَنَّ الَّذِينَ قَلَّدَهُمْ مُوَافِقُونَ لِلرَّسُولِ فِيهَا قَالُوهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَكَ فِي ذَلِكَ طَرِيقًا عِلْمِيًّا فَهُوَ مُجْتَهِدٌ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ وَإِنْ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِلَا عِلْمٍ فَهُوَ مِنْ الْمَذْمُومِينَ .
وَمَنْ ادَّعَى إجْمَاعًا يُخَالِفُ نَصَّ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ يَكُونُ مُوَافِقًا لِمَا يَدَّعِيه ؛ وَاعْتَقَدَ جَوَازَ مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ لِلرَّسُولِ بِرَأْيِهِمْ ؛ وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَنْسَخُ النَّصَّ كَمَا تَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ فَهَذَا مِنْ جِنْسِ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا إنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ يَدُلُّ عَلَى نَصٍّ لَمْ يَبْلُغْنَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ . فَهَذَا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُلْ قَوْلًا سَدِيدًا فَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِي ذَلِكَ يُبَيِّنُ لَهُ فَسَادَ مَا قَالَهُ كَمَنْ عَارَضَ حَدِيثًا صَحِيحًا بِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ اعْتَقَدَ صِحَّتَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَكِنْ يُبَيِّنُ لَهُ ضَعْفَهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يُبَيِّنَ لَهُ عَدَمَ الْإِجْمَاعِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ أَوْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ تَجْتَمِعْ الْأُمَّةُ عَلَى مُخَالَفَةِ نَصٍّ إلَّا وَمَعَهَا نَصٌّ مَعْلُومٌ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ النَّاسِخُ لِلْأَوَّلِ فَدَعْوَى تَعَارُضِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلَةٌ وَيُبَيِّنُ لَهُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ مَعْلُومَةٌ مَحْفُوظَةٌ وَالْأُمَّةُ مَأْمُورَةٌ بِتَتَبُّعِهَا وَاتِّبَاعِهَا وَأَمَّا ثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهَا بِغَيْرِ نَصٍّ فَهَذَا لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ خَالَفَ ذَلِكَ النَّصَّ . وَالْإِجْمَاعُ نَوْعَانِ : قَطْعِيٌّ . فَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يُعْلَمَ إجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ . وَأَمَّا الظَّنِّيُّ فَهُوَ الْإِجْمَاعُ الإقراري والاستقرائي : بِأَنْ يَسْتَقْرِئَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَجِدُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا أَوْ يَشْتَهِرُ الْقَوْلُ فِي الْقُرْآنِ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَهُ فَهَذَا الْإِجْمَاعُ وَإِنْ جَازَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ
فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُدْفَعَ النُّصُوصُ الْمَعْلُومَةُ بِهِ لِأَنَّ هَذَا حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ لَا يَجْزِمُ الْإِنْسَانُ بِصِحَّتِهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِانْتِفَاءِ الْمُخَالِفِ وَحَيْثُ قَطَعَ بِانْتِفَاءِ الْمُخَالِفِ فَالْإِجْمَاعُ قَطْعِيٌّ . وَأَمَّا إذَا كَانَ يَظُنُّ عَدَمَهُ وَلَا يَقْطَعُ بِهِ فَهُوَ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ وَالظَّنِّيُّ لَا يُدْفَعُ بِهِ النَّصُّ الْمَعْلُومُ لَكِنْ يُحْتَجُّ بِهِ وَيُقَدَّمُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ بِالظَّنِّ وَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الظَّنُّ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ فَمَتَى كَانَ ظَنُّهُ لِدَلَالَةِ النَّصِّ أَقْوَى مِنْ ظَنِّهِ بِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ قَدَّمَ دَلَالَةَ النَّصِّ وَمَتَى كَانَ ظَنُّهُ لِلْإِجْمَاعِ أَقْوَى قَدَّمَ هَذَا وَالْمُصِيبُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ . وَإِنْ كَانَ قَدْ نُقِلَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ صِحَّتُهُ فَهَذَا يُوجِبُ لَهُ أَنْ لَا يَظُنَّ الْإِجْمَاعَ إنْ لَمْ يَظُنَّ بُطْلَانَ ذَلِكَ النَّقْلِ وَإِلَّا فَمَتَى جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ نَاقِلُ النِّزَاعِ صَادِقًا وَجُوِّزَ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا يَبْقَى شَاكًّا فِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ وَمَعَ الشَّكِّ لَا يَكُونُ مَعَهُ عِلْمٌ وَلَا ظَنٌّ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا تُدْفَعُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ بِهَذَا الْمُشْتَبَهِ مَعَ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ فَلَا يَكُونُ قَطُّ إجْمَاعٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ مَعَ مُعَارَضَتِهِ لِنَصٍّ آخَرَ لَا مُخَالِفَ لَهُ وَلَا يَكُونُ قَطُّ نَصٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَلَيْسَ فِي الْأُمَّةِ قَائِلٌ بِهِ بَلْ قَدْ يَخْفَى الْقَائِلُ بِهِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : كُلُّ حَدِيثٍ فِي كِتَابِي قَدْ عَمِلَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا حَدِيثَيْنِ : حَدِيثَ الْجَمْعِ ؛ وَقَتْلِ الشَّارِبِ . وَمَعَ هَذَا فَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ قَدْ عَمِلَ بِهِ طَائِفَةٌ وَحَدِيثُ الْجَمْعِ قَدْ عَمِلَ بِهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ .
وَلَكِنْ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ نَصٌّ وَلَمْ يَعْلَمْ قَائِلًا بِهِ وَهُوَ لَا يَدْرِي : أَجْمَعَ عَلَى نَقِيضِهِ أَمْ لَا ؟ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى دَلِيلًا عَارَضَهُ آخَرُ وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَعْلَمْ رُجْحَانَ أَحَدِهِمَا فَهَذَا يَقِفُ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ رُجْحَانُ هَذَا أَوْ هَذَا فَلَا يَقُولُ قَوْلًا بِلَا عِلْمٍ وَلَا يَتَّبِعُ نَصًّا . . . (1) مَعَ ظَنِّ نَسْخِهِ وَعَدَمِ نَسْخِهِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ لِمَا عَارَضَهُ عِنْدَهُ مِنْ نَصٍّ آخَرَ أَوْ ظَنِّ إجْمَاعٍ وَلَا عَامًّا ظَنُّ تَخْصِيصِهِ وَعَدَمِ تَخْصِيصِهِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ فَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ نَفْيُ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ وَإِلَّا وُقِفَ . وَأَيْضًا فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِجْمَاعِ يُحْتَجُّ بِهِ فِي خِلَافِ النَّصِّ إنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ ثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ أَوْ يَكُونُ مَعَهُ نَصٌّ آخَرُ يُنْسَخُ الْأَوَّلُ وَمَا يَظُنُّهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ مَعَهُ . وَأَكْثَرُ مَسَائِلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ فِيهَا بِالْعَمَلِ يَكُونُ مَعَهُمْ فِيهَا نَصٌّ فَالنَّصُّ الَّذِي مَعَهُ الْعَمَلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْآخَرِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ كَتَقْدِيمِ حَدِيثِ عُثْمَانَ : { لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ } عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا رَدُّ النَّصِّ بِمُجَرَّدِ الْعَمَلِ فَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُخَالِفِ الْإِجْمَاعِ : هَلْ يَكْفُرُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ .
وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمَعْلُومَ يَكْفُرُ مُخَالِفُهُ كَمَا يَكْفُرُ مُخَالِفُ النَّصِّ بِتَرْكِهِ لَكِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِيمَا عَلِمَ ثُبُوتَ النَّصِّ بِهِ . وَأَمَّا الْعِلْمُ بِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا نَصَّ فِيهَا فَهَذَا لَا يَقَعُ وَأَمَّا غَيْرُ الْمَعْلُومِ فَيَمْتَنِعُ تَكْفِيرُهُ . وَحِينَئِذٍ فَالْإِجْمَاعُ مَعَ النَّصِّ دَلِيلَانِ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَتَنَازَعُوا فِي الْإِجْمَاعِ : هَلْ هُوَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَنِّيَّةٌ ؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَطْعِيَّهُ قَطْعِيٌّ وَظَنِّيَّهُ ظَنِّيٌّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ ذُكِرَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَذُكِرَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ قَوْلُهُ : { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَنْ بَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ هُوَ أَهْدَى مِنْ الْقَوْلِ الَّذِي نَشَأَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَهُ كَمَا قَالَ : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } وَقَالَ : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } وَقَالَ : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَالْوَاجِبُ فِي الِاعْتِقَادِ أَنْ يَتَّبِعَ أَحْسَنَ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ قَوْلًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْقَوْلَ الْمُخَالِفَ لَهُ أَحْسَنُ مِنْهُ وَمَا خُيِّرَ فِيهِ بَيْنَ فِعْلَيْنِ وَأَحَدِهِمَا أَفْضَلُ فَهُوَ أَفَضْلُ وَإِنْ جَازَ لَهُ فِعْلُ الْمَفْضُولِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ وَيَكُونُ ذَاكَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ هَذَا ؛ وَهَذَا اتِّبَاعٌ لِلْأَحْسَنِ .
وَإِذَا نَقَلَ عَالِمُ الْإِجْمَاعِ وَنَقَلَ آخَرُ النِّزَاعَ : إمَّا نَقْلًا سُمِّيَ قَائِلُهُ ؛ وَإِمَّا نَقْلًا بِخِلَافٍ مُطْلَقًا وَلَمْ يُسَمَّ قَائِلُهُ فَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ نَقْلًا لِخِلَافٍ لَمْ يَثْبُتْ ؛ فَإِنَّهُ مُقَابِلٌ بِأَنْ يُقَالَ وَلَا يَثْبُتُ نَقْلُ الْإِجْمَاعِ بَلْ نَاقِلُ الْإِجْمَاعِ نَافٍ لِلْخِلَافِ وَهَذَا مُثْبِتٌ لَهُ وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي . وَإِذَا قِيلَ : يَجُوزُ فِي نَاقِلِ النِّزَاعِ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَلِطَ فِيمَا أَثْبَتَهُ مِنْ الْخِلَافِ : إمَّا لِضَعْفِ الْإِسْنَادِ ؛ أَوْ لِعَدَمِ الدَّلَالَةِ قِيلَ لَهُ : وَنَافِي النِّزَاعِ غَلَطُهُ أجوز ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ لَمْ تَبْلُغْهُ ؛ أَوْ بَلَغَتْهُ وَظَنَّ ضَعْفَ إسْنَادِهَا وَكَانَتْ صَحِيحَةً عِنْدَ غَيْرِهِ ؛ أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الدَّلَالَةِ وَكَانَتْ دَالَّةً فَكُلُّ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُثْبِتِ مِنْ الْغَلَطِ يَجُوزُ عَلَى النَّافِي مَعَ زِيَادَةِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْخِلَافِ . وَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ عَامَّةُ الْخِلَافِ ؛ فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعَدَمِ لَا سِيَّمَا فِي أَقْوَالِ عُلَمَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ : مَنْ ادَّعَى الْإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ ؛ هَذِهِ دَعْوَى الْمَرِيسِيَّ وَالْأَصَمِّ ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ : لَا أَعْلَمُ نِزَاعًا وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَذْكُرُونَ الْإِجْمَاعَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِمَا يُفَسِّرُونَ مُرَادَهُمْ : بِأَنَّا لَا نَعْلَمُ نِزَاعًا وَيَقُولُونَ هَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي نَدَّعِيه . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِجْمَاعِ الَّذِي قُوبِلَ بِنَقْلِ نِزَاعٍ وَلَمْ يُثْبِتْ وَاحِدٌ
مِنْهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ نَقْلُ مُثْبِتِ النِّزَاعِ عَلَى نَافِيهِ وَلَا نَافِيهِ عَلَى مُثْبِتِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْضًا أَنْ يُقَدِّمَهُ عَلَى النَّصِّ وَلَا يُقَدِّمَ النَّصَّ عَلَيْهِ بَلْ يَقِفُ لِعَدَمِ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عِنْدَهُ ؛ فَإِنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ الْمُثْبِتُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ النَّصَّ لَمْ يُعَارِضْهُ إجْمَاعٌ يَعْمَلُ بِهِ وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى مُثْبِتِ الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ فَمَنْ عُرِفَ مِنْهُ كَثْرَةُ مَا يَدَّعِيه مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالْأَمْرِ بِخِلَافِهِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ إثْبَاتُ إجْمَاعٍ عُلِمَ انْتِفَاؤُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ عُلِمَ مِنْهُ فِي نَقْلِ النِّزَاعِ أَنَّهُ لَا يَغْلَطُ إلَّا نَادِرًا لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عُلِمَ مِنْهُ كَثْرَةُ الْغَلَطِ . وَإِذَا تَضَافَرَ عَلَى نَقْلِ النِّزَاعِ اثْنَانِ لَمْ يَأْخُذْ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَهَذَا يَثْبُتُ بِهِ النِّزَاعُ بِخِلَافِ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ تَضَافَرَ عَلَيْهِ عَدَدٌ لَمْ يُسْتَفَدْ بِذَلِكَ إلَّا عَدَمُ عِلْمِهِمْ بِالنِّزَاعِ وَهَذَا لِمَنْ أَثْبَتَ النِّزَاعَ فِي جَمْعِ الثَّلَاثِ وَمَنْ نَفَى النِّزَاعَ مَعَ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ أَثْبَتَ النِّزَاعَ يَذْكُرُ نَقْلًا صَحِيحًا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ وَلَيْسَ مَعَ النَّافِي مَا يُبْطِلُهُ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ تَلَقِّي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ فَيَجْعَلُونَ نُصُوصَ أَئِمَّتِهِمْ بِمَنْزِلَةِ نَصِّ الرَّسُولِ وَيُقَلِّدُونَهُمْ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَحْتَاجُ إلَى تَقْلِيدِ الْعُلَمَاءِ فِي الْأُمُورِ الْعَارِضَةِ الَّتِي لَا يَسْتَقِلُّ هُوَ بِمَعْرِفَتِهَا وَمِنْ سَالِكِي طَرِيقِ الْإِرَادَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ مَنْ يَجْعَلُ شَيْخَهُ
كَذَلِكَ بَلْ قَدْ يَجْعَلُهُ كَالْمَعْصُومِ وَلَا يَتَلَقَّى سُلُوكَهُ إلَّا عَنْهُ وَلَا يَتَلَقَّى عَنْ الرَّسُولِ سُلُوكَهُ مَعَ أَنَّ تَلَقِّي السُّلُوكِ عَنْ الرَّسُولِ أَسْهَلُ مِنْ تَلَقِّي الْفُرُوعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا ؛ فَإِنَّ السُّلُوكَ هُوَ بِالطَّرِيقِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَهَذَا كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ الَّذِي لَا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِ مِنْهُ .
وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ يَعْلَمُونَ السُّلُوكَ بِدَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنْ الرَّسُولِ لَا يَحْتَاجُونَ فِي ذَلِكَ إلَى فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ نِزَاعٌ فِي ذَلِكَ كَمَا تَنَازَعُوا فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ الَّتِي خَفِيَتْ مَعْرِفَتُهَا عَلَى أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْفُتْيَا وَالْأَحْكَامِ ؛ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَسْتَفْتُونَ فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ مَنْ يُرِيدُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ فَكُلُّهُمْ يَأْخُذُهُ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ مَمْلُوءٌ مِنْ هَذَا ؛ وَإِنْ تَكَلَّمَ أَحَدُهُمْ فِي ذَلِكَ بِكَلَامٍ لَمْ يُسْنِدْهُ هُوَ يَكُونُ هُوَ أَوْ مَعْنَاهُ مُسْنَدًا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ يَنْطِقُ أَحَدُهُمْ بِالْكَلِمَةِ مِنْ الْحِكْمَةِ فَتَجِدُهَا مَأْثُورَةً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ أَعْرَضَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ طَرِيقَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَاحْتَاجَ لِذَلِكَ إلَى تَقْلِيدِ شَيْخٍ .
وَفِي السُّلُوكِ مَسَائِلُ تَنَازَعَ فِيهَا الشُّيُوخُ لَكِنْ يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ مَا يَفْهَمُهُ غَالِبُ السَّالِكِينَ فَمَسَائِلُ السُّلُوكِ مِنْ جِنْسِ مَسَائِلِ الْعَقَائِدِ كُلُّهَا مَنْصُوصَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْكَلَامِ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَمَّا دَخَلُوا فِي الْبِدَعِ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ وَهَكَذَا طَرِيقُ الْعِبَادَةِ عَامَّةُ مَا يَقَعُ فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنْ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ فَيَقَعُونَ فِي الْبِدَعِ فَيَقَعُ فِيهِمْ الْخِلَافُ .
وَهَكَذَا الْفِقْهُ إنَّمَا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ لِمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ بَيَانُ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَقَعُ النِّزَاعُ فِي الدَّقِيقِ مِنْهُ وَأَمَّا الْجَلِيلُ فَلَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ . وَالصَّحَابَةُ أَنْفُسُهُمْ تَنَازَعُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ وَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي الْعَقَائِدِ وَلَا فِي الطَّرِيقِ إلَى اللَّهِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا الرَّجُلُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْأَبْرَارِ الْمُقَرَّبِينَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ إذَا احْتَاجُوا فِي مَسَائِلِ الشَّرْعِ مِثْلَ مَسَائِلِ النِّكَاحِ وَالْفَرَائِضِ وَالطَّهَارَةِ وَسُجُودِ السَّهْوِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَلَّدُوا الْفُقَهَاءَ ؛ لِصُعُوبَةِ أَخْذِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ النُّصُوصِ . وَأَمَّا مَسَائِلُ التَّوَكُّلِ وَالْإِخْلَاصِ وَالزُّهْدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِيهَا فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُتَّبِعًا لِلرَّسُولِ أَصَابَ وَمَنْ خَالَفَهُ أَخْطَأَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْبِدَعَ كَثُرَتْ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ وَالْإِرَادَةِ أَعْظَمُ مِمَّا كَثُرَتْ فِي بَابِ الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِيهَا أَكْثَرَ مِمَّا
يَشْتَرِكُونَ فِي الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَقْلِ وَالنُّطْقُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِ . وَأَمَّا جِنْسُ الْإِرَادَةِ فَهُوَ مِمَّا يَتَّصِفُ بِهِ كُلُّ الْحَيَوَانِ فَمَا مِنْ حَيَوَانٍ إلَّا وَلَهُ إرَادَةٌ وَهَؤُلَاءِ اشْتَرَكُوا فِي إرَادَةِ التَّأَلُّهِ ؛ لَكِنْ افْتَرَقُوا فِي الْمَعْبُودِ وَفِي عِبَادَتِهِ ؛ وَلِهَذَا وَصَفَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ رَهْبَانِيَّةَ النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ ابْتَدَعُوهَا وَذَمَّ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالتَّحْرِيمَاتِ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِمَّا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ ؛ فَإِنَّ الِاعْتِقَادَاتِ كَانُوا فِيهَا جُهَّالًا فِي الْغَالِبِ فَكَانَتْ بِدَعُهُمْ فِيهَا أَقَلَّ ؛ وَلِهَذَا كُلَّمَا قَرُبَ النَّاسُ مِنْ الرَّسُولِ كَانَتْ بِدَعُهُمْ أَخَفَّ فَكَانَتْ فِي الْأَقْوَالِ وَلَمْ يَكُنْ فِي التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مَنْ تَعَبَّدَ بِالرَّقْصِ وَالسَّمَاعِ كَمَا كَانَ فِيهِمْ خَوَارِجُ وَمُعْتَزِلَةٌ وَشِيعَةٌ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِالْقَدَرِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ .
فَالْبِدَعُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْعُبَّادِ وَالزُّهَّادِ وَالْفُقَرَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ لَمْ يَكُنْ عَامَّتُهَا فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِخِلَافِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْبِدَعِ الْقَوْلِيَّةِ فَإِنَّهَا ظَهَرَتْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَعُلِمَ أَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا أَقْوَى وَأَهْلَهَا أَعْقَلُ وَأَمَّا بِدَعُ هَؤُلَاءِ فَأَهْلُهَا أَجْهَلُ وَهُمْ أَبْعَدُ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ . وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ وَالْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ وَمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الرَّسُولِ وَأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الرَّسُولِ وَأَنَّ
لَهُمْ إلَى اللَّهِ طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِ الرَّسُولِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ بِدَعِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ مِنْ جِنْسِ بِدَعِ الْمَلَاحِدَةِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ وَأُولَئِكَ قَدْ عَرَفَ النَّاسُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مَعَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا يَقُولُهَا إلَّا مَنْ هُوَ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلرَّسُولِ بَلْ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ أَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ قَاتَلُوا الرَّسُولَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَعِنْدَ آخَرِينَ أَنَّ الرَّسُولَ أُمِرَ أَنْ يَذْهَبَ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَيَطْلُبَ الدُّعَاءَ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَأْذَنُوا لَهُ وَقَالُوا : اذْهَبْ إلَى مَنْ أُرْسِلْت إلَيْهِمْ وَأَنَّهُ رَجَعَ إلَى رَبِّهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ وَيَقُولَ : خُوَيْدِمُكُمْ جَاءَ لِيُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فَجَبَرُوا قَلْبَهُ وَأَذِنُوا لَهُ بِالدُّخُولِ . فَمَعَ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا الْكُفْرَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُهُ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ يُقِرُّ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ إلَى الْأُمِّيِّينَ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّسُولَ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَاعْتَرَفَ بِهِ وَاعْتَرَفَ أَنَّهُمْ خَوَاصُّ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُهُمْ بِدُونِ الرَّسُولِ لَمْ يحوجهم إلَيْهِ كَبَعْضِ خَوَاصِّ الْمَلِكِ مَعَ وُزَرَائِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِقِصَّةِ الْخَضَرِ مَعَ مُوسَى وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ قَدْ بُسِطَتْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالضَّلَالُ وَالْجَهْلُ فِي جِنْسِ الْعِبَادِ وَالْمُبْتَدَعَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي جِنْسِ أَهْلِ الْأَقْوَالِ لَكِنْ فِيهِمْ مِنْ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْأَخْلَاقِ مَا لَا يُوجَدُ فِي
أُولَئِكَ وَفِي أُولَئِكَ مِنْ الْكِبْرِ وَالْبُخْلِ وَالْقَسْوَةِ مَا لَيْسَ فِيهِمْ فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ شِبْهٌ مِنْ النَّصَارَى وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ شِبْهٌ مِنْ الْيَهُودِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَلِهَذَا آلَ الْأَمْرُ بِكَثِيرٍ مِنْ أَكَابِرِ مَشَايِخِهِمْ إلَى أَنَّهُمْ شَهِدُوا تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ وَذَلِكَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ فَعَدُّوا الْفَنَاءَ فِي هَذَا بِزَوَالِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ غَايَةَ الْمَقَامَاتِ وَلَيْسَ بَعْدَهُ إلَّا مَا سَمَّوْهُ تَوْحِيدًا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِي تَقُولُهُ النَّصَارَى وَلَكِنَّهُمْ يَهَابُونَ الْإِفْصَاحَ عَنْ ذَلِكَ وَيَجْعَلُونَهُ مِنْ الْأَسْرَارِ الْمَكْتُومَةِ . وَمِنْهُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْحَلَّاجَ هَذَا كَانَ مَشْهَدَهُ وَإِنَّمَا قُتِلَ لِأَنَّهُ بَاحَ بِالسِّرِّ الَّذِي مَا يَنْبَغِي الْبَوْحُ بِهِ . وَإِذَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ قَدْ أَخَذَ عَمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي إثْبَاتِ الْقَدَرِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ غَيْرِهِمْ ؛ وَيُجْعَلُ الْجَمِيعُ صَادِرًا عَنْ إرَادَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ هُنَا حُبٌّ وَلَا بُغْضٌ وَلَا رِضًا وَلَا سُخْطٌ وَلَا فَرَحٌ ؛ وَلَكِنَّ الْمُرَادَّاتِ مُتَنَوِّعَةً فَمَا كَانَ ثَوَابًا سُمِّيَ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ بِهِ رِضًا وَمَا كَانَ عِقَابًا سُمِّيَ سُخْطًا فَحِينَئِذٍ مَعَ هَذَا الْمَشْهَدِ لَا يَبْقَى عِنْدَهُ تَمْيِيزٌ وَيُسَمُّونَ هَذَا : الْجَمْعَ وَالِاصْطِلَامَ . وَكَانَ الْجُنَيْد - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - لَمَّا وَصَلَ أَصْحَابُهُ كَالثَّوْرِيِّ
وَأَمْثَالِهِ إلَى هَذَا الْمَقَامِ أَمَرَهُمْ بِالْفَرْقِ الثَّانِي وَهُوَ : أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ ؛ وَمَحْبُوبِ اللَّهِ وَمُرْضِيهِ ؛ وَمَسْخُوطِهِ وَمَكْرُوهِهِ ؛ وَهُوَ مَشْهَدُ الْإِلَهِيَّةِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . فَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْجُنَيْد وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ وَمِنْهُمْ مَنْ وَافَقَ وَالصَّوَابُ مَا قَالَهُ الْجُنَيْد مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَالْكَلِمَةِ الْأُخْرَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّبِّ وَالْعَبْدِ وَهُوَ قَوْلُهُ : التَّوْحِيدُ إفْرَادُ الْحُدُوثِ عَنْ الْقِدَمِ . فَهَذَا رَدٌّ عَلَى الِاتِّحَادِيَّةِ وَالْحُلُولِيَّةِ مِنْهُمْ وَتِلْكَ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقِفُ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ مِنْهُمْ وَمَا أَكْثَرُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهَذَيْنِ مِنْهُمْ . ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُومُ بِهَذَا الْفَرْقِ لَكِنْ لِنَفْسِهِ وَهَوَاهُ لَا عِبَادَةً وَطَاعَةً لِلَّهِ فَهَذَا مِثْلُ مَنْ يُجَاهِدُ وَيَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ لِهَوَاهُ كَالْمُقَاتِلِ شَجَاعَةً وَحَمِيَّةً وَرِيَاءً وَذَاكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَأْمُرُ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ وَلَا يُجَاهِدُ هَذَا شَبِيهٌ بِالرَّاهِبِ وَذَاكَ شَبِيهٌ بِمَنْ لَمْ يَطْلُبْ إلَّا الدُّنْيَا ذَاكَ مُبْتَدِعٌ وَهَذَا فَاجِرٌ . وَقَدْ كَثُرَ فِي الْمُتَزَهِّدَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ الْبِدَعُ وَفِي الْمُعْرِضِينَ عَنْ ذَلِكَ طَلَبُ الدُّنْيَا وَطُلَّابُ الدُّنْيَا لَا يُعَارِضُونَ تَارِكَهَا إلَّا لِأَغْرَاضِهِمْ وَإِنْ كَانُوا مُبْتَدِعَةً وَأُولَئِكَ لَا يُعَارِضُونَ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا إلَّا لِأَغْرَاضِهِمْ فَتَبْقَى الْمُنَازَعَاتُ لِلدُّنْيَا
لَا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَلَا لِيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ بِخِلَافِ طَرِيقَةِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَكِلَاهُمَا خَارِجٌ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا آخِرُهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّ النُّصُوصَ لَا تَفِي بِعُشْرِ مِعْشَارِ الشَّرِيعَةِ : هَلْ قَوْلُهُ صَوَابٌ ؟ وَهَلْ أَرَادَ النَّصَّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ أَوْ الْأَلْفَاظَ الْوَارِدَةَ الْمُحْتَمَلَةَ ؟ وَمَنْ نَفَى الْقِيَاسَ وَأَبْطَلَهُ مِنْ الظَّاهِرِيَّةِ : هَلْ قَوْلُهُ صَوَابٌ ؟ وَمَا حُجَّتُهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ : النَّصُّ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَغَيْرِهِ وَهُوَ خَطَأٌ ؛ بَلْ الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النُّصُوصَ وَافِيَةٌ بِجُمْهُورِ أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّهَا وَافِيَةٌ بِجَمِيعِ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَعَانِيَ النُّصُوصِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ أَقْوَالُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَشُمُولُهَا لِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ وَقَاعِدَةٌ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً وَتِلْكَ الْأَنْوَاعُ تَتَنَاوَلُ أَعْيَانًا لَا تُحْصَى فَبِهَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ النُّصُوصُ مُحِيطَةً بِأَحْكَامِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ .
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا عَصِيرَ الْعِنَبِ خَاصَّةً ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا ذَلِكَ أَوْ حَرَّمَ مَعَهُ بَعْضَ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُحَرِّمُ عَصِيرَ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ الزَّبَدِ وَهَذَا الْخَمْرُ عِنْدَهُ وَيُحَرِّمُ الْمَطْبُوخَ مِنْهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ فَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يُحَرِّمْهُ . وَيُحَرِّمُ النِّيءَ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ فَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ حَلَّ عِنْدَهُ . وَهَذِهِ الْمُسْكِرَاتُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَتْ خَمْرًا عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهَا حَرَامٌ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَنْبِذَةِ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْهُ مَا يُسْكِرُ . وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَبِهِ أَفْتَى الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ : إمَّا فِي الِاسْمِ وَإِمَّا فِي الْحُكْمِ ؛ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي سَلَكَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد يَظُنُّونَ أَنَّ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ إنَّمَا كَانَ بِالْقِيَاسِ فِي الْأَسْمَاءِ أَوْ الْقِيَاسِ فِي الْحُكْمِ . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ : أَنَّ الْخَمْرَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ مُسْكِرٍ فَصَارَ تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ بِالنَّصِّ الْعَامِّ
وَالْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ لَا بِالْقِيَاسِ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ دَلِيلًا آخَرَ يُوَافِقُ النَّصَّ وَثَبَتَتْ أَيْضًا نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ : عِنْدَنَا شَرَابٌ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ : الْبِتْعُ وَشَرَابٌ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ : الْمِزْرُ ؟ قَالَ : وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } إلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ يَطُولُ وَصْفُهَا . وَعَلَى هَذَا فَتَحْرِيمُ مَا يُسْكِرُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ كَالْحَشِيشَةِ الْمُسْكِرَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَكَانَ هَذَا النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لِشُرْبِ الْأَنْوَاعِ الْمُسْكِرَةِ مِنْ أَيِّ مَادَّةٍ كَانَتْ ؟ مِنْ الْحُبُوبِ أَوْ الثِّمَارِ أَوْ مِنْ لَبَنِ الْخَيْلِ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ النَّصَّ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ خَمْرَ الْعِنَبِ قَالَ : إنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ هَذِهِ الْمُسْكِرَاتِ الَّتِي هِيَ فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ بَلْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ وَهَؤُلَاءِ غَلِطُوا فِي فَهْمِ النَّصِّ . وَمِمَّا يَبِينُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ أَنَّ الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمَتْ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ
مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ ؛ فَإِنَّ الْمَدِينَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَجَرُ الْعِنَبِ وَإِنَّمَا كَانَ عِنْدَهُمْ النَّخْلُ فَكَانَ خَمْرُهُمْ مِنْ التَّمْرِ وَلَمَّا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ أَرَاقُوا تِلْكَ الْأَشْرِبَةَ الَّتِي كَانَتْ مِنْ التَّمْرِ وَعَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ الشَّرَابَ هُوَ خَمْرٌ مُحَرَّمٌ فَعُلِمَ أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مَخْصُوصًا بِعَصِيرِ الْعِنَبِ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي لُغَتِهِمْ فَتَنَاوَلَ [ غَيْرَهُ ] (1) ؛ أَوْ كَانُوا عَرَفُوا التَّعْمِيمَ بِبَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ مُرَادَهُ فَإِنَّ الشَّارِعَ يَتَصَرَّفُ فِي اللُّغَةِ تَصَرُّفَ أَهْلِ الْعُرْفِ يَسْتَعْمِلُ اللَّفْظَ تَارَةً فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ وَتَارَةً فِيمَا هُوَ أَخَصُّ .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْمَيْسِرِ هُوَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ يَتَنَاوَلُ اللَّعِبَ بِالنَّرْدِ وَالشِّطْرَنْجِ وَيَتَنَاوَلُ بُيُوعَ الْغَرَرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى الْقِمَارِ الَّذِي هُوَ مَيْسِرٌ إذْ الْقِمَارُ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤْخَذَ مَالُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ عَلَى مُخَاطَرَةٍ هَلْ يَحْصُلُ لَهُ عِوَضُهُ أَوْ لَا يَحْصُلُ ؟ كَاَلَّذِي يَشْتَرِي الْعَبْدَ الْآبِقَ وَالْبَعِيرَ الشَّارِدَ وَحَبَلَ الْحَبَلَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ وَعَلَى هَذَا فَلَفْظُ الْمَيْسِرِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ وَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا فِيهِ مُخَاطَرَةٌ كَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَبَيْعِ الْأَجِنَّةِ فِي الْبُطُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ لَفْظُ الرِّبَا فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ رِبَا
النسأ وَرِبَا الْفَضْلِ ؛ وَالْقَرْضِ الَّذِي يَجُرُّ مَنْفَعَةً وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالنَّصُّ مُتَنَاوِلٌ لِهَذَا كُلِّهِ ؛ لَكِنْ يَحْتَاجُ فِي مَعْرِفَةِ دُخُولِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَعْيَانِ فِي النَّصِّ إلَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا الَّذِي يُسَمَّى : تَحْقِيقَ الْمَنَاطِ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَقَوْلُهُ : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَنَحْوَ ذَلِكَ يَعُمُّ بِلَفْظِهِ كُلَّ مُطَلَّقَةٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ فَهُوَ رَجْعِيٌّ وَلِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ الْمَرْأَةَ ثَلَاثًا وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا رَجْعِيًّا وَأَنَّ مَا كَانَ بَائِنًا فَلَيْسَ مِنْ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَلَا يَكُونُ الْخُلْعُ مِنْ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ ؛ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَكِنْ بَيْنَهُمْ نِزَاعٌ : هَلْ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَخْلُوَ الْخُلْعُ عَنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَنِيَّتِهِ أَوْ بِالْخُلُوِّ عَنْ لَفْظِهِ فَقَطْ ؛ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } و { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : كُلُّ يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا كَفَّارَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَتَنَاوَلُ النَّصُّ إلَّا الْحَلِفَ بِاسْمِ اللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَنْعَقِدُ وَلَا شَيْءَ فِيهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ
هِيَ أَيْمَانٌ يَلْزَمُ الْحَالِفَ بِهَا مَا الْتَزَمَهُ وَلَا تَدْخُلُ فِي النَّصِّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَمَنْ قَالَ : إنَّ النَّصَّ لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ جَمِيعِ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا رَأْيًا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَدْلُولَ النَّصِّ . وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِ النِّزَاعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إذَا طَلَبَ مَا يَفْصِلُ النِّزَاعَ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَدَ ذَلِكَ وَتَبَيَّنَ أَنَّ النُّصُوصَ شَامِلَةٌ لِعَامَّةِ أَحْكَامِ الْأَفْعَالِ . وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد يَقُولُ : إنَّهُ مَا مِنْ مَسْأَلَةٍ يُسْأَلُ عَنْهَا إلَّا وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِيهَا أَوْ فِي نَظِيرِهَا وَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَحْتَجُّونَ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِهِمْ بِالنُّصُوصِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ وَكَانُوا يَجْتَهِدُونَ رَأْيَهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالرَّأْيِ وَيَحْتَجُّونَ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ أَيْضًا .
وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ إلَّا فَرْقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الشَّرْعِ كَمَا ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصحيح أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْفَأْرَةِ وَذَلِكَ السَّمْنِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ أَيُّ نَجَاسَةٍ وَقَعَتْ فِي دُهْنٍ مِنْ الْأَدْهَانِ كَالْفَأْرَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الزَّيْتِ وَكَالْهِرِّ الَّذِي يَقَعُ فِي السَّمْنِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ تِلْكَ الْفَأْرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي السَّمْنِ . وَمَنْ قَالَ مِنْ
أَهْلِ الظَّاهِرِ : إنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخُصَّ الْحُكْمَ بِتِلْكَ الصُّورَةِ لَكِنْ لَمَّا اُسْتُفْتِيَ عَنْهَا أَفْتَى فِيهَا وَالِاسْتِفْتَاءُ إذَا وَقَعَ عَنْ قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ نَوْعٍ فَأَجَابَ الْمُفْتِي عَنْ ذَلِكَ خَصَّهُ لِكَوْنِهِ سُئِلَ عَنْهُ ؛ لَا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ . وَمِثْلُ هَذَا أَنَّهُ { سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مُضَمِّخَةٌ بِخَلُوقٍ فَقَالَ : انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك الْخَلُوقَ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت تَصْنَعُ فِي حَجِّك } فَأَجَابَهُ عَنْ الْجُبَّةِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ نَحْوُهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ :
أَنْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمٍ لِمَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي وَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَوْجُودًا فِي غَيْرِهِ فَإِذَا قَامَ دَلِيلٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ سُوِّيَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ هَذَا قِيَاسًا صَحِيحًا . فَهَذَانِ النَّوْعَانِ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ يستعملونهم ا وَهُمَا مِنْ بَابِ فَهْمِ مُرَادِ الشَّارِعِ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِكَلَامِ الشَّارِعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يُعْرَفَ ثُبُوتُ اللَّفْظِ عَنْهُ وَعَلَى أَنْ يُعْرَفَ مُرَادُهُ بِاللَّفْظِ وَإِذَا عَرَفْنَا مُرَادَهُ : فَإِنَّ عَلِمْنَا أَنَّهُ حُكْمٌ لِلْمَعْنَى الْمُشْتَرِكِ لَا لِمَعْنًى يَخُصُّ
الْأَصْلَ أَثْبَتْنَا الْحُكْمَ حَيْثُ وُجِدَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَصَدَ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِمَوْرِدِ النَّصِّ مَنَعْنَا الْقِيَاسَ كَمَا أَنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْحَجَّ خُصَّ بِهِ الْكَعْبَةُ وَأَنَّ الصِّيَامَ الْفَرْضَ خُصَّ بِهِ شَهْرُ رَمَضَانَ وَأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ خُصَّ بِهِ جِهَةُ الْكَعْبَةِ وَأَنَّ الْمَفْرُوضَ مِنْ الصَّلَوَاتِ خُصَّ بِهِ الْخَمْسَ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ هُنَا أَنْ نَقِيسَ عَلَى الْمَنْصُوصِ غَيْرَهُ . وَإِذَا عَيَّنَ الشَّارِعُ مَكَانًا أَوْ زَمَانًا لِلْعِبَادَةِ كَتَعْيِينِ الْكَعْبَةِ وَشَهْرِ رَمَضَانَ ؛ أَوْ عَيَّنَ بَعْضَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ كَتَعْيِينِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بَلْ وَتَعْيِينِ التَّكْبِيرِ وَأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِلْحَاقُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِهِ يُشْبِهُ حَالَ أَهْلِ الْيَمَنِ الَّذِينَ أَسْقَطُوا تَعْيِينَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَقَالُوا : الْمَقْصُودُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ السَّنَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ } . وَقِيَاسُ الْحَلَالِ بِالنَّصِّ عَلَى الْحَرَامِ بِالنَّصِّ مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَكَذَلِكَ قِيَاسُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَاسُوا الْمَيْتَةَ بِالْمُذَكَّى وَقَالُوا : أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ ؟ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } فَهَذِهِ الْأَقْيِسَةُ الْفَاسِدَةُ . وَكُلُّ قِيَاسٍ دَلَّ النَّصُّ عَلَى فَسَادِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ وَكُلُّ مَنْ أَلْحَقَ
مَنْصُوصًا بِمَنْصُوصٍ يُخَالِفُ حُكْمَهُ فَقِيَاسُهُ فَاسِدٌ وَكُلُّ مَنْ سَوَّى بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِغَيْرِ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقِيَاسُهُ فَاسِدٌ لَكِنْ مِنْ الْقِيَاسِ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ وَمِنْهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَمْرُهُ . فَمَنْ أَبْطَلَ الْقِيَاسَ مُطْلَقًا فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ وَمَنْ اسْتَدَلَّ بِالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ وَمَنْ اسْتَدَلَّ بِقِيَاسٍ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَا لَا يَعْلَمُ صِحَّتَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ رَجُلٍ مَجْهُولٍ لَا يَعْلَمُ عَدَالَتَهُ . فَالْحُجَجُ الْأَثَرِيَّةُ وَالنَّظَرِيَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى : مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ وَإِلَى مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ وَإِلَى مَا هُوَ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا . وَلَفْظُ النَّصِّ يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَلْفَاظَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَاهِرَةٌ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ : النُّصُوصُ تَتَنَاوَلُ أَحْكَامَ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ . وَيُرَادُ بِالنَّصِّ مَا دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ لَا تَحْتَمِلُ النَّقِيضَ كَقَوْلِهِ { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } و { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } فَالْكِتَابُ هُوَ النَّصُّ وَالْمِيزَانُ هُوَ الْعَدْلُ . وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ ؛ فَإِنَّهُ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَدَلَالَةُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ تُوَافِقُ دَلَالَةَ النَّصِّ فَكُلُّ قِيَاسٍ خَالَفَ دَلَالَةَ النَّصِّ فَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ وَلَا يُوجَدُ نَصٌّ يُخَالِفُ قِيَاسًا صَحِيحًا كَمَا لَا يُوجَدُ مَعْقُولٌ صَرِيحٌ يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ .
وَمَنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى غَالِبِ الْأَحْكَامِ بِالنُّصُوصِ وَبِالْأَقْيِسَةِ . فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ دَلَّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ كَمَا يَدُلُّ النَّصُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تُوقِعُ بَيْنَنَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَتَصُدُّنَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ كَمَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ شَرَابٍ وَشَرَابٍ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الْمُشْتَرِكَةِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَخُرُوجٌ عَنْ مُوجِبِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ كَمَا هُوَ خُرُوجٌ عَنْ مُوجِبِ النُّصُوصِ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ خِلَافُ الْقِيَاسِ لَكِنْ يَقُولُونَ : مَعَنَا آثَارٌ تُوَافِقُهُ اتَّبَعْنَاهَا وَيَقُولُونَ : إنَّ اسْمَ الْخَمْرِ لَمْ يَتَنَاوَلْ كُلَّ مُسْكِرٍ . وَغَلِطُوا فِي فَهْمِ النَّصِّ - وَإِنْ كَانُوا مُجْتَهِدِينَ مُثَابِينَ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ - وَمَعْرِفَةُ عُمُومِ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي النَّصِّ وَخُصُوصِهَا مِنْ مَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } . وَالْكَلَامُ فِي تَرْجِيحِ نفاة الْقِيَاسِ وَمُثْبِتِيهِ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ لَا تَحْتَمِلُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ بَسْطَهُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ :
فَصْل :
الْعِبَادَاتُ الْمَأْمُورُ بِهَا ؛ كَالْإِيمَانِ الْجَامِعِ وَكَشُعَبِهِ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ ؛ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ ؛ وَالْجِهَادِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ وَرُبَّمَا لَمْ يَشْرَعْ لَهَا إلَّا حَالَانِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إمَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الْوَاجِبِ فَقَطْ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْمُسْتَحَبِّ فِيهَا وَإِمَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ الْوَاجِبِ فِيهَا . فَالْأَوَّلُ حَالُ الْمُقْتَصِدِينَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ سَابِقًا فِي غَيْرِهَا . وَالثَّانِي حَالُ السَّابِقِ فِيهَا . وَالثَّالِثُ حَالُ الظَّالِمِ فِيهَا . وَالْعِبَادَةُ الْكَامِلَةُ تَارَةً تَكُونُ مَا أُدِّيَ فِيهَا الْوَاجِبُ وَتَارَةً مَا أَتَى فِيهَا بِالْمُسْتَحَبِّ . وَبِإِزَاءِ الْكَامِلَةِ النَّاقِصَةِ قَدْ يَعْنِي بِالنَّقْصِ نَقْصَ بَعْضِ وَاجِبَاتِهَا وَقَدْ يَعْنِي بِهِ تَرْكَ بَعْضِ مُسْتَحَبَّاتِهَا . فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْكَامِلِ بِمَا كَمُلَ بالمستحبات فَهُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ فِي الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْوُضُوءُ يَنْقَسِمُ : إلَى كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ . وَالْغُسْلُ يَنْقَسِمُ إلَى كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ . وَيُرِيدُونَ بِالْمُجْزِئِ الِاقْتِصَارَ
عَلَى الْوَاجِبِ وَبِالْكَامِلِ مَا أُتِيَ فِيهِ بِالْمُسْتَحَبِّ فِي الْعَدَدِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلِذَلِكَ اسْتَعْمَلُوا مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا : { إذَا قَالَ فِي رُكُوعِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمَ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ . وَإِذَا قَالَ فِي سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ سُجُودُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ } فَقَالُوا : أَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثُ تَسْبِيحَاتٍ يَعْنُونَ : أَدْنَى الْكَمَالِ الْمَسْنُونِ . وَقَالُوا : أَقَلُّ الْوِتْرِ رَكْعَةٌ وَأَدْنَى الْكَمَالِ ثَلَاثٌ فَجَعَلُوا لِلْكَمَالِ أَدْنَى وَأَعْلَى ؛ وَكِلَاهُمَا فِي الْكَمَالِ الْمَسْنُونِ لَا الْمَفْرُوضِ . ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ فِي حَرْفِ النَّفْيِ الدَّاخِلِ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ الشَّرْعِيَّةِ كَقَوْلِهِ : { لَا قِرَاءَةَ إلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ } { وَلَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ } { وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ } { وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُذْكَرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } فَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُونَ : هُوَ لِنَفْيِ الْفِعْلِ فَلَا يُجْزِئُ مَعَ هَذَا النَّفْيُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ لِنَفْيِ الْكَمَالِ . يُرِيدُونَ نَفْيَ الْكَمَالِ الْمَسْنُونِ . وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِمَا كَمُلَ بِالْوَاجِبِ فَهُوَ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ لَكِنْ الْمَوْجُودُ فِيهِ كَثِيرًا لَفْظُ التَّمَامِ كَقَوْلِهِ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وَالْمُرَادُ بِالْإِتْمَامِ الْوَاجِبِ الْإِتْمَامُ بِالْوَاجِبَاتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إلَى اللَّيْلِ } وَقَوْلُهُ . { لَا تَتِمُّ صَلَاةُ عِيدٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ } الْحَدِيثَ . وَقَوْلُهُ : { فَمَا انْتَقَصْت مِنْ هَذَا فَقَدْ انْتَقَصْت مِنْ صَلَاتِك } وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي إتْمَامِ الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : هُوَ أَمْرٌ مُطْلَقٌ بِالْإِتْمَامِ وَاجِبُهُ وَمُسْتَحَبُّهُ فَمَا كَانَ وَاجِبًا فَالْأَمْرُ بِهِ إيجَابٌ وَمَا كَانَ مُسْتَحَبًّا فَالْأَمْرُ بِهِ اسْتِحْبَابٌ وَجَاءَ لَفْظُ التَّمَامِ فِي قَوْلِهِ : { فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ } وَقَوْلُهُ : { أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ إقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ } وَرُوِيَ { مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ } . وَالنَّقْصُ بِإِزَاءِ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ كَقَوْلِهِ : { مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ } فَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : هُوَ نَقْصُ الْوَاجِبَاتِ ؛ لِأَنَّ الْخِدَاجَ هُوَ النَّاقِصُ فِي أَعْضَائِهِ وَأَرْكَانِهِ . وَآخَرُونَ يَقُولُونَ : هُوَ النَّاقِصُ عَنْ كَمَالِهِ الْمُسْتَحَبِّ . فَإِنَّ النَّقْصَ يُسْتَعْمَلُ فِي نَقْصِ الِاسْتِحْبَابِ كَثِيرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَقْسِيمِ الْفُقَهَاءِ الطَّهَارَةَ إلَى كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ لَيْسَ بِكَامِلِ وَمَا لَيْسَ بِكَامِلٍ فَهُوَ نَاقِصٌ . وَقَوْلُهُ : { فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ وَسُجُودُهُ وَذَلِكَ أَدْنَاهُ } وَمَا لَمْ يَتِمَّ فَهُوَ نَاقِصٌ وَإِنْ كَانَ مُجْزِئًا .
ثُمَّ النَّقْصُ عَنْ الْوَاجِبِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ كَنَقْصِ أَرْكَانِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ . وَنَقْصٌ لَا يُبْطِلُهَا كَنَقْصِ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَرْكَانِ ؛ وَنَقْصِ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ إذَا تَرَكَهَا سَهْوًا عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَحْمَد وَنَقْصُ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يُسَمِّيه أَبُو حَنِيفَةَ فِيهَا مُسِيئًا وَلَا تَبْطُلُ
صَلَاتُهُ كَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَنَحْوِهَا . وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ فِي " مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ وَخِلَافُ الْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَإِنْ كَانَ اسْمًا لِدِينِ اللَّهِ الَّذِي أَكْمَلَهُ بِقَوْلِهِ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } . وَهُوَ اسْمٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَلِلْبِرِّ وَلِلْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهُوَ جَمِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ التَّامُّ ؛ وَكَمَالُهُ نَوْعَانِ : كَمَالُ الْمُقَرَّبِينَ وَهُوَ الْكَمَالُ بِالْمُسْتَحَبِّ وَكَمَالُ الْمُقْتَصِدِينَ وَهُوَ الْكَمَالُ بِالْوَاجِبِ فَقَطْ . وَإِذَا قُلْنَا فِي مِثْلِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } و { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَوْلِهِ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } إذَا قَالَ الْقَائِلُ فِي مِثْلِ هَذَا : لَيْسَ بِمُؤْمِنِ كَامِلِ الْإِيمَانِ ؛ أَوْ نَفَى عَنْهُ كَمَالَ الْإِيمَانِ لَا أَصْلَهُ ؛ فَالْمُرَادُ بِهِ كَمَالُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لَيْسَ بِكَمَالِ الْإِيمَانِ الْمُسْتَحَبِّ كَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ أَوْ ارْتَكَبَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ غَيْرَ الْوَطْءِ لَيْسَ هَذَا مِثْلَ قَوْلِنَا : غُسْلٌ كَامِلٌ وَوُضُوءٌ كَامِلٌ وَأَنَّ الْمُجْزِئَ مِنْهُ لَيْسَ
بِكَامِلٍ ذَاكَ نَفْيُ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ . وَكَذَا الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ هُوَ الْمُؤَدِّي لِلْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ إيمَانِهِ نَاقِصًا عَنْ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا حَابِطًا كَمَا فِي الْحَجِّ وَلَا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ كَمَا تَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ وَلَا أَنْ يُقَالَ : وَلَوْ أَدَّى الْوَاجِبَ لَمْ يَكُنْ إيمَانُهُ كَامِلًا فَإِنَّ الْكَمَالَ الْمَنْفِيَّ هُنَا الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ . فَهَذَا فُرْقَانٌ يُزِيلُ الشُّبْهَةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَيُقَرِّرُ النُّصُوصَ كَمَا جَاءَتْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا كَمَا تَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ وَلَا أَنْ يُقَالَ : صَارَ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ كَافِرًا كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ هَذَا الِاسْمَ الْمُضْمَرَ يَنْصَرِفُ إطْلَاقُهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ بِلَا عِقَابٍ وَلَهُمْ الْمُوَالَاةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمَحَبَّةُ الْمُطْلَقَةُ وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ دَرَجَاتٌ فِي ذَلِكَ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ الْمُسْتَحَبِّ فَإِذَا غَشَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ حَقِيقَةً ؛ لِنَقْصِ إيمَانِهِ الْوَاجِبِ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّونَ الثَّوَابَ الْمُطْلَقَ بِلَا عِقَابٍ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ مُطْلَقًا بَلْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مُشَارَكَتَهُمْ فِي بَعْضِ الثَّوَابِ وَمَعَهُ مِنْ الْكَبِيرَةِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ كَمَا يَقُولُ مَنْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا لِيَعْمَلُوا عَمَلًا ؛ فَعَمِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْوَقْتِ فَعِنْدَ التَّوْفِيَةِ يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ : هَذَا لَيْسَ مِنَّا فَلَا يَسْتَحِقُّ
الْأَجْرَ الْكَامِلَ ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ . وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنْت ارْتِبَاطَهَا بِقَاعِدَةٍ كَبِيرَةٍ فِي أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ أَوْ الْعَمَلَ الْوَاحِدَ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ وَجْهٍ مَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ ؛ وَقَدْ وَافَقَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ : مُتَكَلِّمِيهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ ؛ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ ؛ فِي مَسْأَلَةِ الْعَمَلِ الْوَاحِدِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَقَالُوا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ . وَإِنْ كَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ لَا يُجْزِئُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يُجْزِئُ كَقَوْلِ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ لَكِنْ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَهَا عَقْلِيَّةً وَرَأَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَقْلًا وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ كَابْنِ الْبَاقِلَانِي وَابْنِ الْخَطِيبِ .
فَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ : فِي الْإِمْكَانِ الْعَقْلِيِّ ؛ وَفِي الْإِجْزَاءِ الشَّرْعِيِّ . وَالنَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَمْتَنِعُ عَقْلًا وَيَبْطُلُ شَرْعًا . وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ
مُتَكَلِّمِي أَصْحَابِنَا وَفُقَهَائِهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَجُوزُ عَقْلًا لَكِنَّ الْمَانِعَ سَمْعِيٌّ . وَهَذَا قَدْ يَقُولُهُ أَيْضًا مَنْ لَا يَرَى الْإِجْزَاءَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَهُوَ أَشْبَهُ عِنْدِي بِقَوْلِ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ أُصُولَهُ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُشْبِهُ أُصُولَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ عَقْلًا وَسَمْعًا كَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ عَقْلًا لَكِنْ يَقُولُ : وَرَدَ سَمْعًا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْبَاقِلَانِي وَأَبِي الْحَسَنِ وَابْنِ الْخَطِيبِ زَعَمُوا أَنَّ الْعَقْلَ يَمْنَعُ كَوْنَ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مَأْمُورًا بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلَكِنْ لَمَّا دَلَّ السَّمْعُ : إمَّا الْإِجْمَاعُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ قَالُوا : حَصَلَ الْإِجْزَاءُ عِنْدَهُ لَا بِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَفْسَدُ الْأَقْوَالِ . وَالصَّوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الْعَقْلِ فَأَمَّا الْوُقُوعُ السَّمْعِيُّ فَيَرْجِعُ فِيهِ إلَى دَلِيلِهِ وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مَحْبُوبًا مَكْرُوهًا ؛ مَرْضِيًّا مَسْخُوطًا مَأْمُورًا بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ ؛ مُقْتَضِيًا لِلْحَمْدِ وَالثَّوَابِ وَالذَّمِّ وَالْعِقَابِ لَيْسَ هُوَ مِنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ كَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ ؛ وَالْمُتَحَرِّكِ وَالسَّاكِنِ وَالْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ؛ وَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ كَلَامٌ أَيْضًا . وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ
الصِّفَاتِ الَّتِي فِيهَا إضَافَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ إلَى الْغَيْرِ مِثْلَ كَوْنِ الْفِعْلِ نَافِعًا وَضَارًّا وَمَحْبُوبًا وَمَكْرُوهًا وَالنَّافِعُ هُوَ الْجَالِبُ لِلَذَّةِ . وَالضَّارُّ هُوَ الْجَالِبُ لِلْأَلَمِ وَكَذَلِكَ الْمَحْبُوبُ هُوَ الَّذِي فِيهِ فَرَحٌ وَلَذَّةٌ لِلْمُحِبِّ مَثَلًا ؛ وَالْمَكْرُوهُ هُوَ الَّذِي فِيهِ أَلَمٌ لِلْكَارِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ مَعْنَاهُ الْمَنْفَعَةُ وَالْمَضَرَّةُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ يَعُودَانِ إلَى الْمَطْلُوبِ وَالْمَكْرُوهِ ؛ فَهَذِهِ صِفَةٌ فِي الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفَاعِلِ أَوْ غَيْرِهِ وَهَذِهِ صِفَةٌ فِي الْفِعْلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْآمِرِ النَّاهِي .
وَلِهَذَا قُلْت غَيْرَ مَرَّةٍ : إنَّ حُسْنَ الْفِعْلِ يَحْصُلُ مِنْ نَفْسِهِ تَارَةً وَمِنْ الْآمِرِ تَارَةً وَمِنْ مَجْمُوعِهِمَا تَارَةً . وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ الَّذِينَ يَمْنَعُونَ النَّسْخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ لَا يُثْبِتُونَ إلَّا الْأَوَّلَ وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ لِلْفِعْلِ صِفَةً إلَّا إضَافَةً لِتَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ لَا يُثْبِتُونَ إلَّا الثَّانِيَ . وَالصَّوَابُ إثْبَاتُ الْأَمْرَيْنِ . وَقَدْرٌ زَائِدٌ يَحْصُلُ لِلْفِعْلِ مِنْ جِنْسِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ غَيْرَ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ وَيَحْصُلُ لِلْفِعْلِ بَعْدَ الْحُكْمِ فَالْخِطَابُ مُظْهِرٌ تَارَةً وَمُؤَثِّرٌ تَارَةً وَجَامِعٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ تَارَةً . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَحْنُ نَعْقِلُ وَنَجِدُ أَنَّ الْفِعْلَ الْوَاحِدَ مِنْ الشَّخْصِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ يَجْلِبُ لَهُ مَنْفَعَةً وَمَضَرَّةً مَعًا وَالرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ عَدُوَّانِ
يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيُسَرُّ مِنْ حَيْثُ عُدِمَ عَدْوٌ وَيُسَاءُ مِنْ حَيْثُ غَلَبَ عَدُوٌّ . وَيَكُونُ لَهُ صَدِيقَانِ يَعْزِلُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيُسَاءُ مِنْ حَيْثُ انْعِزَالِ الصَّدِيقِ ؛ وَيُسَرُّ مِنْ حَيْثُ تَوَلِّي صَدِيقٍ . وَأَكْثَرُ أُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ هَذَا ؛ فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْمَحْضَةَ نَادِرَةٌ فَأَكْثَرُ الْحَوَادِثِ فِيهَا مَا يَسُوءُ وَيَسُرُّ فَيَشْتَمِلُ الْفِعْلُ عَلَى مَا يُنْفَعُ وَيُحَبُّ وَيُرَادُ وَيُطْلَبُ . وَعَلَى مَا يُضَرُّ وَيُبْغَضُ وَيُكْرَهُ وَيُدْفَعُ . وَكَذَلِكَ الْآمِرُ يَأْمُرُ بِتَحْصِيلِ النَّافِعِ وَيَنْهَى عَنْ تَحْصِيلِ الضَّارِّ فَيَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَيَنْهَى عَنْ الْغَصْبِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْمَضَرَّةِ . فَإِذَا قَالُوا : الْمُمْتَنِعُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَيَقُولُ : صَلِّ هُنَا وَلَا تُصَلِّ هُنَا ؛ فَإِنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَقَدْ يُقَالُ لَهُمْ : الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ مُمْتَنِعٌ فِي الْخَبَرِ فَإِذَا قُلْت : صَلَّى زَيْدٌ هُنَا لَمْ يُصَلِّ هُنَا امْتَنَعَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ هُنَا إمَّا أَنْ تَكُونَ وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ وَكَوْنُهَا هُوَ عَيْنُهَا وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ وَتَعَلُّقٌ فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالطَّلَبِ وَالدَّفْعِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْبِغْضَةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ فَهَذَا لَا يَمْتَنِعُ ؛ فَإِنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ مُرَادًا وَيَكُونُ عَدَمُهُ مُرَادًا أَيْضًا . إذَا كَانَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ لِلْمُرِيدِ وَيَكُونُ أَيْضًا وُجُودُهُ أَوْ عَدَمُهُ مُرَادًا مَكْرُوهًا بِحَيْثُ يَلْتَذُّ الْعَبْدُ وَيَتَأَلَّمُ بِوُجُودِهِ وَبِعَدَمِهِ كَمَا قِيلَ :
الشَّيْبُ كُرْهٌ وَكُرْهٌ أَنْ نُفَارِقَهُ * * * فَاعْجَبْ لِشَيْءٍ عَلَى الْبَغْضَاءِ مَحْبُوبُ
فَهُوَ يَكْرَهُ الشَّيْبَ وَيَبْغُضُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ زَوَالِ الشَّبَابِ النَّافِعِ وَوُجُودِ الْمَشِيبِ الضَّارِّ وَهُوَ يُحِبُّهُ أَيْضًا وَيَكْرَهُ عَدَمَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُودِ الْحَيَاةِ وَفِي عَدَمِهِ مِنْ الْفَنَاءِ .
وَهَذِهِ حَالُ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَمَفْسَدَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمُورِ لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يُؤْمَرُ بِعَيْنِهَا وَيَنْهَى عَنْ عَيْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ فَإِنَّهُ تَكْلِيفٌ لِلْفَاعِلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ وُجُودِ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ وَعَدِمِهِ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقَةٌ وَيَنْهَى عَنْ الْكَوْنِ فِي الْبُقْعَةِ فَيَكُونُ مَوْرِدُ الْأَمْرِ غَيْرَ مَوْرِدِ النَّهْي وَلَكِنْ تَلَازَمَا فِي الْمُعَيَّنِ وَالْعَبْدُ هُوَ الَّذِي جَمَعَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا أَنَّ الشَّارِعَ أَمَرَهُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَأَمَرَهُ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ وَنَهَاهُ عَنْ كَوْنٍ مُطْلَقٍ . وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَالشَّارِعُ لَا يَأْمُرُ بِهِ وَلَا يَنْهَى عَنْهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَيَّنَاتِ وَهَذَا أَصْلٌ مُطَّرِدٌ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْمُطْلَقَاتِ بَلْ فِي كُلِّ أَمْرٍ ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَمَرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ كَقَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أَوْ بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا ؛ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ بِصَلَاةٍ فِي مَكَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِثَالُ إلَّا بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَإِطْعَامِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ لِمَسَاكِينَ مُعَيَّنِينَ وَصِيَامِ أَيَّامٍ مُعَيَّنَةٍ وَصَلَاةٍ
مُعَيَّنَةٍ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَالْمُعَيَّنُ فِي جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَ مَأْمُورًا بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا الْمَأْمُورُ بِهِ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ يَحْصُلُ بِالْمُعَيَّنِ . فَالْمُعَيَّنُ فِيهِ شَيْئَانِ : خُصُوصُ عَيْنِهِ وَالْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ فَالْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ هِيَ الْوَاجِبَةُ وَأَمَّا خُصُوصُ الْعَيْنِ فَلَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مَأْمُورًا بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ أَحَدُ الْأَعْيَانِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْمُطْلَقُ ؛ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ إلَى مَكَّةَ وَلَا قَصْدَ لِلْآمِرِ فِي خُصُوصِ التَّعْيِينِ . وَهَذَا الْكَلَامُ مَذْكُورٌ فِي مَسْأَلَةِ الْوَاجِبِ عَلَى التَّخْيِيرِ وَالْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ وَالْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا : أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ قَدْ أُمِرَ فِيهِ بِأَحَدِ أَشْيَاءَ مَحْصُورَةٍ وَالْمُطْلَقُ لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِأَحَدِ أَشْيَاءَ مَحْصُورَةٍ ؛ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالْمُطْلَقِ . وَلِهَذَا اُخْتُلِفَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ فِيهِ : هَلْ الْوَاجِبُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ كَالْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ ؟ أَوْ الْوَاجِبُ هُوَ الْمُشْتَرَكُ وَالْمُمَيَّزُ أَيْضًا عَلَى التَّخْيِيرِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَالْمُشْتَرِكُ هُوَ كَوْنُهُ أَحَدَهَا فَعَلَى هَذَا مَا تَمَيَّزَ بِهِ أَحَدُهَا عَنْ الْآخَرِ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ بِخِلَافِ مَا إذَا قِيلَ الْمُتَمَيِّزُ وَاجِبٌ أَيْضًا عَلَى الْبَدَلِ وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِلْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزَةِ بِقَصْدِ لَكِنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْوَاقِعِ فَهُوَ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَهُوَ وَإِنْ قِيلَ : هُوَ وَاجِبٌ فَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ فَاخْتِيَارُهُ لِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ لَا يَجْعَلُهُ وَاجِبًا عَيْنًا فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ تَعْيِينَ عَيْنِ الْفِعْلِ وَعَيْنَ الْمَكَانِ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فَإِذَا نُهِيَ
عَنْ الْكَوْنِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَدْ أُمِرَ بِهِ ؛ إذْ الْمَأْمُورُ بِهِ مُطْلَقٌ وَهَذَا الْمُعَيَّنُ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِهِ الِامْتِثَالُ كَمَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ : إنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَاحَ الِامْتِثَالُ بِهِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ قِيلَ : وَلَا يَجِبُ أَنْ يُبَاحَ الِامْتِثَالُ بِهِ بَلْ يَكْفِي أَنْ لَا يَنْهَى عَنْ الِامْتِثَالِ بِهِ فَمَا بِهِ يُؤَدِّي الْوَاجِبَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إيجَابٍ وَلَا إلَى إبَاحَةٍ بَلْ يَكْفِي أَنْ لَا يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْ الِامْتِثَالِ بِهِ فَإِذَا نَهَاهُ عَنْ الِامْتِثَالِ بِهِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ دَاخِلًا فِيهِ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ . فَهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : أَنْ يَكُونَ مَا بِهِ يَمْتَثِلُ وَاجِبًا كَإِيجَابِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِالْإِمْسَاكِ فِيهِ عَنْ الْوَاجِبِ . وَأَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أُبِيحَ لَهُ نَوْعُ كَلٍّ مِنْهَا وَكَمَا لَوْ قَالَ : أَطْعِمْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا . وَأَنْ لَا يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَالصِّيَامِ الْمُطْلَقِ وَالْعِتْقِ الْمُطْلَقِ فَالْمُعَيَّنُ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَلَا مُبَاحًا بِخِطَابٍ بِعَيْنِهِ إذْ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ . وَالرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَالنَّهْيِ عَنْ الْأَضَاحِيّ الْمَعِيبَةِ وَإِعْتَاقِ
الْكَافِرِ ؛ فَإِذَا صَلَّى فِي مَكَانٍ مُبَاحٍ كَانَ مُمْتَثِلًا لِإِتْيَانِهِ بِالْوَاجِبِ بِمُعَيَّنٍ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَإِذَا صَلَّى فِي الْمَغْصُوبِ فَقَدْ يُقَالُ : إنَّمَا نُهِيَ عَنْ جِنْسِ الْكَوْنِ فِيهِ لَا عَنْ خُصُوصِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَقَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ بِمَا لَمْ يُنْهَ عَنْ الِامْتِثَالِ بِهِ لَكِنْ نُهِيَ عَنْ جِنْسِ فِعْلِهِ فَبِهِ اجْتَمَعَ فِي الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَةِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْكَوْنِ الْمُطْلَقِ فَهُوَ مُطِيعٌ عَاصٍ . وَلَا نَقُولُ : إنَّ الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ مَأْمُورٌ بِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَكِنْ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَمَا لَوْ صَلَّى مُلَابِسًا لِمَعْصِيَةٍ مِنْ حَمْلٍ مَغْصُوبٍ . وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الِامْتِثَالِ بِهِ كَمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الِامْتِثَالِ بِالصَّلَاةِ فِي الْمَكَانِ النَّجِسِ وَالثَّوْبِ النَّجِسِ ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْجِنْسِ نَهْيٌ عَنْ أَنْوَاعِهِ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْ بَعْضِ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذَا كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ أَبْعَاضِهَا كَالثَّوْبِ الْمَحْمُولِ فَالْحَمْلُ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ . فَهَذَا مَحَلُّ نَظَرِ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ مَحَلٌّ لِلِاجْتِهَادِ . لَا أَنَّ عَيْنَ هَذِهِ الْأَكْوَانِ هِيَ مَأْمُورٌ بِهَا وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا بَلْ عَيْنُهَا وَإِنْ كَانَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا فَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَيْسَ مَا اشْتَمَلَ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ الْمُطْلَقِ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ . ثُمَّ يُقَالُ : وَلَوْ نُهِيَ عَنْ الِامْتِثَالِ عَلَى وَجْهٍ مُعَيَّنٍ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ :
صَلِّ وَلَا تُصَلِّ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ وَخِطْ هَذَا الثَّوْبَ وَلَا تَخِطْهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَخَاطَ فِيهِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا أُمِرَ لَكِنْ هَلْ يُقَالُ : أَتَى بِبَعْضِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ ؟ وَهُوَ مُطْلَقُ الصَّلَاةِ وَالْخِيَاطَةِ دُونَ وَصْفِهِ أَوْ مَعَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ بِحَيْثُ يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ وَإِنْ لَمْ يُسْقِطْ الْوَاجِبَ أَوْ عُوقِبَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ؟ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ وَبَيَّنْت أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَهِيَ تُشْبِهُ مَسْأَلَةَ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ بِعَدَمِ الْفَسَادِ . وَأَنَّ الْإِجْزَاءَ وَالْإِثَابَةَ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ فَالْإِجْزَاءُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ وَهُوَ السَّلَامَةُ مِنْ ذَمِّ الرَّبِّ أَوْ عِقَابِهِ . وَالثَّوَابُ الْجَزَاءُ عَلَى الطَّاعَةِ . وَلَيْسَ الثَّوَابُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ مُجَرَّدِ الِامْتِثَالِ بِخِلَافِ الْإِجْزَاءِ ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي إجْزَاءَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَكِنْ هُمَا مُجْتَمَعَانِ فِي الشَّرْعِ ؛ إذْ قَدْ اسْتَقَرَّ فِيهِ أَنَّ الْمُطِيعَ مُثَابٌ وَالْعَاصِيَ مُعَاقَبٌ . وَقَدْ يَفْتَرِقَانِ فَيَكُونُ الْفِعْلُ مُجْزِئًا لَا ثَوَابَ فِيهِ إذَا قَارَنَهُ مِنْ الْمَعْصِيَةِ مَا يُقَابِلُ الثَّوَابَ كَمَا قِيلَ : { رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْعَطَشُ وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ } فَإِنَّ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فِي الصِّيَامِ أَوْجَبَ إثْمًا يُقَابِلُ ثَوَابَ الصَّوْمِ وَقَدْ اشْتَمَلَ الصَّوْمُ عَلَى الِامْتِثَالِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْعَمَلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَبَرِئَتْ الذِّمَّةُ لِلِامْتِثَالِ وَوَقَعَ الْحِرْمَانُ لِلْمَعْصِيَةِ . وَقَدْ يَكُونُ مُثَابًا عَلَيْهِ غَيْرَ مُجْزِئٍ إذَا فَعَلَهُ نَاقِصًا عَنْ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ فَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ وَلَا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ إلَّا بِفِعْلِهِ كَامِلًا .
وَهَذَا تَحْرِيرٌ جَيِّدٌ أَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ فَإِنْ قَارَنَهُ مَعْصِيَةٌ بِقَدْرِهِ تُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ قَابَلَ الثَّوَابَ وَإِنْ نَقَّصَ الْمَأْمُورَ بِهِ أُثِيبَ وَلَمْ تَحْصُلْ الْبَرَاءَةُ التَّامَّةُ فَإِمَّا أَنْ يُعَادَ ؛ وَإِمَّا أَنْ يُجْبَرَ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَأْثَمَ . فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مِثْلُ الْمَحْبُوبِ الْمَطْلُوبِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ تَامًّا لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُورُ بَرِيئًا مِنْ الْعُهْدَةِ فَنَقْصُهُ إمَّا أَنْ يُجْبَرَ بِجِنْسِهِ أَوْ بِبَدَلٍ أَوْ بِإِعَادَةِ الْفِعْلِ كَامِلًا إذَا كَانَ مُرْتَبِطًا وَإِمَّا أَنْ يَبْقَى فِي الْعُهْدَةِ كَرُكُوبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . فَالْأَوَّلُ : مِثْلُ مَنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ نَاقِصًا ؛ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ التَّمَامَ . وَالثَّانِي : مِثْلُ مَنْ تَرَكَ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ ؛ فَإِنَّهُ يُجْبِرُ بِالدَّمِ ؛ وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ الْمَجْبُورَةِ بِالسُّجُودِ . وَالثَّالِثُ : مِثْلُ مَنْ ضَحَّى بِمَعِيبَةٍ أَوْ أَعْتَقَ مَعِيبًا أَوْ صَلَّى بِلَا طَهَارَةٍ . وَالرَّابِعُ : مِثْلُ مَنْ فَوَّتَ الْجُمُعَةَ وَالْجِهَادَ الْمُتَعَيَّنَ . وَإِذَا حَصَلَ مُقَارِنًا لِمَحْظُورٍ يُضَادُّ بَعْضَ أَجْزَائِهِ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ كَالْوَطْءِ فِي الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يُفْسِدُهُ وَإِنْ لَمْ يُضَادَّ بَعْضَ الْأَجْزَاءِ يَكُونُ
قَدْ اجْتَمَعَ الْمَأْمُورُ وَالْمَحْظُورُ كَفِعْلِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فِيهِ أَوْ فِعْلِ قَوْلِ الزُّورِ وَالْعَمَلِ بِهِ فِي الصِّيَامِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ فِي الْمَحْظُورِ كَالْمَأْمُورِ ؛ إذْ الْمَأْمُورُ بِهِ إذَا تَرَكَهُ يَسْتَدْرِكُ تَارَةً بِالْجُبْرَانِ وَالتَّكْمِيلِ ؛ وَتَارَةً بِالْإِعَادَةِ ؛ وَتَارَةً لَا يَسْتَدْرِكُ بِحَالِ . وَالْمَحْظُورُ كَالْمَأْمُورِ إمَّا أَنْ يُوجِبَ فَسَادَهُ فَيَكُونُ فِيهِ الْإِعَادَةُ ؛ أَوْ لَا يَسْتَدْرِكُ . وَإِمَّا أَنْ يُوجِبَ نَقْصَهُ مَعَ الْإِجْزَاءِ فَيُجْبِرُ أَوْ لَا يُجْبِرُ وَإِمَّا أَنْ يُوجِبَ إثْمًا فِيهِ يُقَابِلُ ثَوَابَهُ . فَالْأَوَّلُ كَإِفْسَادِ الْحَجِّ وَالثَّانِي كَإِفْسَادِ الْجُمُعَةِ وَالثَّالِثُ كَالْحَجِّ مَعَ مَحْظُورَاتِهِ وَالرَّابِعُ كَالصَّلَاةِ مَعَ مُرُورِ الْمُصَلِّي أَمَامَهُ وَالْخَامِسُ كَالصَّوْمِ مَعَ قَوْلِ الزُّورِ وَالْعَمَلِ بِهِ . فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَسْأَلَةُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ وَالْفَاعِلِ الْوَاحِدِ وَالْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ هَلْ يَجْتَمِعُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا مَذْمُومًا ؛ مَرْضِيًّا مَسْخُوطًا ؛ مَحْبُوبًا مُبْغَضًا ؛ مُثَابًا مُعَاقَبًا ؛ مُتَلَذِّذًا مُتَأَلِّمًا ؛ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا ؟ وَالِاجْتِمَاعُ مُمْكِنٌ مِنْ وَجْهَيْنِ لَكِنْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ مُتَعَذِّرٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } .
فَصْل :
قَدْ كَتَبْت فِيمَا قَبْلَ هَذَا مُسَمَّى الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى :
مَا أَخْبَرَ بِهِ الشَّارِعُ أَوْ عُرِفَ بِخَبَرِهِ وَإِلَى مَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ . وَاَلَّذِي أَخْبَرَ بِهِ يَنْقَسِمُ : إلَى مَا دَلَّ عَلَى عِلْمِهِ بِالْعَقْلِ ؛ وَإِلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ . وَاَلَّذِي أَمَرَ بِهِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَفَادًا بِالْعَقْلِ ؛ أَوْ مُسْتَفَادًا بِالشَّرْعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ . أَوْ لَازِمًا لِلْمَقْصُودِ . وَكَذَلِكَ اسْمُ الشَّرِيعَةِ وَالشَّرْعِ وَالشِّرْعَةِ فَإِنَّهُ يَنْتَظِمُ كُلَّ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ وَقَدْ صَنَّفَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الآجري " كِتَابَ الشَّرِيعَةِ " وَصَنَّفَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ بَطَّةَ " كِتَابَ الْإِبَانَةِ عَنْ شَرِيعَةِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ " وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا مَقْصُودُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي السُّنَّةِ بِاسْمِ الشَّرِيعَةِ : الْعَقَائِدُ الَّتِي يَعْتَقِدُهَا أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْلَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَأَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ وَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَأَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُجَرَّدِ الذُّنُوبِ وَيُؤْمِنُونَ بِالشَّفَاعَةِ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَسَمَّوْا أُصُولَ اعْتِقَادِهِمْ شَرِيعَتَهُمْ وَفَرَّقُوا بَيْنَ شَرِيعَتِهِمْ وَشَرِيعَةِ غَيْرِهِمْ . وَهَذِهِ الْعَقَائِدُ الَّتِي يُسَمِّيهَا هَؤُلَاءِ الشَّرِيعَةَ هِيَ الَّتِي يُسَمِّي غَيْرُهُمْ عَامَّتَهَا " الْعَقْلِيَّاتِ " و " عِلْمَ الْكَلَامِ " أَوْ يُسَمِّيهَا الْجَمِيعُ " أُصُولَ الدِّينِ " وَيُسَمِّيهَا بَعْضُهُمْ " الْفِقْهَ الْأَكْبَرَ " وَهَذَا نَظِيرُ تَسْمِيَةِ سَائِرِ الْمُصَنِّفِينَ فِي هَذَا الْبَابِ " كِتَابَ السُّنَّةِ " كَالسُّنَّةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد وَالْخَلَّالِ والطَّبَرَانِي وَالسُّنَّةِ للجعفي وَلِلْأَثْرَمِ وَلِخَلْقِ كَثِيرٍ صَنَّفُوا فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ وَسَمَّوْا ذَلِكَ كُتُبَ السُّنَّةِ لِيُمَيِّزُوا بَيْنَ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَعَقِيدَةِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ . فَالسُّنَّةُ كَالشَّرِيعَةِ هِيَ : مَا سَنَّهُ الرَّسُولُ وَمَا شَرَعَهُ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا سَنَّهُ وَشَرَعَهُ مِنْ الْعَقَائِدِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا سَنَّهُ وَشَرَعَهُ مِنْ الْعَمَلِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ كِلَاهُمَا . فَلَفْظُ السُّنَّةِ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ كَلَفْظِ الشِّرْعَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ فِي قَوْلِهِ : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } سُنَّةً وَسَبِيلًا . فَفَسَّرُوا الشِّرْعَةَ بِالسُّنَّةِ وَالْمِنْهَاجَ بِالسَّبِيلِ . وَاسْمُ " السُّنَّةِ " و " الشِّرْعَةِ " قَدْ يَكُونُ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَقْوَالِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَقَاصِدِ وَالْأَفْعَالِ . فَالْأُولَى فِي طَرِيقَةِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ
وَالثَّانِيَةُ فِي طَرِيقَةِ الْحَالِ وَالسَّمَاعِ وَقَدْ تَكُونُ فِي طَرِيقَةِ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالسِّيَاسَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ . فَالْمُتَكَلِّمَةُ جَعَلُوا بِإِزَاءِ الشَّرْعِيَّاتِ الْعَقْلِيَّاتِ أَوْ الْكَلَامِيَّاتِ وَالْمُتَصَوِّفَةُ جَعَلُوا بِإِزَائِهَا الذَّوْقِيَّاتِ وَالْحَقَائِقَ وَالْمُتَفَلْسِفَة جَعَلُوا بِإِزَاءِ الشَّرِيعَةِ الْفَلْسَفَةَ وَالْمُلُوكُ جَعَلُوا بِإِزَاءِ الشَّرِيعَةِ السِّيَاسَةَ . وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ وَالْعَامَّةُ فَيُخَرِّجُونَ عَمَّا هُوَ عِنْدَهُمْ الشَّرِيعَةَ إلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ يَجْعَلُونَ بِإِزَائِهَا الْعَادَةَ أَوْ الْمَذْهَبَ أَوْ الرَّأْيَ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الشَّرِيعَةَ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامِعَةٌ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مَا خَالَفَ الشَّرِيعَةَ مِنْهَا فَهُوَ بَاطِلٌ وَمَا وَافَقَهَا مِنْهَا فَهُوَ حَقٌّ ؛ لَكِنْ قَدْ يُغَيَّرُ أَيْضًا لَفْظُ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ فَالْمُلُوكُ وَالْعَامَّةُ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّرْعَ وَالشَّرِيعَةَ اسْمٌ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَضَاءَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَإِلَّا فَالشَّرِيعَةُ جَامِعَةٌ لِكُلِّ وِلَايَةٍ وَعَمَلٍ فِيهِ صَلَاحُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالشَّرِيعَةُ إنَّمَا هِيَ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ . وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَالسِّيَاسَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوِلَايَاتِ وَالْعَطِيَّاتِ . ثُمَّ هِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي كَلَامِ النَّاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ : شَرْعٌ مُنَزَّلٌ وَهُوَ : مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَشَرْعٌ مُتَأَوَّلٌ وَهُوَ : مَا سَاغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ . وَشَرْعٌ مُبَدَّلٌ وَهُوَ : مَا كَانَ مِنْ الْكَذِبِ وَالْفُجُورِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُبْطِلُونَ بِظَاهِرٍ مِنْ الشَّرْعِ ؛ أَوْ الْبِدَعِ ؛ أَوْ الضَّلَالِ الَّذِي يُضِيفُهُ
الضَّالُّونَ إلَى الشَّرْعِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَبِمَا ذَكَرْته فِي مُسَمَّى الشَّرِيعَةِ وَالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ بَلْ كُلُّ مَا يَصْلُحُ لَهُ فَهُوَ فِي الشَّرْعِ مِنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَسِيَاسَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنَّا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } وَقَدْ أَوْجَبَ طَاعَتَهُ وَطَاعَةَ رَسُولِهِ فِي آيٍ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَحَرَّمَ مَعْصِيَتَهُ وَمَعْصِيَةَ رَسُولِهِ وَوَعَدَ بِرِضْوَانِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَجَنَّتِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَأَوْعَدَ بِضِدِّ ذَلِكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ فَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ عَالِمٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ عَابِدٍ أَوْ مُعَامِلٍ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا هُوَ قَائِمٌ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أَوْ حُكْمٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَحَقِيقَةُ الشَّرِيعَةِ : اتِّبَاعُ الرُّسُلِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ طَاعَتِهِمْ كَمَا أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا خُرُوجٌ عَنْ طَاعَةِ الرُّسُلِ وَطَاعَةُ الرُّسُلِ هِيَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِالْقِتَالِ عَلَيْهِ فَقَالَ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ } فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَالطَّاعَةُ لَهُ دِينٌ لَهُ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ . وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَا اللَّهَ وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي } وَالْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ مَوَاضِعُ تَجِبُ طَاعَتُهُمْ فِيهَا وَعَلَيْهِمْ هُمْ أَيْضًا أَنْ يُطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فِيمَا يَأْمُرُونَ . فَعَلَى كُلٍّ مِنْ الرُّعَاةِ وَالرَّعِيَّةِ وَالرُّءُوسِ وَالْمَرْءُوسِينَ أَنْ يُطِيعَ كُلٌّ مِنْهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي حَالِهِ وَيَلْتَزِمُ شَرِيعَةَ اللَّهِ الَّتِي شَرَعَهَا لَهُ . وَهَذِهِ جُمْلَةٌ تَفْصِيلُهَا يَطُولُ غَلِطَ فِيهَا صِنْفَانِ مِنْ النَّاسِ . صِنْفٌ سَوَّغُوا لِنُفُوسِهِمْ الْخُرُوجَ عَنْ شَرِيعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ لِظَنِّهِمْ قُصُورَ الشَّرِيعَةِ عَنْ تَمَامِ مَصَالِحِهِمْ جَهْلًا مِنْهُمْ ؛ أَوْ جَهْلًا وَهَوًى ؛ أَوْ هَوًى مَحْضًا . وَصِنْفٌ قَصَّرُوا فِي مَعْرِفَةِ قَدْرِ الشَّرِيعَةِ فَضَيَّقُوهَا حَتَّى تَوَهَّمُوا هُمْ وَالنَّاسُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا وَأَصْلُ ذَلِكَ الْجَهْلِ بِمُسَمَّى الشَّرِيعَةِ وَمَعْرِفَةِ قَدْرِهَا وَسِعَتِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعَامَّةِ مَنْ يَرَى أَنَّ اسْمَ الشَّرِيعَةِ وَالشَّرْعِ لَا يُقَالُ إلَّا لِلْأَعْمَالِ الَّتِي يُسَمَّى عِلْمُهَا عِلْمَ الْفِقْهِ وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ أَوْ الْحَقَائِقِ وَالشَّرَائِعِ فَهَذَا الِاصْطِلَاحُ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى
شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ } فَإِمَّا أَنْ يُحْمَلَ . . . (1) .
وَكَذَلِكَ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ يُرَادُ بِهَا مَا أَخْبَرَ بِهَا الشَّارِعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ صِفَاتٌ لِلْفِعْلِ ؛ وَأَنَّ الشَّارِعَ بَيَّنَهَا وَكَشَفَهَا . وَمِنْهَا مَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا ؛ وَمِنْهَا مَا يُعْلَمُ بِهِمَا وَيُسَمَّى الْجَمِيعُ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً أَوْ تَخُصُّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ بِمَا لَمْ يُسْتَفَدْ إلَّا مِنْ الشَّارِعِ وَهَذَا اصْطِلَاحُ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا أَثْبَتَهَا الشَّارِعُ وَأَتَى بِهَا وَلَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً بِدُونِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ حَكَمَ لَهُ فِي نَفْسِهَا وَإِنَّمَا الْحُكْمُ مَا أَتَى بِهِ الشَّارِعُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ قَدْ يُقَالُ : الْحُكْمُ هُوَ خِطَابُ الشَّارِعِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ مِنْهُ ؛ وَقَدْ يُقَالُ : هُوَ مُقْتَضَى الْخِطَابِ وَمُوجِبِهِ وَهُوَ الْوُجُوبُ وَالْحُرْمَةُ مَثَلًا . وَقَدْ يُقَالُ : الْمُتَعَلِّقُ الَّذِي بَيْنَ الْخِطَابِ وَالْفِعْلِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ يَنْطَبِقُ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ يُقَالُ : عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ وَعَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْخِطَابِ وَمُقْتَضَاهُ وَهَذَا كَمَا قُلْنَاهُ فِي الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَتَدَبَّرْ هَذِهِ الْأُصُولَ الثَّلَاثَةَ : الْعِلْمَ الشَّرْعِيَّ وَالْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَالشَّرِيعَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الْتَاسِعِ عَشْرَ
الْجُزْءُ الْعِشْرُونَ
كِتَابُ أُصُولِ الْفِقْهِ
الْجُزْءُ الْثَانِي : الْتمَذْهُبُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ؛ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالى - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ؛ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنُؤْمِنُ بِهِ ؛ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ ؛ وَنُثْنِي عَلَيْهِ الْخَيْرَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ؛ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ : وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ؛ وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ؛ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا ؛ فَهَدَى بِهِ مِنْ الضَّلَالَةِ ؛ وَعَلَّمَ بِهِ مِنْ الْجَهَالَةِ وَبَصَّرَ بِهِ مِنْ الْعَمَى ؛ وَأَرْشَدَ بِهِ مِنْ الْغَيِّ : وَفَتَحَ بِهِ آذَانًا صُمًّا وَأَعْيُنًا عُمْيًا وَقُلُوبًا غُلْفًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَبَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ دَلَّنَا عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بِمَا أَخْبَرَنَا بِهِ فِي
كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ؛ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِذَلِكَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ . فَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا } إلَى قَوْلِهِ : { يُنِيبُ } . وَقَالَ : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } . وقد ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ ؟ . وَالشَّرَائِعُ مُخْتَلِفَةٌ } فَجَمِيعُ الرُّسُلِ مُتَّفِقُونَ فِي الدِّينِ الْجَامِعِ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِيَّةِ كَالْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَبَنِيَّ إسْرَائِيلَ وَهُوَ : قَوْله تَعَالَى { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } الْآيَاتِ الثَّلَاثَ وَقَوْلُهُ { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } إلَى آخِرِ الْوَصَايَا وَقَوْلُهُ : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } الْآيَةَ . فَالدَّعْوَةُ وَالْعِبَادَةُ اسْمٌ جَامِعٌ لِغَايَةِ الْحُبِّ لِلَّهِ وَغَايَةِ الذُّلِّ لَهُ فَمَنْ ذَلَّ لَهُ مِنْ غَيْرِ حُبٍّ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا بَلْ يَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمُطْلَقَ ؛ فَلَا يُحِبُّ
شَيْئًا إلَّا لَهُ وَمَنْ أَشْرَكَ غَيْرَهُ فِي هَذَا وَهَذَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَقِيقَةَ الْحُبِّ فَهُوَ مُشْرِكٌ ؛ وَإِشْرَاكُهُ يُوجِبُ نَقْصَ الْحَقِيقَةِ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَالْحُبُّ يُوجِبُ الذُّلَّ وَالطَّاعَةَ وَالْإِسْلَامُ : أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلَّهِ لَا لِغَيْرِهِ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ وَكِلَاهُمَا ضِدُّ الْإِسْلَامِ . وَالْقَلْبُ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَتَحْقِيقُ هَذَا تَحْقِيقُ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ . وَمِنْ الْمَحَبَّةِ الدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ ؛ وَهِيَ الدَّعْوَةُ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ بِتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ وَطَاعَتِهِمْ بِمَا أَمَرُوا بِهِ فَالدَّعْوَةُ إلَيْهِ مِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَمِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ النَّهْيُ عَنْهُ وَمِنْ الدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ أَنْ يَفْعَلَ الْعَبْدُ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَتْرُكَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَمِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ ؛ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا .
وَالدَّعْوَةُ إلَى اللَّهِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أُمَّتُهُ وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِذَلِكَ ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } إلَى قَوْلِهِ : { الْمُفْلِحُونَ } فَهَذِهِ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَقِّهِمْ قَوْلُهُ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } الْآيَةَ . وَهَذَا الْوَاجِبُ وَاجِبٌ عَلَى مَجْمُوعِ الْأُمَّةِ : وَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ يَسْقُطُ عَنْ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ كَقَوْلِهِ : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ } الْآيَةَ فَجَمِيعُ الْأُمَّةِ تَقُومُ مَقَامَهُ فِي الدَّعْوَةِ : فَبِهَذَا إجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ وَإِذَا تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ : وَأَنْ يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَصْلَ فِي الدِّينِ لِشَخْصِ إلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَقُولَ إلَّا لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَمَنْ نَصَّبَ شَخْصًا كَائِنًا مَنْ كَانَ فَوَالَى وَعَادَى عَلَى مُوَافَقَتِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَهُوَ { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } الْآيَةَ وَإِذَا تَفَقَّهَ الرَّجُلُ وَتَأَدَّبَ بِطَرِيقَةِ قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَ : اتِّبَاعِ : الْأَئِمَّةِ وَالْمَشَايِخِ ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ قُدْوَتَهُ وَأَصْحَابَهُ هُمْ الْعِيَارُ فَيُوَالِي مَنْ وَافَقَهُمْ
وَيُعَادِي مَنْ خَالَفَهُمْ فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ التَّفَقُّهَ الْبَاطِنَ فِي قَلْبِهِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَهَذَا زَاجِرٌ . وَكَمَائِنُ الْقُلُوبِ تَظْهَرُ عِنْدَ الْمِحَنِ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ إلَى مَقَالَةٍ أَوْ يَعْتَقِدَهَا لِكَوْنِهَا قَوْلَ أَصْحَابِهِ وَلَا يُنَاجِزَ عَلَيْهَا بَلْ لِأَجْلِ أَنَّهَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ أَوْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَيَنْبَغِي لِلدَّاعِي أَنْ يُقَدِّمَ فِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّهُ نُورٌ وَهُدًى ؛ ثُمَّ يَجْعَلَ إمَامَ الْأَئِمَّةِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَلَامَ الْأَئِمَّةِ . وَلَا يَخْلُو أَمْرُ الدَّاعِي مِنْ أَمْرَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا فَالْمُجْتَهِدُ يَنْظُرُ فِي تَصَانِيفِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ ؛ ثُمَّ يُرَجِّحُ مَا يَنْبَغِي تَرْجِيحُهُ . الثَّانِي : الْمُقَلِّدُ يُقَلِّدُ السَّلَفَ ؛ إذْ الْقُرُونُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَفْضَلُ مِمَّا بَعْدَهَا . فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَنَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا رَبُّنَا : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { مُسْلِمُونَ } وَنَأْمُرُ بِمَا أَمَرَنَا بِهِ . وَنَنْهَى عَمَّا نَهَانَا عَنْهُ فِي نَصِّ كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } الْآيَةَ فَمَبْنَى أَحْكَامِ هَذَا الدِّينِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْكِتَابِ ؛ وَالسُّنَّةِ ؛ وَالْإِجْمَاعِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ مَعْنَى إجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهَلْ يَسُوغُ لِلْمُجْتَهِدِ خِلَافُهُمْ ؟ وَمَا مَعْنَاهُ ؟ وَهَلْ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَعْنَى الْإِجْمَاعِ : أَنْ تَجْتَمِعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ . وَإِذَا ثَبَتَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى حُكْمٍ مِنْ الْأَحْكَامِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ إجْمَاعِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا إجْمَاعًا وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ الْآخَرُ أَرْجَحَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا أَقْوَالُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ كَالْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَلَيْسَ حُجَّةً لَازِمَةً وَلَا إجْمَاعًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ نَهَوْا النَّاسَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ ؛ وَأَمَرُوا إذَا رَأَوْا قَوْلًا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِهِمْ : أَنْ يَأْخُذُوا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَيَدَعُوا أَقْوَالَهُمْ . وَلِهَذَا كَانَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ لَا يَزَالُونَ إذَا
ظَهَرَ لَهُمْ دَلَالَةُ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ عَلَى مَا يُخَالِفُ قَوْلَ مَتْبُوعِهِمْ اتَّبَعُوا ذَلِكَ مِثْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ ؛ فَإِنَّ تَحْدِيدَهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا لَمَّا كَانَ قَوْلًا ضَعِيفًا كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ تَرَى قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ الَّذِي هُوَ دُونَ ذَلِكَ كَالسَّفَرِ مِنْ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَصَرُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى وَعَرَفَةَ . وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد قَالُوا : إنَّ جَمْعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ مُحَرَّمٌ وَبِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ وَخَالَفُوا أَئِمَّتَهُمْ . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَأَوْا غَسْلَ الدُّهْنِ النَّجِسِ ؛ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَأَوْا تَحْلِيفَ النَّاسِ بِالطَّلَاقِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى خِلَافِهِ . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ قَالُوا : مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ بِالْعِتَاقِ وَكَذَلِكَ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ
أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ قَالُوا : إنَّ مَنْ قَالَ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَمَنْ حَلَفَ بِذَلِكَ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ نَفْسِهِ . وَطَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَالُوا : إنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ وَلَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ؛ بَلْ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَأَقْوَالُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِخِلَافِهِ فَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلِهَذَا كَانَ مَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ يَقُولُ : الْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَيَجْعَلُهُ يَمِينًا فِيهِ الْكَفَّارَةُ . وَهَذَا بِخِلَافِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَقَعَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ كَفَّارَةٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ بَلْ لَا كَفَّارَةَ فِي الْإِيقَاعِ مُطْلَقًا وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ خَاصَّةً فِي الْحَلِفِ . فَإِذَا تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسْأَلَةٍ وَجَبَ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ كَقَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّذْرِ وَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ بِذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِي قَوْله تَعَالَى { إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ } وَذَكَرَ حُكْمَ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَلَفَ
عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } . فَمَنْ جَعَلَ الْيَمِينَ بِهَا لَهَا حُكْمٌ وَالنَّذْرَ وَالْإِعْتَاقَ وَالتَّطْلِيقَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ كَانَ قَوْلُهُ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَمَنْ جَعَلَ هَذَا وَهَذَا سَوَاءٌ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ . وَمَنْ ظَنَّ فِي هَذَا إجْمَاعًا كَانَ ظَنُّهُ بِحَسَبِ عِلْمِهِ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمُ فِيهِ نِزَاعًا وَكَيْفَ تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ مَرْجُوحٍ لَيْسَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يُخَالِفُهُ . وَالصِّيَغُ ثَلَاثَةٌ : صِيغَةُ إيقَاعٍ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ : فَهَذِهِ لَيْسَتْ يَمِينًا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَصِيغَةُ قَسَمٍ كَقَوْلِهِ : الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَن كَذَا فَهَذِهِ صِيغَةُ يَمِينٍ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَصِيغَةُ تَعْلِيقٍ كَقَوْلِهِ : إنْ زَنَيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَهَذَا إنْ قَصَدَ بِهِ الْإِيقَاعَ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ . بِأَنْ يَكُونَ يُرِيدُ إذَا زَنَتْ إيقَاعَ الطَّلَاقِ
وَلَا يُقِيمُ مَعَ زَانِيَةٍ ؛ فَهَذَا إيقَاعٌ وَلَيْسَ بِيَمِينِ وَإِنْ قَصَدَ مَنْعَهَا وَزَجْرَهَا وَلَا يُرِيدُ طَلَاقَهَا إذَا زَنَتْ فَهَذَا يَمِينٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ ؛ فَإِنْ انْتَشَرَتْ وَلَمْ تُنْكَرْ فِي زَمَانِهِمْ فَهِيَ حُجَّةٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ تَنَازَعُوا رُدَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ . وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً مَعَ مُخَالَفَةِ بَعْضِهِمْ لَهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلًا وَلَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ بِخِلَافِهِ وَلَمْ يَنْتَشِرْ ؛ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَحْتَجُّونَ بِهِ كَأَبِي حَنِيفَةَ . وَمَالِكٍ ؛ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَفِي كُتُبِهِ الْجَدِيدَةِ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَلَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : هَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ الِاجْتِهَادِ ؛ وَالِاسْتِدْلَالِ : وَالتَّقْلِيدِ ؛ وَالِاتِّبَاعِ ؟
فَأَجَابَ : أَمَّا التَّقْلِيدُ الْبَاطِلُ الْمَذْمُومُ فَهُوَ : قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ بِلَا حُجَّةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } فِي الْبَقَرَةِ وَفِي الْمَائِدَةِ وَفِي لُقْمَانَ { أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ } وَفِي الزُّخْرُفِ : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ } وَفِي الصَّافَّاتِ : { إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ } { فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } وَقَالَ : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } الْآيَاتِ . وَقَالَ : { إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } وَقَالَ : { فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } وَقَالَ : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } . فَهَذَا الِاتِّبَاعُ وَالتَّقْلِيدُ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ هُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى إمَّا لِلْعَادَةِ وَالنَّسَبِ كَاتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَإِمَّا لِلرِّئَاسَةِ كَاتِّبَاعِ الْأَكَابِرِ وَالسَّادَةِ والمتكبرين فَهَذَا مِثْلُ تَقْلِيدِ الرَّجُلِ لِأَبِيهِ أَوْ سَيِّدِهِ أَوْ ذِي سُلْطَانِهِ وَهَذَا يَكُونُ لِمَنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الصَّغِيرُ : فَإِنَّ دِينَهُ دِينُ أُمِّهِ فَإِنْ فُقِدَتْ فَدِينُ مَلِكِهِ وَأَبِيهِ : فَإِنْ فُقِدَ كَاللَّقِيطِ فَدِينُ الْمُتَوَلِّي عَلَيْهِ وَهُوَ أَهْلُ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَأَمَّا إذَا بَلَغَ وَأَعْرَبَ لِسَانُهُ فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الْوَاجِبَ الْإِعْرَاضُ عَنْ هَذَا التَّقْلِيدِ إلَى اتِّبَاعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ ؛ فَإِنَّهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ الَّتِي أَعْذَرَ بِهَا إلَى خَلْقِهِ . وَالْكَلَامُ فِي التَّقْلِيدِ فِي شَيْئَيْنِ : فِي كَوْنِهِ حَقًّا ؛ أَوْ بَاطِلًا مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ . وَفِي كَوْنِهِ مَشْرُوعًا ؛ أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ التَّقْلِيدَ الْمَذْكُورَ لَا يُفِيدُ عِلْمًا ؟ فَإِنَّ الْمُقَلِّدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدُهُ مُصِيبًا : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَمُصِيبٌ هُوَ أَمْ مُخْطِئٌ ؟ فَلَا تَحْصُلُ لَهُ ثِقَةٌ وَلَا طُمَأْنِينَةٌ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّ مُقَلِّدَهُ مُصِيبٌ
كَتَقْلِيدِ الرَّسُولِ أَوْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَقَدْ قَلَّدَهُ بِحُجَّةِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ عَالِمٌ وَلَيْسَ هُوَ التَّقْلِيدُ الْمَذْكُورُ وَهَذَا التَّقْلِيدُ وَاجِبٌ ؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّسُولَ مَعْصُومٌ ؛ وَأَهْلَ الْإِجْمَاعِ مَعْصُومُونَ . وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْعَالِمِ حَيْثُ يَجُوزُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَغَلِّبَةِ عَلَى الظَّنِّ . كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ إصَابَةُ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ كَمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ لَكِنْ بَيْنَ اتِّبَاعِ الرَّاوِي وَالرَّأْيِ فَرْقٌ يُذْكَرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . فَإِنَّ اتِّبَاعَ الرَّاوِي وَاجِبٌ لِأَنَّهُ انْفَرَدَ بِعِلْمِ مَا أَخْبَرَ بِهِ : بِخِلَافِ الرَّأْيِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ حَيْثُ عُلِمَ وَلِأَنَّ غَلَطَ الرِّوَايَةِ بَعِيدٌ ؛ فَإِنَّ ضَبْطَهَا سَهْلٌ ؛ وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ النِّسَاءِ وَالْعَامَّةِ بِخِلَافِ غَلَطِ الرَّأْيِ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ ؛ لِدِقَّةِ طُرُقِهِ وَكَثْرَتِهَا وَهَذَا هُوَ الْعُرْفُ لِمَنْ يَجُوزُ قَبُولُ الْخَبَرِ مَعَ إمْكَانِ مُرَاجَعَةِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْمَعْنَى مَعَ إمْكَانِ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ . وَأَمَّا الْعُرْفُ الْأَوَّلُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ وَلِهَذَا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَ الْخَبَرِ وَلَا يُوجِبُ أَحَدٌ تَقْلِيدَ الْعَالِمِ عَلَى مَنْ أَمْكَنَهُ الِاسْتِدْلَالُ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ حَيْثُ عُلِمَ فَهَذِهِ جُمْلَةٌ .
وَأَمَّا تَفْصِيلُهَا فَنَقُولُ : النَّاسُ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالتَّقْلِيدِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الِاسْتِدْلَالَ حَتَّى فِي الْمَسَائِلِ الدَّقِيقَةِ : أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُ الِاسْتِدْلَالَ فِي الدَّقِيقِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهَذَا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا .
وَسُئِلَ :
هَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ ؟ أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ وَالْبَاقِي مُخْطِئُونَ ؟ .
فَأَجَابَ : قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَذَكَرَ نِزَاعَ النَّاسِ فِيهَا وَذَكَرَ أَنَّ لَفْظَ الْخَطَأِ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِثْمُ ؛ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْعِلْمِ . فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ اتَّقَى اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ فَهُوَ مُصِيبٌ ؛ فَإِنَّهُ مُطِيعٌ لِلَّهِ لَيْسَ بِآثِمِ وَلَا مَذْمُومٍ . وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَقَدْ يُخَصُّ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ بِعِلْمِ خَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ عِلْمًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْآخَرُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ ؛ لَكِنْ سَقَطَ عَنْهُ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَلَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ إلَى الصَّوَابِ لَهُ أَجْرَانِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } .
وَلَفْظُ " الْخَطَأِ " يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَمْدِ وَفِي غَيْرِ الْعَمْدِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } وَالْأَكْثَرُونَ يَقْرَءُونَ ( خِطْئًا عَلَى وَزْنِ رِدْءًا وَعِلْمًا . وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ ( خَطَأً )عَلَى وَزْنِ عَمَلًا كَلَفْظِ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } . وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ( خِطَاءً عَلَى وَزْنِ هِجَاءً . وَقَرَأَ ابْنُ رَزِينٍ ( خَطَاءً ) عَلَى وَزْنِ شَرَابًا . وَقَرَأَ الْحَسَنُ وقتادة ( خطأ ) عَلَى وَزْنِ قَتْلًا . وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ ( خِطَا ) بِلَا هَمْزٍ عَلَى وَزْنِ عِدًى . قَالَ الْأَخْفَشُ : خَطَا يَخْطَأُ بِمَعْنَى : أَذْنَبَ وَلَيْسَ مَعْنَى أَخْطَأَ ؛ لِأَنَّ أَخْطَأَ فِي مَا لَمْ يَصْنَعْهُ عَمْدًا يَقُولُ فِيمَا أَتَيْته عَمْدًا خَطَّيْت ؛ وَفِيمَا لَمْ يَتَعَمَّدْهُ : أَخْطَأْت . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ الْخَطَأُ : الْإِثْمُ يُقَالُ : قَدْ خَطَا يَخْطَأُ إذَا أَثِمَ وَأَخْطَأَ يُخْطِئُ إذَا فَارَقَ الصَّوَابَ . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي قَوْلِهِ : { تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } فَإِنَّ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : قَالُوا لَمُذْنِبِينَ آثِمِينَ فِي أَمْرِك وَهُوَ كَمَا قَالُوا فَإِنَّهُمْ قَالُوا : { يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } وَكَذَلِكَ قَالَ الْعَزِيزُ لِامْرَأَتِهِ : { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : وَلِهَذَا اُخْتِيرَ خَاطِئِينَ عَلَى مُخْطِئِينَ وَإِنْ كَانَ أَخْطَأَ عَلَى أَلْسُنِ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ خَطَا يُخْطِي ؛ لِأَنَّ مَعْنَى خَطَا يُخْطِي فَهُوَ خَاطِئٌ : آثِمٌ وَمَعْنَى أَخْطَأَ يُخْطِئُ : تَرَكَ الصَّوَابَ
وَلَمْ يَأْثَمْ . قَالَ عِبَادُك يُخْطِئُونَ وَأَنْتَ رَبٌّ تَكْفُلُ الْمَنَايَا وَالْحُتُومَ وَقَالَ الْفَرَّاءُ : الْخَطَأُ : الْإِثْمُ الخطا والخطا وَالْخَطَاءُ مَمْدُودٌ . ثَلَاثُ اللُّغَاتٍ . قُلْت : يُقَالُ فِي الْعَمْدِ : خَطَأٌ كَمَا يُقَالُ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ فَيُقَالُ لِغَيْرِ الْمُتَعَمِّدِ : أَخْطَأْت كَمَا يُقَالُ لَهُ : خَطَّيْت وَلَفْظُ الْخَطِيئَةِ مِنْ هَذَا . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا } وَقَوْلُ السَّحَرَةِ : { إنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } . وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ : { يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي ؛ وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : أَرَأَيْت سُكُوتَك بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَاذَا تَقُولُ ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ } .
وَاَلَّذِينَ قَالُوا : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْمُجْتَهِدُ لَا يَكُونُ عَلَى خَطَأٍ وَكَرِهُوا أَنْ يُقَالَ لِلْمُجْتَهِدِ : إنَّهُ أَخْطَأَ هُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعَامَّةِ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ عَنْ إمَامٍ كَبِيرٍ : إنَّهُ أَخْطَأَ وَقَوْلُهُ أَخْطَأَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ فِي الذَّنْبِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ : إنَّهُ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا وَلِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْعَامِدِ : أَخْطَأَ يُخْطِئُ كَمَا قَالَ : { يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرُ لَكُمْ } فَصَارَ لَفْظُ الْخَطَأِ وَأَخْطَأَ قَدْ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ كَمَا يَخُصُّ غَيْرَ الْعَامِلِ وَأَمَّا لَفْظُ الْخَطِيئَةِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْإِثْمِ . وَالْمَشْهُورُ أَنَّ لَفْظَ الْخَطَأِ يُفَارِقُ الْعَمْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } . وَقَدْ بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الْخَطَأَ يَنْقَسِمُ إلَى خَطَأٍ فِي الْفِعْلِ ؛ وَإِلَى خَطَأٍ فِي الْقَصْدِ . فَالْأَوَّلُ : أَنْ يَقْصِدَ الرَّمْيَ إلَى مَا يَجُوزُ رَمْيُهُ مِنْ صَيْدٍ وَهَدَفٍ فَيُخْطِئَ بِهَا وَهَذَا فِيهِ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ . وَالثَّانِي : أَنْ يُخْطِئَ فِي قَصْدِهِ لِعَدَمِ الْعِلْمِ ؛ كَمَا أَخْطَأَ هُنَاكَ لِضَعْفِ
الْقُوَّةِ وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ مُبَاحَ الدَّمِ وَيَكُونُ مَعْصُومَ الدَّمِ كَمَنَ قَتَلَ رَجُلًا فِي صُفُوفِ الْكُفَّارِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا وَالْخَطَأُ فِي الْعِلْمِ هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : إنَّهُ لَا دِيَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } فَفَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ وَقَالَ تَعَالَى : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : " قَدْ فَعَلْت " . فَلَفْظُ الْخَطَأِ وَأَخْطَأَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ غَيْرَ الْعَامِدِ وَإِذَا ذَكَرَ مَعَ النِّسْيَانِ أَوْ ذَكَرَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَامِدِ كَانَ نَصًّا فِيهِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَعَ الْقَرِينَةِ الْعَمْدُ أَوْ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ جَمِيعًا كَمَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ ؛ وَفِي الْحَدِيثِ الْإِلَهِيِّ - إنْ كَانَ لَفْظُهُ كَمَا يَرْوِيهِ عَامَّةُ الْمُحَدِّثِينَ - " تُخْطِئُونَ " بِالضَّمِّ . وَأَمَّا اسْمُ الْخَاطِئِ فَلَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ إلَّا لِلْإِثْمِ بِمَعْنَى الْخَطِيئَةِ كَقَوْلِهِ : { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } وَقَوْلِهِ : { لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } وَقَوْلِهِ : { يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } وَقَوْلِهِ : { لَا يَأْكُلُهُ إلَّا الْخَاطِئُونَ } .
وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ غَيْرُ خَاطِئٍ وَغَيْرُ مُخْطِئٍ أَيْضًا إذَا أُرِيدَ بِالْخَطَأِ الْإِثْمُ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ مُجْتَهِدٍ خَطَأٌ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ مَنْ قَالَ : كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَقَالُوا : الْخَطَأُ وَالْإِثْمُ مُتَلَازِمَانِ فَعِنْدَهُمْ لَفْظُ الْخَطَأِ كَلَفْظِ الْخَطِيئَةِ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ الْعِلْمِ الَّذِي عَجَزَ عَنْهُ لَكِنْ لَا يُسَمُّونَهُ خَطَأً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَقَدْ يُسَمُّونَهُ خَطَأً إضَافِيًّا بِمَعْنَى : أَنَّهُ أَخْطَأَ شَيْئًا لَوْ عَلِمَهُ لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَهُ وَكَانَ هُوَ حُكْمَ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ؛ وَلَكِنَّ الصَّحَابَةَ وَالْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَجُمْهُورَ السَّلَفِ يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْخَطَأِ عَلَى غَيْرِ الْعَمْدِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إثْمًا كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ : أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ ؛ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . وَقَالَ عَلِيٌّ فِي قِصَّةِ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا عُمَرُ فَأَسْقَطَتْ - لَمَّا قَالَ لَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْك - إنْ كَانَا اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَآ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا اجْتَهَدَا فَقَدْ غَشَّاك .
وَأَحْمَد يُفَرِّقُ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ لَا مُعَارِضَ لَهُ كَانَ مَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ ضَعِيفٍ أَوْ قَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مُخْطِئًا وَإِذَا كَانَ فِيهَا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ نَظَرَ فِي الرَّاجِحِ فَأَخَذَ بِهِ ؛ وَلَا يَقُولُ لِمَنْ أَخَذَ بِالْآخَرِ إنَّهُ مُخْطِئٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ اجْتَهَدَ فِيهَا بِرَأْيِهِ قَالَ : وَلَا أَدْرِي أَصَبْت الْحَقَّ أَمْ أَخْطَأْته ؟ فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَصٌّ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ وَإِذَا عَمِلَ الرَّجُلُ بِنَصِّ وَفِيهَا نَصٌّ آخَرُ خَفِيَ عَلَيْهِ لَمْ يُسَمِّهِ مُخْطِئًا ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ؛ لَكِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِي تَعْيِينِ الْخَطَأِ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : لَا أَقْطَعُ بِخَطَأِ مُنَازِعِي فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَقْطَعُ بِخَطَئِهِ . وَأَحْمَد فَصَّلَ وَهُوَ الصَّوَابُ . وَهُوَ إذَا قَطَعَ بِخَطَئِهِ بِمَعْنَى عَدَمِ الْعِلْمِ لَمْ يَقْطَعْ بِإِثْمِهِ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهَا نَصٌّ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ عِلْمُهُ وَلَوْ عَلِمَ بِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ ؛ لَكِنَّهُ لَمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ اتَّبَعَ النَّصَّ الْآخَرَ وَهُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ مَخْصُوصٌ : فَقَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ كَاَلَّذِينَ صَلَّوْا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ أَنْ نُسِخَتْ وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِالنَّسْخِ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ إلَّا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَقِيلَ : يَثْبُتُ مَعْنَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ لَا
بِمَعْنَى الْإِثْمِ وَقِيلَ يَثْبُتُ فِي الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ دُونَ النَّاسِخِ وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُجْتَهِدُ مِنْ النُّصُوصِ النَّاسِخَةِ أَوْ الْمَخْصُوصَةِ فَلَمْ تُمْكِنْهُ مَعْرِفَتُهُ فَحُكْمُهُ سَاقِطٌ عَنْهُ وَهُوَ مُطِيعٌ لِلَّهِ فِي عَمَلِهِ بِالنَّصِّ الْمَنْسُوخِ وَالْعَامِّ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيهِ . وَهُنَا تَنَازَعَ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : قِيلَ : عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْحُكْمِ الْبَاطِنِ ؛ وَأَنَّهُ إذَا أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا عِنْدَ اللَّهِ وَفِي الْحُكْمِ تَارِكٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ آثِمٌ ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ تَارِكًا لِمَأْمُورِ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ وَقِيلَ : بَلْ لَمْ يُؤْمَرْ قَطُّ بِالْحُكْمِ الْبَاطِنِ وَلَا هُوَ حُكْمٌ فِي حَقِّهِ وَلَا أَخْطَأَ حُكْمَ اللَّهِ وَلَا لِلَّهِ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ فِي حَقِّهِ غَيْرَ مَا حَكَمَ بِهِ ؛ وَلَا يُقَالُ لَهُ : أَخْطَأَ ؛ فَإِنَّ الْخَطَأَ عِنْدَهُمْ مُلَازِمٌ لِلْإِثْمِ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ وَلَكَانَ حُكْمًا فِي حَقِّهِ فَكَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَقَدْ خَالَفُوا فِي مَنْعِ اللَّفْظِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَأَيْضًا فَقَوْلُهُمْ : لَيْسَ فِي الْبَاطِنِ حُكْمٌ خَطَأٌ ؛ بَلْ حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ
هُوَ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ النَّاسِخُ وَالْخَاصُّ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ لِعَجْزِهِ . وَقِيلَ : كَانَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ هُوَ الْأَمْرُ الْبَاطِنُ وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَهَدَ فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ هَذَا هُوَ حُكْمُ اللَّهِ انْتَقَلَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ؛ فَصَارَ مَأْمُورًا بِهَذَا . وَالصَّحِيحُ : مَا قَالَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ ؛ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إصَابَتُهُ فِي الْبَاطِنِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ ؛ فَإِنْ تَرَكَ الِاجْتِهَادَ أَثِمَ وَإِذَا اجْتَهَدَ وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يَعْلَمَ الْبَاطِنَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ مَعَ الْعَجْزِ وَلَكِنْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَاطِنِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَقَدْ صَدَقَ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُ الْحَقَّ فِي الْبَاطِنِ فَلَهُ أَجْرَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } وَلَا نَقُولُ : إنَّ حُكْمَ اللَّهِ انْتَقَلَ فِي حَقِّهِ فَكَانَ مَأْمُورًا قَبْلَ الِاجْتِهَادِ بِالْحَقِّ لِلْبَاطِنِ ثُمَّ صَارَ مَأْمُورًا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ لِمَا ظَنَّهُ بَلْ مَا زَالَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَجْتَهِدَ وَيَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ وَهُوَ إنَّمَا أُمِرَ بِالْحَقِّ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ . فَإِذَا عَجَزَ عَنْهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالِاجْتِهَادِ فَإِذَا كَانَ اجْتِهَادُهُ اقْتَضَى قَوْلًا آخَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ
بِهِ ؛ لَا لِأَنَّهُ أُمِرَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يَقْتَضِيهِ اجْتِهَادُهُ وَبِمَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَتُهُ وَهُوَ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَقْدُورُهُ لَا مِنْ جِهَةِ عَيْنِهِ كَالْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ إذَا صَلَّوْا إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ فَالْمُصِيبُ لِلْقِبْلَةِ وَاحِدٌ وَالْجَمِيعُ فَعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ لَا إثْمَ عَلَيْهِمْ وَتَعْيِينُ الْقِبْلَةِ سَقَطَ عَنْ الْعَاجِزِينَ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَصَارَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرَ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْكَعْبَةُ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِعَيْنِ الصَّوَابِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَمَأْمُورٌ بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ الصَّوَابُ وَأَنَّهُ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَإِذَا رَآهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بَلْ مِنْ جِهَةِ قُدْرَتِهِ لَكِنْ إذَا كَانَ مُتَّبِعًا لِنَصِّ وَلَمْ يَبْلُغْهُ نَاسِخُهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِهِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ النَّاسِخَ فَإِنَّ الْمَنْسُوخَ كَانَ حُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِ النَّاسِخِ لَهُ . وَأَمَّا اللَّفْظُ الْعَامُّ إذَا كَانَ مَخْصُوصًا فَقَدْ يُقَالُ : صُورَةُ التَّخْصِيصِ لَمْ يُرِدْهَا الشَّارِعُ لَكِنْ هُوَ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَرَادَهَا لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْلَمْ التَّخْصِيصَ . وَهَكَذَا يُقَالُ فِيمَا نُسِخَ مِنْ النُّصُوصِ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ كَالنُّصُوصِ الَّتِي نُسِخَتْ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَعْلَمْ بَعْضُ النَّاسِ بِنَسْخِهَا ؛ وَقَدْ بَلَغَهُ الْمَنْسُوخُ بِهَا لَا يُقَالُ : إنَّ الْمَنْسُوخَ
ثَبَتَ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا كَمَا قِيلَ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ الَّذِينَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ اسْتِقْبَالُهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا قَبْلَ النَّسْخِ وَلَكِنْ يُقَالُ : مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّصُّ النَّاسِخُ وَبَلَغَهُ النَّصُّ الْآخَرُ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَعَلَى هَذَا فَتَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِينَ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ فَمَنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِنْ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ كَالنَّاسِخِ وَالْمُخَصِّصِ ؛ فَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ جِهَةِ الْعَمَلِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَلِيلٌ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ إلَّا إذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ .
وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ إذَا احْتَمَلَتْ مَعْنَيَيْنِ وَكَانَ ظُهُورُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مَعْلُومٍ لِبَعْضِ النَّاسِ بَلْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا مَا لَا يَظْهَرُ لِلْآخَرِ ؛ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِمَا دَلَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّهُ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ ؛ وَكُلٌّ مِنْهُمَا فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ لَكِنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاحِدٌ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ . وَإِذَا قِيلَ فَمَا فَعَلَهُ ذَاكَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ أَيْضًا قِيلَ : لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عَيْنِيًّا بَلْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ ؛ وَيَعْمَلَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ إلَّا هَذَا ؛ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ جِنْسِ الْمَقْدُورِ وَالْمَعْلُومُ وَالظَّاهِرُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُجْتَهِدِ ؛ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ عَيْنِهِ نَفْسِهِ فَمَنْ قَالَ : لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَقَدْ أَصَابَ . وَمَنْ قَالَ : هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَدَرَ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ وَظَهَرَ لَهُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَقَدْ أَصَابَ