الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
و " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " لِلْأَمْرِ بِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يَذْكُرُ بَعْضَ الْأَذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ . وَالْأَقْوَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ التَّسْبِيحُ إمَّا بِلَفْظِ " سُبْحَانَ " وَإِمَّا بِلَفْظِ " سُبْحَانَك " وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ سَمَّاهَا " تَسْبِيحًا " فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ التَّسْبِيحِ فِيهَا وَقَدْ بَيَّنَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ كَمَا سَمَّاهَا اللَّهُ " قُرْآنًا " وَقَدْ بَيَّنَتْ السُّنَّةُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ الْقِيَامُ . وَسَمَّاهَا " قِيَامًا " و " سُجُودًا " و " رُكُوعًا " وَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ عِلَّةَ ذَلِكَ وَمَحَلَّهُ . وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحُ يُسَبِّحُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَقَدْ نُقِلَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ و سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ؛ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ؛ و سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } . وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ أَبِي دَاوُد { سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ } وَفِي اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ } وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ { سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوت وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ } . فَهَذِهِ كُلُّهَا تَسْبِيحَاتٌ .
وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى ذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى وَالْعَظِيمِ " فَلَهُ وَجْهٌ وَإِنْ كَانَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى جِنْسِ التَّسْبِيحِ فَلَا وَجْهَ لَهُ وَأَظُنُّهُ الْأَوَّلَ . وَكَذَلِكَ الْمَنْقُولُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ كَرَاهَةُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى " سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ " لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهَا فَرْضٌ ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَالِكًا أَنْكَرُ أَنْ تَكُونَ فَرْضًا وَاجِبًا . وَهَذَا قَوِيٌّ ظَاهِرٌ بِخِلَافِ جِنْسِ التَّسْبِيحِ فَإِنَّ أَدِلَّةَ وُجُوبِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى التَّسْبِيحِ بِأَلْفَاظِ مُتَنَوِّعَةٍ . وَقَوْلُهُ " اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَفِي سُجُودِكُمْ " يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا مَحَلٌّ لِامْتِثَالِ هَذَا الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُقَالُ إلَّا هِيَ مَعَ مَا قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ غَيْرَهَا . وَالْجَمْعُ بَيْنَ صِيغَتَيْ تَسْبِيحٍ بَعِيدٍ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالدُّعَاءِ . فَإِنَّ هَذِهِ أَنْوَاعٌ وَالتَّسْبِيحَ نَوْعٌ وَاحِدٌ فَلَا يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ صِيغَتَيْنِ . وَأَيْضًا قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ
أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا . فَإِنْ جُعِلَ التَّسْبِيحُ نَوْعًا وَاحِدًا ف " سُبْحَانَ اللَّهِ " و " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " سَوَاءٌ وَإِنْ جُعِلَ مُتَفَاضِلًا ف " سُبْحَانَ اللَّهِ " أَفْضَلُ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } و { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } أَمْرٌ بِتَسْبِيحِ رَبِّهِ لَيْسَ أَمْرًا بِصِيغَةِ مُعَيَّنَةٍ . فَإِذَا قَالَ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ " " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك " فَقَدْ سَبَّحَ رَبَّهُ الْأَعْلَى وَالْعَظِيمَ . فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَظِيمُ وَاسْمُهُ " اللَّهُ " يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّن وَإِنْ كَانَ التَّصْرِيحُ بِالْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ لَيْسَ هُوَ فِيهِ . فَفِي اسْمِهِ " اللَّهُ " التَّصْرِيحُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَاسْمُهُ " اللَّهُ " أَعْظَمَ مِنْ اسْمِهِ " الرَّبُّ " . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } . فَالْقِيَامُ فِيهِ التَّحْمِيدُ وَفِي الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَفِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ التَّسْبِيحُ وَفِي الِانْتِقَالِ التَّكْبِيرُ وَفِي الْقُعُودِ التَّشَهُّدُ وَفِيهِ التَّوْحِيدُ . فَصَارَتْ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ فِي الصَّلَاةِ .
وَالْفَاتِحَةِ أَيْضًا فِيهَا التَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ . فَالتَّحْمِيدُ وَالتَّوْحِيدُ رُكْنٌ يَجِبُ فِي الْقِرَاءَةِ ؛ وَالتَّكْبِيرُ رُكْنٌ فِي الِافْتِتَاحِ ؛ وَالتَّشَهُّدُ الْآخِرُ رُكْنٌ فِي الْقُعُودِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفِيهِ التَّشَهُّدُ الْمُتَضَمِّنُ لِلتَّوْحِيدِ . يَبْقَى التَّسْبِيحُ وَأَحْمَد يُوجِبُهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رُكْنٌ وَهُوَ قَوِيٌّ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ . فَكَيْفَ يُوجِبُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجِئْ أَمْرٌ بِهَا فِي الصَّلَاةِ خُصُوصًا وَلَا يُوجِبُ التَّسْبِيحَ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَمَعَ كَوْنِ الصَّلَاةِ تُسَمَّى " تَسْبِيحًا " ؟ وَكُلُّ مَا سُمِّيَتْ بِهِ الصَّلَاة مِنْ أَبْعَاضِهَا فَهُوَ رَكْنٌ فِيهَا كَمَا سُمِّيَتْ " قِيَامًا " و " رُكُوعًا " و " سُجُودًا " " وَقِرَاءَةً " وَسُمِّيَتْ أَيْضًا " تَسْبِيحًا " . وَلَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْفِي وُجُوبَهُ فِي حَالِ السَّهْوِ كَمَا وَرَدَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمَّا تَرَكَهُ سَجَدَ لِلسَّهْوِ ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : لَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ قَدْ خُصَّ بِهِ حَالُ الِانْخِفَاضِ كَمَا خُصَّ حَالُ الِارْتِفَاعِ بِالتَّكْبِيرِ . فَذَكَّرَ الْعَبْدَ فِي حَالِ انْخِفَاضِهِ وَذُلِّهِ مَا يَتَّصِفُ بِهِ
الرَّبُّ مُقَابِلَ ذَلِكَ . فَيَقُولُ فِي السُّجُودِ " سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى " وَفِي الرُّكُوعِ " سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ " .
و " الْأَعْلَى " يَجْمَعُ مَعَانِي الْعُلُوِّ جَمِيعهَا وَأَنَّهُ الْأَعْلَى بِجَمِيعِ مَعَانِي الْعُلُوِّ . وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ عَلَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَاهِرٌ لَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ مُتَصَرِّفٌ فِيهِ كَمَا قَالَ : { إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } وَعَلَا أَنَّهُ عَالٍ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ فَهُوَ عَالٍ عَنْ ذَلِكَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إنَاثًا إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا } { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إلَّا نُفُورًا } { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } فَقَرَنَ تَعَالِيَهُ عَنْ ذَلِكَ بِالتَّسْبِيحِ . وَقَالَ تَعَالَى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَتْ الْجِنُّ : { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا } .
وَفِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ اسْتِفْتَاحِهِ : { تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك } فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الْمُبْطِلُونَ وَعَمَّا يُشْرِكُونَ . فَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ كَمَا أَنَّهُ مُسَبَّحٌ عَنْ ذَلِكَ . وَتَعَالِيهِ سُبْحَانَهُ عَنْ الشَّرِيكِ هُوَ تَعَالِيهِ عَنْ السَّمِيِّ وَالنِّدِّ وَالْمِثْلِ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِثْلَهُ . وَقَدْ ذَكَرُوا مِنْ مَعَانِي الْعُلُوِّ الْفَضِيلَةَ كَمَا يُقَالُ : الذَّهَبُ أَعْلَى مِنْ الْفِضَّةِ . وَنَفْيُ الْمِثْلِ عَنْهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا شَيْءَ مِثْلَهُ . وَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ أَفْضَلُ وَخَيْرٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ . وَفِي الْقُرْآنِ : { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ } . وَيَقُولُ : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } وَيَقُولُ : { أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى } وَقَالَتْ السَّحَرَةُ : { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَعْبُودِينَ دُونَهُ لَيْسُوا مِثْلَهُ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إلَّا ظَنًّا إنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ
وَأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ . وَيُبَيِّنُ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَانْتِفَائِهَا عَمَّا يُعْبَدُ مِنْ دُونِهِ . وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ يَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَعَمَّا يَقُولُونَ مِنْ إثْبَاتِ الْأَوْلَادِ وَالشُّرَكَاءِ لَهُ . وَقَالَ : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } وَهْم كَانُوا يَقُولُونَ إنَّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ وَيَتَقَرَّبُونَ بِهِمْ . لَكِنْ كَانُوا يُثْبِتُونَ الشَّفَاعَةَ بِدُونِ إذْنِهِ فَيَجْعَلُونَ الْمَخْلُوقَ يَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ . فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } فَالشَّفَاعَةُ لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ غَيْرَ اللَّهِ . كَمَا رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ السدي فِي قَوْلِهِ : { إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } يَقُولُ : لَابْتَغَتْ الْحَوَائِجُ مِنْ اللَّهِ . وَعَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قتادة : { لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } لَابْتَغَوْا التَّقَرُّبَ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ . وَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة : { لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ } يَقُولُ : لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ إذًا لَعَرَفُوا لَهُ فَضْلَهُ وَمَزِيَّتَهُ عَلَيْهِمْ وَلَابْتَغَوْا إلَيْهِ مَا يُقَرِّبُهُمْ إلَيْهِ . وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ : لَتَعَاطَوْا سُلْطَانَهُ . وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الهذلي عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : سَبِيلًا إلَى أَنْ يُزِيلُوا مُلْكَهُ والهذلي ضَعِيفٌ .
فَقَدْ تَضَمَّنَ الْعُلُوَّ الَّذِي يَنْعَتُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ مُتَعَالٍ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . وَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ . وَأَنَّهُ لَا يُمَاثِلُهُ غَيْرُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ بَلْ هُوَ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يُمَاثِلَهُ شَيْءٌ . وَتَضَمَّنَ أَنَّهُ عَالٍ عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ قَاهِرٌ لَهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ نَافِذَةٌ مَشِيئَتُهُ فِيهِ وَأَنَّهُ عَالٍ عَلَى الْجَمِيعِ فَوْقَ عَرْشِهِ . فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٌ فِي اسْمِهِ " الْعَلِيِّ " . وَإِثْبَاتُ عُلُوِّهِ عُلُوُّهُ عَلَى مَا سِوَاهُ وَقُدْرَتُهُ عَلَيْهِ وَقَهْرُهُ يَقْتَضِي رُبُوبِيَّتَهُ لَهُ وَخَلْقَهُ لَهُ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْكَمَالِ . وَعُلُوُّهُ عَنْ الْأَمْثَالِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ . وَهَذَا وَهَذَا يَقْتَضِي جَمِيعَ مَا يُوصَفُ بِهِ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ . فَفِي الْإِثْبَاتِ يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَفِي النَّفْيِ يُنَزَّهُ عَنْ النَّقْصِ الْمُنَاقِضِ لِلْكَمَالِ وَيُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ . كَمَا قَدْ دَلَّتْ عَلَى هَذَا وَهَذَا سُورَةُ الْإِخْلَاصِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } . وَتَعَالِيهِ عَنْ الشُّرَكَاءِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ
الْعِبَادَةَ إلَّا هُوَ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ : { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } أَيْ وَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولُونَ يَشْفَعُونَ عِنْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَيُقَرِّبُونَكُمْ إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ الرَّبُّ وَالْإِلَهُ دُونَهُمْ وَكَانُوا يَبْتَغُونَ إلَيْهِ سَبِيلًا بِالْعِبَادَةِ لَهُ وَالتَّقَرُّبِ إلَيْهِ . هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ . كَمَا قَالَ : { إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلَى رَبِّهِ سَبِيلًا } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ { إنَّهُ تَذْكِرَةٌ } { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } وَقَالَ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } ثُمَّ قَالَ : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } فَتَعَالَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إلَهٌ غَيْرُهُ أَوْ أَحَدٌ يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ أَوْ يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي كَانُوا يَقُولُونَ . وَلَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ إنَّ آلِهَتَهُمْ تَقْدِرُ أَنْ تُمَانَعَهُ أَوْ تُغَالِبَهُ . بَلْ هَذَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ إلَهٍ آخَرَ يَخْلُقُ كَمَا يَخْلُقُ وَإِنْ كَانُوا هُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ كَمَا قَالَ : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَهُ " الْأَعْلَى " يَتَضَمَّنُ اتِّصَافَهُ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَتَنْزِيهَهُ عَمَّا يُنَافِيهَا مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَعَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ .
فَصْلٌ :
وَالْأَمْرُ بِتَسْبِيحِهِ يَقْتَضِي أَيْضًا تَنْزِيهَهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَسُوءٍ وَإِثْبَاتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ . فَإِنَّ التَّسْبِيحَ يَقْتَضِي التَّنْزِيهَ وَالتَّعْظِيمَ وَالتَّعْظِيمَ يَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ الْمَحَامِدِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا . فَيَقْتَضِي ذَلِكَ تَنْزِيهَهُ وَتَحْمِيدَهُ وَتَكْبِيرَهُ وَتَوْحِيدَهُ . قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا أَبِي ثَنَا ابْنُ نفيل الْحَرَّانِي ثَنَا النَّضْرُ ابْنُ عَرَبِيٍّ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ مَيْمُونَ بْنَ مهران عَنْ " سُبْحَانَ اللَّهِ " . فَقَالَ : " اسْمٌ يُعَظَّمُ اللَّهُ بِهِ وَيُحَاشَى بِهِ مِنْ السُّوءِ " . وَقَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ " سُبْحَانَ " قَالَ : تَنْزِيهُ اللَّهِ نَفْسِهِ مِنْ السُّوءِ . وَعَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } قَالَ عَجَبٌ . وَعَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : " سُبْحَانَ " اسْمٌ لَا يَسْتَطِيعُ النَّاسُ أَنْ يَنْتَحِلُوهُ . وَقَدْ جَاءَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّهُ
تَنْزِيهُ نَفْسِهِ مِنْ السُّوءِ " وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ وَهُوَ يَقْتَضِي تَنْزِيهَ نَفْسِهِ مِنْ فِعْلِ السَّيِّئَاتِ كَمَا يَقْتَضِي تَنْزِيهَهُ عَنْ الصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ . وَنَفْيُ النَّقَائِصِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَفِيهَا التَّعْظِيمُ كَمَا قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مهران " اسْمٌ يُعَظَّمُ اللَّهُ بِهِ وَيُحَاشَى بِهِ مِنْ السُّوءِ " . وَرَوَى عَبْدُ بْنُ حميد : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ موهب عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ : { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّسْبِيحِ فَقَالَ : إنزاهه عَنْ السُّوءِ } . وَقَالَ حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مخلد عَنْ شَبِيبٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " سُبْحَانَ اللَّهِ " قَالَ : تَنْزِيهُهُ . حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانٍ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " نَعْرِفُهَا أَنَّهُ لَا إلَهَ غَيْرُهُ و " الْحَمْدُ لِلَّهِ " نَعْرِفُهَا أَنَّ النِّعَمَ كُلَّهَا مِنْهُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهَا و " اللَّهُ أَكْبَرُ " نَعْرِفُهَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ أَكْبَرَ مِنْهُ فَمَا " سُبْحَانَ اللَّهِ " ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَمَا يُنْكَرُ مِنْهَا ؟ هِيَ كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَأَمَرَ بِهَا مَلَائِكَتَهُ وَفَزِعَ إلَيْهَا الْأَخْيَارُ مِنْ خَلْقِهِ .
فَصْلٌ :
قَوْلُهُ : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } الْعَطْفُ يَقْتَضِي اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيمَا ذَكَرَ وَأَنَّ بَيْنَهُمَا مُغَايِرَةٌ إمَّا فِي الذَّاتِ وَإِمَّا فِي الصِّفَاتِ . وَهُوَ فِي الذَّاتِ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } . وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ فَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ . فَإِنَّ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى هُوَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ؛ لَكِنَّ هَذَا الِاسْمَ وَالصِّفَةَ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ الِاسْمُ وَالصِّفَةُ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } إلَى قَوْلِهِ { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } . وَقَوْلُهُ : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَقَوْلُهُ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } وَقَوْلُهُ : { إلَّا الْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ }
{ وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } الْآيَاتِ . وَقَوْلُهُ : { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } الْآيَاتِ فَإِنَّهُ مَنْ صَدَقَ وصَبَرَ وَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يُؤْمِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا . وَكَثِيرًا مَا تَأْتِي الصِّفَاتُ بِلَا عَطْفٍ كَقَوْلِهِ : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ } وَقَوْلُهُ : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } { مَلِكِ النَّاسِ } { إلَهِ النَّاسِ } . وَقَدْ تَجِيءُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ كَقَوْلِهِ : { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } . وَلَوْ كَانَ " فَعَّالٌ " صِفَةً لَكَانَ مُعَرَّفًا بَلْ هُوَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ . وَقَوْلُهُ : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ } خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ لَكِنْ بِالْعَطْفِ بِكُلِّ مِنْ الصِّفَاتِ . وَأَخْبَارُ الْمُبْتَدَأِ قَدْ تَجِيءُ بِعَطْفِ وَبِغَيْرِ عَطْفٍ . وَإِذَا ذُكِرَ بِالْعَطْفِ كَانَ كُلُّ اسْمٍ مُسْتَقِلًّا بِالذِّكْرِ وَبِلَا عِطْفٍ يَكُونُ الثَّانِي مِنْ تَمَامِ الْأَوَّلِ بِمَعْنَى . وَمَعَ الْعَطْفِ لَا تَكُونُ الصِّفَاتُ إلَّا لِلْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ أَوْ لِلْمَدْحِ وَأَمَّا بِلَا عَطْفٍ فَهُوَ فِي النَّكِرَاتِ لِلتَّمْيِيزِ وَفِي الْمَعَارِفِ قَدْ يَكُونُ لِلتَّوْضِيحِ .
{ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } وُصِفَ بِكُلِّ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَمُدِحَ بِهَا وَأُثْنِيَ عَلَيْهِ بِهَا . وَكَانَتْ كُلُّ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُسْتَوْجِبَةً لِذَلِكَ .
فَصْلٌ :
قَالَ تَعَالَى : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } . فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ وَالتَّسْوِيَةَ وَلَمْ يَخُصَّ بِذَلِكَ الْإِنْسَانَ كَمَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ بَعْدَ { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } لَمْ يُقَيِّدْهُ . فَكَانَ هَذَا الْمُطْلَقَ لَا يَمْنَعُ شُمُولَهُ لِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ . وَقَدْ بَيَّنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ شُمُولَهُ فِي قَوْلِهِ : { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُقَيَّدَ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَّلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْآيَاتِ مُطْلَقِهَا وَمُقَيَّدِهَا وَالْجَامِعِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ قَدْ ذَكَرَ خَلْقَهُ وَذَكَرَ هِدَايَتَهُ وَتَعْلِيمَهُ بَعْدَ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } .
لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ خُلِقَتْ لِغَايَةِ مَقْصُودَةٍ بِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ تُهْدَى إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ الَّتِي خُلِقَتْ لَهَا . فَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهَا وَمَا أُرِيدَتْ لَهُ إلَّا بِهِدَايَتِهَا لِغَايَاتِهَا . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْأَشْيَاءَ لِحِكْمَةِ وَغَايَةٍ تَصِلُ إلَيْهَا كَمَا قَالَ ذَلِكَ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ كَجَهْمِ وَأَتْبَاعِهِ إنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا لِشَيْءِ وَوَافَقَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ . وَهُمْ يُثْبِتُونَ أَنَّهُ مُرِيدٌ وَيُنْكِرُونَ أَنْ تَكُونَ لَهُ حِكْمَةٌ يُرِيدُهَا . وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ يُثْبِتُونَ عِنَايَتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَيُنْكِرُونَ إرَادَتَهُ . وَكِلَاهُمَا تَنَاقُضٌ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَنَّ مُنْتَهَاهُمْ جَحْدُ الْحَقَائِقِ . فَإِنَّ هَذَا يَقُولُ : " لَوْ كَانَ لَهُ حِكْمَةٌ يَفْعَلُ لِأَجْلِهَا لَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُرِيدَ الْحِكْمَةَ وَيَنْتَفِعَ بِهَا وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ " . وَذَاكَ يَقُولُ : " لَوْ كَانَ لَهُ إرَادَةٌ لَكَانَ يَفْعَلُ لِجَرِّ مَنْفَعَةٍ ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تُعْقَلُ إلَّا كَذَلِكَ " . وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ يَقُولُونَ : " لَوْ فَعَلَ شَيْئًا لَكَانَ الْفِعْلُ لِغَرَضِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ " .
فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ : هَذِهِ الْحَوَادِثُ الْمَشْهُودَةُ أَلَهَا مُحْدِثٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا " لَا " فَهُوَ غَايَةُ الْمُكَابَرَةِ . وَإِذَا جَوَّزُوا حُدُوثَ الْحَوَادِثِ بِلَا مُحْدِثٍ فَتَجْوِيزُهَا بِمُحْدِثِ لَا إرَادَةَ لَهُ أَوْلَى . وَإِنْ قَالُوا " لَهَا مُحْدِثٌ " ثَبَتَ الْفَاعِلُ . وَإِذَا ثَبَتَ الْخَالِقُ الْمُحْدِثُ فَإِمَّا أَنْ يَفْعَلَ بِإِرَادَةِ أَوْ بِغَيْرِ إرَادَةٍ . فَإِنْ قَالُوا " يَفْعَلُ بِغَيْرِ إرَادَةٍ " كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مُكَابَرَةٌ . فَإِنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا صَدَرَتْ عَنْ إرَادَةٍ . فَإِنَّ الْحَرَكَاتِ إمَّا طَبْعِيَّةٌ وَإِمَّا قَسْرِيَّةٌ وَإِمَّا إرَادِيَّةٌ . لِأَنَّ مَبْدَأَ الْحَرَكَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَحَرِّكِ أَوْ مِنْ سَبَبٍ خَارِجٍ . وَمَا كَانَ مِنْهَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الشُّعُورِ أَوْ بِدُونِ الشُّعُورِ . فَمَا كَانَ سَبَبُهُ مِنْ خَارِجٍ فَهُوَ الْقَسْرِيُّ وَمَا كَانَ سَبَبُهُ مِنْهَا بِلَا شُعُورٍ فَهُوَ الطَّبْعِيُّ وَمَا كَانَ مَعَ الشُّعُورِ فَهُوَ الْإِرَادِيُّ . فَالْقَسْرِيُّ تَابِعٌ لِلْقَاسِرِ وَاَلَّذِي يَتَحَرَّكُ بِطَبْعِهِ كَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالْأَرْضِ هُوَ سَاكِنٌ فِي مَرْكَزِهِ ؛ لَكِنْ إذَا خَرَجَ عَنْ مَرْكَزِهِ قَسْرًا طَلَب الْعَوْدَ إلَى مَرْكَزِهِ فَأَصْلُ حَرَكَتِهِ الْقَسْرُ . وَلَمْ تَبْقَ حَرَكَةٌ أَصْلِيَّةٌ إلَّا الْإِرَادِيَّةُ . فَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ فَهِيَ عَنْ إرَادَةٍ . فَكَيْفَ تَكُونُ جَمِيعُ الْحَوَادِثِ وَالْحَرَكَاتِ بِلَا إرَادَةٍ ؟ . وَأَيْضًا فَإِذَا جَوَّزُوا أَنْ تَحْدُثَ الْحَوَادِثُ الْعَظِيمَةُ عَنْ فَاعِلٍ غَيْرِ مُرِيدٍ فَجَوَازُ ذَلِكَ عَنْ فَاعِلٍ مُرِيدٍ أَوْلَى .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُرِيدٌ قِيلَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَهَا لِحِكْمَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَهَا لِغَيْرِ حِكْمَةٍ . فَإِنْ قَالُوا " لِغَيْرِ حِكْمَةٍ " كَانَ مُكَابَرَةً . فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تُعْقَلُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُرِيدُ قَدْ فَعَلَ لِحِكْمَةِ يَقْصِدُهَا بِالْفِعْلِ . وَأَيْضًا فَإِذَا جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُرِيدًا بِلَا حِكْمَةٍ فَكَوْنُهُ فَاعِلًا مُرِيدًا لِحِكْمَةِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : " هَذَا لَا يُعْقَلُ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ يَنْتَفِعُ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَاجَةَ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ " . فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ يُوجِبُ احْتِيَاجَهُ إلَى غَيْرِهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَبَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَهُوَ الصَّمَدُ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَهُوَ الْقَيُّومُ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْمُقِيمُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ . فَكَيْفَ يَكُونُ مُحْتَاجًا إلَى غَيْرِهِ ؟ وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّهُ تَحْصُلُ لَهُ بِالْخَلْقِ حِكْمَةٌ هِيَ أَيْضًا حَاصِلَةٌ بِمَشِيئَتِهِ فَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ بَلْ هُوَ الْحَقُّ . وَإِذَا قَالُوا " الْحِكْمَةُ هِيَ اللَّذَّةُ " قِيلَ : لَفْظُ " اللَّذَّةِ " لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ وَهُوَ مُوهِمٌ وَمُجْمَلٌ . لَكِنْ جَاءَ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ " يُحِبُّ " و " يَرْضَى "
و " يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ " وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِذَا أُرِيدَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ فَهُوَ حَقٌّ . وَإِنْ قَالُوا : " الْحِكْمَةَ إمَّا أَنْ تُرَادَ لِنَفْسِهَا أَوْ لِحِكْمَةِ " قِيلَ : الْمُرَادَاتُ نَوْعَانِ مَا يُرَادُ لِنَفْسِهِ وَمَا يُرَادُ لِغَيْرِهِ . وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ غَايَةً وَحِكْمَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى مَخْلُوقٍ وَهُوَ مَخْلُوقٌ لِحِكْمَةِ أُخْرَى . فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى حِكْمَةٍ يُرِيدُهَا الْفَاعِلُ لِذَاتِهَا . وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ تُثْبِتُ حِكْمَةً لَا تَعُودُ إلَى ذَاتِهِ . وَأَمَّا السَّلَفُ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ حِكْمَةً تَعُودُ إلَيْهِ كَمَا قَدْ بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ قَوْله تَعَالَى { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } . وَالتَّسْوِيَةُ : جَعْلُ الشَّيْئَيْنِ سَوَاءً كَمَا قَالَ : { وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } وقَوْله تَعَالَى { تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } و { سَوَاءٌ } وَسَطٌ لِأَنَّهُ مُعْتَدِلٌ بَيْنَ الْجَوَانِبِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ مِنْ الْعَدْلِ . فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ فَإِذَا فُضِّلَ أَحَدُهُمَا فَسَدَ الْمَصْنُوعُ كَمَا فِي مَصْنُوعَاتِ الْعِبَادِ إذَا بَنَوْا بُنْيَانًا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحِيطَانِ إذْ لَوْ رُفِعَ
حَائِطٌ عَلَى حَائِطٍ رَفْعًا كَثِيرًا فَسَدَ . وَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ جُذُوعِ السَّقْفِ فَلَوْ كَانَ بَعْضُ الْجُذُوعِ قَصِيرًا عَنْ الْغَايَةِ وَبَعْضُهَا فَوْقَ الْغَايَةِ فَسَدَ . وَكَذَلِكَ إذَا بُنِيَ صَفٌّ فَوْقَ صَفٍّ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الصُّفُوفِ وَكَذَلِكَ الدَّرَجُ الْمَبْنِيَّةُ . وَكَذَلِكَ إذَا صُنِعَ لِسَقْيِ الْمَاءِ جَدَاوِلُ وَمَسَاكِبُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ فِيهَا . وَكَذَلِكَ إذَا صُنِعَتْ مَلَابِسُ لِلْآدَمِيِّينَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً عَلَى أَبْدَانِهِمْ لَا تَزِيدُ وَلَا تَنْقُصُ . وَكَذَلِكَ مَا يُصْنَعُ مِنْ الطَّعَامِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ أَخْلَاطُهُ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِدَالِ وَالنَّارُ الَّتِي تَطْبُخُهُ كَذَلِكَ . وَكَذَلِكَ السُّفُنُ الْمَصْنُوعَةُ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ لدَاوُد : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } أَيْ لَا تَدُقَّ الْمِسْمَارَ فَيُقْلِقْ وَلَا تُغْلِظْهُ فَيُفْصَمْ وَاجْعَلْهُ بِقَدْرِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي مَصْنُوعَاتِ الْعِبَادِ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ مَصْنُوعَاتِ الرَّبِّ فَكَيْفَ بِمَخْلُوقَاتِهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي لَا صُنْعَ فِيهَا لِلْعِبَادِ كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَسَائِرِ الْبَهَائِمِ وَخَلْقِ النَّبَاتِ وَخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَلَائِكَةِ . فَالْفُلْكُ الَّذِي خَلَقَهُ وَجَعَلَهُ مُسْتَدِيرًا مَا لَهُ مِنْ فُرُوجٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ } { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } وَقَالَ :
{ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ سَوَّاهَا كَمَا سَوَّى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَعَدَلَ بَيْنَ أَجْزَائِهَا . وَلَوْ كَانَ أَحَدُ جَانِبَيْ السَّمَاءِ دَاخِلًا أَوْ خَارِجًا لَكَانَ فِيهَا فُرُوجٌ وَهِيَ الْفُتُوقُ وَالشُّقُوقُ وَلَمْ يَكُنْ سَوَّاهَا كَمَنْ بَنَى قُبَّةً وَلَمْ يُسَوِّهَا . وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ أَحَدَ جَانِبَيْهَا أَطْوَلَ أَوْ أَنْقَصَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَالْعَدْلُ وَالتَّسْوِيَةُ لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالْمَصْنُوعَاتِ . فَمَتَى لَمْ تُصْنَعْ بِالْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَقَعَ فِيهَا الْفَسَادُ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } . قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ : { خَلَقَ فَسَوَّى } قَالَ : سَوَّى خَلْقَهُنَّ وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } .
فَصْلٌ :
ثُمَّ إذَا خَلَقَ الْمَخْلُوقَ فَسَوَّى فَإِنْ لَمْ يَهْدِهِ إلَى تَمَامِ الْحِكْمَةِ الَّتِي خُلِقَ لَهَا فَسَدَ . فَلَا بُدَّ أَنْ يُهْدَى بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ .
وَتِلْكَ الْغَايَةُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْخَالِقِ . فَإِنَّ الْعِلَّةَ الغائية هِيَ أَوَّلٌ فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَهِيَ آخِرٌ فِي الْوُجُودِ وَالْحُصُولِ . وَلِهَذَا كَانَ الْخَالِقُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ مَا خَلَقَ . فَإِنَّهُ قَدْ أَرَادَهُ وَأَرَادَ الْغَايَةَ الَّتِي خَلَقَهُ لَهَا وَالْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْعِلْمِ . فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ الْحَيُّ مَا لَا شُعُورَ لَهُ بِهِ . وَالصَّانِعُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا فَقَدْ عَلِمَهُ وَأَرَادَهُ وَقَدَّرَ فِي نَفْسِهِ مَا يَصْنَعُهُ وَالْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي إلَيْهَا وَمَا الَّذِي يُوَصِّلُهُ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ وَكَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَدَّرَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمْرَانَ بْن حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَفِي رِوَايَةٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } .
فَقَدْ قَدَّرَ سُبْحَانَهُ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَهُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ حِين كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ فَقَالَ : اُكْتُبْ . فَقَالَ مَا أَكْتُبُ ؟ فَقَالَ : اُكْتُبْ مَا يَكُونُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَأَحَادِيثُ تَقْدِيرِهِ سُبْحَانَهُ وَكِتَابَتِهِ لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا . رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ : { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } فَقَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ بِقُدْرَتِهِ وَدَبَّرَ الْأُمُورَ بِحِكْمَتِهِ وَعَلِمَ مَا الْعِبَادُ صَائِرُونَ إلَيْهِ وَمَا هُوَ خَالِقٌ وَكَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَخَلَقَ اللَّهُ لِذَلِكَ جَنَّةً وَنَارًا فَجَعَلَ الْجَنَّةَ لِأَوْلِيَائِهِ وَعَرَّفَهُمْ وَأَحَبَّهُمْ وَتَوَلَّاهُمْ وَوَفَّقَهُمْ وَعَصَمَهُمْ وَتَرَكَ أَهْلَ النَّارِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ وَأَضَلَّهُمْ وَأَزَلَّهُمْ . فَخَلَقَ لِكُلِّ شَيْءٍ مَا يُشَاكِلُهُ فِي خَلْقِهِ مَا يُصْلِحُهُ مِنْ رِزْقِهِ فِي بَرٍّ أَوْ فِي بَحْرٍ . فَجَعَلَ لِلْبَعِيرِ خَلْقًا لَا يَصْلُحُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الدَّوَابِّ . وَكَذَلِكَ كَلُّ دَابَّةٍ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ مِنْهَا مَا يُشَاكِلُهَا فِي خَلْقِهَا فَخَلْقُهُ مُؤْتَلِفٌ لِمَا خَلَقَهُ لَهُ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ . قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : ثَنَا أَبِي ثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ مهران الْقَزَّازُ
نا حِبَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : سَأَلْت الضَّحَّاكَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } قَالَ الضَّحَّاكُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ . وَقَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ ثَنَا طَلْحَةُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : مَنْ كَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ . خَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا وَأَجَّلَ أَجَلًا وَقَدَّرَ رِزْقًا وَقَدَّرَ مُصِيبَةً وَقَدَّرَ بَلَاءً وَقَدَّرَ عَافِيَةً . فَمَنْ كَفَرَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ . وَقَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ الجزري عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جريح عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ : أَتَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَنْزِعُ مِنْ زَمْزَمَ وَقَدْ ابْتَلَّتْ أَسَافِلُ ثِيَابِهِ فَقُلْت لَهُ : قَدْ تُكُلِّمَ فِي الْقَدَرِ . فَقَالَ : أو قَدْ فَعَلُوهَا ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إلَّا فِيهِمْ : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } { إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } أُولَئِكَ شِرَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَلَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ وَلَا تُصَلُّوا عَلَى مَوْتَاهُمْ . إنْ رَأَيْت أَحَدًا مِنْهُمْ فَقَأْت عَيْنَيْهِ بِأُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ . وَقَالَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْجُنَيْد حَدَّثَنَا سَهْلٌ الْخَيَّاطُ ثَنَا أَبُو صَالِحٍ الحداني نا حِبَّانُ بْنُ عُبَيْدٍ اللَّهِ قَالَ : سَأَلْت
الضَّحَّاكَ عَنْ قَوْلِهِ : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا } . قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَرْشَ فَاسْتَوَى عَلَيْهِ ثُمَّ خَلَقَ الْقَلَمَ فَأَمَرَهُ لِيَجْرِيَ بِإِذْنِهِ وَعِظَمُ الْقَلَمِ كَقَدْرِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ الْقَلَمُ : بِمَا يَا رَبِّ أُجْرِي ؟ فَقَالَ . " بِمَا أَنَا خَالِقٌ وَكَائِنٌ فِي خَلْقِي مِنْ قُطْرٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ نَفْسٍ أَوْ أَثَرٍ يَعْنِي بِهِ الْعَمَلَ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَجَلٍ " . فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . فَأَثْبَتَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ الْمَكْنُونِ عِنْدَهُ تَحْتَ الْعَرْشِ .
فَصْلٌ :
فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } يَتَضَمَّنُ أَنَّهُ قَدَّرَ مَا سَيَكُونُ لِلْمَخْلُوقَاتِ وَهَدَاهَا إلَيْهِ . عَلِمَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ مِنْ الرِّزْقِ فَخَلَقَ ذَلِكَ الرِّزْقَ وَسَوَّاهُ وَخَلَقَ الْحَيَوَانَ وَسَوَّاهُ وَهَدَاهُ إلَى ذَلِكَ الرِّزْقِ . وَهَدَى غَيْرَهُ مِنْ الْأَحْيَاءِ أَنْ يَسُوقَ إلَيْهِ ذَلِكَ الرِّزْقَ . وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَقَدَّرَ حَاجَتِهَا إلَى الْمَطَرِ وَقَدَّرَ السَّحَابَ وَمَا يَحْمِلُهُ مِنْ الْمَطَرِ . وَخَلَقَ مَلَائِكَةً هَدَاهُمْ لِيَسُوقُوا ذَلِكَ السَّحَابَ إلَى تِلْكَ الْأَرْضِ
فَيُمْطِرَ الْمَطَرَ الَّذِي قَدَّرَهُ . وَقَدَّرَ مَا نَبَتَ بِهَا مِنْ الرِّزْقِ وَقَدَّرَ حَاجَةَ الْعِبَادِ إلَى ذَلِكَ الرِّزْقِ . وَهَدَاهُمْ إلَى ذَلِكَ الرِّزْقِ وَهَدَى مَنْ يَسُوقُ ذَلِكَ الرِّزْقَ إلَيْهِمْ . وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنْوَاعًا مِنْ تَقْدِيرِهِ وَهِدَايَتِهِ : فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : { قَدَّرَ فَهَدَى } قَالَ : الْإِنْسَانَ لِلشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حميد فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ : هَدَى الْإِنْسَانَ لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا . وَقَالَ حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ شيبان عَنْ قتادة : { قَدَّرَ فَهَدَى } قَالَ : " لَا وَاَللَّهِ مَا أَكْرَهَ اللَّهُ عَبْدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ قَطُّ وَلَا عَلَى ضَلَالَةٍ وَلَا رَضِيَهَا لَهُ وَلَا أَمَرَهُ وَلَكِنْ رَضِيَ لَكُمْ الطَّاعَةَ فَأَمَرَكُمْ بِهَا وَنَهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ " . قُلْت : قتادة ذَكَرَ هَذَا عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَا قَدَّرَهُ مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ وقتادة وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتَنَازِعِينَ . فَمَا سَبَقَ مِنْ سَبْقِ تَقْدِيرِ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَانَ نِزَاعُ بَعْضِهِمْ فِي الْإِرَادَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ .
وَإِنَّمَا نَازَعَ فِي التَّقْدِيرِ السَّابِقِ وَالْكِتَابِ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ الصَّحَابَةُ كَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا . وَذَكَرَ قتادة أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكْرَهْ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ . وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْرِهُ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ كَمَا يُكْرِهُ الْوَالِي وَالْقَاضِي وَغَيْرُهُمَا لِلْمَخْلُوقِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ يُكْرِهُونَهُ بِالْعُقُوبَةِ وَالْوَعِيدِ . بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ إرَادَةَ الْعَبْدِ لِلْعَمَلِ وَقُدْرَتَهُ وَعَمَلَهُ وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قتادة قَدْ يُظَنُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ وَأَنَّهُ لِسَبَبِ مِثْلِ هَذَا اُتُّهِمَ قتادة بِالْقَدَرِ حَتَّى قِيلَ : إنَّ مَالِكًا كَرِهَ لِمَعْمَرٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ التَّفْسِيرَ لِكَوْنِهِ اُتُّهِمَ بِالْقَدَرِ . وَهَذَا الْقَوْلُ حَقٌّ وَلَمْ يُعْرَفْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ قَالَ " إنَّ اللَّهَ أَكْرَهَ أَحَدًا عَلَى مَعْصِيَةٍ " . بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ " الْجَبْرِ " مَنَعُوا مِنْ إطْلَاقِهِ كالأوزاعي وَالثَّوْرِيِّ وَالزُّبَيْدِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ . نَهَوْا عَنْ أَنْ يُقَالَ " إنَّ اللَّهَ جَبَرَ الْعِبَادَ " وَقَالُوا : إنَّ هَذَا بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ مُفْهِمٌ لِلْمَعْنَى الْفَاسِدِ .
قَالَ الأوزاعي وَغَيْرُهُ : إنَّ السَّنَةَ جَاءَتْ بـ " جَبَلَ " وَلَمْ تَأْتِ بـ " جَبَرَ " { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَشَجَّ عَبْدِ الْقَيْسِ : إنَّ فِيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ . فَقَالَ : أَخُلُقَيْنِ تَخَلَّقْت بِهِمَا أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا ؟ فَقَالَ : بَلْ خُلُقَيْنِ جُبِلْت عَلَيْهِمَا . قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ } . وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّمَا يُجْبَرُ الْعَاجِزُ يَعْنِي الْجَبْرَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْإِكْرَاهِ كَمَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى النِّكَاحِ . وَاَللَّهُ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُجْبِرَ أَحَدًا يَعْنِي أَنَّهُ يَخْلُقُ إرَادَةَ الْعَبْدِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إجْبَارِهِ . فَالزُّبَيْدِيُّ وَطَائِفَةٌ نَفَوْا " الْجَبْرَ " وَكَانَ مَفْهُومُهُ عِنْدَهُمْ هَذَا . وَأَمَّا الأوزاعي وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا فَكَرِهُوا أَنْ يُقَالَ " جَبَرَ " وَأَنْ يُقَالَ " لَمْ يُجْبِرْ " لِأَنَّ " الْجَبْرَ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْإِكْرَاهُ وَاَللَّهُ لَا يُكْرِهُ أَحَدًا . وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ خَالِقُ الْإِرَادَةِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : " الْجَبَّارُ هُوَ الَّذِي جَبَرَ الْعِبَادَ عَلَى مَا أَرَادَ " . و " الْجَبْرُ " بِهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ . وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : { قَدَّرَ فَهَدَى } " هَدَى الْإِنْسَانَ لِلسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ " يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا عِنْدَهُ مِمَّا دَخَلَ فِي قَوْلِهِ : { قَدَّرَ فَهَدَى }
أَيْ هَدَى السُّعَدَاءِ إلَى السَّعَادَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا وَهَدَى الْأَشْقِيَاءَ إلَى الشَّقَاءِ الَّذِي قَدَّرَهُ . وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ : { إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } قَالَ : السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةَ . وَقَالَ عِكْرِمَةُ : سَبِيلَ الْهُدَى . رَوَاهُمَا عَبْدُ بْنُ حميد . وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قَالَ : الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ . وَقَدْ قَالَ هُوَ وَجَمَاهِيرُ السَّلَفِ : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } : أَيْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ . رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ . ثُمَّ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى . . . (1) وَشَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَعِكْرِمَةَ وَشُرَحْبِيلَ بْنِ سَعِيدٍ وَابْنِ سِنَانٍ الرَّازِي وَالضَّحَّاكِ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَعَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الملائي نَحْوِ ذَلِكَ . وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القرظي قَالَ : الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ .
وَهَذَا كَلَامٌ مُجْمَلٌ فِيهِ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا أَرْسَلَهُ مِنْ الرُّسُلِ وَنَصَبَهُ مِنْ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ وَأَعْطَاهُمْ مِنْ الْعُقُولِ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } . وَأَمَّا إدْخَالُ الْهُدَى الَّذِي هُوَ الْإِلْهَامُ فِي ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ هَدَى الْمُؤْمِنَ إلَى أَنْ يُؤْمِنَ وَيَعْمَلَ صَالِحًا إلَى أَنْ يَسْعَدَ بِذَلِكَ وَهَدَى الْكَافِرَ إلَى مَا يَعْمَلُهُ إلَى أَنْ يَشْقَى بِذَلِكَ فَهَذَا مِنْهُمْ مَنْ يُدْخِلُهُ فِي الْآيَةِ كَمُجَاهِدِ وَغَيْرِهِ وَيُدْخِلُهُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } . وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ يُخْرِجُونَ ذَلِكَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالْقَدَرِ . وَمَنْ قَالَ : " هَدَى " بِمَعْنَى بَيَّنَ فَقَطْ فَقَدْ هَدَى كُلَّ عَبْدٍ إلَى نَجْدِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا أَيْ بَيَّنَ لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ . وَمَنْ أَدْخَلَ فِي ذَلِكَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ يَقُولُ : فِي هَذَا تَقْسِيمٌ أَيْ هَذِهِ الْهِدَايَةُ عَامَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ وَخَصَّ الْمُؤْمِنَ بِهِدَايَةِ إلَى نَجْدِ الْخَيْرِ وَخَصَّ الْكَافِرَ بِهِدَايَةِ إلَى نَجْدِ الشَّرِّ . وَمَنْ لَمْ يُدْخِلْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِحَدِيثِ مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ قَالَ : ذَكَرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ : إنَّمَا هُمَا النَّجْدَانِ نَجْدُ الْخَيْرِ وَنَجْدُ الشَّرِّ . فَمَا يُجْعَلُ نَجْدُ الشَّرِّ أَحَبُّ إلَيْكُمْ مِنْ نَجْدِ الْخَيْرِ ؟ } .
وَيَحْتَجُّونَ بِأَنَّ إلْهَامَ الْفَاجِرِ طَرِيقَ الْفُجُورِ لَمْ يُسَمِّهِ هُدًى بَلْ سَمَّاهُ ضَلَالًا وَاَللَّهُ امْتَنَّ بِأَنَّهُ هَدَى . وَقَدْ يُجِيبُ الْآخَرُ بِأَنْ يَقُولَ : هُوَ لَا يَدْخُلُ فِي الْهُدَى الْمُطْلَقِ لَكِنْ يَدْخُلُ فِي الْهُدَى الْمُقَيَّدِ كَقَوْلِهِ : { فَاهْدُوهُمْ إلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } وَكَمَا فِي لَفْظِ الْبِشَارَةِ قَالَ : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَلَفْظُ الْإِيمَانِ فَقَالَ : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } . وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ فِي قَوْلِهِ : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قِيلَ : هُوَ الْبَيَانُ الْعَامُّ وَقِيلَ : بَلْ أَلْهَمَ الْفَاجِرَ الْفُجُورَ وَالتَّقِيَّ التَّقْوَى . وَهَذَا فِي تِلْكَ الْآيَةِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْإِلْهَامَ اسْتِعْمَالُهُ مَشْهُورٌ فِي إلْهَامِ الْقُلُوبِ لَا فِي التَّبْيِينِ الظَّاهِرِ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ . وَقَدْ { عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُصَيْنًا الخزاعي لَمَّا أَسْلَمَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي } . وَلَوْ كَانَ الْإِلْهَامُ بِمَعْنَى الْبَيَانِ الظَّاهِرِ لَكَانَ هَذَا حَاصِلًا لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : و { سُوًى } مَعْنَاهُ عَدَّلَ وَأَتْقَنَ حَتَّى صَارَتْ الْأُمُورُ مُسْتَوِيَةً دَالَّةً عَلَى قُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ . وَقَرَأَ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ { قَدَرٍ } بِتَشْدِيدِ الدَّالِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
مِنْ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّقْدِيرِ وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ . قُلْت : هُمَا مُتَلَازِمَانِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ الْأَوَّلَ يُسَمَّى تَقْدِيرًا ؛ لِأَنَّ مَا يَجْرِي بَعْدَ ذَلِكَ يَجْرِي عَلَى قَدَرِهِ فَهُوَ مُوَازِنٌ لَهُ وَمُعَادِلٌ لَهُ . قَالَ : وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ بِتَخْفِيفِ الدَّالِّ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ التَّقْدِيرِ وَالْمُوَازَنَةِ " . قُلْت : وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَقَوْلُهُ { فَهَدَى } عَامٌّ لِوُجُوهِ الْهِدَايَاتِ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ . وَقَدْ خَصَّصَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَشْيَاءَ مِنْ الْهِدَايَاتِ فَقَالَ الْفَرَّاءُ : مَعْنَاهُ هَدَى وَأَضَلَّ وَاكْتَفَى بِالْوَاحِدِ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْأُخْرَى . قَالَ وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ : هَدَى إلَى وَطْءِ الذُّكُورِ لِلْإِنَاثِ . وَقِيلَ هَدَى الْمَوْلُودَ عِنْدَ وَضْعِهِ إلَى مَصِّ الثَّدْيِ . وَقَالَ مُجَاهِد : هَدَى النَّاسَ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبَهَائِمَ لِلْمَرَاتِعِ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : " وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مثالات وَالْعُمُومُ فِي الْآيَةِ أَصْوَبُ فِي كُلِّ تَقْدِيرٍ وَفِي كُلِّ هِدَايَةٍ " . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَغَيْرَهَا فَذَكَرَ
سَبْعَةَ أَقْوَالٍ : قَدَّرَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ وَهَدَى لِلرُّشْدِ وَالضَّلَالَةِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَقِيلَ : جَعَلَ لِكُلِّ دَابَّةٍ مَا يُصْلِحُهَا وَهَدَاهَا إلَيْهِ قَالَهُ عَطَاءٌ . وَقِيلَ : قَدَّرَ مُدَّةَ الْجَنِينِ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ هَدَاهُ لِلْخُرُوجِ قَالَهُ السدي . وَقِيلَ : قَدَّرَهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَهَدَى الذُّكُورَ لِإِتْيَانِ الْإِنَاثِ قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَقِيلَ : قَدَّرَ فَهَدَى وَأَضَلَّ فَحَذَفَ " وَأَضَلَّ " لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَكَاهُ الزَّجَّاجُ . وَقِيلَ : قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ وَهَدَى إلَى طَلَبِهَا ؛ وَقِيلَ قَدَّرَ الذُّنُوبَ فَهَدَى إلَى التَّوْبَةِ حَكَاهُمَا الثَّعْلَبِيُّ . قُلْت : الْقَوْلُ الَّذِي حَكَاهُ الزَّجَّاجُ هُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ : " إنْ نَفَعَتْ وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْ " وَمِنْ جِنْسِ قَوْلِهِ " سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ " . وَقَدْ تَقَدَّمَ ضَعْفُ مِثْلِ هَذَا وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ . وَالْأَقْوَالُ الصَّحِيحَةُ هِيَ مِنْ بَابِ المثالات كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ . وَهَكَذَا كَثِيرٌ مِنْ تَفْسِيرِ السَّلَفِ يَذْكُرُونَ مِنْ النَّوْعِ مِثَالًا لِيُنَبِّهُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ لِحَاجَةِ الْمُسْتَمِعِ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ كَمَا يَذْكُرُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . كَقَوْلِهِ : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } وَقَوْلِهِ : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ } وَقَوْلِهِ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَقَوْلِهِ : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ }
وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } و { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَوْلِهِ : { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ هُوَ مِنْ بَابِ الْمِثَالِ . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : إنَّ " هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ " فَبِهَذَا يُمَثِّلُ بِمَنْ نَزَلَتْ فِيهِ نَزَلَتْ فِيهِ أَوَّلًا وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا لَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهَا آيَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ كَآيَةِ اللِّعَانِ وَآيَةِ الْقَذْفِ وَآيَةِ الْمُحَارَبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ كَانَ نُزُولُهَا بِسَبَبِهِ . وَاللَّفْظُ الْعَامُّ وَإِنْ قَالَ طَائِفَةٌ إنَّهُ يُقْصَرُ عَلَى سَبَبِهِ فَمُرَادُهُمْ عَلَى النَّوْعِ الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ . فَلَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا إلَّا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ وَآيَةَ اللِّعَانِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا إلَّا عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ أَوْ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ : وَأَنَّ ذَمَّ الْكُفَّارِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ إلَّا كُفَّارُ قُرَيْشٍ ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلَا عَاقِلٌ . فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَرَفَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِهِ أَنَّهُ مَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ بِالْقُرْآنِ جَمِيعَ
الثَّقَلَيْنِ كَمَا قَالَ : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } . فَكُلُّ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ مِنْ إنْسِيٍّ وَجِنِّيٍّ فَقَدْ أَنْذَرَهُ الرَّسُولُ بِهِ . وَالْإِنْذَارُ هُوَ الْإِعْلَامُ بِالْمَخُوفِ وَالْمَخُوفُ هُوَ الْعَذَابُ يَنْزِلُ بِمَنْ عَصَى أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ . فَقَدْ أَعْلَمَ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ الْقُرْآنَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُطِعْهُ وَإِلَّا عَذَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّهُ إنْ أَطَاعَهُ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى . وَهُوَ قَدْ مَاتَ فَإِنَّمَا طَاعَتُهُ بِاتِّبَاعِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَحَرَّمَهُ وَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ الرَّسُولُ وَحَرَّمَهُ بِسُنَّتِهِ . فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ وُجُوبَ طَاعَتِهِ وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَقَالَ لِأَزْوَاجِ نَبِيِّهِ { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ }
فَصْلٌ :
ثُمَّ قَالَ : { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } { فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } هُوَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ : { قَدَّرَ فَهَدَى } دَخَلَ فِي ذَلِكَ مَا قَدَّرَهُ مِنْ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ وَالْبَهَائِمِ وَهَدَاهُمْ إلَيْهَا فَهَدَى مَنْ يَأْتِي بِهَا إلَيْهِمْ . وَذَلِكَ مِنْ تَمَامِ إنْعَامِهِ عَلَى عِبَادِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { إنَّ اللَّهَ يَقُولُ :
إنِّي وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ لَفِي نَبَأٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيَعْبُدُونَ غَيْرِي وَأَرْزُقُ وَيَشْكُرُونَ سِوَايَ } وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ رُوِيَ فِي قَوْلِهِ : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أَيْ تَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ وَشُكْرَ رَبِّكُمْ التَّكْذِيبَ بِإِنْعَامِ اللَّهِ وَإِضَافَةِ الرِّزْقِ إلَى غَيْرِهِ كَالْأَنْوَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْبَحَ مِنْ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ قَالُوا : هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا قَالَ : فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } حَتَّى بَلَغَ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ يُنَزِّلُ اللَّهُ الْغَيْثَ فَيَقُولُونَ : الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا وَفِي رِوَايَةٍ بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا } . وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِهِ : ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يَعْنِي الصَّائِغَ ثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ مَنْصُورٍ ثَنَا هشيم عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ " وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ " ،
يَعْنِي الْأَنْوَاءَ . وَمَا مُطِرَ قَوْمٌ إلَّا أَصْبَحَ بَعْضُهُمْ كَافِرًا وَكَانُوا يَقُولُونَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قَالَ : تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ تَكْذِيبًا وَشُكْرًا لِغَيْرِهِ .
لَكِنَّ قَوْلَهُ : { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } خَصَّ بِهِ إخْرَاجَ الْمَرْعَى وَهُوَ مَا تَرْعَاهُ الدَّوَابُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ جَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى . وَهَذَا فِيهِ ذِكْرُ أَقْوَاتِ الْبَهَائِمِ لَكِنَّ أَقْوَاتَ الْآدَمِيِّينَ أَجَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ دَخَلَتْ هِيَ وَأَقْوَاتُ الْبَهَائِمِ فِي قَوْلِهِ { قَدَّرَ فَهَدَى } . وَأَيْضًا فَاَلَّذِي يَصِيرُ غُثَاءً أَحْوَى لَمْ تَقْتَتْ بِهِ الْبَهَائِمُ وَإِنَّمَا تَقْتَاتُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ . فَهُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ خَصَّ هَذَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . إذْ كَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ تَضَمَّنَتْ أُصُولَ الْإِيمَانِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالْمَلَائِكَةِ . وَفِيهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ وَالْفَاسِدُ الَّذِي يَضُرُّ فِيهَا .
فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْمَرْعَى عَقِبَ مَا ذِكْرِهِ مِنْ الْخَلْقِ وَالْهُدَى لِيُبَيِّنَ مَآلَ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّ الدُّنْيَا هَذَا مَثَلُهَا . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْكَهْفِ وَيُونُسَ وَالْحَدِيدِ . قَالَ تَعَالَى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } { وَاللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } وَقَدْ جَعَلَ إهْلَاكَ الْمُهْلَكِينَ حَصَادًا لَهُمْ فَقَالَ : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ
الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } وَقَالَ : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } فَقَوْلُهُ : { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } { فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } هُوَ مَثَلٌ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَعَاقِبَةُ الْكُفَّارِ وَمَنْ اغْتَرَّ بِالدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي نَعِيمٍ وَزِينَةٍ وَسَعَادَةٍ ثُمَّ يَصِيرُونَ إلَى شَقَاءٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . كَالْمَرْعَى الَّذِي جَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى .
فَصْلٌ :
قَوْلُهُ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى . سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى . الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } فَقَوْلُهُ : إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى كَقَوْلِهِ : إنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَوْلُهُ : إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى وَ " إنْ " هِيَ الشَّرْطِيَّةُ .
وَحَكَى الماوردي أَنَّهَا بِمَعْنَى " مَا " .
وَهَذِهِ تَكُونُ " مَا " الْمَصْدَرِيَّةُ . وَهِيَ بِمَعْنَى الظَّرْفِ ، أَيْ : ذَكِّرْ مَا نَفَعَتْ ، مَا دَامَتْ تَنْفَعُ . وَمَعْنَاهَا قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ . وَأَمَّا إنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّهَا نَافِيَةٌ فَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْفِي نَفْعَ الذِّكْرَى مُطْلَقًا وَهُوَ الْقَائِلُ { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومِ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ } ثُمَّ قَالَ { الْمُؤْمِنِينَ } . . . (1) .
وَعَنْ . . . (2) فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى : إنْ قَبِلْت الذِّكْرَى . وَعَنْ مُقَاتِلٍ : فَذَكِّرْ وَقَدْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى . وَقِيلَ : ذَكِّرْ إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْ . قَالَهُ طَائِفَةٌ ، أَوَّلُهُمْ الْفَرَّاءُ ، وَاتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ ، مِنْهُمْ النَّحَّاسُ ، وَالزَّهْرَاوِيُّ . وَالْوَاحِدِيُّ . والبغوي وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ . قَالُوا : وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ الْحَالَ الثَّانِيَةَ كَقَوْلِهِ : سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَأَرَادَ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ . وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَتَذْكِيرُهُمْ سَوَاءٌ آمَنُوا أَوْ كَفَرُوا . فَلَمْ يَكُنْ وُجُوبُ التَّذْكِيرِ مُخْتَصًّا بِمَنْ
تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ } { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } وَقَالَ : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } وَقَالَ : { وَيَقُولُونَ إنَّهُ لَمَجْنُونٌ } { وَمَا هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } وَقَالَ : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَهُ مَعْنًى صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِ لَكِنْ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ . وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يُنْكِرُ عَلَى الْفَرَّاءِ وَأَمْثَالِهِ مَا يُنْكِرُهُ وَيَقُولُ : كُنْت أَحْسَبُ الْفَرَّاءَ رَجُلًا صَالِحًا حَتَّى رَأَيْت كِتَابَهُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ . وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِآيَاتِ أُخَرٍ . وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ أَمْرِ الرَّسُولِ فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُ مُبَلِّغًا وَمُذَكِّرًا لِجَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ . بَلْ مَعْنَى هَذِهِ يُشْبِهُ قَوْلَهُ : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } وَقَوْلَهُ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } وَقَوْلَهُ : { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } وَقَوْلَهُ { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } فَالْقُرْآنُ جَاءَ بِالْعَامِّ وَالْخَاصِّ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ التَّعْلِيمَ وَالتَّذْكِيرَ وَالْإِنْذَارَ وَالْهُدَى وَنَحْوَ ذَلِكَ لَهُ فَاعِلٌ وَلَهُ قَابِلٌ . فَالْمُعَلِّمُ الْمُذَكِّرُ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ ثُمَّ ذَلِكَ الْغَيْرُ قَدْ يَتَعَلَّمُ وَيَتَذَكَّرُ وَقَدْ لَا يَتَعَلَّمُ وَلَا يَتَذَكَّرُ . فَإِنْ تَعَلَّمَ وَتَذَكَّرَ فَقَدْ تَمَّ التَّعْلِيمُ وَالتَّذْكِيرُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ فَقَدْ وُجِدَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ وَهُوَ الْفَاعِلُ دُونَ الْمَحَلِّ الْقَابِلِ . فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا : عَلَّمْته فَمَا تَعَلَّمَ وَذَكَّرْته فَمَا تَذَكَّرَ وَأَمَرْته فَمَا أَطَاعَ . وَقَدْ يُقَالُ " مَا عَلَّمْته وَمَا ذَكَّرْته " لِأَنَّهُ لَمْ يُحَصِّلْ تَامًّا وَلَمْ يُحَصِّلْ مَقْصُودَهُ فَيُنْفَى لِانْتِفَاءِ كَمَالِهِ وَتَمَامِهِ . وَانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُخَاطَبِ السَّامِعِ وَإِنْ كَانَتْ الْفَائِدَةُ حَاصِلَةً لِلْمُتَكَلِّمِ الْقَائِلِ الْمُخَاطَبِ . فَحَيْثُ خُصَّ بِالتَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ وَنَحْوِهِ الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ مَخْصُوصُونَ بِالتَّامِّ النَّافِعِ الَّذِي سَعِدُوا بِهِ . وَحَيْثُ عُمِّمَ فَالْجَمِيعُ مُشْتَرِكُونَ فِي الْإِنْذَارِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ سَوَاءٌ قَبِلُوا أَوْ لَمْ يَقْبَلُوا .
وَهَذَا هُوَ الْهُدَى الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } فَالْهُدَى هُنَا هُوَ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ وَالْإِرْشَادُ الْعَامُّ الْمُشْتَرَكُ . وَهُوَ كَالْإِنْذَارِ الْعَامِّ وَالتَّذْكِيرِ الْعَامِّ . وَهُنَا قَدْ هَدَى الْمُتَّقِينَ وَغَيْرَهُمْ كَمَا قَالَ : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } وَأَمَّا قَوْلُهُ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فَالْمَطْلُوبُ الْهُدَى الْخَاصُّ
التَّامُّ الَّذِي يَحْصُلُ مَعَهُ الِاهْتِدَاءُ كَقَوْلِهِ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَوْلِهِ : { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } وَقَوْلِهِ : { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } وَقَوْلِهِ : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ الْإِنْذَارُ قَدْ قَالَ : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَالَ فِي الْخَاصِّ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } فَهَذَا الْإِنْذَارُ الْخَاصُّ وَهُوَ التَّامُّ النَّافِعُ الَّذِي انْتَفَعَ بِهِ الْمُنْذِرُ . وَالْإِنْذَارُ هُوَ الْإِعْلَامُ بِالْمَخُوفِ فَعَلِمَ الْمَخُوفُ فَخَافَ فَآمَنَ وَأَطَاعَ . وَكَذَلِكَ التَّذْكِيرُ عَامٌّ وَخَاصٌّ . فَالْعَامُّ هُوَ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ إلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهَذَا يَحْصُلُ بِإِبْلَاغِهِمْ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنْ الرِّسَالَةِ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا هِيَ إلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } . ثُمَّ قَالَ : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } فَذَكَرَ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ .
وَالتَّذَكُّرُ هُوَ الذِّكْرُ التَّامُّ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْمُذَكَّرُ بِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ . وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَالَ تَعَالَى فِيهِمْ : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } { لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ } فَقَدْ أَتَاهُمْ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ وَلَكِنْ لَمْ يَصْغَوْا إلَيْهِ بِقُلُوبِهِمْ فَلَمْ يَفْهَمُوهُ أَوْ فَهِمُوهُ فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهِ كَمَا قَالَ : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } وَالْخَاصُّ هُوَ التَّامُّ النَّافِعُ وَهُوَ الَّذِي حَصَلَ مَعَهُ تَذَكُّرٌ لِمُذَكَّرِ فَإِنَّ هَذَا ذِكْرَى كَمَا قَالَ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } أَيْ يُجَنَّبُ الذِّكْرَى وَهُوَ إنَّمَا جُنِّبَ الذِّكْرَى الْخَاصَّةَ . وَأَمَّا الْمُشْتَرَكُ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ فَقَدْ ذُكِّرَ هُوَ وَغَيْرُهُ بِذَلِكَ وَقَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَالَ : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَالَ عَنْ أَهْلِ النَّارِ : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } . وَأَمَّا تَمْثِيلُهُمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } أَيْ وَتَقِيَكُمْ الْبَرْد فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ حَرْفُ شَرْطٍ عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ بِخِلَافِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنَّهُ إذَا عُلِّقَ الْأَمْرُ بِشَرْطِ وَكَانَ مَأْمُورًا بِهِ فِي حَالِ وُجُودِ الشَّرْطِ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي حَالِ عَدَمِهِ كَانَ ذِكْرُ الشَّرْطِ تَطْوِيلًا لِلْكَلَامِ تَقْلِيلًا لِلْفَائِدَةِ وَإِضْلَالًا لِلسَّامِعِ . وَجُمْهُورُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ حُجَّةٌ وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ يَقُولُ : سَكَتَ عَنْ غَيْرِ الْمُعَلَّقِ لَا يَقُولُ : إنَّ اللَّفْظَ دَلَّ عَلَى الْمَسْكُوتِ كَمَا دَلَّ عَلَى الْمَنْطُوقِ . فَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ . الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ { تَقِيكُمُ الْحَرَّ } عَلَى بَابِهِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْبَرْدِ . وَإِنَّمَا يَقُولُ " إنَّ الْمَعْطُوفَ مَحْذُوفٌ " هُوَ الْفَرَّاءُ وَأَمْثَالُهُ مِمَّنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْأَئِمَّةُ حَيْثُ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ ظَنِّهِمْ وَفَهْمِهِمْ لِنَوْعِ مِنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ عِنْدَهُمْ . وَكَثِيرًا لَا يَكُونُ مَا فَسَّرُوا بِهِ مُطَابِقًا . وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذِكْرِ الْبَرْدِ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي
هَذِهِ السُّورَةِ إنْعَامَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَتُسَمَّى " سُورَةُ النِّعَمِ " فَذَكَرَ فِي أَوَّلِهَا أُصُولَ النِّعَمِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا تَقُومُ الْحَيَاةُ إلَّا بِهَا وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ . وَكَانَ مَا يَقِي الْبَرْدَ مِنْ أُصُولِ النِّعَمِ فَذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } . فَالدِّفْءُ مَا يُدْفِئُ وَيَدْفَعُ الْبَرْدَ . وَالْبَرْدُ الشَّدِيدُ يُوجِبُ الْمَوْتَ بِخِلَافِ الْحَرِّ . فَقَدْ مَاتَ خَلْقٌ مِنْ الْبَرْدِ بِخِلَافِ الْحَرِّ فَإِنَّ الْمَوْتَ مِنْهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ . وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ الْبَرْدُ بُؤْسٌ وَالْحَرُّ أَذًى . فَلَمَّا ذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ ذَكَرَ الظِّلَالَ وَمَا يَقِي الْحَرَّ وَذَكَرَ الْأَسْلِحَةَ وَمَا يَقِي الْقَتْلَ فَقَالَ : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } . فَذَكَرَ أَنَّهُ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَقَالَ : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } . وَفَرْقٌ بَيْنَ الظِّلَالِ وَالْأَكْنَانِ ؛ فَإِنَّ الظِّلَالَ يَكُونُ بِالشَّجَرِ
وَنَحْوِهِ مِمَّا يُظِلُّ وَلَا يُكِنُّ بِخِلَافِ مَا فِي الْجِبَالِ مِنْ الْغَيْرَانِ فَإِنَّهُ يُظِلُّ وَيُكَنُّ . فَهَذَا فِي الْأَمْكِنَةِ ثُمَّ قَالَ فِي اللِّبَاسِ : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } فَهَذَا فِي اللِّبَاسِ . وَاللِّبَاسُ وَالْمَسَاكِنُ كِلَاهُمَا تَقِي النَّاسَ مَا يُؤْذِيهِمْ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ وَعَدُوٍّ وَكِلَاهُمَا تَسْتُرُهُمْ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ . وَفِي الْبُيُوتِ خَاصَّةً يَسْكُنُونَ كَمَا قَالَ : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ } . فَلَمَّا ذَكَرَ الْبُيُوتَ الْمَسْكُونَةَ امْتَنَّ بِكَوْنِهِ جَعَلَهَا سَكَنًا يَسْكُنُونَ فِيهَا مِنْ تَعَبِ الْحَرَكَاتِ . وَذَكَرَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُمْ بُيُوتًا أُخْرَى يَحْمِلُونَهَا مَعَهُمْ ويستخفونها يَوْمَ ظَعْنِهِمْ وَيَوْمَ إقَامَتِهِمْ . فَذَكَرَ الْبُيُوتَ الثَّقِيلَةَ الَّتِي لَا تُحْمَلُ وَالْخَفِيَّةَ الَّتِي تُحْمَلُ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا مَثَّلُوا بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ . فَقَوْلُهُ : { إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } - كَمَا قَالَ مُفَسِّرُو السَّلَفِ وَالْجُمْهُورِ - عَلَى بَابِهَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : تَذْكِرَةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَحُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ .
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } لَا يَمْنَعُ كَوْنَ الْكَافِرِ يُبَلِّغُ الْقُرْآنَ لِوُجُوهِ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ لَكِنْ قَالَ : { فَذَكِّرْ } وَهَذَا مُطْلَقٌ بِتَذْكِيرِ كُلِّ أَحَدٍ . وَقَوْلُهُ : { إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } لَمْ يَقُلْ " إنْ نَفَعَتْ كُلَّ أَحَدٍ " . بَلْ أَطْلَقَ النَّفْعَ . فَقَدْ أَمَرَ بِالتَّذْكِيرِ إنْ كَانَ يَنْفَعُ . وَالتَّذْكِيرُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ يَنْفَعُ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَذَكَّرُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ وَالْآخَرُ تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَيَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ عِبْرَةً لِغَيْرِهِ فَيَحْصُلُ بِتَذْكِيرِهِ نَفْعٌ أَيْضًا . وَلِأَنَّهُ بِتَذْكِيرِهِ تَقُومُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَتَجُوزُ عُقُوبَتُهُ بَعْدَ هَذَا بِالْجِهَادِ وَغَيْرِهِ فَتَحْصُلُ بِالذِّكْرَى مَنْفَعَةٌ . فَكُلُّ تَذْكِيرٍ ذَكَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ حَصَلَ بِهِ نَفْعٌ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ النَّفْعُ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَبِلُوهُ وَاعْتَبَرُوا بِهِ وَجَاهَدُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ . فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا كُلُّ تَذْكِيرٍ قَدْ حَصَلَ بِهِ نَفْعٌ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي التَّقْيِيدِ ؟
قِيلَ : بَلْ مِنْهُ مَا لَمْ يَنْفَعْ أَصْلًا وَهُوَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ . وَذَلِكَ كَمَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ كَأَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ { سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ } فَإِنَّهُ لَا يُخَصُّ بِتَذْكِيرِ بَلْ يُعْرَضُ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَصْغَ إلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَمِعْ لِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَنْهُ كَمَا قَالَ : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ } ثُمَّ قَالَ : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } فَهُوَ إذَا بَلَّغَ قَوْمًا الرِّسَالَةَ فَقَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ امْتَنَعُوا مِنْ سَمَاعِ كَلَامِهِ أَعْرَضَ عَنْهُمْ . فَإِنَّ الذِّكْرَى حِينَئِذٍ لَا تَنْفَعُ أَحَدًا . وَكَذَلِكَ مَنْ أَظْهَرَ أَنَّ الْحُجَّةَ قَامَتْ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَهْتَدِي فَإِنَّهُ لَا يُكَرِّرُ التَّبْلِيغَ عَلَيْهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّذْكِيرِ أَمْرٌ بِالتَّذْكِيرِ التَّامِّ النَّافِعِ كَمَا هُوَ أَمْرٌ بِالتَّذْكِيرِ الْمُشْتَرَكِ . وَهَذَا التَّامُّ النَّافِعُ يَخُصُّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْتَفِعِينَ . فَهُمْ إذَا آمَنُوا ذَكَّرَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ وَكُلَّمَا أُنْزِلَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ ذَكَّرَهُمْ بِهِ وَيُذَكِّرُهُمْ بِمَعَانِيهِ وَيُذَكِّرُهُمْ بِمَا نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ . بِخِلَافِ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } { كَأَنَّهُمْ
حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ } { فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُذَكِّرُهُمْ كَمَا يُذَكِّرُ الْمُؤْمِنِينَ إذَا كَانَتْ الْحُجَّةُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ التَّذْكِرَةِ لَا يَسْمَعُونَ . وَلِهَذَا قَالَ . { عَبَسَ وَتَوَلَّى } { أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } { أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى } { فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى } { وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى } { وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى } { وَهُوَ يَخْشَى } { فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى } فَأَمَرَهُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَنْ جَاءَهُ يَطْلُبُ أَنْ يَتَزَكَّى وَأَنْ يَتَذَكَّرَ . وَقَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } إلَى قَوْلِهِ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } فَذَكَرَ التَّذَكُّرَ وَالتَّزَكِّي كَمَا ذَكَرَهُمَا هُنَاكَ . وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا يَنْتَفِعُ بِالذِّكْرَى دُونَ ذَاكَ . فَيَكُونُ مَأْمُورًا أَنْ يُذَكِّرَ الْمُنْتَفِعِينَ بِالذِّكْرَى تَذْكِيرًا يَخُصُّهُمْ بِهِ غَيْرَ التَّبْلِيغِ الْعَامِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ كَمَا قَالَ : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ } { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ فَسَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ فَقَالَ اللَّهُ لَهُ : وَلَا تَجْهَرْ بِهِ فَيَسْمَعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَا تُخَافِتْ
بِهِ عَنْ أَصْحَابِك } . فَنَهَى عَنْ أَنْ يُسْمِعَهُمْ إسْمَاعًا يَكُونُ ضَرَرُهُ أَعْظَمَ مِنْ نَفْعِهِ . وَهَكَذَا كُلُّ مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةً عَلَى مَفْسَدَتِهِ وَالْمَصْلَحَةُ هِيَ الْمَنْفَعَةُ وَالْمَفْسَدَةُ هِيَ الْمَضَرَّةُ . فَهُوَ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالتَّذْكِيرِ إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ رَاجِحَةً وَهُوَ أَنْ تَحْصُلَ بِهِ مَنْفَعَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى الْمَضَرَّةِ . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي . فَحَيْثُ كَانَ الضَّرَرُ رَاجِحًا فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَمَّا يَجْلِبُ ضَرَرًا رَاجِحًا . وَالنَّفْعُ أَعَمُّ فِي قَبُولِ جَمِيعِهِمْ فَقَبُولُ بَعْضِهِمْ نَفْعٌ وَقِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَقْبَلْ نَفْعٌ وَظُهُورُ كَلَامِهِ حَتَّى يُبَلِّغَ الْبَعِيدَ نَفْعٌ وَبَقَاؤُهُ عِنْدَ مَنْ سَمِعَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ نَفْعٌ . فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَكَّرَ قَطُّ إلَّا ذِكْرَى نَافِعَةً لَمْ يُذَكِّرْ ذِكْرَى قَطُّ يَكُونُ ضَرَرُهَا رَاجِحًا . وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةً وَمَنْفَعَتُهُ رَاجِحَةً . وَأَمَّا مَا كَانَتْ مُضَرَّتُهُ رَاجِحَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِهِ . وَأَمَّا جَهْمٌ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ فَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ أَلْبَتَّةَ بَلْ يَكُونُ ضَرَرًا مَحْضًا إذَا فَعَلَهُ
الْمَأْمُورُ بِهِ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْمُتَكَلِّمِينَ - أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَغَيْرِهِ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ فَنَصَرَ مَذْهَبَ جَهْمٍ وَالْجَبْرِيَّةِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ قَوْلَهُ : { الذِّكْرَى } يَتَنَاوَلُ التَّذَكُّرَ وَالتَّذْكِيرَ . فَإِنَّهُ قَالَ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } . فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَ ذَلِكَ تَذْكِيرَهُ .
ثُمَّ قَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } . وَاَلَّذِي يَتَجَنَّبُهُ الْأَشْقَى هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ مَنْ يَخْشَى وَهُوَ التَّذَكُّرُ . فَضَمِيرُ الذِّكْرَى هُنَا يَتَنَاوَلُ التَّذَكُّرَ وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ التَّذْكِيرِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ لَمْ يَتَجَنَّبْهُ أَحَدٌ . لَكِنْ قَدْ يُرَادُ بِتَجَنُّبِهَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ إلَيْهَا وَلَمْ يُصْغِ كَمَا قَالَ : { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ } . وَالْحُجَّةُ قَامَتْ بِوُجُودِ الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّدَبُّرِ لَا بِنَفْسِ الِاسْتِمَاعِ . فَفِي الْكُفَّارِ مَنْ تَجَنَّبَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَاخْتَارَ غَيْرَهُ كَمَا يَتَجَنَّبُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَمَاعَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ إذَا ذُكِّرُوا فَتَذَّكَّرُوا كَمَا قَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } . فَلَمَّا قَالَ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } فَقَدْ يُرَادُ بِالذِّكْرَى نَفْسُ
تَذْكِيرِهِ تَذَكَّرَ أَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ . وَتَذْكِيرُهُ نَافِعٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا يُنَاسِبُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا يُرَادُ بِهِ تَوْبِيخَ مِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } فَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالنَّحَّاسُ وَالزَّهْرَاوِيُّ : مَعْنَاهُ " وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْ " فَاقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ الْوَاحِدِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الثَّانِي . قَالَ وَقَالَ بَعْضُ الْحُذَّاقِ : قَوْلُهُ : { إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ لِقُرَيْشِ . أَيْ إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى فِي هَؤُلَاءِ الطُّغَاةِ الْعُتَاةِ . وَهَذَا كَنَحْوِ قَوْلِ الشَّاعِرِ :
لَقَدْ أَسْمَعْت لَوْ نَادَيْت حَيًّا * * * وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
وَهَذَا كُلُّهُ كَمَا تَقُولُ لِرَجُلِ : " قُلْ لِفُلَانِ وَاعْذُلْهُ إنْ سَمِعَك " إنَّمَا هُوَ تَوْبِيخٌ لِلْمُشَارِ إلَيْهِ .
قُلْت : هَذَا الْقَائِلُ هُوَ الزمخشري وَهَذَا الْقَوْلُ فِيهِ بَعْضُ الْحَقِّ . لَكِنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ ذَاكَ الْقَوْلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَذْكِيرِ مَنْ لَا يَقْبَلُ وَلَا يَنْفَعُ بِالذِّكْرَى دُونَ مَنْ يَقْبَلُ كَمَا قَالَ : " إنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى فِي هَؤُلَاءِ الطُّغَاةِ الْعُتَاةِ " وَكَمَا أَنْشَدَهُ فِي الْبَيْتِ .
ثُمَّ الْبَيْتُ الَّذِي أَنْشَدَهُ خَبَرٌ عَنْ شَخْصٍ خَاطَبَ آخَرَ . فَيَقُولُ : لَقَدْ أَسْمَعْت لَوْ كَانَ مَنْ تُنَادِيهِ حَيًّا . وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } وَقَوْلِهِ : { إنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ } وَقَوْلِهِ : { قُلْ إنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إذَا مَا يُنْذَرُونَ } . فَهَذَا يُنَاسِبُ مَعْنَى الْبَيْتِ وَهُوَ خَبَرٌ خَاصٌّ . وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْإِنْذَارِ فَهُوَ مُطْلَقٌ عَامٌّ . وَإِنْ كَانَ مَخْصُوصًا فَالْمُؤْمِنُونَ أَحَقُّ بِالتَّخْصِيصِ كَمَا قَالَ : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } وَقَالَ : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } . لَيْسَ الْأَمْرُ مُخْتَصًّا بِمَنْ لَا يَسْمَعُ . كَيْفَ وَقَدْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } فَهَذَا الَّذِي يَخْشَى هُوَ مِمَّنْ أَمَرَهُ بِتَذْكِيرِهِ وَهُوَ يَنْتَفِعُ بِالذِّكْرَى . فَكَيْفَ لَا يَكُونُ لِهَذَا الشَّرْطِ فَائِدَةٌ إلَّا ذَمَّ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ ؟ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ " قُلْ لِفُلَانِ وَاعْذِلْهُ إنْ سَمِعَك " فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ يَقُولُهُ النَّاسُ لِمَنْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ وَلَكِنْ يَرْجُونَ قَبُولَهُ . فَهُمْ يَقْصِدُونَ تَوْبِيخَهُ عَلَى تَقْدِيرِ الرَّدِّ لَا عَلَى تَقْدِيرِ الْقَبُولِ . فَيَقُولُونَ : " قُلْ لَهُ إنْ كَانَ يَسْمَعُ مِنْك " و " قُلْ لَهُ إنْ كَانَ يَقْبَلُ " و " انْصَحْهُ إنْ
كَانَ يَقْبَلُ النَّصِيحَةَ " وَهُوَ كُلُّهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ . فَهُوَ أَمْرٌ بِالنَّصِيحَةِ التَّامَّةِ الْمَقْبُولَةِ إنْ كَانَ يَقْبَلُهَا وَأَمْرٌ بِأَصْلِ النُّصْحِ وَإِنْ رَدَّهُ وَذَمَّ لَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } أَمَرَ بِتَذْكِيرِ كُلِّ أَحَدٍ فَإِنْ انْتَفَعَ كَانَ تَذَكُّرُهُ تَامًّا نَافِعًا . وَإِلَّا حَصَلَ أَصْلُ التَّذْكِيرِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ذَمِّهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ التَّوْبِيخَ . مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَالَ : { إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى } وَلَمْ يَقُلْ " ذَكِّرْ مَنْ تَنْفَعُهُ الذِّكْرَى فَقَطْ " . كَمَا فِي قَوْلِهِ : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } فَهُنَاكَ الْأَمْرُ بِالتَّذْكِيرِ خَاصٌّ . وَقَدْ جَاءَ عَامًّا وَخَاصًّا كَخِطَابِ الْقُرْآنِ بـ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } وَهُوَ عَامٌّ وب { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } خَاصٌّ لِمَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ . فَهُنَاكَ قَالَ : { فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } وَهُنَا قَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } . وَلَمْ يَقُلْ " سَيَنْتَفِعُ مَنْ يَخْشَى " . فَإِنَّ النَّفْعَ الْحَاصِلَ بِالتَّذْكِيرِ أَعَمُّ مِنْ تَذَكُّرِ مَنْ يَخْشَى . فَإِنَّهُ إذَا ذَكَّرَ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الْجَمِيعِ . وَالْأَشْقَى الَّذِي تَجَنَّبَهَا حَصَلَ بِتَذْكِيرِهِ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقُهُ لِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَفِي ذَلِكَ لِلَّهِ حِكَمٌ وَمَنَافِعُ هِيَ نِعَمٌ عَلَى عِبَادِهِ . فَكُلُّ مَا يَقْضِيهِ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ : وَلِهَذَا يَقُولُ عَقِبَ تَعْدِيدِ مَا يَذْكُرُهُ : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } وَلَمَّا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ النَّجْمِ وَذَكَرَ إهْلَاكَ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ قَالَ : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } فَإِهْلَاكُهُمْ مِنْ آلَاءِ رَبِّنَا . وَآلَاؤُهُ نِعَمُهُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَلَى حِكْمَتِهِ وَعَلَى مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَمِنْ نَفْعِ تَذْكِيرِ الَّذِي يَتَجَنَّبُهَا أَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَاسْتَحَقَّ الْعَذَابَ خَفَّ بِذَلِكَ شَرٌّ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ اللَّهَ يُهْلِكُهُمْ بِعَذَابِ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِيهِمْ . وَبِهَلَاكِهِ يَنْتَصِرُ الْإِيمَانُ وَيَنْتَشِرُ وَيَعْتَبِرُ بِهِ غَيْرُهُ وَذَلِكَ نَفْعٌ عَظِيمٌ . وَهُوَ أَيْضًا يَتَعَجَّلُ مَوْتَهُ فَيَكُونُ أَقَلَّ لِكُفْرِهِ . فَإِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ فَبِهِ تَصِلُ الرَّحْمَةُ إلَى كُلِّ أَحَدٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي يَتَجَنَّبُهَا بِتَجَنُّبِهِ اسْتَحَقَّ هَذَا الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ فَصَارَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِغَيْرِهِ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ : { فَجَعَلْنَاهُمْ
سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ }
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ يَخْشَى يَتَذَكَّرُ . وَالْخَشْيَةُ قَدْ تَحْصُلُ عَقِبَ الذِّكْرِ وَقَدْ تَحْصُلُ قَبْلَ الذِّكْرِ وَقَوْلُهُ : { مَنْ يَخْشَى } مُطْلَقٌ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَشِيَ أَوَّلًا حَتَّى يَذَّكَّرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ هَذَا كَقَوْلِهِ : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } وَقَوْلُهُ : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } وَهُوَ إنَّمَا خَافَ الْوَعِيدَ بَعْدَ أَنْ سَمِعَهُ لَمْ يَكُنْ وَعِيدٌ قَبْلَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ } وَهُوَ إنَّمَا اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُ الرَّسُولُ . وَقَدْ لَا يَكُونُونَ خَافُوهَا قَبْلَ الْإِنْذَارِ وَلَا كَانُوا مُتَّقِينَ قَبْلَ سَمَاعِ
الْقُرْآنِ بَلْ بِهِ صَارُوا مُتَّقِينَ . وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : مَا يَسْمَعُ هَذَا إلَّا سَعِيدٌ وَإِلَّا مُفْلِحٌ وَإِلَّا مَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَسَنَاتُ وَالنِّعَمُ تَحْصُلُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ . وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ : { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } وَقَدْ قَالَ فِي نَظِيرِهِ { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } وَإِنَّمَا يَشْقَى بِتَجَنُّبِهَا . وَهَذَا كَمَا يُقَالُ : إنَّمَا يُحَذِّرُ مَنْ يَقْبَلُ وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ مَنْ عَمِلَ بِهِ . فَمَنْ اسْتَمَعَ الْقُرْآنَ فَآمَنَ بِهِ وَعَمِلَ بِهِ صَارَ مِنْ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ هُوَ هُدًى لَهُمْ . وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُتَّقِينَ ؛ وَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ اهْتَدَى بِهِ . بَلْ هُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ . فَلَمَّا سَمِعُوهُ صَارَ هُدًى وَشِفَاءٌ ؛ بَلْ إذَا سَمِعَهُ الْكَافِرُ فَآمَنَ بِهِ صَارَ فِي حَقِّهِ هُدًى وَشِفَاءٌ وَكَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ بَعْدَ سَمَاعِهِ .
وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي النَّوْعِ الْمَذْمُومِ : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وَلَا يَجِبَ أَنْ يَكُونُوا فَاسِقِينَ قَبْلَ ضَلَالِهِمْ ؛ بَلْ مَنْ سَمِعَهُ فَكَذَّبَ بِهِ صَارَ فَاسِقًا وَضَلَّ . وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُ أَدْخَلُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ كَالْخَوَارِجِ . وَكَانَ سَعْدٌ يَقُولُ : هُمْ مِنْ { الْفَاسِقِينَ } { الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } وَلَمْ يَكُنْ عَلِيٌّ وَسَعْدٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ يُكَفِّرُونَهُمْ . وَسَعْدٌ أَدْخَلَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِقَوْلِهِ : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ } وَهْم ضَلُّوا بِهِ بِسَبَبِ تَحْرِيفِهِمْ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْوِيلِهِ عَلَى غَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ . فَتَمَسَّكُوا بِمُتَشَابِهِهِ وَأَعْرَضُوا عَنْ مُحْكَمِهِ وَعَنْ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي تُبَيِّنُ مُرَادَ اللَّهِ بِكِتَابِهِ . فَخَالَفُوا السُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ مَعَ مَا خَالَفُوهُ مِنْ مُحْكَمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلِهَذَا أَدْخَلَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ فِي الَّذِينَ { يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ الْآيَةُ وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ يَخْشَى فَلَا بُدَّ أَنْ
يَتَذَكَّرَ . فَقَدْ يَتَذَكَّرُ فَتَحْصُلُ لَهُ بِالتَّذَكُّرِ خَشْيَةٌ وَقَدْ يَخْشَى فَتَدْعُوهُ الْخَشْيَةُ إلَى التَّذَكُّرِ . وَهَذَا الْمَعْنَى ذَكَرَهُ قتادة : فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا خَشِيَ اللَّهَ عَبْدٌ قَطُّ إلَّا ذَكَرَهُ . { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } قَالَ قتادة : فَلَا وَاَللَّهِ لَا يَتَنَكَّبُ عَبْدٌ هَذَا الذِّكْرَ زُهْدًا فِيهِ وَبُغْضًا لَهُ وَلِأَهْلِهِ إلَّا شَقِيًّا بَيْنَ الشَّقَاءِ . وَالْخَشْيَةُ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقَةٌ تَتَنَاوَلُ خَشْيَةَ اللَّهِ وَخَشْيَةَ عَذَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } { فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا } { إلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } { إنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } وَقَالَ : { قَالُوا إنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ }
فَصْلٌ :
الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } وَقَالَ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } فَعَطَفَ الْخَشْيَةَ عَلَى التَّذَكُّرِ . وَقَالَ : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } وَفِي قِصَّةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ الْمُؤْمِنِ الْأَعْمَى قَالَ : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } وَقَالَ فِي { حم } الْمُؤْمِنِ : { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ } فَقَالَ { وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ }
وَالْإِنَابَةُ جَعَلَهَا مَعَ الْخَشْيَةِ فِي قَوْلِهِ : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } { ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِي يَخْشَى اللَّهَ لَا بُدَّ أَنْ يَرْجُوَهُ وَيَطْمَعَ فِي رَحْمَتِهِ فَيُنِيبَ إلَيْهِ وَيُحِبَّهُ وَيُحِبَّ عِبَادَتَهُ وَطَاعَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُنَجِّيهِ مِمَّا يَخْشَاهُ وَيَحْصُلُ بِهِ مَا يُحِبُّهُ . وَالْخَشْيَةُ لَا تَكُونُ مِمَّنْ قَطَعَ بِأَنَّهُ مُعَذَّبٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا قَطْعٌ بِالْعَذَابِ يَكُونُ مَعَهُ الْقُنُوطُ وَالْيَأْسُ وَالْإِبْلَاسُ . لَيْسَ هَذَا خَشْيَةً وَخَوْفًا . وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَشْيَةُ وَالْخَوْفُ مَعَ رَجَاءِ السَّلَامَةِ . وَلِهَذَا قَالَ : { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } فَصَاحِبُ الْخَشْيَةِ لِلَّهِ يُنِيبُ إلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } { ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ } وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَمَامِ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ . فَأَمَّا فِي مُبَادِيهَا فَقَدْ يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ خَوْفٌ مِنْ الْعَذَابِ وَالذَّنْبِ
الَّذِي يَقْتَضِيهِ فَيَشْتَغِلُ بِطَلَبِ النَّجَاةِ وَالسَّلَامِ وَيُعْرِضُ عَنْ طَلَبِ الرَّحْمَةِ وَالْجَنَّةِ . وَقَدْ يَفْعَلُ مَعَ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ تُوَازِيهَا وَتُقَابِلُهَا فَيَنْجُو بِذَلِكَ مِنْ النَّارِ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ بَلْ يَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْرَافِ . وَإِنْ كَانَ مَآلُهُمْ إلَى الْجَنَّةِ فَلَيْسُوا مِمَّنْ أُزْلِفَتْ لَهُمْ الْجَنَّةُ أَيْ قُرِّبَتْ لَهُمْ إذْ كَانُوا لَمْ يَأْتُوا بِخَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ . وَاسْتَجْمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ : { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } وَقَوْلُهُ : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } فَلَا يُنَاقِضُ هَذِهِ الْآيَةَ . لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ " سَيَخْشَى مَنْ يَذَّكَّرُ " بَلْ ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَشِيَ فَإِنَّهُ يَتَذَكَّرُ إمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ فَيَخْشَى وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَتَذَكَّرُ فَلَا يَخْشَى ؛ وَإِمَّا أَنْ تَدْعُوَهُ الْخَشْيَةُ إلَى التَّذَكُّرِ . فَالْخَشْيَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلتَّذَكُّرِ . فَكُلُّ خَاشٍ مُتَذَكِّرٌ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } فَلَا يَخْشَاهُ إلَّا
عَالِمٌ فَكُلُّ خَاشٍ لِلَّهِ فَهُوَ عَالِمٌ . هَذَا مَنْطُوقُ الْآيَةِ . وَقَالَ السَّلَفُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَالِمٍ فَإِنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ كَمَا دَلَّ غَيْرُهَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ . كَمَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَنْ قَوْلِهِ : { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } فَقَالُوا لِي : " كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ " . وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ الْحَصْرَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . فَنَفَى الْخَشْيَةَ عَمَّنْ لَيْسَ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ بِهِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ يَخَافُونَهُ . قَالَ تَعَالَى : { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَأَثْبَتَهَا لِلْعُلَمَاءِ . فَكُلُّ عَالِمٍ يَخْشَاهُ . فَمَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّهَ فَلَيْسَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ مِنْ الْجُهَّالِ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : " كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا وَكَفَى
بِالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ جَهْلًا " . وَقَالَ رَجُلٌ لِلشَّعْبِيِّ " أَيُّهَا الْعَالِمُ " فَقَالَ : " إنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ " فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ يَخْشَاهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَذَكَّرَ . وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْأَشْقَى يَتَجَنَّبُ الذِّكْرَى فَصَارَ الَّذِي يَخْشَى ضِدَّ الْأَشْقَى . فَلِذَلِكَ يُقَالُ " كُلُّ مَنْ تَذَكَّرَ خَشِيَ " . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ التَّذَكُّرَ سَبَبُ الْخَشْيَةِ فَإِنْ كَانَ تَامًّا أَوْجَبَ الْخَشْيَةَ ؛ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ سَبَبُ الْخَشْيَةِ فَإِنْ كَانَ تَامًّا أَوْجَبَ الْخَشْيَةَ .
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } جَعَلَ ذَلِكَ نَوْعَيْنِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ إذَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ وَلَيْسَ هُوَ إلَهًا وَرَبًّا كَمَا ذُكِّرَ وَذَكَرَ إحْسَانَ اللَّهِ إلَيْهِ . فَهَذَا التَّذَكُّرُ يَدْعُوهُ إلَى اعْتِرَافِهِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِنْعَامِهِ عَلَيْهِ . فَيَقْتَضِي الْإِيمَانَ وَالشُّكْرَ وَإِنْ قَدَّرَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُهُ . فَإِنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ الشَّيْءِ حَقًّا وَنَافِعًا يَقْتَضِي طَلَبَهُ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا
بِعَدَمِهِ . كَمَا يُسَارِعُ الْمُؤْمِنُونَ إلَى فِعْلِ التَّطَوُّعَاتِ وَالنَّوَافِلِ لِمَا فِيهَا مِنْ النَّفْعِ وَإِنْ كَانَ لَا عُقُوبَةَ فِي تَرْكِهَا . كَمَا يُحِبُّ الْإِنْسَانُ عُلُومًا نَافِعَةً وَإِنْ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِتَرْكِهَا . وَكَمَا قَدْ يُحِبُّ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِيَ الْأُمُورِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَاللَّذَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ ضَرَرًا بِتَرْكِهَا . فَهُوَ إذَا تَذَكَّرَ آلَاء اللَّهِ وَتَذَكَّرَ إحْسَانَهُ إلَيْهِ فَهَذَا قَدْ يُوجِبُ اعْتِرَافَهُ بِحَقِّ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ وَيَقْتَضِي شُكْرَهُ لِلَّهِ وَتَسْلِيمَ قَوْمِ مُوسَى إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ عَذَابًا . فَهَذَا قَدْ حَصَلَ بِمُجَرَّدِ التَّذَكُّرِ . قَالَ { أَوْ يَخْشَى } . وَنَفْسُ الْخَشْيَةِ إذَا ذَكَرَ لَهُ مُوسَى مَا تَوَعَّدَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ هَذَا الْخَوْفَ قَدْ يَحْمِلُهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ وَلَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ . وَقَدْ يَحْصُلُ تَذَكُّرٌ بِلَا خَشْيَةٍ وَقَدْ يَحْصُلُ خَشْيَةٌ بِلَا تَذَكُّرٍ وَقَدْ يَحْصُلَانِ جَمِيعًا وَهُوَ الْأَغْلَبُ . قَالَ تَعَالَى : { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } . وَأَيْضًا فَذِكْرُ الْإِنْسَانِ يَحْصُلُ بِمَا عَرَفَهُ مِنْ الْعُلُومِ قَبْلَ هَذَا فَيَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ وَخَشْيَتُهُ تَكُونُ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْوَعِيدِ . فَبِالْأَوَّلِ يَكُونُ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ وَالثَّانِي يَكُونُ مِمَّنْ لَهُ أُذُنٌ يَسْمَعُ بِهَا .
وَقَدْ تَحْصُلُ الذِّكْرَى الْمُوجِبَةُ لِلْخَيْرِ بِهَذَا وَبِهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ } { إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } . الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ : أَنَّ التَّذَكُّرَ سَبَبُ الْخَشْيَةِ وَالْخَشْيَةُ حَاصِلَةٌ عَنْ التَّذَكُّرِ . فَذَكَرَ التَّذَكُّرَ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ وَذَكَرَ الْخَشْيَةَ الَّتِي هِيَ النَّتِيجَةُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْتَلْزِمًا لِلْآخَرِ كَمَا قَالَ { إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } وَكَمَا قَالَ أَهْلُ النَّارِ : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وَقَالَ : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } فَكُلٌّ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَحْصُلُ بِهِ النَّجَاةُ لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ . فَاَلَّذِي يَسْمَعُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ سَمْعًا يَعْقِلُ بِهِ مَا قَالُوهُ يَنْجُو . وَإِلَّا فَالسَّمْعُ بِلَا عَقْلٍ لَا يَنْفَعُهُ كَمَا قَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } وَقَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ } وَقَالَ : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ بِلَا سَمْعٍ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ لَا يَنْفَعُ . وَقَدْ اعْتَرَفَ أَهْلُ النَّارِ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ فَقَالُوا : { بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } . وَكَذَلِكَ الْمُعْتَبِرِينَ بِآثَارِ الْمُعَذَّبِينَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } . إنَّمَا يَنْتَفِعُونَ إذَا سَمِعُوا أَخْبَارَ الْمُعَذَّبِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَالنَّاجِينَ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ فَسَمِعُوا قَوْلَ الرُّسُلِ وَصَدَّقُوهُمْ . الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ الْخَشْيَةَ أَيْضًا سَبَبٌ لِلتَّذَكُّرِ كَمَا تَقَدَّمَ . فَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِلْآخَرِ . فَقَدْ يَخَافُ الْإِنْسَانُ فَيَتَذَكَّرُ وَقَدْ يَتَذَكَّرُ الْأُمُورَ الْمَخُوفَةَ فَيَطْلُبُ النَّجَاةَ مِنْهَا وَيَتَذَكَّرُ مَا يَرْجُو بِهِ النَّجَاةَ مِنْهَا فَيَفْعَلُهُ . فَإِنْ قِيلَ : مُجَرَّدُ ظَنِّ الْخَوْفِ قَدْ يُوجِبُ الْخَوْفَ فَكَيْفَ قَالَ : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ؟ . قِيلَ : النَّفْسُ لَهَا هَوًى غَالِبٌ قَاهِرٌ لَا يَصْرِفُهُ مُجَرَّدُ الظَّنِّ وَإِنَّمَا يَصْرِفُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْعَذَابَ يَقَعُ وَلَا يُوقِنُ بِذَلِكَ فَلَا يَتْرُكُ هَوَاهُ . وَلِهَذَا قَالَ : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } .
وَقَالَ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ : { وَإِذَا قِيلَ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إنْ نَظُنُّ إلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } وَوَصَفَ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُمْ بِالْآخِرَةِ يُوقِنُونَ . وَلِهَذَا أَقْسَمَ الرَّبُّ عَلَى وُقُوعِ الْعَذَابِ وَالسَّاعَةِ . وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُقْسِمَ عَلَى وُقُوعِ السَّاعَةِ وَعَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ فَقَالَ : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } وَقَالَ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } وَقَالَ : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ } .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَمَا يَتَذَكَّرُ إلَّا مَنْ يُنِيبُ } فَهُوَ حَقٌّ كَمَا قَالَ . فَإِنَّ الْمُتَذَكِّرَ إمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ مَا يَدْعُوا إلَى الرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ وَالثَّوَابِ كَمَا يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا يَدْعُوهُ إلَى السُّؤَالِ فَيُنِيبُ وَإِمَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ مَا يَقْتَضِي الْخَوْفَ وَالْخَشْيَةَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْإِنَابَةِ حِينَئِذٍ لِيَنْجُوَ مِمَّا يَخَافُ . وَلِهَذَا قِيلَ فِي فِرْعَوْنَ { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } فَيُنِيبُ { أَوْ يَخْشَى }
وَكَذَلِكَ قَالَ لَهُ مُوسَى { هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى } { وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } فَجَمَعَ مُوسَى : بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ لِتَلَازُمِهِمَا . وَقَالَ فِي حَقِّ الْأَعْمَى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } . فَذَكَرَ الِانْتِفَاعَ بِالذِّكْرَى كَمَا قَالَ { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } . وَالنَّفْعُ نَوْعَانِ : حُصُولُ النِّعْمَةِ وَانْدِفَاعُ النِّقْمَةِ . وَنَفْسُ انْدِفَاعِ النِّقْمَةِ نَفْعٌ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُ نَفْعٌ آخَرُ وَنَفْسُ الْمَنَافِعِ الَّتِي يُخَافُ مَعَهَا عَذَابٌ نَفْعٌ وَكِلَاهُمَا نَفْعٌ . فَالنَّفْعُ تَدْخُلُ فِيهِ الثَّلَاثَةُ وَالثَّلَاثَةُ تَحْصُلُ بِالذِّكْرَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } . وَأَمَّا ذِكْرُ التَّزَكِّي مَعَ التَّذَكُّرِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ الْخَشْيَةَ مَعَ التَّذَكُّرِ . وَذَلِكَ أَنَّ التَّزَكِّيَ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي تَصِيرُ بِهِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ زَكِيَّةً كَمَا قَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } وَقَالَ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا }
وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } وَقَالَ { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَقَالَ مُوسَى لِفِرْعَوْنَ : { هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى } { وَأَهْدِيَكَ إلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } . وَعَطَفَ عَلَيْهِ { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنْ التَّزَكِّيَ يَحْصُلُ بِامْتِثَالِ أَمْرِ الرَّسُولِ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ لَا يَتَذَكَّرُ عُلُومًا عَنْهُ كَمَا قَالَ : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } ثُمَّ قَالَ : { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } . فَالتِّلَاوَةُ عَلَيْهِمْ وَالتَّزْكِيَةُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَعْلِيمُ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ خَاصٌّ بِبَعْضِهِمْ . وَكَذَلِكَ التَّزَكِّي عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَمَّا التَّذَكُّرُ فَهُوَ مُخْتَصٌّ لِمَنْ لَهُ عُلُومٌ يَذَّكَّرُهَا فَعَرَفَ بِتَذَكُّرِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى } يَدْخُلُ فِيهِ النَّفْعُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَالتَّزَكِّي أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ . الثَّالِثُ : أَنَّ التَّذَكُّرَ سَبَبُ التَّزَكِّي . فَإِنَّهُ إذَا تَذَكَّرَ خَافَ وَرَجَا فَتَزَكَّى . فَذَكَرَ الْحُكْمَ وَذَكَرَ سَبَبَهُ . ذَكَرَ الْعَمَلَ وَذَكَرَ الْعِلْمَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ .
فَإِنَّهُ لَا يَتَزَكَّى حَتَّى يَتَذَكَّرَ مَا يَسْمَعُهُ مِنْ الرَّسُولِ كَمَا قَالَ : { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى } . فَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ خَشْيَةٍ وَتَذَكُّرٍ . وَهُوَ إذَا تَذَكَّرَ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ وَقَدْ تَتِمُّ الْمَنْفَعَةُ فَيَتَزَكَّى . وَقَوْلُهُ : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } فِيهِ أَيْضًا نَحْوَ هَذِهِ الْوُجُوهِ . فَإِنَّ الشَّاكِرَ قَدْ يَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ وَالتَّذَكُّرُ قَدْ يَقْتَضِي الْخَشْيَةَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّذَكُّرَ يَقْتَضِي الْخَوْفَ مِنْ الْعِقَابِ وَطَلَبَ الثَّوَابِ فَيَعْمَلُ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَالشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ الْمَاضِيَةِ . وَأَيْضًا فَالتَّذَكُّرُ تَذَكُّرُ عُلُومٍ سَابِقَةٍ وَمِنْهَا تَذَكُّرُ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ سَبَبٌ لِلشُّكْرِ . تَذَكُّرُ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الشُّكْرَ يَقْتَضِي الْمَزِيدَ مِنْ النِّعَمِ وَالتَّذَكُّرَ قَدْ يَكُونُ لِهَذَا وَقَدْ يَكُونُ خَوْفًا مِنْ الْعَذَابِ . وَقَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ فَالشَّاكِرُ قَدْ يَشْكُرُ الشُّكْرَ الْوَاجِبَ لِئَلَّا يَكُونَ كَفُورًا فَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ بِسَلْبِ النِّعْمَةِ وَعُقُوبَاتٍ أُخَرٍ
وَالْمُتَذَكِّرُ قَدْ يَتَذَكَّرُ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ فَيُطِيعُهُ طَلَبًا لِرَحْمَتِهِ . وَأَيْضًا فَالتَّذَكُّرُ قَدْ يَكُونُ لِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَدْفَعُ بِهَا الْعُقَابَ وَالشَّكُورُ يَكُونُ لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ . فَقِيلَ لَهُ : أَتَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ؟ فَقَالَ : أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ؟ } . { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَمَنَّيَن أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ : إمَّا مُحْسِنٌ فَيَزْدَادُ إحْسَانًا وَإِمَّا مُسِيءٌ فَلَعَلَّهُ أَنْ يُسْتَعْتَبَ } . فَالْمُؤْمِنُ دَائِمًا فِي نِعْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ تَقْتَضِي شُكْرًا وَفِي ذَنْبٍ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِغْفَارٍ . وَهُوَ فِي سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ يَقُولُ { أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } . وَقَدْ عَلِمَ تَحْقِيقَ قَوْلِهِ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } فَمَا أَصَابَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ هِيَ نِعَمُ اللَّهِ فَتَقْتَضِي شُكْرًا وَمَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَصَائِبِ فَبِذُنُوبِهِ تَقْتَضِي تَذَكُّرًا لِذُنُوبِهِ يُوجِبُ تَوْبَةً وَاسْتِغْفَارًا . وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ { اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ } فَيَتُوبَ
وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ ذُنُوبِهِ { أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } لِرَبِّهِ عَلَى نِعَمِهِ . وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِالْعَبْدِ مِنْ نِعْمَةٍ وَكُلُّ مَا يُخْلِفُهُ اللَّه فَهُوَ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ . فَكُلَّمَا نَظَرَ إلَى مَا فَعَلَهُ رَبُّهُ شَكَرَ وَإِذَا نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ اسْتَغْفَرَ . وَالتَّذَكُّرُ قَدْ يَكُونُ تَذَكُّرَ ذُنُوبِهِ وَعِقَابِ رَبِّهِ . وَقَدْ يَدْخُلُ فِيهِ تَذَكُّرُ آلَائِهِ وَنِعَمِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو إلَى الشُّكْرِ . قَالَ تَعَالَى { اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَقَدْ أَمَرَ بِذِكْرِ نِعَمِهِ . فَالْمُتَذَكِّرُ يَتَذَكَّرُ نِعَمَ رَبِّهِ وَيَتَذَكَّرُ ذُنُوبَهُ . وَأَيْضًا فَهُوَ ذَكَرَ الشَّكُورِ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ الشُّكْرَ ثَابِتٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَذَكَرَ التَّذَكُّرَ لِأَنَّهُ أَصْلٌ لِلِاسْتِغْفَارِ وَالشُّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَذَكَرَ الْمَبْدَأَ وَذَكَرَ النِّهَايَةَ . وَهَذَا الْمَعْنَى يَجْمَعُ مَا قِيلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَالتَّذَكُّرُ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِتَذَكُّرِهِ كَمَا قَالَ : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } أَيْ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ بِالنَّذِيرِ الَّذِي جَاءَكُمْ وَبِتَعْمِيرِكُمْ عُمْرًا يَتَّسِعُ لِلتَّذَكُّرِ .
وَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِذِكْرِ نِعَمِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } . وَالْمَطْلُوبُ بِذِكْرِهَا شُكْرَهَا كَمَا قَالَ : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } . وَقَوْلُهُ : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ خُوطِبَ بِالْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } . فَالرَّسُولُ مِنْ أَنْفَسِ مَنْ خُوطِبَ بِهَذَا الْكَلَامِ إذْ هِيَ كَافُ الْخِطَابِ . وَلَمَّا خُوطِبَ بِهِ أَوَّلًا قُرَيْشٌ ثُمَّ الْعَرَبُ ثُمَّ سَائِرُ الْأُمَمِ صَارَ يَخُصُّ وَيَعُمُّ بِحَسَبِ ذَلِكَ . وَفِيهِ مَا يَخُصُّ قُرَيْشًا كَقَوْلِهِ : { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } { إيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ
وَالصَّيْفِ } . وَقَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } . وَفِيهِ مَا يَعُمُّ الْعَرَبَ وَيَخُصُّهُمْ كَقَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } وَالْأُمِّيُّونَ يَتَنَاوَلُ الْعَرَبَ قَاطِبَةً دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ . ثُمَّ قَالَ : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ } . فَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِ الْعَرَبِ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا . فَإِنَّ قَوْلَهُ { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ } أَيْ فِي الدِّينِ دُونَ النَّسَبِ إذْ لَوْ كَانُوا مِنْهُمْ فِي النَّسَبِ لَكَانُوا مِنْ الْأُمِّيِّينَ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ فَقَالَ : { لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مُعَلَّقًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ } . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ هَؤُلَاءِ لَا يَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ . وَإِذَا كَانُوا هُمْ مِنْهُمْ فَقَدْ دَخَلُوا فِي قَوْلِهِ : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } . فَالْمِنَّةُ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ سَابِقِهِمْ وَلَاحِقِهِمْ . وَالرَّسُولُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ إنْسِيٌّ مُؤْمِنٌ . وَهُوَ مِنْ الْعَرَب أَخَصُّ لِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا جَاءَ بِلِسَانِهِمْ وَهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ أَخَصَّ . وَالْخُصُوصُ يُوجِبُ قِيَامَ الْحُجَّةِ لَا يُوجِبُ الْفَضْلَ إلَّا بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى لِقَوْلِهِ : { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } . وَلِهَذَا كَانَ الْأَنْصَارُ أَفْضَلَ مِنْ الطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ رَبِيعَةَ وَلَا مُضَرَ بَلْ مِنْ قَحْطَانَ . وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ هُودٍ لَيْسُوا مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ . وَقِيلَ إنَّهُمْ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ لِحَدِيثِ أَسْلَمَ لَمَّا قَالَ { ارْمُوا فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا } وَأَسْلَمَ مِنْ خُزَاعَةَ وَخُزَاعَةُ مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ . وَفِي هَذَا كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ إذْ الْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَنْصَارَ أَبْعَدُ نَسَبًا مِنْ كُلِّ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْقَبَائِلِ . وَمَعَ هَذَا هُمْ أَفْضَلُ مِنْ جُمْهُورِ قُرَيْشٍ إلَّا مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَفِيهِمْ قُرَشِيٌّ وَغَيْرُ قُرَشِيٍّ . وَمَجْمُوعُ السَّابِقِينَ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةِ غَيْرُ مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ .
فَقَوْلُهُ : { لَقَدْ جَاءَكُمْ } يَخُصُّ قُرَيْشًا وَالْعَرَبَ ثُمَّ يَعُمُّ سَائِرَ الْبَشَرِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ خِطَابٌ لَهُمْ . وَالرَّسُولُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَالْمَعْنَى لَيْسَ بِمَلَكِ لَا يُطِيقُونَ الْأَخْذَ مِنْهُ وَلَا جِنِّيٍّ . ثُمَّ يَعُمُّ الْجِنَّ لِأَنَّ الرَّسُولَ أُرْسِلَ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْقُرْآنِ خِطَاب لِلثَّقَلَيْنِ وَالرَّسُولُ مِنْهُمْ جَمِيعًا كَمَا قَالَ : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } فَجَعَلَ الرُّسُلَ الَّتِي أَرْسَلَهَا مِنْ النَّوْعَيْنِ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ الْإِنْسِ . فَإِنَّ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ مُشْتَرِكُونَ مَعَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءً نَاطِقِينَ مَأْمُورِينَ مَنْهِيِّينَ . فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ وَيَنْسِلُونَ وَيَغْتَذُونَ وَيَنْمُونَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ . وَهُمْ يَتَمَيَّزُونَ بِهَا عَنْ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَلَا تَنْكِحُ وَلَا تَنْسِلُ . فَصَارَ الرَّسُولُ مِنْ أَنْفَسِ الثَّقَلَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْقَدْر الْمُشْتَرِك بَيْنَهُمْ الَّذِي تَمَيَّزُوا بِهِ عَنْ الْمَلَائِكَةِ حَتَّى كَانَ الرَّسُولُ مَبْعُوثًا إلَى الثَّقَلَيْنِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ } هُوَ كَقَوْلِهِ : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ } وَقَوْلِهِ : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } . ثُمَّ قَالَ : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ } . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ أَمَرَ بِذِكْرِ النِّعَمِ وَشُكْرِهَا . وَقَالَ : { يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ : { وَاذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ } فَذِكْرُ النِّعَمِ مِنْ الذِّكْرِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ . وَمِمَّا أُمِرُوا بِهِ تَذْكِرَةُ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا قَالَ : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ } { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى } { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ } { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إدْرِيسَ } وَقَالَ { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ } { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } { وَاذْكُرْ إسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ } . وَمِمَّا أُمِرُوا بِهِ تَذْكِرَةُ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ } .
وَمِمَّا أُمِرُوا بِتَذَكُّرِهِ آيَاتُ اللَّهِ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَلَى الْمَعَادِ كَقَوْلِهِ : { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } . وَقَدْ قَالَ لِمُوسَى : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ } وَهِيَ تَتَنَاوَلُ أَيَّامَ نِعَمِهِ وَأَيَّامَ نِقَمِهِ لِيَشْكُرُوا وَيَعْتَبِرُوا . وَلِهَذَا قَالَ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } . فَإِنَّ ذِكْرَ النِّعَمِ يَدْعُو إلَى الشُّكْرِ ؛ وَذِكْرَ النِّقَمِ يَقْتَضِي الصَّبْرَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَإِنْ كَرِهَتْهُ النَّفْسُ . وَعَنْ الْمَحْظُورِ وَإِنْ أَحَبَّتْهُ النَّفْسُ لِئَلَّا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ غَيْرَهُ مِنْ النِّقْمَةِ .
فَصْلٌ :
وَقَوْلُهُ : { وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى } { الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } { ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا } . وَقَدْ ذَكَرَ فِي سُورَةِ اللَّيْلِ قَوْلَهُ : { فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى } { لَا يَصْلَاهَا إلَّا الْأَشْقَى } { الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } . وَهَذَا الصَّلْيُ قَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمْ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ قَالَ : بِخَطَايَاهُمْ فَأَمَاتَهُمْ إمَاتَةً حَتَّى إذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ . فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ثُمَّ قِيلَ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ . فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : كَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ } . وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فَقَالَ : ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ ثَنَا أَبِي ثَنَا سُلَيْمَانَ التيمي عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَأَتَى عَلَى هَذِهِ { ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا } فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَهْلُهَا الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَلَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ . وَأَمَّا الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَإِنَّ النَّارَ تُمِيتُهُمْ ثُمَّ يَقُومُ الشُّفَعَاءُ فَيُشَفَّعُونَ فِيهِمْ فَيَشْفَعُونَ فَيُؤْتَى بِهِمْ إلَى نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الْحَيَاةُ أَوْ الْحَيَوَانُ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْغُثَاءُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ } . فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا الصَّلْيَ لِأَهْلِ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا وَأَنَّ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا فَإِنَّهَا تُصِيبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ يُمِيتُهُمْ فِيهَا حَتَّى يَصِيرُوا فَحْمًا ثُمَّ يُشَفَّعُ فِيهِمْ فَيَخْرُجُونَ وَيُؤْتَى
بِهِمْ إلَى نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ . وَهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ مُتَوَاتِرٌ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا . وَفِيهَا الرَّدُّ عَلَى طَائِفَتَيْنِ . عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ " إنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يُخَلَّدُونَ فِيهَا " وَهَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ حُكِيَ عَنْهُ مِنْ غُلَاةِ الْمُرْجِئَةِ " أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ " . فَإِنَّ إخْبَارَهُ بِأَنَّ أَهْلَ التَّوْحِيدِ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بَعْدَ دُخُولِهَا تَكْذِيبٌ لِهَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ . وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ " يَجُوزُ أَنْ لَا يُدْخِلَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدًا النَّارَ " كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ الشِّيعَةِ وَمُرْجِئَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَهُمْ الْوَاقِفَةُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِمْ كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ . فَإِنَّ النُّصُوصَ الْمُتَوَاتِرَةَ تَقْتَضِي دُخُولَ بَعْضِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَخُرُوجِهِمْ . وَالْقَوْلُ بـ " أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُهَا مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ " مَا أَعْلَمُهُ ثَابِتًا عَنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَأَحْكِيَهُ عَنْهُ . لَكِنْ حُكِيَ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ
وَقَالَ : احْتَجَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَقَدْ أُجِيبُوا بِجَوَابَيْنِ . أَحَدِهِمَا : جَوَابُ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ الزَّجَّاجُ قَالُوا . هَذِهِ نَارٌ مَخْصُوصَةٌ . لَكِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَهَا { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } لَا يَبْقَى فِيهِ كَبِيرُ وَعْدٍ فَإِنَّهُ إذَا جُنِّبَ تِلْكَ النَّارَ جَازَ أَنْ يُدَخِّلَ غَيْرَهَا . وَجَوَابُ آخَرِينَ قَالُوا : لَا يَصْلَوْنَهَا صَلْيَ خُلُودٍ . وَهَذَا أَقْرَبُ . وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الصَّلْيَ هُنَا هُوَ الصَّلْيُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الْمُكْثُ فِيهَا وَالْخُلُودُ عَلَى وَجْهٍ يَصِلُ الْعَذَابُ إلَيْهِمْ دَائِمًا . فَأَمَّا مَنْ دَخَلَ وَخَرَجَ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الصَّلْيِ لَيْسَ هُوَ الصَّلْيُ الْمُطْلَقُ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ قَدْ مَاتَ فِيهَا وَالنَّارُ لَمْ تَأْكُلْهُ كُلَّهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا لَا تَأْكُلُ مَوَاضِعَ السُّجُودِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى سَائِرِ الْمُرْسَلِينَ فِي أُمُورٍ مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } { صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } .
وَفِي حَدِيثِ { أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ كِتَابًا أَنْزَلَ اللَّهُ ؟ قَالَ : مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ : ثَلَاثِينَ صَحِيفَةً عَلَى شيث وَخَمْسِينَ عَلَى إدْرِيسَ وَعَشْرٍ عَلَى إبْرَاهِيمَ . وَعَشْرٍ عَلَى مُوسَى قَبْلَ التَّوْرَاةِ . وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ : فَهَلْ عِنْدَنَا شَيْءٌ مِمَّا فِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَقَرَأَ قَوْلَهُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } { صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } } . فَإِنَّ التَّزَكِّي هُوَ التَّطَهُّرُ وَالتَّبَرُّكُ بِتَرْكِ السَّيِّئَاتِ الْمُوجِبِ زَكَاةَ النَّفْسِ كَمَا قَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وَلِهَذَا تُفَسَّرُ الزَّكَاةُ تَارَةً بِالنَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ وَتَارَةً بِالنَّظَافَةِ وَالْإِمَاطَةِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إزَالَةِ الشَّرِّ وَزِيَادَةِ الْخَيْرِ . وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ الْإِحْسَانُ . وَذَلِكَ لَا يَنْفَعُ إلَّا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ . وَهُوَ قَوْلُ { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } . فَهَذِهِ الثَّلَاثُ قَدْ يُقَالُ تُشْبِهُ الثَّلَاثَ الَّتِي يَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَهَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . وَمِثْلُ قَوْلِهِ :
{ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } . وَقَدْ يُقَالُ : تُشْبِهُ الثِّنْتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا } الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } . لَكِنَّ هُنَا التَّزَكِّيَ فِي الْآيَةِ أَعَمُّ مِنْ الْإِنْفَاقِ . فَإِنَّهُ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ الَّذِي أَصْلُهُ بِتَرْكِ الشِّرْكِ . فَأَوَّلُ التَّزَكِّي التَّزَكِّي مِنْ الشِّرْكِ كَمَا قَالَ : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَقَالَ : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } . وَالتَّزَكِّي مِنْ الْكَبَائِرِ الَّذِي هُوَ تَمَامُ التَّقْوَى كَمَا قَالَ { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } وَقَالَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا } . فَعُلِمَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ هُوَ الْإِخْبَارُ بِالتَّقْوَى . وَمِنْهُ التَّزَكِّي بِالطَّهَارَةِ وَبِالصَّدَقَةِ وَالْإِحْسَانِ كَمَا قَالَ { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . و { ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ } قَدْ يَعْنِي بِهِ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ و " الصَّلَاةَ " :
الْعَمَلَ . فَقَدْ يَذْكُرُ اسْمَ رَبِّهِ مَنْ لَا يُصَلِّي . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَقُولُ : هُوَ ذِكْرُ اسْمِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ . وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَدَّمَ التَّزَكِّي فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَكَانَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ إذَا أَدَّوْا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ يَتَأَوَّلُونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ أَظُنُّهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَتَصَدَّقَ أَمَامَ كُلِّ صَلَاةٍ لِهَذَا الْمَعْنَى . وَلَمَّا قَدَّمَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّحْرِ فِي قَوْلِهِ : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وَقَدَّمَ التَّزَكِّي عَلَى الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } كَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الصَّدَقَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ وَأَنَّ الذَّبْحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فِي عِيدِ النَّحْرِ . وَيُشْبِهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ الصَّوْمُ مِنْ التَّزَكِّي الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ . فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } . فَمَقْصُودُ الصَّوْمِ التَّقْوَى وَهُوَ مِنْ مَعْنَى التَّزَكِّي . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ طهرة لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ } .
فَالصَّدَقَةُ مِنْ تَمَامِ طهرة الصَّوْمِ . وَكِلَاهُمَا تَزَكٍّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ . فَجَمَعَتْ هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ التَّرْغِيبَ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَفِي قَوْلِهِ : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهَذِهِ الْأُصُولُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . وَقَالَ : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى } { صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } . وَقَالَ : أَيْضًا { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى } { وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى } { أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى } { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } { أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى } وَأَيْضًا فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ صَاحِبَ الْمِلَّةِ وَإِمَامُ الْأُمَّةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } . وَقَالَ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا } وَقَالَ : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } وَقَالَ { إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا } . وَمُوسَى صَاحِبُ الْكِتَابِ وَالْكَلَامِ وَالشَّرِيعَةِ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ مِنْ السَّمَاءِ كِتَابٌ أَهْدَى مِنْهُ وَمِنْ الْقُرْآنِ . وَلِهَذَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ : { قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا } إلَى قَوْلِهِ { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } وَقَوْلِهِ { قَالُوا سِحْرَانِ } إلَى قَوْلِهِ { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ } وَقَوْلِ الْجِنِّ : { إنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ } وَقَوْلِ النَّجَاشِيِّ " إنَّ هَذَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ " . وَقِيلَ فِي مُوسَى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَفِي إبْرَاهِيمَ { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } وَأَصْلُ الْخُلَّةِ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْعِبَادَةُ غَايَةُ الْحُبِّ وَالذُّلِّ . وَمُوسَى صَاحِبُ الْكِتَابِ وَالْكَلَامِ . وَلِهَذَا كَانَ الْكُفَّارُ بِالرُّسُلِ يُنْكِرُونَ حَقِيقَةَ خُلَّةِ إبْرَاهِيمَ وَتَكْلِيمِ مُوسَى . وَلَمَّا نَبَغَتْ الْبِدَعُ الشَّرِكِيَّة فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَنْكَرَ ذَلِكَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ
فَقَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا ضَحَّى بِهِ أَمِيرُ الْعِرَاقِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ : " ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا " . ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ . وَهُمْ فِي الْأَصْلِ صِنْفَانِ - أُمِّيُّونَ وَكِتَابِيُّونَ . وَالْأُمِّيُّونَ كَانُوا يَنْتَسِبُونَ إلَى إبْرَاهِيمَ فَإِنَّهُمْ ذُرِّيَّتُهُ وخزان بَيْتِهِ وَعَلَى بَقَايَا مِنْ شَعَائِرِهِ . وَالْكِتَابِيُّونَ أَصْلُهُمْ كِتَابُ مُوسَى . وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ بَدَّلَتْ وَغَيَّرَتْ . فَأَقَامَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ بَعْدَ اعْوِجَاجِهَا وَجَاءَ بِالْكِتَابِ الْمُهَيْمِنِ الْمُصَدِّقِ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُبَيِّنِ لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ وَمَا حُرِّفَ وَكُتِمَ مِنْ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ .
فَصْلٌ :
وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى قَامَا بِأَصْلِ الدِّينِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَمُخَاصِمَةُ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ . فَأَمَّا إبْرَاهِيمُ فَقَالَ اللَّهُ فِيهِ { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِي حَاجَّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ
أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } وَذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ إرَادَةَ إحْيَاءِ الْمَوْتَى فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَخْذِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الطَّيْرِ . فَقَرَّرَ أَمْرُ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهُمَا اللَّذَانِ يَكْفُرُ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا كُفَّارُ الصَّابِئَةِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ بُعِثَ الْخَلِيلُ إلَى نَوْعِهِمْ . فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَ الصَّانِعِ ؛ وَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ صِفَاتِهِ ؛ وَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ خَلْقَهُ وَيَقُولُ : إنَّهُ عِلَّةٌ ؛ وَأَكْثَرُهُمْ يُنْكِرُونَ إحْيَاءَ الْمَوْتَى . وَهُمْ مُشْرِكُونَ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ الْعُلْوِيَّةَ وَالْأَصْنَامَ السُّفْلِيَّةَ . وَالْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رَدَّ هَذَا جَمِيعَهُ . فَقَرَّرَ رُبُوبِيَّةَ رَبِّهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَقَرَّرَ الْإِخْلَاصَ لَهُ وَنَفَى الشِّرْكَ كَمَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا . وَقَرَّرَ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ . وَاسْتَقَرَّ فِي مِلَّتِهِ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَمَحَبَّةُ اللَّهِ لَهُ بِاِتِّخَاذِ اللَّهِ لَهُ خَلِيلًا .
ثُمَّ إنَّهُ نَاظَرَ الْمُشْرِكِينَ بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يُوصَفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ . فَقَالَ لِأَبِيهِ : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } . وَقَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : { مَا تَعْبُدُونَ } { قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ } { أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } إلَى آخَرِ الْكَلَامِ . وَقَالَ : { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وَقَالَ : { إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فَإِبْرَاهِيمُ دَعَا إلَى الْفِطْرَةِ . وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ وَالْإِقْرَارُ بِصِفَاتِ الْكَلِمَاتِ لِلَّهِ وَالرَّدِّ عَلَى مَنْ عَبَدَ مَنْ سَلَبَهَا . فَلَمَّا عَابَهُمْ بِعِبَادَةِ مِنْ لَا عِلْمَ لَهُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ قَالَ : { رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ }
وَلَمَّا عَابَهُمْ بِعِبَادَةِ مَنْ لَا يُغْنِي شَيْئًا فَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ قَالَ : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لِقَلْبِهِ وَجِسْمِهِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ ذَلِكَ . وَهُوَ أَمْرُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا . فَمَنْفَعَةُ الدِّينِ الْهُدَى ؛ وَمَضَرَّتُهُ الذُّنُوبُ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ الْمَغْفِرَةُ . وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ . وَمَنْفَعَةُ الْجَسَدِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ ؛ وَمَضَرَّتُهُ الْمَرَضُ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ الشِّفَاءُ . وَأَخْبَرَ أَنَّ رَبَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَأَنَّهُ فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ . وَإِحْيَاؤُهُ فَوْقَ كَمَالِهِ بِأَنَّهُ حَيٌّ . وَأَنَّهُ فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ يَقْتَضِي إمْسَاكَهَا وَقِيَامَهَا الَّذِي هُوَ فَوْقَ كَمَالِهِ بِأَنَّهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ عَنْ النُّجُومِ { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } فَإِنَّ الْآفِلَ هُوَ الَّذِي يَغِيبُ تَارَةً وَيَظْهَرُ تَارَةً فَلَيْسَ هُوَ قَائِمًا عَلَى
عَبْدِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ . وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ مَا سِوَى اللَّه مِنْ الْكَوَاكِبِ وَنَحْوِهَا وَيَتَّخِذُونَهَا أَوْثَانًا يَكُونُونَ فِي وَقْتِ الْبُزُوغِ طَالِبِينَ سَائِلِينَ وَفِي وَقْتِ الْأُفُولِ لَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُمْ وَلَا مُرَادُهُمْ . فَلَا يَجْتَلِبُونَ مَنْفَعَةً وَلَا يَدْفَعُونَ مَضَرَّةً وَلَا يَنْتَفِعُونَ إذْ ذَاكَ بِعِبَادَةِ . فَبَيَّنَ مَا فِي الْآلِهَةِ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ النَّقْصِ وَبَيَّنَّ مَا لِرَبِّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ الْكَمَالِ بِأَنَّهُ الْخَالِقُ الْفَاطِرُ الْعَلِيمُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْهَادِي الرَّازِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ . وَسَمَّى رَبَّهُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى الدَّالَّةِ عَلَى نُعُوتِ كَمَالِهِ فَقَالَ : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } فَوَصَفَ رَبَّهُ بِالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ الْمُنَاسِبِ لِمَعْنَى الْخُلَّةِ كَمَا قَالَ { إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَمَ فِرْعَوْنَ الَّذِي جَحَدَ الرُّبُوبِيَّةَ وَالرِّسَالَةَ وَقَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } و { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي } . وَقِصَّتُهُ فِي الْقُرْآنِ مُثَنَّاةٌ مَبْسُوطَةٌ لَا يَحْتَاجُ هَذَا الْمَوْضِعُ إلَى بَسْطِهَا . وَقَرَّرَ أَيْضًا أَمْرَ الرُّبُوبِيَّةِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ وَنَفَى الشِّرْكَ .
وَلَمَّا اتَّخَذَ قَوْمُهُ الْعِجْلَ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ صِفَاتِ النَّقْصِ الَّتِي تُنَافِي الْأُلُوهِيَّةَ فَقَالَ : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ } . وَقَالَ : { فَقَالُوا هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } { أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا } { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَوَّتَ صَوْتًا هُوَ خُوَارٌ فَإِنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلًا وَأَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ فِي الشِّرْكِ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَقَالَ : { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } { إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ }
وَاسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ وَجُحُودٍ لِطُرُقِ الْإِدْرَاكِ التَّامِّ وَهُوَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ . وَالْعَمَلُ التَّامُّ وَهُوَ الْيَدُ وَالرِّجْلُ كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَخْبَرَ فِيمَا رَوَى عَنْهُ رَسُولُهُ عَنْ أَحْبَابِهِ الْمُتَقَرِّبِينَ إلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ فَقَالَ : { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ . فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا } .
فَصْلٌ :
وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الْمُتَّبِعُونَ لِإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ يُثْبِتُونَ مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ تَكْلِيمِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَسَائِرَ مَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالْمَثَلِ الْأَعْلَى . وَيُنَزِّهُونَهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْأَجْسَادِ الَّتِي لَا حَيَاةَ فِيهَا . فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ } وَقَالَ : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } . وَقَالَ : { عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ } فَوَصَفَ الْجَسَدَ بِعَدَمِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ الْمَوْتَانِ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَنْطِقُ وَلَا يُغْنِي شَيْئًا . وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُمْ سَلَكُوا
سَبِيلَ أَعْدَاءِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٍ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَاِتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا . وَقَدْ كَلَّمَ اللَّهُ مُحَمَّدًا وَاِتَّخَذَهُ خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَرَفَعَهُ فَوْقَ ذَلِكَ دَرَجَاتٍ : وَتَابَعُوا فِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ : { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } وَتَابَعُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } وَاتَّبَعُوا الَّذِينَ أَلْحَدُوا فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ . فَهُمْ يَجْحَدُونَ حَقِيقَةَ كَوْنِهِ الرَّحْمَنَ أَوْ أَنَّهُ يَرْحَمُ أَوْ يُكَلِّمُ أَوْ يَوَدُّ عِبَادَهُ أَوْ يَوَدُّونَهُ أَوْ أَنَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ . وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْأَجْسَامِ الْحِسِّيَّةِ وَهِيَ الْحَيَوَانُ كَالْإِنْسَانِ وَأَنَّ هَذَا تَشْبِيهٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ . فَهُمْ قَدْ شَبَّهُوهُ بِالْأَجْسَادِ الْمَيِّتَةِ فِيمَا هُوَ نَقْصٌ وَعَيْبٌ وَتَشْبِيهٌ دَلَّتْ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ وَالْفِطْرَةُ الْعَقْلِيَّةُ أَنَّهُ عَيْبٌ وَنَقْصٌ بَلْ يَقْتَضِي عَدَمُهُ . وَأَمَّا أَهْلُ الْإِثْبَاتِ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ فِيمَا قَالُوهُ تَشْبِيهًا مَا فَلَيْسَ هُوَ تَشْبِيهًا بِمَنْقُوصِ مَعِيبٍ وَلَا هُوَ فِي صِفَةِ نَقْصٍ أَوْ عَيْبٍ بَلْ فِي غَايَةِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ الْكَمَالُ وَأَنَّ لِصَاحِبِهِ الْجَلَالَ وَالْإِكْرَامَ .
فَصَارَ أَهْلُ السُّنَّةِ يَصِفُونَهُ بِالْوُجُودِ وَكَمَالِ الْوُجُودِ وَأُولَئِكَ يَصِفُونَهُ بِعَدَمِ كَمَالِ الْوُجُودِ أَوْ بِعَدَمِ الْوُجُودِ بِالْكُلِّيَّةِ . فَهُمْ مُمَثِّلَةٌ مُعَطِّلَةٌ مُمَثِّلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مُعَطِّلَةٌ فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ . أَمَّا فِي الْعَقْلِ فَلِأَنَّهُمْ مَثَّلُوهُ بِالْعَدَمِ وَالْأَجْسَادِ الْمَوْتَانِ . وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَإِنَّهُمْ مَثَّلُوا مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ صِفَاتِهِ بِنَفْسِ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ كَانَ هَذَا التَّمْثِيلُ الَّذِي ادَّعَوْا أَنَّهُ مَعْنَى النُّصُوصِ أَقَلَّ تَمْثِيلًا مِنْ تَمْثِيلِهِمْ الَّذِي ادَّعَوْهُ . وَأَمَّا تَعْطِيلُهُمْ فِي الْعَقْلِ فَإِنَّهُ تَعْطِيلٌ لِلصِّفَاتِ تَعْطِيلٌ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ الذَّاتِ . وَلِهَذَا أُلْجِئُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى نَفْيِ الذَّاتِ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارُوا عَلَى طَرِيقَةِ فِرْعَوْنَ لَا يُقِرُّونَ إلَّا بِوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُنَافِقُونَ فَيُقِرُّونَ بِأَلْفَاظٍ لَا مَعْنَى لَهَا أَوْ بِعِبَادَاتٍ لَا مَعْبُودَ لَهَا . وَأَمَّا تَعْطِيلُهُمْ لِلشَّرْعِ فَإِنَّهُمْ جَحَدُوا مَا فِي كُتُبِ اللَّهِ مِنْ الْمَعَانِي وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ أَوْ قَالُوا : نَحْنُ كَالْأُمِّيِّينَ لَا نَعْلَمُ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ أَوْ : قُلُوبُنَا غُلْفٌ . وَقَالُوا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَظِيرَ مَا قَالَتْهُ الْكُفَّارُ
{ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } و ( { قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ } . وَهَكَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ : لَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَقُولُ الرَّسُولُ وَقَالُوا كَمَا قَالَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ لِلرَّسُولِ فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ { قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا } . وَصَارُوا كَاَلَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } . فَتَدَبَّرْ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ مِنْ نَفْيِ فِقْهِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ تَجِدْ بَعْضَ ذَلِكَ فِيمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ تَدَبُّرِ كِتَابِهِ وَاتَّبَعَ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ وَمَا تُوحِيهِ إلَى أَوْلِيَائِهَا وَاَللَّهُ يَهْدِينَا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا . وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةُ الْمُشَابِهُونَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الصَّابِئَةِ وَغَيْرِهِمْ الْجَاحِدَةِ لِوُجُودِ الصَّانِعِ أَوْ صِفَاتِهِ تَرْمِي أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَارَةً بِأَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ الْيَهُودَ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ
وَكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصِّفَاتِ وَلِمَا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمَنْفِيِّ عَنْ اللَّهِ ؛ وَتَارَةً بِأَنَّهُمْ يُشْبِهُونَ النَّصَارَى لِمَا أَثْبَتَتْهُ النَّصَارَى مِنْ صِفَةِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَلِمَا ابْتَدَعَتْهُ مِنْ أَنَّ الْأَقَانِيمَ جَوَاهِرُ وَأَنَّ أُقْنُومَ الْكَلِمَةِ اتَّحَدَ بِالنَّاسُوتِ . وَهَذَا الرَّمْيُ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِمْ قَبْلَ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَفِي زَمَنِهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِهِ وَكَلَامِ أَصْحَابِهِ حِكَايَةُ ذَلِكَ . ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالزَّنَادِقَةِ " وَأَنَّهُمْ قَالُوا " إذَا أَثْبَتُّمْ الصِّفَاتِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِقَوْلِ النَّصَارَى " وَرَدَّ ذَلِكَ . وَفِي " مَسَائِلِهِ " : أَنَّ طَائِفَةً قَالُوا لَهُ : مَنْ قَالَ " الْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ هُوَ فِي الصُّدُورِ " فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى . وَهَكَذَا الْجَهْمِيَّة تَرْمِي الصفاتية بِأَنَّهُمْ يَهُودُ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ مُتَقَدِّمِي الْجَهْمِيَّة وَمُتَأَخَّرِيهِمْ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الرَّازِي الجهمي الْجَبْرِيُّ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَخْرُجُ إلَى حَقِيقَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ . وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابَهُ الْمَعْرُوفَ فِي السِّحْرِ وَعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَوْثَانِ . مَعَ أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ وَيَنْهَى عَنْهُ مُتَّبِعًا لِلْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكُتُبِ وَالرِّسَالَةِ . وَيَنْصُرُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَمَا يُشَكِّكُ أَهْلَهُ وَيُشَكِّكُ غَيْرَ
أَهْلِهِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ . وَقَدْ يَنْصُرُ غَيْرَ أَهْلِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ . فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّشْكِيكُ وَالْحَيْرَةُ أَكْثَرُ مِنْ الْجَزْمِ وَالْبَيَانِ . وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ أَجْوِبَةٌ . أَحَدُهَا : أَنَّ مُشَابَهَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسَتْ مَحْذُورًا إلَّا فِيمَا خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَنُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ . وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ دِينَ الْمُرْسَلِينَ وَاحِدٌ وَأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْقُرْآنَ خَرَجَا مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ . وَقَدْ اسْتَشْهَدَ اللَّهُ بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَتَّى قَالَ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } . فَإِذَا أَشْهَدَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى مِثْلِ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ هَذَا حُجَّةً وَدَلِيلًا وَهُوَ مِنْ حِكْمَةِ إقْرَارِهِمْ بِالْجِزْيَةِ . فَيَفْرَحُ بِمُوَافَقَةِ الْمَقَالَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِمَا يَأْثُرُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَهُمْ . وَيَكُونُ هَذَا مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ حُجَجِ الرِّسَالَةِ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى اتِّفَاقِ الرُّسُلِ . الثَّانِي : أَنَّ الْمُشَابَهَةَ الَّتِي يَدْعُونَهَا لَيْسَتْ صَحِيحَةً . فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ
لَا يُوَافِقُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِيمَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الدِّينِ وَالِاعْتِقَاد . وَلِهَذَا قُلْت فِي بَيَانِ فَسَادِ قَوْلِ ابْنِ الْخَطِيبِ : إنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مَقَالَةَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يَفْهَمْ مَقَالَةَ النَّصَارَى . وَأَوْضَحْت ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ كَمَا بَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد الْفَرْقَ بَيْنَ مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَبَيْنَ مَقَالَةِ النَّصَارَى الْمُبْتَدَعَةِ وَكَمَا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَمَقَالَةِ الْيَهُودِ الْمُبْتَدَعَةِ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ إذَا فُرِضَ مُشَابَهَةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لِلْيَهُودِ أَوْ النَّصَارَى فَأَهْلُ النَّفْيِ وَالتَّعْطِيلِ مُشَابِهُونَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ النَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ مُشَابَهَةَ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ خَيْرٌ مِنْ مُشَابَهَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْكُفَّارِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالنُّبُوَّاتِ وَنَحْوِهِمْ . وَلِهَذَا قِيلَ : الْمُشَبِّهُ أَعْشَى وَالْمُعَطِّلُ أَعْمَى . وَلِهَذَا فَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِانْتِصَارِ النَّصَارَى عَلَى الْمَجُوسِ كَمَا فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِانْتِصَارِ الْمَجُوسِ عَلَى النَّصَارَى . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ نَافِعٌ فِي مَوَاضِعَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَهُمْ يَجْعَلُونَ الصفاتية نَصَارَى الْأُمَّةِ وَيَمِيلُونَ إلَى الْيَهُودِ لِمُوَافَقَتِهِمْ
لَهُمْ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ أَكْثَرَ مِنْ النَّصَارَى كَمَا يَمِيلُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ إلَى النَّصَارَى أَكْثَرَ مِنْ الْيَهُودِ . فَإِذَا كَانَ الصفاتية إلَى النَّصَارَى أَقْرَبَ وَضِدُّهُمْ إلَى الْمَجُوسِ وَالْمُشْرِكِينَ أَقْرَبَ تَبَيَّنَ أَنَّ الصفاتية أَتْبَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ فَرِحُوا بِانْتِصَارِ الرُّومِ النَّصَارَى عَلَى فَارِسَ الْمَجُوسِ وَأَنَّ الْمُعَطِّلَةَ هُمْ إلَى الْمُشْرِكِينَ أَقْرَبُ الَّذِينَ فَرِحُوا بِانْتِصَارِ الْمَجُوسِ عَلَى النَّصَارَى .
سُورَةُ الْغَاشِيَةِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
قَوْلُهُ : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ } { تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى وُجُوهٌ فِي الدُّنْيَا خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا حَامِيَةً وَيَعْنِي بِهَا عِبَادَ الْكُفَّارِ كَالرُّهْبَانِ وَعِبَادَ البدود وَرُبَّمَا تُؤُوِّلَتْ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ كَالْخَوَارِجِ . و " الْقَوْلُ الثَّانِي " أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَخْشَعُ أَيْ تَذِلُّ وَتَعْمَلُ وَتَنْصَبُ قُلْت هَذَا هُوَ الْحَقُّ لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا " أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَتَعَلَّقُ الظَّرْفُ بِمَا يَلِيهِ أَيْ : وُجُوهٌ يَوْمَ الْغَاشِيَةِ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ صَالِيَةٌ . وَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا
بِقَوْلِهِ ( تَصْلَى ) وَيَكُونُ قَوْلُهُ ( خَاشِعَةٌ ) صِفَةً لِلْوُجُوهِ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِأَجْنَبِيٍّ مُتَعَلِّقٍ بِصِفَةٍ أُخْرَى مُتَأَخِّرَةٍ وَالتَّقْدِيرُ : وُجُوهٌ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ يَوْمَئِذٍ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً . وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ؛ فَالْأَصْلُ إقْرَارُ الْكَلَامِ عَلَى نَظْمِهِ وَتَرْتِيبِهِ تَغْيِيرُ تَرْتِيبِهِ . ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ فِيهِ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ مَعَ الْقَرِينَةِ أَمَّا مَعَ اللَّبْسِ فَلَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَبِسُ عَلَى الْمُخَاطَبِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ هُنَا قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ؛ بَلْ الْقَرِينَةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَإِرَادَةُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِمِثْلِ هَذَا الْخِطَابِ خِلَافُ الْبَيَانِ وَأَمْرُ الْمُخَاطَبِ بِفَهْمِهِ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يُطَاقُ . " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ وُجُوهَ الْأَشْقِيَاءِ وَوُجُوهَ السُّعَدَاءِ فِي السُّورَةِ فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ } { لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا وَصَفَهَا بِالنِّعْمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا فِي الدُّنْيَا ؛ إذْ هَذَا لَيْسَ بِمَدْحِ فَالْوَاجِبُ تَشَابُهُ الْكَلَامِ وَتَنَاظُرُ الْقِسْمَيْنِ لَا اخْتِلَافُهُمَا وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْأَشْقِيَاءُ وُصِفَتْ وُجُوهُهُمْ بِحَالِهَا فِي الْآخِرَةِ . " الثَّالِثُ " أَنَّ نَظِيرَ هَذَا التَّقْسِيمِ قَوْلُهُ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ }
{ إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } { تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } وَقَوْلُهُ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ } { ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ } { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } وَهَذَا كُلُّهُ وَصْفٌ لِلْوُجُوهِ لِحَالِهَا فِي الْآخِرَةِ لَا فِي الدُّنْيَا . " الرَّابِعُ " أَنَّ وَصْفَ الْوُجُوهِ بِالْأَعْمَالِ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْعَلَامَةِ كَقَوْلِهِ : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } وَقَوْلِهِ : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَمَلَ وَالنَّصْبَ لَيْسَ قَائِمًا بِالْوُجُوهِ فَقَطْ ؛ بِخِلَافِ السِّيمَا وَالْعَلَامَةِ . " الْخَامِسُ " أَنَّ قَوْلَهُ : { خَاشِعَةً } { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ } لَوْ جُعِلَ صِفَةً لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اللَّفْظِ ذَمٌّ فَإِنَّ هَذَا إلَى الْمَدْحِ أَقْرَبُ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ وَصْفٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ عِبَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِبَادِ الْكُفَّارِ وَالذَّمُّ لَا يَكُونُ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ وَلَوْ أُرِيدَ الْمُخْتَصَّ لَقِيلَ خَاشِعَةٌ لِلْأَوْثَانِ مَثَلًا عَامِلَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ نَاصِبَةٌ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي كَوْنَ هَذَا الْوَصْفِ مُخْتَصًّا بِالْكُفَّارِ وَلَا كَوْنَهُ مَذْمُومًا . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذَمٌّ لِهَذَا الْوَصْفِ مُطْلَقًا وَلَا وَعِيدَ عَلَيْهِ فَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى خُرُوجٌ عَنْ الْخِطَابِ الْمَعْرُوفِ فِي الْقُرْآنِ .
" السَّادِسُ " أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الْكُفَّارِ وَلَا مُوجِبَ لِلتَّخْصِيصِ فَإِنَّ الَّذِينَ لَا يَتَعَبَّدُونَ مِنْ الْكُفَّارِ أَكْثَرُ وَعُقُوبَةَ فُسَّاقِهِمْ فِي دِينِهِمْ أَشَدُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ مَنْ كَفَّ مِنْهُمْ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَأَدَّى الْوَاجِبَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ عُقُوبَتُهُ كَعُقُوبَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَيَزْنُونَ . فَإِذَا كَانَ الْكُفْرُ وَالْعَذَابُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فِي الْقِسْمِ الْمَتْرُوكِ أَكْثَرَ وَأَكْبَرَ كَانَ هَذَا التَّخْصِيصُ عَكْسَ الْوَاجِبِ . " السَّابِعُ " أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ فِيهِ تَنْفِيرٌ عَنْ الْعِبَادَةِ وَالنُّسُكِ ابْتِدَاءً ثُمَّ إذَا قُيِّدَ ذَلِكَ بِعِبَادَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُبْتَدِعَةِ وَلَيْسَ فِي الْخِطَابِ تَقْيِيدٌ كَانَ هَذَا سَعْيًا فِي إصْلَاحِ الْخِطَابِ بِمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ .
سُورَةُ الْبَلَدِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } { وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ } { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } الْهِدَايَةُ مَحِلُّهَا الْقَلْبُ وَهَذِهِ الْأَعْضَاءُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي هِيَ دَائِمَةُ الْحَرَكَةِ وَالْكَسْبِ إمَّا لِلْإِنْسَانِ وَإِمَّا عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا يَتَحَرَّكُ مِنْ دَاخِلٍ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَبِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ السُّكُونَ أَغْلَبُ وَحَرَكَتَهَا قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذِهِ وَهَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي يُرْوَى { عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِكْرًا وَنُطْقُهُ ذِكْرًا وَنَظَرُهُ عِبْرَةً } . وَفِي حَدِيثٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ كَثِيرَ الصَّمْتِ دَائِمَ الْفِكْرِ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ فَالصَّمْتُ وَالْفِكْرُ لِلِّسَانِ وَالْقَلْبِ وَأَمَّا الْحُزْنُ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْحُزْنَ الَّذِي هُوَ الْأَلَمُ عَلَى فَوْتِ مَطْلُوبٍ أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ حَالِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الِاهْتِمَامَ وَالتَّيَقُّظَ لِمَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ الْأُمُورِ وَهَذَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْعَيْنِ .
وَفِيهِ أَيْضًا فِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ وَيَقْرَأُ الْآيَاتِ الْعَشْرِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ } فَيَجْمَعُ بَيْنَ الذِّكْرِ وَالنَّظَرِ وَالْفِكْرِ فَالنَّظَرُ أَيْ نَظَرُ الْقَلْبِ وَنَظَرُ الْعَيْنِ وَالذِّكْرُ أَيْضًا لَا بُدَّ مَعَ ذِكْرِ اللِّسَانِ مِنْ ذِكْرِ الْقَلْبِ . وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ مَبْدَأً وَالذِّكْرُ مُنْتَهًى لِأَنَّ النَّظَرَ يَتَقَدَّمُ الْإِدْرَاكَ وَالْعِلْمَ وَالذِّكْرَ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْإِدْرَاكِ وَالْعِلْمِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُتَكَلِّمَةُ فِي النَّظَرِ الْمُقْتَضِي لِلْعِلْمِ وَكَانَ الْمُتَصَوِّفَةُ فِي الذِّكْرِ الْمُقَرِّرِ لِلْعِلْمِ قَدَّمَ آلَةَ النَّظَرِ عَلَى آلَةِ الذِّكْرِ وَخَتَمَ بِهِدَايَةِ الْمَلِكِ الْجَامِعِ الَّذِي هُوَ النَّاظِرُ الذَّاكِرُ . وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ اللِّسَانَ وَالشَّفَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا الْعُضْوَانِ النَّاطِقَانِ . فَأَمَّا الْهَوَاءُ وَالْحَلْقُ وَالنِّطْعُ وَاللَّهَوَاتُ وَالْأَسْنَانُ فَمُتَّصِلَةٌ حَرَكَةُ بَعْضِهَا مُرْتَبِطَةٌ بِحَرَكَةِ الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهَا مِنْ أَجْزَاءِ الْحَنَكِ فَأَمَّا اللِّسَانُ وَالشَّفَتَانِ فَمُنْفَصِلَةٌ . ثُمَّ الشَّفَتَانِ لَمَّا كَانَا النِّهَايَةَ حَمَلَا الْحُرُوفَ الْجَوَامِعَ : الْبَاءَ وَالْفَاءَ وَالْمِيمَ وَالْوَاوَ . فَأَمَّا الْبَاءُ وَالْفَاءُ فَهُمَا الْحَرْفَانِ السَّبَبِيَّانِ فَإِنَّ الْبَاءَ أَبَدًا تُفِيدُ الْإِلْصَاقَ وَالسَّبَبُ وَكَذَلِكَ الْفَاءُ تُفِيدُ التَّعْقِيبَ وَالسَّبَبَ ؛ وَبِالْأَسْبَابِ تَجْتَمِعُ الْأُمُورُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ .
وَأَمَّا الْمِيمُ وَالْوَاوُ فَلَهُمَا الْجَمْعُ وَالْإِحَاطَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمِيمَ ضَمِيرٌ لِجَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ فِي الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ : ضَمِيرَيْ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ الْمُتَّصِلَيْنِ والمنفصلين وَضَمِيرُ الْخَفْضِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : ( أَنْتُمْ ) و ( عَلِمْتُمْ ) و ( إيَّاكُمْ ) و ( عِلْمُكُمْ ) و ( بِكُمْ ) وَضَمِيرٌ لِجَمْعِ الْغَائِبِينَ فِي الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ أَيْضًا وَالْمُضْمَرُ أَيًّا كَانَ إمَّا مُتَكَلِّمٌ أَوْ مُخَاطَبٌ أَوْ غَائِبٌ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ أَوْ جَمْعٌ مَرْفُوعٌ أَوْ مَنْصُوبٌ أَوْ مَجْرُورٌ . فَقَدْ أَحَاطَتْ بِالْجَمِيعِ مُطْلَقًا . أَمَّا الْجَمْعُ الْمُطْلَقُ فَبِنَفْسِهَا وَأَمَّا الْجَمْعُ الْمُقَدَّرُ بِاثْنَيْنِ فَبِزِيَادَةِ عَلَمِ التَّثْنِيَة وَهُوَ الْأَلِفُ فِي مِثْلِ أَنْتُمَا وَعَلِمْتُمَا وَكَذَلِكَ الْبَاقِي . وَلِهَذَا زِيدَتْ الْوَاوُ فِي الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَقِيلَ عليهموا وأنتموا كَمَا زِيدَتْ الْأَلِفُ فِي التَّثْنِيَةِ وَمَنْ حَذَفَهَا حَذَفَهَا تَخْفِيفًا ؛ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْعَلَامَةِ عَلَامَةٌ فَصَارَتْ الْمِيمُ مُشْتَرَكَةً ثُمَّ الْفَارِقُ الْأَلِفُ أَوْ عَدَمُهَا مَعَ الْوَاوِ . وَأَمَّا الْوَاوُ فَلَهَا جُمُوعُ الضَّمَائِرِ الْغَائِبَةِ فِي مِثْلِ قَالُوا وَنَحْوِهَا وَأَمَّا الْمُتَّصِلَةُ مِثْلُ إيَّاكُمْ وَهُمْ فَعَلَى اللُّغَتَيْنِ ؛ فَلَمَّا صَارَتْ الْوَاوُ تَمَامَ الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ الْمُنْفَصِلِ وَالْيَاءُ تَمَامَ الْمُؤَنَّثِ : صَارَتْ لِلْمُؤَنَّثِ مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ تِلْوَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُفْرَدُ مُذَكَّرُهُ وَمُؤَنَّثُهُ قَبْلَ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ فَإِنَّ الْمُفْرَدَ قَبْلَ الْمُرَكَّبِ ثُمَّ الْأَلِفُ صَارَتْ عَلَمَ التَّثْنِيَةِ مُطْلَقًا فِي الْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ كَمَا أَنَّ الْوَاوَ عَلَمٌ لِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ وَجَعْلُ الْيَاءِ عَلَمَيْ النَّصْبِ وَالْجَرِّ
فِي الْمُظْهَرِ مِنْ الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ ؛ لِأَنَّ الْمُظْهَرَ قَبْلَ الْمُضْمَرِ وَأَقْوَى مِنْهُ فَكَانَتْ أَحَقَّ أَنْ تَكُونَ فِيهِ مِنْ الْأَلِفِ فَحِينَ مَا كَانَ أَقْوَى كَانَتْ الْوَاوَ وَحِينَ مَا كَانَ أَوْسَطَ كَانَ الْيَاءَ . وَأَمَّا الْجُمُوعُ الظَّاهِرَةُ فَالْوَاوُ هِيَ عَلَمُ الْجَمْعِ الْمُذَكِّرِ الصَّحِيحِ كَمَا أَنَّ الْأَلِفَ عَلَمُ التَّثْنِيَةِ ؛ وَلِهَذَا يُنْطَقُ بِهَا حَيْثُ لَا إعْرَابَ لَكِنْ فِي حَالِ النَّصْبِ وَالْخَفْضِ قُلِبَتَا يَاءَيْنِ لِأَجْلِ الْفَرْقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ الظَّاهِرَةَ لَهَا الْغَيْبَةُ دُونَ الْخِطَابِ فِي جَمِيعِ الْعَرَبِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاوَ أَقْوَى حُرُوفِ الْعِلَّةِ وَالضَّمَّةُ بَعْضُهَا وَهِيَ أَقْوَى الْحَرَكَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْجَمْعِ وَكَوْنِهَا آخِرًا فَجُعِلَتْ لِلْجَمْعِ وَالْأَلِفُ أَخَفُّ حُرُوفِ الْعِلَّةِ فَجُعِلَتْ لِلِاثْنَيْنِ لِأَنَّ الْيَاءَ كَانَتْ قَدْ صَارَتْ لِلْمُؤَنَّثِ فِي الْمُفْرَدِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي قَوْلِك . . . (1) ، وَجَاءَتْ الْمِيمُ فِي مِثْلِ اللَّهُمَّ إشْعَارٌ بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حَرْفَ الشَّفَةِ لَمَّا كَانَ جَامِعًا لِلْقُوَّةِ مِنْ مَبْدَإِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ إلَى مُنْتَهَاهَا بِمَنْزِلَةِ الْخَاتَمِ الْآخَرِ الَّذِي حَوَى مَا فِي الْمُتَقَدِّمِ وَزِيَادَةٍ كَانَ جَامِعًا لِقَوِيِّ الْحُرُوفِ فَجُعِلَ جَامِعًا لِلْأَسْمَاءِ مُظْهَرِهَا وَمُضْمَرِهَا وَجَامِعًا بَيْنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ فَالْوَاوُ وَالْفَاءُ عَاطِفَانِ وَالْفَاءُ رَابِطَةُ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةِ . وَلَمَّا كَانَتْ النُّونُ قَرِيبَةً مِنْ الْفِيهَةِ فَهِيَ أَنْفِيَّةٌ جُعِلَتْ لِجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ
لِأَنَّهُ دُونَ جَمْعِ الْمُذَكِّرِ وَثَنَّى الْعَيْنَيْنِ وَالشَّفَتَيْنِ لِأَنَّ الْعَيْنَيْنِ هُمَا رَبِيئَةُ الْقَلْبِ وَلَيْسَ مِنْ الْأَعْضَاءِ أَشَدُّ ارْتِبَاطًا بِالْقَلْبِ مِنْ الْعَيْنَيْنِ ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ بَيْنِهِمَا فِي قَوْلِهِ : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } { تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } { وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } وَلِأَنَّ كِلَيْهِمَا لَهُ النَّظَرُ ؛ فَنَظَرُ الْقَلْبِ الظَّاهِرُ بِالْعَيْنَيْنِ وَالْبَاطِنُ بِهِ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ اللِّسَانُ هُوَ الذَّكَرُ وَالشَّفَتَانِ أُنْثَاهُ .
سُورَةُ الشَّمْسِ
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فِي قَوْله تَعَالَى { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } { وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا } { وَالنَّهَارِ إذَا جَلَّاهَا } { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَاهَا } . وَضَمِيرُ التَّأْنِيثِ فِي { جَلَّاهَا } و { يَغْشَاهَا } لَمْ يَتَقَدَّمْ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ إلَّا الشَّمْسُ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّهَارَ يُجَلِّي الشَّمْسَ وَأَنَّ اللَّيْلَ يَغْشَاهَا و " التَّجْلِيَةُ " الْكَشْفُ وَالْإِظْهَارُ و " الْغَشَيَانُ " التَّغْطِيَةُ وَاللَّبْسُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ظَرْفَا الزَّمَانِ وَالْفِعْلُ إذَا أُضِيفَ إلَى الزَّمَانِ فَقِيلَ هَذَا الزَّمَانُ أَوْ هَذَا الْيَوْمُ يُبْرِدُ أَوْ يُبَرِّدُ أَوْ يُنْبِتُ الْأَرْضَ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَالْمَقْصُودُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِيهِ كَمَا يُوصَفُ الزَّمَانُ بِأَنَّهُ عَصِيبٌ وَشَدِيدٌ وَنَحْسٌ وَبَارِدٌ وَحَارٌّ وَطَيِّبٌ وَمَكْرُوهٌ وَالْمُرَادُ وَصْفُ مَا فِيهِ . فَكَوْنُ الشَّيْءِ فَاعِلًا وَمَوْصُوفًا هُوَ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ .
فَالنَّهَارُ يُجَلِّي الشَّمْسَ وَاللَّيْلُ يَغْشَاهَا وَإِنْ كَانَ ظُهُورُ الشَّمْسِ هُوَ سَبَبُ النَّهَارِ وَمَغِيبُهَا سَبَبُ اللَّيْلِ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } فَأَضَافَ الضُّحَى إلَيْهَا . وَالضُّحَى يَعُمُّ النَّهَارَ كُلَّهُ كَمَا قَالَ { أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا } { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } وَقَالَ { وَالضُّحَى } { وَاللَّيْلِ إذَا سَجَى } . وَقَوْلِهِ : { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } { وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } فَقَدْ قِيلَ : إنَّ " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ : وَالسَّمَاءِ وَبِنَاءِ اللَّهِ إيَّاهَا وَالْأَرْضِ وَطَحْوِ اللَّهِ إيَّاهَا وَنَفْسٍ وَتَسْوِيَةِ اللَّهِ إيَّاهَا . لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْفَاعِلِ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَصْدَرُ هُنَا مُضَافًا إلَى الْفِعْلِ فَقَطْ فَيُقَالُ " وَبِنَائِهَا " لِأَنَّ الْفَاعِلَ مَذْكُورٌ فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ { وَمَا بَنَاهَا } { وَمَا طَحَاهَا } فَإِنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ فِي الْجُمْلَةِ وَمَفْعُولٍ أَيْضًا . فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي التَّقْدِيرِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ . لَكِنْ إذَا كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً كَانَتْ " مَا " حَرْفًا لَيْسَ فِيهَا ضَمِيرٌ فَيَكُونُ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي " بَنَاهَا " عَائِدًا عَلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ بَلْ إلَى مَعْلُومٍ وَالتَّقْدِيرُ : وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا اللَّهُ وَهَذَا خِلَافُ الْأَصْلِ ؛ وَخِلَافُ الظَّاهِرِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا مَوْصُولَةٌ وَالتَّقْدِيرُ : الَّذِي بَنَاهَا وَاَلَّذِي طَحَاهَا . و " مَا " فِيهَا عُمُومٌ وَإِجْمَالٌ يَصْلُحُ لِمَا لَا يُعْلَمُ وَلِصِفَاتِ مَنْ يَعْلَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } وَقَوْلِهِ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } . وَهَذَا الْمَعْنَى يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } . وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَأَصْلُهُ هُوَ أَكْمَلُ فِي الْمَعْنَى أَيْضًا . فَإِنَّ الْقَسَمَ بِالْفَاعِلِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْسَامَ بِفِعْلِهِ بِخِلَافِ الْإِقْسَامِ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ . وَأَيْضًا فَالْأَقْسَامُ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ عَامَّتُهَا بِالذَّوَاتِ الْفَاعِلَةِ وَغَيْرِ الْفَاعِلَةِ . يُقْسِمُ بِنَفْسِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ : { وَالصَّافَّاتِ صَفًّا } { فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا } { فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا } وَكَقَوْلِهِ : { وَالنَّازِعَاتِ } { وَالْمُرْسَلَاتِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ تَارَةً يُقْسِمُ بِنَفْسِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَتَارَةً بِرَبِّهَا وَخَالِقِهَا كَقَوْلِهِ { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } وَكَقَوْلِهِ { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } وَتَارَةً يُقْسِمُ بِهَا وَبِرَبِّهَا . وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ أَقَسَمَ بِمَخْلُوقٍ وَبِفِعْلِهِ ؛ وَأَقْسَمَ بِمَخْلُوقٍ دُونَ فِعْلِهِ فَأَقْسَمَ بِفَاعِلِهِ .
فَإِنَّهُ قَالَ : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } { وَالْقَمَرِ إذَا تَلَاهَا } { وَالنَّهَارِ إذَا جَلَّاهَا } { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَاهَا } . فَأَقْسَمَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَآثَارِهَا وَأَفْعَالِهَا كَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ : { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } وَقَالَ : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } فَإِنَّهُ بِأَفْعَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ وَآثَارِهَا تَقُومُ مَصَالِحُ بَنِي آدَمَ وَسَائِرُ الْحَيَوَانِ . وَقَالَ : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } وَلَمْ يَقُلْ : " وَنَهَارِهَا " وَلَا " ضِيَائِهَا " لِأَنَّ " الضُّحَى " يَدُلُّ عَلَى النُّورِ وَالْحَرَارَةِ جَمِيعًا وَبِالْأَنْوَارِ وَالْحَرَارَةِ تَقُومُ مَصَالِحُ الْعِبَادِ . ثُمَّ أَقْسَمَ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَبِالنَّفْسِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا فِعْلًا فَذَكَرَ فَاعِلَهَا فَقَالَ : { وَمَا بَنَاهَا } { وَمَا طَحَاهَا } { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } . فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُقْسِمَ بِفِعْلِ النَّفْسِ لِأَنَّهَا تَفْعَلُ الْبِرَّ وَالْفُجُورَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يُقْسِمُ إلَّا بِمَا هُوَ مُعَظَّمٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ . لَكِنْ ذَكَرَ فِي ضَمِيرِ الْقَسَمِ أَنَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِهَا بِقَوْلِهِ : { وَمَا سَوَّاهَا } { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } . فَإِذَا كَانَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقُ فِعْلِ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ فِعْلًا وَاخْتِيَارًا وَقُدْرَةً فَلَأَنْ يَكُونَ خَالِقَ فِعْلِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى .
وَأَمَّا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فَلَيْسَ لَهُمَا فِعْلٌ ظَاهِرٌ يُعَظَّمُ فِي النُّفُوسِ حَتَّى يُقْسِمَ بِهَا إلَّا مَا يَظْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ . وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أَعْظَمُ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالنَّفْسُ أَشْرَفُ الْحَيَوَانِ الْمَخْلُوقِ . فَكَانَ الْقَسَمُ بِصَانِعِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ مُنَاسِبًا وَكَانَ إقْسَامُهُ بِصَانِعِهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ صَانِعٌ مَا فِيهَا مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ . فَتَضَمَّنَ الْكَلَامُ الْإِقْسَامَ بِصَانِعِ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبِأَعْيَانِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الْآثَارِ وَالْمَنَافِعِ لِبَنِي آدَمَ . وَخَتَمَ الْقَسَمَ بِالنَّفْسِ الَّتِي هِيَ آخِرُ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ آخِرَ الْمَخْلُوقَاتِ . وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَالِقٌ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ جَمِيعَ أَفْعَالِ مَا سِوَاهَا . وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ عُمُومِ خَلْقِهِ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَرَاتِبِهَا حَتَّى أَفْعَالِ الْعَبْدِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَى التَّقْوَى وَالْفُجُورِ و بَيْنَ انْقِسَامِ الْأَفْعَالِ إلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَانْقِسَامِ الْفَاعِلِينَ إلَى مُفْلِحٍ وَخَائِبٍ سَعِيدٍ وَشَقِيٍّ . وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ . فَكَانَ فِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِينَ يُخْرِجُونَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ عَنْ خَلْقِهِ وَإِلْهَامِهِ وَعَلَى الْقَدَرِيَّةِ المشركية الَّذِينَ يُبْطِلُونَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ . احْتِجَاجًا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } إنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى " اللَّهِ " أَيْ " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا اللَّهُ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا اللَّهُ " . وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ بَعِيدٌ عَنْ نَهْجِ الْبَيَانِ الَّذِي أَلَّفَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ إذْ كَانَ الْأَحْسَنُ " قَدْ أَفْلَحَتْ مَنْ زَكَّاهَا اللَّهُ وَقَدْ خَابَتْ مَنْ دَسَّاهَا " وَهَذَا ضَعِيفٌ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } بَيَانٌ لِلْقَدَرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهِ . مَرَّةً ثَانِيَةً عَقِبَ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْقَصِيرَةِ . وَلِهَذَا لَمْ يُذْكَرْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إثْبَاتِ الْقَدَرِ إلَّا هَذِهِ الْآيَةُ دُونَ الثَّانِيَةِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْأُسُودِ الدؤلي قَالَ قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ مِنْ قَدَرٍ قَدْ سُبِقَ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ؟ فَقُلْت : بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى عَلَيْهِمْ . قَالَ فَقَالَ : أَفَلَا يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا ؟ قَالَ : فَفَزِعْت مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا وَقُلْت : كُلُّ شَيْءٍ خَلْقُ اللَّهِ وَمِلْكُ يَدِهِ فَلَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ . فَقَالَ لِي : يَرْحَمُك اللَّهُ : إنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُك إلَّا لِأُحْرِزَ عَقْلَك . فَإِنَّ { رَجُلَيْنِ مِنْ مزينة أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ مِنْ قَدَرٍ
قَدْ سُبِقَ أَوْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَ بِهِ مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ وَثَبَتَتْ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ؟ فَقَالَ : لَا بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ وَمَضَى فِيهِمْ } وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ تَصْدِيقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ قَوْلُهُ { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } وَاَلَّذِي فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْقَدَرُ السَّابِقُ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَكَلَامِهِ ؛ وَهَذَا إنَّمَا تُنْكِرُهُ غَالِيَةُ الْقَدَرِيَّةِ . وَأَمَّا الَّذِي فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَهَذَا أَبْلَغُ . فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْمَجُوسِيَّةَ تُنْكِرُهُ . فَاَلَّذِي فِي الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى مَا فِي الْحَدِيثِ وَزِيَادَةٌ وَلِهَذَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا لَهُ . وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُلْهِمُ لِلْفُجُورِ وَالتَّقْوَى وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ ظُلْمٌ كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ الإبليسية وَلَا مُخَالَفَةَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ المشركية فالْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ قَبْلَ وُجُودِهِ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ عِنْدَ الْإِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ . وَلِهَذَا قَدْ أَقَرَّ بِالْقَدَرِ السَّابِقِ جُمْهُورُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ خَلْقَ الْأَفْعَالِ . وَلَمْ يُثْبِتْ أَحَدٌ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَيُنْكِرُهُ مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَأَنَّهُ الْمُلْهِمُ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى كَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَصْنُوعَاتِهِ وَالشُّبْهَةُ الَّتِي عَرَضَتْ لِلْقَدَرِيَّةِ الَّتِي سَأَلَ المزنيان النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هِيَ فِي أَعْمَالِ الْعِبَادِ الَّتِي عَلَيْهَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ خَاصَّةً وَلَمْ يُنْكِرُوا مِنْ جِهَةِ الْقَدَرِ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَا يَخْلُقُهُ هُوَ قَبْلَ وُجُودِهِ . وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ إذَا اشْتَبَهَ أَمْرُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ الْأُمُورَ قَبْلَ وُجُودِهَا إلَّا أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ . فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَهُ حَتَّى يَكُونَ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَمِيرِ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُطِيعُهُ فِيهِ بَلْ يَكُونُ ضَرَرًا عَلَيْهِ مُسْتَقْبَحٌ عِنْدَهُمْ . وَقَدْ حَكَى طَوَائِفُ مِنْ الْمُصَنَّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِمْ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ . وَقَالُوا : يَجُوزُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعَبْدَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ . لِأَنَّ فِي جِنْسِ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ . فَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ أَثْبَتَ أَنَّهُ الْمُلْهِمُ لِلنَّفْسِ فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَفْعُولَاتِهِ . فَلَا تَبْقَى شُبْهَةُ الْقَدَرِيَّةِ أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِهِ كَمَا لَا شُبْهَةَ عِنْدِهِمْ فِي تَقْدِيرِهِ لِمَا يَخْلُقُهُ مِنْ الْأَعْيَانِ وَالصِّفَاتِ . وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ تَقْدِيرَهُ الْعِلْمَ مِنْ مُنْكِرَةِ الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضِهَا فَأُولَئِكَ
لَهُمْ مَأْخَذٌ آخَرُ لَيْسَ مَأْخَذُهُمْ أَمْرَ الصِّفَاتِ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَلْهَمَ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى وَهُوَ خَالِقُ فِعْلِ الْعَبْدِ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ مَا خَلَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ كَمَا قَالَ { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } لِأَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ يُرِيدُ مَا يَفْعَلُهُ وَالْإِرَادَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِتَصَوُّرِ الْمُرَادِ . وَذَلِكَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ الْمَفْعُولِ . وَإِذَا كَانَ خُلُقُهُ لِلشَّيْءِ مُسْتَلْزِمًا لِعِلْمِهِ بِهِ فَذَلِكَ أَصْلُ الْقَدَرِ السَّابِقِ وَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ وَبِكُتُبِهِ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ . وَهَذَا بَيِّنٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إذَا أَلْهَمَ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى فَالْمُلْهَمُ إنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى وَيَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ هَذَا فُجُورٌ وَاَلَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ هَذَا تَقْوَى لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ إلْهَامُ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى . فَظَهَرَ بِهَذَا حُسْنُ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَصْدِيقِ الْآيَةِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَدَرِ السَّابِقِ . وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْقَدَرِ فَيَدُلُّ عَلَى الشَّرْعِ . فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ " فَأَلْهَمَهَا أَفْعَالَهَا " كَمَا يَقُولُ النَّاسُ
" خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَمْيِيزٌ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ . بَلْ كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ المباحية وَالْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يَدْفَعُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْحُسْنَ وَالْقُبْحَ ؛ فَإِنَّهُ خَلَقَ أَفْعَالَ الْعِبَادِ . فَلَمَّا قَالَ { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } كَانَ الْكَلَامُ تَفْرِيقًا بَيْنَ الْحَسَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْقَبِيحِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنَّ الْأَفْعَالَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حَسَنٍ وَسَيِّئٍ مَعَ كَوْنِهِ تَعَالَى خَالِقَ الصِّنْفَيْنِ . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يَذْكُرُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ وَأَفْعَالَهُمَا الْحَسَنَةَ وَالسَّيِّئَةَ ووَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ ؛ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ خَالِقُ الصِّنْفَيْنِ كَقَوْلِهِ { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَهَذَا الْأَصْلُ ضَلَّتْ فِيهِ الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ : فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْمَجُوسِيَّةَ قَالُوا : إنَّ الْأَفْعَالَ تَنْقَسِمُ إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ لِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهَا وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُحْدِثُ لَهَا بِدُونِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَبِدُونِ خَلْقِهِ . فَقَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ : بَلْ الْعَبْدُ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِهِ وَالْجَبْرُ حَقٌّ يُوجِبُ وُجُودَ أَفْعَالِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَخْلُقُهَا اللَّهُ وَامْتِنَاعُ وَجُودِهَا عِنْدَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْأَسْبَابِ . وَإِذَا كَانَ مَجْبُورًا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا لِمَعْنَى يَقُومُ بِهِ .
وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي وَنَحْوِهِ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ النَّافِينَ لِانْقِسَامِ الْفِعْلِ فِي نَفْسِهِ إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ . وَالْأُولَى طَرِيقَةُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَنَحْوِهِ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَمْ يُحْدِثْهُ إلَّا هُوَ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ أَوْ نَظَرِيٌّ ؛ وَأَنَّ الْفِعْلَ يَنْقَسِمُ فِي نَفْسِهِ إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ . وَأَبُو الْحُسَيْنِ هُوَ إمَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَهُ مِنْ الْعَقْلِ وَالْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَكْثَرِ نُظَرَائِهِ . لَكِنْ هُوَ قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِالسُّنَنِ وَمَعَانِي الْقُرْآنِ وَطَرِيقَةِ السَّلَفِ . وَهُوَ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي فِي هَذَا الْبَابِ فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ وَمَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْحَقِّ مَا لَيْسَ مَعَ الْآخَرِ . فَأَبُو الْحُسَيْنِ يَدَّعِي أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُ فِعْلَهُ ضَرُورِيٌّ وَالرَّازِي يَدَّعِي أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ افْتِقَارَ الْفِعْلِ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ إلَى مُرَجَّحٍ يَجِبُ وَجُودُهُ عِنْدَهُ وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ عَدَمِهِ ضَرُورِيٌّ كَذَلِكَ . بَلْ كِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ . ثُمَّ يَعْتَقِدُ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ يُبْطِلُ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ مِنْ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . بَلْ كِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ وَمُصِيبٌ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَقَعَ غَلَطُهُ فِي إنْكَارِهِ مَا مَعَ الْآخَرِ مِنْ الْخَلْقِ . فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ مُحْدِثًا لِفِعْلِهِ وَكَوْنِ
هَذَا الْإِحْدَاثِ مُمْكِنُ الْوُجُودِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ الْمَحْضَةِ أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً كَمَا ادَّعَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ مِنْ الضَّرُورَةِ ؛ لَا يَقُولُونَ : لَيْسَ بِفَاعِلِ حَقِيقَةً أَوْ لَيْسَ بِفَاعِلِ كَمَا يَقُولُهُ الْمَائِلُونَ إلَى الْجَبْرِ مِثْلُ طَائِفَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِي . يَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِهَذَا الْفَاعِلِ وَلِفِعْلِهِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَهُ فَاعِلًا حَقِيقَةً وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ طَائِفَةِ الرَّازِي وَغَيْرِهِمْ ؛ لَا كَمَا يَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ مِثْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ وَطَائِفَتِهِ : إنَّ اللَّه لَمْ يَخْلُقْ أَفْعَالَ الْعِبَادِ . وَلِهَذَا نَصَّ الْأَئِمَّةُ كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ كالأوزاعي وَغَيْرِهِ عَلَى إنْكَارِ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فَلَا يُقَالُ " إنَّ اللَّهَ جَبَرَ الْعِبَادَ " وَلَا يُقَالُ " لَمْ يَجْبُرْهُمْ " . فَإِنَّ لَفْظَ " الْجَبْرِ " فِيهِ اشْتِرَاكٌ وَإِجْمَالٌ . فَإِذَا قِيلَ " جَبَرَهُمْ " أَشْعَرَ بِأَنَّ اللَّهَ يُجْبِرُهُمْ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ وَإِذَا قِيلَ " لَمْ يُجْبِرْهُمْ " أَشْعَرَ بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يَشَاءُونَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ اعْتَقَدُوا تَنَافِي الْقَدَرِ وَالشَّرْعِ كَمَا اعْتَقَدَ ذَلِكَ الْمَجُوسُ وَالْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا : إذَا كَانَ خَالِقًا لِلْفِعْلِ امْتَنَعَ
أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ حَسَنًا لَهُ ثَوَابٌ أَوْ قَبِيحًا عَلَيْهِ عِقَابٌ . ثُمَّ قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ : لَكِنَّ الْفِعْلَ مُنْقَسِمٌ فَلَيْسَ خَالِقًا لِلْفِعْلِ . وَقَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ : لَكِنَّهُ خَالِقٌ فَلَيْسَ الْفِعْلُ مُنْقَسِمًا . وَلَكِنَّ الْجَبْرِيَّةَ الْمُقِرُّونَ بِالرُّسُلِ يُقِرُّونَ بِالِانْقِسَامِ مِنْ جِهَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ فَقَطْ وَيَقُولُونَ : لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا شَاءَ لَا لِمَعْنَى فِيهِ وَيَنْهَى عَمَّا يَشَاءُ لَا لِأَجْلِ مَعْنًى فِيهِ وَيَقُولُونَ فِي خَلْقِهِ وَفِي أَمْرِهِ جَمِيعًا : يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ . وَأَمَّا مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ رَأْيٌ أَوْ هَوًى فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ عَنْ رِبْقَةِ الشَّارِعِ إذَا عَايَنَ الْجَبْرَ وَيَقُولُونَ مَا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } وَمَنْ أَقَرَّ بِالشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْي وَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ دُونَ الْقَدَرِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ كَمَا عَلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ فَهُوَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ الَّذِينَ شَابَهُوا الْمَجُوسَ . وَلِلْمُعْتَزِلَةِ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ نَصِيبٌ وَافِرٌ . وَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ وَعُمُومِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنْكَرَ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكِرَ وَالْهُدَى وَالضَّلَالَ وَالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالصَّابِئَةِ .
وَكَانَ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كَذَلِكَ لَمَّا نَاظَرَ أَهْلَ الْهِنْدِ كَمَا كَانَ الْمُعْتَزِلَةُ كَذَلِكَ لَمَّا نَاظَرُوا الْمَجُوسَ الْفُرْسَ وَالْمَجُوسُ أَرْجَحُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ أَوْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ فَهُوَ مُشْرِكٌ صَرِيحٌ كَافِرٌ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ أَهْلِ الْإِبَاحَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَلِهَذَا لَمْ يَظْهَرْ هَؤُلَاءِ وَنَحْوُهُمْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالنُّبُوَّةِ . وَإِنَّمَا ظَهَرَ أُولَئِكَ الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ فِيهِ تَعْظِيمٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . فَهُمْ أَقْرَبُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالرَّسُولِ وَالدِّينِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُعَطِّلَةِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ . وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ الإبليسية فَهَمّ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِوُجُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ اللَّهِ وَيُقِرُّونَ مَعَ ذَلِكَ بِوُجُودِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مِنْهُ لَكِنْ يَقُولُونَ : هَذَا فِيهِ جَهْلٌ وَظُلْمٌ . فَإِنَّهُ بِتَنَاقُضِهِ يَكُونُ جَهْلًا وَسَفَهًا وَبِمَا فِيهِ مِنْ عُقُوبَةِ الْعَبْدِ بِمَا خَلَقَ فِيهِ يَكُونُ ظُلْمًا . وَهَذَا حَالُ إبْلِيسَ . فَإِنَّهُ قَالَ { بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ
وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } . فَأَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ أَغْوَاهُ ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَهُ دَاعِيًا يَقْتَضِي أَنْ يُغْوِيَ هُوَ ذَرِّيَّةَ آدَمَ . وَإِبْلِيسٌ هُوَ أَوَّلُ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَطَغَى فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَعَارَضَ النَّصَّ بِالْقِيَاسِ . وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ السَّلَفِ : أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ . فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَاعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِأَنِّي خَيْرٌ مِنْهُ وَامْتَنَعَ مِنْ السُّجُودِ . فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَادَى اللَّهَ وَهُوَ الْجَاهِلُ الظَّالِمُ الْجَاهِلُ بِمَا فِي أَمْرِ اللَّهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الظَّالِمُ بِاسْتِكْبَارِهِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ بَطَرِ الْحَقِّ وَغَمْطِ النَّاسِ . ثُمَّ قَوْلُهُ لِرَبِّهِ " فَبِمَا أَغْوَيْتِنِي لَأَفْعَلَنَّ " جَعَلَ فِعْلَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ إغْوَاؤُهُ لَهُ حُجَّةً لَهُ وَدَاعِيًا إلَى أَنْ يُغْوِيَ ابْنَ آدَمَ . وَهَذَا طَعْنٌ مِنْهُ فِي فِعْلِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَزَعْمٌ مِنْهُ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَأَنَا أَفْعَلُ الْقَبِيحَ أَيْضًا . فَقَاسَ نَفْسَهُ عَلَى رَبِّهِ وَمَثَّلَ نَفْسَهُ بِرَبِّهِ . وَلِهَذَا كَانَ مُضَاهِيًا لِلرُّبُوبِيَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ إبْلِيسَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً أَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً . فَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَقُولُ : مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَعَلَ كَذَا . ثُمَّ يَجِيءُ الْآخَرُ فَيَقُولُ : مَا زِلْت بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ فَيَلْتَزِمُهُ وَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ : أَنْتَ أَنْتَ } .
وَالْقَدَرِيَّةُ قَصَدُوا تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنْ السَّفَهِ وَأَحْسَنُوا فِي هَذَا الْقَصْدِ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مُقَدَّسٌ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ مِنْ إبْلِيسَ وَجُنُودِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا حَكَمٌ عَدْلٌ . لَكِنْ ضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَحَصَلَ عِنْدَهُمْ نَوْعُ جَهْلٍ اعْتَقَدُوا مَعَهُ أَنَّ هَذَا التَّنْزِيهَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَنْ يَسْلُبُوهُ قُدْرَتَهُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَخَلْقِهِ لَهَا وَشُمُولِ إرَادَتِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ . فَنَاظَرُوا إبْلِيسَ وَحِزْبَهُ فِي شَيْءٍ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى . وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ آفَاتِ الْجِدَالِ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ بِغَيْرِ الْحَقِّ . وَهُوَ الْكَلَامُ الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَرُدُّ بَاطِلًا بِبَاطِلِ وَبِدْعَةً بِبِدْعَةِ . فَجَاءَ طَوَائِفُ مِمَّنْ نَاظَرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ لِيُقَرِّرُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . فَضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَعِلْمُهُمْ وَاعْتَقَدُوا أَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ إنْ لَمْ نُنْكِرْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَمَا خَصَّ بِهِ بَعْضَ الْأَفْعَالِ دُونَ بَعْضٍ مِنْ الصِّفَاتِ الْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ ؛ وَنُنْكِرُ حِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ كُلُّ فِعْلٍ لَا يُنَزَّهُ عَنْ ظُلْمٍ وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ . وَزَادَ قَوْمٌ فِي ذَلِكَ حَتَّى عَطَّلُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ رَأْسًا . وَمَالَ هَؤُلَاءِ إلَى الْإِرْجَاءِ كَمَا مَالَ الْأَوَّلُونَ إلَى الْوَعِيدِ . فَقَالَتْ الوعيدية :
كُلُّ فَاسِقٍ خَالِدٌ فِي النَّارِ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَبَدًا ؛ وَقَالَتْ الْخَوَارِجُ : هُوَ كَافِرٌ . وَغَالِيَةُ الْمُرْجِئَةِ أَنْكَرَتْ عِقَابَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ . وَمَنْ صَرَّحَ بِالْكُفْرِ أَنْكَرَ الْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ رَأْسًا كَمَا يَفْعَلُهُ طَوَائِفُ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ والمتفلسفة وَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ . وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْجَبْرِيَّةُ الْمُرْجِئَةُ أَكْفَرُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ الوعيدية الْقَدَرِيَّةِ . وَأَمَّا مُقْتَصِدَةُ الْمُرْجِئَةِ الْجَبْرِيَّةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَأَنَّ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ فَهَؤُلَاءِ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى أَهْلِ السُّنَّةِ . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لُعِنَتْ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا أَنَا آخِرُهُمْ } . لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ أَصْلَحُ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَنَحْوِهِمْ فِي الشَّرِيعَةِ عِلْمَهَا وَعَمَلَهَا . فَكَلَامُهُمْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِ الْمُرْجِئَةِ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . فَإِنَّ كَلَامَ هَؤُلَاءِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ قَاصِرٌ جِدًّا وَكَذَلِكَ هُمْ مُقَصِّرُونَ فِي تَعْظِيمِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي . وَلَكِنْ هُمْ فِي أُصُولِ الدِّينِ أَصْلَحُ مِنْ أُولَئِكَ فَإِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ بِمَا لَا يُؤْمِنُ بِهِ أُولَئِكَ . وَهَذَا الصِّنْفُ أَعْلَى .
فَلِهَذَا كَانَتْ الْمُرْجِئَةُ فِي الْجُمْلَةِ خَيْرًا مِنْ الْقَدَرِيَّةِ حَتَّى إنَّ الْإِرْجَاءَ دَخَلَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ الِاعْتِزَالِ . فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّتِهِمْ .
فَصْلٌ :
فَإِذَا كَانَ الضَّلَالُ فِي الْقَدَرِ حَصَلَ تَارَةً بِالتَّكْذِيبِ بِالْقَدَرِ وَالْخَلْقِ . وَتَارَةً بِالتَّكْذِيبِ بِالشَّرْعِ وَالْوَعِيدِ وَتَارَةً بِتَظْلِيمِ الرَّبِّ كَانَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ رَدًّا عَلَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ كُلِّهَا . فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } إثْبَاتٌ لِلْقَدَرِ بِقَوْلِهِ " فَأَلْهَمَهَا " ؛ وَإِثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِإِضَافَةِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى إلَى نَفْسِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّهَا هِيَ الْفَاجِرَةُ وَالْمُتَّقِيَةُ ؛ وَإِثْبَاتٌ لِلتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ { فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } . وَقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } إثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِفَلَاحِ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ وَخَيْبَةِ مَنْ دَسَّاهَا . وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَعَلَى الْجَبْرِيَّةِ لِلشَّرْعِ أَوْ لِفِعْلِ الْعَبْدِ وَهُمْ الْمُكَذِّبُونَ بِالْحَقِّ .
وَأَمَّا الْمُظْلِمُونَ لِلْخَالِقِ فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى عَدْلِهِ بِقَوْلِهِ { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } وَالتَّسْوِيَةُ : التَّعْدِيلُ . فَبَيَّنَ أَنَّهُ عَادِلٌ فِي تَسْوِيَةِ النَّفْسِ الَّتِي أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . وَذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عُقُوبَةَ مَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ وَطَغَى وَأَنَّهُ لَا يَخَافُ عَاقِبَةَ انْتِقَامِهِ مِمَّنْ خَالَفَ رُسُلَهُ لِيُبَيِّنَ أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بِهَذَا أَوْ بِهَذَا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْتَقِمُ مِنْهُ وَلَا يَخَافُ عَاقِبَةَ انْتِقَامِهِ كَمَا انْتَقَمَ مِنْ إبْلِيسِ وَجُنُودِهِ وَأَنَّ تَظَلُّمَهُ مِنْ رَبِّهِ وَتَسْفِيهَهُ لَهُ إنَّمَا يُهْلِكُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا . " فَإِنَّ الْعِبَادَ لَنْ يَبْلُغُوا ضُرَّ اللَّهِ فَيَضُرُّوهُ وَلَنْ يَبْلُغُوا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا وَلَوْ أَنَّ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا " . وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَبَا الْأُسُودِ الدؤلي عَنْ ذَلِكَ لِيَحْزِرَ عَقْلَهُ " هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ ظُلْمًا ؟ " فَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْهُ ظُلْمًا وَخَافَ مِنْ قَوْلِهِ { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } وَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتِشْهَادَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ الْخَائِضِينَ بِالْبَاطِلِ إمَّا أَنْ يَكُونُوا مُكَذِّبِينَ لِمَا
أَخْبَرَ بِهِ الرَّبُّ مِنْ خَلْقِهِ أَوْ أَمْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُظْلِمِينَ لَهُ فِي حُكْمِهِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ الصَّادِقُ الْعَدْلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . فَإِنَّ الْكَلَامَ إمَّا إنْشَاءٌ وَإِمَّا إخْبَارٌ . فَالْإِخْبَارُ صِدْقٌ لَا كَذِبٌ ؛ وَالْإِنْشَاءُ أَمْرُ التَّكْوِينِ وَأَمْرُ التَّشْرِيعِ عَدْلٌ لَا ظُلْمٌ . وَالْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ كَذَّبُوا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ خَلْقِهِ وَشَرْعِهِ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ والإبليسية جَعَلُوهُ ظَالِمًا فِي مَجْمُوعِهِمَا أَوْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا . وَقَدْ ظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُفْتَرِقِينَ الْمُخْتَلِفِينَ مِنْ الْأُمَّةِ إنَّمَا ذَلِكَ بِتَرْكِهِمْ بَعْضَ الْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ وَأَخْذِهِمْ بَاطِلًا يُخَالِفُهُ وَاشْتِرَاكِهِمْ فِي بَاطِلٍ يُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مُخَالِفَةِ الْكُفَّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } إلَى قَوْلِهِ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } . فَإِذَا اشْتَرَكُوا فِي بَاطِلٍ خَالَفُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِلرُّسُلِ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَلْقَى بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي حَقٍّ آخَرَ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَآمَنِ هَؤُلَاءِ بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ وَالْآخَرُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا كَفَرَ بِهِ هَؤُلَاءِ وَيَكْفُرُونَ بِمَا يُؤْمِنُ بِهِ هَؤُلَاءِ . وَهُنَا كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْن الْمُفْتَرِقَتَيْن مَذْمُومَةٌ . وَهَذَا شَأْنُ عَامَّةِ
الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَغَيْرِهَا . وَهَذَا مِنْ ذَلِكَ . فَإِنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي أَنَّ كَوْنَ الرَّبِّ خَالِقًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ يُنَافِي كَوْنَ فِعْلِهِ مُنْقَسِمًا إلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ . وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ اشْتَرَكُوا فِيهَا جَدَلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ حَقًّا فِي نَفْسِهَا أَوْ عَلَيْهَا حُجَّةٌ مُسْتَقِيمَةٌ . وَهِيَ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا الرَّازِي فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ . فَإِنَّهُ اعْتَقَدَ فِي " مَحْصُولِهِ " وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِهِ وَالْمَجْبُورُ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ قَبِيحًا فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبِيحًا . وَهَذِهِ الْحُجَّةُ بِنَفْيٍ ذَلِكَ أَصْلُهَا حُجَّةُ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ قَالُوا { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } فَإِنَّهُمْ نَفَوْا قُبْحَ الشِّرْكِ وَتَحْرِيمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ بِإِثْبَاتِ الْقَدَرِ . لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْجَبْرِ عَلَى نَفْيِ الْأَحْكَامِ إذَا أَقَرُّوا بِالشَّرْعِ لَمْ يَكُونُوا مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُقِرُّونَ بِالشَّرِيعَةِ كَالْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ جُزْءٌ مِنْ بَاطِلٍ الْمُشْرِكِينَ . لَكِنْ يُوجَدُ فِي الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُتَصَوِّفَةِ طَوَائِفُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْجَبْرُ حَتَّى
يَكْفُرُوا حِينَئِذٍ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ إمَّا قَوْلًا وَإِمَّا حَالًا وَعَمَلًا . وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ الَّتِي تُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ إسْقَاطَ اللَّوْمِ وَالْعِقَابِ عَنْهُمْ وَلَا يَزِيدُهُمْ ذَلِكَ إلَّا ذَمًّا وَعِقَابًا كَالْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ . فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُطَرَّدُ الْعَمَلُ بِهِ لِأَحَدِ إذْ لَا غِنَى لِبَنِي آدَمَ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مِنْ إرَادَةِ شَيْءٍ وَالْأَمْرِ بِهِ وَبُغْضِ شَيْءٍ وَالنَّهْيِ عَنْهُ . فَمَنْ طَلَبَ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمَرْضِيِّ وَالْمَسْخُوطِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَالْهُدَى وَالرُّشْدِ وَالْغَيِّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا . بَلْ إذَا حَصَلَ لَهُ مَا يَكْرَهُهُ وَيُؤْذِيهِ فَرَّ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ وَعُقُوبَةُ فَاعِلِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتَدِيَ فِي ذَلِكَ . فَهُمْ مِنْ أَظْلَمِ الْخَلْقِ فِي تَفْرِيقِهِمْ بَيْنَ الْقَبِيحِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ وَمِمَّنْ يَهْوُونَهُ وَمَنْ لَا يَهْوُونَهُ وَاحْتِجَاجُهُمْ بِالْقَدَرِ لِأَنْفُسِهِمْ دُونَ خُصُومِهِمْ . وَتَجِدُ أَحَدَهُمْ عِنْدَ فِعْلِ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ يَغْلِبُ عَلَى قَلْبِهِ حَالُ أَهْلِ الْقَدَرِ فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ هُوَ الْمُحْدِثُ لِذَلِكَ دُونَ اللَّهِ وَيَنْسَى نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ
فِي إلْهَامِهِ إيَّاهُ تَقْوَاهُ . وَهَذَا مِنْ أَظْلَمِ الْخَلْقِ كَمَا قَالَ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ . وَأَهْلُ الْعَدْلِ ضِدُّ ذَلِكَ . إذَا فَعَلُوا حَسَنَةً شَكَرُوا اللَّهَ عَلَيْهَا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي حَبَّبَ إلَيْهِمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَرَّهَ إلَيْهِمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ؛ { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } . فَاتَّبَعُوا أَبَاهُمْ حَيْثُ أَذْنَبَ : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } وَقَالَ { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ " أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي " كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ . خَلَقْتِنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت . أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ ؛ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي . فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ تُرَدُّ
عَلَيْكُمْ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ شَرًّا فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ } . وَيَقُولُونَ بِمُوجَبِ قَوْله تَعَالَى { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
ذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ثَمُودَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ فَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة :
هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى . فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ أَخَفُّ ذَنْبًا وَعَذَابًا مِنْهُمْ (*) إذْ لَمْ يَذْكُرُ عَنْهُمْ مِنْ الذُّنُوبِ مَا ذَكَرَ عَنْ عَادٍ وَمَدْيَنَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَهُمْ وَعَادًا قَالَ { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَهُمْ مَعَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُمْ مَا يَذْكُرُ عَنْ أُولَئِكَ مِنْ التَّجَبُّرِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ كَاللِّوَاطِ وَبَخْسِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ كَمَا فِي سُورَةِ هُودٍ وَالشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمَا . فَكَانَ فِي قَوْمِ لُوطٍ مَعَ الشِّرْكِ إتْيَانُ الْفَوَاحِشِ الَّتِي
لَمْ يُسْبَقُوا إلَيْهَا ؛ وَفِي عَادٍ مَعَ الشِّرْكِ التَّجَبُّرُ وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّوَسُّعُ فِي الدُّنْيَا وَشِدَّةُ الْبَطْشِ وَقَوْلُهُمْ { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } وَفِي أَصْحَابِ مَدْيَنَ مَعَ الشِّرْكِ الظُّلْمُ فِي الْأَمْوَالِ ؛ وَفِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ وَالْعُلُوُّ .
وَكَانَ عَذَابُ كُلِّ أُمَّةٍ بِحَسَبِ ذُنُوبِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ . فَعُذِّبَ قَوْمُ عَادٍ بِالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْعَاتِيَةِ الَّتِي لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ ؛ وَعُذِّبَ قَوْمُ لُوطٍ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يُعَذَّبْ بِهَا أُمَّةٌ غَيْرُهُمْ . فَجَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الْهَلَاكِ وَالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَطَمْسِ الْأَبْصَارِ وَقَلْبِ دِيَارِهِمْ عَلَيْهِمْ بِأَنْ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَالْخَسْفِ بِهِمْ إلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ . وَعَذَّبَ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالنَّارِ الَّتِي أَحْرَقَتْهُمْ وَأَحْرَقَتْ تِلْكَ الْأَمْوَالَ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَأَمَّا ثَمُودُ فَأَهْلَكَهُمْ بِالصَّيْحَةِ فَمَاتُوا فِي الْحَالِ . فَإِذَا كَانَ هَذَا عَذَابَهُ لِهَؤُلَاءِ وَذَنْبُهُمْ مَعَ الشِّرْكَ عَقْرُ النَّاقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ آيَةً لَهُمْ فَمَنْ انْتَهَكَ مَحَارِمَ اللَّهِ وَاسْتَخَفَّ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَعَقَرَ عِبَادَهُ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ كَانَ أَشَدَّ عَذَابًا . وَمَنْ اعْتَبَرَ أَحْوَالَ الْعَالَمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَمَا يُعَاقَبُ بِهِ مَنْ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَقَامَ الْفِتَنَ وَاسْتَهَانَ بِحُرُمَاتِ اللَّهِ عَلِمَ أَنَّ النَّجَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ .
سُورَةُ الْعَلَقِ
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي بَيَانِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الْمُعَادِ إمْكَانًا وَوُقُوعًا . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ هَذَا الْأَصْلَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالسَّمْعِيَّةَ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ إلَى دِينِهِمْ وَمَا فِيهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَنَّ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا أُصُولًا تُخَالِفُ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ هِيَ أُصُولُ دِينِهِمْ لَا أُصُولُ دِينِهِ . وَهِيَ بَاطِلَةٌ عَقْلًا وَسَمْعًا كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَبَيَّنَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ قَاصِرُونَ أَوْ مُقَصِّرُونَ فِي مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ
الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . فَطَائِفَةٌ قَدْ ابْتَدَعَتْ أُصُولًا تُخَالِفُ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذَا وَهَذَا . وَطَائِفَةٌ رَأَتْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةً فَأَعْرَضَتْ عَنْهُ وَصَارُوا يَنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ لِسَلَامَتِهِمْ مِنْ بِدْعَةِ أُولَئِكَ . وَلَكِنْ هُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتَّبِعُوا السُّنَّةَ عَلَى وَجْهِهَا وَلَا قَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . بَلْ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ مِمَّا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ رَبِّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ غَايَتُهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِلَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرٍ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ . بَلْ قَدْ يَقُولُونَ مَعَ هَذَا إنَّهُ نَفْسُهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَعْنَى مَا أَخْبَرَ بِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ هُوَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَقَدْ لَا يَتَصَوَّرُونَ أَنَّهُ أَتَى بِالْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ كَالْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهَذَا مُجْمَلًا وَلَا يَعْرِفُ أَدِلَّتَهُ . بَلْ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِخَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى حُدُوثِ جَوَاهِرِهِ هُوَ دَلِيلُ الرَّسُولِ . وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْلَمَ بِالْعَقْلِ كَالْمُعَادِ وَحُسْنِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَقُبْحِ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ
وَالْكَذِبِ . وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ . وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَدِلَّ بِهَا . وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ بِالْعَقْلِ يَعْرِفُ الْمُعَادَ وَحُسْنَ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَحُسْنَ شُكْرِهِ وَقُبْحَ الشِّرْكِ وَكُفْرَ نِعَمِهِ كَمَا قَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَكُونُ هَذَا فِي فِطْرَتِهِ وَهُوَ يُنْكِرُ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ إذَا صُنِّفَ فِي أُصُولِ الدِّينِ عَلَى طَرِيقَةِ الْنُّفَاةِ الْجَبْرِيَّةِ أَتْبَاعِ جَهْمٍ . وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي عَامَّةِ مَا يَقُولُهُ الْمُبْطِلُونَ يَقُولُونَ بِفِطْرَتِهِمْ مَا يُنَاقِضُ مَا يَقُولُونَهُ فِي اعْتِقَادِهِمْ الْبِدْعِيِّ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ الْجَدِّ الْأَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ يُنْشِدُ فِي مَجْلِسِ وَعْظِهِ الْبَيْتَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ :
هَبْ الْبَعْثَ لَمْ تَأْتِنَا رُسُلُهُ * * * وَجَاحِمَةُ النَّارِ لَمْ تُضْرَمْ
أَلَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ * * * حَيَاءُ الْعِبَادِ مِنْ الْمُنْعِمِ ؟
فَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذَا بِأَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبِ الْمُسْتَحَقِّ حَيَاءُ الْخَلْقِ مِنْ الْخَالِقِ الْمُنْعِمِ . وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ شُكْرَهُ وَاجِبٌ مُسْتَحَقٌّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَعِيدٌ وَلَا
رِسَالَةٌ أَخْبَرَتْ بِجَزَاءِ . وَهُوَ يُبَيِّنُ ثُبُوتَ الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لَا عَذَابَ . وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ . وَنَتِيجَةُ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ انْخِفَاضُ الْمَنْزِلَةِ وَسَلْبُ كَثِيرٍ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي كَانَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ لَا يُعَاقَبُ بِالضَّرَرِ . وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْوُجُوبَ وَالِاسْتِحْقَاقَ يُعْلَمُ بِالْبَدِيهَةِ . فَتَارِكُ الْوَاجِبِ وَفَاعِلُ الْقَبِيحِ وَإِنْ لَمْ يُعَذَّبْ بِالْآلَامِ كَالنَّارِ فَيُسْلَبُ مِنْ النِّعَمِ وَأَسْبَابِهِ مَا يَكُونُ جَزَاءَهُ . وَهَذَا جَزَاءُ مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النِّعْمَةَ بَلْ كَفَرَهَا أَنْ يُسْلَبَهَا . فَالشُّكْرُ قَيْدُ النِّعَمِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمَزِيدِ . وَالْكُفْرُ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ وَقَبْلَ ذَلِكَ يُنْقِصُ النِّعْمَةَ وَلَا يَزِيدُ . مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إرْسَالِ رَسُولٍ يَسْتَحِقُّ مَعَهُ النَّعِيمَ أَوْ الْعَذَابَ فَإِنَّهُ مَا ثَمَّ دَارٌ إلَّا الْجَنَّةُ أَوْ النَّارُ . قَالَ تَعَالَى { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ بَيَانَ هَذِهِ الْأُصُولِ وَقَعَ فِي أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ . فَإِنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } عِنْدَ جَمَاهِيرِ
الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ قِيلَ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ . فَإِنَّ مَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ يُبَيِّنُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ وَأَنَّ " الْمُدَّثِّرَ " نَزَلَتْ بَعْدُ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي . فَإِنَّ قَوْلَهُ { اقْرَأْ } أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ لَا بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَبِذَلِكَ صَارَ نَبِيًّا . وَقَوْلُهُ { قُمْ فَأَنْذِرْ } أَمْرٌ بِالْإِنْذَارِ وَبِذَلِكَ صَارَ رَسُولًا مُنْذِرًا . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ . فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ . ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الْخَلَاءُ فَكَانَ يَأْتِي غَارَ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ . ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ . فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ : اقْرَأْ . قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئِ . قَالَ : فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ .
فَقُلْت : مَا أَنَا بِقَارِئِ . فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : اقْرَأْ . فَقُلْت : مَا أَنَا بِقَارِئِ . فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةُ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } . فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ . فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خويلد فَقَالَ : " زَمِّلُونِي . زَمِّلُونِي " فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ . فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي . فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : كَلَّا وَاَللَّهِ لَا يُخْزِيك اللَّهُ أَبَدًا إنَّك لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتُعِينَ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ . فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ
الْعُزَّى ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ . وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرِيَّ فَيَكْتُبُ مِنْ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ . فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمٍّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيك . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟ . فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى . فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ : هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى . يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُك قَوْمُك . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ . قَالَ : نَعَمْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْت بِهِ إلَّا عُودِي . وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزَّرًا . } ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوَفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ سَمِعْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ
عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ : { فَبَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْت صَوْتًا فَرَفَعْت بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءِ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجِئْت حَتَّى هَوَيْت إلَى الْأَرْضِ . فَجِئْت أَهْلِي فَقُلْت : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُونِي . فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنْذِرْ } إلَى قَوْلِهِ { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ " الْمُدَّثِّرَ " نَزَلَتْ بَعْدَ تِلْكَ الْفَتْرَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ أَنْ عَايَنَ الْمَلَكَ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءِ أَوَّلًا . فَكَانَ قَدْ رَأَى الْمَلَكَ مَرَّتَيْنِ . وَهَذَا يُفَسِّرُ حَدِيثَ جَابِرٍ الَّذِي رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَمَا أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ { يَحْيَى بْن أَبِي كَثِيرٍ قَالَ : سَأَلْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ . قَالَ : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } . قُلْت : يَقُولُونَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } . فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ وَقُلْت لَهُ مِثْلَ مَا قُلْت فَقَالَ جَابِرٌ : لَا أُحَدِّثُك إلَّا مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : جَاوَرْت بِحِرَاءِ ؛ فَلَمَّا قَضَيْت جِوَارِي هَبَطْت فَنُودِيت فَنَظَرْت عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت عَنْ شَمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا وَنَظَرْت خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا . فَرَفَعْت رَأْسِي فَرَأَيْت شَيْئًا . فَأَتَيْت خَدِيجَةَ فَقُلْت دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا .
قَالَ : فَنَزَلَتْ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنْذِرْ } { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } } . فَهَذَا الْحَدِيثُ يُوَافِقُ الْمُتَقَدِّمَ وَإِنَّ " الْمُدَّثِّرَ " نَزَلَتْ بَعْدَ أَنْ هَبَطَ مِنْ الْجَبَلِ وَهُوَ يَمْشِي وَبَعْدَ أَنْ نَادَاهُ الْمَلَكُ حِينَئِذٍ . وَقَدْ بَيَّنَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ هَذَا الْمَلَكَ هُوَ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَتْ عَائِشَةُ أَنَّ { اقْرَأْ } نَزَلَتْ حِينَئِذٍ فِي غَارِ حِرَاءٍ . لَكِنْ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ أَنَّ { اقْرَأْ } نَزَلَتْ حِينَئِذٍ بَلْ عَلِمَ أَنَّهُ رَأَى الْمَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَدْ يَرَاهُ وَلَا يَسْمَعُ مِنْهُ . لَكِنَّ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ زِيَادَةَ عَلِمَ وَهُوَ أَمْرُهُ بِقِرَاءَةِ { اقْرَأْ } . وَفِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمَّى هَذَا " فَتْرَةَ الْوَحْيِ " وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ " فَتْرَةُ الْوَحْيِ " . فَقَدْ يَكُونُ الزُّهْرِيُّ رَوَى حَدِيثَ جَابِرٍ بِالْمَعْنَى وَسَمَّى مَا بَيْنَ الرُّؤْيَتَيْنِ " فَتْرَةَ الْوَحْيِ " كَمَا بَيَّنَتْهُ عَائِشَةُ ؛ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ جَابِرٌ سَمَّاهُ " فَتْرَةَ الْوَحْيِ " فَكَيْفَ يَقُولُ إنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَكُنْ نَزَلَ ؟ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَالزُّهْرِيُّ عِنْدَهُ حَدِيثُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ؛ وَحَدِيثُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ ؛ وَهُوَ أَوْسَعُ عِلْمًا وَأَحْفَظُ مِنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ لَوْ اخْتَلَفَا . لَكِنْ يَحْيَى ذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا سَلَمَةَ عَنْ الْأُولَى فَأَخْبَرَ جَابِرٌ بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلِمَ مَا نَزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ وَعَائِشَةُ أَثْبَتَتْ وَبَيَّنَتْ .
وَالْآيَاتُ آيَاتُ " اقْرَأْ " و " الْمُدَّثِّرُ " تُبَيِّنُ ذَلِكَ وَالْحَدِيثَانِ مُتَصَادِقَانِ مَعَ الْقُرْآنِ وَمَعَ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ هُوَ الْمُنَاسِبُ . وَإِذَا كَانَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى إثْبَاتُ الْخَالِقِ تَعَالَى وَكَذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ . وَفِيهَا وَفِي الثَّانِيَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى إمْكَانِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . أَمَّا الْأُولَى فَإِنَّهُ قَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ثُمَّ قَالَ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } . فَذَكَرَ الْخَلْقَ مُطْلَقًا ثُمَّ خَصَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ عَلَقٍ . وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْدُثُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ عَلَقٍ . وَهَؤُلَاءِ بَنُو آدَمَ . وَقَوْلُهُ الْإِنْسَانُ هُوَ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ النَّاسِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ آدَمَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ طِينٍ . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ الدَّلِيلِ عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى وَالِاسْتِدْلَالُ إنَّمَا يَكُونُ بِمُقَدِّمَاتِ
يَعْلَمُهَا الْمُسْتَدِلُّ . وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ دَلَالَةِ النَّاسِ وَهِدَايَتِهِمْ وَهُمْ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّاسَ يُخْلَقُونَ مِنْ الْعَلَقِ . فَأَمَّا خَلْقُ آدَمَ مِنْ طِينٍ فَذَاكَ إنَّمَا عُلِمَ بِخَبَرِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ بِدَلَائِلَ أُخَرَ . وَلِهَذَا يُنْكِرُهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ الدَّهْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ لَا يُقِرُّونَ بِالنُّبُوَّاتِ . وَهَذَا بِخِلَافِ ذِكْرِ خَلْقِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ . فَإِنَّ ذَاكَ ذِكْرُهُ لِمَا يُثْبِتُ النُّبُوَّةَ وَهَذِهِ السُّورَةُ أَوَّلُ مَا نَزَلَ وَبِهَا تَثْبُتُ النُّبُوَّةُ فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا مَا عُلِمَ بِالْخَبَرِ بَلْ ذَكَرَ فِيهَا الدَّلِيلَ الْمَعْلُومَ بِالْعَقْلِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ لِمَنْ لَمْ يَرَ الْعَلَقَ . وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ الْعَلَقِ وَهُوَ جَمْعُ " عَلَقَةٍ " وَهِيَ الْقِطْعَةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ الدَّمِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ نُطْفَةً وَالنُّطْفَةُ قَدْ تَسْقُطُ فِي غَيْرِ الرَّحِمِ كَمَا يَحْتَلِمُ الْإِنْسَانُ وَقَدْ تَسْقُطُ فِي الرَّحِمِ ثُمَّ يَرْمِيهَا الرَّحِمُ قَبْلَ أَنْ تَصِيرَ عَلَقَةً . فَقَدْ صَارَ مَبْدَأً لِخَلْقِ الْإِنْسَانِ وَعُلِمَ أَنَّهَا صَارَتْ عَلَقَةً لِيُخْلَقَ مِنْهَا الْإِنْسَانُ . وَقَدْ قَالَ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى } { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى } { فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ
عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } فَهُنَا ذَكَرَ هَذَا عَلَى إمْكَانِ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ التُّرَابِ . وَلِهَذَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } فَفِي الْقِيَامَةِ اسْتَدَلَّ بِخَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَفِي الْحَجِّ ذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ تُرَابٍ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ . وَذِكْرُ أَوَّلِ الْخَلْقِ أَدَلُّ عَلَى إمْكَانِ الْإِعَادَةِ . وَأَمَّا هُنَا فَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخَالِقِ تَعَالَى ابْتِدَاءً فَذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ وَهُوَ مِنْ الْعَلَقَةِ الدَّمُ يَصِيرُ مُضْغَةً وَهُوَ قِطْعَةُ لَحْمٍ كَاللَّحْمِ الَّذِي يُمْضَغُ بِالْفَمِ ثُمَّ تَخَلَّقَ فَتُصُوِّرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ } فَإِنَّ الرَّحِمَ قَدْ يَقْذِفُهَا غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ . فَبَيَّنَ لِلنَّاسِ مَبْدَأَ خَلْقِهِمْ وَيَرَوْنَ ذَلِكَ بِأَعْيُنِهِمْ . وَهَذَا الدَّلِيلُ وَهُوَ خَلْقُ الْإِنْسَانِ مِنْ عَلَقٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ . فَإِنَّ النَّاسَ هُمْ الْمُسْتَدِلُّونَ وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ وَالْآيَةُ . فَالْإِنْسَانُ هُوَ الدَّلِيلُ وَهُوَ الْمُسْتَدِلُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } وَقَالَ { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } . وَهَذَا كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } .
وَهُوَ دَلِيلٌ يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَذْكُرُهُ كُلَّمَا تَذَكَّرَ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَنْ يَرَاهُ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ . فَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } وَقَالَ تَعَالَى { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } . وكذلك قَالَ زَكَرِيَّا لَمَّا تَعَجَّبَ مِنْ حُصُولِ وَلَدٍ عَلَى الْكِبَرِ فَقَالَ { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا } { قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } وَلَمْ يُقَلْ " إنَّهُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ " كَمَا قَالَ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } . وقال سُبْحَانَهُ { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } بَعْدَ أَنْ قَالَ { الَّذِي خَلَقَ } . فَأَطْلَقَ الْخَلْقَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَخْلُوقٍ ثُمَّ عَيَّنَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فَكَانَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ حُدُوثُهُ دَاخِلًا فِي قَوْلِهِ { الَّذِي خَلَقَ } . وذكر بَعْدَ الْخَلْقِ التَّعْلِيمَ الَّذِي هُوَ التَّعْلِيمُ بِالْقَلَمِ وَتَعْلِيمُ الْإِنْسَانِ مَا لَمْ يَعْلَمْ . فَخَصَّ هَذَا التَّعْلِيمَ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى إمْكَانِ النُّبُوَّةِ . وَلَمْ يُقَلْ هُنَا " هُدَى " فَيَذْكُرُ الْهُدَى الْعَامَّ الْمُتَنَاوَلَ لِلْإِنْسَانِ