الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
مَا هُوَ مِنْ الْمَوَاهِبِ وَالْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ وَالْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } وَقَالَ : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } . وَمِثْلُ هَذِهِ السَّكِينَةِ قَدْ لَا تَكُونُ مَقْدُورَةً ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَجَزَاءً عَلَى عَمَلٍ سَابِقٍ كَمَا قَالَ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } { وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا } { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } كَمَا قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } وَكَمَا قَالَ : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } وَلِهَذَا قِيلَ : مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ؛ وَهَذَا الْجِنْسُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ ؛ وَإِنْ كَانَ مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ هُوَ أَيْضًا بِفَضْلِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ وَإِقْدَارِهِ لَهُمْ ؛ لَكِنَّ الْأُمُورَ قِسْمَانِ : مِنْهُ مَا جِنْسُهُ مَقْدُورٌ لَهُمْ لِإِعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَمِنْهُ مَا جِنْسُهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُمْ ؛ إذَا قِيلَ : إنَّ اللَّهَ يُعْطِي مَنْ أَطَاعَهُ قُوَّةً فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ يَكُونُ بِهَا قَادِرًا عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ هَذَا الْمَعْنَى . قَالَ تَعَالَى : { إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَدْ قَالَ : { إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } فَأَمَرَهُمْ بِالثَّبَاتِ وَهَذَا الثَّبَاتُ يُوحِي إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ وَيُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يُذَمُّ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُفَضِّلُ اللَّهُ ذَاكَ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَفْضُولُ تَرَكَ وَاجِبًا فَيُقَالُ : وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ يُؤْمَرُ الْقَادِرُ عَلَى الْفِعْلِ بِمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ الْعَاجِزُ عَنْهُ وَيُؤْمَرُ بَعْضُ النَّاسِ بِمَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُ ؛ لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ قَدْ يُعْطَى الْإِنْسَانُ مِثْلَ أَجْرِ الْعَامِلِ إذَا كَانَ يُؤْمِنُ بِهَا وَيُرِيدُهَا جُهْدَهُ وَلَكِنَّ بَدَنَهُ عَاجِزٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ ؟ قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } فَاسْتَثْنَى أُولِي الضَّرَرِ . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا } . وَفِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري : { هُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ : { إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ : رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَتَّقِي فِي ذَلِكَ الْمَالِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ وَعَبْدٍ
رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْت فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ } . وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَه : { مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ : رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْت فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْتَبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَرَجُلٍ لَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا وَلَا مَالًا وَهُوَ يَقُولُ : لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا عَمِلْت مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ } .
كَالشَّخْصَيْنِ إذَا تَمَاثَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ مَعْرِفَةً وَتَصْدِيقًا وَحُبًّا وَقُوَّةً وَحَالًا وَمَقَامًا فَقَدْ يَتَمَاثَلَانِ وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا مِنْ أَعْمَالِ الْبَدَنِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ بَدَنُ الْآخَرِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : إنَّ الْمُؤْمِنَ قُوَّتُهُ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَالْمُنَافِقُ قُوَّتُهُ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ ذُو الصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } وَقَدْ قَالَ : { رَأَيْت كَأَنِّي أَنْزِعُ عَلَى قَلِيبٍ فَأَخَذَهَا ابْن أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَاسْتَحَالَتْ فِي
يَدِهِ غَرْبًا فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ حَتَّى صَدَرَ النَّاسُ بِعَطَنِ } فَذَكَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَضْعَفُ وَسَوَاءٌ أَرَادَ قَصْرَ مُدَّتِهِ أَوْ أَرَادَ ضَعْفَهُ عَنْ مِثْلِ قُوَّةِ عُمَرَ فَلَا رَيْبَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَقْوَى إيمَانًا مِنْ عُمَرَ . وَعُمَرُ أَقْوَى عَمَلًا مِنْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ ؛ وَقُوَّةُ الْإِيمَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلُ مِنْ قُوَّةِ الْعَمَلِ وَصَاحِبُ الْإِيمَانِ يُكْتَبُ لَهُ أَجْرُ عَمَلِ غَيْرِهِ ، وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ فِي سِيرَتِهِ مَكْتُوبٌ مِثْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي اسْتَخْلَفَهُ . وَفِي " الْمُسْنَدِ " مِنْ وَجْهَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُزِنَ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ } وَكَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَحْصُلُ لِعُمَرِ بِسَبَبِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَهُوَ قَدْ دَعَاهُ إلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ خَيْرٍ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ بِجُهْدِهِ وَالْمُعِينُ عَلَى الْفِعْلِ إذَا كَانَ يُرِيدُهُ إرَادَةً جَازِمَةً كَانَ كَفَاعِلِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَّفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا } وَقَالَ : { مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ } وَقَالَ : { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ { مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } وَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَتَمَاثَلَانِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بَلْ يَتَفَاضَلَانِ وَيَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا فِي إيمَانِ الْقُلُوبِ فَلَا يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِيهَا أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ
وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ لَمْ يَهِبْهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا وَهَبَهُ لِلْفَاضِلِ وَلَا أَعْطَى قَلْبَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَنَالُ ذَلِكَ الْإِيمَانَ الْفَاضِلَ مَا أَعْطَى الْمَفْضُولَ وَلِهَذَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ الْفَاضِلُ أَقَلَّ عَمَلًا مِنْ الْمَفْضُولِ كَمَا فَضَّلَ اللَّهُ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُدَّةَ نُبُوَّتِهِ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً - عَلَى نُوحٍ وَقَدْ لَبِثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا وَفَضَّلَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَقَدْ عَمِلُوا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى الْمَغْرِبِ عَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ وَعَلَى مَنْ عَمِلَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى الْعَصْرِ فَأَعْطَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أَجْرَيْنِ وَأَعْطَى كُلًّا مِنْ أُولَئِكَ أَجْرًا أَجْرًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ وَكَانَ أُولَئِكَ أَكْثَرَ عَمَلًا ؛ وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَجْرًا وَهُوَ فَضْلُهُ يُؤْتِيه مَنْ يَشَاءُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي تَفَضَّلَ بِهَا عَلَيْهِمْ وَخَصَّهُمْ بِهَا . وَهَكَذَا سَائِرُ مَنْ يُفَضِّلُهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُفَضِّلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا التَّفْضِيلَ بِالْجَزَاءِ كَمَا يَخُصُّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ بِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْعِلْمَ وَبِقُوَّةِ يَنَالُ بِهَا الْيَقِينَ وَالصَّبْرَ وَالتَّوَكُّلَ وَالْإِخْلَاصَ ؛ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا فَضَّلَهُ فِي الْجَزَاءِ بِمَا فَضَّلَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } { وَلَا تُؤْمِنُوا إلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } وَقَالَ : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } وَقَالَ : { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } .
وَقَدْ بُيِّنَ فِي مَوَاضِعَ أَسْبَابُ الْمَغْفِرَةِ وَأَسْبَابُ الْعَذَابِ وَكَذَلِكَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَقَدْ عُرِفَ أَنَّهُ قَدْ يَخُصُّ مَنْ يَشَاءُ بِأَسْبَابِ الرِّزْقِ . وَإِذَا كَانَ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَخْتَصُّ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ فَذَلِكَ مِمَّا يُفَضِّلُهُمْ اللَّهُ بِهِ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَنْفِي عَنْ غَيْرِهِمْ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّفْضِيلِ فَإِنَّ الذَّمَّ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ . لَكِنْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو طَالِبٍ . يُقَالُ : فَمِثْلُ هَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ وَيُقَالُ : إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِاعْتِبَارِ آخَرَ وَعَلَى هَذَا يُنْفَى الْإِيمَانُ عَمَّنْ فَاتَهُ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ ؛ بَلْ الْكَمَالُ الَّذِي يُفَضَّلُ بِهِ عَلَى مَنْ فَاتَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْعِبَادِ بَلْ يُنْفَى عَنْهُ الْكَمَالُ الَّذِي وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّهِ لَا وَاجِبًا وَلَا مُسْتَحَبًّا لَكِنَّ هَذَا لَا يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ وَلَمْ يُعْرَفْ فِي كَلَامِهِ إلَّا أَنَّ نَفْيَ الْإِيمَانِ يَقْتَضِي الذَّمَّ حَيْثُ كَانَ فَلَا يُنْفَى إلَّا عَمَّنْ لَهُ ذَنْبٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ : " أو مُسْلِمٌ " تَوَقَّفَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ جَمَاهِيرُ النَّاسِ . ثُمَّ طَائِفَةٌ يَقُولُونَ : قَدْ يَكُونُ مُنَافِقًا لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْأَعْرَابُ الْمَذْكُورُونَ مُنَافِقُونَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ طَائِفَةٌ كَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ : بَلْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ ؛ بَلْ كَانَ مَعَهُمْ تَصْدِيقٌ يُقْبَلُ مَعَهُ مِنْهُمْ مَا عَمِلُوهُ لِلَّهِ وَلِهَذَا جَعَلَهُمْ مُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } كَمَا
قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّ مَعَهُ التَّصْدِيقَ . وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيهِمْ . وَأَبُو طَالِبٍ جَعَلَ مَنْ كَانَ مَذْمُومًا لِتَرْكِ وَاجِبٍ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ الَّذِينَ لَمْ يُعْطُوا شَيْئًا وَجَعْلُ ذَلِكَ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَأَمَّا الْأَكْثَرُونَ فَيَقُولُونَ : إثْبَاتُ الْإِسْلَامِ لَهُمْ دُونَ الْإِيمَانِ كَإِثْبَاتِهِ لِذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَ مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كِلَاهُمَا مَذْمُومٌ لَا لِمُجَرَّدِ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْضَلُ مِنْهُ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } وَلَمْ يَسْلُبْ عَمَّنْ دُونَهُ الْإِيمَانَ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } . فَأَثْبَتَ الْإِيمَانَ لِلْفَاضِلِ وَالْمَفْضُولِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } { وَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ لَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ : لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ } وَكَانَ يَقُولُ لِمَنْ يُرْسِلُهُ فِي جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ : { إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ ؛ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ فِي " الصَّحِيحِ " وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَسْأَلُك حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَك . فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا تَدُلُّ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ
بِإِحْسَانِ أَنَّ أَحَدَ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَخُصُّهُ اللَّهُ بِاجْتِهَادِ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرَانِ وَذَلِكَ الْآخَرُ عَاجِزٌ لَهُ أَجْرٌ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي خُصَّ بِهِ هَذَا وَالْعَمَلُ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا زِيَادَةٌ فِي إيمَانِهِ وَهُوَ إيمَانٌ يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ . وَغَيْرُهُ عَاجِزٌ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ . فَهَذَا قَدْ فُضِّلَ بِإِيمَانِ وَاجِبٍ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنْهُ . وَهَذَا حَالُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ فِيمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ إذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ اجْتِهَادِ الْآخَرِ وَعَجْزِهِ كِلَاهُمَا مَحْمُودٌ مُثَابٌ مُؤْمِنٌ وَذَلِكَ خَصَّهُ اللَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ بِمَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَى هَذَا ؛ وَذَلِكَ الْمُخْطِئُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَمًّا وَلَا عِقَابًا وَإِنْ كَانَ ذَاكَ لَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَ ذُمَّ وَعُوقِبَ كَمَا خَصَّ اللَّهُ أُمَّةَ نَبِيِّنَا بِشَرِيعَةِ فَضَّلَهَا بِهِ وَلَوْ تَرَكَنَا مِمَّا أَمَرَنَا بِهِ فِيهَا شَيْئًا ؛ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ ؛ وَالْأَنْبِيَاءُ قَبْلَنَا لَا يَذُمُّونَ بِتَرْكِ ذَلِكَ لَكِنْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَّلَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَفَضَّلَ أُمَّتَهُ عَلَى الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ لِأَحَدِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ .
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْجَنَّةِ فَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مُسْلِمًا وَلَا يُسَمَّى مُؤْمِنًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا كَالْأَعْرَابِ وَكَالشَّخْصِ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أو مُسْلِمٌ " وَكَسَائِرِ مَنْ نُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ مَعَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ كَالزَّانِي وَالشَّارِبِ
وَالسَّارِقِ وَمَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَمَنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ؛ وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُعَلِّقْ وَعْدَ الْجَنَّةِ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ لَمْ يُعَلِّقْهُ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ مَعَ إيجَابِهِ الْإِسْلَامَ وَإِخْبَارِهِ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ ؛ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ وَمَعَ هَذَا فَمَا قَالَ : إنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَا قَالَ : وَعَدَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ كَقَوْلِهِ : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } فَهُوَ يُعَلِّقُهَا بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَقَوْلُهُ : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَوْلُهُ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } وَقَوْلُهُ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } وَقَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } وَقَالَ : { وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } وَقَالَ : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ : { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ
فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ . فَالْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ وَالرَّحْمَةُ فِي الْآخِرَةِ وَبِالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَذَابِ عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يُعَلَّقْ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ . فَلَوْ كَانَ مَنْ أَتَى مِنْ الْإِيمَانِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ تَفَاصِيلِهِ قَدْ يُسَمَّى مُسْلِمًا لَا مُؤْمِنًا لَكَانَ مِنْ أَهْل الْجَنَّةِ وَكَانَتْ الْجَنَّةُ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ يُسَمَّى مُسْلِمًا وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ مُؤْمِنًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْجَنَّةُ لَمْ تُعَلَّقْ إلَّا بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَ وَعْدُ الْجَنَّةِ مُعَلَّقًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَكَمَا عُلِّقَ بِاسْمِ " التَّقْوَى " وَاسْمُ " الْبِرِّ " فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } وَبَاسِمِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فَلَمَّا لَمْ يَجْرِ اسْمُ الْإِسْلَامِ هَذَا الْمَجْرَى عُلِمَ أَنَّ مُسَمَّاهُ لَيْسَ مُلَازِمًا لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ كَمَا يُلَازِمُهُ اسْمُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَنَّ اسْمَ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى طَاعَتِهِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعَذَابَ فَهَذَا يُعَاقِبُهُ اللَّهُ وَلَا يُخْلِدُهُ فِي النَّارِ ؛ لِأَنَّ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ .
وَهَكَذَا سَائِرُ أَهْلِ الْكَبَائِرِ إيمَانُهُمْ نَاقِصٌ وَإِذَا كَانَ فِي قَلْبِ أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ عُوقِبَ بِهَا إذَا لَمْ يَعْفُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ فَهَؤُلَاءِ مُسْلِمُونَ وَلَيْسُوا مُؤْمِنِينَ وَمَعَهُمْ إيمَانٌ . لَكِنَّ مَعَهُمْ أَيْضًا مَا يُخَالِفُ الْإِيمَانَ مِنْ النِّفَاقِ فَلَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ مُؤْمِنِينَ بِأَوْلَى مِنْ تَسْمِيَتِهِمْ مُنَافِقِينَ لَا سِيَّمَا إنْ كَانُوا لِلْكُفْرِ أَقْرَبَ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ وَهَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَمَا يَدْخُلُ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَأَوْلَى لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَهُمْ إيمَانٌ يَدْخُلُونَ بِهِ فِي خِطَابِ اللَّهِ بِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهْيٌ لَهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي مَعَهُمْ إنْ اقْتَضَى شُمُولَ لَفْظِ الْخِطَابِ لَهُمْ فَلَا كَلَامَ وَإِلَّا فَلَيْسُوا بِأَسْوَأِ حَالًا مِنْ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ وَتَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَيُحْشَرُ بِهَا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الْمِلَلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَمَيَّزَ عَنْهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا لَكِنَّ وَقْتَ الْحَقِيقَةِ يُضْرَبُ { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } . فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ صَالِحًا لِلَّهِ : فَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ وَيَكُونُ
مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُحْشَرُ بِهِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الذُّنُوبِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ عُذِّبَ وَأُخْرِجَ مِنْ النَّارِ ؛ إذَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ نِفَاقٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي هَؤُلَاءِ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } فَلَمْ يَقُلْ : إنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمُجَرَّدِ هَذَا إذْ لَمْ يَذْكُرْ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ بَلْ هُمْ مَعَهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ وَإِخْلَاصَهُ لِلَّهِ وَقَالَ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } فَيَكُونُ لَهُمْ حُكْمُهُمْ . وَقَدْ بَيَّنَ تَفَاضُلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَإِنَّهُ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ اسْتَحَقَّ الثَّوَابَ وَمَنْ كَانَ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَأَتَى بِالْكَبَائِرِ فَذَاكَ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ وَإِيمَانُهُ يَنْفَعُهُ اللَّهُ بِهِ ؛ وَيُخْرِجُهُ بِهِ مِنْ النَّارِ وَلَوْ أَنَّهُ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ لَكِنْ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ الْمُعَلَّقُ بِهِ وَعْدُ الْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ . وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ النَّاسَ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ أَوْ النِّفَاقِ وَيُسَمَّى مُسْلِمًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد . وَتَمَامُ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَشُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَفِيهِ كُفْرٌ دُونَ الْكُفْرِ الَّذِي يَنْقُلُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قَالَ الصَّحَابَةُ : ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ . وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ فِي السَّارِقِ وَالشَّارِبِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ } . إنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ : مُسْلِمُونَ لَا مُؤْمِنُونَ ؛ وَاسْتَدَلُّوا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ اسْمِ الْإِيمَانِ مَعَ إثْبَاتِ اسْمِ الْإِسْلَامِ وَبِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَمَعَهُ كُفْرٌ
لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ بَلْ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قَالُوا : كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ . وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فَإِنَّ كِتَابَ " الْإِيمَانِ " الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ " الصَّحِيحَ " قَرَّرَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَضَمَّنَهُ الرَّدَّ عَلَى الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ الْقَائِمِينَ بِنَصْرِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الظَّاهِرِ يَجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ اسْتَسْلَمُوا ظَاهِرًا ؛ وَأَتْوَ بِمَا أَتَوْا بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ بِالصَّلَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالزَّكَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالْحَجِّ الظَّاهِرِ وَالْجِهَادِ الظَّاهِرِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ ( دَرْكٌ وَدَرَكٌ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ ابْنُ فَارِسٍ : الْجَنَّةُ دَرَجَاتٌ وَالنَّارُ دَرَكَاتٌ . قَالَ الضَّحَّاكُ : الدَّرَجُ : إذَا كَانَ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ . وَالدَّرْكُ : إذَا كَانَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ فَصَارَ الْمُظْهِرُونَ لِلْإِسْلَامِ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدُ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ } مِثْلَ قَوْلِهِ : { إنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِحُدُودِهِ } وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَخْشَى الْأُمَّةِ لِلَّهِ وَأَعْلَمُهُمْ بِحُدُودِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { اخْتَبَأَتْ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا } . وَقَوْلُهُ : { إنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ } وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ وَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ كَمَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ خَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ وَالْمُنَافِقُونَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَإِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُسْلِمِينَ ظَاهِرًا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ ؛ فَمَنْ كَانَ فِيهِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ يُسَمَّى مُسْلِمًا إذْ لَيْسَ هُوَ دُونَ الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ وَإِذَا كَانَ نِفَاقُهُ أَغْلَبَ لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْإِيمَانِ بَلْ اسْمُ الْمُنَافِقِ أَحَقُّ بِهِ فَإِنَّ مَا فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ وَسَوَادُهُ أَكْثَرُ مِنْ بَيَاضِهِ هُوَ بِاسْمِ الْأَسْوَدِ أَحَقُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْأَبْيَضِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ } وَأَمَّا إذَا كَانَ إيمَانُهُ أَغْلَبَ وَمَعَهُ نِفَاقٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْوَعِيدَ لَمْ يَكُنْ أَيْضًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ وَهَذَا حُجَّةٌ لِمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ أَحْمَد وَلَمْ أَرَهُ أَنَا فِيمَا بَلَغَنِي مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَلَا ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ وَنَحْوَهُ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَحَكَى غَيْرُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَتَى هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ : الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ وَالنُّهْبَةَ الَّتِي يَرْفَعُ النَّاسُ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ أَوْ مِثْلِهِنَّ أَوْ فَوْقِهِنَّ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَلَا أُسَمِّيه
مُؤْمِنًا وَمَنْ أَتَى دُونَ الْكَبَائِرِ نُسَمِّيه مُؤْمِنًا نَاقِصَ الْإِيمَانِ فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ : لِمَا نَفَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ نَفَيْته عَنْهُ كَمَا نَفَاهُ عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّسُولُ لَمْ يَنْفِهِ إلَّا عَنْ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ وَإِلَّا فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يَفْعَلُ الصَّغِيرَةَ هِيَ مُكَفِّرَةٌ عَنْهُ بِفِعْلِهِ لِلْحَسَنَاتِ وَاجْتِنَابِهِ لِلْكَبَائِرِ لَكِنَّهُ نَاقِصُ الْإِيمَانِ عَمَّنْ اجْتَنَبَ الصَّغَائِرَ فَمَا أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَلَكِنْ خَلَطَهُ بِسَيِّئَاتِ كَفَّرَتْ عَنْهُ بِغَيْرِهَا وَنَقَصَتْ بِذَلِكَ دَرَجَتُهُ عَمَّنْ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ . وَأَمَّا الَّذِينَ نَفَى عَنْهُمْ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ فَنَنْفِيه كَمَا نَفَاهُ الرَّسُولُ وَأُولَئِكَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ التَّصْدِيقُ وَأَصْلُ الْإِيمَانِ فَقَدْ تَرَكُوا مِنْهُ مَا اسْتَحَقُّوا لِأَجْلِهِ سَلْبَ الْإِيمَانِ وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ نِفَاقٌ وَإِيمَانٌ وَكُفْرٌ وَإِيمَانٌ فَالْإِيمَانُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَا كَانَ صَاحِبُهُ مُسْتَحِقًّا لِلْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ . وَطَوَائِفُ " أَهْلِ الْأَهْوَاءِ " مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ كراميهم وَغَيْرِ كراميهم يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَمِنْ هُنَا غَلِطُوا فِيهِ وَخَالَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ ؛ بَلْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ طَرَدُوا هَذَا الْأَصْلَ الْفَاسِدَ وَقَالُوا : لَا يَجْتَمِعُ فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ طَاعَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ وَمَعْصِيَةٌ يَسْتَحِقُّ بِهَا الْعِقَابَ وَلَا يَكُونُ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ مَحْمُودًا مِنْ وَجْهٍ مَذْمُومًا مِنْ
وَجْهٍ وَلَا مَحْبُوبًا مَدْعُوًّا لَهُ مِنْ وَجْهٍ مَسْخُوطًا مَلْعُونًا مِنْ وَجْهٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ جَمِيعًا عِنْدَهُمْ بَلْ مَنْ دَخَلَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَدْخُلْ الْأُخْرَى عِنْدَهُمْ وَلِهَذَا أَنْكَرُوا خُرُوجَ أَحَدٍ مِنْ النَّارِ أَوْ الشَّفَاعَةَ فِي أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ . وَحَكَى عَنْ غَالِيَةِ الْمُرْجِئَةِ أَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ قَالُوا : إنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَدْخُلُونَ النَّارَ مُقَابَلَةً لِأُولَئِكَ . وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ وَسَائِرُ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ والكَرَّامِيَة والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ مُرْجِئِهِمْ وَغَيْرِ مُرْجِئِهِمْ فَيَقُولُونَ : إنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ قَدْ يُعَذِّبُهُ اللَّهُ بِالنَّارِ ثُمَّ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَمَا نَطَقَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَهَذَا الشَّخْصُ الَّذِي لَهُ سَيِّئَاتٌ عُذِّبَ بِهَا وَلَهُ حَسَنَاتٌ دَخَلَ بِهَا الْجَنَّةَ وَلَهُ مَعْصِيَةٌ وَطَاعَةٌ بِاتِّفَاقِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي حُكْمِهِ ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا فِي اسْمِهِ . فَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ : جهميتهم وَغَيْرُ جهميتهم : هُوَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الْإِيمَانِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عُذِّبَ كَمَا أَنَّهُ نَاقِصُ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُؤْمِنٍ ؟ هَذَا فِيهِ الْقَوْلَانِ وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ . فَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَعِتْقِهِ فِي الْكَفَّارَةِ . قِيلَ : هُوَ مُؤْمِنٌ وَكَذَلِكَ إذَا سُئِلَ عَنْ دُخُولِهِ فِي خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ . وَأَمَّا إذَا سُئِلَ عَنْ حُكْمِهِ فِي الْآخِرَةِ . قِيلَ : لَيْسَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّةِ بَلْ مَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ الْخُلُودُ فِي النَّارِ وَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ بَعْدَ أَنْ يُعَذَّبَ فِي النَّارِ إنْ لَمْ يَغْفِرْ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : هُوَ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ أَوْ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ وَاَلَّذِينَ لَا يُسَمُّونَهُ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ يَقُولُونَ : اسْمُ الْفُسُوقِ يُنَافِي اسْمَ الْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ : { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } وَقَوْلُهُ : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَبَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ مَعَهُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ وَمَعَهُ إيمَانٌ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَسْمِيَةِ كَثِيرٍ مِنْ الذُّنُوبِ كُفْرًا مَعَ أَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ يَكُونُ مَعَهُ أَكْثَرُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ فَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ . كَقَوْلِهِ { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ } وَقَوْلُهُ : { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } وَهَذَا مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " الصَّحِيحِ " مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ فَإِنَّهُ أُمِرَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يُنَادِيَ بِهِ فِي النَّاسِ فَقَدْ سَمَّى مَنْ يَضْرِبُ بَعْضُهُمْ رِقَابَ بَعْضٍ بِلَا حَقٍّ كُفَّارًا ؛ وَسَمَّى هَذَا الْفِعْلَ كُفْرًا ؛ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } فَبَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِنْ فِيهِمْ مَا هُوَ كُفْرٌ وَهِيَ هَذِهِ الْخَصْلَةُ . كَمَا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } فَقَدْ سَمَّاهُ أَخَاهُ حِينَ الْقَوْلِ ؛ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بَاءَ بِهَا فَلَوْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ لَمْ يَكُنْ أَخَاهُ بَلْ فِيهِ كُفْرٌ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إلَّا كَفَرَ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { كَفَرَ بِاَللَّهِ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ } وَكَانَ مِنْ الْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَ لَفْظُهُ : " لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّ كُفْرًا بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ " فَإِنَّ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونٌ بِحَقِّ اللَّهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْمَصِيرُ } وَقَوْلُهُ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } فَالْوَالِدُ أَصْلُهُ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ وَالْوَلَدُ مِنْ كَسْبِهِ . كَمَا قَالَ : { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } فَالْجَحْدُ لَهُمَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْكُفْرِ فَإِنَّهُ جَحَدَ لِمَا مِنْهُ خَلَقَهُ رَبُّهُ فَقَدْ جَحَدَ خَلْقَ الرَّبِّ إيَّاهُ وَقَدْ كَانَ فِي لُغَةِ مَنْ قَبْلَنَا يُسَمَّى الرَّبُّ أَبًا فَكَانَ فِيهِ كُفْرٌ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا كَمَنَ جَحَدَ الْخَالِقَ بِالْكُلِّيَّةِ وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحَادِيثِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ " أَصْلٍ جَامِعٍ " تَنْبَنِي عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ النُّصُوصِ وَرَدَ مَا تَنَازَعَ فِيهِ النَّاسُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ النَّاسَ كَثُرَ نِزَاعُهُمْ فِي مَوَاضِعَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامُ لِكَثْرَةِ ذِكْرِهِمَا وَكَثْرَةِ كَلَامِ النَّاسِ فِيهِمَا وَالِاسْمُ كُلَّمَا كَثُرَ التَّكَلُّمُ فِيهِ فَتُكُلِّمَ بِهِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا بِقَيْدِ وَمُقَيَّدٌ بِقَيْدِ آخَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . كَانَ هَذَا سَبَبًا لِاشْتِبَاهِ بَعْضِ مَعْنَاهُ ثُمَّ كُلَّمَا كَثُرَ سَمَاعُهُ كَثُرَ مَنْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ . وَمِنْ أَسْبَابِ ذَلِكَ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ النَّاسِ بَعْضَ مَوَارِدِهِ وَلَا يُسْمَعُ بَعْضُهُ وَيَكُونُ مَا سَمِعَهُ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ أَوْجَبَهُ اخْتِصَاصُهُ بِمَعْنَى فَيَظُنُّ مَعْنَاهُ فِي سَائِرِ مَوَارِدِهِ كَذَلِكَ ؛ فَمَنْ اتَّبَعَ عِلْمَهُ حَتَّى عَرَفَ مَوَاقِعَ الِاسْتِعْمَالِ عَامَّةً وَعَلِمَ مَأْخَذَ
الشَّبَهِ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَعَلِمَ أَنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ لَا بَيَانَ أَتَمَّ مِنْ بَيَانِهِ ؛ وَأَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دِينِهِمْ الَّذِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ أَضْعَافَ أَضْعَافِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ .
فَالْمُسْلِمُونَ : سُنِّيُّهُمْ وَبِدْعِيُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؛ وَلَا يُعَذَّبُ وَعَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الدِّينِ وَقَوَاعِدُ الْإِيمَانِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا الْمُنْتَسِبُونَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَتَنَازُعُهُمْ بَعْدَ هَذَا فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الْوَعِيدِ أَوْ بَعْضِ مَعَانِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ أَمْرٌ خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لِلْحَقِّ الْبَيِّنِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُمْ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ مَعْرُوفُونَ بِالْبِدْعَةِ ؛ مَشْهُودٌ عَلَيْهِمْ بِالضَّلَالَةِ ؛ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ وَلَا قَبُولٌ عَامٌّ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ وَإِنَّمَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ فِي أُمُورٍ دَقِيقَةٍ تَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ ؛ وَلَكِنْ يَجِبُ رَدُّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَالرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ " يُوجِبُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الِاسْمَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُسَمَّاهُ وَاجِبًا لَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا . فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فَجَعَلَ الدِّينَ وَأَهْلَهُ " ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ " : أَوَّلُهَا : الْإِسْلَامُ وَأَوْسَطُهَا الْإِيمَانُ وَأَعْلَاهَا الْإِحْسَانُ وَمَنْ وَصَلَ إلَى الْعُلْيَا
فَقَدْ وَصَلَ إلَى الَّتِي تَلِيهَا . فَالْحَسَنُ مُؤْمِنٌ وَالْمُؤْمِنُ مُسْلِمٌ ؛ وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا . وَهَكَذَا جَاءَ الْقُرْآنُ فَجَعَلَ الْأُمَّةَ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ . قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } فَالْمُسْلِمُ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِوَاجِبِ الْإِيمَانِ هُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَالْمُقْتَصِدُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ الَّذِي أَدَّى الْوَاجِبَ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَ ؛ وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ الْمُحْسِنُ الَّذِي عَبَدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَقْسِيمَ النَّاسِ فِي الْمَعَادِ إلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي سُورَةِ ( الْوَاقِعَةِ ) وَ ( الْمُطَفِّفِينَ ) و ( هَلْ أَتَى ) وَذَكَرَ الْكُفَّارَ أَيْضًا وَأَمَّا هُنَا فَجَعَلَ التَّقْسِيمَ لِلْمُصْطَفَيْنَ مِنْ عِبَادِهِ . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي : مِمَّا أَكْثَرُ مَا يَغْلَطُ النَّاسُ فِي " هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " فَأَمَّا الزُّهْرِيُّ فَقَالَ : الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانُ الْعَمَلُ وَاحْتَجَّ بِالْآيَةِ وَذَهَبَ غَيْرُهُ إلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ . فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } قَالَ الخطابي : وَقَدْ تَكَلَّمَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ وَرَدَّ الْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى الْمُتَقَدِّمِ وَصَنَّفَ عَلَيْهِ كِتَابًا يَبْلُغُ عَدَدَ أَوْرَاقِهِ الْمِائَتَيْنِ . قَالَ الخطابي : وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَيَّدَ الْكَلَامُ فِي هَذَا وَلَا يُطْلَقَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِهَا وَالْمُؤْمِنُ
مُسْلِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَإِذَا حَمَلْت الْأَمْرَ عَلَى هَذَا اسْتَقَامَ لَك تَأْوِيلُ الْآيَاتِ وَاعْتَدَلَ الْقَوْلُ فِيهَا وَلَمْ يَخْتَلِفْ شَيْءٌ مِنْهَا . " قُلْت " : الرَّجُلَانِ اللَّذَانِ أَشَارَ إلَيْهِمَا الخطابي أَظُنُّ أَحَدَهُمَا - وَهُوَ السَّابِقُ - مُحَمَّدَ بْنَ نَصْرٍ فَإِنَّهُ الَّذِي عَلَّمْته بَسْطَ الْكَلَامِ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمَا عَلِمْت لِغَيْرِهِ قَبْلَهُ بَسْطًا فِي هَذَا . وَالْآخَرُ الَّذِي رَدَّ عَلَيْهِ أَظُنُّهُ . . . (1) لَكِنْ لَمْ أَقِفْ عَلَى رَدِّهِ ؛ وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الخطابي هُوَ قَوْلُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَأَبِي جَعْفَرٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ ؛ وَلَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ خَالَفَ هَؤُلَاءِ فَجَعَلَ نَفْسَ الْإِسْلَامِ نَفْسَ الْإِيمَانِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى هَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ الخطابي . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ التيمي الأصبهاني وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ شَارِحُ " مُسْلِمٍ " وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى السَّارِقِ وَالزَّانِي اسْمُ مُؤْمِنٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَقَدْ ذَكَرَ الخطابي : فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ " كَلَامًا يَقْتَضِي تَلَازُمَهُمَا مَعَ افْتِرَاقِ اسْمَيْهِمَا [ وَذَكَرَهُ البغوي فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " فَقَالَ : قَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْلَامَ اسْمًا لِمَا ظَهَرَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَجَعَلَ الْإِيمَانَ اسْمًا لِمَا بَطَنَ مِنْ الِاعْتِقَادِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ
أَوْ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ لَيْسَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ ذَلِكَ تَفْصِيلُ الْجُمْلَةِ هِيَ كُلُّهَا شَيْءٌ وَاحِدٍ وَجِمَاعُهَا الدِّينُ ] (*) وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } وَالتَّصْدِيقُ وَالْعَمَلُ يَتَنَاوَلُهُمَا اسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعًا ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وقَوْله تَعَالَى { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } فَبَيَّنَ أَنَّ الدِّينَ الَّذِي رَضِيَهُ وَيَقْبَلُهُ مِنْ عِبَادِهِ هُوَ الْإِسْلَامُ وَلَا يَكُونُ الدِّينُ فِي مَحَلِّ الرِّضَى وَالْقَبُولِ إلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيقِ إلَى الْعَمَلِ . " قُلْت " : تَفْرِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَإِنْ اقْتَضَى أَنَّ الْأَعْلَى هُوَ الْإِحْسَانُ وَالْإِحْسَانُ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ وَالْإِيمَانُ يَتَضَمَّنُ الْإِسْلَامَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْعَكْسِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ دَلَّ عَلَى التَّلَازُمِ فَهُوَ صَرِيحٌ بِأَنَّ مُسَمَّى هَذَا لَيْسَ مُسَمَّى هَذَا لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الدَّلَالَةَ تَخْتَلِفُ بِالتَّجْرِيدِ وَالِاقْتِرَانِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ وَمَنْ فَهِمَ هَذَا انْحَلَّتْ عَنْهُ إشْكَالَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ حَادَّ عَنْهَا طَوَائِفُ - " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ " وَغَيْرِهَا - وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ فِي مَحَلِّ الرِّضَى وَالْقَبُولِ إلَّا بِانْضِمَامِ التَّصْدِيقِ إلَى الْعَمَلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ الْعَمَلِ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ مُطْلَقًا لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ الدِّينُ لَيْسَ اسْمُهُ إسْلَامًا وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ شَرْطًا فِي قَبُولِهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مُلَازِمًا لَهُ ؛ وَلَوْ كَانَ مُلَازِمًا لَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } إلَى آخِرِهِ ؛ { وَالْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } إلَى آخِرِهِ . قَالَ : هَذَا بَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ وَبَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنَّمَا أَضَافَ إلَيْهِمَا الْأَرْبَعَ لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَمُعْظَمَهَا وَبِقِيَامِهِ بِهَا يَتِمُّ اسْتِسْلَامُهُ وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِحَلِّ قَيْدِ انْقِيَادِهِ أَوْ انْحِلَالِهِ . ثُمَّ إنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَسَائِرُ الطَّاعَاتِ لِكَوْنِهَا ثَمَرَاتِ التَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ مُقَوِّمَاتٌ وَمُتَمِّمَاتٌ وَحَافِظَاتٌ لَهُ وَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَإِعْطَاءِ الْخُمُسِ مِنْ الْمَغْنَمِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَقَعُ اسْمُ الْمُؤْمِنِ الْمُطْلَقِ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ تَرَكَ فَرِيضَةً لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ الْكَامِلِ يَقَعُ عَلَى الْكَامِلِ مِنْهُ وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّاقِصِ ظَاهِرًا إلَّا بِقَيْدِ وَلِذَلِكَ جَازَ إطْلَاقُ نَفْيِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَاسْمُ " الْإِسْلَامِ " يَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا هُوَ " أَصْلُ الْإِيمَانِ " وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَيَتَنَاوَلُ " أَصْلَ الطَّاعَاتِ " فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْتِسْلَامٌ قَالَ : فَخَرَجَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَحَقَّقْنَاهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ ؛ وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ
كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا قَالَ : فَهَذَا تَحْقِيقٌ وَافٍ بِالتَّوْفِيقِ بَيْنَ مُتَفَرِّقَاتِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّتِي طَالَمَا غَلِطَ فِيهَا الْخَائِضُونَ ؛ وَمَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِمَذَاهِبِ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ . فَيُقَالُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِمَا قَدْ بَيَّنَ مِنْ أَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ : وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مَا يَظْهَرُ بِهِ أَنَّ الْجُمْهُورَ يَقُولُونَ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَقَوْلُهُ : إنَّ الْحَدِيثَ ذَكَرَ فِيهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَأَصْلُ الْإِسْلَامِ قَدْ يُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ عَنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجَوَابِ بِالْحَدِّ عَنْ الْمَحْدُودِ ؛ فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ مُطَابِقًا لَهُمَا لَا لِأَصْلِهِمَا فَقَطْ فَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ بِمَا ذَكَرَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِيمَانِ تَضَمَّنَ الْإِسْلَامَ كَمَا أَنَّ الْإِحْسَانَ تَضَمَّنَ الْإِيمَانَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : أَصْلُ الِاسْتِسْلَامِ هُوَ الْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ فَالْإِسْلَامُ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِلَّهِ وَالِانْقِيَادُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهَذَا هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنْ أَسْلَمَ بِظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ يُقْبَلُ ظَاهِرُهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ أَنْ يُشَقَّ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ . وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ يَتَنَاوَلُ التَّصْدِيقَ الْبَاطِنَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ . فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا وَهُوَ خِلَافُ مَا نُقِلَ عَنْ الْجُمْهُورِ وَلَكِنْ لَا بُدَّ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ تَصْدِيقٍ يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَإِلَّا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهِ ؛ فَيَكُونُ
حِينَئِذٍ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَبَيَّنَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَيْسَ بِمُؤْمِنِ وَدُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ } وَقَوْلُهُ : { الْإِسْلَامُ هُوَ الْأَرْكَانُ الْخَمْسَةُ } لَا يَعْنِي بِهِ مَنْ أَدَّاهَا بِلَا إخْلَاصٍ لِلَّهِ بَلْ مَعَ النِّفَاقِ بَلْ الْمُرَادُ مَنْ فَعَلَهَا كَمَا أُمِرَ بِهَا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَذَكَرَ الْخَمْسَ أَنَّهَا هِيَ الْإِسْلَامُ لِأَنَّهَا هِيَ الْعِبَادَاتُ الْمَحْضَةُ الَّتِي تَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ عَبْدٍ مُطِيقٍ لَهَا وَمَا سِوَاهَا إمَّا وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِمَصْلَحَةِ إذَا حَصَلَتْ سَقَطَ الْوُجُوبُ وَإِمَّا مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَإِنْ كَانَ فِيهَا قُرْبَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَتِلْكَ تَابِعَةٌ لِهَذِهِ كَمَا قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } { وَأَفْضَلُ الْإِسْلَامِ أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ وَتُقْرِئَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ } وَنَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذِهِ الْخَمْسُ هِيَ الْأَرْكَانُ وَالْمَبَانِي كَمَا فِي الْإِيمَانِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : الطَّاعَاتُ ثَمَرَاتُ التَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ : يُرَادُ بِهِ أَنَّهَا لَوَازِمُ لَهُ فَمَتَى وُجِدَ الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ وُجِدَتْ وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَيُرَادُ بِهِ أَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا وَقَدْ يَكُونُ الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ تَامًّا كَامِلًا وَهِيَ لَمْ تُوجَدْ وَهَذَا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ غَلِطُوا فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) : ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ الْعَمَلِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ تَصْدِيقٌ بِلَا عَمَلٍ لِلْقَلْبِ . كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَخَوْفِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالشَّوْقِ إلَى لِقَائِهِ .
وَالثَّانِي : ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ يَكُونُ تَامًّا بِدُونِ الْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَهَذَا يَقُولُ بِهِ جَمِيعُ الْمُرْجِئَةِ .
وَالثَّالِثُ : قَوْلُهُمْ كُلُّ مَنْ كَفَّرَهُ الشَّارِعُ فَإِنَّمَا كَفَّرَهُ لِانْتِفَاءِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِالرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَذَاهِبِ السَّلَفِ وَأَقْوَالِ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة ؛ لِاخْتِلَاطِ هَذَا بِهَذَا فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ هُوَ فِي بَاطِنِهِ يَرَى رَأْيَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ مُعَظِّمٌ لِلسَّلَفِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَ كَلَامِ أَمْثَالِهِ وَكَلَامِ السَّلَفِ . قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي : وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ " وَهُمْ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ : الْإِيمَانُ الَّذِي دَعَا اللَّهُ الْعِبَادَ إلَيْهِ وَافْتَرَضَهُ عَلَيْهِمْ هُوَ الْإِسْلَامُ الَّذِي جَعَلَهُ دِينًا وَارْتَضَاهُ لِعِبَادِهِ وَدَعَاهُمْ إلَيْهِ وَهُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ الَّذِي سَخِطَهُ فَقَالَ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَقَالَ . { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَقَالَ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ } وَقَالَ : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } فَمَدَحَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِمِثْلِ مَا مَدَحَ بِهِ الْإِيمَانَ . وَجَعَلَهُ اسْمَ ثَنَاءٍ وَتَزْكِيَةٍ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَهُدًى وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دِينُهُ الَّذِي ارْتَضَاهُ وَمَا ارْتَضَاهُ فَقَدْ أَحَبَّهُ وَامْتَدَحَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ وَرُسُلَهُ رَغِبُوا فِيهِ إلَيْهِ وَسَأَلُوهُ إيَّاهُ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ } وَقَالَ يُوسُفُ : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } وَقَالَ : { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا } فَحُكْمُ اللَّهِ بِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ اهْتَدَى وَمَنْ آمَنَ فَقَدْ اهْتَدَى فَسَوَّى بَيْنَهُمَا . قَالَ : وَقَدْ ذَكَرْنَا تَمَامَ الْحُجَّةِ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِيمَانُ وَأَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ وَلَا يَتَبَايَنَانِ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا فَكَرِهْنَا إعَادَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَرَاهَةَ التَّطْوِيلِ وَالتَّكْرِيرِ غَيْرَ أَنَّا سَنَذْكُرُ مِنْ الْحُجَّةِ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَنُبَيِّنْ خَطَأَ تَأْوِيلِهِمْ وَالْحُجَجَ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . " قُلْت " : مَقْصُودُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - : أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمَمْدُوحَ هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمَمْدُوحُ ؛ وَأَنَّ الْمَذْمُومَ نَاقِصُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ مُسْلِمٌ وَكُلَّ مُسْلِمٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إيمَانٌ وَهَذَا صَحِيحٌ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمَقْصُودُهُ أَيْضًا أَنَّ مَنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَمَقْصُودُهُ أَنَّ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ وَهَذَا لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَإِنْ قِيلَ : هُمَا مُتَلَازِمَانِ . فالمتلازمان لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى هَذَا هُوَ مُسَمَّى هَذَا وَهُوَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ الْمَشْهُورِينَ أَنَّهُ قَالَ : مُسَمَّى الْإِسْلَامِ هُوَ مُسَمَّى
الْإِيمَانِ كَمَا[ نصر ] (1) ؛ بَلْ وَلَا عَرَفْت أَنَا أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْ الْجَمَاعَةِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُسْتَحِقَّ لِوَعْدِ اللَّهِ هُوَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَحِقُّ لِوَعْدِ اللَّهِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى مَعْنَاهُ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بَلْ وَبَيْنَ فِرَقِ الْأُمَّةِ كُلِّهِمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي وُعِدَ بِالْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا وَالْمُسْلِمُ الَّذِي وُعِدَ بِالْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا وَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُسْلِمٌ . ثُمَّ إنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ لَا يَقُولُونَ : الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ وَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مَعَهُمْ بَعْضُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ فَالنُّقُول مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ السَّلَفِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْجُمْهُورُ الْأَعْظَمُ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ لَيْسَ هُوَ الْكَلِمَةَ فَقَطْ خِلَافُ ظَاهِرِ مَا نُقِلَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَكَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا هِيَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ ظَنَّ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهَا شَيْئًا وَاحِدًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقِهِمْ وَلَيْسَ إذَا كَانَ الْإِسْلَامُ دَاخِلًا فِيهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ إيَّاهُ ؛ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلَكِنْ هَلْ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ أَوْ كَمَالَ الْإِيمَانِ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ وَلَيْسَ مَعَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِيمَانِ وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ كُلُّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَاكَ عَنْهُمْ فَنَحْنُ نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ مُؤْمِنُونَ .
وَكَذَلِكَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُؤْمِنِينَ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ فَغَايَةُ مَا يُقَالُ : إنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنٌ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَهَذَا صَحِيحٌ إذَا أُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ . وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إذَا أُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يُثَابُ عَلَى عِبَادَتِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ فَمَا مِنْ مُسْلِمٍ إلَّا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي نَفَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ لَا يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَعَمَّنْ يَفْعَلُ الْكَبَائِرَ وَعَنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ التَّامَّ مُتَلَازِمَانِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرَ كَالرُّوحِ وَالْبَدَنِ فَلَا يُوجَدُ عِنْدَنَا رُوحٌ إلَّا مَعَ الْبَدَنِ وَلَا يُوجَدُ بَدَنٌ حَيٌّ إلَّا مَعَ الرُّوحِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَالْإِيمَانُ كَالرُّوحِ فَإِنَّهُ قَائِمٌ بِالرُّوحِ وَمُتَّصِلٌ بِالْبَدَنِ وَالْإِسْلَامُ كَالْبَدَنِ وَلَا يَكُونُ الْبَدَنُ حَيًّا إلَّا مَعَ الرُّوحِ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ لَا أَنَّ مُسَمَّى أَحَدِهِمَا هُوَ مُسَمَّى الْآخَرِ ؛ وَإِسْلَامُ الْمُنَافِقِينَ كَبَدَنِ الْمَيِّتِ جَسَدٌ بِلَا رُوحٍ فَمَا مِنْ بَدَنٍ حَيٍّ إلَّا وَفِيهِ رُوحٌ وَلَكِنَّ الْأَرْوَاحَ مُتَنَوِّعَةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ } وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ صَلَّى بِبَدَنِهِ يَكُونُ قَلْبُهُ مُنَوَّرًا بِذِكْرِ اللَّهِ وَالْخُشُوعِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ يُثَابُ عَلَيْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَهَكَذَا الْإِسْلَامُ الظَّاهِرُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ الظَّاهِرَةِ وَالْإِيمَانُ بِمَنْزِلَةِ مَا يَكُونُ فِي الْقَلْبِ حِينَ الصَّلَاةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْخُشُوعِ وَتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ فَكُلُّ مَنْ خَشَعَ قَلْبُهُ
خَشَعَتْ جَوَارِحُهُ وَلَا يَنْعَكِسُ وَلِهَذَا قِيلَ : : إيَّاكُمْ وَخُشُوعَ النِّفَاقِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعِ فَإِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَلَيْسَ إذَا كَانَ الْجَسَدُ فِي عِبَادَةٍ يَكُونُ الْقَلْبُ قَائِمًا بِحَقَائِقِهَا .
وَالنَّاسُ فِي " الْإِيمَانِ " وَ "الْإِسْلَامِ " عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ : ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ . فَالْمُسْلِمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إذَا كَانَ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إيمَانٌ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْوَاجِبِ وَلَا يَنْعَكِسْ وَكَذَلِكَ فِي الْآخَرِ . وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ . وَالْآيَاتُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ دِينُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ دِينٌ غَيْرَهُ وَهَذَا كُلُّهُ حَقٌّ ؛ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِيمَانُ ؛ بَلْ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي حُجَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ فِي غَيْرِ آيَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْوَعْدَ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وَحِينَئِذٍ فَمَدْحُهُ وَإِيجَابُهُ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُ تَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْإِيمَانِ ؛ وَأَنَّهُ بَعْضٌ مِنْهُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ كُلِّهِمْ يَقُولُونَ : كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَكُلُّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ لَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْعَكْسِ ؛ وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَأْمُرُ بِهَا وَيُوجِبُهَا وَيُثْنِي عَلَيْهَا وَعَلَى أَهْلِهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الصَّلَاةِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ بَلْ الصَّلَاةُ تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُصَلٍّ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ صَلَّى وَأَتَى الْكَبَائِرَ مُؤْمِنًا .
وَجَمِيعُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْحُجَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِيهَا التَّفْرِيقَ بَيْن مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ إذَا ذُكِرَا جَمِيعًا كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ إذَا أُطْلِقَ دَخَلَ فِيهِ الْإِسْلَامُ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ الْمُصَنَّفِ فِي " أُصُولِ الدِّينِ " :
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَكَلَامُ أَحْمَد يَحْتَمِلُ رِوَايَتَيْنِ . إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ كَالْإِيمَانِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ . وَهُوَ نَصُّهُ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَذْهَبَ رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ : إنَّ الْإِسْلَامَ قَوْلٌ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرْطِهِ إذْ النَّصُّ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِهِ الصَّلَاةَ . قَالَ : وَقَدْ قَضَيْنَا أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْفُقَهَاءِ وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ اسْمَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ قَالَ : وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّهُمَا اسْمَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ قَالَ : وَيُفِيدُ هَذَا أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ تَنْتَفِي عَنْهُ تَسْمِيَتُهُ مَعَ بَقَاءِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ وَهُوَ بِإِتْيَانِ الْكَبَائِرِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الْخَبَرِ فَيَخْرُجُ عَنْ تَسْمِيَةِ الْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ مُسْلِمٌ ؛ فَإِذَا تَابَ مِنْ ذَلِكَ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَانِ . وَلَا تَنْتِفِي عَنْهُ تَسْمِيَةُ الْإِيمَانِ بِارْتِكَابِ الصَّغَائِرِ مِنْ الذُّنُوبِ بَلْ الِاسْمُ بَاقٍ عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ أَدِلَّةَ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ
فِيهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ : الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْكَلِمَةِ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الْكَثِيرَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ النُّصُوصُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا لَيْسَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ بِخِلَافِ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي النُّصُوصِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا الْإِسْلَامُ الدِّينُ كَمَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُسْلِمَ وَجْهَهُ وَقَلْبَهُ لِلَّهِ فَإِخْلَاصُ الدِّينِ لِلَّهِ إسْلَامٌ وَهَذَا غَيْرُ التَّصْدِيقِ ذَاكَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَلْبِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْقَلْبِ . وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ فَقَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : إنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ وَهُوَ اتَّبَعَ هنا الزُّهْرِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ كَانَ مُرَادُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ إنَّهُ بِالْكَلِمَةِ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَأْتِ بِتَمَامِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا قَرِيبٌ . وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِجَمِيعِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ فَهَذَا غَلَطٌ قَطْعًا بَلْ قَدْ أَنْكَرَ أَحْمَد هَذَا الْجَوَابَ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُطْلِقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ مُتَابَعَةً لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ أَحْمَد جَمِيعِهِ . قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ : سَأَلْت أَحْمَد فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَقَالَ : " الْإِيمَانُ " قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَالْإِسْلَامُ الْإِقْرَارُ . وَقَالَ : وَسَأَلْت أَحْمَد عَمَّنْ قَالَ فِي الَّذِي قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ سَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَأَنَا مُسْلِمٌ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ . فَقَالَ قَائِلٌ : وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ الَّذِي قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُسْلِمٌ أَيْضًا ؟ فَقَالَ : هَذَا مُعَانِدٌ لِلْحَدِيثِ .
فَقَدْ جَعَلَ أَحْمَد مَنْ جَعَلَهُ مُسْلِمًا إذَا لَمْ يَأْتِ بِالْخَمْسِ مُعَانِدًا لِلْحَدِيثِ مَعَ قَوْلِهِ : إنَّ الْإِسْلَامَ الْإِقْرَارُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ ذَاكَ أَوَّلُ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْخَمْسِ وَإِطْلَاقُ الِاسْمِ مَشْرُوطٌ بِهَا فَإِنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ حَدِيثَ جِبْرِيلَ . وَأَيْضًا فَهُوَ فِي أَكْثَرِ أَجْوِبَتِهِ يُكَفِّرُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِالصَّلَاةِ ؛ بَلْ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْمَبَانِي وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بِلَا عَمَلٍ ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ فَهَذَا يَكُونُ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ الْمَبَانِي الْأَرْبَعَةِ . وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَاَلَّذِينَ لَا يَكْفُرُونَ مِنْ تَرْكِ هَذِهِ الْمَبَانِي يَجْعَلُونَهَا مِنْ الْإِسْلَامِ كَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ فَكَيْفَ لَا يَجْعَلُهَا أَحْمَد مِنْ الْإِسْلَامِ وَقَوْلُهُ فِي دُخُولِهَا فِي الْإِسْلَامِ أَقْوَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ حَدِيثَ سَعْدٍ مُعَارِضًا لِحَدِيثِ عُمَرَ وَرَجَّحَ حَدِيثَ سَعْدٍ . قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ : سَأَلْت أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ الْإِيمَانِ أَوْكَدُ أَوْ الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : جَاءَ حَدِيثُ عُمَرَ هَذَا وَحَدِيثُ سَعْدٍ أَحَبُّ إلَيَّ . كَأَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ هِيَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ مُسَمَّاهُ أَفْضَلَ . وَحَدِيثُ سَعْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ أَفْضَلُ وَلَكِنْ حَدِيثُ عُمَرَ لَمْ يَذْكُرْ الْإِسْلَامَ إلَّا الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ فَقَطْ وَهَذِهِ لَا تَكُونُ إيمَانًا إلَّا مَعَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بَعْضُ الْإِيمَانِ فَيَكُونُ مُسَمَّى الْإِيمَانِ أَفْضَلَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ سَعْدٍ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ : وَأَمَّا تَفْرِيقُ أَحْمَد بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَكَانَ يَقُولُهُ تَارَةً وَتَارَةً يَحْكِي
الْخِلَافَ وَلَا يَجْزِمُ بِهِ . وَكَانَ إذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا " تَارَةً " يَقُولُ الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ . " وَتَارَةً " لَا يَقُولُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ التَّكْفِيرُ بِتَرْكِ الْمَبَانِي كَانَ تَارَةً يَكْفُرُ بِهَا حَتَّى يَغْضَبَ ؛ وَتَارَةً لَا يَكْفُرُ بِهَا . قَالَ الميموني : قُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْت بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ ؟ قَالَ : عَامَّةُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ثُمَّ قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } قَالَ : وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . قَالَ : وَحَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ الخزاعي قَالَ : قَالَ مَالِكٌ وَشَرِيكٌ وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ وَقَوْلَ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ : فَرْقٌ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . قَالَ أَحْمَد : قَالَ لِي رَجُلٌ : لَوْ لَمْ يَجِئْنَا فِي الْإِيمَانِ إلَّا هَذَا لَكَانَ حَسَنًا . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَتَذْهَبُ إلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ مَعَ السُّنَنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قُلْت : فَإِذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْقَوْلُ . قَالَ : هُمْ يُصَيِّرُونَ هَذَا كُلَّهُ وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وَمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ . قُلْت : فَمِنْ هَاهُنَا حُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُ الْفَرْقَ مُطْلَقًا وَاحْتِجَاجُهُ بِالنُّصُوصِ . وَقَالَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد : سُئِلَ أَبِي عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ قَالَ : قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ الْإِسْلَامُ : الْقَوْلُ وَالْإِيمَانُ : الْعَمَلُ . قِيلَ لَهُ : مَا تَقُولُ أَنْتَ ؟ قَالَ : الْإِسْلَامُ غَيْرُ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ حَدِيثَ سَعْدٍ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَهُوَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَخْتَرْ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الْإِسْلَامُ : الْقَوْلُ ؛ بَلْ أَجَابَ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ مَعَ الْقُرْآنِ . وَقَالَ حَنْبَلٌ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِحَدِيثِ بريدة : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } . . . الْحَدِيثُ . قَالَ : وَسَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ . فَمَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَهُ : مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ . فَبَيَّنَ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْمُسْلِمِ وَرَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ مُسْتَكْمِلُ الْإِيمَانِ وَقَوْلُهُ : { وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَيِّتٌ يَشُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ سَأَلْت : أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قُلْت : قَوْلُهُ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . قَالَ : قَدْ تَأَوَّلُوهُ فَأَمَّا عَطَاءٌ فَقَالَ : يَتَنَحَّى عَنْهُ الْإِيمَانُ . وَقَالَ طَاوُوسٌ : إذَا فَعَلَ ذَلِكَ زَالَ عَنْهُ الْإِيمَانُ . وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : إنْ رَجَعَ رَاجَعَهُ الْإِيمَانُ . وَقَدْ قِيلَ : يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِسْلَامِ . وَرَوَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ صَالِحٌ فَإِنَّ مَسَائِلَ أَبِي الْحَارِثِ يَرْوِيهَا صَالِحٌ أَيْضًا . وَصَالِحٌ سَأَلَ أَبَاهُ عِ ن هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ فِيهَا : هَكَذَا يُرْوَى عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } قَالَ : يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ فَالْإِيمَانُ مَقْصُورٌ فِي الْإِسْلَامِ ،
فَإِذَا زَنَى خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ . قَالَ الزُّهْرِيُّ - يَعْنِي - لِمَا رُوِيَ حَدِيثُ سَعْدٍ : " أو مُسْلِمٌ " فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ قَالَ أَحْمَد : وَهُوَ حَدِيثٌ مُتَأَوِّلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . فَقَدْ ذَكَرَ أَقْوَالَ التَّابِعِينَ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا وَذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا قَالُوهُ حَقٌّ وَهُوَ يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا قَدْ ذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ إلَى الْإِسْلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَحْمَد وَأَمْثَالُهُ مِنْ السَّلَفِ لَا يُرِيدُونَ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ ؛ بَلْ التَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ مِثْلُ التَّفْسِيرِ وَبَيَانِ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ اللَّفْظُ كَقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ } وَإِلَّا فَمَا ذَكَرَهُ التَّابِعُونَ لَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ بَلْ يُوَافِقُهُ وَقَوْلُ أَحْمَد يَتَأَوَّلُهُ أَيْ يُفَسَّرُ مَعْنَاهُ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُوَافِقُ ظَاهِرَهُ لِئَلَّا يَظُنَّ مُبْتَدِعٌ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ صَارَ كَافِرًا لَا إيمَانَ مَعَهُ بِحَالِ ؛ كَمَا تَقُولُهُ الْخَوَارِجُ فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا . وَاَلَّذِي نَفَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْإِيمَانَ كَانَ يَجْعَلُهُمْ مُسْلِمِينَ لَا يَجْعَلُهُمْ مُؤْمِنِينَ . قَالَ المروذي : قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : نَقُولُ نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ ؟ فَقَالَ : نَقُولُ : نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : نَقُولُ : إنَّا مُؤْمِنُونَ . قَالَ : وَلَكِنْ نَقُولُ : إنَّا مُسْلِمُونَ . وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُؤَدٍّ لِجَمِيعِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ : أَنَا بَرٌّ أَنَا تَقِيٌّ أَنَا وَلِيُّ اللَّهِ ؛ كَمَا يُذْكَرُ فِي
مَوْضِعِهِ ؛ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ إذَا أَرَادَ : إنِّي مُصَدِّقٌ فَإِنَّهُ يَجْزِمُ بِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ ؛ وَلَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ لِكُلِّ مَا أُمِرَ بِهِ ؛ وَكَمَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّهُ يُبْغِضُ الْكُفْرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُ أَنَّهُ فِي قَلْبِهِ ؛ وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ فِي الظَّاهِرِ ؛ فَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُجْزَمَ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ ؛ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مَا كَرِهَهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ إذْ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ شَيْءٌ مُتَمَاثِلٌ فِي جَمِيعِ أَهْلِهِ مِثْلَ كَوْنِ كُلِّ إنْسَانٍ لَهُ رَأْسٌ ؛ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا وَأَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؛ كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ : لِي رَأْسٌ حَقًّا وَأَنَا لِي رَأْسٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ حَقًّا : فَمَنْ جَزَمَ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ أَخْرَجَ الْأَعْمَالَ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ عَنْهُ ؛ وَهَذَا مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِلنَّاسِ فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ " كَلَامٌ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ هُنَا قَوْلَيْنِ مُتَطَرِّفَيْنِ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْكَلِمَةِ وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ : مُسَمَّى الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَاحِدٌ ؛ وَكِلَاهُمَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ وَسَائِرِ أَحَادِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلِهَذَا لَمَّا نَصَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي الْقَوْلَ الثَّانِيَ : لَمْ يَكُنْ مَعَهُ حُجَّةٌ عَلَى صِحَّتِهِ ؛ وَلَكِنْ احْتَجَّ بِمَا يُبْطِلُ بِهِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ؛ فَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِ : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قَالَ : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ " الْإِسْلَامَ " هُوَ الْإِيمَانُ ،
فَيُقَالُ : بَلْ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا ؛ بَلْ قَالُوا : آمَنَّا وَاَللَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : أَسْلَمْنَا ثُمَّ ذَكَرَ تَسْمِيَتَهُمْ بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فِي قَوْلِكُمْ : آمَنَّا وَلَوْ كَانَ الْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانَ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقُولَ : { إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فَإِنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ : { أَسْلَمْنَا } مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ قَالَ : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } أَيْ : يَمُنُّونَ عَلَيْك مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْإِسْلَامِ فَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى فِعْلَهُمْ إسْلَامًا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ سَمَّوْهُ إسْلَامًا ؛ وَإِنَّمَا قَالُوا : آمَنَّا ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْمِنَّةَ تَقَعُ بِالْهِدَايَةِ إلَى الْإِيمَانِ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ الَّذِي لَا إيمَانَ مَعَهُ فَكَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ خَوْفًا مِنْ السَّيْفِ ؛ فَلَا مِنَّةَ لَهُمْ بِفِعْلِهِ وَإِذَا لَمْ يَمُنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ كَانَ ذَلِكَ كَإِسْلَامِ الْمُنَافِقِينَ فَلَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ مِنْهُمْ . فَأَمَّا إذَا كَانُوا صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ : آمَنَّا فَاَللَّهُ هُوَ الْمَانُّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَمَا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ أَوَّلًا وَهُنَا عَلَّقَ مِنَّةَ اللَّهِ بِهِ عَلَى صِدْقِهِمْ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ صِدْقِهِمْ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُمْ صَارُوا صَادِقِينَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُقَالُ : الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ ذَلِكَ الشَّرْطِ وَيُقَالُ : لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُمْ إيمَانٌ مَا . لَكِنْ مَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي وَصَفَهُ ثَانِيًا ؟ بَلْ مَعَهُمْ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } الْآيَةُ وَقَالَ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } فَسَمَّى إقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ
الزَّكَاةِ دِينًا قِيَمًا وَسَمَّى الدِّينَ إسْلَامًا فَمَنْ لَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ فَقَدْ تَرَكَ مِنْ الدِّينِ الْقَيِّمِ - الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ عِنْدَهُ الدِّينُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ - بَعْضًا . قَالَ : وَقَدْ جَاءَ مُعَيِّنًا هَذِهِ الطَّائِفَةَ الَّتِي فَرَّقَتْ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَأَنَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ سَمَّاهُمَا اللَّهُ دِينًا وَأَخْبَرَ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ وَسَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ وَبِمِثْلِ ذَلِكَ جَاءَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَأَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ؛ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ إذْ زَعَمَتْ أَنَّ الْإِيمَانَ إقْرَارٌ بِلَا عَمَلٍ . فَيُقَالُ : أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ اللَّهَ جَعَلَ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ مِنْ الدِّينِ وَالدِّينُ عِنْدَهُ هُوَ الْإِسْلَامُ فَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِحَدِيثِ جِبْرِيلَ وَرَدِّهِ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْعَمَلَ خَارِجًا مِنْ الْإِسْلَامِ كَلَامٌ حَسَنٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ سَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ وَسَمَّى الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا قَالَ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِيمَانُ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الدِّينَ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ إذَا كَانَ مِنْهُ يَكُونُ هُوَ إيَّاهُ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ أَصْلُهُ مَعْرِفَةُ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقُهُ وَقَوْلُهُ ؛ وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لِهَذَا الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقُ مُلَازِمٌ لَهُ وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُؤْمِنًا إلَّا بِهِمَا . وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَمَلٌ مَحْضٌ مَعَ قَوْلٍ وَالْعِلْمُ وَالتَّصْدِيقُ لَيْسَ جُزْءَ مُسَمَّاهُ لَكِنْ يَلْزَمُهُ جِنْسُ التَّصْدِيقِ فَلَا يَكُونُ عَمَلٌ إلَّا بِعِلْمِ لَكِنْ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ الْمُفَصَّلَ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . وَسَائِرُ النُّصُوصِ الَّتِي تَنْفِي الْإِيمَانَ عَمَّنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِمَا ذَكَرَهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَعَهُ تَصْدِيقٌ مُجْمَلٌ وَلَمْ يَتَّصِفْ بِهَذَا الْإِيمَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } وَقَالَ : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَلَمْ يَقُلْ : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَتَصْدِيقًا وَإِيمَانًا وَلَا قَالَ : رَضِيت لَكُمْ الْإِسْلَامَ تَصْدِيقًا وَعِلْمًا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مِنْ جِنْسِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ وَالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ ؛ فَمَنْ ابْتَغَى غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مَعَهُ وَالْإِيمَانُ طُمَأْنِينَةٌ وَيَقِينٌ أَصْلُهُ عِلْمٌ وَتَصْدِيقٌ وَمَعْرِفَةٌ وَالدِّينُ تَابِعٌ لَهُ يُقَالُ : آمَنْت بِاَللَّهِ وَأَسْلَمْت لِلَّهِ . قَالَ مُوسَى : { يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } فَلَوْ كَانَ مُسَمَّاهُمَا وَاحِدًا كَانَ هَذَا تَكْرِيرًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } كَمَا قَالَ : وَالصَّادِقِينَ وَالصَّابِرِينَ وَالْخَاشِعِينَ : فَالْمُؤْمِنُ مُتَّصِفٌ بِهَذَا كُلِّهِ لَكِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ لَا تُطَابِقُ الْإِيمَانَ فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت وَعَلَيْك تَوَكَّلْت وَإِلَيْك أَنَبْت وَبِك خَاصَمْت وَإِلَيْك حَاكَمْت } كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " وَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : فِي سُجُودِهِ : { اللَّهُمَّ لَك سَجَدْت وَبِك آمَنْت وَلَك أَسْلَمْت } وَفِي الرُّكُوعِ يَقُولُ : { لَك رَكَعْت وَلَك
أَسْلَمْت وَبِك آمَنْت } وَلِمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةَ كُلٍّ مِنْهُمَا قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمَّنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّلَامَةَ مِنْ ظُلْمِ الْإِنْسَانِ غَيْرُ كَوْنِهِ مَأْمُونًا عَلَى الدَّمِ وَالْمَالِ فَإِنَّ هَذَا أَعْلَى وَالْمَأْمُونُ يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْ ظُلْمِهِ وَلَيْسَ مَنْ سَلِمُوا مِنْ ظُلْمِهِ يَكُونُ مَأْمُونًا عِنْدَهُمْ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ : فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَأَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْهُ فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ . وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ النُّصُوصَ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِسْلَامِ . قَالَ : وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ إذْ زَعَمَتْ أَنَّ الْإِيمَانَ إقْرَارٌ بِلَا عَمَلٍ . فَيُقَالُ : بَلْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ كَالزُّهْرِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ يَقُولُونَ : الْأَعْمَالُ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامُ عِنْدَهُمْ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ أَكْمَلُ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَيَقُولُونَ : النَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ بَعْضُ الْإِسْلَامِ وَالْإِسْلَامُ أَفْضَلُ : وَيَقُولُونَ إيمَانُ النَّاسِ مُتَسَاوٍ فَإِيمَانُ الصَّحَابَةِ وَأَفْجَرُ النَّاسِ سَوَاءٌ وَيَقُولُونَ : لَا يَكُونُ مَعَ أَحَدٍ بَعْضُ الْإِيمَانِ دُونَ بَعْضٍ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَدْ أَجَابَ أَحْمَد عَنْ هَذَا السُّؤَالِ كَمَا قَالَهُ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ . قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَإِنَّهُ تَارَةً يُوَافِقُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَتَارَةً لَا يُوَافِقُهُ
بَلْ يَذْكُرُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ غَيْرُ الْإِيمَانِ ؛ فَلَمَّا أَجَابَ بِقَوْلِ الزُّهْرِيِّ قَالَ لَهُ الْمَيْمُونِيَّ : قُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ قُلْت : بِأَيِّ شَيْءٍ تَحْتَجُّ ؟ قَالَ : عَامَّةُ الْأَحَادِيثِ تَدُلُّ عَلَى هَذَا ثُمَّ قَالَ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } قُلْت لَهُ : فَتَذْهَبُ إلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ مَعَ السُّنَنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ قُلْت : فَإِذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ تَقُولُ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْقَوْلُ قَالَ : هُمْ يُصَيِّرُونَ هَذَا كُلَّهُ وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ وَمُسْتَكْمِلِ الْإِيمَانِ ؛ قُلْت : فَمِنْ هَهُنَا حُجَّتُنَا عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ . فَقَدْ أَجَابَ أَحْمَد : بِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْفَاسِقَ مُؤْمِنًا مُسْتَكْمِلَ الْإِيمَانِ عَلَى إيمَانِ جِبْرِيلَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : يَجْعَلُونَهُ مُسْلِمًا وَمُؤْمِنًا شَيْئًا وَاحِدًا فَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الدِّينُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَالْإِسْلَامُ هُوَ الدِّينُ فَيَجْعَلُونَ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ فِيمَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمَا وَمَعَ هَؤُلَاءِ يُنَاظِرُونَ فَالْمَعْرُوفُ مِنْ كَلَامِ الْمُرْجِئَةِ : الْفَرْقُ بَيْنَ لَفْظِ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ . وَيَقُولُونَ : الْإِسْلَامُ بَعْضُهُ إيمَانٌ وَبَعْضُهُ أَعْمَالٌ وَالْأَعْمَالُ مِنْهَا فَرْضٌ وَنَفْلٌ وَلَكِنَّ كَلَامَ السَّلَفِ كَانَ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ وَيَصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا تَجِدُهُمْ فِي الْجَهْمِيَّة ؛ إمَّا يَحْكُونَ عَنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ كالنجارية وَهُوَ قَوْلُ عَوَامِّهِمْ
وَعُبَّادِهِمْ وَأَمَّا جُمْهُورُ نُظَّارِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ والضرارية وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّمَا يَقُولُونَ : هُوَ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا هُوَ فَوْقَ الْعَالَمِ . وَكَذَلِكَ كَلَامُهُمْ فِي " الْقَدَرِيَّةِ " يَحْكُونَ عَنْهُمْ إنْكَارَ الْعِلْمِ وَالْكِتَابَةِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِيهِمْ : إذَا لَقِيت أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَهُمْ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ وَنَهَاهُمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيه وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِمَّنْ يَدْخُلُ النَّارَ حَتَّى فَعَلُوا ذَلِكَ فَعَلِمَهُ بَعْدَ مَا فَعَلُوهُ وَلِهَذَا قَالُوا : الْأَمْرُ أُنُفٌ أَيْ : مُسْتَأْنَفٌ ؛ يُقَالُ : رَوْضٌ أُنُفٌ إذَا كَانَتْ وَافِرَةً لَمْ تَرْعَ قَبْلَ ذَلِكَ يَعْنِي أَنَّهُ مُسْتَأْنَفُ الْعِلْمِ بِالسَّعِيدِ وَالشَّقِيِّ وَيَبْتَدِئُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَ بِذَلِكَ عِلْمٌ وَلَا كِتَابٌ فَلَا يَكُونُ الْعَمَلُ عَلَى مَا قَدْ قُدِّرَ فَيَحْتَذِي بِهِ حَذْوَ الْقِدْرِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ مُبْتَدَأٌ وَالْوَاحِدُ مِنْ النَّاسِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا قُدِّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يُرِيدُ عَمَلَهُ ثُمَّ عَمِلَهُ كَمَا قُدِّرَ فِي نَفْسِهِ وَرُبَّمَا أَظْهَرَ مَا قَدَّرَهُ فِي الْخَارِجِ بِصُورَتِهِ وَيُسَمَّى هَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي فِي النَّفْسِ خُلُقًا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْت وبع ضُ النَّاسِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي يَقُولُ : إذَا قَدَّرْت أَمْرًا أَمْضَيْتَهُ وأنفذته بِخِلَافِ غَيْرِك فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ إمْضَاءِ مَا يُقَدِّرُهُ وَقَالَ تَعَالَى { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّ مَا سَيَكُونُ وَهُوَ يَخْلُقُ بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ يَعْلَمُهُ وَيُرِيدُهُ وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَقَدْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُخْبِرُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } { إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ مَا يُقَدِّرُهُ فِيمَا يَكْتُبُهُ فِيهِ كَمَا قَالَ : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ ثُمَّ قَالَ لِعِلْمِهِ : كُنْ كِتَابًا ؛ فَكَانَ كِتَابًا ثُمَّ أَنْزَلَ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وَقَالَ : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } وَقَالَ : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَالْمَلَائِكَةُ قَدْ عَلِمَتْ مَا يَفْعَلُ بَنُو آدَمَ مِنْ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ سَوَاءٌ عَلِمُوهُ بِإِعْلَامِ اللَّهِ - فَيَكُونُ هُوَ أَعْلَمَ بِمَا عَلَّمَهُمْ إيَّاهُ كَمَا قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : - أَوْ قَالُوهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ كَمَا قَالَهُ : طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الَّذِينَ لَا عِلْمَ لَهُمْ إلَّا مَا عَلَّمَهُمْ وَمَا أَوْحَاهُ إلَى أَنْبِيَائِهِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّا سَيَكُونُ هُوَ أَعْلَمَ بِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُحِيطُونَ بِشَيْءِ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ : { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ وَقَبْلَ أَنْ يَمْتَنِعَ إبْلِيسُ ؛ وَقَبْلَ أَنْ يَنْهَى آدَمَ عَنْ أَكْلِهِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَبْلَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَيَكُونُ أَكْلُهُ سَبَبَ إهْبَاطِهِ إلَى الْأَرْضِ فَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ سَيَسْتَخْلِفُهُ مَعَ أَمْرِهِ لَهُ ولإبليس بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُمَا يُخَالِفَانِهِ فِيهِ وَيَكُونُ الْخِلَافُ سَبَبَ أَمْرِهِ لَهُمَا بِالْإِهْبَاطِ إلَى الْأَرْضِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ مِنْهُمَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ فَإِنَّ إبْلِيسَ امْتَنَعَ مِنْ السُّجُودِ لِآدَمَ وَأَبْغَضَهُ فَصَارَ عَدُوَّهُ فَوَسْوَسَ لَهُ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَيُذْنِبُ آدَمَ أَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ تَأَلَّى إنَّهُ لَيُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وَقَدْ سَأَلَ الْإِنْظَارَ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَهُوَ حَرِيصٌ عَلَى إغْوَاءِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهُ لَكِنَّ آدَمَ تَلَقَّى مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ وَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَهَدَاهُ بِتَوْبَتِهِ فَصَارَ لِبَنِي آدَمَ سَبِيلٌ إلَى نَجَاتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ مِمَّا يُوقِعُهُمْ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِالْإِغْوَاءِ وَهُوَ التَّوْبَةُ قَالَ تَعَالَى : { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } . وَقَدَرُ اللَّهِ قَدْ أَحَاطَ بِهَذَا كُلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَإِبْلِيسُ أَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَسَأَلَ الْإِنْظَارَ لِيُهْلِكَ غَيْرَهُ وَآدَمُ تَابَ وَأَنَابَ وَقَالَ هُوَ وَزَوْجَتُهُ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ وَأَنْزَلَهُ إلَى الْأَرْضِ لِيَعْمَلَ فِيهَا بِطَاعَتِهِ ؛ فَيَرْفَعُ اللَّهُ بِذَلِكَ دَرَجَتَهُ وَيَكُونُ دُخُولُهُ الْجَنَّةَ بَعْدَ هَذَا أَكْمَلَ مِمَّا كَانَ فَمَنْ أَذْنَبَ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ فَاقْتَدَى بِأَبِيهِ آدَمَ فِي التَّوْبَةِ كَانَ سَعِيدًا وَإِذَا تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ وَكَانَ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ كَسَائِرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَمَنْ اتَّبَعَ مِنْهُمْ إبْلِيسَ فَأَصَرَّ عَلَى الذَّنْبِ وَاحْتَجَّ بِالْقَدَرِ وَأَرَادَ أَنْ يُغْوِيَ غَيْرَهُ كَانَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ الْقَدَرِ ؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ؛ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكُتِبَ فِي الذِّكْرِ كُلُّ شَيْءٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ أَخْبَرَ : { أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَمَا يَعْمَلُهُ الْعِبَادُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ } . وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : { أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَلَكًا بَعْدَ خَلْقِ الْجَسَدِ وَقَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَيَكْتُبُ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعِهَا . فَهَذَا الْقَدَرُ هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ " الْقَدَرِيَّةُ " الَّذِينَ كَانُوا فِي أَوَاخِرِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ابْتَدَعَهُ بِالْعِرَاقِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ : سيسويه مِنْ أَبْنَاءِ الْمَجُوسِ وَتَلَقَّاهُ عَنْهُ مَعْبَدٌ الجهني وَيُقَالُ : أَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الْحِجَازِ لَمَّا احْتَرَقَتْ الْكَعْبَةُ فَقَالَ
رَجُلٌ : احْتَرَقَتْ بِقَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى . فَقَالَ آخَرُ : لَمْ يُقَدِّرْ اللَّهُ هَذَا . وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَحَدٌ يُنْكِرُ الْقُدْرَةَ ؛ فَلَمَّا ابْتَدَعَ هَؤُلَاءِ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ بَقِيَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَوَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ : وَكَانَ أَكْثَرُهُ بِالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ وَقَلِيلٌ مِنْهُ بِالْحِجَازِ ؛ فَأَكْثَرُ كَلَامِ السَّلَفِ فِي ذَمِّ هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ : وَلِهَذَا قَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ : الْقَدَرِيَّةُ يَقُولُونَ : الْأَمْرُ مُسْتَقْبَلٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ الْكِتَابَةَ وَالْأَعْمَالَ ؛ وَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْقَوْلُ يُجْزِئُ مِنْ الْعَمَلِ ؛ وَالْجَهْمِيَّة يَقُولُونَ : الْمَعْرِفَةُ تُجْزِئُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ . قَالَ وَكِيعٌ : وَهُوَ كُلُّهُ كُفْرٌ وَرَوَاهُ ابْنُ . . . (1) .
وَلَكِنْ لَمَّا اشْتَهَرَ الْكَلَامُ فِي الْقَدَرِ ؛ وَدَخَلَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِبَادِ صَارَ جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ يُقِرُّونَ بِتَقَدُّمِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ عُمُومَ الْمَشِيئَةِ وَالْخَلْقِ . وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فِي إنْكَارِ الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ رِوَايَتَانِ . وَقَوْلُ أُولَئِكَ كَفَّرَهُمْ عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد وَغَيْرُهُمْ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ لَكِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَنْزِلَةِ أُولَئِكَ ؛ وَفِي هَؤُلَاءِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ كُتِبَ عَنْهُمْ الْعِلْمُ . وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ لِجَمَاعَةِ مِنْهُمْ لَكِنْ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَيْهِ لَمْ يُخَرِّجُوا لَهُ وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : أَنَّ مَنْ كَانَ دَاعِيَةً إلَى بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ لِدَفْعِ ضَرَرِهِ عَنْ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ فِي الْبَاطِنِ مُجْتَهِدًا وَأَقَلُّ عُقُوبَتِهِ أَنْ يُهْجَرَ فَلَا يَكُونُ لَهُ مَرْتَبَةٌ فِي الدِّينِ
لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ الْعِلْمُ وَلَا يُسْتَقْضَى وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ أَهْلُ الصَّحِيحِ لِمَنْ كَانَ دَاعِيَةً وَلَكِنْ رَوَوْا هُمْ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ كَانَ يَرَى فِي الْبَاطِنِ رَأْيَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ . وَقَالَ أَحْمَد : لَوْ تَرَكْنَا الرِّوَايَةَ عَنْ الْقَدَرِيَّةِ لَتَرَكْنَا أَكْثَرَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَهَذَا لَأَنَّ " مَسْأَلَةَ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَإِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ " مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ وَكَمَا أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرَهُمْ أَخْطَئُوا فِيهَا فَقَدْ أَخْطَأَ فِيهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فَإِنَّهُمْ سَلَكُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَسْلَكَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعِهِ فَنَفَوْا حِكْمَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرَهُ وَنَفَوْا رَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ وَنَفَوْا مَا جَعَلَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ خَلْقًا وَأَمْرًا وَجَحَدُوا مِنْ الْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَشَرَائِعِهِ مَا صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُفُورِ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا قَوْلَهُمْ عَمَّا يَظُنُّونَهُ السُّنَّةَ إذْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْقَدَرِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي ابْتَدَعَهُ جَهْمٌ وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " السَّلَفَ " فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ يَرُدُّونَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا يَبْلُغُهُمْ عَنْهُمْ وَمَا سَمِعُوهُ مِنْ بَعْضِهِمْ . وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ قَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ وَقَدْ يَكُونُ نَقْلًا مُغَيِّرًا . فَلِهَذَا رَدُّوا عَلَى الْمُرْجِئَةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ وَاحِدًا ؛ وَيَقُولُونَ هُوَ الْقَوْلُ . وَأَيْضًا فَلَمْ يَكُنْ حَدَثٌ فِي زَمَنِهِمْ مِنْ الْمُرْجِئَةِ مَنْ يَقُولُ : الْإِيمَانُ هُوَ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ بِلَا تَصْدِيقٍ وَلَا مَعْرِفَةٍ
فِي الْقَلْبِ . فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا أَحْدَثَهُ ابْنُ كَرَّامٍ وَهَذَا هُوَ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ كَرَّامٍ . وَأَمَّا سَائِرُ مَا قَالَهُ فَأَقْوَالٌ قِيلَتْ قَبْلَهُ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَشْعَرِيُّ وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ يَحْكِي مَقَالَاتِ النَّاسِ عَنْهُ قَوْلًا انْفَرَدَ بِهِ إلَّا هَذَا . وَأَمَّا سَائِرُ أَقْوَالِهِ فَيَحْكُونَهَا عَنْ نَاسٍ قَبْلَهُ وَلَا يَذْكُرُونَهُ . وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ كَرَّامٍ فِي زَمَنِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ فَلِهَذَا يَحْكُونَ إجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا . وَكَانَ قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ قَبْلَهُ : إنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَتَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلُ جَهْمٍ : إنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ ؛ فَلَمَّا قَالَ ابْنُ كَرَّامٍ : إنَّهُ مُجَرَّدُ قَوْلُ اللِّسَانِ . صَارَتْ أَقْوَالُ الْمُرْجِئَةِ ثَلَاثَةً لَكِنَّ أَحْمَد كَانَ أَعْلَمُ بِمَقَالَاتِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ يَعْرِفُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة فِي الْإِيمَانِ وَأَمَّا أَبُو ثَوْرٍ . فَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْرِفُ إلَّا مُرْجِئَةَ الْفُقَهَاءِ فَلِهَذَا حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة .
قَالَ أَبُو ثَوْرٍ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ الطبري اللكائي وَغَيْرُهُ : عَنْ إدْرِيسَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ أَبَا ثَوْرٍ عَنْ الْإِيمَانِ وَمَا هُوَ أَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ؟ أَوْ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ . فَأَجَابَهُ أَبُو ثَوْرٍ بِهَذَا فَقَالَ : سَأَلْت رَحِمَك اللَّهُ وَعَفَا عَنَّا وَعَنْك عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ؟ وَقَوْلٌ هُوَ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ أَوْ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ ؟ فَأُخْبِرُكَ بِقَوْلِ الطَّوَائِفِ وَاخْتِلَافِهِمْ .
اعْلَمْ يَرْحَمُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ : أَنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافٌ فِي رَجُلٍ لَوْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَاحِدٌ وَأَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ حَقٌّ وَأَقَرَّ بِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ ثُمَّ قَالَ : مَا عَقَدَ قَلْبِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا ؛ وَلَا أُصَدِّقُ بِهِ ؛ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْلِمِ وَلَوْ قَالَ : الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ وَجَحَدَ أَمْرَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ قَالَ : لَمْ يَعْقِدْ قَلْبِي عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَافِرٌ بِإِظْهَارِ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ بِالْإِقْرَارِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ التَّصْدِيقُ مُؤْمِنًا وَلَا بِالتَّصْدِيقِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْإِقْرَارُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ مُقِرًّا بِلِسَانِهِ . فَإِذَا كَانَ تَصْدِيقًا بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارًا بِاللِّسَانِ كَانَ عِنْدَهُمْ مُؤْمِنًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ مَعَ التَّصْدِيقِ عَمَلٌ فَيَكُونُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا اجْتَمَعَتْ مُؤْمِنًا فَلَمَّا نَفَوْا أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ بِشَيْءِ وَاحِدٍ وَقَالُوا : يَكُونُ بِشَيْئَيْنِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فِي قَوْلِ غَيْرِهِمْ . لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا إلَّا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَاءَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَشْيَاءِ . فَكُلُّهُمْ يَشْهَدُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ ؛ فَقُلْنَا بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ وَالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ فَأَمَّا الطَّائِفَةُ الَّتِي ذَهَبَتْ إلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ فَيُقَالُ لَهُمْ : مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ الْعِبَادِ إذْ قَالَ لَهُمْ : أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ أَوْ الْإِقْرَارَ وَالْعَمَلَ ؟ فَإِنْ قَالَتْ : إنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْإِقْرَارَ وَلَمْ يُرِدْ الْعَمَلَ ؛ فَقَدْ كَفَرَتْ . عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ . ( ك مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ مِنْ الْعِبَادِ أَنْ يُصَلُّوا وَلَا يُؤْتُوا الزَّكَاةَ ؟ وَإِنْ قَالَتْ : أَرَادَ مِنْهُمْ الْإِقْرَارَ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ أَرَادَ مِنْهُمْ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا
لِمَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَقَدْ أَرَادَهُمَا جَمِيعًا ؟ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : أَعَمَلُ جَمِيعَ مَا أَمَرَ بِهِ اللَّهُ وَلَا أُقِرُّ بِهِ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا ؟ فَإِنْ قَالُوا : لَا . قِيلَ لَهُمْ : فَإِنْ قَالَ : أُقِرُّ بِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَلَا أَعْمَلُ بِهِ ؛ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا ؟ فَإِنْ قَالُوا : نَعَمْ . قِيلَ مَا الْفَرْقُ ؟ فَقَدْ زَعَمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِأَحَدِهِمَا مُؤْمِنًا إذَا تَرَكَ الْآخَرَ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِالْآخَرِ إذَا عَمِلَ بِهِ وَلَمْ يُقِرَّ مُؤْمِنًا لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ . فَإِنْ احْتَجَّ فَقَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَسْلَمَ فَأَقَرَّ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَكُونُ مُؤْمِنًا بِهَذَا الْإِقْرَارِ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ عَمَلٍ ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يُطْلَقُ لَهُ الِاسْمُ بِتَصْدِيقِهِ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : أَنْ يَعْمَلَهُ فِي وَقْتِهِ إذَا جَاءَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْإِقْرَارُ بِجَمِيعِ مَا يَكُونُ بِهِ مُؤْمِنًا ؛ وَلَوْ قَالَ : أُقِرُّ وَلَا أَعْمَلُ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِيمَانِ . قُلْت : يَعْنِي الْإِمَامُ أَبُو ثَوْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا إذَا الْتَزَمَ بِالْعَمَلِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَإِلَّا فَلَوْ أَقَرَّ وَلَمْ يَلْتَزِمْ الْعَمَلَ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا . وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو ثَوْرٍ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرَيْنِ : الْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ الدِّينِ وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُطِيعًا لِلَّهِ وَلَا مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ وَلَا مَمْدُوحًا عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ الْأَعْمَالَ خَارِجَةً عَنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعًا . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إنَّهَا مِنْ الدِّينِ وَيَقُولُ : إنَّ الْفَاسِقَ مُؤْمِنٌ حَيْثُ أَخَذَ بِبَعْضِ الدِّينِ وَهُوَ الْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ وَتَرَكَ بَعْضَهُ ؛ فَهَذَا يُحْتَجُّ عَلَيْهِ بِشَيْءِ آخَرَ لَكِنْ أَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ عَامَّةً احْتِجَاجُهُمْ مَعَ هَذَا الصِّنْفِ وَأَحْمَد كَانَ أَوْسَعَ عِلْمًا بِالْأَقْوَالِ وَالْحُجَجِ مِنْ
أَبِي ثَوْرٍ . وَلِهَذَا إنَّمَا حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ الكَرَّامِيَة ثُمَّ إنَّهُ تَوَرَّعَ فِي النُّطْقِ عَلَى عَادَتِهِ وَلَمْ يَجْزِمْ بِنَفْيِ الْخِلَافِ ؛ لَكِنْ قَالَ : لَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَقُولُ هَذَا وَهَذَا فِي رِسَالَتِهِ إلَى أَبِي عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني ذَكَرَهَا الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ " - وَهُوَ أَجْمَعَ كِتَابٍ يُذْكَرُ فِيهِ أَقْوَالُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَقْوَالٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِيهِ كَمَا أَنَّ كِتَابَهُ فِي الْعِلْمِ أَجْمَعَ كِتَابٍ يُذْكَرُ فِيهِ أَقْوَالُ أَحْمَد فِي الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ . قَالَ المروذي : رَأَيْت أَبَا عَبْد الرَّحِيمِ الجوزجاني عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ كَانَ ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ : كَانَ أَبُوهُ مُرْجِئًا أَوْ قَالَ : صَاحِبَ رَأْيٍ . وَأَمَّا أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ فَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَدْ كَانَ كَتَبَ إلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مِنْ خُرَاسَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْإِيمَانِ وَذَكَرَ الرِّسَالَةَ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ وَجَوَابِ أَحْمَد :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْنَا وَإِلَيْك فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا وَسَلَّمْنَا وَإِيَّاكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ بِرَحْمَتِهِ أَتَانِي كِتَابُك تَذْكُرُ مَا تَذْكُرُ مِنْ احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ مِنْ الْمُرْجِئَةِ . وَاعْلَمْ رَحِمَك اللَّهُ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الدِّينِ لَيْسَتْ مِنْ طَرِيقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَنَّ تَأْوِيلَ مَنْ تَأَوَّلَ الْقُرْآنَ بِلَا سُنَّةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْهُ أَوْ أَثَرٍ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْرِفُ ذَلِكَ بِمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ أَصْحَابِهِ فَهُمْ شَاهَدُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَهِدُوا تَنْزِيلَهُ وَمَا قَصَّهُ اللَّهُ لَهُ فِي الْقُرْآنِ وَمَا عُنِيَ بِهِ وَمَا أَرَادَ بِهِ أَخَاصٌّ هُوَ أَمْ
عَامٌّ ؟ فَأَمَّا مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ بِلَا دَلَالَةٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهَذَا تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ خَاصَّةً وَيَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمًا عَامًّا وَيَكُونُ ظَاهِرُهَا عَلَى الْعُمُومِ وَإِنَّمَا قُصِدَتْ لِشَيْءِ بِعَيْنِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَرَادَ وَأَصْحَابُهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنَّا لِمُشَاهَدَتِهِمْ الْأَمْرَ وَمَا أُرِيدَ بِذَلِكَ فَقَدْ تَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً ؛ أَيْ مَعْنَاهَا مِثْلُ قَوْله تَعَالَى . { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَظَاهِرُهَا عَلَى الْعُمُومِ أَيْ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ وَلَدٍ فَلَهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ فَجَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَّا يَرِثَ مُسْلِمٌ كَافِرًا . وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَيْسَ بِالثَّبْتِ - إلَّا أَنَّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يُوَرِّثُوا قَاتِلًا فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْ الْكِتَابِ أَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا قُصِدَتْ لِلْمُسْلِمِ لَا لِلْكَافِرِ وَمَنْ حَمَلَهَا عَلَى ظَاهِرِهَا لَزِمَهُ أَنْ يُورِثَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْوَلَدِ كَافِرًا كَانَ أَوْ قَاتِلًا وَكَذَلِكَ أَحْكَامُ الْوَارِثِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ آيِ كَثِيرٍ يَطُولُ بِهَا الْكِتَابُ وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَتْ الْأُمَّةُ السُّنَّةَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَصْحَابِهِ إلَّا مَنْ دَفَعَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْخَوَارِجِ وَمَا يُشْبِهُهُمْ فَقَدْ رَأَيْت إلَى مَا خَرَجُوا .
قُلْت : لَفْظُ الْمُجْمَلِ وَالْمُطْلَقِ وَالْعَامِّ كَانَ فِي اصْطِلَاحِ الْأَئِمَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ لَا يُرِيدُونَ بِالْمُجْمَلِ مَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَمَا فَسَّرَهُ بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ بَلْ الْمُجْمَلُ مَا لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي
الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ حَقًّا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } فَهَذِهِ الْآيَةُ ظَاهِرُهَا وَمَعْنَاهَا مَفْهُومٌ لَيْسَتْ مِمَّا لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ بِهِ ؛ بَلْ نَفْسُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَكْفِي وَحْدَهُ فِي الْعَمَلِ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ صَدَقَةٌ تَكُونُ مُطَهِّرَةً مُزَكِّيَةً لَهُمْ هَذَا إنَّمَا يُعْرَفُ بِبَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد يَحْذَرُ الْمُتَكَلِّمُ فِي الْفِقْهِ هَذَيْنِ " الْأَصْلَيْنِ " : الْمُجْمَلُ وَالْقِيَاسُ . وَقَالَ : أَكْثَرُ مَا يُخْطِئُ النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالْقِيَاسِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَلَّا يَحْكُمَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَامُّ وَالْمُطْلَقُ قَبْلَ النَّظَرِ فِيمَا يَخُصُّهُ وَيُقَيِّدُهُ وَلَا يَعْمَلَ بِالْقِيَاسِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي دَلَالَةِ النُّصُوصِ هَلْ تَدْفَعُهُ فَإِنَّ أَكْثَرَ خَطَأِ النَّاسِ تَمَسُّكُهُمْ بِمَا يَظُنُّونَهُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَالْقِيَاسِ ؛ فَالْأُمُورُ الظَّنِّيَّةُ لَا يُعْمَلُ بِهَا حَتَّى يُبْحَثَ عَنْ الْمَعَارِضِ بَحْثًا يَطْمَئِنُّ الْقَلْبُ إلَيْهِ وَإِلَّا أَخْطَأَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْمُتَمَسِّكِينَ بِالظَّوَاهِرِ وَالْأَقْيِسَةِ وَلِهَذَا جُعِلَ الِاحْتِجَاجُ بِالظَّوَاهِرِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ تَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ طَرِيقَ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَلَهُ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفٌ كَبِيرٌ .
وَكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِالْأَقْيِسَةِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ طَرِيقُ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ قَوْلٍ ابْتَدَعَهُ هَؤُلَاءِ قَوْلًا فَاسِدًا وَإِنَّمَا الصَّوَابُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا وَافَقُوا فِيهِ السَّلَفَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وقَوْله تَعَالَى { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } سَمَّاهُ عَامًّا وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي الْأَحْوَالِ يَعُمُّهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ كَمَا يَعُمُّ قَوْلُهُ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } جَمِيعَ الرِّقَابِ لَا يَعُمُّهَا كَمَا يَعُمُّ لَفْظُ الْوَلَدِ
لِلْأَوْلَادِ . وَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا لَمْ يَأْخُذْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ لَفْظِ الْقُرْآنِ بَلْ أَخَذَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِمَّا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ فَكَانَ الظُّهُورُ لِسُكُوتِ الْقُرْآنِ عَنْهُ لَا لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ فَكَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِرِ مِنْ الْقَوْلِ لَا بِظَاهِرِ الْقَوْلِ ؛ وَعُمْدَتُهُمْ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا عِلْمٌ بِمَا قُيِّدَ وَإِلَّا فَكَلُّ مَا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ وَأَظْهَرَهُ فَهُوَ حَقٌّ ؛ بِخِلَافِ مَا يَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ لِمَعْنَى آخَرَ غَيْرَ نَفْسِ الْقُرْآنِ يُسَمَّى ظَاهِرَ الْقُرْآنِ كَاسْتِدْلَالَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ . قَالَ أَحْمَد : وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْإِقْرَارُ فَمَا يَقُولُ فِي الْمَعْرِفَةِ ؟ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ شَيْئَيْنِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَمُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ فَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ؛ وَإِنْ جَحَدَ وَقَالَ : لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا وَلَا أَحْسَبُ أَحَدًا يَدْفَعُ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ وَكَذَلِكَ الْعَمَلَ مَعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ . قُلْت أَحْمَد وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ كَانُوا قَدْ عَرَفُوا أَصْلَ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَهُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ ؛ فَلَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا فَلَا يَكُونُ ذَا عَدَدٍ : اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ عَدَدٌ أَمْكَنَ ذَهَابُ بَعْضِهِ وَبَقَاءُ بَعْضِهِ بَلْ لَا يَكُونُ إلَّا شَيْئًا وَاحِدًا وَلِهَذَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة : إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي الْقَلْبِ . وَقَالَتْ الكَرَّامِيَة : إنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ عَلَى اللِّسَانِ كُلُّ ذَلِكَ فِرَارًا مِنْ
تَبَعُّضِ الْإِيمَانِ وَتَعَدُّدِهِ فَلِهَذَا صَارُوا يُنَاظِرُونَهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا كَمَا قُلْتُمْ . فَأَبُو ثَوْرٍ احْتَجَّ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ " الْفُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةُ " مِنْ أَنَّهُ تَصْدِيقٌ وَعَمَلٌ وَلَمْ يَكُنْ بَلَغَهُ قَوْلُ مُتَكَلِّمِيهِمْ وجهميتهم أَوْ لَمْ يَعُدْ خِلَافُهُمْ خِلَافًا وَأَحْمَد ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ مَعَ الْإِقْرَارِ وَقَالَ : إنَّ مَنْ جَحَدَ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ قَبْلَ الكَرَّامِيَة مَعَ أَنَّ الكَرَّامِيَة لَا تُنْكِرُ وُجُوبَ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ وَلَكِنْ تَقُولُ : لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ حَذَرًا مِنْ تَبَعُّضِهِ وَتَعَدُّدِهِ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ بَلْ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ وَكِبْرٌ وَاعْتَقَدُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ . كَمَا ذَكَرَ هَذَا الْإِجْمَاعَ الْأَشْعَرِيُّ وَغَيْرُهُ . وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي أَوْقَعَتْهُمْ مَعَ عِلْمِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ وَعِبَادَتِهِ وَحُسْنِ إسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ وَلِهَذَا دَخَلَ فِي " إرْجَاءِ الْفُقَهَاءِ " جَمَاعَةٌ هُمْ عِنْدَ الْأُمَّةِ أَهْلُ عِلْمٍ وَدِينٍ . وَلِهَذَا لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ أَحَدًا مِنْ " مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ " بَلْ جَعَلُوا هَذَا مِنْ بِدَعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ؛ لَا مِنْ بِدَعِ الْعَقَائِدِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّزَاعِ فِيهَا لَفْظِيٌّ لَكِنَّ اللَّفْظَ الْمُطَابِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الصَّوَابُ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِلَى ظُهُورِ الْفِسْقِ فَصَارَ ذَلِكَ الْخَطَأُ الْيَسِيرُ فِي اللَّفْظِ سَبَبًا لِخَطَأِ عَظِيمٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ فَلِهَذَا عَظُمَ الْقَوْلُ فِي ذَمِّ " الْإِرْجَاءِ " حَتَّى قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي : لَفِتْنَتُهِمْ - يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ - أَخْوَفُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِتْنَةِ
الأزارقة . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : مَا اُبْتُدِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةٌ أَضَرُّ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ الْإِرْجَاءِ . وَقَالَ الأوزاعي : كَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وقتادة يَقُولَانِ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَهْوَاءِ أَخْوَفُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ الْإِرْجَاءِ . وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي - وَذَكَرَ الْمُرْجِئَةَ فَقَالَ - : هُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ حَسْبُك بِالرَّافِضَةِ خُبْثًا وَلَكِنَّ الْمُرْجِئَةَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ . وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : تَرَكَتْ الْمُرْجِئَةُ الْإِسْلَامَ أَرَقَّ مِنْ ثَوْبِ سابري وَقَالَ قتادة : إنَّمَا حَدَثَ الْإِرْجَاءُ بَعْدَ فِتْنَةِ فِرْقَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ . وَسُئِلَ مَيْمُونُ بْنُ مهران عَنْ كَلَامِ " الْمُرْجِئَةِ " فَقَالَ : أَنَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِذَرِّ الهمداني : أَلَا تَسْتَحِي مِنْ رَأْيٍ أَنْتَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَقَالَ أَيُّوبُ السختياني : أَنَا أَكْبَرُ مِنْ دِينِ الْمُرْجِئَةِ إنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُقَالُ لَهُ : الْحَسَنُ . وَقَالَ زاذان : أَتَيْنَا الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقُلْنَا : مَا هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي وَضَعْت ؟ وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ كِتَابَ الْمُرْجِئَةِ فَقَالَ لِي : يَا أَبَا عُمَر لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت مُتّ قَبْلَ أَنْ أُخْرِجَ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ أَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ فَإِنَّ الْخَطَأَ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ لَيْسَ كَالْخَطَأِ فِي اسْمِ مُحَدِّثٍ ؛ وَلَا كَالْخَطَأِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ إذْ كانت أَحْكَامُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ .
وَأَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَّقَ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي فِي الْقَلْبِ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ فَإِنَّ تَصْدِيقَ اللِّسَانِ هُوَ الْإِقْرَارُ ؛ وَقَدْ ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ وَهَذَا يَحْتَمِلُ " شَيْئَيْنِ " يَحْتَمِلُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ
ابْن كُلَّابٍ والقلانسي ، وَالْأَشْعَرِيُّ وَأَصْحَابُهُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَبَيْنَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ فَإِنَّ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ قَوْلُهُ . وَقَوْلُ الْقَلْبِ عِنْدَهُمْ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمُ بَلْ نَوْعًا آخَرُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد : هَلْ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ ؟ وَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ ؟ فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ مَعَ الْإِقْرَارِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ شَيْئَيْنِ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَمُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ فَهُوَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فَإِنْ جَحَدَ وَقَالَ : لَا يَحْتَاجُ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ. فَقَدْ أَتَى عَظِيمًا وَلَا أَحْسَبُ امْرَأً يَدْفَعُ الْمَعْرِفَةَ وَالتَّصْدِيقَ.
وَاَلَّذِينَ قَالُوا : الْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ . فَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ يَتَضَمَّنُ التَّصْدِيقَ بِاللِّسَانِ . وَالْمُرْجِئَةُ لَمْ تَخْتَلِفْ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ فِيهِ التَّصْدِيقُ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتَهُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ ؛ إلَّا أَنْ يُقَالَ : أَرَادَ تَصْدِيقَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ جَمِيعًا مَعَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِقْرَارِ ؛ وَمُرَادُهُ بِالْإِقْرَارِ الِالْتِزَامُ لَا التَّصْدِيقُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } فَالْمِيثَاقُ الْمَأْخُوذُ عَلَى أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَنْصُرُونَهُ وَقَدْ أُمِرُوا بِهَذَا وَلَيْسَ هَذَا الْإِقْرَارُ تَصْدِيقًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِخَبَرِ ؛ بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ إذَا جَاءَهُمْ ذَلِكَ الرَّسُولُ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ وَيَنْصُرُوهُ . فَصَدَّقُوا بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَالْتَزَمُوهُ فَهَذَا هُوَ إقْرَارُهُمْ . وَالْإِنْسَانُ قَدْ يُقِرُّ لِلرَّسُولِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَلْتَزِمُ مَا يَأْمُرُ بِهِ مَعَ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَمِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ لَكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ : إنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ يَكُونُ إيمَانًا .
بَلْ لَا بُدَّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْإِقْرَارِ الْخَبَرِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ يُقِرُّ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا يُقِرُّ الْمُقِرُّ بِمَا يُقِرُّ بِهِ مِنْ الْحُقُوقِ وَلَفْظُ الْإِقْرَارِ يَتَنَاوَلُ الِالْتِزَامَ وَالتَّصْدِيقَ وَلَا بُدَّ مِنْهُمَا وَقَدْ يُرَادُ بِالْإِقْرَارِ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ بِدُونِ الْتِزَامِ الطَّاعَةِ ؛ وَالْمُرْجِئَةُ تَارَةً يَجْعَلُونَ هَذَا هُوَ الْإِيمَانَ وَتَارَةً يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ التَّصْدِيقَ وَالِالْتِزَامَ مَعًا هَذَا هُوَ الْإِقْرَارُ الَّذِي يَقُولُهُ فُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةِ : إنَّهُ إيمَانٌ وَإِلَّا لَوْ قَالَ : أَنَا أُطِيعُهُ وَلَا أُصَدِّقُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ أَوْ أُصَدِّقُهُ وَلَا أَلْتَزِمُ طَاعَتَهُ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا مُؤْمِنًا عِنْدَهُمْ . وَأَحْمَد قَالَ : لَا بُدَّ مَعَ هَذَا الْإِقْرَارِ أَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا وَأَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِمَا عَرَفَ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : مُصَدِّقًا بِمَا أَقَرَّ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقٍ بَاطِنٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ التَّصْدِيقِ عِنْدَهُ يَتَضَمَّنُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا كَمَا قَدْ ذَكَرْنَا شَوَاهِدَهُ أَنَّهُ يُقَالُ : صَدَقَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَيَكُونُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ عِنْدَهُ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ مَعَ مَعْرِفَةِ قَلْبِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ قَدْ خَضَعَ لَهُ وَانْقَادَ ؛ فَصَدَّقَهُ بِقَوْلِ قَلْبِهِ وَعَمَلِ قَلْبِهِ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ قَلْبِهِ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنْ الِانْقِيَادِ لَهُ وَلِمَا جَاءَ بِهِ إمَّا حَسَدًا وَإِمَّا كِبْرًا وَإِمَّا لِمَحَبَّةِ دِينِهِ الَّذِي يُخَالِفُهُ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إيمَانًا . وَلَا بُدَّ فِي الْإِيمَانِ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ وَعَمَلِهِ فَأَرَادَ أَحْمَد بِالتَّصْدِيقِ أَنَّهُ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ صَارَ الْقَلْبُ مُصَدِّقًا لَهُ تَابِعًا لَهُ مُحِبًّا لَهُ مُعَظِّمًا لَهُ فَإِنَّ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَمَنْ دَفَعَ هَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَنْ دَفَعَ الْمَعْرِفَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْإِيمَانِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِأَنْ
يُحْمَلَ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَد ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ انْقِيَادِ الْقَلْبِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ ظَاهِرٌ ثَابِتٌ بِدَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بَلْ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ نَازَعَ مِنْ الْجَهْمِيَّة فِي أَنَّ انْقِيَادَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فَهُوَ كَمَنْ نَازَعَ مِنْ الكَرَّامِيَة فِي أَنَّ مَعْرِفَةَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فَكَانَ حَمْلُ كَلَامِ أَحْمَد عَلَى هَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِكَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَبَيْن مُجَرَّدِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ الْخَالِي عَنْ الِانْقِيَادِ الَّذِي يَجْعَلُ قَوْلَ الْقَلْبِ ؛ أَمْرٌ دَقِيقٌ وَأَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ يُنْكِرُونَهُ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُوجِبَ شَيْئَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَتَصَوَّرُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ وَتَصْدِيقِهِ وَيَقُولُونَ : إنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيُّ مِنْ الْفَرْقِ كَلَامٌ بَاطِلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ اعْتَرَفَ بِعَدَمِ الْفَرْقِ وَعُمْدَتُهُمْ مِنْ الْحُجَّةِ إنَّمَا هُوَ خَبَرُ الْكَاذِبِ قَالُوا : فَفِي قَلْبِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ عِلْمِهِ فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ . فَقَالَ لَهُمْ النَّاسُ : ذَاكَ بِتَقْدِيرِ خَبَرٍ وَعِلْمٍ لَيْسَ هُوَ عِلْمًا حَقِيقِيًّا وَلَا خَبَرًا حَقِيقِيًّا وَلِمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ قَوْلِ الْقَلْبِ الْمُخَالِفِ لِلْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ إنَّمَا يَعُودُ إلَى تَقْدِيرِ عُلُومٍ وَإِرَادَاتٍ لَا إلَى جِنْسٍ آخَرَ يُخَالِفُهَا . وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُومَ بِقَلْبِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ عِلْمِهِ ؛ وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ وَأَمَّا أَنَّهُ يَقُومُ بِقَلْبِهِ خَبَرٌ بِخِلَافِ مَا يَعْلَمُهُ فَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَهَذَا مِمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ الْكَذِبِ
بِذَاتِهِ لِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَيَمْتَنِعُ قِيَامُ مَعْنًى يُضَادُّ الْعِلْمَ بِذَاتِ الْعَالِمِ وَالْخَبَرُ النَّفْسَانِيُّ الْكَاذِبُ يُضَادُّ الْعِلْمَ . فَيُقَالُ لَهُمْ : الْخَبَرُ النَّفْسَانِيُّ لَوْ كَانَ خِلَافًا لِلْعِلْمِ لَجَازَ وُجُودُ الْعِلْمِ مَعَ ضِدِّهِ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَهِيَ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَمُوَافِقُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَقْلِ وَغَيْرِهَا كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي مُحَمَّدِ ابْنِ اللَّبَّانِ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ شاذان وَأَبِي الطَّيِّبِ وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَيَقُولُونَ : الْعَقْلُ نَوْعٌ مِنْ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِضِدِّ لَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوْعًا مِنْهُ كَانَ خِلَافًا لَهُ وَلَوْ كَانَ خِلَافًا لَجَازَ وُجُودُهُ مَعَ ضِدِّ الْعَقْلِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةً - كَمَا ضَعَّفَهَا الْجُمْهُورُ وَأَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي مِمَّنْ ضَعَّفَهَا - فَإِنَّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ ضِدًّا لَهُ إذْ قَدْ اجْتَمَعَا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ نَوْعِهِ ؛ بَلْ هُوَ خِلَافٌ لَهُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ الَّذِي يُقَسِّمُونَ فِيهِ كُلَّ اثْنَيْنِ إلَى أَنْ يَكُونَا مِثْلَيْنِ أَوْ خِلَافَيْنِ أَوْ ضِدَّيْنِ فَالْمَلْزُومُ كَالْإِرَادَةِ مَعَ الْعِلْمِ أَوْ كَالْعِلْمِ مَعَ الْحَيَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ضِدًّا وَلَا مَثَلًا ؛ بَلْ هُوَ خِلَافٌ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ وُجُودُهُ مَعَ ضِدِّ اللَّازِمِ فَإِنَّ ضِدَّ اللَّازِمِ يُنَافِيه وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ كَوُجُودِ الْإِرَادَةِ بِدُونِ الْعِلْمِ وَالْعِلْمِ بِدُونِ الْحَيَاةِ فَهَذَانِ خِلَافَانِ عِنْدَهُمْ وَلَا يَجُوزُ وُجُودُ أَحَدِهِمَا مَعَ ضِدِّ الْآخَرِ . كَذَلِكَ الْعِلْمُ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعَقْلِ فَكُلُّ عَالِمٍ عَاقِلٌ وَالْعَقْلُ شَرْطٌ فِي الْعِلْمِ فَلَيْسَ مِثْلًا لَهُ وَلَا ضِدًّا وَلَا نَوْعًا مِنْهُ وَمَعَ هَذَا لَا يَجُوزُ وُجُودُهُ مَعَ ضِدِّ الْعَقْلِ
لَكِنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ تُقَالُ لَهُمْ فِي الْعِلْمِ مَعَ كَلَامِ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ فَإِنَّهُ لَيْسَ ضِدًّا وَلَا مِثْلًا بَلْ خِلَافًا ؛ فَيَجُوزُ وُجُودُ الْعِلْمِ مَعَ ضِدِّ الْخَبَرِ الصَّادِقِ وَهُوَ الْكَاذِبُ فَبَطَلَتْ تِلْكَ الْحُجَّةُ عَلَى امْتِنَاعِ الْكَذِبِ النَّفْسَانِيِّ مِنْ الْعَالِمِ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ عُسِّرَ عَلَيْهِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَادِقٌ وَبَيْنَ تَصْدِيقِ قَلْبِهِ تَصْدِيقًا مُجَرَّدًا عَنْ انْقِيَادٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ بِأَنَّهُ صَادِقٌ .
ثُمَّ احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ بِحُجَجِ كَثِيرَةٍ فَقَالَ وَقَدْ { سَأَلَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِيمَانِ فَقَالَ : شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا خُمُسًا مِنْ الْمَغْنَمِ } فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ . قَالَ : وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } وَقَالَ : { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } وَقَالَ . { إنَّ الْبَذَاذَةَ مِنْ الْإِيمَانِ } . وَقَالَ { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } مَعَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا : { أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ } مَعَ حُجَجٍ كَثِيرَةٍ . وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ مِنْ بَعْدِهِ ثُمَّ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ
مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِثْلَ قَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } وَقَالَ : { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا } وَقَالَ : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } وَقَالَ تَعَالَى { فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وَقَالَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } وَقَالَ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } . [ قَالَ أَحْمَد : وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ : هُوَ مُؤْمِنٌ بِإِقْرَارِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِالزَّكَاةِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَمْ يَجِدْ فِي كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةً أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ : إذَا أَقَرَّ ثُمَّ شَدَّ الزُّنَّارَ فِي وَسَطِهِ وَصَلَّى لِلصَّلِيبِ وَأَتَى الْكَنَائِسَ وَالْبِيَعَ وَعَمِلَ الْكَبَائِرَ كُلَّهَا إلَّا أَنَّهُ فِي ذَلِكَ مُقِرٌّ بِاَللَّهِ ؛ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مُؤْمِنًا وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ أَشْنَعِ مَا يَلْزَمُهُمْ ] (*) . " قُلْت " : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد مِنْ أَحْسَنِ مَا احْتَجَّ النَّاسُ بِهِ عَلَيْهِمْ جَمَعَ فِي ذَلِكَ يَقُولُ جُمَلًا يَقُولُ غَيْرُهُ بَعْضَهَا وَهَذَا الْإِلْزَامُ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ وَلِهَذَا لَمَّا عَرَفَ مُتَكَلِّمُهُمْ مِثْلُ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ لَازِمٌ الْتَزَمُوهُ ، وَقَالُوا : لَوْ فَعَلَ
مَا فَعَلَ مِنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ كَافِرًا فِي الْبَاطِنِ ؛ لَكِنْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْكُفْرِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِذَا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِنُصُوصِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا فِي الْآخِرَةِ . قَالُوا : فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي الْبَاطِنِ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ شَيْءٌ فَإِنَّهَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَخَالَفُوا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ وَصَرِيحَ الشَّرْعِ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعَ فَسَادِهِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَمَعَ كَوْنِهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يُثْبِتُ إيمَانًا ؛ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي وَحْدَةِ الرَّبِّ أَنَّهُ ذَاتٌ بِلَا صِفَاتٍ . وَقَالُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَمَا يَقُولُهُ ابْنُ كُلَّابٍ مِنْ وَحْدَةِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الصِّفَاتِ . فَقَوْلُهُمْ فِي الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ يَرْجِعُ إلَى تَعْطِيلٍ مَحْضٍ وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَعَصِّبِينَ للجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ ؛ بَلْ وَلِلْمُرْجِئَةِ أَيْضًا ؛ لَكِنْ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْحَقَائِقِ الَّتِي نَشَأَتْ مِنْهَا الْبِدَعُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَلَكِنْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ مِثْلَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَالِكِ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَكَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْل الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْمِيَّة قَوْلَهُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ وَصِفَاتِ الرَّبِّ وَكَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ
الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْإِيمَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فَلَوْ شَتَمَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ كَافِرًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا عِنْدَهُمْ كُلِّهِمْ وَمَنْ كَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ بِسَبَبِ انْتِصَارِ أَبِي الْحَسَنِ لِقَوْلِهِ فِي الْإِيمَانِ يَبْقَى تَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَتَارَةً يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُوَافِقِينَ لِجَهْمِ ؛ حَتَّى فِي مَسْأَلَةِ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ رَأَيْت طَائِفَةً مِنْ الْحَنْبَلِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ إذَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْأَئِمَّةِ قَالُوا : إنَّ هَذَا كُفْرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَإِذَا تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ أُولَئِكَ قَالُوا : هَذَا كُفْرٌ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا تَامَّ الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَهُمْ لَا يَتَبَعَّضُ . وَلِهَذَا لَمَّا عَرَفَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هَذَا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنْكَرَهُ وَنَصَرَ قَوْلَ مَالِكٍ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرْت بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا فِي كِتَابِ " الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ عَلَى شَاتِمِ الرَّسُولِ " وَكَذَلِكَ تَجِدُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ يَذْكُرُونَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ وَيَبْحَثُونَ بَحْثًا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة لِأَنَّ الْبَحْثَ أَخَذُوهُ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ . وَالرَّازِي لَمَّا صَنَّفَ " مَنَاقِبَ الشَّافِعِيِّ " ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْإِيمَانِ . وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَمَنْ لَقِيَهُ اسْتَشْكَلَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ جِدًّا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْإِيمَانِ : مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة والكَرَّامِيَة
وَسَائِرِ الْمُرْجِئَةِ وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُرَكَّبَ إذَا زَالَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ لَزِمَ زَوَالُهُ كُلُّهُ ؛ لَكِنْ هُوَ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا ظَاهِرَ شُبْهَتِهِمْ . وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ هُوَ سَهْلٌ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ لَهُ أَنَّ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ لَمْ تَبْقَ مُجْتَمِعَةً كَمَا كَانَتْ ؛ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوَالِ بَعْضِهَا زَوَالُ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ . وَالشَّافِعِيُّ مَعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ السَّلَفِ يَقُولُونَ : إنَّ الذَّنْبَ يَقْدَحُ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ وَلِهَذَا نَفَى الشَّارِعُ الْإِيمَانَ عَنْ هَؤُلَاءِ فَذَلِكَ الْمَجْمُوعُ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ لَمْ يَبْقَ مَجْمُوعًا مَعَ الذُّنُوبِ لَكِنْ يَقُولُونَ بَقِيَ بَعْضُهُ : إمَّا أَصْلٌ وَإِمَّا أَكْثَرُهُ وَإِمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَيَعُودُ الْكَلَامُ إلَى أَنَّهُ يَذْهَبُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ تَنْفِرُ مِنْ لَفْظِ النَّقْصِ أَعْظَمَ مِنْ نُفُورِهَا مِنْ لَفْظِ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَقَصَ لَزِمَ ذَهَابُهُ كُلُّهُ عِنْدَهُمْ إنْ كَانَ مُتَبَعِّضًا مُتَعَدِّدًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ وَهُمْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ . وَإِمَّا الْجَهْمِيَّة فَهُوَ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ ؛ فَيُثْبِتُونَ وَاحِدًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ ؛ كَمَا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي وَحْدَانِيَّةِ الرَّبِّ وَوَحْدَانِيَّةِ صِفَاتِهِ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهَا مِنْهُمْ
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذَا اعْتِقَادُهُمْ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْإِنْسَانِ بَعْضُ الْإِيمَانِ وَبَعْضُ الْكُفْرِ أَوْ مَا هُوَ إيمَانٌ وَمَا هُوَ كُفْرٌ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ وَغَيْرُهُ فَلِأَجْلِ اعْتِقَادِهِمْ هَذَا الْإِجْمَاعَ وَقَعُوا فِيمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ الْحَقِيقِيِّ إجْمَاعِ
السَّلَفِ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ وَصَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكُفْرِ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ مُتَعَدِّدَةٌ ؛ يَقُولُ الْإِنْسَانُ قَوْلًا مُخَالِفًا لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ حَقِيقَةً وَيَكُونُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَهَذَا إذَا كَانَ مَبْلَغُ عِلْمِهِ وَاجْتِهَادِهِ ؛ فَاَللَّهُ يُثِيبُهُ عَلَى مَا أَطَاعَ اللَّهَ فِيهِ مِنْ اجْتِهَادِهِ وَيَغْفِرُ لَهُ مَا عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ مِنْ الصَّوَابِ الْبَاطِنِ وَهُمْ لَمَّا تَوَهَّمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ نَوْعٌ وَاحِدٌ ؛ صَارَ بَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ . فَقَالَ لِي مَرَّةً بَعْضُهُمْ : الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إيمَانٌ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ . فَقُلْت لَهُ : قَوْلُك مِنْ حَيْثُ هُوَ ؛ كَمَا تَقُولُ : الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ إنْسَانٌ وَالْحَيَوَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَيَوَانٌ وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُودٌ وَالسَّوَادُ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَوَادٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالصِّفَاتِ ؛ فَتُثْبِتُ لِهَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ وَالصِّفَاتِ وَهَذَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُقَدِّرُهُ الْإِنْسَانُ فِي ذِهْنِهِ كَمَا يُقَدِّرُ مَوْجُودًا لَا قَدِيمًا وَلَا حَادِثًا وَلَا قَائِمًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ وَيُقَدِّرُ إنْسَانًا لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا وَيَقُولُ : الْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ لَا تُوصَفُ بِوُجُودِ وَلَا عَدَمٍ وَالْمَاهِيَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ شَيْءٌ يُقَدِّرُهُ الذِّهْنُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ . وَأَمَّا تَقْدِيرُ شَيْءٍ لَا يَكُونُ فِي الذِّهْنِ وَلَا فِي الْخَارِجِ فَمُمْتَنِعٌ وَهَذَا التَّقْدِيرُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الذِّهْنِ كَسَائِرِ تَقْدِيرِ الْأُمُورِ الْمُمْتَنِعَةِ ؛ مِثْلَ تَقْدِيرِ صُدُورِ الْعَالَمِ عَنْ صَانِعِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدَّرَاتِ فِي الذِّهْنِ .
فَهَكَذَا تَقْدِيرُ إيمَانٍ لَا يَتَّصِفُ بِهِ مُؤْمِنٌ ؛ بَلْ هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ كُلِّ قَيْدٍ . وَتَقْدِيرُ إنْسَانٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا ؛ بَلْ مَا ثَمَّ إيمَانٌ إلَّا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا ثَمَّ إنْسَانِيَّةٌ إلَّا مَا اتَّصَفَ بِهَا الْإِنْسَانُ ؛ فَكُلُّ إنْسَانٍ لَهُ إنْسَانِيَّةٌ تَخُصُّهُ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ إيمَانٌ يَخُصُّهُ ؛ فَإِنْسَانِيَّةُ زَيْدٍ تُشْبِهُ إنْسَانِيَّةَ عُمَرَ وَلَيْسَتْ هِيَ هِيَ . وَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمَا يَشْتَبِهَانِ فِيمَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَيَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ مُطْلَقٍ يَكُونُ فِي الذِّهْنِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : إيمَانُ زَيْدٍ مِثْلُ إيمَانِ عَمْرٍو ؛ فَإِيمَانُ كُلِّ وَاحِدٍ يَخُصُّهُ . فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَمَاثَلُ لَكَانَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إيمَانٌ يَخُصُّهُ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ مُخْتَصٌّ مُعَيَّنٌ لَيْسَ هُوَ الْإِيمَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ ؛ بَلْ هُوَ إيمَانٌ مُعَيَّنٌ وَذَلِكَ الْإِيمَانُ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ . وَاَلَّذِينَ يَنْفُونَ التَّفَاضُلَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَصَوَّرُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ إيمَانًا مُطْلَقًا أَوْ إنْسَانًا مُطْلَقًا أَوْ وُجُودًا مُطْلَقًا مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمُعَيَّنَةِ لَهُ ثُمَّ يَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمَوْجُودُ فِي النَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَلَا يَقْبَلُ فِي نَفْسِهِ التَّعَدُّدَ ؛ إذْ هُوَ تَصَوُّرٌ مُعَيَّنٌ قَائِمٌ فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ . وَلِهَذَا يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْأُمُورَ الْمُشْتَرَكَةَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ هِيَ وَاحِدَةٌ بِالشَّخْصِ وَالْعَيْنِ . حَتَّى انْتَهَى الْأَمْرُ بِطَائِفَةِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عِلْمًا وَعِبَادَةً إلَى أَنْ جَعَلُوا الْوُجُودَ كَذَلِكَ ؛ فَتَصَوَّرُوا أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مُشْتَرِكَةٌ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَتَصَوَّرُوا هَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَظَنُّوهُ فِي الْخَارِجِ كَمَا هُوَ فِي أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ ظَنُّوا أَنَّهُ اللَّهُ ؛ فَجَعَلُوا الرَّبَّ هُوَ هَذَا الْوُجُودُ الَّذِي لَا يُوجَدُ قَطُّ إلَّا فِي نَفْسِ مُتَصَوِّرِهِ ؛ وَلَا يَكُونُ فِي الْخَارِجِ .
وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ تَصَوَّرُوا أَعْدَادًا مُجَرَّدَةً وَحَقَائِقَ مُجَرَّدَةً وَيُسَمُّونَهَا الْمُثُلَ الْأَفْلاطونيَّةَ وَزَمَانًا مُجَرَّدًا عَنْ الْحَرَكَةِ وَالْمُتَحَرَّكِ وَبُعْدًا مُجَرَّدًا عَنْ الْأَجْسَامِ وَصِفَاتِهَا ثُمَّ ظَنُّوا وُجُودَ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا فِي الْأَذْهَانِ بِمَا فِي الْأَعْيَانِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ وَالِاثْنَيْنِ وَاحِدًا ؛ فَتَارَةً يَجِيئُونَ إلَى الْأُمُورِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْمُتَفَاضِلَةِ فِي الْخَارِجِ فَيَجْعَلُونَهَا وَاحِدَةً أَوْ مُتَمَاثِلَةً وَتَارَةً يَجِيئُونَ إلَى مَا فِي الْخَارِجِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَيَجْعَلُونَ الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ . وَالْمُتَفَلسِفَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَقَعُوا فِي هَذَا وَهَذَا فَجَاءُوا إلَى صِفَاتِ الرَّبِّ الَّتِي هِيَ أَنَّهُ عَالِمٌ وَقَادِرٌ فَجَعَلُوا هَذِهِ الصِّفَةَ هِيَ عَيْنُ الْأُخْرَى وَجَعَلُوا الصِّفَةَ هِيَ الْمَوْصُوفُ . وَهَكَذَا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَأَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ فِي بَنِي آدَمَ غَلِطُوا فِي كَوْنِهِ وَاحِدًا وَفِي كَوْنِهِ مُتَمَاثِلًا كَمَا غَلِطُوا فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ " التَّوْحِيدِ " و " الصِّفَاتِ " و " الْقُرْآنِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَكَانَ غَلَطُ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ فِي الْإِيمَانِ كَغَلَطِهِمْ فِي صِفَاتِ الرَّبِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَفِي كَلَامِهِ وَصِفَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَكَذَلِكَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ يَقْبَلُ الِاشْتِدَادَ وَالضَّعْفَ ؛ بَلْ عَامَّةُ الصِّفَاتِ الَّتِي يَتَّصِفُ بِهَا الْمَوْصُوفُونَ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعَقْلُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَالْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمُ يَقْبَلُ التَّفَاضُلَ فَيَكُونُ إيجَابٌ أَقْوَى مِنْ إيجَابٍ وَتَحْرِيمٌ أَقْوَى مِنْ تَحْرِيمٍ . وَكَذَلِكَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ
عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَفِي هَذَا كُلِّهِ نِزَاعٌ فَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ تُنْكِرُ التَّفَاضُلَ فِي هَذَا كُلِّهِ كَمَا يَخْتَارُ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَد فِي التَّفَاضُلِ فِي الْمَعْرِفَةِ رِوَايَتَانِ . وَإِنْكَارُ التَّفَاضُلِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ هُوَ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ وَلَكِنْ يَقُولُهُ مَنْ يُخَالِفُ الْمُرْجِئَةَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : التَّفَاضُلُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَعْمَالِ وَأَمَّا الْإِيمَانُ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ فَلَا يَتَفَاضَلُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوهُ بَلْ جَمِيعُ ذَلِكَ يَتَفَاضَلُ وَقَدْ يَقُولُونَ : إنَّ أَعْمَالَ الْقَلْبِ تَتَفَاضَلُ ؛ بِخِلَافِ مَعَارِفِ الْقَلْبِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ إيمَانُ الْقُلُوبِ يَتَفَاضَلُ مِنْ جِهَةِ مَا وَجَبَ عَلَى هَذَا وَمِنْ جِهَةِ مَا وَجَبَ عَلَى هَذَا فَلَا يَسْتَوُونَ فِي الْوُجُوبِ . وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ جَمِيعِهِمْ الْإِيمَانُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فَوُجُوبُ الْإِيمَانِ بِالشَّيْءِ الْمُعَيَّنِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَبْلُغَ الْعَبْدُ إنْ كَانَ خَبَرًا وَعَلَى أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْعَمَلِ بِهِ إنْ كَانَ أَمْرًا وَعَلَى الْعِلْمِ بِهِ إنْ كَانَ عِلْمًا وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ خَبَرٍ وَكُلَّ أَمْرٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَيَعْرِفُ مَعْنَاهُ وَيَعْلَمُهُ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ . فَالْوُجُوبُ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ النَّاسِ فِيهِ ؛ ثُمَّ قَدْرُهُمْ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مُتَفَاوِتَةٌ ؛ ثُمَّ نَفْسُ الْمَعْرِفَةِ تَخْتَلِفُ بِالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَدَوَامِ الْحُضُورِ وَمَعَ الْغَفْلَةِ فَلَيْسَتْ الْمُفَصَّلَةُ الْمُسْتَحْضَرَةُ الثَّابِتَةُ الَّتِي يُثَبِّتُ اللَّهُ صَاحِبَهَا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ كَالْمُجْمَلَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا وَإِذَا حَصَلَ لَهُ مَا يُرِيبُهُ فِيهَا وَذَكَرَهَا فِي قَلْبِهِ ثُمَّ رَغِبَ إلَى اللَّهِ فِي كَشْفِ الرَّيْبِ . ثُمَّ أَحْوَالُ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالُهَا مِثْلُ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالصَّبْرِ عَلَى حُكْمِهِ وَالشُّكْرِ لَهُ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ مَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهَا تَفَاضُلًا لَا يَعْرِفُ قَدْرَهُ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ أَنْكَرَ تَفَاضُلَهُمْ فِي هَذَا فَهُوَ إمَّا جَاهِلٌ لَمْ يَتَصَوَّرْهُ وَإِمَّا مُعَانِدٌ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ زِيَادَةَ الْإِيمَانِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا زِيَادَتُهُ وَأَنَّهَا غَيْرُ مَحْدُودَةٍ فَمَا يَقُولُونَ فِي أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ؟ هَلْ يُقِرُّونَ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ ؟ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ فَإِذَا قَالُوا : نَعَمْ ؛ قِيلَ لَهُمْ : هَلْ تَحْدُونَهُمْ وَتَعْرِفُونَ عَدَدَهُمْ ؟ أَلَيْسَ إنَّمَا يَصِيرُونَ فِي ذَلِكَ إلَى الْإِقْرَارِ بِهِمْ فِي الْجُمْلَةِ ثُمَّ يَكُفُّونَ عَنْ عَدَدِهِمْ ؟ فَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ . وَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ كَوْنَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مُنْتَهَى زِيَادَتِهِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْإِقْرَارِ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ ؛ كَمَا أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ عَدَدَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد وَذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَغَيْرُهُمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا عَدَدَ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَأَنَّ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ سَوَّى بَيْنِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ سَمَّى الْإِيمَانَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِسْلَامَ ؛ وَسَمَّى الْإِسْلَامَ بِمَا سَمَّى بِهِ الْإِيمَانَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ قَدْ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَبَيَّنَ أَيْضًا أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا أُمِرَ بِهِ يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ إسْلَامًا ؛ بَلْ إنَّمَا سَمَّى الْإِسْلَامَ الِاسْتِسْلَامَ لَهُ بِقَلْبِهِ وَقَصْدِهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ وَالْعَمَلِ بِمَا أُمِرَ بِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ خَالِصًا لِوَجْهِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ إسْلَامًا وَجَعَلَهُ دِينًا وَقَالَ : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } وَلَمْ يُدْخِلْ فِيمَا خُصَّ بِهِ الْإِيمَانَ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ؛ بَلْ وَلَا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ مِثْلَ حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ جَعَلَهَا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ يَتَّصِفُ بِهَا وَلَيْسَ إذَا اتَّصَفَ بِهَا الْمُسْلِمُ الْمُؤْمِنُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ بَلْ هِيَ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَرْضٌ وَالْإِيمَانُ فَرْضٌ وَالْإِسْلَامُ دَاخِلٌ فِيهِ ؛ فَمَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْمُتَنَاوَلِ لِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَمَنْ أَتَى بِمَا يُسَمَّى إسْلَامًا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ إلَّا بِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ كَمَا عُلِمَ أَنَّ مَنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ إلَى الْحَوَارِيِّينَ كُلِّهِمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا كَانُوا مُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ الْحَوَارِيُّونَ : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } وَقَالَ : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهَذَا وَبِهَذَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ دَانَ بِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَعَمَلُهُ مَرْدُودٌ وَهُوَ خَاسِرٌ فِي الْآخِرَةِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ دِينِ الْإِسْلَامِ وَبُطْلَانَ مَا سِوَاهُ لَا يَقْتَضِي أَنَّ مُسَمَّى الدِّينِ هُوَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ ؛ بَلْ أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ : { آمَنَّا بِاللَّهِ } وَأُمِرْنَا أَنْ نَقُولَ { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فَأُمِرْنَا بِاثْنَيْنِ ؛ فَكَيْفَ نَجْعَلُهُمَا وَاحِدًا ؟ وَإِذَا جَعَلُوا الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا . فَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا : اللَّفْظُ مُتَرَادِفٌ فَيَكُونُ هَذَا تَكْرِيرًا مَحْضًا ثُمَّ مَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ عَيْنُ مَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا : بَلْ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ غَيْرِ الصِّفَةِ الْأُخْرَى كَمَا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَأَسْمَاءِ كِتَابِهِ ؛ لَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِهِمَا جَمِيعًا وَلَكِنْ يَقْتَضِي أَنْ يُذْكَرَ تَارَةً بِهَذَا الْوَصْفِ وَتَارَةً بِهَذَا الْوَصْفِ ؛ فَلَا يَقُولُ قَائِلٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْك الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَهَذَا هُوَ هَذَا . وَالْعَطْفُ بِالصِّفَاتِ يَكُونُ إذَا قُصِدَ بَيَانُ الصِّفَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ ؛ كَقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } لَا يُقَالُ : صَلِّ لِرَبِّك الْأَعْلَى وَلِرَبِّك الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ لَا يَفْتَرِقَانِ فَمَنْ صَدَّقَ بِاَللَّهِ فَقَدْ آمَنَ بِهِ وَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ فَقَدْ خَضَعَ لَهُ وَقَدْ أَسْلَمَ لَهُ ؛ وَمَنْ صَامَ وَصَلَّى وَقَامَ بِفَرَائِضِ اللَّهِ وَانْتَهَى عَمَّا
نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ الْمُفْتَرَضَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسْمُ الْإِيمَانِ وَلَا الْإِسْلَامُ إلَّا أَنَّهُ أَنْقَصُ مَنْ غَيْرِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ مَنْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَ حَقٌّ لَا بَاطِلٌ وَصِدْقٌ لَا كَذِبٌ وَلَكِنْ يَنْقُصُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَخُضُوعٌ لِلْهَيْبَةِ وَالْجَلَالِ وَالطَّاعَةِ لِلْمُصَدِّقِ بِهِ وَهُوَ اللَّهُ فَمِنْ ذَلِكَ يَكُونُ النُّقْصَانُ لَا مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَ صِدْقٌ . فَيُقَالُ : مَا ذَكَرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ ؛ وَهَذَا حَقٌّ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَنْ أَنَّ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ فَقَدْ أَتَى بِالْإِيمَانِ فَقَوْلُهُ : مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ فَقَدْ خَضَعَ لَهُ وَقَدْ اسْتَسْلَمَ لَهُ حَقٌّ ؛ لَكِنْ أَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ وَخَضَعَ لَهُ فَقَدْ آمَنَ بِهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؟ وَقَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ لَا يَفْتَرِقَانِ إنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهُمَا جَمِيعًا وَنَهَى عَنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَهَذَا حَقٌّ ؛ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ مُسَمَّى هَذَا مُسَمَّى هَذَا فَنُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُخَالِفُ ذَلِكَ وَمَا ذَكَرَ قَطُّ نَصًّا وَاحِدًا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَانْتَهَى عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ فَهَذَا صَحِيحٌ إذَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيَكُونُ قَدْ اُسْتُكْمِلَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إيمَانُهُ وَإِسْلَامُهُ مُسَاوِيًا لِلْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الَّذِي فَعَلَهُ أُولُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ كَالْخَلِيلِ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ
خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَلْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِ . وَقَوْلُهُ : مَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلَنْ يَزُولَ عَنْهُ اسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إلَّا أَنَّهُ أَنْقَصُ مِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ . فَيُقَالُ : إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ بَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فَهَذَا حَقٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ بِلَا تَقْيِيدِ مُؤْمِنٍ وَمُسْلِمٍ فِي سِيَاقِ الثَّنَاءِ وَالْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ ؛ فَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَدَخَلُوا فِي قَوْلِهِ : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا وُعِدُوا فِيهِ بِالْجَنَّةِ بِلَا عَذَابٍ . وَأَيْضًا : فَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ نَفَى عَنْهُمْ الِاسْمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بَلْ قَالَ : { قِتَالُ الْمُؤْمِنِ كُفْرٌ } وَقَالَ : { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } وَإِذَا احْتَجَّ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } وَنَحْوِ ذَلِكَ قِيلَ : كُلُّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا سُمُّوا بِهِ مَعَ التَّقْيِيدِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا هَذِهِ الْأُمُورَ لِيُذْكَرَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ هُمْ وَمَا يُؤْمَرُ بِهِ غَيْرُهُمْ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : لَا يَكُونُ النُّقْصَانُ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ وَمَا قَالَهُ صِدْقٌ فَيُقَالُ : بَلْ النُّقْصَانُ يَكُونُ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقُلُوبِ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ وَمَنْ عَلَّمَهُمْ فَلَا تَكُونُ مَعْرِفَتُهُمْ وَتَصْدِيقُهُمْ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا قَالَهُ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ كَمَعْرِفَةِ غَيْرِهِمْ وَتَصْدِيقِهِ ؛ لَا مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ وَلَا مِنْ
جِهَةِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الذِّكْرِ وَالْغَفْلَةِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مُتَمَاثِلًا فِي الْقُلُوبِ أَمْ كَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ شَدِيدُ الْعِقَابِ ؛ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ فَلَا يُمْكِنُ مُسْلِمًا أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْإِيمَانَ بِذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَلَا يَدَّعِي تَمَاثُلَ النَّاسِ فِيهِ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَنْقُصُ كَمَا يَنْقُصُ الْإِيمَانُ فَهَذَا أَيْضًا حَقٌّ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ ؛ فَإِنَّ مَنْ نَقَصَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَوْ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ شَيْئًا فَقَدْ نَقَصَ مِنْ إسْلَامِهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْكَلِمَةُ فَقَطْ وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَقَوْلُهُ خَطَأٌ . وَرَدُّ الَّذِينَ جَعَلُوا الْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ سَوَاءٌ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ إلَى هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ يُشْبِهُ قَوْلَ الْمُرْجِئَةِ فِي الْإِيمَانِ . وَلِهَذَا صَارَ النَّاسُ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " فَالْمُرْجِئَةُ يَقُولُونَ : الْإِسْلَامُ أَفْضَلُ ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِيمَانُ . وَآخَرُونَ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ سَوَاءٌ وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَحَكَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ عَنْ جُمْهُورِهِمْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّ الْإِيمَانَ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ .
ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْإِسْلَامُ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ وَالْأَعْمَالُ لَيْسَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كُلُّهَا وَأَحْمَد إنَّمَا مَنَعَ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الزُّهْرِيِّ : هُوَ الْكَلِمَةُ . هَكَذَا نَقَلَ الْأَثْرَمُ وَالْمَيْمُونِيَّ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ . وَأَمَّا عَلَى جَوَابِهِ الْآخَرِ الَّذِي لَمْ يَخْتَرْ فِيهِ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ فَيُسْتَثْنَى فِي الْإِسْلَامِ كَمَا يُسْتَثْنَى فِي الْإِيمَانِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْزِمُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ كُلَّ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ . وَإِذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } و { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ } فَجَزْمُهُ بِأَنَّهُ فِعْلُ الْخَمْسِ بِلَا نَقْصٍ كَمَا أُمِرَ كَجَزْمِهِ بِإِيمَانِهِ . فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً } أَيْ الْإِسْلَامِ كَافَّةً أَيْ فِي جَمِيعِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ . وَتَعْلِيلُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ مَا ذَكَرُوهُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ يَجِيءُ فِي اسْمِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ الْكَلِمَةُ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ كُلِّهَا فَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَنْ أَتَى بِالشَّهَادَتَيْنِ صَارَ مُسْلِمًا مُتَمَيِّزًا عَنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجْزِمُ بِهِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ فِيهِ فَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ : الْإِسْلَامُ الْكَلِمَةُ . وَعَلَى ذَلِكَ وَافَقَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَحِينَ وَافَقَهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْوَاجِبَ هُوَ الْكَلِمَةُ وَحْدَهَا فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَجَلُّ مَنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَحْمَد لَمْ يُجِبْ بِهَذَا فِي جَوَابِهِ الثَّانِي خَوْفًا مِنْ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ هُوَ إلَّا الْكَلِمَةَ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالَ الْأَثْرَمُ
لِأَحْمَدَ : فَإِذَا قَالَ : أَنَا مُسْلِمٌ فَلَا يَسْتَثْنِي ؟ قَالَ نَعَمْ : لَا يَسْتَثْنِي إذَا قَالَ : أَنَا مُسْلِمٌ . فَقُلْت لَهُ أَقُولُ : هَذَا مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ النَّاسُ مِنْهُ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : فَنَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ الْكَلِمَةُ وَالْإِيمَانَ الْعَمَلُ . فَبَيَّنَ أَحْمَد أَنَّ الْإِسْلَامَ إذَا كَانَ هُوَ الْكَلِمَةَ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهَا فَحَيْثُ كَانَ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْ لَفْظِ الْإِسْلَامِ فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ وَلَوْ أُرِيدَ بِالْإِيمَانِ هَذَا كَمَا يُرَادُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } فَإِنَّمَا أُرِيدَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي عُلِّقَتْ بِهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا هُوَ الْإِيمَانُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ فِي الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْأَثْرَمُ لِأَحْمَدَ احْتِجَاجَ الْمُرْجِئَةِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } أَجَابَهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ حُكْمُهَا فِي الدُّنْيَا حُكْمُ الْمُؤْمِنَةِ ؛ لَمْ يُرِدْ أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَسْتَحِقُّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِلَا نَارٍ إذَا لَقِيته بِمُجَرَّدِ هَذَا الْإِقْرَارِ وَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ الْمُطْلَقُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ الْمَوْعُودُ بِالْجَنَّةِ بِلَا نَارٍ إذَا مَاتَ عَلَى إيمَانِهِ وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ يُلْزِمُونَ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِالْإِيمَانِ أَنْ يَشْهَدَ لَهَا بِالْجَنَّةِ ؛ يَعْنُونَ إذَا مَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ عَرَفَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا مَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا . فَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ : أَنَا مُؤْمِنٌ قَطْعًا وَأَنَا مُؤْمِنٌ عِنْدَ اللَّهِ . قِيلَ لَهُ : فَاقْطَعْ بِأَنَّك تَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ إذَا مُتّ عَلَى هَذَا الْحَالِ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ
فِي الْجَنَّةِ . وَأَنْكَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ حَدِيثَ ابْنِ عَمِيرَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجَعَ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ ؛ فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا قِيلَ لَهُ : إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ : إنَّا مُؤْمِنُونَ فَقَالَ : أَفَلَا سَأَلْتُمُوهُمْ أَفِي الْجَنَّةِ هُمْ ؟ وَفِي رِوَايَةٍ : أَفَلَا قَالُوا : نَحْنُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ لَهُ : إنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ ؛ قَالَ : فَاسْأَلُوهُ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ ؟ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : اللَّهُ أَعْلَمُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ : فَهَلَّا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ ؟ مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ : أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ وَمَنْ قَالَ : هُوَ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ وُجُوهٍ مُرْسَلًا مِنْ حَدِيثِ قتادة وَنُعَيْمِ ابْنِ أَبِي هِنْدٍ وَغَيْرِهِمَا . وَالسُّؤَالُ الَّذِي تُورِدُهُ الْمُرْجِئَةُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَيَقُولُونَ : إنَّ يَزِيدَ بْنَ عَمِيرَةَ أَوْرَدَهُ عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ جَعَلَ هَذَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ حَالَهُ الْآنَ وَمَا يَدْرِي مَاذَا يَمُوتُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا السُّؤَالِ صَارَ طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ يَقُولُونَ : الْمُؤْمِنُ هُوَ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يُخْتَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْكَافِرُ مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ كَافِرٌ وَأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا يَجْعَلُونَ الِاسْتِثْنَاءَ وَهَذَا أَحَدُ قَوْلَيْ النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَأَصْحَابِهِ . وَلَكِنَّ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ السَّلَفِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَقْصُودَهُمْ وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ أَنَّ الْإِيمَانَ الْمُطْلَقَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورَاتِ . فَقَوْلُهُ : أَنَا مُؤْمِنٌ . كَقَوْلِهِ : أَنَا وَلِيُّ اللَّهِ وَأَنَا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَأَنَا مِنْ الْأَبْرَارِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ مَاتَ مُؤْمِنًا وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْلَمُ عَلَى مَاذَا يَمُوتُ
فَإِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ هَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ : سَلُوهُ هَلْ هُوَ فِي الْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ؟ كَأَنَّهُ قَالَ : سَلُوهُ أَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ ؟ فَلَمَّا قَالَ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : أَفَلَا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ . يَقُولُ : هَذَا التَّوَقُّفُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّك لَا تَشْهَدُ لِنَفْسِك بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ . فَإِنَّهُ مَنْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ شَهِدَ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ وَلِهَذَا صَارَ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَجْلِ الْحَالِ الْحَاضِرِ بَلْ لِلْمُوَافَاةِ لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ تَائِبٍ كَمَا لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَاقِبُ مُذْنِبًا فَإِنَّهُمْ لَوْ قَطَعُوا بِقَبُولِ تَوْبَتِهِ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا لَهُ الْجَنَّةَ وَهُمْ لَا يَقْطَعُونَ لِأَحَدِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ ؛ إلَّا مَنْ قَطَعَ لَهُ النَّصُّ . وَإِذَا قِيلَ : الْجَنَّةُ هِيَ لِمَنْ أَتَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْ جَمِيعِ السَّيِّئَاتِ . قَالُوا : وَلَوْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ التَّوْبَةِ لَمْ يُقْطَعْ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَهُمْ لَا يَسْتَثْنُونَ فِي الْأَحْوَالِ بَلْ يَجْزِمُونَ بِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ وَلَكِنَّ عِنْدَهُمْ الْإِيمَانَ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ مَا يُوَافِي بِهِ فَمَنْ قَطَعُوا لَهُ بِأَنَّهُ مَاتَ مُؤْمِنًا لَا ذَنْبَ لَهُ قَطَعُوا لَهُ بِالْجَنَّةِ فَلِهَذَا لَا يَقْطَعُونَ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ لِئَلَّا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا بِالْجَنَّةِ وَأَمَّا أَئِمَّةُ السَّلَفِ فَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعُوا بِالْجَنَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ وَلَا أَنَّهُ أَتَى بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَإِلَّا فَهُمْ يَقْطَعُونَ بِأَنَّ مَنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُ .
وَجِمَاعُ الْأَمْرِ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى وَيُثْبَتُ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ فَلَا يَجِبُ إذَا أُثْبِتَ أَوْ نُفِيَ فِي حُكْمِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ وَهَذَا فِي
كَلَامِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْأُمَمِ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ . مِثَالُ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ قَدْ يُجْعَلُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَوْضِعٍ ؛ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ يُقَالُ : مَا هُمْ مِنْهُمْ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا } { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } فَهُنَالِكَ جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْخَائِفِينَ مِنْ الْعَدُوِّ النَّاكِلِينَ عَنْ الْجِهَادِ النَّاهِينَ لِغَيْرِهِمْ الذَّامِّينَ لِلْمُؤْمِنِينَ : مِنْهُمْ . وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } وَهَؤُلَاءِ ذَنْبُهُمْ أَخَفُّ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْذُوا الْمُؤْمِنِينَ لَا بِنَهْيٍ وَلَا سَلْقٍ بِأَلْسِنَةِ حِدَادٍ وَلَكِنْ حَلَفُوا بِاَللَّهِ إنَّهُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْبَاطِنِ بِقُلُوبِهِمْ وَإِلَّا فَقَدْ عَلِمَ الْمُؤْمِنُونَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فِي الظَّاهِرِ فَكَذَّبَهُمْ اللَّهُ وَقَالَ : { وَمَا هُمْ مِنْكُمْ } وَهُنَاكَ قَالَ : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ } فَالْخِطَابُ لِمَنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بِأَنَّ مِنْكُمْ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَيْسَ مُؤْمِنًا بَلْ أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَهُ فَهُوَ مِنْكُمْ فِي الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ . وَلِهَذَا لَمَّا اُسْتُؤْذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ : { لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ } فَإِنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَائِقَ الْأُمُورِ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ هُمْ أَصْحَابُهُ لَيْسَ فِيهِمْ نِفَاقٌ
كَاَلَّذِينَ عَلَّمُوا سُنَّتَهُ النَّاسَ وَبَلَّغُوهَا إلَيْهِمْ وَقَاتَلُوا الْمُرْتَدِّينَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَأَهْلُ بَدْرٍ وَغَيْرُهُمْ بَلْ الَّذِينَ كَانُوا مُنَافِقِينَ غَمَرَتْهُمْ النَّاسُ . وَكَذَلِكَ الْأَنْسَابُ مِثْلَ كَوْنِ الْإِنْسَانِ أَبًا لِآخَرَ أَوْ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ دُونَ بَعْضٍ ؛ [ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَنَّهُ { لَمَّا اخْتَصَمَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زمعة بْنِ الْأَسْوَدِ فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زمعة ] (*) وَكَانَ عتبة بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَدْ فَجَرَ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا فَقَالَ عتبة لِأَخِيهِ سَعْدٍ : إذَا قَدِمْت مَكَّةَ فَانْظُرْ ابْنَ وَلِيدَةِ زمعة فَإِنَّهُ ابْنِي فَاخْتَصَمَ فِيهِ هُوَ وَعَبْدُ بْنُ زمعة إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عتبة عَهِدَ إلَيَّ أَخِي عتبة فِيهِ إذَا قَدِمْت مَكَّةَ اُنْظُرْ إلَى ابْنِ وَلِيدَةِ زمعة فَإِنَّهُ ابْنِي أَلَا تَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ شَبَهَهُ بعتبة ؟ فَقَالَ عَبْدٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي ؛ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي فَرَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهًا بَيِّنًا بعتبة فَقَالَ : هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زمعة الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ } لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة . فَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَ زمعة لِأَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَجَعَلَهُ أَخًا لِوَلَدِهِ بِقَوْلِهِ : { فَهُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنُ زمعة } وَقَدْ صَارَتْ سَوْدَةُ أُخْتَه يَرِثُهَا وَتَرِثُهُ ؛ لِأَنَّهُ ابْن أَبِيهَا زمعة وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ . وَمَعَ هَذَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُ لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِهِ الْبَيِّنِ بعتبة فَإِنَّهُ قَامَ فِيهِ دَلِيلَانِ مُتَعَارِضَانِ : الْفِرَاشُ وَالشَّبَهُ وَالنَّسَبُ فِي الظَّاهِرِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ أَقْوَى وَلِأَنَّهَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ مُبَاحٌ وَالْفُجُورُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُعْلَمُ وَيَجِبُ سَتْرُهُ لَا إظْهَارُهُ كَمَا قَالَ : { لِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } كَمَا يُقَالُ : بِفِيك الكَثْكَث (1) وَبِفِيك الأثلبَ (2) أَيْ : عَلَيْك أَنْ تَسْكُتَ عَنْ إظْهَارِ الْفُجُورِ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ ذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ احْتِجَابُهَا مِنْهُ مُمْكِنًا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَخَاهَا فِي الْبَاطِنِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْمَ الْوَاحِدَ يُنْفَى فِي حُكْمٍ وَيَثْبُتُ فِي حُكْمٍ . فَهُوَ أَخٌ فِي الْمِيرَاثِ وَلَيْسَ بِأَخٍ فِي المحرمية . وَكَذَلِكَ وَلَدُ الزِّنَا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ عِنْدَ الْجَمِيعِ إلَّا مَنْ شَذَّ ؛ لَيْسَ بِوَلَدِ فِي الْمِيرَاثِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ وَلَدٌ فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ والمحرمية . وَلَفْظُ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ فِي الْأَمْرِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ وَهُوَ الْعَقْدُ وَالْوَطْءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } وَقَوْلُهُ : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَفِي النَّهْيِ يَعُمُّ النَّاقِصَ وَالْكَامِلَ ؛ فَيَنْهَى عَنْ الْعَقْدِ مُفْرَدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطْءٌ كَقَوْلِهِ : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } وَهَذَا لِأَنَّ الْآمِرَ مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ وَتَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالدُّخُولِ كَمَا لَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي طَعَامًا ؛ فَالْمَقْصُودُ مَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ وَالنَّاهِي مَقْصُودُهُ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ فَيَدْخُلُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ مَفْسَدَةٌ
وَكَذَلِكَ النَّسَبُ وَالْمِيرَاثُ مُعَلَّقٌ بِالْكَامِلِ مِنْهُ وَالتَّحْرِيمُ مُعَلَّقٌ بِأَدْنَى سَبَبٍ حَتَّى الرَّضَاعِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَكُونُ لَهُ مُبْتَدَأٌ وَكَمَالٌ يُنْفَى تَارَةً بِاعْتِبَارِ انْتِفَاءِ كَمَالِهِ وَيَثْبُتُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ مَبْدَئِهِ . فَلَفْظُ الرِّجَالِ يَعُمُّ الذُّكُورَ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } وَلَا يَعُمُّ الصِّغَارَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا } فَإِنَّ بَابَ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ عَمَلٌ يَعْمَلُهُ الْقَادِرُونَ عَلَيْهِ فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ لَظُنَّ أَنَّ الْوِلْدَانَ غَيْرُ دَاخِلِينَ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِهِ وَهُمْ ضُعَفَاءُ فَذَكَرَهُمْ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ لِيُبَيِّنَ عُذْرَهُمْ فِي تَرْكِ الْهِجْرَةِ وَوُجُوبِ الْجِهَادِ . وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَهُ مَبْدَأٌ وَكَمَالٌ وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ فَإِذَا عُلِّقَتْ بِهِ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ كَحَقْنِ الدَّمِ وَالْمَالِ وَالْمَوَارِيثِ وَالْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ عُلِّقَتْ بِظَاهِرِهِ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ ذَلِكَ إذْ تَعْلِيقُ ذَلِكَ بِالْبَاطِنِ مُتَعَذِّرٌ ؛ وَإِنْ قُدِّرَ أَحْيَانًا فَهُوَ مُتَعَسِّرٌ عِلْمًا وَقُدْرَةً ؛ فَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ عِلْمًا يَثْبُتُ بِهِ فِي الظَّاهِرِ وَلَا يُمْكِنُ عُقُوبَةُ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ .
وَبِهَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْتَنِعُ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُنَافِقِينَ ؛ فَإِنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُمْ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ ؛ وَاَلَّذِينَ كَانَ يَعْرِفُهُمْ لَوْ عَاقَبَ بَعْضَهُمْ لَغَضِبَ لَهُ قَوْمُهُ ؛ وَلَقَالَ النَّاسُ : إنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ؛ فَكَانَ يَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ
نُفُورٌ عَنْ الْإِسْلَامِ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الذَّنْبُ ظَاهِرًا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي مَعْرِفَتِهِ . وَلَمَّا هَمَّ بِعُقُوبَةِ مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ الصَّلَاةِ مَنَعَهُ مَنْ فِي الْبُيُوتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَأَمَّا مَبْدَؤُهُ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِذَا قَالَ اللَّهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهُوَ أَمْرٌ فِي الظَّاهِرِ لِكُلِّ مَنْ أَظْهَرَهُ وَهُوَ خِطَابٌ فِي الْبَاطِنِ لِكُلِّ مَنْ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَفْظُ : { الَّذِينَ آمَنُوا } يَتَنَاوَلُهُمْ فَلَا كَلَامَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ فَذَاكَ لِذُنُوبِهِمْ فَلَا تَكُونُ ذُنُوبُهُمْ مَانِعَةً مِنْ أَمْرِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي إنْ فَعَلُوهَا كَانَتْ سَبَبَ رَحْمَتِهِمْ وَإِنْ تَرَكُوهَا كَانَ أَمْرُهُمْ بِهَا وَعُقُوبَتُهُمْ عَلَيْهَا عُقُوبَةً عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ وَالْكَافِرُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا لَكِنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ وَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِي الْبَاطِنِ حَتَّى يُؤْمِنَ .
وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ أَوَّلَ الْإِيمَانِ فَهَذَا يَصِحُّ مِنْهُ لِأَنَّ مَعَهُ إقْرَارَهُ فِي الْبَاطِنِ بِوُجُوبِ مَا أَوْجَبَهُ الرَّسُولُ وَتَحْرِيمِ مَا حَرَّمَهُ وَهَذَا سَبَبُ الصِّحَّةِ وَأَمَّا كَمَالِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ النَّارِ فَإِنَّ هَذَا الْوَعْدَ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ وَمَنْ فَعَلَ بَعْضًا وَتَرَكَ بَعْضًا فَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ فَلَا يَدْخُلُ هَذَا فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ دُونَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ . وَمَنْ نَفَى عَنْهُ الرَّسُولُ الْإِيمَانَ فَنَفَى الْإِيمَانَ فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوَعِيدِ . وَالْوَعِيدُ إنَّمَا يَكُونُ بِنَفْيِ مَا يَقْتَضِي الثَّوَابَ وَيَدْفَعُ الْعِقَابَ وَلِهَذَا مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ نَفْيِ الْإِيمَانِ
عَنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي خِطَابِ الْوَعِيدِ وَالذَّمِّ لَا فِي خِطَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا . وَاسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ هِيَ أَسْمَاءٌ مَمْدُوحَةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا لِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ لِأَهْلِهَا فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ نَفَى عَنْهُمْ الْإِيمَانَ ؛ أَوْ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ جَمِيعًا وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كُفَّارًا إنَّمَا نَفَى ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الثَّوَابُ لَمْ يَنْفِهِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا . لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ ظَنَّتْ أَنَّهُ إذَا انْتَفَى الِاسْمُ انْتَفَتْ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ فَلَمْ يَجْعَلُوا مَعَهُمْ شَيْئًا مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فَجَعَلُوهُمْ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ لَكِنْ كَانُوا كَالْمُنَافِقِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُنَافِقِ الَّذِي يُكَذِّبُ الرَّسُولَ فِي الْبَاطِنِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْمُذْنِبِ فَالْمُعْتَزِلَةُ سَوَّوْا بَيْنَ أَهْلِ الذُّنُوبِ وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي نَفْيِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ عَنْهُمْ بَلْ قَدْ يُثْبِتُونَهُ لِلْمُنَافِقِ ظَاهِرًا وَيَنْفُونَهُ عَنْ الْمُذْنِبِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمًا وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا - الْإِيمَانَ الْكَامِلَ - كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَعَ الْقُرْآنِ وَكَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ عَمَّنْ ذَكَرَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ الطَّاعَاتُ الظَّاهِرَةُ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ لِأَنَّ " الْإِسْلَامَ فِي الْأَصْلِ " هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ
وَهَذَا هُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ وَالْإِيمَانُ فِيهِ مَعْنَى التَّصْدِيقِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَتَرَكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مُخْلِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ؟ أَلَيْسَ هَذَا مُسْلِمًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ فَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا . قُلْنَا : قَدْ ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ إذْ لَوْ لَمْ يُؤَدِّ الْوَاجِبَ لَكَانَ مُعَرَّضًا لِلْوَعِيدِ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُخَاطِبْ بِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْمَوْصُوفَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَالْإِسْلَامَ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ بَلْ وَلَا أَوْجَبَا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ اتِّبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ أَهْلَ الْجَنَّةِ مَعَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُسْلِمُونَ وَمَعَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ دِينًا غَيْرَهُ ؛ وَهُوَ دِينُ اللَّهِ فِي الْأَوَّلِينَ والآخرين لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ بِمَا أَمَرَ فَقَدْ تَتَنَوَّعُ أَوَامِرُهُ فِي الشَّرِيعَةِ الْوَاحِدَةِ فَضْلًا عَنْ الشَّرَائِعِ فَيَصِيرُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْإِيمَانِ بِمَا يَخْرُجُ عَنْهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ كَالصَّلَاةِ إلَى الصَّخْرَةِ كَانَ مِنْ الْإِسْلَامِ حِين كَانَ اللَّهُ أَمَرَ بِهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْإِسْلَامِ لِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمْ تَجِبْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بَلْ الصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَفَرَائِضُ الزَّكَاةِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِالْمَدِينَةِ ؛ وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ إنَّمَا
وَجَبَتْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ ؛ وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَجِّ لِتَأَخُّرِ وُجُوبِهِ إلَى سَنَةِ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ؛ وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَنْ اتَّبَعَهُ وَآمَنَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُؤْمِنًا مُسْلِمًا ؛ وَإِذَا مَاتَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ هَذَا زَادَ " الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ " حَتَّى قَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ فَإِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ الْمُفَصَّلَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الْعَلَقِ وَالْمُدَّثِّرِ بَلْ إنَّمَا جَاءَ هَذَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ كَالْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْإِيمَانُ الْمُفَصَّلُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَنَا . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَمَعَهُ الْإِيمَانُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ مَعَهُ هَذَا الْإِيمَانُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ لَكِنَّ هَذَا يُقَالُ : مَعَهُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَقَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا يَعْبُدُ اللَّهَ كَمَا أُمِرَ وَلَا يَعْبُدُ غَيْرَهُ وَيَخَافُهُ وَيَرْجُوهُ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَخْلُصْ إلَى قَلْبِهِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَلَا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ وَمَالِهِ ؛ وَأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَأَنْ يَخَافَ اللَّهَ لَا يَخَافَ غَيْرَهُ ؛ وَأَنْ لَا يَتَوَكَّلَ إلَّا عَلَى اللَّهِ ؛ وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ ؛ وَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْخُضُوعَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ؛ وَالِانْقِيَادَ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ؛ وَهَذَا قَدْ يَتَضَمَّنُ خَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ . وَأَمَّا طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ وَأَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَبِأَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ
لِنَفْسِهِ ؛ فَهَذِهِ مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهِ فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا وَكَذَلِكَ وَجَلُ قَلْبِهِ إذَا ذَكَرَ اللَّهُ وَكَذَلِكَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ إذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَفَوَاتُ هَذَا الْإِيمَانِ مِنْ الذُّنُوبِ أَمْ لَا ؟ قِيلَ : إذَا لَمْ يَبْلُغْ الْإِنْسَانُ الْخِطَابَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ لَا يَكُونُ تَرْكُهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَأَمَّا إنْ بَلَغَهُ الْخِطَابُ الْمُوجِبُ لِذَلِكَ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ كَانَ تَرْكُهُ مِنْ الذُّنُوبِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ هَذِهِ التَّفَاصِيلُ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّهُمْ قَائِمُونَ بِالطَّاعَةِ الْوَاجِبَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُمْ ذُنُوبٌ تَابُوا وَاسْتَغْفَرُوا مِنْهَا ؛ وَحَقَائِقُ الْإِيمَانِ الَّتِي فِي الْقُلُوبِ لَا يَعْرِفُونَ وُجُوبَهَا ؛ بَلْ وَلَا أَنَّهَا مِنْ الْإِيمَانِ بَلْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَعْرِفُهَا مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهَا مِنْ النَّوَافِلِ الْمُسْتَحَبَّةِ إنْ صَدَّقَ بِوُجُوبِهَا . " فَالْإِسْلَامُ " يَتَنَاوَلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَلَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْمَحْضُ وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مَعَ التَّصْدِيقِ الْمُجْمَلِ فِي الْبَاطِنِ وَلَكِنْ لَمْ يَفْعَلْ الْوَاجِبَ كُلَّهُ لَا مِنْ هَذَا وَلَا هَذَا وَهُمْ الْفُسَّاقُ يَكُونُ فِي أَحَدِهِمْ شُعْبَةُ نِفَاقٍ وَيَتَنَاوَلُ مَنْ أَتَى بِالْإِسْلَامِ الْوَاجِبِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ وَلَمْ يَأْتِ بِتَمَامِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ . وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا فُسَّاقًا تَارِكِينَ فَرِيضَةً ظَاهِرَةً وَلَا مُرْتَكِبِينَ مُحَرَّمًا ظَاهِرًا لَكِنْ تَرَكُوا مِنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبَةِ عِلْمًا وَعَمَلًا بِالْقَلْبِ يَتَّبِعُهُ بَعْضُ الْجَوَارِحِ مَا كَانُوا بِهِ مَذْمُومِينَ .
وَهَذَا هُوَ " النِّفَاقُ " الَّذِي كَانَ يَخَافُهُ السَّلَفُ عَلَى نُفُوسِهِمْ . فَإِنَّ صَاحِبَهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شُعْبَةُ نِفَاقٍ . وَبَعْدَ هَذَا مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ إيمَانٍ وَتَوَابِعِهِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا مِمَّا فُضِّلَ بِهِ الْمُؤْمِنُ : إيمَانٌ وَإِسْلَامٌ مِمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى غَيْرِهِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ } فَإِنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ هَذَا الْإِنْكَارِ مَا يَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى يَفْعَلَهُ الْمُؤْمِنُ ؛ بَلْ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ آخِرُ حُدُودِ الْإِيمَانِ لَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ : وَلِهَذَا قَالَ : لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ " فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ ثَلَاثَ طَبَقَاتٍ وَكُلٌّ مِنْهُمْ فَعَلَ الْإِيمَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا كَانَ أَقْدَرَهُمْ كَانَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي وَكَانَ مَا يَجِبُ عَلَى الثَّانِي أَكْمَلَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ وَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِهِمْ مَعَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ كُلِّهِمْ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ " بِقَوْلِ الرَّجُلِ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَالنَّاسُ فِيهِ عَلَى " ثَلَاثَةِ " أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُ الْأَمْرَيْنِ بِاعْتِبَارَيْنِ ؛ وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ . فَاَلَّذِينَ يُحَرِّمُونَهُ هُمْ الْمُرْجِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ كَالتَّصْدِيقِ بِالرَّبِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ ؛ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَنَا أَعْلَمُ أَنِّي مُؤْمِنٌ كَمَا أَعْلَمُ أَنِّي تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي قَرَأْت الْفَاتِحَةَ وَكَمَا أَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَأَنِّي أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى . فَقَوْلِي : أَنَا مُؤْمِنٌ كَقَوْلِي : أَنَا مُسْلِمٌ وَكَقَوْلِي : تَكَلَّمْت بِالشَّهَادَتَيْنِ وَقَرَأَتْ الْفَاتِحَةَ وَكَقَوْلِي : أَنَا أُبْغِضُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ الَّتِي أَنَا أَعْلَمُهَا وَأَقْطَعُ بِهَا وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : أَنَا قَرَأْت الْفَاتِحَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَذَلِكَ لَا يَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَكِنْ إذَا كَانَ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ : فَعَلْته إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالُوا : فَمَنْ اسْتَثْنَى فِي إيمَانِهِ فَهُوَ شَاكٌّ فِيهِ وَسَمَّوْهُمْ الشَّكَّاكَةَ . وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الِاسْتِثْنَاءَ لَهُمْ مَأْخَذَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مَا مَاتَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ ؛ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَكُونُ
عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا بِاعْتِبَارِ الْمُوَافَاةِ وَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا عِبْرَةَ بِهِ . قَالُوا : وَالْإِيمَانُ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ الْكُفْرُ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ كَافِرًا لَيْسَ بِإِيمَانِ كَالصَّلَاةِ الَّتِي يُفْسِدُهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْكَمَالِ ؛ وَكَالصِّيَامِ الَّذِي يُفْطِرُ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَصَاحِبُ هَذَا هُوَ عِنْدَ اللَّهِ كَافِرٌ لِعِلْمِهِ بِمَا يَمُوتُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْكُفْرِ وَهَذَا الْمَأْخَذُ مَأْخَذُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْكُلَّابِيَة وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَنْصُرَ مَا اُشْتُهِرَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِمْ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ وَيُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَفَاضَلُ ؛ وَلَا يَشُكُّ الْإِنْسَانُ فِي الْمَوْجُودِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يَشُكُّ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَسُخْطُهُ وَبُغْضُهُ قَدِيمٌ . ثُمَّ هَلْ ذَلِكَ هُوَ الْإِرَادَةُ أَمْ صِفَاتٌ أُخَرُ ؟ لَهُمْ فِي ذَلِكَ " قَوْلَانِ " . وَأَكْثَرُ قُدَمَائِهِمْ يَقُولُونَ : إنَّ الرِّضَى وَالسُّخْطَ وَالْغَضَبَ وَنَحْوَ ذَلِكَ صِفَاتٌ لَيْسَتْ هِيَ الْإِرَادَةُ كَمَا أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ . هَذِهِ كُلُّهَا صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ عِنْد أَبِي مُحَمَّدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمِنْ أَتْبَاعِ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . قَالُوا : وَاَللَّهُ يُحِبُّ فِي أَزَلِهِ مَنْ كَانَ كَافِرًا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا . فَالصَّحَابَةُ مَا زَالُوا مَحْبُوبِينَ لِلَّهِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ مُدَّةً مِنْ الدَّهْرِ وَإِبْلِيسُ مَا زَالَ اللَّهُ يُبْغِضُهُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكْفُرْ بَعْدُ . وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَهُمْ فَالرِّضَى وَالسُّخْطُ
يَرْجِعُ إلَى الْإِرَادَةِ وَالْإِرَادَةُ تُطَابِقُ الْعِلْمَ ، فَالْمَعْنَى : مَا زَالَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَ هَؤُلَاءِ بَعْدَ إيمَانِهِمْ وَيُعَاقِبَ إبْلِيسَ بَعْدَ كُفْرِهِ . وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ . فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ مَا عَلِمَ أَنْ سيخلقه . وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُهَا صِفَاتٍ أُخَرَ يَقُولُ : هُوَ أَيْضًا حُبُّهُ تَابِعٌ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يُثِيبَهُ . فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ إثَابَتَهُ فَهُوَ يُحِبُّهُ وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ عُقُوبَتَهُ فَإِنَّهُ يُبْغِضُهُ وَهَذَا تَابِعٌ لِلْعِلْمِ . وَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ لَا يَرْضَى عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ سَاخِطًا عَلَيْهِ وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدٍ بَعْدَ أَنْ تَابَ عَلَيْهِ بَلْ مَا زَالَ يَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ . وَالْفَرَحُ عِنْدَهُمْ إمَّا الْإِرَادَةُ وَإِمَّا الرِّضَى . وَالْمَعْنَى مَا زَالَ يُرِيدُ إثَابَتَهُ أَوْ يَرْضَى عَمَّا يُرِيدُ إثَابَتَهُ . وَكَذَلِكَ لَا يَغْضَبُ عِنْدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُونَ مَا قَبْلَهُ . بَلْ غَضَبُهُ قَدِيمٌ إمَّا بِمَعْنَى الْإِرَادَةِ وَإِمَّا بِمَعْنَى آخَرَ . فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إذَا عَلِمَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ كَافِرًا لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِعُقُوبَتِهِ فَذَاكَ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ مَعَهُ بَاطِلٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ بَلْ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ . فَلَيْسَ هَذَا بِمُؤْمِنِ أَصْلًا وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا لَمْ يَزَلْ مُرِيدًا لِإِثَابَتِهِ وَذَاكَ الْكُفْرُ الَّذِي فَعَلَهُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ . فَلَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِرًا عِنْدَهُمْ أَصْلًا . فَهَؤُلَاءِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ وَكَذَلِكَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْكُفْرِ مِثْلَ أَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُطَّرِدٌ فِيهِمَا . وَلَكِنْ جَمَاهِيرُ الْأَئِمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى فِي الْكُفْرِ وَالِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ بِدْعَةٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنْ هُوَ لَازِمٌ لَهُمْ . وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا مِنْ هَؤُلَاءِ قَالُوا : نَسْتَثْنِي فِي الْإِيمَانِ رَغْبَةً إلَى اللَّهِ فِي أَنْ
يُثَبِّتَنَا عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَالْكُفْرُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ أَحَدٌ . لَكِنْ يُقَالُ : إذَا كَانَ قَوْلُك : مُؤْمِنٌ كَقَوْلِك : فِي الْجَنَّةِ . فَأَنْتَ تَقُولُ عَنْ الْكَافِرِ : هُوَ كَافِرٌ . وَلَا تَقُولُ : هُوَ فِي النَّارِ إلَّا مُعَلِّقًا بِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا . وَإِنْ جَازَ أَنْ يَصِيرَ مُؤْمِنًا كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ . وَسَوَاءٌ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ . فَلَوْ قِيلَ عَنْ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ : هَذَا كَافِرٌ قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا ؛ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ أَحَدًا مُؤْمِنًا إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَيْهِ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَصْحَابِ ابْنِ كُلَّابٍ وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْهُ أَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ لَا الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِيمَانِ يُعَلِّلُونَ بِهَذَا لَا أَحْمَد وَلَا مَنْ قَبْلَهُ . وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ طَرَدَهُ طَائِفَةٌ مِمَّنْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَكَانُوا قَدْ أَخَذُوا الِاسْتِثْنَاءَ عَنْ السَّلَفِ وَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ شَدِيدَيْنِ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفريابي صَاحِبُ الثَّوْرِيِّ مُرَابِطًا بِعَسْقَلَانَ لَمَّا كَانَتْ مَعْمُورَةً وَكَانَتْ مِنْ خِيَارِ ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا كَانَ فِيهَا فَضَائِلُ لِفَضِيلَةِ الرِّبَاطِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَاسْتَثْنَوْا أَيْضًا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ : صَلَّيْت إنْ شَاءَ اللَّهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْقَبُولِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ . ثُمَّ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِآخِرَةِ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَيَقُولُ هَذَا ثَوْبِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهَذَا حَبْلٌ
إنْ شَاءَ اللَّهُ . فَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ : هَذَا لَا شَكَّ فِيهِ ؛ قَالَ : نَعَمْ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لَكِنْ إذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ غَيَّرَهُ ؛ فَيُرِيدُونَ بِقَوْلِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ جَوَازَ تَغْيِيرِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ كَأَنَّ الْحَقِيقَةَ عِنْدَهُمْ الَّتِي لَا يُسْتَثْنَى فِيهَا مَا لَمْ تَتَبَدَّلْ كَمَا يَقُولُهُ أُولَئِكَ فِي الْإِيمَانِ : إنَّ الْإِيمَانَ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَدَّلُ حَتَّى يَمُوتَ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ . لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ . قَالَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِاجْتِهَادِ وَنَظَرٍ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَثْنُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ تَلَقَّوْا ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَتْبَاعِ شَيْخِهِمْ وَشَيْخُهُمْ الَّذِي يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ يُقَالُ لَهُ : أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ مَرْزُوقٍ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَرَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ بَلْ كَانَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ ؛ وَلَكِنْ أَحْدَثَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ وَكَانَ شَيْخُهُمْ مُنْتَسِبًا إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد وَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ الشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ المقدسي وَأَبُو الْفَرَجِ مِنْ تَلَامِذَةِ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى . وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد فَهُمْ يُوَافِقُونَ ابْنَ كُلَّابٍ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي كَانَ أَحْمَد يُنْكِرُهُ عَلَى الْكُلَّابِيَة وَأَمَرَ بِهَجْرِ الْحَارِثِ المحاسبي مِنْ أَجْلِهِ كَمَا وَافَقَهُ عَلَى أَصْلِهِ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ كَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَبِي الْوَلِيدِ الباجي وَأَبِي مَنْصُورٍ الماتريدي وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي مَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الصِّفَاتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَمَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ ؟ أَمْ الْقُرْآنُ لَازِمٌ لِذَاتِهِ ؟ وَقَوْلُهُمْ فِي " الِاسْتِثْنَاءِ " مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ .
وَكَذَلِكَ بَنَاهُ الْأَشْعَرِيُّ وَأَتْبَاعُهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ كلابية يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ إيمَانِهِ وَكُفْرِهِ وَلَا يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ . وَلِهَذَا وَافَقُوا السَّلَفَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . ثُمَّ قَالُوا : إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ هَذَا فِي الْقَدِيمِ أَهُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ ؟ أَمْ حُرُوفٌ قَدِيمَةٌ مَعَ تَعَاقُبِهَا ؟ كَمَا بُسِطَتْ أَقْوَالُهُمْ وَأَقْوَالُ غَيْرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْمُتَأَخِّرَةُ تُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ : قَطْعًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ مَعَ غُلُوِّهِمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى صَارَ هَذَا اللَّفْظُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ وَإِنْ قَطَعُوا بِالْمَعْنَى فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَلَا يَقُولُونَ : قَطْعًا . وَقَدْ اجْتَمَعَ بِي طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ؛ وَامْتَنَعَتْ مِنْ فِعْلِ مَطْلُوبِهِمْ حَتَّى يَقُولُوا : قَطْعًا وَأَحْضَرُوا لِي كِتَابًا فِيهِ أَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : قَطْعًا وَهِيَ أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ مُخْتَلَقَةٌ قَدْ افْتَرَاهَا بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ " الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْإِيمَانِ " لَمَّا عُلِّلَ بِمِثْلِ تِلْكَ الْعِلَّةِ طَرَدَ أَقْوَامٌ تِلْكَ الْعِلَّةَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَوْجُودَةَ الْآنَ إذَا كَانَتْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَتَبَدَّلُ أَحْوَالُهَا ؛ فَيُسْتَثْنَى فِي صِفَاتِهَا الْمَوْجُودَةِ فِي الْحَالِ وَيُقَالُ : هَذَا صَغِيرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَجْعَلُهُ كَبِيرًا وَيُقَالُ : هَذَا مَجْنُونٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ يَجْعَلُهُ عَاقِلًا وَيُقَالُ لِلْمُرْتَدِّ :
هَذَا كَافِرٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتُوبَ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَثْنَوْا فِي الْإِيمَانِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ ظَنُّوا هَذَا قَوْلَ السَّلَفِ . وَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَنْصُرُونَ مَا ظَهَرَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ فَيَنْصُرُونَ إثْبَاتَ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَيَنْصُرُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا يَنْصُرُ ذَلِكَ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ يَنْصُرُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ لَا يَكْفُرُونَ بِالذَّنْبِ وَلَا يَخْلُدُونَ فِي النَّارِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّ فِتْنَةَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَعَذَابَ الْقَبْرِ حَقٌّ وَحَوْضَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآخِرَةِ حَقٌّ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي شَاعَ أَنَّهَا مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . كَمَا يَنْصُرُونَ خِلَافَةَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَفَضِيلَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا يَنْصُرُهُ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِحَقِيقَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ وَلَا مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَلَا مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ . فَيَنْصُرُ مَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِمْ بِغَيْرِ الْمَآخِذِ الَّتِي كَانَتْ مَآخِذَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ بِمَآخِذَ أُخَرَ قَدْ تَلَقَّوْهَا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فَيَقَعُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ مِنْ التَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ وَالْخَطَأِ مَا ذَمَّ بِهِ السَّلَفُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي ذَمِّ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ كَثِيرٌ . وَالْكَلَامُ الْمَذْمُومُ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَا خَالَفَ
الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكَذِبٌ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } . فَهَؤُلَاءِ لَمَّا اُشْتُهِرَ عِنْدَهُمْ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ وَرَأَوْا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ إلَّا إذَا جُعِلَ الْإِيمَانُ هُوَ مَا يَمُوتُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ عِنْدَ السَّلَفِ هُوَ هَذَا ؛ فَصَارُوا يَحْكُونَ هَذَا عَنْ السَّلَفِ ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ ؛ وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ حَكَوْهُ عَنْهُمْ بِحَسَبِ ظَنِّهِمْ : لِمَا رَأَوْا أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا يَتَوَجَّهُ إلَّا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا نَصَرُوهُ مِنْ أَصْلِ جَهْمٍ فِي الْإِيمَانِ هُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ وَالنُّظَّارِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . وَمِثْلُ هَذَا يُوجَدُ كَثِيرًا فِي مَذَاهِبِ السَّلَفِ الَّتِي خَالَفَهَا بَعْضُ النُّظَّارِ وَأَظْهَرَ حُجَّتَهُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَةَ قَوْلِ السَّلَفِ ؛ فَيَقُولُ مَنْ عَرَفَ حُجَّةَ هَؤُلَاءِ دُونَ السَّلَفِ أَوْ مَنْ يُعَظِّمُهُمْ لِمَا يَرَاهُ مِنْ تَمَيُّزِهِمْ عَلَيْهِ : هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ . وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ . وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ الْمُخَالَفَةِ لِلْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ ؛ وَهَذَا كَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُبْتَدِعِينَ وَبَعْضِ الْمُلْحِدِينَ وَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَإِيمَانًا ؛ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ التَّحْقِيقِ إلَّا مَا هُوَ دُونَ تَحْقِيقِ السَّلَفِ لَا فِي الْعِلْمِ وَلَا فِي الْعَمَلِ وَمَنْ كَانَ لَهُ خِبْرَةٌ بِالنَّظَرِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وبالعمليات عَلِمَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابَةِ دَائِمًا أَرْجَحُ مِنْ قَوْل مَنْ بَعْدَهُمْ وَأَنَّهُ لَا يَبْتَدِعُ أَحَدٌ قَوْلًا فِي الْإِسْلَامِ إلَّا كَانَ خَطَأً وَكَانَ الصَّوَابُ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ مِنْ قَبْلِهِ .
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ فِيمَا حَكَاهُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي الْحَسَنِ وَأَصْحَابِهِ فِي الْإِيمَانِ وَصَحَّحَ أَنَّهُ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ قَالَ : وَمِنْ أَصْحَابِنَا ؛ مَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ وَشَرْطٌ فِي الْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ أَنْ يُوَافِيَ رَبَّهُ بِهِ وَيَخْتِمَ عَلَيْهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ فِي الْحَالِ . قَالَ الْأَنْصَارِيُّ : لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مُعْظَمَ أَئِمَّةِ السَّلَفِ كَانُوا يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ قَالَ : الْأَكْثَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْمُوَافَاةِ . وَمَنْ قَالَ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّمَا يَقُولُهُ فِيمَنْ لَمْ يُرِدْ الْخَبَرَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَأَمَّا مَنْ وَرَدَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ عَلَى إيمَانِهِ كَالْعَشَرَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ . ثُمَّ قَالَ : وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ ؛ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَقْوَالِهِمْ فِي الْمُوَافَاةِ ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ فِي الْحَالِ وَكَوْنُهُ مُعْتَدًّا عِنْدَ اللَّهِ بِهِ وَفِي حُكْمِهِ فَمَنْ قَالَ : إنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ فِيهِ يُسْتَثْنَوْنَ فِي الْإِطْلَاقِ فِي الْحَالِ ؛ لَا أَنَّهُمْ يَشُكُّونَ فِي حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعْرِفَةِ ؛ لَكِنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَا يَدْرِي أَيَّ الْإِيمَانِ الَّذِي نَحْنُ مَوْصُوفُونَ بِهِ فِي الْحَالِ هَلْ هُوَ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ ؟ عَلَى مَعْنَى أَنَّا نَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْعَاقِبَةِ وَنَجْتَنِي مِنْ ثِمَارِهِ . فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : أَمُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ حَقًّا ؟ أو تَقُولُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ أو تَقُولُونَ نَرْجُو ؟ فَيَقُولُونَ نَحْنُ مُؤْمِنُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَعْنُونَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ فِي الْعَاقِبَةِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ إيمَانًا مُعْتَدًّا بِهِ فِي حُكْمِ
اللَّهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَمَ الْفَوْزِ وَآيَةَ النَّجَاةِ وَإِذَا كَانَ صَاحِبُهُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فِي حُكْمِ اللَّهِ مِنْ الْأَشْقِيَاءِ يَكُونُ إيمَانُهُ الَّذِي تَحَلَّى بِهِ فِي الْحَالِ عَارِيَةً . قَالَ : وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الصَّائِرِينَ إلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ : أَنَا مُؤْمِنٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَطْعًا ؛ وَبَيْنَ أَنْ يَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا . قُلْت : هَذَا إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْإِيمَانَ مُتَنَاوَلًا لِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ فَمَنْ مَاتَ عَلَى هَذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُرْجِئَةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَصَرُوا قَوْلَ جَهْمٍ ؛ فَإِنَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْإِيمَانِ قَطْعًا وَيَكُونُ كَامِلَ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ مَعَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَلَا يَلْزَمُ إذَا وَافَى بِالْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ . وَهَذَا اللَّازِمُ لِقَوْلِهِمْ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ . وَكَذَلِكَ قَالُوا : لَا سِيَّمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ } الْآيَةَ . قَالَ : فَهَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ جَعَلُوا الثَّبَاتَ عَلَى هَذَا التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانَ الَّذِي وَصَفْنَاهُ إلَى الْعَاقِبَةِ وَالْوَفَاءَ بِهِ فِي الْمَآلِ شَرْطًا فِي الْإِيمَانِ شَرْعًا لَا لُغَةً وَلَا عَقْلًا . قَالَ : وَهَذَا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَكْثَرِينَ ؛ قَالَ : وَهُوَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فورك ؛ وَكَانَ الْإِمَامُ مُحَمَّدُ ابْنُ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة يَغْلُو فِيهِ وَكَانَ يَقُولُ : مَنْ قَالَ : أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا فَهُوَ مُبْتَدِعٌ .
وَأَمَّا مَذْهَبُ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ
وَابْنِ عُيَيْنَة وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ فِيمَا يَرْوِيه عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَكَانُوا يَسْتَثْنُونَ فِي الْإِيمَانِ . وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ لَكِنْ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : أَنَا أَسْتَثْنِي لِأَجْلِ الْمُوَافَاةِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا هُوَ اسْمٌ لِمَا يُوَافِي بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ ؛ بَلْ صَرَّحَ أَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا هُوَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْوَاجِبَاتِ فَلَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ كَمَا لَا يَشْهَدُونَ لَهَا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ وَهُوَ تَزْكِيَةٌ لِأَنْفُسِهِمْ بِلَا عِلْمٍ ؛ كَمَا سَنَذْكُرُ أَقْوَالَهُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا الْمُوَافَاةُ ؛ فَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ السَّلَفِ عَلَّلَ بِهَا الِاسْتِثْنَاءَ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يُعَلِّلُ بِهَا مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ ؛ كَمَا يُعَلِّلُ بِهَا نُظَّارُهُمْ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ سَلَفِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ . ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْإِيمَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ مَا وَصَفْتُمُوهُ بِشَرَائِطِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مُتَلَقًّى مِنْ اللُّغَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُكُمْ إنَّ الْإِيمَانَ لُغَوِيٌّ ؟ قُلْنَا الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ لُغَةً وَشَرْعًا غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَى التَّصْدِيقِ أَوْصَافًا وَشَرَائِطَ : مَجْمُوعُهَا يَصِيرُ مَجْزِيًّا مَقْبُولًا كَمَا قُلْنَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَنَحْوِهَا وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ : هِيَ الدُّعَاءُ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَيْهَا شَرَائِطَ . فَيُقَالُ : هَذَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرُوهُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ التَّصْدِيقُ وَالشَّرْعُ لَمْ يُغَيِّرْهُ أَوْرَدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ الصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالزَّكَاةُ مَعْدُولَةً عَنْ اللُّغَةِ مُسْتَعْمَلَةً فِي غَيْرِ مَذْهَبِ أَهْلِهَا . قُلْنَا : قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مُقَرَّرَةٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَمُبْقَاةٌ عَلَى مُقْتَضَيَاتِهَا وَلَيْسَتْ مَنْقُولَةً إلَّا أَنَّهَا زِيدَ فِيهَا أُمُورٌ . فَلَوْ سَلَّمْنَا لِلْخَصْمِ كَوْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَنْقُولَةً أَوْ مَحْمُولَةً عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْمَجَازِ بِدَلِيلِ مَقْطُوعٍ بِهِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ . فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إزَالَةُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ بِسَبَبِ إزَالَةِ ظَاهِرٍ مِنْهَا . فَيُقَالُ : أَنْتُمْ فِي الْإِيمَانِ جَعَلْتُمْ الشَّرْعَ زَادَ فِيهِ وَجَعَلْتُمُوهُ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا مِنْ الشَّرْعِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُسَمَّى بِهِ إلَّا الْمُوَافَاةُ بِهِ وَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ دَلَالَةَ الشَّرْعِ عَلَى ضَمِّ الْأَعْمَالِ إلَيْهِ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ فَكَيْفَ لَمْ تَدْخُلْ الْأَعْمَالُ فِي مُسَمَّاهُ شَرْعًا ؟ وَقَوْلُهُ : لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ عَنْهُ جَوَابَانِ :
أَحَدُهُمَا : النَّقْضُ بِالْمُوَافَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ فِيهِ . ( الثَّانِي : لَا نُسَلِّمُ بَلْ نَحْنُ نَقْطَعُ بِأَنَّ حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةَ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِمَّا نَقْطَعُ بِبَعْضِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ كَمَسَائِلِ النِّزَاعِ . ثُمَّ أَبُو الْحَسَنِ وَابْنُ فورك وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْقَائِلِينَ بِالْمُوَافَاةِ هُمْ لَا يَجْعَلُونَ الشَّرْعَ ضَمَّ إلَيْهِ شَيْئًا بَلْ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَنْ سَلَبَهُ الشَّرْعُ اسْمَ الْإِيمَانِ فَقَدْ فَقَدَ مِنْ قَلْبِهِ التَّصْدِيقَ . قَالَ : وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْمُوَافَاةَ عَلَى الْإِيمَانِ شَرْطًا فِي كَوْنِهِ إيمَانًا
حَقِيقِيًّا فِي الْحَالِ وَإِنْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ والكَرَّامِيَة وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إسْحَاقَ الإسفراييني وَكَلَامُ الْقَاضِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قَالَ : وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا أَبِي الْمَعَالِي ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : الْإِيمَانُ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ قَطْعًا لَا شَكَّ فِيهِ وَلَكِنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ عَلَمُ الْفَوْزِ وَآيَةُ النَّجَاةِ إيمَانُ الْمُوَافَاةِ . فَاعْتَنَى السَّلَفُ بِهِ وَقَرَنُوهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَلَمْ يَقْصِدُوا الشَّكَّ فِي الْإِيمَانِ النَّاجِزِ . قَالَ : وَمَنْ صَارَ إلَى هَذَا يَقُولُ : الْإِيمَانُ صِفَةٌ يُشْتَقُّ مِنْهَا اسْمُ الْمُؤْمِنِ وَهُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالتَّصْدِيقُ ؛ كَمَا أَنَّ الْعَالِمَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعِلْمِ فَإِذَا عَرَفْت ذَلِكَ مِنْ نَفْسِي قَطَعْت بِهِ كَمَا قَطَعْت بِأَنِّي عَالِمٌ وَعَارِفٌ وَمُصَدِّقٌ فَإِنْ وَرَدَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا يُزِيلُهُ خَرَجَ إذْ ذَاكَ عَنْ اسْتِحْقَاقِ هَذَا الْوَصْفِ . وَلَا يُقَالُ : تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ إيمَانًا مَأْمُورًا بِهِ بَلْ كَانَ إيمَانًا مَجْزِيًّا فَتَغَيَّرَ وَبَطَلَ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَوْلُهُ : أَنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَغِيبٌ عَنْهُ وَهُوَ مَرْجُوٌّ . قَالَ : وَمَنْ صَارَ إلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَتَمَسَّكُ بِأَشْيَاءَ . مِنْهَا أَنْ يُقَالَ : الْإِيمَانُ عِبَادَةُ الْعُمْرِ وَهُوَ كَطَاعَةِ وَاحِدَةٍ فَيَتَوَقَّفُ صِحَّةُ أَوَّلِهَا عَلَى سَلَامَةِ آخِرِهَا . كَمَا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ . قَالُوا : وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي الْحَالِ وَلِيًّا وَلَا سَعِيدًا وَلَا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا يُسَمَّى فِي الْحَالِ عَدُوًّا لِلَّهِ وَلَا شَقِيًّا إلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْأَعْدَاءِ فِي الْحَالِ لِإِظْهَارِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَامَتَهُمْ . قُلْت : هَذَا الَّذِي قَالُوهُ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ
وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَأَمَّا أَكْثَرُ النَّاسِ فَيَقُولُونَ : بَلْ هُوَ إذَا كَانَ كَافِرًا فَهُوَ عَدُوٌّ لِلَّهِ ثُمَّ إذَا آمَنَ وَاتَّقَى صَارَ وَلِيًّا لِلَّهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ } إلَى قَوْلِهِ : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَكَذَلِكَ كَانَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلُ مَكَّةَ الَّذِينَ كَانُوا يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ آمَنَ أَكْثَرُهُمْ وَصَارُوا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَابْنُ كُلَّابٍ وَأَتْبَاعُهُ بَنَوْا ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ لِذَاتِ اللَّهِ وَهِيَ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَا وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَمَعْنَاهَا إرَادَةُ إثَابَتِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ وَهَذَا الْمَعْنَى تَابِعٌ لِعِلْمِ اللَّهِ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا لَمْ يَزَلْ وَلِيًّا لِلَّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُرِيدًا لِإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ وَكَذَلِكَ الْعَدَاوَةُ . وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ : الْوِلَايَةُ وَالْعَدَاوَةُ وَإِنْ تَضَمَّنَتْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَبُغْضَهُ وَسُخْطَهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَرْضَى عَنْ الْإِنْسَانِ وَيُحِبُّهُ بَعْدَ أَنْ يُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا ؛ وَإِنَّمَا يَسْخَطُ عَلَيْهِ وَيَغْضَبُ بَعْدَ أَنْ يَكْفُرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَسْخَطَتْهُ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : أَغْضَبُونَا وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ ؛ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ؛ فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي
يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَبْطِشُ وَبِي يَمْشِي ؛ وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ : لَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى يُحِبَّهُ ثُمَّ قَالَ : فَإِذَا أَحْبَبْته : كُنْت كَذَا وَكَذَا . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ حُبَّهُ لِعَبْدِهِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ أَنْ يَأْتِيَ بِمُحَابِّهِ . وَالْقُرْآنُ قَدْ دَلَّ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } فَقَوْلُهُ : ( يُحْبِبْكُمْ جَوَابُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : فَاتَّبِعُونِي وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجَزَاءِ مَعَ الشَّرْطِ وَلِهَذَا جُزِمَ وَهَذَا ثَوَابُ عَمَلِهِمْ وَهُوَ اتِّبَاعُ الرَّسُولِ فَأَثَابَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ أَحَبَّهُمْ ؛ وَجَزَاءُ الشَّرْطِ وَثَوَابُ الْعَمَلِ وَمُسَبِّبُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَهُ لَا قَبْلَهُ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وقَوْله تَعَالَى { اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وَقَوْلُهُ : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } وَكَانُوا قَدْ سَأَلُوهُ : لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ . وَقَوْلُهُ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذْ