الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
مِثْلُ نَقْلِهِمْ لِمِقْدَارِ الصَّاعِ وَالْمُدِّ ؛ وَكَتَرْكِ صَدَقَةِ الْخَضْرَاوَاتِ وَالْأَحْبَاسِ فَهَذَا مِمَّا هُوَ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . أَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَأَصْحَابُهُمَا فَهَذَا حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ بِلَا نِزَاعٍ كَمَا هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ . وَذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ . قَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَجَلُّ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَوَّلُ مَنْ لُقِّبَ قَاضِي الْقُضَاةِ - لَمَّا اجْتَمَعَ بِمَالِكِ وَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَأَجَابَهُ مَالِكٌ بِنَقْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَوَاتِرِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَى قَوْلِهِ وَقَالَ : لَوْ رَأَى صَاحِبِي مِثْلَ مَا رَأَيْت لَرَجَعَ مِثْلَ مَا رَجَعْت . فَقَدْ نَقَلَ أَبُو يُوسُفَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّقْلِ حُجَّةٌ عِنْدَ صَاحِبِهِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا هُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ غَيْرِهِ لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا النَّقْلُ كَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يَبْلُغْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَثِيرٌ مِنْ الْحَدِيثِ فَلَا لَوْمَ عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ عِلْمُهُ . وَكَانَ رُجُوعُ أَبِي يُوسُفَ إلَى هَذَا النَّقْلِ كَرُجُوعِهِ إلَى أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ اتَّبَعَهَا هُوَ وَصَاحِبُهُ مُحَمَّدٌ وَتَرَكَا قَوْلَ شَيْخِهِمَا ؛ لِعِلْمِهِمَا بِأَنَّ شَيْخَهُمَا كَانَ يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ أَيْضًا حُجَّةٌ إنْ صَحَّتْ لَكِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ . وَمَنْ ظَنَّ بِأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ مُخَالَفَةَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَيْهِمْ وَتَكَلَّمَ إمَّا بِظَنِّ وَإِمَّا بِهَوَى فَهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ يَعْمَلُ بِحَدِيثِ التوضي بِالنَّبِيذِ فِي
السَّفَرِ مُخَالَفَةً لِلْقِيَاسِ وَبِحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْقِيَاسِ ؛ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّتَهُمَا وَإِنْ كَانَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ لَمْ يُصَحِّحُوهُمَا . وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي رِسَالَةِ " رَفْعِ الْمَلَامِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ " وَبَيَّنَّا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يُخَالِفُ حَدِيثًا صَحِيحًا بِغَيْرِ عُذْرٍ بَلْ لَهُمْ نَحْوٌ مِنْ عِشْرِينَ عُذْرًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْحَدِيثُ ؛ أَوْ بَلَغَهُ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَثِقْ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ دَلَالَتَهُ عَلَى الْحُكْمِ ؛ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ قَدْ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ كَالنَّاسِخِ ؛ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّاسِخِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَالْأَعْذَارُ يَكُونُ الْعَالِمُ فِي بَعْضِهَا مُصِيبًا فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ وَيَكُونُ فِي بَعْضِهَا مُخْطِئًا بَعْدَ اجْتِهَادِهِ فَيُثَابُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ ؛ : لِقَوْلِهِ تَعَالَى { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ وَقَالَ : قَدْ فَعَلْت } وَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي قَضِيَّةٍ وَأَنَّهُ فَهَّمَهَا أَحَدَهُمَا ؛ وَلَمْ يَعِبْ الْآخَرَ ؛ بَلْ أَثْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنَّهُ آتَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا فَقَالَ : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } .
وَهَذِهِ الْحُكُومَةُ تَتَضَمَّنُ مَسْأَلَتَيْنِ تَنَازَعَ فِيهِمَا الْعُلَمَاءُ : مَسْأَلَةُ نَفْشِ الدَّوَابِّ فِي الْحَرْثِ بِاللَّيْلِ وَهُوَ مَضْمُونٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَجْعَلْهُ مَضْمُونًا . وَالثَّانِي ضَمَانٌ بِالْمِثْلِ وَالْقِيمَةِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَالْمَأْثُورُ عَنْ أَكْثَرِ السَّلَفِ فِي نَحْوِ ذَلِكَ يَقْتَضِي الضَّمَانَ بِالْمِثْلِ إذَا أَمْكَنَ كَمَا قَضَى بِهِ سُلَيْمَانُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَضْمَنُونَ ذَلِكَ إلَّا بِالْقِيمَةِ كَالْمَعْرُوفِ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِي يَجْرِي مَجْرَى النَّقْلِ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ لِأَبِي يُوسُفَ - لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ الصَّاعِ وَالْمُدِّ وَأَمَرَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِإِحْضَارِ صِيعَانِهِمْ وَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ إسْنَادَهَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ - أَتَرَى هَؤُلَاءِ يَا أَبَا يُوسُفَ يَكْذِبُونَ ؟ قَالَ : لَا وَاَللَّهِ مَا يَكْذِبُونَ فَأَنَا حَرَّرْت هَذِهِ الصِّيعَانَ فَوَجَدْتهَا خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ بِأَرْطَالِكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ . فَقَالَ : رَجَعْت إلَى قَوْلِك يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت . وَسَأَلَهُ عَنْ صَدَقَةِ الْخَضْرَاوَاتِ فَقَالَ : هَذِهِ مباقيل أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا صَدَقَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبِي بَكْرٍ وَلَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَعْنِي : وَهِيَ تَنْبُتُ فِيهَا الْخَضْرَاوَاتُ . وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِحْبَاسِ فَقَالَ : هَذَا حَبْسُ فُلَانٍ وَهَذَا حَبْسُ فُلَانٍ يُذْكَرُ لِبَيَانِ الصَّحَابَةِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا :
قَدْ رَجَعْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَلَوْ رَأَى صَاحِبِي مَا رَأَيْت لَرَجَعَ كَمَا رَجَعْت . وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَافَقَا بَقِيَّةَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَفِي أَنَّهُ لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ كَمَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَأَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ لَازِمٌ كَمَذْهَبِ هَؤُلَاءِ . وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ : أَرْطَالُكُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَرَضَتْ الدَّوْلَةُ الْأُمَوِيَّةُ وَجَاءَتْ دَوْلَةُ وَلَدِ الْعَبَّاسِ قَرِيبًا ؛ فَقَامَ أَخُوهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمُلَقَّبُ بِالْمَنْصُورِ فَبَنَى بَغْدَادَ فَجَعَلَهَا دَارَ مُلْكِهِ وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ حِينَئِذٍ كَانُوا أَعْنَى بِدِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَيُرْوَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِمَالِكِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ قَالَ : نَظَرْت فِي هَذَا الْأَمْرِ فَوَجَدْت أَهْلَ الْعِرَاقِ أَهْلَ كَذِبٍ وَتَدْلِيسٍ ؛ - أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ - وَوَجَدْت أَهْلَ الشَّامِ إنَّمَا هُمْ أَهْلُ غَزْوٍ وَجِهَادٍ وَوَجَدْت هَذَا الْأَمْرَ فِيكُمْ . وَيُقَالُ : إنَّهُ قَالَ لِمَالِكِ : أَنْتَ أَعْلَمُ أَهْلِ الْحِجَازِ ؛ أَوْ كَمَا قَالَ . فَطَلَبَ أَبُو جَعْفَرٍ عُلَمَاءَ الْحِجَازِ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى الْعِرَاقِ وَيَنْشُرُوا الْعِلْمَ فِيهِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ ؛ وَيَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ ؛ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ وَحَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الجمحي ؛ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ . وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَخْتَلِفُ فِي مَجَالِسِ هَؤُلَاءِ وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ الْحَدِيثَ وَأَكْثَرُ عَمَّنْ قَدِمَ مِنْ الْحِجَازِ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ فِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ : أَبُو يُوسُفَ أَعْلَمُهُمْ بِالْحَدِيثِ ؛ وَزُفَرُ أطردهم لِلْقِيَاسِ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ اللؤلؤي أَكْثَرُهُمْ تَفْرِيعًا وَمُحَمَّدٌ أَعْلَمُهُمْ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْحِسَابِ ؛ وَرُبَّمَا قِيلَ أَكْثَرُهُمْ تَفْرِيعًا فَلَمَّا صَارَتْ الْعِرَاقُ دَارَ الْمُلْكِ وَاحْتَاجَ النَّاسُ إلَى تَعْرِيفِ أَهْلِهَا بِالسُّنَّةِ وَالشَّرِيعَةِ غُيِّرَ الْمِكْيَالُ الشَّرْعِيُّ بِرِطْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَكَانَ رِطْلُهُمْ بِالْحِنْطَةِ الثَّقِيلَةِ وَالْعَدَسِ إذْ ذَاكَ تِسْعِينَ مِثْقَالًا : مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةَ أَسْبَاعِ الدِّرْهَمِ . فَهَذَا هُوَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
" الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ " الْعَمَلُ الْقَدِيمُ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ بْنِ عفان فَهَذَا حُجَّةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى : إذَا رَأَيْت قُدَمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ فَلَا تَتَوَقَّفْ فِي قَلْبِك رَيْبًا أَنَّهُ الْحَقُّ . وَكَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّ مَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فَهُوَ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا وَقَالَ أَحْمَد : كُلُّ بَيْعَةٍ كَانَتْ فِي الْمَدِينَةِ فَهِيَ خِلَافَةُ نُبُوَّةٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ وَكَذَلِكَ بَيْعَةُ عَلِيٍّ كانت بِالْمَدِينَةِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا وَبَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُعْقَدْ بِالْمَدِينَةِ بَيْعَةٌ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَفِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ سَفِينَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ يَصِيرُ مُلْكًا عَضُوضًا } . فَالْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقْتَضِي أَنَّ قَوْلَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حُجَّةٌ وَمَا يُعْلَمُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ عَمَلٌ قَدِيمٌ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَ " الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ " إذَا تَعَارَضَ فِي الْمَسْأَلَةِ دَلِيلَانِ كَحَدِيثَيْنِ وَقِيَاسَيْنِ جُهِلَ أَيُّهُمَا أَرْجَحُ وَأَحَدُهُمَا يَعْمَلُ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ؛ فَفِيهِ نِزَاعٌ . فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُرَجِّحُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُرَجِّحُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَلِأَصْحَابِ أَحْمَد وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا - وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ - أَنَّهُ لَا يُرَجِّحُ وَالثَّانِي - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ - أَنَّهُ يُرَجِّحُ بِهِ قِيلَ : هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْ كَلَامِهِ قَالَ : إذَا رَأَى أَهْلُ الْمَدِينَةِ حَدِيثًا وَعَمِلُوا بِهِ فَهُوَ الْغَايَةُ . وَكَانَ يُفْتِي عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَيُقَدِّمُهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ تَقْرِيرًا كَثِيرًا وَكَانَ يَدُلُّ الْمُسْتَفْتِي عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَدُلُّ الْمُسْتَفْتِي عَلَى إسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَنَحْوِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَيَدُلُّهُ عَلَى حَلَقَةِ الْمَدَنِيِّينَ حَلَقَةِ أَبِي مُصْعَبٍ الزُّهْرِيِّ وَنَحْوِهِ . وَأَبُو مُصْعَبٍ هُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ رُوَاةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ مَالِكٍ مَاتَ بَعْدَ أَحْمَد بِسَنَةِ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ أَحْمَد يَكْرَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا يَرُدُّ عَلَى أَهْلِ الرَّأْيِ وَيَقُولُ : إنَّهُمْ اتَّبَعُوا الْآثَارَ . فَهَذِهِ مَذَاهِبُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ تُوَافِقُ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي التَّرْجِيحِ لِأَقْوَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
وَأَمَّا " الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ " فَهِيَ الْعَمَلُ الْمُتَأَخِّرُ بِالْمَدِينَةِ فَهَذَا هَلْ هُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ النَّاسِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةِ شَرْعِيَّةٍ . هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفَاضِلُ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِهِ " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَغَيْرُهُ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَرُبَّمَا جَعَلَهُ حُجَّةً بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَيْسَ مَعَهُ لِلْأَئِمَّةِ نَصٌّ وَلَا دَلِيلٌ بَلْ هُمْ أَهْلُ تَقْلِيدٍ . قُلْت : وَلَمْ أَرَ فِي كَلَامِ مَالِكٍ مَا يُوجِبُ جَعْلَ هَذَا حُجَّةً وَهُوَ فِي الْمُوَطَّأِ إنَّمَا يَذْكُرُ الْأَصْلَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ يَحْكِي مَذْهَبَهُمْ وَتَارَةً
يَقُولُ : الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا يَصِيرُ إلَى الْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ وَتَارَةً لَا يَذْكُرُ . وَلَوْ كَانَ مَالِكٌ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَمَلَ الْمُتَأَخِّرَ حُجَّةٌ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ اتِّبَاعُهَا وَإِنْ خَالَفَتْ النُّصُوصَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِذَلِكَ حَدَّ الْإِمْكَانِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ اتِّبَاعَ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَعَارُضَ فِيهَا وَبِالْإِجْمَاعِ . وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ الرَّشِيدُ أَوْ غَيْرُهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مُوَطَّئِهِ فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الْأَمْصَارِ وَإِنَّمَا جَمَعْت عِلْمَ أَهْلِ بَلَدِي أَوْ كَمَا قَالَ . وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَفَاوَتَ فِيهِ مَذَاهِبُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ : أَصَحُّ أَقْوَالِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ رِوَايَةً وَرَأْيًا وَأَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ حُجَّةً قَاطِعَةً وَتَارَةً حُجَّةً قَوِيَّةً وَتَارَةً مُرَجِّحًا لِلدَّلِيلِ إذْ لَيْسَتْ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ لِشَيْءِ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ هُمْ خِيَارُ الصَّحَابَةِ إذْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا أَحَدٌ قَبْلَ الْفِتْنَةِ إلَّا وَأَقَامَ بِهَا مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا فُتِحَ الشَّامُ وَالْعِرَاقُ وَغَيْرُهُمَا أَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الْأَمْصَارِ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَذَهَبَ إلَى الْعِرَاقِ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُمْ . وَذَهَبَ إلَى الشَّامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وعبادة بْنُ الصَّامِتِ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ وَأَمْثَالُهُمْ . وَبَقِيَ عِنْدَهُ مِثْلُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَمِثْلُ أبي بْنِ كَعْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مسلمة وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمْ . وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ - وَهُوَ أَعْلَمُ مَنْ كَانَ بِالْعِرَاقِ مِنْ الصَّحَابَةِ إذْ ذَاكَ - يُفْتِي بِالْفُتْيَا ثُمَّ يَأْتِي الْمَدِينَةَ فَيَسْأَلُ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَيَرُدُّونَهُ عَنْ قَوْلِهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِمْ كَمَا جَرَى فِي مَسْأَلَةِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ لَمَّا ظَنَّ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهَا وَفِي الرَّبِيبَةِ وَأَنَّهُ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ حَلَّتْ أُمُّهَا كَمَا تَحُلُّ ابْنَتُهَا فَلَمَّا جَاءَ إلَى الْمَدِينَةِ وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ أَخْبَرَهُ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الرَّبِيبَةِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ . فَرَجَعَ إلَى قَوْلِهِمْ وَأَمَرَ الرَّجُلَ بِفِرَاقِ امْرَأَتِهِ بَعْدَ مَا حَمَلَتْ . وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِيمَا يَعْمَلُونَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ سُنَّةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَرْجِعُوا إلَى قَضَايَا عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَيُقَالُ : إنَّ مَالِكًا أَخَذَ جُلَّ الْمُوَطَّأِ عَنْ رَبِيعَةَ وَرَبِيعَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ؛ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ عُمَرَ ؛ وَعُمَرُ مُحَدِّثٌ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَوْ لَمْ أُبْعَثْ فِيكُمْ لَبُعِثَ فِيكُمْ عُمَرُ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدِّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَعُمَرُ } وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي : أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } . وَكَانَ عُمَرُ يُشَاوِرُ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ : كَعُثْمَانِ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ ؛ وَسَعْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ وَهُمْ أَهْلُ الشُّورَى ؛ وَلِهَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ اُنْظُرُوا مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يُشَاوَرُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا كَانَ يَقْضِي أَوْ يُفْتِي بِهِ عُمَرُ وَيُشَاوِرُ فِيهِ هَؤُلَاءِ أَرْجَحُ مِمَّا يَقْضِي أَوْ يُفْتِي بِهِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَوْ نَحْوُهُ ؛ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَكَانَ عُمَرُ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ إنَّمَا يَتْبَعُ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ يُشَاوِرُ عَلِيًّا وَغَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الشُّورَى كَمَا شَاوَرَهُ فِي الْمُطَلَّقَةِ الْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ فِي الْمَرَضِ إذَا مَاتَ زَوْجُهَا : هَلْ تَرِثُ ؟ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَحَصَلَتْ الْفِتْنَةُ وَالْفُرْقَةُ وَانْتَقَلَ عَلِيٌّ إلَى الْعِرَاقِ هُوَ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ مَنْ هُوَ مِثْلُ هَؤُلَاءِ وَلَكِنْ كَانَ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي أَيُّوبَ ؛ وَمُحَمَّدِ بْنِ مسلمة ؛ وَأَمْثَالِهِمْ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِمَّنْ مَعَ عَلِيٍّ مِنْ الصَّحَابَةِ . فَأَعْلَمُ مَنْ كَانَ بِالْكُوفَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيٌّ كَانَ
بِالْمَدِينَةِ إذْ كَانَ بِهَا عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ نَائِبُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَلِيًّا مَعَ هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ عِلْمًا وَفَضْلًا مِنْ جَمِيعِ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَلِهَذَا كَانَ الشَّافِعِيُّ يُنَاظِرُ بَعْضَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي الْفِقْهِ مُحْتَجًّا عَلَى الْمُنَاظَرِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ فَصَنَّفَ الشَّافِعِيُّ " كِتَابَ اخْتِلَافِ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ " يُبَيِّنُ فِيهِ مَا تَرَكَهُ الْمُنَاظِرُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قَوْلِهِمَا . وَجَاءَ بَعْدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي فَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا صَنَّفَ الشَّافِعِيُّ قَالَ : إنَّكُمْ وَسَائِرُ الْمُسْلِمِينَ تَتْرُكُونَ قَوْلَيْهِمَا لِمَا هُوَ رَاجِحٌ مِنْ قَوْلَيْهِمَا وَكَذَلِكَ غَيْرُكُمْ يَتْرُكُ ذَلِكَ لِمَا هُوَ رَاجِحٌ مِنْهُ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ : أَنَّ سَائِرَ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرِ الْكُوفَةِ كَانُوا مُنْقَادِينَ لِعِلْمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَعُدُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَكْفَاءَهُمْ فِي الْعِلْمِ كَأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ مِثْلَ الأوزاعي وَمَنْ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ الشَّامِيِّينَ وَمِثْلَ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَمَنْ قَبْلُ وَمَنْ بَعْدُ مِنْ الْمِصْرِيِّينَ وَأَنَّ تَعْظِيمَهُمْ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَاتِّبَاعَهُمْ لِمَذَاهِبِهِمْ الْقَدِيمَةِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ . وَكَذَلِكَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَأَيُّوبِ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ؛ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ؛ وَأَمْثَالِهِمْ . وَلِهَذَا ظَهَرَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَإِنَّ أَهْلَ مِصْرَ صَارُوا نُصْرَةً لِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ أَجِلَّاءُ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْمِصْرِيِّينَ كَابْنِ وَهْبٍ ؛ وَابْنِ الْقَاسِمِ ؛ وَأَشْهَبَ : وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ . وَالشَّامِيُّونَ
مِثْلُ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ ؛ وَمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ ؛ وَأَمْثَالِهِمْ ؛ لَهُمْ رِوَايَاتٌ مَعْرُوفَةٌ عَنْ مَالِكٍ . وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ؛ وَمِثْلِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إسْحَاقَ الْقَاضِي وَأَمْثَالِهِمْ ؛ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ ؛ وَكَانُوا قُضَاةَ الْقُضَاةِ وَإِسْمَاعِيلُ وَنَحْوُهُ كَانُوا مِنْ أَجَلِّ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ . وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ بَعْدَ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ يَدَّعُونَ مُكَافَأَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَمَّا قَبْلَ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ فَقَدْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمُنْقَادِينَ لَهُمْ لَا يُعْرَفُ قَبْلَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَوْ غَيْرِهَا يَدَّعِي أَنَّ أَهْلَ مَدِينَتِهِ أَعْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ وَتَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ وَصَارُوا شِيَعًا ظَهَرَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَنْ يُسَاوِي بِعُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَوَجْهُ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ ضَعُفَ أَمْرُ الْمَدِينَةِ لِخُرُوجِ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ مِنْهَا وَقَوِيَ أَمْرُ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِحُصُولِ عَلِيٍّ فِيهَا لَكِنْ مَا فِيهِ الْكَلَامُ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ قَدْ اسْتَقَرَّ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَعَ سَائِرِ الْأَمْصَارِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ وَحَدِيثِهِمْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ قَالَ عُبَيْدَةُ السلماني قَاضِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأْيُك مَعَ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ رَأْيِك وَحْدَك فِي الْفُرْقَةِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ بِالْكُوفَةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالتَّفَرُّقِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا ؛ الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا ؛ الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا ؛ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ } وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ : إمَّا رِوَايَةٌ وَإِمَّا رَأْيٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَصَحُّ أَهْلِ الْمُدُنِ رِوَايَةً وَرَأْيًا . وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ فَأَصَحُّ الْأَحَادِيثِ وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَحَادِيثَ عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْأَحَادِيثِ أَحَادِيثُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ أَحَادِيثُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَمَّا أَحَادِيثُ أَهْلِ الشَّامِ فَهِيَ دُونَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ الْإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ وَضَبْطِ الْأَلْفَاظِ مَا لِهَؤُلَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ - يَعْنِي أَهْلَ الْمَدِينَةِ ؛ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ ؛ وَالشَّامِ - مَنْ يُعْرَفُ بِالْكَذِبِ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَضْبُطُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَضْبُطُ . وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْكَذِبُ فِي أَهْلِ بَلَدٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فِيهِمْ فَفِي زَمَنِ التَّابِعِينَ كَانَ بِهَا خَلْقٌ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالْكَذِبِ لَا سِيَّمَا الشِّيعَةَ فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ الطَّوَائِفِ كَذِبًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا يُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَحْتَجُّونَ بِعَامَّةِ أَحَادِيثِ أَهْلِ الْعِرَاقِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ فِيهِمْ كَذَّابِينَ وَلَمْ يَكُونُوا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ فَأَمَّا إذَا عَلِمُوا صِدْقَ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ كَمَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ أَيُّوبَ السختياني وَهُوَ عِرَاقِيٌّ فَقِيلَ
لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : مَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ أَحَدٍ إلَّا وَأَيُّوبُ أَفْضَلُ مِنْهُ أَوْ نَحْوُ هَذَا . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إذَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ حَدِيثًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ فَقَالَ : إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ بِالْحِجَازِ وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنَّا فَإِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَأَخْبِرْنِي بِهِ حَتَّى أَذْهَبَ إلَيْهِ شَامِيًّا كَانَ أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ كُوفِيًّا وَلَمْ يَقُلْ مَكِّيًّا أَوْ مَدَنِيًّا لِأَنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِهَذَا قَبْلُ . وَأَمَّا عُلَمَاءُ أَهْلِ الْحَدِيثِ كشعبة وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَأَصْحَابِ الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ فَكَانُوا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الثِّقَاتِ الْحُفَّاظِ وَغَيْرِهِمْ فَيَعْلَمُونَ مَنْ بِالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ مِنْ الثِّقَاتِ الَّذِينَ لَا رَيْبَ فِيهِمْ وَأَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا يَسْتَرِيبُ عَالِمٌ فِي مِثْلِ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ كعلقمة ؛ وَالْأَسْوَدِ ؛ وَعُبَيْدَةَ السلماني ؛ وَالْحَارِثِ التيمي وشريح الْقَاضِي ثُمَّ مِثْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي ؛ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَوْثَقِ النَّاسِ وَأَحْفَظِهِمْ فَلِهَذَا صَارَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقِينَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا صَحَّحَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ مِنْ أَيِّ مِصْرٍ كَانَ وَصَنَّفَ أَبُو دَاوُد السجستاني مفاريد أَهْلِ الْأَمْصَارِ يَذْكُرُ فِيهِ مَا انْفَرَدَ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ .
وَأَمَّا الْفِقْهُ وَالرَّأْيُ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فِي أُصُولِ الدِّينِ وَلَمَّا حَدَثَ الْكَلَامُ فِي الرَّأْيِ فِي أَوَائِلِ الدَّوْلَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ وَفَرَّعَ لَهُمْ رَبِيعَةُ بْنُ هُرْمُزَ فُرُوعًا كَمَا فَرَّعَ عُثْمَانُ البتي وَأَمْثَالُهُ بِالْبَصْرَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَمْثَالُهُ بِالْكُوفَةِ وَصَارَ فِي النَّاسِ مَنْ يَقْبَلُ ذَلِكَ وَفِيهِمْ مَنْ يَرُدُّ وَصَارَ الرَّادُّونَ لِذَلِكَ مِثْلَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَأَبِي الزِّنَادِ وَالزُّهْرِيِّ وَابْنِ عُيَيْنَة وَأَمْثَالِهِمْ ؛ فَإِنْ رَدُّوا مَا رَدُّوا مِنْ الرَّأْيِ الْمُحْدَثِ بِالْمَدِينَةِ فَهُمْ لِلرَّأْيِ الْمُحْدَثِ بِالْعِرَاقِ أَشَدُّ رَدًّا فَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فِيمَا لَا يُحْمَدُ وَهُمْ فَوْقَهُمْ فِيمَا يَحْمَدُونَهُ وَبِهَذَا يَظْهَرُ الرُّجْحَانُ . وَأَمَّا مَا قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ : لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إسْرَائِيلَ مُعْتَدِلًا حَتَّى فَشَا فِيهِمْ الْمُوَلَّدُونَ : أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ فَقَالُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا . قَالَ ابْنُ عُيَيْنَة : فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا مَا حَدَثَ مِنْ الرَّأْيِ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْمُوَلَّدِينَ أَبْنَاءِ سَبَايَا الْأُمَمِ وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ وَبِالْبَصْرَةِ وَبِالْكُوفَةِ وَاَلَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ أَحْمَد عِنْدَ هَذَا مِمَّنْ بِالْعِرَاقِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَلَمَّا قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ إحْدَى الدَّوْلَتَيْنِ إنَّهُمْ كَانُوا أَتْبَعَ لِلسُّنَنِ مِنْ الدَّوْلَةِ الْأُخْرَى قَالَ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا ظَهَرَ بِمُقَارَبَتِهَا مِنْ الْحَدَثَانِ لِأَنَّ أُولَئِكَ أَوْلَى بِالْخِلَافَةِ نَسَبًا وَقَرْنًا .
وَقَدْ كَانَ الْمَنْصُورُ وَالْمَهْدِيُّ وَالرَّشِيدُ - وَهُمْ سَادَاتُ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ - يُرَجِّحُونَ عُلَمَاءَ الْحِجَازِ وَقَوْلَهُمْ عَلَى عُلَمَاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ كَمَا كَانَ خُلَفَاءُ بَنِي أُمَيَّةَ يُرَجِّحُونَ أَهْلَ الْحِجَازِ عَلَى عُلَمَاءِ أَهْلِ الشَّامِ وَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَسْلُكْ هَذَا السَّبِيلَ بَلْ عَدَلَ إلَى الْآرَاءِ الْمَشْرِقِيَّةِ كَثُرَتْ الْأَحْدَاثُ فِيهِمْ وَضَعُفَتْ الْخِلَافَةُ . ثُمَّ إنَّ بَغْدَادَ إنَّمَا صَارَ فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مَا صَارَ وَتَرَجَّحَتْ عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ مَوْتِ مَالِكٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ ؛ وَسَكَنَهَا مَنْ أَفْشَى السُّنَّةَ بِهَا وَأَظْهَرَ حَقَائِقَ الْإِسْلَامِ مِثْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَمِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ ظَهَرَتْ بِهَا السُّنَّةُ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَكَثُرَ ذَلِكَ فِيهَا وَانْتَشَرَ مِنْهَا إلَى الْأَمْصَارِ وَانْتَشَرَ أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَصَارَ فِي الْمَشْرِقِ مِثْلُ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَصَارَ إلَى الْمَغْرِبِ مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا نُقِلَ إلَيْهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فَصَارَ فِي بَغْدَادَ وَخُرَاسَانَ وَالْمَغْرِبِ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَا يَكُونُ مِثْلُهُ إذْ ذَاكَ بِالْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ . أَمَّا أَحْوَالُ الْحِجَازِ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ عَصْرِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْحِجَازِ مَنْ يُفَضَّلُ عَلَى عُلَمَاءِ الْمَشْرِقِ وَالْعِرَاقِ وَالْمَغْرِبِ .
وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ وَلَوْ اسْتَقْصَيْنَا فَضْلَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَصِحَّةَ أُصُولِهِمْ لَطَالَ الْكَلَامُ . إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ ؛ فَلَا رَيْبَ عِنْدَ أَحَدٍ أَنَّ مَالِكًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقْوَمُ النَّاسِ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ رِوَايَةً وَرَأْيًا ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِهِ وَلَا بَعْدَهُ أَقْوَمُ بِذَلِكَ مِنْهُ كَانَ لَهُ مِنْ الْمَكَانَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ - الْخَاصِّ مِنْهُمْ وَالْعَامِّ - مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ بِالْعِلْمِ أَدْنَى إلْمَامٍ وَقَدْ جَمَعَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ أَخْبَارَ الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ فَبَلَغُوا أَلْفًا وسبعمائة أَوْ نَحْوَهَا وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّصَلَ إلَى الْخَطِيبِ حَدِيثُهُمْ بَعْدَ قَرِيبٍ مِنْ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ فَكَيْفَ بِمَنْ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ أَوْ لَمْ يَتَّصِلْ إلَيْهِ خَبَرُهُمْ فَإِنَّ الْخَطِيبَ تُوُفِّيَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَعَصْرُهُ وَعَصْرُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْبَيْهَقِي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَاحِدٌ وَمَالِكٌ تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ أَبُو حَنِيفَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَتُوُفِّيَ الشَّافِعِيُّ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَمِائَتَيْنِ وَتُوُفِّيَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَكْثَرُ صَوَابًا بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ . وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْقُرْآنِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مَعَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ عَلَى أَنَّ الْبُخَارِيَّ
أَصَحُّ مِنْ مُسْلِمٍ وَمَنْ رَجَّحَ مُسْلِمًا فَإِنَّهُ رَجَّحَهُ بِجَمْعِهِ أَلْفَاظَ أَحَادِيثَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ عَلَى مَنْ يُرِيدُ جَمْعَ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مُسْلِمٌ أَوْ الرِّجَالَ الَّذِينَ انْفَرَدَ بِهِمْ أَصَحُّ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْبُخَارِيُّ وَمِنْ الرِّجَالِ الَّذِينَ انْفَرَدَ بِهِمْ ؛ فَهَذَا غَلَطٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ عَالِمٌ كَمَا لَا يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَعْلَمُ مِنْ مُسْلِمٍ بِالْحَدِيثِ وَالْعِلَلِ وَالتَّارِيخِ وَأَنَّهُ أَفْقَهُ مِنْهُ ؛ إذْ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد أَفْقَهُ أَهْلِ الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَتَّفِقُ لِبَعْضِ مَا انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَعْضِ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فَهَذَا قَلِيلٌ وَالْغَالِبُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَإِنَّ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْقُرْآنِ كِتَابٌ أَصَحُّ مِنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ . وَإِنَّمَا كَانَ هَذَانِ الْكِتَابَانِ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ جَرَّدَ فِيهِمَا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الْمُسْنَدَ وَلَمْ يَكُنْ الْقَصْدُ بِتَصْنِيفِهِمَا ذِكْرَ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَلَا سَائِرِ الْحَدِيثِ مِنْ الْحَسَنِ وَالْمُرْسَلِ وَشِبْهِ ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا جُرِّدَ فِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْمُسْنَدُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَصَحُّ الْكُتُبِ ؛ لِأَنَّهُ أَصَحُّ مَنْقُولًا عَنْ الْمَعْصُومِ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ . وَأَمَّا الْمُوَطَّأُ وَنَحْوُهُ فَإِنَّهُ صُنِّفَ عَلَى طَرِيقَةِ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ إذْ ذَاكَ فَإِنَّ النَّاسَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَكْتُبُونَ الْقُرْآنَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا عَنْهُ غَيْرَ
الْقُرْآنِ وَقَالَ : { مَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ } ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ؛ حَيْثُ { أَذِنَ فِي الْكِتَابَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَقَالَ : اُكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ } وَكَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ كِتَابًا قَالُوا : وَكَانَ النَّهْيُ أَوَّلًا خَوْفًا مِنْ اشْتِبَاهِ الْقُرْآنِ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَذِنَ لَمَّا أُمِنَ ذَلِكَ فَكَانَ النَّاسُ يَكْتُبُونَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَكْتُبُونَ وَكَتَبُوا أَيْضًا غَيْرَهُ . وَلَمْ يَكُونُوا يُصَنِّفُونَ ذَلِكَ فِي كُتُبٍ مُصَنَّفَةٍ إلَى زَمَنِ تَابِعِ التَّابِعِينَ فَصُنِّفَ الْعِلْمُ فَأَوَّلُ مَنْ صَنَّفَ ابْنُ جريج شَيْئًا فِي التَّفْسِيرِ وَشَيْئًا فِي الْأَمْوَاتِ . وَصَنَّفَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ وَمَعْمَرٌ وَأَمْثَالُ هَؤُلَاءِ يُصَنِّفُونَ مَا فِي الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَهَذِهِ هِيَ كَانَتْ كُتُبَ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ بَعْدَ الْقُرْآنِ فَصَنَّفَ مَالِكٌ الْمُوَطَّأَ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ . وَصَنَّفَ بَعْدُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ؛ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ ؛ وَوَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ فَهَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي كَانُوا يَعُدُّونَهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هِيَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ : لَيْسَ بَعْدَ الْقُرْآنِ كِتَابٌ أَكْثَرُ صَوَابًا مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ فَإِنَّ حَدِيثَهُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ نُظَرَائِهِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد لَمَّا سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَرَأْيِهِ
وَحَدِيثِ غَيْرِهِ وَرَأْيِهِمْ ؟ رَجَّحَ حَدِيثَ مَالِكٍ وَرَأْيَهُ عَلَى حَدِيثِ أُولَئِكَ وَرَأْيِهِمْ . وَهَذَا يُصَدِّقُ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُوشِكُ أَنْ يَضْرِبَ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَا يَجِدُونَ عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ } فَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ كَابْنِ جريج وَابْنِ عُيَيْنَة وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا : هُوَ مَالِكٌ . وَاَلَّذِينَ نَازَعُوا فِي هَذَا لَهُمْ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا : الطَّعْنُ فِي الْحَدِيثِ فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا . وَالثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ مَالِكٍ كَالْعُمَرِيِّ الزَّاهِدِ وَنَحْوِهِ . فَيُقَالُ : مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَأَنَّهُ مَالِكٌ أَمْرٌ متقرر لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا وَبِالتَّوَاتُرِ لِمَنْ كَانَ غَائِبًا ؛ فَإِنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَصْرِ مَالِكٍ أَحَدٌ ضَرَبَ إلَيْهِ النَّاسُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ أَكْثَرُ مِنْ مَالِكٍ . وَهَذَا يُقَرَّرُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : بِطَلَبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى مِثْلِ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ . وَالثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَالِكًا تَأَخَّرَ مَوْتُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ فَإِنَّهُ
تُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ ذَلِكَ . فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَّةِ أَعْلَمُ مِنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَهَذَا لَا يُنَازِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا رُحِلَ إلَى أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ مَا رُحِلَ إلَى مَالِكٍ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ رُحِلَ إلَيْهِ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَرَحَلَ إلَيْهِ النَّاسُ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ وَالْمُلُوكِ وَالْعَامَّةِ وَانْتَشَرَ مُوَطَّؤُهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى لَا يُعْرَفَ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ كِتَابٌ بَعْدَ الْقُرْآنِ كَانَ أَكْثَرَ انْتِشَارًا مِنْ الْمُوَطَّأِ وَأَخَذَ الْمُوَطَّأَ عَنْهُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِنْ أَصْغَرِ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَأَمْثَالُهُمَا وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ إذَا حَدَّثَ بِالْعِرَاقِ عَنْ مَالِكٍ وَالْحِجَازِيِّينَ تَمْتَلِئُ دَارُهُ وَإِذَا حَدَّثَ عَنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَقِلُّ النَّاسُ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ عِلْمَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ .
وَأَجَلُّ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ الْعِلْمَ اثْنَانِ مَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَة . وَمَعْلُومٌ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ مَالِكًا أَجَلُّ مِنْ ابْنِ عُيَيْنَة حَتَّى إنَّهُ كَانَ يَقُولُ :
إنِّي وَمَالِكًا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :
وَابْنُ اللَّبُونِ إذَا مَا لَزَّ فِي قَرْنٍ * * * لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبَزْلِ القناعيس
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الَّذِي ضُرِبَتْ إلَيْهِ أَكْبَادُ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ هُوَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ مَعَ كَوْنِهِ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا زَاهِدًا آمِرًا بِالْمَعْرُوفِ
نَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ لَمْ يُعْرَفْ أَنَّ النَّاسَ احْتَاجُوا إلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ وَلَا رَحَلُوا إلَيْهِ فِيهِ . وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَمْرًا يَسْتَشِيرُ مَالِكًا وَيَسْتَفْتِيهِ كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُ لَمَّا كَتَبَ إلَيْهِ مِنْ الْعِرَاقِ أَنْ يَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ فَقَالَ : حَتَّى أُشَاوِرَ مَالِكًا فَلَمَّا اسْتَشَارَهُ أَشَارَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا لَا يَتْرُكُهُ وَلَدُ الْعَبَّاسِ حَتَّى تُرَاقَ فِيهِ دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ وَذَكَرَ لَهُ مَا ذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - لَمَّا قِيلَ لَهُ : وَلِّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ - أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَا يَدَعُونَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تُرَاقَ فِيهِ دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ . وَهَذِهِ عُلُومُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفُتْيَا وَغَيْرِهَا مِنْ الْعُلُومِ ؛ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ أَخَذُوا عَنْ الْعُمَرِيِّ الزَّاهِدِ مِنْهَا مَا يُذْكَرُ فَكَيْفَ يُقْرَنُ هَذَا بِمَالِكِ فِي الْعِلْمِ وَرِحْلَةِ النَّاسِ إلَيْهِ ؟ . ثُمَّ هَذِهِ كُتُبُ الصَّحِيحِ الَّتِي أَجَلُّ مَا فِيهَا كِتَابُ الْبُخَارِيِّ أَوَّلُ مَا يَسْتَفْتِحُ الْبَابَ بِحَدِيثِ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ لَا يُقَدِّمُ عَلَى حَدِيثِهِ غَيْرَهُ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ النَّاسَ ضَرَبُوا أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَمْ يَجِدُوا عَالِمًا أَعْلَمَ مِنْ مَالِكٍ فِي وَقْتِهِ . وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مَعَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ : إمَّا مُوَافِقٌ ؛ وَإِمَّا مُنَازِعٌ فَالْمُوَافِقُ لَهُمْ عَضُدٌ وَنَصِيرٌ وَالْمُنَازِعُ لَهُمْ مُعَظِّمٌ لَهُمْ مُبَجِّلٌ لَهُمْ
عَارِفٌ بِمِقْدَارِهِمْ . وَمَا تَجِدُ مَنْ يَسْتَخِفُّ بِأَقْوَالِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ إلَّا مَنْ لَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَالِكًا هُوَ الْقَائِمُ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ أَظْهَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ مِنْ رُجْحَانِ مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَمْصَارِ ؛ فَإِنَّ مُوَطَّأَهُ مَشْحُونٌ : إمَّا بِحَدِيثِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؛ وَإِمَّا بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ : إمَّا قَدِيمًا ؛ وَإِمَّا حَدِيثًا . وَإِمَّا مَسْأَلَةٌ تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَغَيْرُهُمْ فَيَخْتَارُ فِيهَا قَوْلًا وَيَقُولُ : هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْت . فَأَمَّا بِآثَارِ مَعْرُوفَةٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَنْ هُوَ أَتْبَعُ لِمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ مَالِكٍ فَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ . وَلَسْنَا نُنْكِرُ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى مَالِكٍ مُخَالَفَتَهُ أَوَّلًا لِأَحَادِيثِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ كَمَا يُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدراوردي أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ تَقْدِيرِ الْمَهْرِ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ : تعرقت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيْ : صِرْت فِيهَا إلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ يُقَدِّرُونَ أَقَلَّ الْمَهْرِ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ لَكِنَّ النِّصَابَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ . وَأَمَّا مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فَالنِّصَابُ عِنْدَهُمْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ؛ أَوْ رُبُعُ دِينَارٍ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ . فَيُقَالُ : أَوَّلًا : إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؛ وَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُوَافِقَهُمْ
وَهَذَا مَشْهُورٌ عِنْدَهُمْ يَعِيبُونَ الرَّجُلَ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ لَمَّا اسْتَفْتَاهُ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَكَمَا قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ لِرَبِيعَةَ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ عَقْلِ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ . وَأَمَّا ثَانِيًا : فَمِثْلُ هَذَا فِي قَوْلِ مَالِكٍ قَلِيلٌ جِدًّا وَمَا مِنْ عَالِمٍ إلَّا وَلَهُ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ ابْنُ خويز منداد فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ كُتُبِ الرَّأْيِ وَالْإِجَارَةِ عَلَيْهَا : لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَ رَأْيِ صَاحِبِنَا مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ؛ لَكِنَّهُ أَقَلُّ خَطَأً مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَأَكْثَرُهُ نَجِدُ مَالِكًا قَدْ قَالَ بِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَإِنَّمَا تَرَكَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَمَسْأَلَةِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ . وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ رَوَوْا عَنْ مَالِكٍ الرَّفْعَ مُوَافِقًا لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ ؛ لَكِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْبَصْرِيِّينَ هَمّ الَّذِينَ قَالُوا بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُدَوَّنَةَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَصْلُهَا مَسَائِلُ أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ الَّتِي فَرَّعَهَا أَهْلُ الْعِرَاقِ ثُمَّ سَأَلَ عَنْهَا أَسَدٌ ابْنَ الْقَاسِمِ . فَأَجَابَهُ بِالنَّقْلِ عَنْ مَالِكٍ وَتَارَةً بِالْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِهِ ثُمَّ أَصْلُهَا فِي رِوَايَةِ سحنون فَلِهَذَا يَقَعُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَيْلِ إلَى أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . ثُمَّ اتَّفَقَ أَنَّهُ لَمَّا انْتَشَرَ مَذْهَبُ مَالِكٍ بِالْأَنْدَلُسِ وَكَانَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى
عَامِلَ الْأَنْدَلُسِ وَالْوُلَاةُ يَسْتَشِيرُونَهُ فَكَانُوا يَأْمُرُونَ الْقُضَاةَ أَنْ لَا يَقْضُوا إلَّا بِرِوَايَتِهِ عَنْ مَالِكٍ ثُمَّ رِوَايَةِ غَيْرِهِ فَانْتَشَرَتْ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لِأَجْلِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَقَدْ تَكُونُ مَرْجُوحَةً فِي الْمَذْهَبِ وَعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالسُّنَّةِ حَتَّى صَارُوا يَتْرُكُونَ رِوَايَةَ الْمُوَطَّأِ الَّذِي هُوَ مُتَوَاتِرٌ عَنْ مَالِكٍ وَمَا زَالَ يُحَدِّثُ بِهِ إلَى أَنْ مَاتَ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فَمِثْلُ هَذَا إنْ كَانَ فِيهِ عَيْبٌ فَإِنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ نَقَلَ ذَلِكَ لَا عَلَى مَالِكٍ وَيُمْكِنُ الْمُتَّبِعُ لِمَذْهَبِهِ أَنْ يَتْبَعَ السُّنَّةَ فِي عَامَّةِ الْأُمُورِ ؛ إذْ قَلَّ مِنْ سُنَّةٍ إلَّا وَلَهُ قَوْلٌ يُوَافِقُهَا بِخِلَافِ كَثِيرٍ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُخَالِفُونَ السُّنَّةَ وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدُوا ذَلِكَ .
ثُمَّ مَنْ تَدَبَّرَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ وَجَدَ أُصُولَ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحَّ الْأُصُولِ وَالْقَوَاعِدِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمَا حَتَّى إنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا نَاظَرَ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ حِينَ رَجَّحَ مُحَمَّدٌ لِصَاحِبِهِ عَلَى صَاحِبِ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ : بِالْإِنْصَافِ أَوْ بِالْمُكَابَرَةِ ؟ قَالَ لَهُ : بِالْإِنْصَافِ فَقَالَ : نَاشَدْتُك اللَّهَ صَاحِبُنَا أَعْلَمُ بِكِتَابِ اللَّهِ أَمْ صَاحِبُكُمْ ؟ فَقَالَ : بَلْ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ صَاحِبُنَا أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ صَاحِبُكُمْ ؟ فَقَالَ : بَلْ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ : صَاحِبُنَا أَعْلَمُ بِأَقْوَالِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ
صَاحِبُكُمْ ؟ فَقَالَ : بَلْ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ : مَا بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إلَّا الْقِيَاسُ ؛ وَنَحْنُ نَقُولُ بِالْقِيَاسِ وَلَكِنْ مَنْ كَانَ بِالْأُصُولِ أَعْلَمَ كَانَ قِيَاسُهُ أَصَحَّ . وَقَالُوا لِلْإِمَامِ أَحْمَد : مَنْ أَعْلَمُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَالِكٌ أَمْ سُفْيَانُ ؟ فَقَالَ : بَلْ مَالِكٌ . فَقِيلَ لَهُ : أَيُّمَا أَعْلَمُ بِآثَارِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالِكٌ أَمْ سُفْيَانُ ؟ فَقَالَ : بَلْ مَالِكٌ . فَقِيلَ لَهُ : أَيُّمَا أَزْهَدُ مَالِكٌ أَمْ سُفْيَانُ ؟ فَقَالَ : هَذِهِ لَكُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَعْلَمُ أَهْلِ الْعِرَاقِ ذَلِكَ الْوَقْتَ بِالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ ؛ وَالثَّوْرِيَّ ؛ وَمُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى ؛ وَالْحَسَنَ بْنَ صَالِحِ بْنِ حي ؛ وَشَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّخَعِي الْقَاضِي : كَانُوا مُتَقَارِبِينَ فِي الْعَصْرِ وَهُمْ أَئِمَّةُ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَتَفَقَّهُ أَوَّلًا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْقَاضِي ثُمَّ إنَّهُ اجْتَمَعَ بِأَبِي حَنِيفَةَ فَرَأَى أَنَّهُ أَفْقَهُ مِنْهُ فَلَزِمَهُ وَصَنَّفَ كِتَابَ " اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى " وَأَخَذَهُ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَنَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَذَكَرَ فِيهِ اخْتِيَارَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِكِتَابِ " اخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّينَ " .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَعْلَمُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ فِي الْحَدِيثِ مَعَ تَقَدُّمِهِ فِي الْفِقْهِ وَالزُّهْدِ وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ مَا أَنْكَرُوا مِنْ الرَّأْيِ الْمُحْدَثِ بِالْكُوفَةِ لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بَلْ سُفْيَانُ عِنْدَهُمْ أَمَامُ الْعِرَاقِ فَتَفْضِيلُ أَحْمَد لِمَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى مَذْهَبِ سُفْيَانَ تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي عِلْمِهِ وَعِلْمِ مَالِكٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ مَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّ أَحْمَد يُقَدِّمُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَلَى هَذِهِ الطَّبَقَةِ كُلِّهَا وَهُوَ يُعَظِّمُ سُفْيَانَ غَايَةَ التَّعْظِيمِ وَلَكِنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَائِهَا أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَعُلَمَائِهَا . وَأَحْمَد كَانَ مُعْتَدِلًا عَالِمًا بِالْأُمُورِ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُحِبُّ الشَّافِعِيَّ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ وَيَذُبُّ عَنْهُ عِنْدَ مَنْ يَطْعَنُ فِي الشَّافِعِيِّ ؛ أَوْ مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى بِدْعَةٍ وَيَذْكُرُ تَعْظِيمَهُ لِلسُّنَّةِ وَاتِّبَاعَهُ لَهَا وَمَعْرِفَتَهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ كَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ؛ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ وَيُثْبِتُ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَمُنَاظَرَتَهُ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَنْ خَالَفَهُ بِالرَّأْيِ وَغَيْرَهُ . وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ : سَمَّوْنِي بِبَغْدَادَ نَاصِرَ الْحَدِيثِ . وَمَنَاقِبُ الشَّافِعِيِّ وَاجْتِهَادُهُ فِي اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَاجْتِهَادُهُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا وَهُوَ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَكَانَ قَدْ تَفَقَّهَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكِّيِّينَ أَصْحَابُ ابْنُ جريج
كَمُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ الزِّنْجِيِّ ؛ وَسَعِيدِ بْنِ سَالِمٍ الْقَدَّاحِ ثُمَّ رَحَلَ إلَى مَالِكٍ وَأَخَذَ عَنْهُ الْمُوَطَّأَ وَكَمَّلَ أُصُولَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ أَجَلُّ عِلْمًا وَفِقْهًا وَقَدْرًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَهْدِ مَالِكٍ ثُمَّ اتَّفَقَتْ لَهُ مِحْنَةٌ ذَهَبَ فِيهَا إلَى الْعِرَاقِ فَاجْتَمَعَ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَكَتَبَ كُتُبَهُ وَنَاظَرَهُ وَعَرَفَ أُصُولَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَخَذَ مِنْ الْحَدِيثِ مَا أَخَذَهُ عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْحِجَازِ . ثُمَّ قَدِمَ إلَى الْعِرَاقِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَفِيهَا صَنَّفَ كِتَابَهُ الْقَدِيمَ الْمَعْرُوفَ بِ " الْحُجَّةِ " وَاجْتَمَعَ بِهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فِي هَذِهِ الْقَدْمَةِ بِالْعِرَاقِ وَاجْتَمَعَ بِهِ بِمَكَّةَ وَجَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَتَنَاظَرَا بِحُضُورِ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِأَبِي يُوسُفَ وَلَا بالأوزاعي وَغَيْرِهِمَا فَمَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الرِّحْلَةِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِ فَهُوَ كَاذِبٌ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ الرِّحْلَةَ فِيهَا مِنْ الْأَكَاذِيبِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَالِكٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ كَذِبِ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَكُنْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ سَعَيَا فِي أَذَى الشَّافِعِيِّ قَطُّ وَلَا كَانَ حَالُ مَالِكٍ مَعَهُ مَا ذَكَرَ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ الْكَاذِبَةِ . ثُمَّ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ إلَى مِصْرَ وَصَنَّفَ كِتَابَهُ الْجَدِيدَ وَهُوَ فِي خِطَابِهِ وَكِتَابُهُ يُنْسَبُ إلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحِجَازِ فَيَقُولُ : قَالَ : بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ يَعْنِي : أَهْلَ الْمَدِينَةِ ؛ أَوْ بَعْضَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَالِكِ وَيَقُولُ فِي
أَثْنَاءِ كَلَامِهِ : وَخَالَفْنَا بَعْضَ الْمَشْرِقِيِّينَ وَكَانَ الشَّافِعِيُّ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَاحِدًا مِنْهُمْ يُنْسَبُ إلَى أَصْحَابِهِمْ وَاخْتَارَ سُكْنَى مِصْرَ إذْ ذَاكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ كَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَأَمْثَالِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْغَرْبِ بَعْضُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ الأوزاعي وَأَهْلِ الشَّامِ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَدِينَةِ مُتَقَارِبٌ لَكِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَجَلُّ عِنْدَ الْجَمِيعِ . ثُمَّ إنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْعِلْمِ وَرَأَى مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَإِنْ خَالَفَ قَوْلَ أَصْحَابِ الْمَدَنِيِّينَ ؛ قَامَ بِمَا رَآهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَصَنَّفَ الْإِمْلَاءَ عَلَى مَسَائِلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَظْهَرَ خِلَافَ مَالِكٍ فِيمَا خَالَفَهُ فِيهِ وَقَدْ أَحْسَنَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا فَعَلَ وَقَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ كَرِهَ ذَلِكَ مَنْ كَرِهَهُ وَآذَوْهُ وَجَرَتْ مِحْنَةٌ مِصْرِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ . وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُمَا صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِهِ كَاخْتِصَاصِ الشَّافِعِيِّ بِمَالِكِ وَلَعَلَّ خِلَافَهُمَا لَهُ يُقَارِبُ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ لِمَالِكِ وَكُلُّ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلدَّلِيلِ وَقِيَامًا بِالْوَاجِبِ . وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَرَّرَ أُصُولَ أَصْحَابِهِ وَالْكِتَابَ
وَالسُّنَّةَ وَكَانَ كَثِيرَ الِاتِّبَاعِ لِمَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ يَقُولُ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ : يَا بُنَيَّ الْزَمْ هَذَا الرَّجُلَ فَإِنَّهُ صَاحِبُ حُجَجٍ فَمَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَنْ تَقُولَ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَيُضْحَكُ مِنْك إلَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِصْرَ . قَالَ مُحَمَّدٌ : فَلَمَّا صِرْت إلَى الْعِرَاقِ جَلَسْت إلَى حَلَقَةٍ فِيهَا ابْنُ أَبِي دَاوُد فَقُلْت : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فَقَالَ : وَمَنْ ابْنُ الْقَاسِمِ ؟ فَقُلْت : رَجُلٌ مُفْتٍ يَقُولُ مِنْ مِصْرَ إلَى أَقْصَى الْغَرْبِ وَأَظُنُّهُ قَالَ : قُلْت : رَحِمَ اللَّهُ أَبِي . وَكَانَ مَقْصُودُ أَبِيهِ : اُطْلُبْ الْحُجَّةَ لِقَوْلِ أَصْحَابِك وَلَا تَتَّبِعْ فَالتَّقْلِيدُ إنَّمَا يُقْبَلُ حَيْثُ يَعْظُمُ الْمُقَلِّدُ بِخِلَافِ الْحُجَّةِ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ أَنْ يَقُولَ بِمُوجِبِ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَاَللَّهُ يَخُصُّ هَذَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَا يَخُصُّ بِهِ هَذَا وَقَدْ يَكُونُ هَذَا هُوَ الْمَخْصُوصَ بِمَزِيدِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ فِي نَوْعٍ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ بَابٍ مِنْهُ أَوْ مَسْأَلَةٍ وَهَذَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ فِي نَوْعٍ آخَرَ .
لَكِنَّ جُمْلَةَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ رَاجِحَةٌ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ وَذَلِكَ يَظْهَرُ بِقَوَاعِدَ جَامِعَةٍ : مِنْهَا : قَاعِدَةُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّجَاسَاتِ فِي الْمِيَاهِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } فَاَللَّهُ تَعَالَى أَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الْخَبَائِثَ وَالْخَبَائِثُ نَوْعَانِ : مَا خُبْثُهُ لِعَيْنِهِ لِمَعْنَى قَامَ بِهِ كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ . وَمَا خُبْثُهُ لِكَسْبِهِ كَالْمَأْخُوذِ ظُلْمًا ؛ أَوْ بِعَقْدِ مُحَرَّمٍ كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكُلُّ مَا حَرُمَ مُلَابَسَتُهُ كَالنَّجَاسَاتِ حَرُمَ أَكْلُهُ وَلَيْسَ كُلُّ مَا حَرُمَ أَكْلُهُ حَرُمَتْ مُلَابَسَتُهُ كَالسُّمُومِ وَاَللَّهُ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْنَا أَشْيَاءَ مِنْ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ مِنْ الْمَلَابِسِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأَشْرِبَةِ أَشَدُّ مِنْ مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَسَائِرَ الْأَمْصَارِ وَفُقَهَاءَ الْحَدِيثِ يُحَرِّمُونَ كُلَّ مُسْكِرٍ وَإِنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَحَرَامٌ وَإِنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَلَمْ يَتَنَازَعْ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَا أَوَّلُهُمْ وَلَا آخِرُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الثِّمَارِ أَوْ الْحُبُوبِ ؛ أَوْ الْعَسَلِ أَوْ لَبَنِ الْخَيْلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَالْكُوفِيُّونَ لَا خَمْرَ عِنْدَهُمْ إلَّا مَا اشْتَدَّ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ فَإِنْ طُبِخَ قَبْلَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ حَلَّ وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ مُحَرَّمٌ إذَا كَانَ مُسْكِرًا نِيئًا فَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ حَلَّ وَإِنْ أَسْكَرَ وَسَائِرُ الْأَنْبِذَةِ
تَحُلُّ وَإِنْ أَسْكَرَتْ لَكِنْ يُحَرِّمُونَ الْمُسْكِرَ مِنْهَا . وَأَمَّا الْأَطْعِمَةُ فَأَهْلُ الْكُوفَةِ أَشَدُّ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ مَعَ تَحْرِيمِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ ؛ وَتَحْرِيمِ اللَّحْمِ حَتَّى يُحَرِّمُونَ الضَّبَّ وَالضَّبُعَ وَالْخَيْلَ تَحْرُمُ عِنْدَهُمْ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَمَالِكٌ يُحَرِّمُ تَحْرِيمًا جَازِمًا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَذَوَاتُ الْأَنْيَابِ إمَّا أَنْ يُحَرِّمَهَا تَحْرِيمًا دُونَ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يَكْرَهَهَا فِي الْمَشْهُورِ وَرُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَةُ ذَوَاتِ الْمَخَالِبِ وَالطَّيْرُ لَا يُحَرِّمُ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا يَكْرَهُهُ وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ عَلَى مَرَاتِبَ وَالْخَيْلُ يَكْرَهُهَا وَرُوِيَتْ الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ أَيْضًا . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ فَإِنَّ بَابَ الْأَشْرِبَةِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا يَعْلَمُ مَنْ عَلِمَهَا أَنَّهَا مِنْ أَبْلَغِ الْمُتَوَاتِرَاتِ بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْخَلِيطَيْنِ وَالْأَوْعِيَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ بِالسُّنَّةِ وَأَمَّا الْأَطْعِمَةُ فَإِنَّهُ وَإِنْ قِيلَ : إنَّ مَالِكًا خَالَفَ أَحَادِيثَ صَحِيحَةً فِي التَّحْرِيمِ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ . وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي خَالَفَهَا مَنْ حَرَّمَ الضَّبَّ وَغَيْرَهُ تُقَاوِمُ ذَلِكَ أَوْ تَرْبُو عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ قَلِيلَةٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَادِيثِ الْأَشْرِبَةِ .
وَأَيْضًا فَمَالِكٌ مَعَهُ فِي ذَلِكَ آثَارٌ عَنْ السَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ ؛ وَعَائِشَةَ ؛ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مَعَ مَا تَأَوَّلَهُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَمُبِيحُ الْأَشْرِبَةِ لَيْسَ مَعَهُ لَا نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ بَلْ قَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ وَالْقِيَاسِ . وَأَيْضًا فَتَحْرِيمُ جِنْسِ الْخَمْرِ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ اللُّحُومِ الْخَبِيثَةِ فَإِنَّهَا يَجِبُ اجْتِنَابُهَا مُطْلَقًا وَيَجِبُ عَلَى مَنْ شَرِبَهَا الْحَدُّ وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهَا . وَأَيْضًا فَمَالِكٌ جَوَّزَ إتْلَافَ عَيْنِهَا اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ مِنْ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ وَمَنَعَ مِنْ تَخْلِيلِهَا وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ مِنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ الشَّارِعِ لِلْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ أَشَدَّ مِنْ تَحْرِيمِهِ لِلْأَطْعِمَةِ : كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ مُوَافَقَةَ الشَّارِعِ أَصَحَّ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اسْتَحَلَّتْ الْغِنَاءَ حَتَّى صَارَ يُحْكَى ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقَدْ قَالَ عِيسَى بْنُ إسْحَاقَ الطَّبَّاعُ : سُئِلَ مَالِكٌ عَمًّا يَتَرَخَّصُ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْغِنَاءِ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا يَفْعَلُهُ عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَخَفُّ مِمَّا اسْتَحَلَّهُ مَنْ اسْتَحَلَّ الْأَشْرِبَةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي تَحْرِيمِ الْغِنَاءِ مِنْ النُّصُوصِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي تَحْرِيمِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ فَعُلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ .
ثُمَّ إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَائِلِ مَسْأَلَةُ اخْتِلَاطِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ لِعَيْنِهِ كَاخْتِلَاطِ النَّجَاسَاتِ بِالْمَاءِ وَسَائِرِ الْمَائِعَاتِ فَأَهْلُ الْكُوفَةِ يُحَرِّمُونَ كُلَّ مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ثُمَّ يُقَدِّرُونَ مَا لَا تَصِلُ إلَيْهِ النَّجَاسَةُ بِمَا لَا تَصِلُ إلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَيُقَدِّرُونَهُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْبِئْرَ إذَا وَقَعَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ لَمْ تَطْهُرْ ؛ بَلْ تَطُمُّ . وَالْفُقَهَاءُ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : تُنْزَحُ إمَّا دِلَاءٌ مُقَدَّرَةٌ مِنْهَا ؛ وَإِمَّا جَمِيعُهَا عَلَى مَا قَدْ عُرِفَ لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ يَنْجُسُ الْمَاءُ وَالْمَائِعُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ . وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ بِعَكْسِ ذَلِكَ فَلَا يَنْجُسُ الْمَاءُ عِنْدَهُمْ إلَّا إذَا تَغَيَّرَ لَكِنْ لَهُمْ فِي قَلِيلِ الْمَاءِ هَلْ يَتَنَجَّسُ بِقَلِيلِ النَّجَاسَةِ ؟ قَوْلَانِ . وَمَذْهَبُ أَحْمَد قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ لَكِنْ هَذَانِ يُقَدِّرَانِ الْقَلِيلَ بِمَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ دُونَ مَالِكٍ . وَعَنْ مَالِكٍ فِي الْأَطْعِمَةِ خِلَافٌ ؛ وَكَذَلِكَ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد نِزَاعٌ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْمَاءِ بَاقٍ وَالِاسْمُ الَّذِي بِهِ أُبِيحَ قَبْلَ الْوُقُوعِ بَاقٍ وَقَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِئْرِ بضاعة وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ وَلَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ الْأَحَادِيثَ لَيْسَ بِصَرِيحِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فِيهِ وَهُوَ حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَخُصُّ الْبَوْلَ بِالْحُكْمِ .
وَخَصَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يُبَالَ فِيهِ دُونَ أَنْ يَجْرِيَ إلَيْهِ الْبَوْلُ . وَقَدْ يَخُصُّ ذَلِكَ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ . وَقَدْ يُقَالُ : النَّهْيُ عَنْ الْبَوْلِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّنْجِيسَ ؛ بَلْ قَدْ يُنْهَى عَنْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى التَّنْجِيسِ إذَا كَثُرَ . يُقَرِّرُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنَازُعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ لَا يَعُمُّ جَمِيعَ الْمِيَاهِ بَلْ مَاءُ الْبَحْرِ مُسْتَثْنًى بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَكَذَلِكَ الْمَصَانِعُ الْكِبَارُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَزْحُهَا وَلَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهَا بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ لَا يُنَجِّسُهُ الْبَوْلُ بِالِاتِّفَاقِ . وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ لَا يُعَارِضُهُ حَدِيثٌ فِي هَذَا الْإِجْمَالِ وَالِاحْتِمَالِ . وَكَذَلِكَ تَنَجُّسُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ وَنَحْوِهِ : مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فِي طَهَارَتِهِ ثَابِتٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَحَدِيثِ صَبِّ وُضُوئِهِ عَلَى جَابِرٍ وَقَوْلِهِ : { الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ بَوْلُ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يُطْعَمْ مَذْهَبُ بَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ لَهُمْ فِيهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعَارِضُهَا شَيْءٌ .
وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَعْيَانِ النَّجَاسَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْعِبَادَاتِ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَسِيرَةِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ إنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِنَجَاسَةِ الْبَوْلِ وَالرَّوْثِ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَعَلَى ذَلِكَ بِضْعُ عَشْرَةِ حُجَّةً مِنْ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ وَالِاعْتِبَارِ ذَكَرْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَيْسَ مَعَ الْمُنَجَّسِ إلَّا لَفْظٌ يُظَنُّ عُمُومُهُ وَلَيْسَ بِعَامِّ أَوْ قِيَاسٌ يُظَنُّ مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ فِيهِ لِلْأَصْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَلَمَّا كَانَتْ النَّجَاسَاتُ مِنْ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَةِ لِأَعْيَانِهَا وَمَذْهَبُهُمْ فِي ذَلِكَ أُخِذَ مِنْ مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ كَمَا فِي الْأَطْعِمَةِ : كَانَ مَا يُنَجِّسُونَهُ أُولَئِكَ أَعْظَمَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ : خَالَفَ حَدِيثَ الْوُلُوغِ وَنَحْوَهُ فِي النَّجَاسَاتِ فَهُوَ كَمَا يُقَالُ : إنَّهُ خَالَفَ حَدِيثَ سُبَاعِ الطَّيْرِ وَنَحْوَهُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا أَقَلُّ مُخَالَفَةً لِلنُّصُوصِ مِمَّنْ يُنَجِّسُ رَوْثَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَبَوْلَهُ أَوْ بَعْضَ ذَلِكَ أَوْ يَكْرَهُ سُؤْرَ الْهِرَّةِ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ طَاهِرَةٌ إلَّا بَوْلَ الْإِنْسِيِّ وَعَذِرَتَهُ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ بِأَبْعَدَ فِي الْحُجَّةِ مِنْ قَوْلِ مَنْ يُنَجِّسُ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ . وَمَنْ تَدَبَّرَ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَكَانَ عَالِمًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَيَّنَ لَهُ قَطْعًا أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُنْتَظِمَ لِلتَّيْسِيرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْبَهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَذْهَبِ الْمُنْتَظِمِ لِلتَّعْسِيرِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا بَالَ الْأَعْرَابِيُّ فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّبِّ عَلَى بَوْلِهِ قَالَ : { إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ } . وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَنْ خَالَفَهُمْ يَقُولُ : إنَّهُ يُغْسَلُ وَلَا يُجْزِئُ الصَّبُّ وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مُرْسَلًا لَا يَصِحُّ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الْمُحَرَّمُ لِكَسْبِهِ ؛ كَالْمَأْخُوذِ ظُلْمًا بِأَنْوَاعِ الْغَصْبِ مِنْ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْقَهْرِ ؛ وَكَالْمَأْخُوذِ بِالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ ؛ وَكَالْمَأْخُوذِ عِوَضًا عَنْ عَيْنٍ أَوْ نَفْعٍ مُحَرَّمٍ ؛ كَثَمَنِ الْخَمْرِ وَالدَّمِ ؛ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ ؛ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ : فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْدَلِ الْمَذَاهِبِ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الظُّلْمِ وَمَا يَسْتَلْزِمُ الظُّلْمَ أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَبَائِثَ مِنْ الْمَطَاعِمِ إذْ هِيَ تُغَذِّي تَغْذِيَةً خَبِيثَةً تُوجِبُ لِلْإِنْسَانِ الظُّلْمَ كَمَا إذَا اغْتَذَى مِنْ الْخِنْزِيرِ وَالدَّمِ وَالسِّبَاعِ ؛ فَإِنَّ الْمُغَذِّيَ شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذَى بِهِ فَيَصِيرُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ بِحَسَبِ مَا اغْتَذَى مِنْهُ .
وَإِبَاحَتُهَا لِلْمُضْطَرِّ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ بَقَاءِ النَّفْسِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَفْعِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ عَارِضٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَعَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ أَثَرًا يَضُرُّ . وَأَمَّا الظُّلْمُ فَمُحَرَّمٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَحَرَّمَهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَهُ مُحَرَّمًا عَلَى عِبَادِهِ . وَحَرَّمَ الرِّبَا لِأَنَّهُ مُتَضَمِّنٌ لِلظُّلْمِ فَإِنَّهُ أَخْذُ فَضْلٍ بِلَا مُقَابِلٍ لَهُ وَتَحْرِيمُ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْمَيْسِرِ الَّذِي هُوَ الْقِمَارُ ؛ لِأَنَّ الْمُرَابِيَ قَدْ أَخَذَ فَضْلًا مُحَقَّقًا مِنْ مُحْتَاجٍ وَأَمَّا الْمُقَامِرُ فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ فَضْلٌ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ وَقَدْ يَقْمُرُ هَذَا هَذَا وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ .
{ وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ؛ وَعَنْ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ وَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ نَوْعُ مُقَامَرَةٍ وَأَرْخَصَ فِي ذَلِكَ فِيمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَيَدْخُلُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ كَمَا أَرْخَصَ فِي ابْتِيَاعِهَا بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا مُبْقَاةً إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَجْزَائِهَا لَمْ يُخْلَقْ وَكَمَا أَرْخَصَ فِي ابْتِيَاعِ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ مَعَ جَدِيدِهِ إذَا اشْتَرَطَهُ الْمُبْتَاعُ وَهُوَ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ وَهَذَا جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشَّجَرِ الَّذِي فِيهِ ثَمَرٌ ظَاهِرٌ وَجَعَلَ لِلْبَائِعِ ثَمَرَةَ النَّخْلِ الْمُؤَبَّرِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْهَا الْمُشْتَرِي فَتَكُونُ الشَّجَرَةُ لِلْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ يَنْتَفِعُ بِهَا بِإِبْقَاءِ ثَمَرِهِ عَلَيْهَا إلَى حِينِ الْجِذَاذِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ وَقَالَ : { إنْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَشْبَهُ بِالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ مِنْ مَذْهَبِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّ مُخَالِفَهُمْ جَعَلَ الْبَيْعَ إذَا وَقَعَ عَلَى مَوْجُودٍ جَازَ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ وَجَعَلَ مُوجِبَ كُلِّ عَقْدٍ قَبْضَ الْمَبِيعِ عَقِبَهُ وَلَمْ يُجِزْ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ فَقَالَ : إنَّهُ إذَا اشْتَرَى الثَّمَرَ بَادِيًا صَلَاحُهُ أَوْ غَيْرَ بَادٍ صَلَاحُهُ جَازَ وَمُوجَبُ الْعَقْدِ الْقَطْعُ فِي الْحَالِ لَا يَسُوغُ لَهُ تَأْخِيرُ الثَّمَرِ إلَى تَكَمُّلِ صَلَاحِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِطَهُ . وَجَعَلُوا ذَلِكَ الْقَبْضَ قَبْضًا نَاقِلًا لِلضَّمَانِ إلَى الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ وَطَرَدُوا ذَلِكَ فَقَالُوا : إذَا بَاعَ عَيْنًا مُؤَجَّرَةً لَمْ يَصِحَّ لِتَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ وَقَالُوا : إذَا اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ : كَظَهْرِ الْبَعِيرِ وَسُكْنَى الدَّارِ لَمْ يَجُزْ وَذَلِكَ كُلُّهُ فَرْعٌ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ . وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ خَالَفُوهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَاتَّبَعُوا النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ وَهُوَ مُوَافَقَةُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْعَادِلِ فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : الْعَقْدُ مُوجِبٌ الْقَبْضَ عَقِبَهُ ؛ يُقَالُ لَهُ : مُوجَبُ الْعَقْدِ إمَّا أَنْ يُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ ؛ أَوْ مِنْ قَصْدِ الْعَاقِدِ وَالشَّارِعُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا
يُوجِبُ مُوجَبَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا وَأَمَّا الْمُتَعَاقِدَانِ فَهُمَا تَحْتَ مَا تَرَاضَيَا بِهِ وَيَعْقِدَانِ الْعَقْدَ عَلَيْهِ فَتَارَةً يَعْقِدَانِ عَلَى أَنْ يَتَقَابَضَا عَقِبَهُ وَتَارَةً عَلَى أَنْ يَتَأَخَّرَ الْقَبْضُ كَمَا فِي الثَّمَرِ ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْحُلُولَ ؛ وَلَهُمَا تَأْجِيلُهُ إذَا كَانَ لَهُمَا فِي التَّأْجِيلِ مَصْلَحَةٌ فَكَذَلِكَ الْأَعْيَانُ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ الْمَبِيعَةُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ أَوْ غَيْرِهِ كَالشَّجَرِ الَّذِي ثَمَرُهُ ظَاهِرٌ وَكَالْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ وَكَالْعَيْنِ الَّتِي اسْتَثْنَى الْبَائِعُ نَفْعَهَا مُدَّةً لَمْ يَكُنْ مُوجَبُ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَقْتَضِيَ الْمُشْتَرِي مَا لَيْسَ لَهُ ؛ وَمَا لَمْ يَمْلِكْهُ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بَعْضَ الْعَيْنِ دُونَ بَعْضٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا دُونَ مَنْفَعَتِهَا . ثُمَّ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقْبِضُ الْعَيْنَ أَوْ قِيلَ : لَا يَقْبِضُهَا بِحَالِ : لَا يَضُرُّ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ هُوَ مِنْ تَمَامِ الْعَقْدِ كَمَا هُوَ فِي الرَّهْنِ بَلْ الْمِلْكُ يَحْصُلُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِلْمُشْتَرِي تَابِعًا وَيَكُونُ نَمَاءُ الْمَبِيعِ لَهُ بِلَا نِزَاعٍ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَلَكِنَّ أَثَرَ الْقَبْضِ إمَّا فِي الضَّمَانِ وَإِمَّا فِي جَوَازِ التَّصَرُّفِ . وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي } . وَلِهَذَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ ؛ فَإِنَّ تَعْلِيقَ الضَّمَانِ بِالتَّمْكِينِ مِنْ الْقَبْضِ أَحْسَنُ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِنَفْسِ الْقَبْضِ وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَّةُ فَفِي الثِّمَارِ الَّتِي أَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْجِذَاذِ
وَكَانَ مَعْذُورًا فَإِذَا تَلِفَتْ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ ؛ وَلِهَذَا الَّتِي تَلِفَتْ بَعْدَ تَفْرِيطِهِ فِي الْقَبْضِ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ وَالْعَبْدُ وَالدَّابَّةُ الَّتِي تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِهَا تَكُونُ مِنْ ضَمَانِهِ عَلَى حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ . وَمَنْ جَعَلَ التَّصَرُّفَ تَابِعًا لِلضَّمَانِ فَقَدْ غَلِطَ ؛ فَإِنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنَافِعَ الْإِجَارَةِ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ اسْتِيفَائِهَا كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ وَمَعَ هَذَا لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا بِمِثْلِ الْأُجْرَةِ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي إيجَارِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأُجْرَةِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ رِبْحًا فِيمَا لَا يُضْمَنُ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّهَا إذَا تَلِفَتْ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ كَانَتْ مِنْ ضَمَانِهِ وَلَكِنْ إذَا تَلِفَتْ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَكُنْ مِنْ ضَمَانِهِ . وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَيْضًا ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا نَبْتَاعُ الطَّعَامَ جُزَافًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَى أَنْ نَبِيعَهُ حَتَّى نَنْقُلَهُ إلَى رِحَالِنَا } . وَابْنُ عُمَرَ هُوَ الْقَائِلُ : { مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَا أَدْرَكَتْهُ الصَّفْقَةُ حَيًّا مَجْمُوعًا فَهُوَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي } . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الطَّعَامِ مَضْمُونٌ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَنْقُلَهُ وَغَلَّةُ الثِّمَارِ وَالْمَنَافِعُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا وَلَوْ تَلِفَتْ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ قَبْضِهَا كَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْمُؤَجِّرِ وَالْبَائِعِ وَالْمَنَافِعُ لَا يُمْكِنُ التَّصَرُّفُ فِيهَا إلَّا بَعْدَ
اسْتِيفَائِهَا وَكَذَلِكَ الثِّمَارُ لَا تُبَاعُ عَلَى الْأَشْجَارِ بَعْدَ الْجِذَاذِ بِخِلَافِ الطَّعَامِ الْمَنْقُولِ . وَالسُّنَّةُ فِي هَذَا الْبَابِ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْقَادِرِ عَلَى الْقَبْضِ وَغَيْرِ الْقَادِرِ فِي الضَّمَانِ وَالتَّصَرُّفِ فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كُلِّهِ وَقَوْلُهُمْ أَعْدَلُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يُخَالِفُ السُّنَّةَ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِثْلَ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْغَائِبَةِ : مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَهَا مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ تُوصَفْ وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ بَيْعَهَا مَعَ الْوَصْفِ ؛ وَمَالِكٌ جَوَّزَ بَيْعَهَا مَعَ الصِّفَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَهَذَا أَعْدَلُ . وَالْعُقُودُ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَوْجَبَ فِيهَا الْأَلْفَاظَ وَتَعَاقَبَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ جَعَلُوا الْمَرْجِعَ فِي الْعُقُودِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَتِهِمْ فَمَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ وَمَا عَدُّوهُ إجَارَةً فَهُوَ إجَارَةٌ وَمَا عَدُّوهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَعْدَلُ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ مِنْهَا مَا لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ . وَمِنْهَا مَا لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ . وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ بَلْ يَرْجِعُ إلَى الْعُرْفِ كَالْقَبْضِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يَحُدَّهَا الشَّارِعُ وَلَا لَهَا حَدٌّ فِي اللُّغَةِ ؛ بَلْ يَتَنَوَّعُ ذَلِكَ
بِحَسَبِ عَادَاتِ النَّاسِ وَعُرْفِهِمْ فَمَا عَدُّوهُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ وَمَا عَدُّوهُ هِبَةً فَهُوَ هِبَةٌ وَمَا عَدُّوهُ إجَارَةً فَهُوَ إجَارَةٌ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ مَالِكًا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْمُغَيَّبِ فِي الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَاللِّفْتِ وَبَيْعِ المقاثي جُمْلَةً كَمَا يُجَوِّزُ هُوَ وَالْجُمْهُورُ بَيْعَ الْبَاقِلَاءِ وَنَحْوَهُ فِي قِشْرِهِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى هَذَا التَّارِيخِ وَلَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ النَّاسِ بِدُونِ هَذَا وَمَا يُظَنُّ أَنَّ هَذَا نَوْعُ غَرَرٍ فَمِثْلُهُ جَائِزٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوعِ لِأَنَّهُ يَسِيرٌ وَالْحَاجَةِ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ يُبِيحُ ذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَا ؟ وَكَذَلِكَ مَا يُجَوِّزُ مَالِكٌ مِنْ مَنْفَعَةِ الشَّجَرِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ مِثْلَ أَنْ يَكْرِيَ أَرْضًا أَوْ دَارًا فِيهَا شَجَرَةٌ أَوْ شَجَرَتَانِ هُوَ أَشْبَهُ بِالْأُصُولِ مِنْ قَوْلِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ . وَقَدْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ مُطْلَقًا وَجَوَّزُوا ضَمَانَ الْحَدِيقَةِ الَّتِي فِيهَا أَرْضٌ وَشَجَرٌ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَمَّا قَبِلَ الْحَدِيقَةَ مِنْ أسيد بْنِ الحضير ثُلُثًا وَقَضَى بِمَا تَسَلَّفَهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ الرِّبَا ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ الْقِمَارِ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ مُحَقَّقٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا جَعَلَ خَلْقَهُ نَوْعَيْنِ غَنِيًّا وَفَقِيرًا
أَوْجَبَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ الزَّكَاةَ حَقًّا لِلْفُقَرَاءِ وَمَنَعَ الْأَغْنِيَاءَ عَنْ الرِّبَا الَّذِي يَضُرُّ الْفُقَرَاءَ وَقَالَ تَعَالَى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } فَالظَّالِمُونَ يَمْنَعُونَ الزَّكَاةَ وَيَأْكُلُونَ الرِّبَا وَأَمَّا الْقِمَارُ فَكُلٌّ مِنْ الْمُتَقَامِرَيْنِ قَدْ يَقْمُرُ الْآخَرَ وَقَدْ يَكُونُ الْمَقْمُورُ هُوَ الْغَنِيَّ أَوْ يَكُونَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مِنْ ظُلْمِ الْمُحْتَاجِ وَضَرَرِهِ مَا فِي الرِّبَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ ظُلْمَ الْمُحْتَاجِ أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمِ غَيْرِ الْمُحْتَاجِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ حَرَّمُوا الرِّبَا وَمَنَعُوا التَّحَيُّلَ عَلَى اسْتِحْلَالِهِ وَسَدُّوا الذَّرِيعَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَيْهِ فَأَيْنَ هَذَا مِمَّنْ يُسَوِّغُ الِاحْتِيَالَ عَلَى أَخْذِهِ ؟ بَلْ يَدُلُّ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا يَظْهَرُ بِذِكْرِ مَثَلًا رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا النسأ .
أَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُبَاعُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ بِجِنْسِهِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلِ ؛ إذْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمِثْلِ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَظُلْمٌ فَإِذَا أَرَادَ الْمَدِينُ أَنْ يَبِيعَ مِائَةَ دِينَارٍ مَكْسُورٍ
وَزْنُهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا ؛ يُسَوِّغُ لَهُ مُبِيحُ الْحِيَلِ أَنْ يُضِيفَ إلَى ذَلِكَ رَغِيفَ خُبْزٍ أَوْ مَنْدِيلٍ يُوضَعُ فِيهِ مِائَةُ دِينَارٍ ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَسْهُلُ عَلَى كُلِّ مُرْبٍ فِعْلُهُ : لَمْ يَكُنْ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا فَائِدَةٌ وَلَا فِيهِ حِكْمَةٌ وَلَا يَشَاءُ مُرْبٍ أَنْ يَبِيعَ نَوْعًا مِنْ هَذَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا أَمْكَنَهُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الْقَلِيلِ مَا لَا قَدْرَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ . وَكَذَلِكَ إذَا سُوِّغَ لَهُمَا أَنْ يَتَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ بِعَرْضِ لَا قَصْدَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ ثُمَّ يَبْتَاعُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ أَمْكَنَ طَالِبَ الرِّبَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ هُوَ دُونَ الرَّسُولِ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ وَأَذِنَ أَنْ يُفْعَلَ بِطَرِيقِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَكَانَ هَذَا عَيْبًا وَسَفَهًا ؛ فَإِنَّ الْفَسَادَ بَاقٍ وَلَكِنْ زَادَهُمْ غِشًّا وَإِنْ كَانَ فِيهِ كُلْفَةٌ فَقَدْ كَلَّفَهُمْ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَكَيْفَ يُظَنُّ هَذَا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ بَلْ مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُلُوكَ لَوْ نَهَوْا عَمَّا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحْتَالَ الْمَنْهِيُّ عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقِ لَعَدُّوهُ لَاعِبًا مُسْتَهْزِئًا بِأَوَامِرِهِمْ وَقَدْ عَذَّبَ اللَّهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الَّذِينَ احْتَالُوا عَلَى أَلَّا يَتَصَدَّقُوا وَعَذَّبَ اللَّهُ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ لَمَّا اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَ بِالْحِيلَةِ بِأَنْ مَسَخَهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَرْكَبُوا مَا ارْتَكَبَتْ الْيَهُودُ فَتَسْتَحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِأَدْنَى الْحِيَلِ } .
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى " قَاعِدَةِ إبْطَالِ الْحِيَلِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ " فِي كِتَابٍ كَبِيرٍ مُفْرَدٍ وَقَرَّرْنَا فِيهِ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . وَكَذَلِكَ رِبَا النسأ فَإِنَّ أَهْلَ ثَقِيفٍ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِي إلَى الْغَرِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَيَقُولُ : أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي ؟ فَإِنْ لَمْ يَقْضِهِ وَإِلَّا زَادَهُ الْمَدِينُ فِي الْمَاءِ وَزَادَهُ الطَّالِبُ فِي الْأَجَلِ فَيُضَاعِفُ الْمَالَ فِي الْمُدَّةِ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ . وَهَذَا هُوَ الرِّبَا الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَفِيهِ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَالظُّلْمُ وَالضَّرَرُ فِيهِ ظَاهِرٌ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحَلَّ الْبَيْعَ وَأَحَلَّ التِّجَارَةَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَالْمُبْتَاعُ يَبْتَاعُ مَا يَسْتَنْفِعُ بِهِ كَطَعَامِ وَلِبَاسٍ وَمَسْكَنٍ وَمَرْكَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالتَّاجِرُ يَشْتَرِي مَا يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ لِيَرْبَحَ فِيهِ وَأَمَّا آخِذُ الرِّبَا فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ أَنْ يَأْخُذَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ فَيَلْزَمُ الْآخَرُ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَ بِلَا فَائِدَةٍ حَصَلَتْ لَهُ لَمْ يَبِعْ وَلَمْ يَتَّجِرْ وَالْمُرْبِي آكِلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ بِظُلْمِهِ وَلَمْ يَنْفَعْ النَّاسَ لَا بِتِجَارَةِ وَلَا غَيْرِهَا ؛ بَلْ يُنْفِقُ دَرَاهِمَهُ بِزِيَادَةِ بِلَا مَنْفَعَةٍ حَصَلَتْ لَهُ وَلَا لِلنَّاسِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَقْصُودَهُمَا فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَوَصَّلُوا إلَيْهِ حَصَلَ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ مِثْلَ أَنْ تَوَاطَآ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ ثُمَّ يَبْتَاعَهُ فَهَذِهِ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ وَفِي
السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوْ الرِّبَا } مِثْلَ أَنْ يُدْخِلَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا يَبْتَاعُ مِنْهُ أَحَدُهُمَا مَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ لِيَبِيعَهُ آكِلُ الرِّبَا لِمُوكِلِهِ فِي الرِّبَا ثُمَّ الْمُوكِلُ يَرُدُّهُ إلَى الْمُحَلِّلِ بِمَا نَقَصَ مِنْ الثَّمَنِ . وَقَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ } { وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } . وَمِثْلَ أَنْ يَضُمَّا إلَى الرِّبَا نَوْعَ قَرْضٍ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ وَلَا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ وَلَا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنُ وَلَا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك . } ثُمَّ { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ } وَهُوَ : اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ وَالْحَبِّ بِخَرْصِ وَكَمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنْ الطَّعَامِ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِالطَّعَامِ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّسَاوِي فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ وَالْخَرْصُ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُ المكال إنَّمَا هُوَ حَزْرٌ وَحَدْسٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ . ثُمَّ إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرَايَا يَبْتَاعُهَا أَهْلُهَا بِخَرْصِهَا تَمْرًا فَيَجُوزُ ابْتِيَاعُ الرِّبَوِيِّ هُنَا بِخَرْصِهِ وَأَقَامَ الْخَرْصَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَقَامَ الْكَيْلِ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْعِلْمِ بِالزَّكَاةِ وَفِي الْمُقَاسَمَةِ أَقَامَ الْخَرْصَ مَقَامَ الْكَيْلِ فَكَانَ يَخْرُصُ الثِّمَارَ عَلَى أَهْلِهَا يُحْصِي الزَّكَاةَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يُقَاسِمُ أَهْلَ خَيْبَرَ خَرْصًا بِأَمْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ التَّقْدِيرُ بِالْكَيْلِ فُعِلَ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ كَانَ الْخَرْصُ قَائِمًا مَقَامَهُ لِلْحَاجَةِ كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ فِي الْمَعْلُومِ وَالْعَلَامَةِ ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَقُومُ مَقَامَ النَّصِّ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالتَّقْوِيمَ يَقُومُ مَقَامَ الْمِثْلِ وَعَدَمِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمِثْلِ وَالثَّمَنِ الْمُسَمَّى . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْقَافَةُ الَّتِي هِيَ اسْتِدْلَالٌ بِالشَّبَهِ عَلَى النَّسَبِ إذَا تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقَرَائِنِ ؛ إذْ الْوَلَدُ يُشْبِهُ وَالِدَهُ فِي الْخَرْصِ وَالْقَافَةُ وَالتَّقْوِيمُ أَبْدَالٌ فِي الْعِلْمِ كَالْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ وَكَذَلِكَ الْعَدْلُ فِي الْعَمَلِ ؛ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَدْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } .
وَاَللَّهُ قَدْ شَرَعَ الْقِصَاصَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَقَالَ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } الْآيَةَ فَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا عُدْوَانًا كَانَ عَلَيْهِ الْقَوَدُ ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ مَا فَعَلَ ؛ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهُ بِحَقِّ اللَّهِ
كَمَا إذَا رَضَخَ رَأْسَهُ كَمَا { رَضَخَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَ الْيَهُودِيِّ الَّذِي رَضَخَ رَأْسَ الْجَارِيَةِ } كَانَ ذَلِكَ أَتَمَّ فِي الْعَدْلِ بِمَنْ قَتَلَهُ بِالسَّيْفِ فِي عُنُقِهِ وَإِذَا تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ عُدِلَ إلَى الدِّيَةِ وَكَانَتْ الدِّيَةُ بَدَلًا لِتَعَذُّرِ الْمِثْلِ . وَإِذَا أَتْلَفَ لَهُ مَالًا ؛ كَمَا لَوْ تَلِفَتْ تَحْتَ يَدِهِ الْعَارِيَةُ : فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْمِثْلُ كَانَتْ الْقِيمَةُ - وَهِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ - بَدَلًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمِثْلِ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَوْجَبَ الْمِثْلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ أَقْرَبَ إلَى الْعَدْلِ مِمَّنْ أَوْجَبَ الْقِيمَةَ مِنْ غَيْرِ الْمِثْلِ وَفِي هَذَا كَانَتْ قِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا : التَّنْبِيهُ . وَحِينَئِذٍ فَتَجْوِيزُ الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ بَيْعِهَا بِالْكَيْلِ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ مَعَ ثُبُوتِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَمَالِكٌ جَوَّزَ الْخَرْصَ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا عَيْنُ الْفِقْهِ الصَّحِيحِ . وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ : أَنَّهُ يُضْمَنُ بِالْمِثْلِ فِي الصُّورَةِ كَمَا مَضَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَأَقْضِيَةُ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشِ
وَقَضَتْ الصَّحَابَةُ فِي النَّعَامَةِ بِبَدَنَةِ وَفِي الظَّبْيِ بِشَاةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَمَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الْقِيمَةَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وَأَنَّهُ يَشْتَرِي بِالْقِيمَةِ الْأَنْعَامَ وَالْقِيمَةُ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ .
فَصْلٌ :
وَلَمَّا كَانَ الْمُحَرَّمُ نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ لِعَيْنِهِ وَنَوْعٌ لِكَسْبِهِ ؛ فَالْكَسْبُ الَّذِي هُوَ مُعَامَلَةُ النَّاسِ نَوْعَانِ : مُعَاوَضَةٌ ؛ وَمُشَارَكَةٌ . فَالْمُبَايَعَةُ وَالْمُؤَاجَرَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ هِيَ الْمُعَاوَضَةُ . وَأَمَّا الْمُشَارَكَةُ فَمِثْلُ مُشَارَكَةِ الْعَنَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُشَارَكَاتِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُشَارَكَاتِ مِنْ أَصَحِّ الْمَذَاهِبِ وَأَعْدَلِهَا ؛ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْعَنَانِ وَالْأَبْدَانِ وَغَيْرَهُمَا وَيُجَوِّزُ الْمُضَارَبَةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجَوِّزُ مِنْ الشَّرِكَةِ إلَّا مَا كَانَ تَبَعًا لِشَرِكَةِ الْمِلْكِ ؛ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ نَوْعَانِ : شَرِكَةٌ فِي الْأَمْلَاكِ ؛ وَشَرِكَةٌ فِي الْعُقُودِ . فَأَمَّا شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ كَاشْتِرَاكِ الْوَرَثَةِ فِي الْمِيرَاثِ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى عَقْدٍ وَلَكِنْ إذَا
اشْتَرَكَ اثْنَانِ فِي عَقْدٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَحْصُلُ بِعَقْدِ وَلَا تَحْصُلُ الْقِسْمَةُ بِعَقْدِ . وَأَحْمَد تَحْصُلُ الشَّرِكَةُ عِنْدَهُ بِالْعَقْدِ وَالْقِسْمَةُ بِالْعَقْدِ فَيُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْعَنَانِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَالَيْنِ وَعَدَمِ الِاخْتِلَاطِ وَإِذَا تَحَاسَبَ الشَّرِيكَانِ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ إفْرَازٍ كَانَ ذَلِكَ قِسْمَةً حَتَّى لَوْ خَسِرَ الْمَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تُجْبَرْ الْوَضِيعَةُ بِالرِّبْحِ . وَالشَّافِعِيُّ لَا يُجَوِّزُ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَلَا الْوُجُوهِ وَلَا الشَّرِكَةَ بِدُونِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ وَلَا أَنْ يَشْتَرِطَ لِأَحَدِهِمَا رِبْحًا زَائِدًا عَلَى نَصِيبِ الْآخَرِ مِنْ مَالِهِ إذْ لَا تَأْثِيرَ عِنْدَهُ لِلْعَقْدِ وَجَوَّزَ الْمُضَارَبَةَ وَبَعْضَ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةَ تَبَعًا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لَا لِوَفْقِ الْقِيَاسِ . وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ نَفْسُهُ فَلَا يُجَوِّزُ مُسَاقَاةً وَلَا مُزَارَعَةً ؛ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُؤَاجَرَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ بِالْأُجْرَةِ . وَمَالِكٌ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْسَعُ مِنْهُمَا حَيْثُ جَوَّزَ الْمُسَاقَاةَ عَلَى جَمِيعِ الثِّمَارِ مَعَ تَجْوِيزِ الْأَنْوَاعِ مِنْ الْمُشَارَكَاتِ الَّتِي هِيَ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَالْأَبْدَانِ لَكِنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ الْمُزَارَعَةَ عَلَى الْأَرْضِ الْبَيْضَاءِ مُوَافَقَةً لِلْكُوفِيِّينَ . وَأَمَّا قُدَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هُمْ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَكَانُوا
يُجَوِّزُونَ هَذَا كُلَّهُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ ؛ وَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ ؛ وَمُحَمَّدٍ ؛ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ . وَالشُّبْهَةُ الَّتِي مَنَعَتْ أُولَئِكَ الْمُعَامَلَةَ : أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ إجَارَةٌ وَالْإِجَارَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ بِقَدْرِ الْأُجْرَةِ ثُمَّ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ الْمُضَارَبَةَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ ؛ إذْ الدَّرَاهِمُ لَا تُؤَجَّرُ . وَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ نَفْسِ الْمُشَارَكَاتِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَقْصِدُ اسْتِيفَاءَ الْعَمَلِ كَمَا يَقْصِدُ اسْتِيفَاءَ عَمَلِ الْخَيَّاطِ وَالْخَبَّازِ وَالطَّبَّاخِ وَنَحْوِهِمْ وَأَمَّا فِي هَذَا الْبَابِ فَلَيْسَ الْعَمَلُ هُوَ الْمَقْصُودَ بَلْ هَذَا يَبْذُلُ نَفْعَ بَدَنِهِ وَهَذَا يَبْذُلُ نَفْعَ مَالِهِ لِيَشْتَرِكَا فِيمَا رَزَقَ اللَّهُ مِنْ رِبْحٍ فَإِمَّا يَغْنَمَانِ جَمِيعًا أَوْ يَغْرَمَانِ جَمِيعًا وَعَلَى هَذَا { عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ } . وَاَلَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كِرَاءِ الْمُزَارَعَةِ فِي حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّيْثُ وَغَيْرُهُ ؛ فَإِنَّهُ { نَهَى أَنْ يُكْرَى بِمَا تُنْبِتُ الماذيانات وَالْجَدَاوِلُ وَشَيْءٌ مِنْ التِّبْنِ } فَرُبَّمَا غَلَّ هَذَا وَلَمْ يَغُلَّ هَذَا فَنَهَى أَنْ يُعَيِّنَ الْمَالِكُ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا كَمَا نَهَى فِي الْمُضَارَبَةِ أَنْ يُعَيِّنَ الْعَامِلُ مِقْدَارًا مِنْ الرِّبْحِ وَرِبْحَ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ
لِأَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ الْعَدْلَ فِي الْمُشَارَكَةِ . وَأَصْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَحُّ مِنْ أَصْلِ غَيْرِهِمْ الَّذِي يُوجِبُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَمَلٍ وَلِهَذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ وَقَدْ تَكُونُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِنْ الْمَالِ وَرِبْحِهِ : فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ فِي الْفَاسِدِ نَظِيرَ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الصَّحِيحِ فَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ ثَمَنًا وَأُجْرَةً وَجَبَ فِي الْفَاسِدِ قِسْطٌ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْفَاسِدِ قِسْطًا مِنْ الرِّبْحِ وَكَذَلِكَ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ وَغَيْرِهِمَا . وَمَا يَضْعُفُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ قَوْلِ مُتَأَخِّرِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ أَضْعَفُ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ الرَّأْيِ الْمُحْدَثِ الَّذِي عَلِمَ بِهِ مَنْ عَابَهُ مِنْ السَّلَفِ وَأَمَّا مَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَالْعَمَلُ فَهُوَ الْعَدْلُ . وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأُصُولَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ وَالْمُزَارَعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ مِنْ الْمُؤَاجَرَةِ ؛ فَإِنَّ الْمُؤَاجَرَةَ مُخَاطَرَةٌ وَالْمُسْتَأْجِرَ قَدْ يَنْتَفِعُ وَقَدْ لَا يَنْتَفِعُ بِخِلَافِ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْغُنْمِ وَالْغُرْمِ فَلَيْسَ فِيهَا مِنْ الْمُخَاطَرَةِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مَا فِي الْمُؤَاجَرَةِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَإِنَّ أَصْلَ الدِّينِ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ عَابَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَأَنَّهُمْ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَاقْرَأْ مِنْ قَوْلِهِ : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ } الْآيَةَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ ذَمَّ الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ وَمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الشِّرْكِ وَذَمَّهُمْ عَلَى احْتِجَاجِهِمْ عَلَى بِدَعِهِمْ بِالْقَدَرِ قَالَ تَعَالَى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } الْآيَةَ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : إنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاءَ فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْت لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا } وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مَا حَرَّمُوهُ وَمَا شَرَعُوهُ وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } الْآيَةَ وَقَالَ :
{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } الْآيَةَ فَبَيَّنَ لَهُمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَمَا حَرَّمَهُ هُوَ وَقَالَ ذَمًّا لَهُمْ : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ } الْآيَةَ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُحَرِّمَ إلَّا مَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِلَّا فَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّحْرِيمِ . سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَعْيَانُ وَالْأَفْعَالُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْرَعَ دِينًا وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى وُجُوبِهِ وَاسْتِحْبَابِهِ . إذَا عُرِفَ هَذَا فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْظَمُ النَّاسِ اعْتِصَامًا بِهَذَا الْأَصْلِ ؛ فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ أَهْلِ الْمَدَائِنِ الْإِسْلَامِيَّةِ كَرَاهِيَةً لِلْبِدَعِ وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى مَا حَرَّمَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَهُمْ لَا يُحَرِّمُونَهُ . وَأَمَّا الدِّينُ فَهُمْ أَشَدُّ أَهْلِ الْمَدَائِنِ اتِّبَاعًا لِلْعِبَادَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ الْعِبَادَاتِ الْبِدْعِيَّةِ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ مِنْهَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ اسْتَحَبُّوا لِلْمُتَوَضِّئِ وَالْمُغْتَسِلِ وَالْمُصَلِّي وَنَحْوِهِمْ أَنْ يَتَلَفَّظُوا بِالنِّيَّةِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَقَالُوا : إنَّ التَّلَفُّظَ بِهَا أَقْوَى مِنْ مُجَرَّدِ قَصْدِهَا بِالْقَصْدِ وَإِنْ كَانَ التَّلَفُّظُ بِهَا لَمْ يُوجِبْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمْ يَسْتَحِبُّوا شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ . وَلِأَصْحَابِ أَحْمَد وَجْهَانِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَصْحَابُهُ بَلْ كَانَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرِ وَلَا يَقُولُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَذَلِكَ فِي تَعْلِيمِهِ لِلصَّحَابَةِ إنَّمَا عَلَّمَهُمْ الِافْتِتَاحَ بِالتَّكْبِيرِ فَهَذِهِ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَهِيَ أَيْضًا غَلَطٌ فِي الْقَصْدِ فَإِنَّ الْقَصْدَ إلَى الْفِعْلِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فِي النَّفْسِ فَالتَّلَفُّظُ بِهِ مِنْ بَابِ الْعَبَثِ كَتَلَفُّظِ الْآكِلِ بِنِيَّةِ الْأَكْلِ ؛ وَالشَّارِبِ بِنِيَّةِ الشُّرْبِ ؛ وَالنَّاكِحِ بِنِيَّةِ النِّكَاحِ ؛ وَالْمُسَافِرِ بِنِيَّةِ السَّفَرِ ؛ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ .
وَمِنْ ذَلِكَ " صِفَاتُ الْعِبَادَاتِ " فَإِنَّ مَالِكًا وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يُجَوِّزُونَ تَغْيِيرَ صِفَةِ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَلَا يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ بِغَيْرِ التَّكْبِيرِ الْمَشْرُوعِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ : اللَّهُ أَكْبَرُ كَمَا أَنَّ هَذَا التَّكْبِيرَ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْأَذَانِ وَالْأَعْيَادِ وَلَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَا يُجَوِّزُونَ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ الْمَقْصُودِ الْمَنْصُوصِ فِي الزَّكَاةِ إلَى مَا يَخْتَارُ الْمَالِكُ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْقِيمَةِ . وَهُمْ فِي مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ حَيْثُ يَسْتَحِبُّونَ تَقْدِيمَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ وَيَجْعَلُونَ وَقْتَ الْعَصْرِ إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَهُوَ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَيَجْعَلُونَ وَقْتَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ مُشْتَرِكًا لِلْمَعْذُورِ كَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ
وَيُجَوِّزُونَ الْجَمْعَ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي جَدَّ بِهِ السَّيْرُ ؛ وَالْمَرِيضِ ؛ وَفِي الْمَطَرِ . وَهُمْ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ مُعْتَدِلُونَ ؛ فَإِنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِتْمَامَ أَفْضَلَ مِنْ الْقَصْرِ أَوْ يَجْعَلُ الْقَصْرَ أَفْضَلَ لَكِنْ لَا يَكْرَهُ الْإِتْمَامَ بَلْ يَرَى أَنَّهُ الْأَظْهَرُ وَأَنَّهُ لَا يَقْصُرُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَصْرَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ الْإِتْمَامَ غَيْرَ جَائِزٍ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الْقَصْرُ وَإِذَا رَبَّعَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ الْقَصْرَ سُنَّةً رَاتِبَةً وَالْجَمْعَ رُخْصَةً عَارِضَةً . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَشْبَهُ الْأَقْوَالِ بِالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ فِي " السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ " يَجْعَلُونَ الْوِتْرَ رَكْعَةً وَاحِدَةً وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا شَفْعٌ . وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَا وِتْرَ إلَّا كَالْمَغْرِبِ . مَعَ أَنَّ تَجْوِيزَ كِلَيْهِمَا أَصَحُّ ؛ لَكِنَّ الْفَصْلَ أَفْضَلُ مِنْ الْوَصْلِ . فَقَوْلُهُمْ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ مُطْلَقًا وَلَا يَرَوْنَ لِلْجُمُعَةِ قَبْلَهَا سُنَّةً رَاتِبَةً خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْكُوفِيِّينَ . وَمَالِكٌ لَا يُوَقِّتُ مَعَ الْفَرَائِضِ شَيْئًا وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ وَقَّتَ أَشْيَاءَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ فَقَوْلُ مَالِكٍ أَقْرَبُ إلَى السُّنَّةِ . وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ الْجَمْعَ وَالْقَصْرَ لِلْحَاجِّ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَالْقَصْرَ
بِمِنَى سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهِمْ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا رَيْبٍ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إلَّا لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَأَضْعَفُ مِنْهُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا لِمَنْ كَانَ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ ؛ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ لِلْجَمْعِ أَسْبَابًا غَيْرَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ كَمَا يَجُوزُ فِي الطَّوِيلِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزْهُ إلَّا فِي الطَّوِيلِ لَا فِي الْقَصِيرِ . وَظَنَّ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِمِنَى ثُمَّ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ } وَهَذَا بَاطِلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا الَّذِي فِي السُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لَمَّا صَلَّى فِي مَكَّةَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَكَذَلِكَ قَدْ نَقَلُوا هَذَا عَنْ عُمَرَ . وَيُرْوَى أَنَّ الرَّشِيدَ لَمَّا حَجَّ أَمَرَ أَبَا يُوسُفَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ : أَتَقُولُ لَنَا هَذَا وَمِنْ عِنْدَنَا خَرَجَتْ السُّنَّةُ ؟ وَقَالَ : هَذَا مِنْ فِقْهِك تَكَلَّمَ وَأَنْتَ فِي الصَّلَاةِ .
وَهَذَا الْمَكِّيُّ وَافَقَ أَبَا يُوسُفَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْصُرُونَ لَكِنْ مِنْ قِلَّةِ فِقْهِهِ تَكَلَّمَ وَتَكَلُّمُ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ بِتَحْرِيمِ الْكَلَامِ لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَيُبْطِلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَلَوْ كَانَ الْمَكِّيُّ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ لَقَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ بَلْ قَدْ صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنَى رَكْعَتَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَكَذَلِكَ صَلَّوْا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَأْمُرُوا مَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ الْمَكِّيِّينَ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ فِيهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
وَمِنْ ذَلِكَ " صَلَاةُ الْكُسُوفِ " فَإِنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَتْ السُّنَنُ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ صَلَّاهَا بِرُكُوعَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَاتَّبَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ هَذِهِ السُّنَّةَ وَخَفِيَتْ عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ حَيْثُ مَنَعُوا ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ " صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ " فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ } وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ أَنْ يُصَلِّيَ لِلِاسْتِسْقَاءِ وَخَفِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ .
وَمِنْ ذَلِكَ تَكْبِيرَاتُ الْعِيدِ الزَّوَائِدُ ؛ فَإِنَّ غَالِبَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ تُوَافِقُ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْأُولَى سَبْعٌ بِتَكْبِيرَاتِ الِافْتِتَاحِ وَالْإِحْرَامِ وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسٌ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاةَ هَلْ تُدْرَكُ بِرَكْعَةِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ ؟ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا إنَّمَا تُدْرَكُ بِرَكْعَةِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } وَقَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ } فَمَالِكٌ يَقُولُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ : إنَّمَا تُدْرَكُ بِرَكْعَةِ وَكَذَلِكَ إدْرَاكُ الصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ إدْرَاكُ الْوَقْتِ كَالْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ وَالْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يُعَلِّقُ الْإِدْرَاكَ فِي الْجَمِيعِ بِمِقْدَارِ التَّكْبِيرَةِ حَتَّى فِي الْجُمُعَة يَقُولُ : إذَا أَدْرَكَ مِنْهَا مِقْدَارَ تَكْبِيرَةٍ فَقَدْ أَدْرَكَهَا . وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد يُوَافِقَانِ مَالِكًا فِي الْجُمُعَةِ وَيَخْتَلِفُ قَوْلُهُمَا فِي غَيْرِهَا وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِهِمَا يُوَافِقُونَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي الْبَاقِي . وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَ مَنْ وَافَقَ مَالِكًا فِي الْجَمِيعِ أَصَحُّ نَصًّا وَقِيَاسًا . وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى مَالِكٍ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنْ الصَّلَاةِ } وَلَيْسَ فِي هَذَا حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّجْدَةِ الرَّكْعَةُ كَمَا { قَالَ ابْنُ عُمَرَ : حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَهَا } وَنَظَائِرُهَا مُتَعَدِّدَةٌ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا صَلَّى نَاسِيًا لِجَنَابَتِهِ وَحَدَثِهِ ثُمَّ عَلِمَ أَعَادَ هُوَ وَلَمْ يُعِدْ الْمَأْمُومُ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُعِيدُ الْجَمِيعُ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَالْمَنْصُوصُ الْمَشْهُورُ عَنْهُ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ جَرَتْ لِأَبِي يُوسُفَ ؛ فَإِنَّ الْخَلِيفَةَ اسْتَخْلَفَهُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرْ النَّاسَ بِالْإِعَادَةِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : رُبَّمَا ضَاقَ عَلَيْنَا الشَّيْءُ فَأَخَذْنَا بِقَوْلِ إخْوَانِنَا الْمَدَنِيِّينَ مَعَ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فِيهَا خِلَافٌ كَثِيرٌ ؛ لِكَوْنِ الْإِمَامَةِ شَرْطًا فِيهَا . وَطَرَدَ مَالِكٌ هَذَا الْأَصْلَ أَيْضًا فِي سَائِرِ خَطَأِ الْإِمَامِ فَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ بِاجْتِهَادِهِ فَتَرَكَ مَا يَعْتَقِدُ الْمَأْمُومُ وُجُوبَهُ مِثْلَ : أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ لَا يَرَى وُجُوبَ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ أَوْ لَا يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الدَّمِ أَوْ مِنْ الْقَهْقَهَةِ ؛ أَوْ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ وَالْمَأْمُومُ يَرَى وُجُوبَ ذَلِكَ : فَمَذْهَبُ مَالِكٍ صِحَّةُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ . وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا يَصِحُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ هُوَ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي
صِحَّتِهِ ؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ صَلَّى بِاجْتِهَادِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُنَفِّذُ حُكْمَهُ إذَا حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ ؟ فالائتمام بِهِ أَوْلَى . وَالْمُنَازِعُ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ صَلَّى بِاجْتِهَادِهِ أَوْ تَقْلِيدِهِ وَأَنَّهُ إنْ كَانَ مُصِيبًا فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاتِهِ ثُمَّ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ مَا زَالَ يُصَلِّي خَلْفَ بَعْضٍ مَعَ وُجُودِ مِثْلِ ذَلِكَ فَمَا زَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَمْثَالُهُ يُصَلُّونَ خَلْفَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُمْ لَا يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ سِرًّا وَلَا جَهْرًا . وَمِنْ الْمَأْثُورِ أَنَّ الرَّشِيدَ احْتَجَمَ فَاسْتَفْتَى مَالِكًا فَأَفْتَاهُ بِأَنَّهُ لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ فَصَلَّى خَلْفَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد أَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ فَقِيلَ لِأَبِي يُوسُفَ : أَتُصَلِّي خَلْفَهُ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ تَرْكَ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ لِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ . وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ هَذَا
فَأَفْتَى بِوُجُوبِ الْوُضُوءِ ؛ فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ : فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَتَوَضَّأُ أُصَلِّي خَلْفَهُ ؟ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ أَلَا تُصَلِّي خَلْفَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَمَالِكٌ يَرَى أَنَّ كَلَامَ النَّاسِي وَالْجَاهِلِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُهَا عَلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ ؛ وَحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ لَمَّا شَمَّتَ الْعَاطِسَ ؛ وَحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ فِي الصَّلَاةِ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالُوا : حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ بَعْدَ خَيْبَرَ ؛ إذْ قَدْ شَهِدَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَامَ خَيْبَرَ وَتَحْرِيمُ الْكَلَامِ كَانَ قَبْلَ رُجُوعِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ الْحَبَشَةِ وَابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ بَدْرًا . وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّنْبِيهِ بِالْقُرْآنِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ التَّوَسُّعِ مَا يُوَافِقُ السُّنَّةَ بِخِلَافِ الْكُوفِيِّينَ : فَإِنَّهُمْ ضَيَّقُوا فِي هَذَا الْبَابِ تَضْيِيقًا كَثِيرًا وَجَعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْكَلَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
وَمِنْ ذَلِكَ فِي الطَّهَارَةِ أَنَّ مَالِكًا رَأَى الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَلَمْسِ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ دُونَ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْسِ النِّسَاءِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَدُونَ الْخَارِجِ النَّادِرِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَالْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ غَيْرِهِمَا . وَأَبُو حَنِيفَةَ رَآهَا مِنْ الْقَهْقَهَةِ وَالْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ مُطْلَقًا وَلَا يَرَاهَا مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَادِيثَ نَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ أَثْبَتُ وَأَعْرَفُ مِنْ أَحَادِيثِ الْقَهْقَهَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ مِنْهَا فِي السُّنَنِ شَيْئًا وَهِيَ مَرَاسِيلُ ضَعِيفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ ؛ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا شَيْءٌ . وَالْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ فِيهِ طَرِيقَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ تَعَبُّدًا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَلَا يَكُونُ بَعِيدًا عَنْ الْأُصُولِ كَالْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْعَلُهُ تَعَبُّدًا ؛ فَهُوَ حِينَئِذٍ أَظْهَرُ وَأَقْوَى . وَأَمَّا لَمْسُ النِّسَاءِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا وُضُوءَ مِنْهُ بِحَالِ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ - وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ
أَحْمَد - : أَنَّهُ إنْ كَانَ بِشَهْوَةِ نَقَضَ الْوُضُوءَ وَإِلَّا فَلَا وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ بِكُلِّ حَالٍ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلَ مَالِكٍ هُمَا الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ فِي السَّلَفِ وَأَمَّا إيجَابُ الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَقَوْلٌ شَاذٌّ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا فِي أَثَرٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا هُوَ مُوَافِقٌ لِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّ اللَّمْسَ الْعَارِيَ عَنْ شَهْوَةٍ لَا يُؤَثِّرُ لَا فِي الْإِحْرَامِ وَلَا فِي الِاعْتِكَافِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِيهِمَا اللَّمْسُ مَعَ الشَّهْوَةِ وَلَا يُكْرَهُ لِصَائِمِ وَلَا يُوجِبُ مُصَاهَرَةً وَلَا يُؤَثِّرُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ فَمَنْ جَعَلَهُ مُفْسِدًا لِلطَّهَارَةِ فَقَدْ خَالَفَ الْأُصُولَ وقَوْله تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } إنْ أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ فَقَطْ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ وَغَيْرُهُ فَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ لَامَسْتُمْ فِي الْوُضُوءِ كَقَوْلِهِ فِي الِاعْتِكَافِ : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَالْمُبَاشَرَةُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا تُؤَثِّرُ هُنَاكَ ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } . هَذَا مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَا زَالَ الرِّجَالُ يَمَسُّونَ النِّسَاءَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَوْ كَانَ الْوُضُوءُ مِنْ ذَلِكَ وَاجِبًا لَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُنْقَلُ وَيُؤْثَرُ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ احْتَجَّ مَنْ احْتَجَّ عَلَى مَالِكٍ فِي مَسْأَلَةِ الْمَنِيِّ أَنَّ النَّاسَ لَا يَزَالُونَ يَحْتَلِمُونَ فِي الْمَنَامِ فَتُصِيبُ الْجَنَابَةُ أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ فَلَوْ كَانَ الْغُسْلُ وَاجِبًا لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِغَسْلِ مَا أَصَابَهُ مِنْ مَنِيٍّ لَا فِي بَدَنِهِ وَلَا فِي ثِيَابِهِ وَقَدْ أَمَرَ الْحَائِضَ أَنْ تَغْسِلَ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ ثَوْبِهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ إصَابَةَ الْجَنَابَةِ ثِيَابَ النَّاسِ أَكْثَرُ مِنْ إصَابَةِ دَمِ الْحَيْضِ ثِيَابَ النِّسَاءِ فَكَيْفَ يُبَيِّنُ هَذَا لِلْحَائِضِ وَيَتْرُكُ بَيَانَ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْعَامِّ ؟ مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَثَبَتَ عَنْهَا أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ أَنَّهَا كَانَتْ تَفْرُكُهُ فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا أَيْضًا أَنَّ الْغُسْلَ يَكُونُ لِقَذَارَتِهِ كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ : أَمِطْهُ عَنْك وَلَوْ بإذخرة فَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ . فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحُجَّةُ مُسْتَقِيمَةً فَمِثْلُهَا يُقَالُ فِي الْوُضُوءِ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ وَلَمْسِهِنَّ لِشَهْوَةِ فِي التوضي مِنْهُ اجْتِهَادٌ وَتَنَازُعٌ قَدِيمٌ وَأَمَّا لَمْسُهُنَّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَكَمَا تَرَى . وَكَذَلِكَ الِاغْتِسَالُ مِنْ الْجَنَابَةِ ؛ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَد بَلْ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْهُ : اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِيهِ ؛ فَإِنَّ مَنْ نَقَلَ غُسْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَعَائِشَةَ وَمَيْمُونَةَ لَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ غَسَلَ بَدَنَهُ
كُلَّهُ ثَلَاثًا بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ بَعْدَ الْوُضُوءِ وَتَخْلِيلِ أُصُولِ الشَّعْرِ حَثَا حَثْيَةً عَلَى شِقِّ رَأْسِهِ وَأَنَّهُ أَفَاضَ الْمَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سَائِرِ بَدَنِهِ . وَاَلَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الثَّلَاثَ إنَّمَا ذَكَرُوهُ قِيَاسًا عَلَى الْوُضُوءِ وَالسُّنَّةُ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَ السُّنَّةُ فِي الْغُسْلِ التَّثْلِيثَ لَمْ يَكْفِهِ ذَلِكَ فَإِنَّ سَائِرَ الْأَعْضَاءِ فَوْقَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ .
وَمِنْ ذَلِكَ التَّيَمُّمُ ؛ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَجِبُ أَنْ يَتَيَمَّمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ يَتَيَمَّمُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ . وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْآثَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْمَأْثُورَةَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَلِهَذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَشْهُورُ فِيهِمَا عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُوجِبُونَ الزَّكَاةَ فِي مَالِ الْخَلِيطَيْنِ ؛ كَمَالُ الْمَالِكِ الْوَاحِدِ وَيَجْعَلُونَ فِي الْإِبِلِ إذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةً فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتِ لَبُونٍ ؛ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِكِتَابَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّدَقَةِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَامَّةُ كُتُبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاَلَّتِي كَانَتْ عِنْدَ آلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَآلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهَا تُوَافِقُ هَذَا . وَمَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْكُوفِيِّينَ يَسْتَأْنِفُ الْفَرِيضَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَحْصُلُ لِلْخَلْطَةِ تَأْثِيرٌ وَمَعَهُمْ آثَارُ الِاسْتِئْنَافِ ؛ لَكِنْ لَا تُقَاوِمُ هَذَا وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهُوَ مَنْسُوخٌ كَمَا نُسِخَ مَا رُوِيَ فِي الْبَقَرِ أَنَّهَا تُزَكَّى بِالْغَنَمِ . وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ لَا وَقْصَ إلَّا فِي الْمَاشِيَةِ فَفِي النَّقْدَيْنِ مَا زَادَ فَبِحَسَبِهِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ فِي الْآثَارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُ الْوَقْصَ تَابِعًا لِلنِّصَابِ فَفِي النَّقْدَيْنِ عِنْدَهُ لَا زَكَاةَ فِي الْوَقْصِ كَمَا فِي الْمَاشِيَةِ . وَأَمَّا الْمُعَشَّرَاتُ فَعِنْدَهُ لَا وَقْصَ فِيهَا وَلَا نِصَابَ بَلْ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فِي الْخَضْرَاوَاتِ لَكِنَّ صَاحِبَاهُ وَافَقَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ ؛ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ . وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ } وَبِمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ تَرْكِ أَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ مَعَ مَا رُوِيَ عَنْهُ : { لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } . وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ الرِّكَازَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } لَا يَدْخُلُ الْمَعْدِنُ بَلْ الْمَعْدِنُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ
كَمَا أُخِذَتْ مِنْ مَعَادِنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ فَإِنَّ الْمُوَطَّأَ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَدَبَّرَ تَرَاجِمَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الْآثَارِ وَتَرْتِيبَهُ عَلِمَ قَوْلَ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَقَصَدَ بِذَلِكَ التَّرْتِيبِ وَالْآثَارِ بَيَانَ السُّنَّةِ وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهَا وَمَنْ كَانَ بِمَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ أَعْلَمَ كَانَ أَعْلَمَ بِمِقْدَارِ الْمُوَطَّأِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ يَقُولُ : كِتَابٌ جَمَعْته فِي كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ تَأْخُذُونَهُ فِي كَذَا وَكَذَا يَوْمًا كَيْفَ تَفْقَهُونَ مَا فِيهِ ؟ أَوْ كَلَامًا يُشْبِهُ هَذَا . وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يَجْعَلُونَ الرِّكَازَ اسْمًا يَتَنَاوَلُ الْمَعَادِنَ وَدَفْنَ الْجَاهِلِيَّةِ .
وَكَذَلِكَ أُمُورُ الْمَنَاسِكِ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يَرَوْنَ لِلْقَارِنِ أَنْ يَطُوفَ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا وَلَا يَسْعَى إلَّا سَعْيًا وَاحِدًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّهَا تُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ . وَمَنْ صَارَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ إلَى أَنْ يَطُوفَ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْعَى لِلْعُمْرَةِ ثُمَّ يَطُوفَ ثَانِيًا وَيَسْعَى لِلْحَجِّ فَمُتَمَسِّكٌ بِآثَارِ مَنْقُولَةٍ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَهَذَا إنْ صَحَّ لَا يُعَارِضُ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ . فَإِنْ قِيلَ : فَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى الْقِرَانَ أَفْضَلَ ؛ وَمَالِكٌ يَرَى الْإِفْرَادَ
أَفْضَلَ وَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ لَا يَرْتَابُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . قِيلَ : هَذِهِ الْمَسَائِلُ كَثُرَ نِزَاعُ النَّاسِ فِيهَا وَاضْطَرَبَ عَلَيْهِمْ مَا نُقِلَ فِيهَا وَمَا مِنْ طَائِفَةٍ إلَّا وَقَدْ قَالَتْ فِيهَا قَوْلًا مَرْجُوحًا وَالتَّحْقِيقُ الثَّابِتُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَجَّ بِأَصْحَابِهِ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِهِمْ وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ فَلَمَّا لَمْ يَحْلِلْ تَوَقَّفُوا فَقَالَ : لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَمَا سُقْت الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتهَا عُمْرَةً } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ . فَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ السُّنَّةُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَالتَّمَتُّعُ أَفْضَلُ لَهُ وَإِنَّ مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ أَفْضَلُ لَهُ هَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي سُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ . وَأَمَّا إذَا سَافَرَ لِلْحَجِّ سُفْرَةً وَلِلْعُمْرَةِ سُفْرَةً فَالْإِفْرَادُ أَفْضَلُ لَهُ . وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ إذَا سَافَرَ لِكُلِّ مِنْهُمَا سُفْرَةً وَالْقِرَانُ الَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِطَوَافِ وَاحِدٍ وَبِسَعْيٍ وَاحِدٍ لَمْ يَقْرِنْ بِطَوَافَيْنِ وسعيين كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ يَظُنُّهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُفْرِدْ الْحَجَّ كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَلَا اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إلَّا عَائِشَةُ لِأَجْلِ عُمْرَتِهَا الَّتِي حَاضَتْ فِيهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ
صَحَّ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ : إحْدَاهُنَّ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَلَمْ يَحِلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إحْرَامِهِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَمَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ . وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ صُدُّوا عَنْ الْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ اعْتَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَائِفَةٌ مِمَّنْ مَعَهُ لَمْ يَعْتَمِرُوا وَجَمِيعُ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ كَانُوا أَكْثَرَ مَنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَهُمْ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ قَبْلَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ . وَمَذْهَبُهُمْ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِأَحَدِ بَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَحْرِمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ وَالْكُوفِيُّونَ يَسْتَحِبُّونَ الْإِحْرَامَ قَبْلَهُ . وَقَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُوَافِقُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ ثَلَاثَ عُمَرٍ قَبْلَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ : عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ وَكِلَاهُمَا أَحْرَمَ فِيهِمَا مِنْ ذِي الحليفة وَاعْتَمَرَ عَامَ حنين مِنْ الْجِعْرَانَةِ ثُمَّ حِجَّةَ الْوَدَاعِ وَأَحْرَمَ فِيهَا مِنْ ذِي الحليفة وَلَمْ يُحْرِمْ مِنْ الْمَدِينَةِ قَطُّ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُدَاوِمَ عَلَى تَرْكِ الْأَفْضَلِ وَخُلَفَاؤُهُ
كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ نَهَوْا عَنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْمِيقَاتِ . وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ ؟ فَقَالَ : أَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ الْفِتْنَةِ فَقَالَ : قَالَ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } فَقَالَ السَّائِلُ : وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي ذَلِكَ ؟ وَإِنَّمَا هِيَ زِيَادَةُ امْتِثَالٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَظُنَّ أَنَّك خَصَصْت بِفِعْلِ لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ كَمَا قَالَ . وَكَانَ يَقُولُ : لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا أَوْ كُلَّمَا جَاءَنَا رَجُلٌ أَجْدَلُ مِنْ رَجُلٍ تَرَكْنَا مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ بِجَدَلِ هَذَا ؟ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إنْ وَطِئَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ فَسَدَ حَجُّهُ وَمَنْ وَطِئَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ دُونَ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ التَّعْرِيفِ لَا يُفْسِدُ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْوَطْءَ بَعْدَ التَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ لَا يُوجِبُ إحْرَامًا ثَانِيًا . وَاتَّبَعَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَهُ فِي مُوَطَّئِهِ ؛ لَكِنْ لَمْ يُسَمِّ مَنْ نَقَلَهُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ إذْ الرَّاوِي لَهُ عِكْرِمَةُ لَمَّا بَلَغَهُ فِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعْدٍ وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَمَّهُ تَوْثِيقَ عِكْرِمَةَ وَلِهَذَا رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ خَالَفَ حَدِيثَ ضباعة بِنْتِ الزُّبَيْرِ فِي اشْتِرَاطِهَا
التَّحَلُّلَ إذَا حَبَسَهَا حَابِسٌ { وَحَدِيثَ عَائِشَةَ فِي تَطْيِيبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ إحْرَامِهِ وَقَبْلَ طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ } { وَحَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَنَّهُ مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } وَغَيْرَ ذَلِكَ ؟ قِيلَ : إذَا قِيسَ هَذَا بِمَا خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَنَحْوُهُ كَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مَعَ أَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ اتَّبَعَ فِيهَا آثَارًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَ تَنَازُعِ الصَّحَابَةِ الرَّدَّ إلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ بَعْضُ السُّنَّةِ فَاتَّبَعَ عُمَرَ وَابْنَ عُمَرَ وَنَحْوَهُمَا كَانَ أَرْجَحَ مِمَّا خَفِيَ عَنْهُ أَكْثَرُ مِمَّا خَفِيَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَلَفٌ مِثْلُ سَلَفِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
وَمِنْ ذَلِكَ حَرَمُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ ؛ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ بِإِثْبَاتِ حَرَمِهَا بَلْ صَحَّ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ جَعَلَ جَزَاءَ مَنْ عَضَدَ بِهَا شَجَرًا أَنَّ سَلَبَهُ لِوَاجِدِهِ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّهَا حَرَامٌ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ نِزَاعٌ وَمَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَمْ تَبْلُغْهُ هَذِهِ السُّنَنُ ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ أَتْبَاعِهِمْ أَخَذَ يُعَارِضُ ذَلِكَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عُمَيْرٍ ؛ وَحَدِيثِ الْوَحْشِ ؛ وَهَذِهِ لَوْ كَانَتْ تُقَاوِمُ ذَلِكَ فِي الصِّحَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُعَارَضَ بِهَا لَكِنَّ تِلْكَ مُتَوَاتِرَاتٌ وَحَدِيثُ أَبِي عُمَيْرٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ
الصَّيْدَ صِيدَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ ثُمَّ أُدْخِلَ إلَيْهَا كَذَلِكَ حَدِيثُ الْوَحْشِ إنْ صَحَّ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمَا مُتَعَارِضَانِ فَكَانَ مِثْلَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ لِأَنَّ أَحَادِيثَ الْحَرَمِ رَوَاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَنَحْوُهُ مِمَّنْ صُحْبَتُهُ مُتَأَخِّرَةٌ ؛ وَأَمَّا دُخُولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ فَكَانَ مِنْ أَوَائِلِ الْهِجْرَةِ أَوْ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ نَصَّانِ أَحَدُهُمَا نَاقِلٌ عَنْ الْأَصْلِ وَالْآخَرُ نَافٍ مُبْقٍ لِحُكْمِ الْأَصْلِ كَانَ النَّاقِلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُدِّمَ النَّاقِلُ لَمْ يَلْزَمْ تَعْيِينُ الْحُكْمِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِذَا قُدِّمَ الْمُبْقِي تَغَيَّرَ الْحُكْمُ مَرَّتَيْنِ . فَلَوْ قِيلَ : إنَّ حَدِيثَ أَبِي عُمَيْرٍ بَعْدَ أَحَادِيثِ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ لَكَانَ قَدْ حَرَّمَهُ ثُمَّ أَحَلَّهُ وَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا كَوْنُهُ قَدْ حَرَّمَهُ بَعْدَ التَّحْلِيلِ وَهَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْمُنَاكَحُ فَلَا رَيْبَ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي بُطْلَانِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ وَنِكَاحِ الشِّغَارِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ مِمَّنْ لَمْ يُبْطِلْ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } ،
وَثَبَتَ عَنْ أَصْحَابِهِ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ التَّحْلِيلِ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ الرُّخْصَةُ فِي ذَلِكَ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِأُصُولِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ . فَإِنَّ مِنْ أُصُولِهِمْ أَنَّ القصود فِي الْعُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ كَمَا يَجْعَلُونَ الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ كَالشَّرْطِ الْمُقَارَنِ وَيَجْعَلُونَ الشَّرْطَ الْعُرْفِيَّ كَالشَّرْطِ اللَّفْظِيِّ . وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأُصُولِ أَبْطَلُوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ وَخُلْعَ الْيَمِينِ الَّذِي يُفْعَلُ حِيلَةً لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَأَبْطَلُوا الْحِيَلَ الَّتِي يُسْتَحَلَّ بِهَا الرِّبَا وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . وَمَنْ نَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكُوفِيِّينَ . وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَلْغَى النِّيَّاتِ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ وَجَعَلَ الْقَصْدَ الْحَسَنَ كَالْقَصْدِ السَّيِّئِ وَسَوَّغَ إظْهَارَ أَعْمَالٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَا قَصْدٍ بَلْ هِيَ نَوْعٌ مِنْ النِّفَاقِ وَالْمَكْرِ كَمَا قَالَ أَيُّوبُ السختياني يُخَادِعُونَ اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ الصِّبْيَانَ لَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ . وَالْبُخَارِيُّ قَدْ أَوْرَدَ فِي صَحِيحِهِ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْحِيَلِ وَمَا زَالَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي الْكِتَابِ الْمُفْرَدِ . وَنِكَاحُ الشِّغَارِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ
وَجْهٍ النَّهْيُ عَنْهُ وَلَكِنْ مَنْ صَحَّحَهُ مِنْ الْكُوفِيِّينَ رَأَى أَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِيهِ إلَّا عَدَمُ إعْلَامِ الْمَهْرِ وَالنِّكَاحُ يَصِحُّ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُبْطِلُونَ لَهُ لَهُمْ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَأْخَذَهُ جَعْلُ بُضْعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مَهْرَ الْأُخْرَى فَيَلْزَمُ التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يُبْطِلُونَهُ إلَّا أَنْ يُسَمَّى مَهْرًا ؛ لِأَنَّهُ مَعَ تَسْمِيَتِهِ انْتَفَى التَّشْرِيكُ فِي الْبُضْعِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُبْطِلُهُ إلَّا بِقَوْلِ : وَبُضْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مَهْرٌ لِلْأُخْرَى ؛ لِكَوْنِهِ إذَا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ جَعْلُ الْبُضْعِ مَهْرًا . وَمِنْهُمْ مَنْ يُبْطِلُهُ مُطْلَقًا كَمَا جَاءَ عَنْهُ بِذَلِكَ حَدِيثٌ مُصَرِّحٌ بِهِ فِي السُّنَنِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي : أَنَّ بُطْلَانَهُ لِاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمَهْرِ وَفَرْقٌ بَيْنَ السُّكُوتِ عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَبَيْنَ اشْتِرَاطِ الْمَهْرِ ؛ فَإِنَّ هَذَا النِّكَاحَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى هَذَا فَلَوْ سَمَّى الْمَهْرَ بِمَا يَعْلَمَانِ تَحْرِيمَهُ كَخَمْرِ وَخِنْزِيرٍ بَطَلَ النِّكَاحُ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَأَشْبَهُ بِقِيَاسِ الْأُصُولِ .
وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْحَامِلِ أَوْ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ الزِّنَا بَاطِلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ
وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْآثَارِ وَالْقِيَاسِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ الْمَاءُ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ . وَقَدْ خَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَجَوَّزَ الْعَقْدَ دُونَ الْوَطْءِ وَالشَّافِعِيُّ جَوَّزَهُمَا . وَأَحْمَد وَافَقَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ ؛ فَلَمْ يُجَوِّزْ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ حَتَّى تَتُوبَ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ . وَأَمَّا مَنْ ادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْوَطْءُ فَفَسَادُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ . وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ كَاَلَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا ؛ أَوْ الَّتِي وُطِئَتْ بِشُبْهَةِ ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ لَا يَتَدَاخَلَانِ ؛ بَلْ تَعْتَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ بِتَدَاخُلِهِمَا . وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي : هَلْ تَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ ؟ وَهُوَ الَّذِي يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ يُصِيبُهَا ثُمَّ تَعُودُ إلَى الْأَوَّلِ ؛ فَإِنَّهَا تَعُودُ عَلَى مَا بَقِيَ عِنْدَ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكَابِرِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَمْثَالِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ وَإِنَّمَا قَالَ لَا تَعُودُ عَلَى مَا بَقِيَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَكَذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يُوقَفُ إمَّا أَنْ يَفِيَ وَإِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ . وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ بِضْعَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْأُصُولُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ عَزْمَ الطَّلَاقِ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ فَإِذَا انْقَضَتْ وَلَمْ يَفِ طَلُقَتْ وَغَايَةُ مَا يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إنْ صَحَّ عَنْهُ .
وَمَسْأَلَةُ الرَّجْعَةِ بِالْفِعْلِ كَمَا إذَا طَلَّقَهَا : فَهَلْ يَكُونُ الْوَطْءُ رَجْعَةً ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا : يَكُونُ رَجْعَةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : لَا يَكُونُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّالِثُ : يَكُونُ رَجْعَةً مَعَ النِّيَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ وَالْأَحْكَامُ فَمَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَرْجَحُ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ يُوجِبُونَ الْقَوَدَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ وَكَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ بَلْ بَالَغَ مَالِكٌ حَتَّى أَنْكَرَ الْخَطَأَ شِبْهَ
الْعَمْدِ وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ لِهَجْرِ الشِّبْهِ لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ مِنْ الْخَطَأِ امْتَازَ بِمَزِيدِ حُكْمٍ فَلَيْسَ هُوَ قِسْمًا مِنْ الْخَطَأِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ . وَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحُرِّ بِالْعَبْدِ لِلنَّاسِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : يُقْتَلُ بِهِ بِكُلِّ حَالٍ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ . وَالثَّانِي : لَا يُقْتَلُ بِهِ بِحَالِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَالثَّالِثُ : لَا يُقْتَلُ بِهِ إلَّا فِي الْمُحَارَبَةِ ؛ فَإِنَّ الْقَتْلَ فِيهَا حَدٌّ لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا تَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ بَلْ يُقْتَلُ فِيهِ الْحُرُّ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ عَبْدًا وَالْمُسْلِمُ وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ ذِمِّيًّا . وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لِأَحْمَدَ وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُحَارَبِينَ وَغَيْرِهِمْ إجْرَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الرَّدْءِ وَالْمُبَاشِرِ كَمَا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فِي الْجِهَادِ . وَمَنْ نَازَعَهُ فِي هَذَا سَلَّمَ أَنَّ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْقَتْلِ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقَوَدُ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ كَمَا قَالَ عُمَرُ لَوْ تَمَالَأَ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ بِهِ فَإِنْ كَانُوا كُلُّهُمْ مُبَاشِرِينَ فَلَا نِزَاعَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ غَيْرَ مُبَاشِرٍ لَكِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ سَبَبًا يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ غَالِبًا : كَالْمُكْرَهِ وَشَاهِدِ الزُّورِ إذَا رَجَعَ وَالْحَاكِمِ الْجَائِرِ إذَا رَجَعَ : فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ يَجِبُ عَلَى هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ سَرَقَ
فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ رَجَعَا وَقَالَا : أَخْطَأْنَا قَالَ : " لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا " فَدَلَّ عَلَى قَطْعِ الْأَيْدِي بِالْيَدِ وَعَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى شَاهِدِ الزُّورِ . وَالْكُوفِيُّونَ يُخَالِفُونَ فِي هَذَيْنِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ رَقَبَةَ الْمُحَارَبِينَ بَيْنَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مُشْتَرِكِينَ فِي الْعُقُوبَةِ أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَفْظًا وَمَعْنًى مِمَّنْ لَمْ يُوجِبْ الْعُقُوبَةَ إلَّا عَلَى نَفْسِ الْمُبَاشِرِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَتَّبِعُونَ مَا خَطَبَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ زَنَى مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا أُحْصِنَّ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ . كَذَلِكَ يَحُدُّونَ فِي الْخَمْرِ بِمَا إذَا وُجِدَ سكرانا أَوْ تَقَيَّأَ ؛ أَوْ وُجِدَتْ مِنْهُ الرَّائِحَةُ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ . وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَرَوْنَ الْحَدَّ إلَّا بِإِقْرَارِ أَوْ بَيِّنَةٍ عَلَى الْفِعْلِ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ شُبْهَةٌ وَعَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوَّلَ أَشْبَهُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَهُوَ حِفْظٌ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِهَا وَالشُّبْهَةُ فِي هَذَا كَالشُّبْهَةِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ وَالْخَطَأَ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ " الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ " مَشْرُوعَةٌ حَيْثُ مَضَتْ بِهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ كَمَا أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ حَيْثُ مَضَتْ بِهَا السُّنَّةُ وَقَدْ أَنْكَرَ الْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةَ مَنْ أَنْكَرَهَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ وَادَّعَوْا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَمِنْ أَيْنَ يَأْتُونَ عَلَى نَسْخِهَا بِحُجَّةِ ؟ وَهَذَا يَفْعَلُونَهُ كَثِيرًا إذَا رَأَوْا حَدِيثًا صَحِيحًا يُخَالِفُ قَوْلَهُمْ وَأَمَّا عُلَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَاءُ الْحَدِيثِ فَرَأَوْا السُّنَنَ وَالْآثَارَ قَدْ جَاءَتْ بِالْعُقُوبَاتِ الْمَالِيَّةِ كَمَا جَاءَتْ بِالْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ : مِثْلَ كَسْرِ دِنَانِ الْخَمْرِ وَشَقِّ ظُرُوفِهَا وَتَحْرِيقِ حَانُوتِ الْخَمَّارِ كَمَا صَنَعَ مُوسَى بِالْعِجْلِ وَصَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَصْنَامِ وَكَمَا أَمَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو بِتَحْرِيقِ الثَّوْبَيْنِ الْمُعَصْفَرَيْنِ وَكَمَا أَمَرَهُمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِكَسْرِ الْقُدُورِ الَّتِي فِيهَا لَحْمُ الْحُمُرِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فِي غَسْلِهَا وَكَمَا ضُعِّفَ الْقَوَدُ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْحِرْزِ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ غُرْمُ الضَّالَّةِ الْمَكْتُومَةِ وَضِعْفَ ثَمَنِ دِيَةِ الذِّمِّيِّ الْمَقْتُولِ عَمْدًا . وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُمْ فِي " الْعُقُودِ وَالدِّيَاتِ " مِنْ أَصَحِّ الْمَذَاهِبِ فَمِنْ
ذَلِكَ دِيَةُ الذِّمِّيِّ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : دِيَتُهُ كَدِيَةِ الْمُسْلِمِ ؛ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : دِيَتُهُ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا قِيلَ ؛ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ دِيَتَهُ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ : أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْ ذَلِكَ الْعَاقِلَةُ تَحْمِلُ جَمِيعَ الدِّيَةِ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ أَوْ تَحْمِلُ الْمُقَدَّرَاتِ كَدِيَةِ الْمُوضِحَةِ وَالْأَصَابِعِ فَمَا فَوْقَهَا كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْ تَحْمِلُ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهَذَا الثَّالِثُ هُوَ الْمَأْثُورُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَفِي الثُّلُثِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَيُذْكَرُ أَنَّهُ تَنَاظَرَ مَدَنِيٌّ وَكُوفِيٌّ فَقَالَ الْمَدَنِيُّ لِلْكُوفِيِّ : قَدْ بُورِكَ لَكُمْ فِي الرُّبُعِ كَمَا تَقُولُ : يُمْسَحُ رُبُعُ الرَّأْسِ وَيُعْفَى عَنْ النَّجَاسَةِ الْمُخَفَّفَةِ عَنْ رُبُعِ الْمَحَلِّ وَكَمَا تَقُولُونَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ . فَقَالَ لَهُ الْكُوفِيُّ : وَأَنْتُمْ بُورِكَ لَكُمْ فِي الثُّلُثِ كَمَا تَقُولُونَ : إذَا نَذَرَ صَدَقَةَ مَالِهِ أَجْزَأَهُ الثُّلُثُ ؛ وَكَمَا تَقُولُونَ : الْعَاقِلَةُ تَحْمِلُ مَا فَوْقَ الثُّلُثِ وَعَقْلُ الْمَرْأَةِ كَعَقْلِ الرَّجُلِ إلَى الثُّلُثِ فَإِذَا زَادَتْ كَانَتْ عَلَى النِّصْفِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ وَلَكِنْ يُقَالُ لِلْكُوفِيِّ : لَيْسَ فِي الرُّبُعِ أَصْلٌ لَا
فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِنَّمَا قَالُوا : الْإِنْسَانُ لَهُ أَرْبَعُ جَوَانِبَ وَيُقَالُ : رَأَيْت الْإِنْسَانَ إذَا رَأَيْت أَحَدَ جَوَانِبِهِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فَيُقَامُ الرُّبُعُ مَقَامَ الْجَمِيعِ . وَأَمَّا الثُّلُثُ فَلَهُ أَصْلٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمَرِيضَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ لَا أَكْثَرَ كَمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ لَمَّا عَادَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ فِي الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةً مَمْلُوكِينَ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَجَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي لُبَابَةَ " يَجْزِيك الثُّلُثُ " وَكَمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا ؟ وَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَقُولُ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْقُرْعَةُ فِيهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسِتَّةُ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثُ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يستهموا عَلَيْهِ } . وَمِنْهَا : { إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ } وَمِنْهَا أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يستهمون عَلَى الْمُهَاجِرِينَ لَمَّا هَاجَرُوا إلَيْهِمْ وَمِنْهَا فِي الْمُتَدَاعِيَيْنِ اللَّذَيْنِ أَمَرَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ حَبَّا أَمْ كَرِهَا وَمِنْهَا فِي { اللَّذَيْنِ
اخْتَصَمَا فِي مَوَارِيثَ دُرِسَتْ فَقَالَ لَهُمَا : تَوَخَّيَا الْحَقَّ وَاسْتَهِمَا وَلْيَحْلِلْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ } . وَالْقُرْعَةُ يَقُولُ بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَمَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَا يَقُولُ بِهَا بَلْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : الْقُرْعَةُ قِمَارٌ وَجَعَلُوهَا مِنْ الْمَيْسِرِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقُرْعَةِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْمَيْسِرِ الَّذِي حَرَّمَهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ ؛ فَإِنَّ الْقُرْعَةَ إنَّمَا تَكُونُ مَعَ اسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ وَعَدَمِ إمْكَانِ تَعْيِينِ وَاحِدٍ وَعَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنًا كَالْمُشْتَرَكِينَ إذَا عُدِمَ الْمَقْسُومُ فَيُعَيَّنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالْقَرْعَةِ وَكَالْعَبِيدِ الَّذِينَ جَزَّأَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ وَكَالنِّسَاءِ اللَّاتِي يُرِيدُ السَّفَرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَهَذَا لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْقُرْعَةِ أَنَّهُ يُقْرَعُ فِيهِ . وَالثَّانِي : مَا يَكُونُ الْمُعَيَّنُ مُسْتَحَقًّا فِي الْبَاطِنِ كَقِصَّةِ يُونُسَ والمتداعيين وَكَالْقُرْعَةِ فِيمَا إذَا أَعْتَقَ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ أُنْسِيَهُ وَفِيمَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ أُنْسِيَهَا أَوْ مَاتَ : أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْقُرْعَةُ فِيهَا نِزَاعٌ وَأَحْمَد يُجَوِّزُ ذَلِكَ دُونَ الشَّافِعِيِّ .
فَصْلٌ :
وَمَذْهَبُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ أَنَّهُمْ يُرَجِّحُونَ جَانِبَ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَيَجْعَلُونَ الْيَمِينَ فِي جَانِبِهِ فَيَقْضُونَ بِالشَّاهِدِ وَيَمِينِ الطَّالِبِ فِي الْحُقُوقِ وَفِي الْقَسَامَةِ يَبْدَءُونَ بِتَحْلِيفِ الْمُدَّعِينَ فَإِنْ حَلَفُوا خَمْسِينَ يَمِينًا اسْتَحَقُّوا الدَّمَ . وَالْكُوفِيُّونَ يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ إلَّا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يُحَلِّفُونَ الْمُدَّعِي لَا فِي قَسَامَةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا وَلَا يَقْضُونَ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ وَلَا يَرَوْنَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي . وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيحَةَ تُوَافِقُ مَذْهَبَ الْمَدَنِيِّينَ ؛ فَإِنَّ حَدِيثَ الْقَسَامَةِ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِيهِ وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ : تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ } وَكَانَ الشَّافِعِيُّ وَنَحْوُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ إذَا نَاظَرُوا عُلَمَاءَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَأَبِي الزِّنَادِ وَغَيْرِهِ فِي الْقَسَامَةِ ؛ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالسُّنَّةِ الَّتِي لَا مَنْدُوحَةَ لَأَحَدٍ عَنْ قَبُولِهَا وَيَقُولُونَ لَهُمْ : إنَّ السُّنَّةَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِي عَلَى خِلَافِ الرَّأْيِ : فَلَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنْ قَبُولِهَا . فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ مَرْوِيٍّ بِإِسْنَادِ.
وَكَذَلِكَ " مَسْأَلَةُ الْحُكْمِ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ " فِيهَا أَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَكَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ مِمَّا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد لَمَّا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : نَرَى أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ نُقِضَ حُكْمُهُ انْتَصَرَ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الْعُلَمَاءُ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ . فَمَالِكٌ بَحَثَ فِيهَا فِي مُوَطَّئِهِ بَحْثًا لَا يُعَدُّ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " بَحَثَ فِيهَا نَحْوَ عَشْرِ أَوْرَاقٍ وَكَذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ . وَلَيْسَ مَعَ الْكُوفِيِّينَ إلَّا مَا يَرْوُونَهُ مِنْ قَوْلِهِ : { الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } . وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ فِي السُّنَنِ وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَاهُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الْأَحَادِيثِ وَلَكِنْ فِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } وَهَذَا اللَّفْظُ إمَّا أَنْ يُقَالَ : لَا عُمُومَ فِيهِ ؛ بَلْ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ وَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذْ لَيْسَ مَعَ الْمُدَّعِي إلَّا مُجَرَّدُ الدَّعْوَى كَمَا قَالَ : لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ وَمَنْ يُحَلِّفُ الْمُدَّعِيَ لَا يُحَلِّفُهُ مَعَ مُجَرَّدِ الدَّعْوَى بَلْ إنَّمَا يُحَلِّفُهُ إذَا قَامَتْ حُجَّةٌ يَرْجَحُ بِهَا جَانِبُهُ كَالشَّاهِدِ فِي الْحُقُوقِ وَالْإِرْثِ فِي الْقَسَامَةِ إنْ قِيلَ : هُوَ عَامٌّ فَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ . وَاحْتِجَاجُهُمْ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الشَّاهِدَيْنِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ
ضَعِيفٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ دُونَ الْحُكْمِ بِهَا ؛ وَلَوْ كَانَ فِي الْحُكْمِ فَالْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ الْمُجَرَّدَةِ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى ذَلِكَ وَمَنْ حَلَفَ مَعَ الشَّاهِدِ لَمْ يَحْكُمْ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الشَّهَادَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ . ثُمَّ الْأَئِمَّةُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِلَا شَهَادَةٍ أَصْلًا بَلْ بِالنُّكُولِ أَوْ الرَّدِّ وَأَنَّهُ يُحْكَمُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ فِي مَوَاضِعَ فَكَيْفَ يُحْكَمُ مَعَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُخَالِفِ لِلْقُرْآنِ ؟ فَكَيْفَ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ ؟ ثُمَّ مَالِكٌ يُوجِبُ الْقَوَدَ فِي الْقَسَامَةِ وَيُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا الْتَعَنَ الرَّجُلُ وَلَمْ تَلْتَعِنْ الْمَرْأَةُ وَالشَّافِعِيُّ يُقِيمُ الْحَدَّ وَلَا يَقْتُلُ مِنْ الْقَسَامَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخَالِفُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَأَحْمَد يُوَافِقُ عَلَى الْقَوَدِ بِالْقَسَامَةِ دُونَ حَدِّ الْمَرْأَةِ بَلْ يَحْبِسُهَا إذَا لَمْ تَلْتَعِنْ وَيُخَلِّيهَا . وَظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُوَافِقُ قَوْلَ مَالِكٍ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ قَتْلَ اللُّوطِيِّ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ ؛ مُحْصَنَيْنِ كَانَا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمَنْ قَالَ لَا قَتْلَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ فَلَا سُنَّةَ مَعَهُ وَلَا أَثَرَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ قَالَ رَبِيعَةُ لِلْكُوفِيِّ الَّذِي نَاظَرَهُ أَيُجْعَلُ مَا لَا يَحِلُّ بِحَالِ كَمَا يُبَاحُ بِحَالِ
دُونَ حَالٍ ؟ وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِذَلِكَ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الدَّعْوَى فِي التُّهَمِ كَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ يُرَاعُونَ فِيهَا حَالَ الْمُتَّهَمِ : هَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ التُّهَمِ أَمْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ ؟ وَيَرَوْنَ عُقُوبَةَ مَنْ ظَهَرَتْ التُّهْمَةُ فِي حَقِّهِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ صَنَّفَ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ذَكَرُوا فِي عُقُوبَةِ مِثْلَ هَذَا هَلْ يُعَاقِبُهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي أَمْ يُعَاقِبُهُ الْوَالِي ؟ قَوْلَانِ . وَكَمَا يَجِبُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ مُتَنَاوِلٌ لِكُلِّ مَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ سَوَاءٌ كَانَ وَالِيًا أَوْ قَاضِيًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ غَلِطَ وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوِلَايَةِ لِكَوْنِ هَذَا وَلِيٍّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ دُونَ هَذَا فَهَذَا مُتَوَجِّهٌ . وَهَذَا كَمَا يُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ خِطَابِ بَعْضِ أَتْبَاعِ الْكُوفِيِّينَ وَفِي تَصَانِيفِهِمْ إذَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ مُحْتَجٌّ بِمَنْ قَتَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ ؛ كَقَتْلِهِ الْيَهُودِيَّ الَّذِي رَضَّ رَأْسَ الْجَارِيَةِ وَكَإِهْدَارِهِ لِدَمِ السَّابَّةِ الَّتِي سَبَّتْهُ وَكَانَتْ مُعَاهَدَةً وَكَأَمْرِهِ بِقَتْلِ اللُّوطِيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ . قَالُوا : هَذَا يَعْمَلُهُ سِيَاسَةً فَيُقَالُ . لَهُمْ : هَذِهِ السِّيَاسَةُ : إنْ قُلْتُمْ هِيَ مَشْرُوعَةٌ لَنَا فَهِيَ حَقٌّ ؛ وَهِيَ سِيَاسَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْ قُلْتُمْ : لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً لَنَا فَهَذِهِ مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ . ثُمَّ قَوْلُ الْقَائِلِ بَعْدَ هَذَا سِيَاسَةٌ : إمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ النَّاسَ
يُسَاسُونَ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ أَمْ هَذِهِ السِّيَاسَةُ مِنْ غَيْرِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ . فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ فَذَلِكَ مِنْ الدِّينِ وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي فَهُوَ الْخَطَأُ . وَلَكِنَّ مَنْشَأَ هَذَا الْخَطَأِ أَنَّ مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ فِيهِ تَقْصِيرٌ عَنْ مَعْرِفَةِ سِيَاسَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيَاسَةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا مَاتَ نَبِيٌّ قَامَ نَبِيٌّ . وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ يَكْثُرُونَ ؛ قَالُوا : فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ قَالَ : أَوْفُوا بَيْعَةَ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلَ وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ } فَلَمَّا صَارَتْ الْخِلَافَةُ فِي وَلَدِ الْعَبَّاسِ وَاحْتَاجُوا إلَى سِيَاسَةِ النَّاسِ وَتَقَلَّدَ لَهُمْ الْقَضَاءَ مَنْ تَقَلَّدَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ وَلَمْ يَكُنْ مَا مَعَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ كَافِيًا فِي السِّيَاسَةِ الْعَادِلَةِ : احْتَاجُوا حِينَئِذٍ إلَى وَضْعِ وِلَايَةِ الْمَظَالِمِ وَجَعَلُوا وِلَايَةَ حَرْبٍ غَيْرَ وِلَايَةِ شَرْعٍ وَتَعَاظَمَ الْأَمْرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى صَارَ يُقَالُ : الشَّرْعُ وَالسِّيَاسَةُ وَهَذَا يَدْعُو خَصْمَهُ إلَى الشَّرْعِ وَهَذَا يَدْعُو إلَى السِّيَاسَةِ سَوَّغَ حَاكِمًا أَنْ يَحْكُمَ بِالشَّرْعِ وَالْآخَرُ بِالسِّيَاسَةِ . وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَى الشَّرْعِ قَصَّرُوا فِي مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ فَصَارَتْ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ إذَا حَكَمُوا ضَيَّعُوا الْحُقُوقَ وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ حَتَّى تُسْفَكَ الدِّمَاءُ وَتُؤْخَذَ الْأَمْوَالُ وَتُسْتَبَاحَ الْمُحَرَّمَاتُ ؟ وَاَلَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَى السِّيَاسَةِ صَارُوا يَسُوسُونَ بِنَوْعِ مِنْ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَخَيْرُهُمْ الَّذِي يَحْكُمُ بِلَا هَوًى وَتَحَرَّى الْعَدْلَ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَحْكُمُونَ بِالْهَوَى وَيُحَابُونَ الْقَوِيَّ وَمَنْ يَرْشُوهُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ كَانَتْ الْأَمْصَارُ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا مِنْ جَعْلِ صَاحِبِ الْحَرْبِ مُتَّبِعًا لِصَاحِبِ الْكِتَابِ مَا لَا يَكُونُ فِي الْأَمْصَارِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ حَيْثُ يَكُونُ فِي هَذِهِ وَالِي الْحَرْبِ غَيْرَ مُتَّبِعٍ لِصَاحِبِ الْعِلْمِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ } الْآيَةَ فَقِوَامُ الدِّينِ بِكِتَابِ يَهْدِي وَسَيْفٍ يَنْصُرُ { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } .
وَدِينُ الْإِسْلَامِ : أَنْ يَكُونَ السَّيْفُ تَابِعًا لِلْكِتَابِ . فَإِذَا ظَهَرَ الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَانَ السَّيْفُ تَابِعًا لِذَلِكَ كَانَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ قَائِمًا وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَوْلَى الْأَمْصَارِ بِمِثْلِ ذَلِكَ . أَمَّا عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَأَمَّا بَعْدَهُمْ فَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْجَح مِنْ غَيْرِهِمْ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ فِيهِ تَقْصِيرٌ وَكَانَ السَّيْفُ تَارَةً يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَتَارَةً يُخَالِفُهُ : كَانَ دِينُ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَنْ اهْتَدَى إلَيْهَا وَإِلَى أَمْثَالِهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أُصُولَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَصَحُّ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ الْكُبْرَى . كَانَ الصَّحَابَةُ فِيهَا ثَلَاثَ فِرَقٍ : فِرْقَةٌ قَاتَلَتْ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ وَفِرْقَةٌ قَاتَلَتْ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ وَفِرْقَةٌ قَعَدَتْ وَالْفُقَهَاءُ الْيَوْمَ عَلَى قَوْلَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْقِتَالَ مِنْ نَاحِيَةِ عَلِيٍّ - مِثْلَ أَكْثَرِ الْمُصَنِّفِينَ - لِقِتَالِ الْبُغَاةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْإِمْسَاكَ . وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْأَحَادِيثُ الثَّابِتَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ تُوَافِقُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَنِّفُونَ لِعَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَذْكُرُونَ فِيهِ تَرْكَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَالْإِمْسَاكَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ .
ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَرَوْنَ قِتَالَ مَنْ خَرَجَ عَنْ الشَّرِيعَةِ كالحرورية وَغَيْرِهِمْ . وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ . وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ خَرَّجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ بَعْضَهَا . وَقَالَ فِيهِ : { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَدْ ثَبَتَ اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى
قِتَالِهِمْ وَقَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَكَرَ فِيهِمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَضَمِّنَةَ لِقِتَالِهِمْ وَفَرِحَ بِقَتْلِهِمْ وَسَجَدَ لِلَّهِ شُكْرًا لَمَّا رَأَى أَبَاهُمْ مَقْتُولًا وَهُوَ ذُو الثدية بِخِلَافِ مَا جَرَى يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين ؛ فَإِنَّ عَلِيًّا لَمْ يَفْرَحْ بِذَلِكَ بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ التَّأَلُّمِ وَالنَّدَمِ مَا ظَهَرَ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ سُنَّةً بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ قَاتَلَ بِاجْتِهَادِهِ . فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ اتَّبَعُوا السُّنَّةَ فِي قِتَالِ الْمَارِقِينَ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَتَرَكَ الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ وَعَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِخِلَافِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ قِتَالِ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بَلْ سَوَّى بَيْنَ قِتَالِ هَؤُلَاءِ وَقِتَالِ الصِّدِّيقِ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ فَجَعَلَ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ مِنْ بَابِ الْبُغَاةِ كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ ؛ فَإِنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا . وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالسُّنَّةِ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَاتَّبَعُوا النَّصَّ الصَّحِيحَ وَالْقِيَاسَ الْمُسْتَقِيمَ الْعَادِلَ ؛ فَإِنَّ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ مِنْ الْعَدْلِ وَهُوَ : التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَخَالِفَيْنِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَحَقُّ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ النَّصِّ الصَّحِيحِ وَالْقِيَاسِ الْعَادِلِ . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ ؛ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ
مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ فِي الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا هَذَا جَوَابُ فُتْيَا نَبَّهْنَا فِيهِ تَنْبِيهًا عَلَى جُمَلٍ يُعْرَفُ بِهَا بَعْضُ فَضَائِلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ هَذَا مِنْ الدِّينِ لَا سِيَّمَا إذَا جَهِلَ النَّاسُ مِقْدَارَ عِلْمِهِمْ وَدِينِهِمْ فَبَيَانُ هَذَا يُشْبِهُ بَيَانَ عِلْمِ الصَّحَابَةِ وَدِينِهِمْ إذَا جَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ فَكَمَا أَنَّ بَيَانَ السُّنَّةِ وَفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَتَقْدِيمِهِمْ الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَ مِنْ أَعْظَمِ أُمُورِ الدِّينِ عِنْدَ ظُهُورِ بِدَعِ الرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ فَكَذَلِكَ بَيَانُ السُّنَّةِ ؛ وَمَذَاهِبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ؛ وَتَرْجِيحُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ؛ أَعْظَمُ أُمُورِ الدِّينِ عِنْدَ ظُهُورِ بِدَعِ الْجُهَّالِ الْمُتَّبِعِينَ لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا الْمُؤْمِنِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ " فَهَذَا لَا يُجَوِّزُهُ الشَّافِعِيُّ ؛ وَلَا أَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ ؛ وَيُجَوِّزُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ نَسَخَهَا قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ } وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا نَسَخَهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ السَّلَفُ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الْمُقَدَّرَةَ حُدُودُهُ وَنَهَى عَنْ تَعَدِّيهَا : كَانَ فِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ أَحَدٌ عَلَى مَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثِ } وَإِلَّا فَهَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ إنَّمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَنَحْوُهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ لَيْسَ
فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَ مُجَرَّدَ خَبَرٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ الصِّحَّةِ نَاسِخًا لِلْقُرْآنِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ نُسِخَ بِسُنَّةِ بِلَا قُرْآنٍ وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خُذُوا عَنِّي ؛ خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ } . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ النَّسْخِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَدَّ الْحُكْمَ إلَى غَايَةٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ تِلْكَ الْغَايَةَ لَكِنَّ الْغَايَةَ هُنَا مَجْهُولَةٌ فَصَارَ هَذَا يُقَالُ : إنَّهُ نَسْخٌ بِخِلَافِ الْغَايَةِ الْبَيِّنَةِ فِي نَفْسِ الْخِطَابِ كَقَوْلِهِ : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } فَإِنَّ هَذَا لَا يُسَمَّى نَسْخًا بِلَا رَيْبٍ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ جَلْدَ الزَّانِي ثَابِتٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الرَّجْمُ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ فِيهِ قُرْآنٌ يُتْلَى ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَهُوَ
قَوْلُهُ : وَالشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ . وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَمَّا يُدَّعَى مِنْ نَسْخِ قَوْلِهِ : { وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } الْآيَةَ ؛ فَإِنَّ هَذَا إنْ قَدَرَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ فَقَدْ نَسَخَهُ قُرْآنٌ جَاءَ بَعْدَهُ ؛ ثُمَّ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ ؛ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَحْمَد وَسَائِرَ الْأَئِمَّةِ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمُحْكَمَةِ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ نَسْخًا لِبَعْضِ آيِ الْقُرْآنِ لَكِنْ يَقُولُونَ : إنَّمَا نُسِخَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ لَا بِمُجَرَّدِ السُّنَّةِ وَيَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَيَرَوْنَ مِنْ تَمَامِ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَنْسَخْهُ إلَّا بِقُرْآنِ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
فَصْلٌ :
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الآمدي فِي أَحْكَامِهِ : " الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ " : اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي اشْتِمَالِ اللُّغَةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمَجَازِيَّةِ ؛ فَنَفَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إسْحَاقَ وَمَنْ تَابَعَهُ ؛ - يَعْنِي أَبَا إسْحَاقَ الإسفراييني - وَأَثْبَتَهُ الْبَاقُونَ وَهُوَ الْحَقُّ . قُلْت الْكَلَامُ فِي شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : فِي تَحْرِيرِ هَذَا النَّقْلِ ؛ وَالثَّانِي فِي النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَيُقَالُ : إنْ أَرَادَ بِالْبَاقِينَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ كُلَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي
أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَتَقْسِيمِهَا إلَى : الْكِتَابِ ؛ وَالسُّنَّةِ ؛ وَالْإِجْمَاعِ ؛ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ ؛ وَالْكَلَامِ فِي وَجْهِ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ : أَمْرٌ مَعْرُوفٌ مِنْ زَمَنِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ كَانُوا أَقْعَدَ بِهَذَا الْفَنِّ وَغَيْرِهِ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ الدِّينِيَّةِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى شريح : اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ - وَفِي لَفْظٍ - فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ ؛ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَإِنْ شِئْت أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَك . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَحَدِيثُ مُعَاذٍ مِنْ أَشْهَرِ الْأَحَادِيثِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ بِالْأُصُولِيِّ مَنْ يَعْرِفُ " أُصُولَ الْفِقْهِ " وَهِيَ أَدِلَّةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى طَرِيقِ الْإِجْمَالِ ؛ بِحَيْثُ يُمَيِّزُ بَيْنَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ وَيَعْرِفُ مَرَاتِبَ الْأَدِلَّةِ ؛ فَيُقَدِّمُ الرَّاجِحَ مِنْهَا - وَهَذَا هُوَ مَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ فَإِنَّ مَوْضُوعَهُ مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَمَرْتَبَتِهِ - فَكُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ أُصُولِيٌّ ؛ إذْ مَعْرِفَةُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَمَرْتَبَتِهِ بَعْضُ مَا يَعْرِفُهُ الْمُجْتَهِدُ وَلَا يَكْفِي فِي كَوْنِهِ مُجْتَهِدًا أَنْ يَعْرِفَ جِنْسَ الْأَدِلَّةِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ أَعْيَانَ الْأَدِلَّةِ وَمَنْ عَرَفَ أَعْيَانَهَا وَمَيَّزَ بَيْنَ أَعْيَانِ
الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا كَانَ بِجِنْسِهَا أَعْرَفَ كَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ أَشْخَاصِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهَا فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ نَوْعِهَا لَازِمٌ لِذَلِكَ ؛ إذْ يَمْتَنِعُ تَمْيِيزُ الْأَشْخَاصِ بِدُونِ تَمْيِيزِ الْأَنْوَاعِ . وَأَيْضًا فَالْأُصُولِيُّونَ يَذْكُرُونَ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ مَذَاهِبَ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَالِكِ ؛ وَالشَّافِعِيِّ ؛ وَالْأَوْزَاعِي ؛ وَأَبِي حَنِيفَةَ ؛ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ ودَاوُد وَمَذْهَبِ أَتْبَاعِهِمْ بَلْ هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ إذْ كَانُوا يَعْرِفُونَهَا بِأَعْيَانِهَا وَيَسْتَعْمِلُونَ الْأُصُولَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الَّذِينَ يُجَرِّدُونَ الْكَلَامَ فِي أُصُولٍ مُقَدَّرَةٍ بَعْضُهَا وُجِدَ وَبَعْضُهَا لَا يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ أَعْيَانِهَا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ كَانَ مَا يَقُولُونَهُ حَقًّا فَهُوَ قَلِيلُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ عَدِيمُهَا ؛ إذْ كَانَ تَكَلُّمًا فِي أَدِلَّةٍ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا تَحَقُّقَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ كَمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْفِقْهِ فِيمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ حُكْمَ الْأَفْعَالِ الْمُحَقَّقَةِ مِنْهُ فَكَيْفَ وَأَكْثَرُ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدَّرَاتِ فَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ وَإِذَا كَانَ اسْمُ الْأُصُولِيِّينَ يَتَنَاوَلُ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَشْهُورِينَ الْمَتْبُوعِينَ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ وَالثَّوْرِيِّ ؛ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْمُعَيَّنَةِ كَمَا فَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَمَنْ بَعْدَهُمَا وَكَمَا فَعَلَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَنَحْوُهُ وَكَمَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين : فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ جَرَّدَ الْكَلَامَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ لَمْ يُقَسِّمْ الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ بَلْ لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِهِ مَعَ كَثْرَةِ اسْتِدْلَالِهِ وَتَوَسُّعِهِ وَمَعْرِفَتِهِ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ أَنَّهُ سَمَّى شَيْئًا مِنْهُ مَجَازًا وَلَا ذَكَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ ذَلِكَ ؛ لَا فِي الرِّسَالَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا .
وَحِينَئِذٍ فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ الْمَشْهُورِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَعُلَمَاءِ السَّلَفِ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ كَمَا فَعَلَهُ طَائِفَة مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِكَلَامِ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَسَلَفِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَدْ يَظُنُّ طَائِفَة أُخْرَى أَنَّ هَذَا مِمَّا أُخِذَ مِنْ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ تَوْقِيفًا وَأَنَّهُمْ قَالُوا : هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ كَمَا ظَنَّ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَكَانَ هَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ بِكَلَامِ الْعَرَبِ كَمَا سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَكَمَا يَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ كالرَّازِي وَالْآمِدِيَّ وَابْنِ الْحَاجِبِ : هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْمَشْهُورِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَلَا يَعْرِفُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ الْمُوَافِقِ لِطَرِيقِ أَئِمَّتِهِمْ فَهَذَا أَيْضًا مِنْ جَهْلِهِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِ . وَإِنْ قَالَ النَّاقِلُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ : مُرَادِي بِذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُصَنِّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَأَصْحَابِ
الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ قَسَّمُوا الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ . قِيلَ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ وَشَابَهَهُمْ وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ ذَكَرُوا هَذَا التَّقْسِيمَ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ كَذَلِكَ . ثُمَّ يُقَالُ : لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ إمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اشْتَغَلُوا بِتَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَلِهَذَا لَا يَذْكُرُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْكُتُبِ الَّتِي يَحْكِي فِيهَا أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِينَ مِمَّنْ صَنَّفَ كِتَابًا وَذَكَرَ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُشْتَغِلِينَ بِتَلَقِّي الْأَحْكَامِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ مَعْرِفَةً بِأُصُولِ الْفِقْهِ وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالْمَعْنَى الْمَمْدُوحِ مِنْ اسْمِ الْأُصُولِيِّ فَلَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَسَّمَ الْكَلَامَ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ . وَإِنْ أَرَادَ مَنْ عُرِفَ بِهَذَا التَّقْسِيمِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقَتَهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْفُقَهَاءِ . قِيلَ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ قَسَّمُوا هَذَا التَّقْسِيمَ لَكِنْ لَيْسَ فِيهِمْ إمَامٌ فِي فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْإِسْلَامِ لَا التَّفْسِيرِ وَلَا الْحَدِيثِ وَلَا الْفِقْهِ وَلَا اللُّغَةِ وَلَا النَّحْوِ بَلْ أَئِمَّةُ النُّحَاةِ أَهْلُ اللُّغَةِ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِمْ وَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي
زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَالْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو الشيباني وَغَيْرِهِمْ : لَمْ يُقَسِّمُوا تَقْسِيمَ هَؤُلَاءِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْمَقَامُ الثَّانِي " فَفِي أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ .
قَالَ الآمدي : حُجَّةُ الْمُثْبِتِينَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إطْلَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْمَ الْأَسَدِ عَلَى الْإِنْسَانِ الشُّجَاعِ ؛ وَالْحِمَارِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْبَلِيدِ وَقَوْلُهُمْ ظَهَرَ الطَّرِيقُ وَمَتْنُهَا وَفُلَانٌ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ ؛ وَشَابَتْ لُمَّةُ اللَّيْلِ ؛ وَقَامَتْ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ ؛ وَكَبِدِ السَّمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِطْلَاقُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لُغَةُ مِمَّا لَا يُنْكِرُ إلَّا عَنْ عِنَادٍ . وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَوْ مَجَازِيَّةٌ ؛ لِاسْتِحَالَةِ خُلُوِّ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ عَنْهَا مَا سِوَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ : بِكَوْنِهَا حَقِيقَةً فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيمَا سِوَاهُ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ حَقِيقَةٌ فِي السَّبُعِ ؛ وَالْحِمَارِ فِي الْبَهِيمَةِ وَالظَّهْرِ وَالْمَتْنِ وَالسَّاقِ وَالْكَبِدِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْحَيَوَانِ ؛ وَاللُّمَّةِ فِي الشَّعْرِ إذَا جَاوَزَ الْأُذُنَ . وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الصُّوَرِ
لَكَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا وَلَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا لَمَا سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ضَرُورَةُ التَّسَاوِي فِي الْأَدِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ إنَّمَا هُوَ السَّبُعُ وَمِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْحِمَارِ إنَّمَا هُوَ الْبَهِيمَةُ وَكَذَلِكَ فِي بَاقِي الصُّوَرِ كَيْفَ وَأَنَّ أَهْلَ الْأَعْصَارِ لَمْ تَزَلْ تَتَنَاقَلُ فِي أَقْوَالِهَا وَكُتُبِهَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ تَسْمِيَةُ هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا ؟ فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظٌ مَجَازِيٌّ فَإِمَّا أَنْ يُقَيَّدَ مَعْنَاهُ بِقَرِينَةٍ : أَوْ لَا يُقَيَّدَ بِقَرِينَةٍ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مَعَ الْقَرِينَةِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَكَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا حَقِيقَةٌ ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا بِالْإِفَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَا مِنْ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ الْخَاصِّ بِهَا فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ فِيهَا مَعَ افْتِقَارِهِ إلَى الْقَرِينَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بَعِيدٌ عَنْ أَهْلِ الْحِكْمَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي وَضْعِهِمْ . قُلْنَا : الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُفِيدُ عِنْدَ عَدَمِ الشُّهْرَةِ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ سِوَى هَذَا النَّوْعِ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِيِّ . كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ ؛ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ .
وَجَوَابٌ ثَانٍ : أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ دُونَ الْحَقِيقَةِ قَدْ يَكُونُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْخِفَّةِ عَلَى اللِّسَانِ : أَوْ لِمُسَاعَدَتِهِ عَلَى وَزْنِ الْكَلَامِ نَظْمًا وَنَثْرًا ؛ أَوْ لِلْمُطَابَقَةِ وَالْمُجَانَسَةِ وَالسَّجْعِ ؛ وَقَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالْعُدُولِ عَنْ الْحَقِيقِيِّ لِلتَّحْقِيرِ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْكَلَامِ . هَذَا كَلَامُ أَبِي الْحَسَنِ الآمدي فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ ؛ وَهُوَ أَجَلُّ كُتُبِ الْمُتَأَخِّرِينَ النَّاصِرِينَ لِهَذَا الْفَرْقِ . وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الْحُجَّةِ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ مَا ذَكَرْته مِنْ الِاسْتِعْمَالِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ لَكِنْ قَوْلُك إنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً أَوْ مَجَازِيَّةً : إنَّمَا يَصِحُّ إذَا ثَبَتَ انْقِسَامُ الْكَلَامِ إلَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَإِلَّا فَمَنْ يُنَازِعُك - وَيَقُولُ لَك : لَمْ تَذْكُرْ حَدًّا فَاصِلًا مَعْقُولًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ يَتَمَيَّزُ بِهِ هَذَا عَنْ هَذَا ؛ وَأَنَا أُطَالِبُك بِذِكْرِ هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ . أَوْ يَقُولُ : لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ثَابِتٌ . أَوْ يَقُولُ : أَنَا لَا أُثْبِتُ انْقِسَامَ الْكَلَامِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ إمَّا لِمَانِعِ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . أَوْ يَقُولُ : لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي انْقِسَامُ الْكَلَامِ إلَى هَذَا وَهَذَا ؛ وَجَوَازُ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ : لَيْسَ لَك أَنْ تَحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِك : إمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً أَوْ مَجَازِيَّةً ؛ إذْ دُخُولُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ فَرْعُ ثُبُوتِ
التَّقْسِيمِ فَلَوْ أَثْبَتَ التَّقْسِيمَ بِهَذَا كَانَ دَوْرًا ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ هَذِهِ مِنْ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ إلَّا إذَا أَثْبَتَ أَنَّ هُنَاكَ قِسْمَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا وَأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْءٌ مِنْ أَحَدِهِمَا شَيْئًا مِنْ الْآخَرِ ؟ وَهَذَا مَحَلُّ النِّزَاعِ ؛ فَكَيْفَ تَجْعَلُ مَحَلَّ النِّزَاعِ مُقَدِّمَةً فِي إثْبَاتِ نَفْسِهِ وَتُصَادِرُ عَلَى الْمَطْلُوبِ ؟ فَإِنَّ ذَلِكَ أَثْبَتَ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ فَلَمْ تَذْكُرْ دَلِيلًا وَهَذَا أَثْبَتَ الْأَصْلَ بِفَرْعِهِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ إلَّا بِهِ فَهَذَا التَّطْوِيلُ أَثْبَتَ غَايَةَ الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : مِنْ النَّاسِ الْقَائِلِينَ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْكَلَامِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا فَوَصَفَ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ : كَأَلْفَاظِ الْعُمُومِ الْمَخْصُوصَةِ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَالَ : هِيَ حَقِيقَةٌ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا بَقِيَ وَهِيَ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ سَلْبِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا أَخْرَجَ . وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ : الْكَلَامُ إمَّا حَقِيقَةٌ ؛ وَإِمَّا مَجَازٌ وَإِمَّا حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّك أَنْتَ وَطَائِفَةٌ كالرَّازِي وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَابْنِ الْحَاجِبِ يَقُولُونَ : إنَّ الْأَلْفَاظَ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا وَبَعْدَ وَضْعِهَا لَيْسَتْ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا أَوْ الْمَجَازُ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَقَوْلِهِمْ : ظَهْرُ الطَّرِيقِ ؛ وَجَنَاحُ السَّفَرِ ؛ وَنَحْوِهَا : إنْ لَمْ يُثْبِتُوا أَنَّهَا وُضِعَتْ لِمَعْنَى ثُمَّ اُسْتُعْمِلَتْ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهَا مَجَازٌ وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ
لِأَحَدِ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَنْقُلَ عَنْ الْعَرَبِ أَنَّهَا وَضَعَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِغَيْرِ هَذِهِ الْمَعَانِي الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا . فَإِنْ قَالُوا : قَدْ قَالُوا : جَنَاحُ الطَّائِرِ وَظَهْرُ الْإِنْسَانِ وَتَكَلَّمُوا بِلَفْظِ الظَّهْرِ وَالْجَنَاحِ وَأَرَادُوا بِهِ ظَهْرَ الْإِنْسَانِ وَجَنَاحَ الطَّائِرِ . قِيلَ لَهُمْ : هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ وَضَعُوا جَنَاحَ السَّفَرِ وَظَهْرَ الطَّرِيقِ بَلْ هَذَا اُسْتُعْمِلَ مُضَافًا إلَى غَيْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ ذَاكَ ؛ إنْ كَانَ ذَلِكَ مُضَافًا . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُضَافًا فَالْمُضَافُ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْمُعَرَّفِ الَّذِي لَيْسَ بِمُضَافِ ؛ فَاللَّفْظُ الْمُعَرَّفُ وَالْمُضَافُ إلَى شَيْءٍ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ اللَّفْظِ الْمُضَافِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ فَإِذَا قَالَ : الْجَنَاحُ وَالظَّهْرُ ؛ وَقِيلَ : جَنَاحُ الطَّائِرِ وَظَهْرُ الْإِنْسَانِ : فَلَيْسَ هَذَا وَهَذَا مِثْلَ لَفْظِ جَنَاحِ السَّفَرِ وَظَهْرِ الطَّرِيقِ ؛ وَجَنَاحِ الذُّلِّ . كَذَلِكَ إذَا قِيلَ : رَأْسُ الطَّرِيقِ وَظَهْرُهُ وَوَسَطُهُ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلُهُ كَانَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالطَّرِيقِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمَاثِلًا كَرَأْسِ الْإِنْسَانِ وَظَهْرِهِ وَوَسَطِهِ وَأَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ وَكَذَلِكَ أَسْفَلُ الْجَبَلِ وَأَعْلَاهُ هُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ الْمُضَافَةِ يَتَمَيَّزُ مَعْنَاهُ بِالْإِضَافَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُرَكَّبَ تَرْكِيبَ مَزْجٍ أَوْ إسْنَادٍ أَوْ إضَافَةٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ لُغَتِهِمْ كَاللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ عَنْ ذَلِكَ لَا فِي الْإِعْرَابِ وَلَا فِي الْمَعْنَى . بَلْ يُفَرِّقُونَ
بَيْنَهُمَا فِي النِّدَاءِ وَالنَّفْيِ فَيَقُولُونَ : يَا زَيْدُ وَيَا عَمْرُو بِالضَّمِّ كَقَوْلِهِ : يَا آدَمَ وَيَا نُوحُ وَيَقُولُونَ فِي الْمُضَافِ وَمَا أَشْبَهَهُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ يَا غُلَامَ زَيْدٍ كَقَوْلِهِ : يَا بَنِي آدَمَ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ وَيَا أَهْلَ يَثْرِبَ وَيَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِي الْمُضَافِ الْمَنْصُوبِ وَكَذَلِكَ فِي تَرْكِيبِ الْمَزْجِ فَلَيْسَ قَوْلُهُمْ : خَمْسَةٌ كَقَوْلِهِمْ : خَمْسَةَ عَشَرَ بَلْ بِالتَّرْكِيبِ يُغَيَّرُ الْمَعْنَى . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ قَالَ الْقَائِلُ : الْخَمْسَةُ حَقِيقَةٌ فِي الْخَمْسَةِ ؛ وَخَمْسَةَ عَشَرَ مَجَازٌ : كَانَ جَاهِلًا ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْخَمْسَةِ مَوْجُودًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا رُكِّبَتْ تَرْكِيبًا آخَرَ وَجِنْسُ هَذَا التَّرْكِيبِ مَوْضُوعٌ كَمَا أَنَّ جِنْسَ الْإِضَافَةِ مَوْضُوعٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : جَنَاحُ السَّفَرِ وَالذُّلِّ وَظَهْرُ الطَّرِيقِ تَرْكِيبٌ آخَرُ أُضِيفَ فِيهِ الِاسْمُ إلَى غَيْرِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَيْسَ هَذَا كَالْمُجَرَّدِ مِثْلَ الْخَمْسَةِ ؛ وَلَا كَالْمَقْرُونِ بِغَيْرِهِ كَلَفْظِ الْخَمْسَةِ وَالْعِشْرِينَ وَهَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ : وَهُوَ أَنَّهُ سَوَاءٌ ثَبَتَ وَضْعٌ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ ؛ أَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْوَضْعِ هُوَ مَا عُرِفَ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ : فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ هَذَا اللَّفْظُ الْمُضَافُ لَمْ يُوضَعْ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ إلَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ غَيْرُهُ بَلْ وَلَا يَحْتَمِل سِوَاهُ وَلَا يَحْتَاجُ فِي فَهْمِ الْمُرَادِ بِهِ إلَّا قَرِينَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ غَيْرُ مَا ذُكِرَ
فِي الْإِضَافَةِ بَلْ دَلَالَةُ الْإِضَافَةِ عَلَى مَعْنَاهُ كَدَلَالَةِ سَائِرُ الْأَلْفَاظِ الْمُضَافَةِ فَكُلُّ لَفْظٍ أُضِيفَ إلَى لَفْظٍ دَلَّ عَلَى مَعْنًى يَخْتَصُّ ذَلِكَ الْمُضَافُ إلَيْهِ فَكَمَا إذَا قِيلَ : يَدُ زَيْدٍ وَرَأْسُهُ ؛ وَعِلْمُهُ وَدِينُهُ ؛ وَقَوْلُهُ وَحُكْمُهُ وَخَبَرُهُ : دَلَّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دِينُ زَيْدٍ مِثْلَ دِينِ عَمْرٍو ؛ بَلْ دِينُ هَذَا الْكُفْرُ وَدِينُ هَذَا الْإِسْلَامُ وَلَا حُكْمُهُ مِثْلُ حُكْمِهِ ؛ بَلْ هَذَا الْحُكْمُ بِالْجَوْرِ وَهَذَا الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ وَلَا خَبَرُهُ مِثْلُ خَبَرِهِ ؛ بَلْ خَبَرُ هَذَا صِدْقٌ وَخَبَرُ هَذَا كَذِبٌ وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : لَوْنُ هَذَا وَلَوْنُ هَذَا كَانَ لَوْنُ كَلٍّ مِنْهُمَا يَخْتَصُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ هَذَا أَسْوَدَ وَهَذَا أَبْيَضَ . فَقَدْ يَكُونُ اللَّفْظُ الْمُضَافُ وَاحِدًا مَعَ اخْتِلَافِ الْحَقَائِقِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَإِنَّمَا يُمَيِّزُ اللَّوْنُ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِإِضَافَتِهِ إلَى مَا يُمَيِّزُهُ . فَإِنْ قِيلَ : لَفْظُ الْكَوْنِ وَالدِّينِ وَالْخَبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَعُمُّ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ ؛ فَكَانَتْ عَامَّةً ؛ وَتُسَمَّى مُتَوَاطِئَةً ؛ بِخِلَافِ لَفْظِ الرَّأْسِ وَالظَّهْرِ وَالْجَنَاحِ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا تَنْصَرِفُ إلَى أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ . قِيلَ : فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ : أَلَيْسَتْ بِالْإِضَافَةِ اخْتَصَّتْ ؟ فَكَانَتْ عَامَّةً مُطْلَقَةً ثُمَّ تَخَصَّصَتْ بِالْإِضَافَةِ أَوْ التَّعْرِيفِ فَهِيَ مِنْ بَابِ اللَّفْظِ الْعَامِّ إذَا خُصَّ بِإِضَافَةِ أَوْ تَعْرِيفٍ . وَتَخْصِيصُهُ بِذَلِكَ كَتَخْصِيصِهِ بِالصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ ؛ وَالْبَدَلِ وَالْغَايَةِ كَمَا يُقَالُ : اللَّوْنُ الْأَحْمَرُ وَالْخَبَرُ الصَّادِقُ
أَوْ قِيلَ : أَلْفٌ إلَّا خَمْسِينَ فَقَدْ تَغَيَّرَتْ دَلَالَتُهَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ . ثُمَّ إنَّهُ فِي كِلَا الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ اللَّفْظُ الْمُعَيَّنُ فِي غَيْرِ مَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ أَوَّلًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ : { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ ؛ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ : وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ } قَدْ أَضَافَ الرَّأْسَ إلَى الْأَمْرِ : وَهَذَا اللَّفْظُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي رَأْسِ الْحَيَوَانِ . وَكَذَلِكَ إذَا قَالُوا : رَأْسُ الْمَالِ ؛ وَالشَّرِيكَانِ يَقْتَسِمَانِ مَا يَفْضُلُ بَعْدَ رَأْسِ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ بَعْدَ رَأْسِ الْمَالِ فَلَفْظُ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي رَأْسِ الْحَيَوَانِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ رَأْسِ الْعَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا أَوْ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُمْ : تِلْكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُسْتَعْمَلُ قَطُّ مُطْلَقًا لَا يَكُونُ إلَّا مُقَيَّدًا ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا تَقَيَّدَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالتَّرْكِيبِ إمَّا فِي جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ مِنْ مُتَكَلِّمٍ مَعْرُوفٍ قَدْ عُرِفَتْ عَادَاتُهُ بِخِطَابِهِ ؛ وَهَذِهِ قُيُودٌ يَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ بِهَا .
الثَّانِي : أَنَّ تَجْرِيدَهُ عَنْ الْقُيُودِ الْخَاصَّةِ قَيْدٌ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا وَلِلْعُمُومِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ بِمُجَرَّدِهَا عَلَى كَوْنِهِ عَامًّا فَنَفْسُ التَّكَلُّمِ بِاللَّفْظِ مُجَرَّدًا قَيْدٌ : وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِي دَلَالَتِهِ الْإِمْسَاكُ عَنْ قُيُودٍ خَاصَّةٍ فَالْإِمْسَاكُ عَنْ الْقُيُودِ الْخَاصَّةِ قَيْدٌ كَمَا أَنَّ الِاسْمَ الَّذِي يُتَكَلَّمُ بِهِ لِقَصْدِ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ مَعَ تَجْرِيدِهِ عَنْ الْعَوَامِلِ اللَّفْظِيَّةِ فِيهِ هُوَ الْمُبْتَدَأُ الَّذِي يُرْفَعُ وَسِرُّ ذَلِكَ تَجْرِيدُهُ عَنْ الْعَوَامِلِ اللَّفْظِيَّةِ فَهَذَا التَّجْرِيدُ قَيْدٌ فِي رَفْعِهِ كَمَا أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِلَفْظِ مِثْلَ : " كَانَ " وَ " إنَّ " وَ " ظَنَنْت " : يُوجِبُ لَهُ حُكْمًا آخَرَ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ لَهُ حَالَانِ : تَارَةً يَسْكُتُ وَيَقْطَعُ الْكَلَامَ وَيَكُونُ مُرَادُهُ مَعْنًى . وَتَارَةً يَصِلُ ذَلِكَ الْكَلَامَ بِكَلَامِ آخَرَ بِغَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ إذَا جُرِّدَ فَيَكُونُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ لَهُ حَالَانِ : حَالٌ يَقْرِنُهُ الْمُتَكَلِّمُ بِالسُّكُوتِ وَالْإِمْسَاكِ وَتَرْكِ الصِّلَةِ . وَحَالٌ يَقْرِنُهُ بِزِيَادَةِ لَفْظٍ آخَرَ . وَمِنْ عَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّهُ إذَا أَمْسَكَ أَرَادَ مَعْنًى آخَرَ ؛ وَإِذَا وَصَلَ أَرَادَ مَعْنًى آخَرَ وَفِي كِلَا الْحَالَيْنِ قَدْ تَبَيَّنَ مُرَادُهُ وَقَرَنَ لَفْظَهُ بِمَا يُبَيِّنُ مُرَادَهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّفْظَ دَلَالَةٌ عَلَى الْمَعْنَى : وَالدَّلَالَاتُ تَارَةً تَكُونُ وُجُودِيَّةً وَتَارَةً تَكُونُ عَدَمِيَّةً ؛ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي تَدُلُّ بِنَفْسِهَا الَّتِي قَدْ
تُسَمَّى الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ ؛ وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي تَدُلُّ بِقَصْدِ الدَّالِّ وَإِرَادَتِهِ ؛ وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى الْأَدِلَّةَ السَّمْعِيَّةَ أَوْ الْوَضْعِيَّةَ أَوْ الْإِرَادِيَّةَ . وَهِيَ فِي كِلَا الْقِسْمَيْنِ كَثِيرًا مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ وُجُودَهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ لَهُ وَعَدَمُ اللَّازِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ كَمَا يَدُلُّ عَدَمُ ذَاتٍ مِنْ الذَّوَاتِ عَلَى عَدَمِ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهَا وَعَدَمُ كُلِّ شَرْطٍ مَعْنَوِيٍّ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوطِهِ كَمَا يَدُلُّ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ وَعَدَمُ الْفَسَادِ عَلَى عَدَم إلَهِيَّةِ سِوَى اللَّهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي يَدُلُّ بِالْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ . فَكَمَا أَنَّ حُرُوفَ الْهِجَاءِ إذَا كَتَبُوهَا يُعَلِّمُونَ بَعْضَهَا بِنُقْطَةِ وَبَعْضَهَا بِعَدَمِ نُقْطَةٍ ؛ كَالْجِيمِ وَالْحَاءِ وَالْخَاءِ فَتِلْكَ عَلَامَتُهَا نُقْطَةٌ مِنْ أَسْفَلَ وَالْخَاءُ عَلَامَتُهَا نُقْطَةٌ مِنْ فَوْقٍ وَالْحَاءُ عَلَامَتُهَا عَدَمُ النُّقْطَةِ . وَكَذَلِكَ الرَّاءُ وَالزَّايُ ؛ وَالسِّينُ وَالشِّينُ ؛ وَالصَّادُ ؛ وَالضَّادُ ؛ وَالطَّاءُ ؛ وَالظَّاءُ . وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي حُرُوفِ الْمَعَانِي : عَلَامَتُهَا عَدَمُ عَلَامَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ فَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظُ إذَا قَالَ لَهُ : عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَسَكَتَ : كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَلْفًا وَازِنَةً فَإِذَا قَالَ : أَلْفٌ زَائِفَةٌ أَوْ نَاقِصَةٌ ؛ وَإِلَّا خَمْسِينَ : كَانَ وَصْلُهُ لِذَلِكَ بِالصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ دَلِيلًا نَاقَضَ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ . وَهُنَا أَلْفٌ مُتَّصِلَةٌ بِلَفْظِ : وَهُنَاكَ أَلْفٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ الصِّلَةِ وَالِانْقِطَاعُ فِيهَا غَيْرُ الدَّلَالَةِ فَلَيْسَتْ الدَّلَالَةُ هِيَ نَفْسَ اللَّفْظِ بَلْ اللَّفْظُ مَعَ
الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ . وَسَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ تَرْكَ الزِّيَادَةِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ قِيلَ : إنَّهُ عَدَمِيٌّ فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَقُولُونَ : التَّرْكُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يَقُومُ بِذَاتِ التَّارِكِ وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَطَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ عَدَمِيٌّ وَيُسَمَّوْنَ الذِّمِّيَّةَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْعَبْدُ يُذَمُّ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْهُ . وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ يَقْصِدُ الدَّلَالَةَ بِاللَّفْظِ وَحْدَهُ لَا بِاللَّفْظِ مَعَ الْمَعْنَى وَكَوْنُهُ وَحْدَهُ قَيْدٌ فِي الدَّلَالَةِ وَهَذَا الْقَيْدُ مُنْتَفٍ إذَا كَانَ مَعَهُ لَفْظٌ آخَرُ . ثُمَّ الْعَادَةُ فِي اللَّفْظِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُقَيَّدَةِ نَقْصٌ مِنْ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ وَلِهَذَا يُقَالُ : الزِّيَادَةُ فِي الْحَدِّ نَقْصٌ فِي الْمَحْدُودِ وَكُلَّمَا زَادَتْ قُيُودُ اللَّفْظِ الْعَامِّ نَقَصَ مَعْنَاهُ ؛ فَإِذَا قَالَ : الْإِنْسَانُ ؛ وَالْحَيَوَانُ : كَانَ مَعْنَى هَذَا أَعَمَّ مِنْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ الْعَرَبِيِّ ؛ وَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِكَوْنِهَا حَقِيقَةً فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيمَا سِوَاهَا بِالِاتِّفَاقِ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ حَقِيقَةٌ فِي السَّبُعِ ؛ وَالْحِمَارِ فِي الْبَهِيمَةِ ؛ وَالظَّهْرِ وَالْمَتْنِ وَالسَّاقِ وَالْكَلْكَلِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْحَيَوَانِ وَلَوْ كَانَتْ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا وَلَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا لَمَا سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هَذَا الْبَعْضُ دُونَ بَعْضٍ ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ .
يُقَالُ لَهُ : قَوْلُك : لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا مَا تَعْنِي بِالْمُشْتَرَكِ ؟ إنْ عَنَيْت الِاشْتِرَاكَ الْخَاصَّ - وَهُوَ : أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا أَلْبَتَّةَ - فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنَازِعُ فِي وُجُودِ مَعْنَى هَذَا فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي تَسْتَنِدُ إلَى وَضْعٍ وَاحِدٍ ؛ وَيَقُولُ : إنَّمَا يَقَعُ هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ كَمَا يُسَمِّي هَذَا ابْنَهُ بِاسْمِ وَيُسَمِّي آخَرُ ابْنَهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ . وَهُمْ لَا يَقُولُونَ : إنَّ تَسْمِيَةَ الْكَوْكَبِ سُهَيْلًا وَالْمُشْتَرِيَ وَقَلْبَ الْأَسَدِ وَالنَّسْرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ هُوَ بِاعْتِبَارِ وَضْعٍ ثَانٍ سَمَّاهَا مَنْ سَمَّاهَا مِنْ الْعَرَبِ وَغَيْرِهَا بِأَسْمَاءِ مَنْقُولَةٍ كَالْأَعْلَامِ الْمَنْقُولَةِ كَمَا يُسَمِّي الرَّجُلُ ابْنَهُ كَلْبًا وَأَسَدًا وَنَمِرًا وَبَحْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الِاشْتِرَاكَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ لَكِنْ مَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا وَضْعٌ ثَانٍ وَهَذَا لَا يُغَيِّرُهُ دَلَالَةُ الْأَعْلَامِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا وَالْعَلَامَةِ الْمُمَيَّزَةِ فِي الْمَجَازِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى بِالِاسْمِ قَدْ يُقْصَدُ بِهِ اتِّصَافُ الْمُسَمَّى : إمَّا التَّفَاؤُلُ بِمَعْنَاهَا ؛ وَإِمَّا دَفْعُ الْعَيْنِ عَنْهُ ؛ وَإِمَّا تَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ مَحْبُوبٍ لَهُ مِنْ أَبٍ أَوْ أُسْتَاذٍ ؛ أَوْ مُمَيَّزٍ ؛ أَوْ يَكُونُ فِيهِ مَعْنًى مَحْمُودٌ كَعَبْدِ اللَّهِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدٍ وَأَحْمَد لَكِنْ بِكُلِّ حَالٍ هَذَا وَضْعٌ ثَانٍ لِهَذَا وَاللَّفْظُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِيرُ بِهِ مُشْتَرَكًا وَلِهَذَا اُحْتِيجَ فِي الْأَعْلَامِ إلَى التَّمْيِيزِ بِاسْمِ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ مَعَ الْأَبِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّمْيِيزُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَإِنْ حَصَلَ التَّمْيِيزُ بِذَلِكَ اكْتَفَى بِهِ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابَةِ الصُّلْحِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ حَيْثُ كَتَبَ : { هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو } بَعْدَ أَنْ امْتَنَعَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَكْتُبُوا مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَمَيِّزٌ بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ عِنْدَ اللَّهِ فَلَمَّا غَيَّرَ تَمْيِيزَهُ بِوَصْفِهِ الَّذِي يُوجِبُ تَصْدِيقَهُ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَافَقَهُمْ عَلَى التَّمْيِيزِ بِاسْمِ أَبِيهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : مَا مِنْ لَفْظٍ عَلَى مَعْنَيَيْنِ فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَلْ وَيَلْتَزِمُ ذَلِكَ فِي الْحُرُوفِ فَيَجْعَلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي مُنَاسَبَةً تَكُونُ بَاعِثَةً لِلْمُتَكَلِّمِ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ : إنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ أَحَدٍ وَإِنَّ تِلْكَ الدَّلَالَةَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِلَّفْظِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ : لَوْ كَانَ اللَّفْظُ يُنَاسِبُ الْمَعْنَى لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ فَإِنَّ الْأُمُورَ الِاخْتِيَارِيَّةَ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ يُوجَدُ فِيهَا مُنَاسَبَاتٌ وَتَكُونُ دَاعِيَةً لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وَإِنْ كَانَتْ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ . وَالْأُمُورُ الطَّبِيعِيَّةُ الَّتِي لَيْسَتْ بِاخْتِيَارِ حَيَوَانٍ تَخْتَلِفُ أَيْضًا فَالْحَرُّ وَالْبَرْدُ وَالسَّوَادُ وَالْبَيَاضُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ طَبَائِعِ الْبِلَادِ وَالْأُمُورُ الِاخْتِيَارِيَّةُ مِنْ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَرْكَبِ والمنكح وَغَيْرِ ذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ
مَعَ أَنَّهَا أُمُورٌ اخْتِيَارِيَّةٌ وَلَهَا مُنَاسَبَاتٌ فَتُنَاسِبُ أَهْلَ مَكَانٍ وَزَمَانٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا تُنَاسِبُ أَهْلَ زَمَانٍ آخَرَ كَمَا يَخْتَارُ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ فِي الشِّتَاءِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ مَا لَا يَخْتَارُونَهُ فِي الصَّيْفِ وَالْبِلَادِ الْحَارَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمُنَاسَبَةِ الدَّاعِيَةِ لَهُمْ ؛ إذْ كَانُوا يَخْتَارُونَ فِي الْحَرِّ مِنْ الْمَأْكَلِ الْخَفِيفِ وَالْفَاكِهَةِ مَا يَخِفُّ هَضْمُهُ لِبَرْدِ بَوَاطِنِهِمْ وَضَعْفِ الْقُوَى الْهَاضِمَةِ وَفِي الشِّتَاءِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ . يَخْتَارُونَ مِنْ الْمَآكِلِ الْغَلِيظَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ لِقُوَّةِ الْحَرَارَةِ الْهَاضِمَةِ فِي بَوَاطِنِهِمْ أَوْ كَانَ زَمَنَ الشِّتَاءِ تَسْخُنُ فِيهِ الْأَجْوَافُ وَتَبْرُدُ الظَّوَاهِرُ مِنْ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِكَوْنِ الْهَوَاءِ يَبْرُدُ فِي الشِّتَاءِ وَشَبِيهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ فَيَنْجَذِبُ إلَيْهِ الْبَرْدُ فَتَسْخُنُ الْأَجْوَافُ وَفِي الْحَرِّ يَسْخُنُ الْهَوَاءُ فَتَنْجَذِبُ إلَيْهِ الْحَرَارَةُ فَتَبْرُدُ الْأَجْوَافُ فَتَكُونُ الْيَنَابِيعُ فِي الصَّيْفِ بَارِدَةً لِبَرْدِ جَوْفِ الْأَرْضِ وَفِي الشِّتَاءِ تَسْخُنُ لِسُخُونَةِ جَوْفِ الْأَرْضِ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ بَشَرًا مِنْ النَّاسِ لَيْسَ عَبَّادَ بْنَ سُلَيْمَانَ وَحْدَهُ ؛ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْبَيَانِ يُثْبِتُونَ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي وَيُقَسِّمُونَ الِاشْتِقَاقَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ :
الِاشْتِقَاقُ الْأَصْغَرُ : وَهُوَ اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْحُرُوفِ وَالتَّرْتِيبِ : مِثْلَ عِلْمٍ وَعَالِمٍ وَعَلِيمٍ .
وَالثَّانِي الِاشْتِقَاقُ الْأَوْسَطُ : وَهُوَ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْحُرُوفِ دُونَ التَّرْتِيبِ
مِثْلَ سُمِّيَ وَوُسِمَ ؛ وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ إنَّ الِاسْمَ مُشْتَقٌّ مِنْ السِّمَةِ صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ بِهِ هَذَا الِاشْتِقَاقُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الِاتِّفَاقُ فِي الْحُرُوفِ وَتَرْتِيبِهَا فَالصَّحِيحُ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ السُّمُوِّ : فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي الْفِعْلِ سَمَّاهُ وَلَا يُقَالُ : وَسَمَهُ وَيُقَالُ فِي التَّصْغِيرِ : سمي وَلَا يُقَالُ : وسيم . وَيُقَالُ فِي جَمْعِهِ : أَسْمَاءٌ وَلَا يُقَالُ أوسام . وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ الثَّالِثُ : فَاتِّفَاقُهُمَا فِي بَعْضِ الْحُرُوفِ دُونَ بَعْضٍ لَكِنْ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَّفِقَا فِي جِنْسِ الْبَاقِي مِثْلَ أَنْ يَكُونَ حُرُوفَ حَلْقٍ كَمَا يُقَالُ : حَزَرَ ؛ وَعَزَرَ ؛ وَأَزَرَ فَالْمَادَّةُ تَقْتَضِي الْقُوَّةَ وَالْحَاءُ وَالْعَيْنُ وَالْهَمْزَةُ جِنْسُهَا وَاحِدٌ وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ . وَمِنْهُ الْمُعَاقَبَةُ بَيْنَ الْحُرُوفِ الْمُعْتَلِّ وَالْمُضَعَّفِ كَمَا يُقَالُ : تَقَضَّى الْبَازِي ؛ وَتَقَضَّضَ . وَمِنْهُ يُقَالُ : السُّرِّيَّةُ مُشْتَقٌّ مِنْ السِّرِّ وَهُوَ النِّكَاحُ . وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ : الْعَامَّةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْعَمَى . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : الضَّمَانُ مُشْتَقٌّ مِنْ ضَمِّ إحْدَى الذِّمَّتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى . وَإِذَا قِيلَ : هَذَا اللَّفْظُ مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا فَهَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُنَاسَبَةٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ
كَوْنِ أَحَدِهِمَا أَصْلًا وَالْآخَرِ فَرْعًا فَيَكُونُ الِاشْتِقَاقُ مَنْ جِنْسٍ آخَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ . وَيُرَادُ بِالِاشْتِقَاقِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُقَدَّمًا عَلَى الْآخَرِ أَصْلًا لَهُ كَمَا يَكُونُ الْأَبُ أَصْلًا لِوَلَدِهِ . وَعَلَى الْأَوَّلِ فَإِذَا قِيلَ : الْفِعْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ ؛ أَوْ الْمَصْدَرُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ : فَكِلَا الْقَوْلَيْنِ : قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ ؛ وَالْكُوفِيِّينَ صَحِيحٌ . وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَإِذَا أُرِيدَ التَّرْتِيبُ الْعَقْلِيُّ فَقَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ أَصَحُّ فَإِنَّ الْمَصْدَرَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ فَقَطْ ؛ وَالْفِعْلُ يَدُلُّ عَلَى الْحَدَثِ وَالزَّمَانِ وَإِنْ أُرِيدَ التَّرْتِيبُ الْوُجُودِيُّ - وَهُوَ تَقَدُّمُ وُجُودِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ - فَهَذَا لَا يَنْضَبِطُ فَقَدْ يَكُونُونَ تَكَلَّمُوا بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْمَصْدَرِ ؛ وَقَدْ يَكُونُونَ تَكَلَّمُوا بِالْمَصْدَرِ قَبْلَ الْفِعْلِ وَقَدْ تَكَلَّمُوا بِأَفْعَالِ لَا مَصَادِرَ لَهَا مِثْلَ بُدٍّ وَبِمَصَادِرَ لَا أَفْعَالَ لَهَا مِثْلَ " وَيْحٍ " وَ " وَيْلٍ " وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ اسْتِعْمَالُ فِعْلٍ وَمَصْدَرِ فِعْلٍ آخَرَ كَمَا فِي الْحُبِّ ؛ فَإِنَّ فِعْلَهُ الْمَشْهُورَ هُوَ الرُّبَاعِيُّ يُقَالُ : أَحَبَّ يُحِبُّ وَمَصْدَرُهُ الْمَشْهُورُ هُوَ الْحُبُّ دُونَ الْإِحْبَابِ وَفَى اسْمِ الْفَاعِلِ قَالُوا : مُحِبٌّ وَلَمْ يَقُولُوا : حَابٍّ وَفِي الْمَفْعُولِ قَالُوا : مَحْبُوبٌ وَلَمْ يَقُولُوا : مُحِبٌّ إلَّا فِي الْفَاعِلِ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ : أَحَبَّهُ إحْبَابًا كَمَا يُقَالُ : أَعْلَمَهُ إعْلَامًا .
وَهَذَا أَيْضًا لَهُ أَسْبَابٌ يَعْرِفُهَا النُّحَاةُ وَأَهْلُ التَّصْرِيفِ : إمَّا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ : وَإِمَّا نَقْلُ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ ؛ وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَهْلُ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ ؛ إذْ كَانَتْ أَقْوَى الْحَرَكَاتِ هِيَ الضَّمَّةَ ؛ وَأَخَفُّهَا الْفَتْحَةَ ؛ وَالْكَسْرَةُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَهُمَا ؛ فَجَاءَتْ اللُّغَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُعْرَبَةِ وَالْمَبْنِيَّةِ فَمَا كَانَ مِنْ الْمُعْرَبَاتِ عُمْدَةٌ فِي الْكَلَامِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ : كَانَ لَهُ الْمَرْفُوعُ ؛ كَالْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ الْقَائِمِ مَقَامَهُ وَمَا كَانَ فَضْلَةً كَانَ لَهُ النَّصْبُ ؛ كَالْمَفْعُولِ وَالْحَالِ وَالتَّمْيِيز . وَمَا كَانَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِ يُضَافُ إلَيْهِ الْعُمْدَةُ تَارَةً وَالْفَضْلَةُ تَارَةً : كَانَ لَهُ الْجَرُّ وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ . وَكَذَلِكَ فِي الْمَبْنِيَّاتِ ؛ مِثْلَ مَا يَقُولُونَ فِي أَيْنَ وَكَيْفَ : بُنِيَتْ عَلَى الْفَتْحِ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِأَجْلِ الْيَاءِ . وَكَذَلِكَ فِي حَرَكَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمَبْنِيَّةِ الْأَقْوَى لَهُ الضَّمُّ وَمَا دُونَهُ لَهُ الْفَتْحُ ؛ فَيَقُولُونَ : كَرِهَ الشَّيْءَ وَالْكَرَاهِيَةُ يَقُولُونَ فِيهَا : كَرْهًا بِالْفَتْحِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } وَقَالَ : { ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } . وَكَذَلِكَ الْكَسْرُ مَعَ الْفَتْحِ فَيَقُولُونَ فِي الشَّيْءِ الْمَذْبُوحِ وَالْمَنْهُوبِ : ذِبْحٌ ونهب بِالْكَسْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ { أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنهب إبِلٍ } وَفِي الْمَثَلِ السَّائِرِ : " أَسْمَعُ جَعْجَعَةً وَلَا أَرَى طِحْنًا " بِالْكَسْرِ ؛ أَيْ : وَلَا أَرَى
طَحِينًا وَمَنْ قَالَ بِالْفَتْحِ أَرَادَ الْفِعْلَ كَمَا أَنَّ الذَّبْحَ وَالنَّهْبَ هُوَ الْفِعْلُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُغَلِّطُ هَذَا الْقَائِلَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ وَأَمْثَالُهَا هِيَ مَعْرُوفَةٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ لِمَنْ عَرَفَهَا مَعْرُوفَةٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّجْرِبَةِ تَارَةً وَبِالْقِيَاسِ أُخْرَى كَمَا تَفْعَلُ الْأَطِبَّاءُ فِي طَبَائِعِ الْأَجْسَامِ وَكَمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالتَّجْرِبَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ ثُمَّ قَدْ قِيلَ : تَعْرِفُ مَا لَمْ تُجَرِّبْ بِالْقِيَاسِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَهَا أَسْبَابٌ وَمُنَاسَبَاتٌ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَغَيْرِهِمْ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ النُّظَّارِ فَذَلِكَ لَا يُتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي خُصُوصِ مُنَاسَبَاتِ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ قُوَّةٌ يَحْصُلُ بِهَا الْفِعْلُ وَلَا سَبَبٌ يَخُصُّ أَحَدَ الْمُتَشَابِهَيْنِ ؛ بَلْ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَحْضَ مَشِيئَةِ الْخَالِقِ تُخَصِّصُ مِثْلًا عَنْ مِثْلٍ بِلَا سَبَبٍ وَلَا لِحِكْمَةِ فَهَذَا يَقُولُ : كَوْنُ اللَّفْظِ دَالًّا عَلَى الْمَعْنَى إنْ كَانَ بِقَوْلِ اللَّهِ فَهَذَا لِمُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ الْعَادِيِّ ؛ وَتَخْصِيصُ الرَّبِّ عِنْدَهُ لَيْسَ لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ بَلْ نَفْسُ الْإِرَادَةِ تُخَصِّصُ مِثْلًا عَنْ مِثْلٍ بِلَا حِكْمَةٍ وَلَا سَبَبٍ . وَإِنْ كَانَ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَقَدْ يَكُونُ السَّبَبُ خُطُورَ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي قَلْبِ الْوَاضِعِ دُونَ غَيْرِهِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْحُجَّةَ الَّتِي
احْتَجَّ بِهَا عَلَى إثْبَاتِ الْمَجَازِ وَهِيَ قَوْلُهُ : إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إنْ كَانَتْ حَقِيقَةً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً : هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ بَاطِلٌ . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ تُمْنَعُ الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى ؛ وَقَدْ تُمْنَعُ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ ؛ وَقَدْ تُمْنَعُ الْمُقَدِّمَتَانِ جَمِيعًا ؛ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ : إنَّمَا يَصِحُّ إذَا سَلِمَ لَهُ أَنَّ فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ بِاعْتِبَارِ اصْطِلَاحٍ وَاحِدٍ أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ مُتَبَايِنَةٍ مِنْ غَيْرِ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَالْقَائِلُونَ بِالِاشْتِرَاكِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ أَلْفَاظٌ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَبَيْنَهَا قَدْرٌ مُمَيَّزٌ وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَمَاثُلِ الْأَلْفَاظِ تَارَةً ؛ وَمَعَ اخْتِلَافِهَا أُخْرَى ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يَتَّحِدُ وَيَتَعَدَّدُ مَعْنَاهُ فَقَدْ يَتَعَدَّدُ وَيَتَّحِدُ مَعْنَاهُ كَالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ . وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ التَّرَادُفَ الْمَحْضَ فَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ اللَّفْظَانِ مُتَّفِقَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنًى وَيَمْتَازُ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ كَمَا إذَا قِيلَ فِي السَّيْفِ : إنَّهُ سَيْفٌ وَصَارِمٌ وَمُهَنَّدٌ فَلَفْظُ السَّيْفِ يَدُلُّ عَلَيْهِ مُجَرَّدًا وَلَفْظُ الصَّارِمِ فِي الْأَصْلِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةِ الصَّرْمِ عَلَيْهِ وَالْمُهَنَّدُ يَدُلُّ عَلَى النِّسْبَةِ إلَى الْهِنْدِ وَإِنْ كَانَ يُعْرَفُ الِاسْتِعْمَالُ مِنْ نَقْلِ الْوَصْفِيَّةِ إلَى الِاسْمِيَّةِ فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ يُطْلَقُ عَلَى
ذَاتِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لَكِنْ مَعَ مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْإِضَافَةِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هَذِهِ الْأَسْمَاءُ لَيْسَتْ مُتَرَادِفَةً لِاخْتِصَاصِ بَعْضِهَا بِمَزِيدِ مَعْنًى . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَهَا مُتَرَادِفَةً بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الذَّاتِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : هِيَ مِنْ الْمُتَبَايِنَةِ كَلَفْظِ الرَّجُلِ وَالْأَسَدِ فَقَالَ لَهُمْ هَؤُلَاءِ : لَيْسَتْ كَالْمُتَبَايِنَةِ . وَالْإِنْصَافُ : أَنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الذَّاتِ مُتَنَوِّعَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّفَاتِ فَهِيَ قِسْمٌ آخَرُ قَدْ يُسَمَّى الْمُتَكَافِئَةَ . وَأَسْمَاءُ اللَّهِ الْحُسْنَى وَأَسْمَاءُ رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ . فَإِنَّك إذَا قُلْت : إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ؛ حَكِيمٌ ؛ غَفُورٌ ؛ رَحِيمٌ ؛ عَلِيمٌ ؛ قَدِيرٌ : فَكُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ تَخُصُّهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعِزَّةِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْحِكْمَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمَغْفِرَةِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَةِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلْمِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ لِي خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ : أَنَا مُحَمَّدٌ ؛ وَأَنَا أَحْمَد ؛ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ؛ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي ؛ وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ } .
وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي أَنْكَرَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِتَسْمِيَتِهِمْ أَوْثَانَهُمْ بِهَا مِنْ هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالَ : { إنْ هِيَ إلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } فَإِنَّهُمْ سَمَّوْهَا آلِهَةً فَأَثْبَتُوا لَهَا صِفَةَ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهَا أَنْ تُعْبَدَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِسُلْطَانِ - وَهُوَ الْحُجَّةُ - وَكَوْنُ الشَّيْءِ مَعْبُودًا تَارَةً يُرَادُ بِهِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ فَهَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِكِتَابٍ مُنَزَّلٍ وَتَارَةً يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْخَلْقِ الْمُقْتَضِي لِاسْتِحْقَاقِ الْعُبُودِيَّةِ ؛ فَهَذَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ ثُبُوتُهُ وَانْتِفَاؤُهُ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَقَالَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إلَّا غُرُورًا } فَطَالَبَهُمْ بِحُجَّةِ عَقْلِيَّةٍ عيانية وَبِحُجَّةِ سَمْعِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فَقَالَ : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } ثُمَّ قَالَ : { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ } كَمَا قَالَ هُنَاكَ : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } ثُمَّ قَالَ : { ائْتُونِي بِكِتَابٍ
مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ . } فَالْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ ؛ وَالْأَثَارَةُ مَا يُؤْثَرُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالرِّوَايَةِ وَالْإِسْنَادِ . وَقَدْ يُقَيَّدُ فِي الْكُتُبِ ؛ فَلِهَذَا فُسِّرَ بِالرِّوَايَةِ وَفُسِّرَ بِالْخَطِّ . وَهَذَا مُطَالَبَةٌ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ فَيُجْعَلَ شَفِيعًا أَوْ يُتَقَرَّبَ بِعِبَادَتِهِ إلَى اللَّهِ وَبَيَانُ أَنَّهُ لَا عِبَادَةَ أَصْلًا إلَّا بِأَمْرِ مِنْ اللَّهِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } { مُنِيبِينَ إلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إلَيْهِ ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } { لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } { أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ } . وَالسُّلْطَانُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ : الْكِتَابُ الْمُنَزَّلُ كَمَا قَالَ : { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ } { فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ } .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ مَا يَكُونُ مَعْنَاهُ وَاحِدًا كَالْجُلُوسِ وَالْقُعُودِ - وَهِيَ الْمُتَرَادِفَةُ - وَمِنْهَا مَا تَتَبَايَنُ مَعَانِيهَا كَلَفْظِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمِنْهَا مَا يَتَّفِقُ مِنْ وَجْهٍ وَيَخْتَلِفُ مِنْ وَجْهٍ كَلَفْظِ الصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ وَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى هَذَا مُبَايِنًا لِمَعْنَى ذَاكَ كَمُبَايَنَةِ السَّمَاءِ لِلْأَرْضِ وَلَا هُوَ مُمَاثِلًا لَهَا كَمُمَاثَلَةِ لَفْظِ الْجُلُوسِ لِلْقُعُودِ : فَكَذَلِكَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَّفِقَةُ اللَّفْظُ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا وَهِيَ الْمُتَوَاطِئَةُ وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَبَايِنًا وَهِيَ الْمُشْتَرِكَةُ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا كَلَفْظِ سُهَيْلٍ الْمَقُولِ عَلَى الْكَوْكَبِ وَعَلَى الرَّجُلِ وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا مِنْ وَجْهٍ مُخْتَلِفًا مَنْ وَجْهٍ فَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ هُوَ كَالْمُشْتَرَكِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا وَلَا هُوَ كَالْمُتَّفِقَةِ الْمُتَوَاطِئَةِ فَيَكُونُ بَيْنَهَا اتِّفَاقٌ هُوَ اشْتِرَاكٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ وَجْهٍ وَافْتِرَاقٌ هُوَ اخْتِلَافٌ مَعْنَوِيٌّ مِنْ وَجْهٍ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا إذَا خُصَّ كُلُّ لَفْظٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْمُخْتَصِّ . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَثِيرَةٌ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ ؛ أَوْ هِيَ أَكْثَرُ الْأَلْفَاظِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْكَلَامِ الْمُؤَلَّفِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ كُلُّ مُتَكَلِّمٍ ؛ فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي يُقَالُ : إنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ كَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ ؛ مِثْلَ لَفْظِ الرَّسُولِ وَالْوَالِي وَالْقَاضِي ؛ وَالرَّجُلِ ؛ وَالْمَرْأَةِ وَالْإِمَامِ وَالْبَيْتِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ : قَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَعْنَى الْعَامُّ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْهُ مِمَّا يَقْتَرِنُ بِهَا تَعْرِيفُ الْإِضَافَةِ أَوْ اللَّامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولًا
شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } فَلَفْظُ الرَّسُولِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَفْظٌ وَاحِدٌ مَقْرُونٌ بِاللَّامِ لَكِنْ يَنْصَرِفُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَمَّا قَالَ هُنَا : { كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } كَانَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ رَسُولِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَلَمَّا قَالَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } كَانَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الرَّسُولِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ الْمَأْمُورِينَ بِأَمْرِهِ الْمُنْتَهِينَ بِنَهْيِهِ وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مَجَازٌ فِي أَحَدِهِمَا بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُشْتَرَكٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا مَحْضًا كَلَفْظِ الْمُشْتَرِي لِلْمُبْتَاعِ وَالْكَوْكَبِ وَسُهَيْلٍ لِلْكَوْكَبِ وَالرَّجُلِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُتَوَاطِئٌ دَلَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَقَطْ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مُحَمَّدٌ وَفِي الْآخَرِ مُوسَى مَعَ أَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ وَاحِدٌ . وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ تَكَلَّمَ بِهِ فِي سِيَاقِ كَلَامٍ مِنْ مَدْلُولِ لَامِ التَّعْرِيفِ وَهَكَذَا جَمِيعُ أَسْمَاءِ الْمَعَارِفِ ؛ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ نَوْعَانِ : مَعْرِفَةٌ ؛ وَنَكِرَةٌ .
وَالْمَعَارِفُ مِثْلُ : الْمُضْمَرَاتِ ؛ وَأَسْمَاءُ الْإِشَارَةِ مِثْلُ : أَنَا وَأَنْتَ ؛ وَهُوَ وَمِثْلُ : هَذَا ؛ وَذَاكَ . وَالْأَسْمَاءُ الْمَوْصُولَةُ مِثْلُ : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } . وَأَسْمَاءُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّامِ كَالرَّسُولِ . وَالْأَسْمَاءُ الْأَعْلَامُ مِثْلُ : إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ : وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ ؛ وَيُوسُفُ وَمِثْلُ شَهْرِ رَمَضَانَ . وَالْمُضَافُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } وَقَوْلِهِ : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } وَمِثْلُ : { نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ } . وَمِثْلُ الْمُنَادَى الْمُعَيَّنِ مِثْلَ قَوْلِ يُوسُفَ : { يَا أَبَتِ إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } وَقَوْلُ ابْنَةِ صَاحِبِ مَدْيَنَ : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ } فَإِنَّ لَفْظَ الْأَبِ هُنَاكَ أُرِيدَ بِهِ يَعْقُوبُ وَهُنَا أُرِيدَ بِهِ صَاحِبُ مَدْيَنَ الَّذِي تَزَوَّجَ مُوسَى ابْنَتَهُ وَلَيْسَ هُوَ شُعَيْبًا كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالطين بَلْ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ لَيْسَ شُعَيْبًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْمَعَارِفَ - وَهِيَ أَصْنَافٌ - كُلُّ
نَوْعٍ مِنْهَا لَفْظُهُ وَاحِدٌ كَلَفْظِ أَنَا وَأَنْتَ ؛ وَلَفْظِ هَذَا وَذَاكَ وَمَعَ هَذَا فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الْمُعَيَّنِ وَالْمُخَاطَبِ وَالْغَائِبِ الْمُعَيَّنِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هِيَ مُشْتَرَكَةٌ كَلَفْظِ سُهَيْلٍ وَلَا مُتَوَاطِئَةٌ كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ بَلْ بَيْنَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ مُمَيَّزٌ فَبِاعْتِبَارِ الْمُشْتَرَكِ تُشْبِهُ الْمُتَوَاطِئَةَ وَبِاعْتِبَارِ الْمُمَيَّزِ تُشْبِهُ الْمُشْتَرَكَةَ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا وَهِيَ لَا تُسْتَعْمَلُ قَطُّ إلَّا مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِمَّا تُعَيِّنُ الْمُضْمَرَ وَالْمُشَارَ إلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَصَارَتْ دَلَالَتُهَا مُؤَلَّفَةً مِنْ لَفْظِهَا وَمِنْ قَرِينَةٍ تَقْتَرِنُ بِهَا تُعَيِّنُ الْمَعْرُوفَ وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ : إنَّ هَذِهِ مَجَازٌ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ قَطُّ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ تُبَيِّنُ تَعْيِينَ الْمَعْرُوفِ الْمُرَادِ . فَإِذَا قِيلَ : لَفْظُ أَنَا ؛ قِيلَ : يَدُلُّ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ مُطْلَقًا وَلَكِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ مُطْلَقًا ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ مُتَكَلِّمٌ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ مُشْتَرَكٌ بَلْ كُلُّ مُتَكَلِّمٍ هُوَ مُعَيَّنٌ مُتَمَيِّزٌ عَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا طُلِبَ مَعْرِفَةُ مَدْلُولِهَا وَمَعْنَاهَا قِيلَ : مَنْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا ؟ وَمَنْ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِأَنْتَ وَإِيَّاكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ فَإِنْ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا هُوَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } وَنَحْوِ ذَلِكَ : كَانَ هَذَا اللَّفْظُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ اسْمًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ وَلَا يُمْكِنُ مَخْلُوقٌ أَنْ يَقُولَ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي }
وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ قَالَ : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } وَذَكَرَ عَنْ صَاحِبِ يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : { أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي } وَأَخْبَرَ عَنْ عِفْرِيتٍ مِنْ الْجِنِّ أَنَّهُ قَالَ : { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } وَعَنْ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَّهُ قَالَ : { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ } فَلَفْظُ أَنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٌ لَيْسَ هُوَ مَدْلُولَهُ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ أَنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ : إنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُشْتَرَكٌ وَلَا مَجَازٌ مَعَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ إلَّا بِقَرِينَةٍ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ .
فَصْلٌ :
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَيُقَالُ لَهُ : هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي ذَكَرْتهَا مِثْلَ لَفْظِ الظَّهْرِ ؛ وَالْمَتْنِ وَالسَّاقِ ؛ وَالْكَبِدِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَعْمَلَ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَقْرُونَةً بِمَا يُبَيِّنُ الْمُضَافَ إلَيْهِ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْمُرَادُ . فَقَوْلُك : ظَهْرُ الطَّرِيقِ وَمَتْنُهَا : لَيْسَ هُوَ كَقَوْلِك : ظَهْرُ الْإِنْسَانِ وَمَتْنُهُ بَلْ وَلَا كَقَوْلِك : ظَهْرُ الْفَرَسِ وَمَتْنُهُ وَلَا كَقَوْلِك : ظَهْرُ الْجَبَلِ .
وَكَذَلِكَ كَبِدُ السَّمَاءِ لَيْسَ مِثْلَ كَبِدِ الْقَوْسِ وَلَا هَذَانِ مِثْلَ لَفْظِ كَبِدِ الْإِنْسَانِ .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ السَّيْفِ فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } لَيْسَ مِثْلَ لَفْظِ السَّيْفِ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ جَاءَكُمْ وَأَمْرُكُمْ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ } فَكُلٌّ مِنْ لَفْظِ السَّيْفِ هَاهُنَا وَهَاهُنَا مَقْرُونٌ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ . نَعَمْ قَدْ يُقَالُ : التَّشَابُهُ بَيْنَ مَعْنَى الرَّسُولِ وَالرَّسُولِ أَتَمُّ مِنْ التَّشَابُهِ بَيْنَ مَعْنَى الْكَبِدِ وَالْكَبِدِ وَالسَّيْفِ وَالسَّيْفِ . فَيُقَالُ : هَذَا الْقَدْرُ الْفَارِقُ دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } وَقَوْلِهِ : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لَيْسَ مُمَاثِلًا فِي الْحَقِيقَةِ لِبَيْتِهِ وَلَا لِبَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِبَيْتِ فِي الْجَنَّةِ ؛ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْبَيْتِ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمِيعِ بِلَا نِزَاعٍ إذْ كَانَ الْمُخَصِّصُ هُوَ الْإِضَافَةَ فِي بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْتِ النَّبِيِّ دَلَّ عَلَى سُكْنَى صَاحِبِ الْبَيْتِ فِيهِ وَبَيْتُ اللَّهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سَاكِنٌ فِيهِ لَكِنَّ إضَافَةَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ بَلْ بَيْتُهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ لِذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَدُعَائِهِ فَهُوَ كَمَعْرِفَتِهِ بِالْقُلُوبِ وَذِكْرِهِ بِاللِّسَانِ وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَلَهُ وُجُودٌ عَيْنِيٌّ ؛ وَعِلْمِيٌّ ؛ وَلَفْظِيٌّ ؛ وَرَسْمِيٌّ . وَاسْمُ اللَّهِ يُرَادُ بِهِ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامِ اللَّهِ .
فَإِذَا قَالَ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } فَهُوَ اللَّهُ نَفْسُهُ وَإِذَا قَالَ : { لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ؛ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ؛ وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ ؛ وَبِي يَبْطِشُ ؛ وَبِي يَمْشِي } وَقَوْلُهُ : { عَبْدِي مَرِضْت فَلَمْ تَعُدْنِي فَيَقُولُ : رَبِّي كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ } فَاَلَّذِي فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَثَلِ الْأَعْلَى ؛ وَالْمِثَالُ الْعِلْمِيُّ وَيُقَالُ : أَنْتَ فِي قَلْبِي كَمَا قِيلَ :
مِثَالُك فِي عَيْنِي ؛ وَذِكْرُك فِي فَمِي * * * وَمَثْوَاك فِي قَلْبِي ؛ فَأَيْنَ تَغِيبُ ؟
وَيُقَالُ : سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ * * * لَسْت أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ
وَمَا يُنْقَلُ { عَنْ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : أَنْتَ تَحُلُّ قُلُوبَ الصَّالِحِينَ } فَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ أَنَّ نَفْسَ الْمَذْكُورِ الْمَعْلُومِ الْمَحْبُوبِ ؛ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ } فَقَوْلُهُ : " بِي " أَرَادَ أَنَّهَا تَتَحَرَّكُ بِاسْمِهِ لَمْ تَتَحَرَّكْ بِذَاتِهِ وَلَا مَا فِي الْقَلْبِ هُنَا ذَاتُهُ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ نَقْشَ خَاتَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ ثَلَاثَةَ أَسْطُرٍ : اللَّهُ سَطْرٌ ؛ وَرَسُولُ سَطْرٌ ؛ وَمُحَمَّدٌ سَطْرٌ } فَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ بِلَفْظِ اللَّهِ هُوَ النَّقْشُ الْمَنْقُوشُ فِي الْخَاتَمِ الْمُطَابِقُ لِلَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ بِالْقَلْبِ الْمُطَابِقِ لِلْمَوْجُودِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . فَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْعَائِدَةُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ اقْتَرَنَ بِهَا مَا بَيَّنَ الْمُرَادَ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْتِبَاسٌ فَكَذَلِكَ لَفْظُ بَيْتِهِ . وَقُلْنَا : الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ فِيهَا مَا بُنِيَ لِلْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَالْأَنْوَارِ الَّتِي يَجْعَلُهَا فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ثُمَّ قَالَ : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } إلَى قَوْلِهِ : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } فَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا النُّورَ فِي هَذِهِ الْقُلُوبِ وَفِي هَذِهِ الْبُيُوتِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : " إنَّ الْمَسَاجِدَ تُضِيءُ لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ كَمَا تُضِيءُ الْكَوَاكِبُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ " . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ فَقَوْلُ الْقَائِلِ : لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقَةً