الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
اعْتَادُوهُ مِنْ الدَّفْنِ فِي الصَّحْرَاءِ ؛ وَلَا يُصَلِّي أَحَدٌ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيَتَّخِذُهُ مَسْجِدًا فَيُتَّخَذَ قَبْرُهُ وَثَنًا . وَكَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَمَّا كَانَتْ " الْحُجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ " مُنْفَصِلَةً عَنْ الْمَسْجِدِ إلَى زَمَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يَدْخُلُ عِنْدَهُ أَحَدٌ لَا لِصَلَاةِ هُنَاكَ وَلَا لِتَمَسُّحِ بِالْقَبْرِ وَلَا دُعَاءٍ هُنَاكَ بَلْ هَذَا جَمِيعُهُ إنَّمَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذَا سَلَّمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادُوا الدُّعَاءَ دَعَوْا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةَ لَمْ يَسْتَقْبِلُوا الْقَبْرَ .
وَأَمَّا وُقُوفُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ أَيْضًا لَا يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ . وَقَالَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ : بَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ خَاصَّةً . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَسْتَقْبِلُ الْقَبْرَ عِنْدَ الدُّعَاءِ - أَيْ الدُّعَاءِ الَّذِي يَقْصِدُهُ لِنَفْسِهِ - إلَّا فِي حِكَايَةٍ مَكْذُوبَةٍ تُرْوَى عَنْ مَالِكٍ وَمَذْهَبُهُ بِخِلَافِهَا . وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمَسُّ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُقَبِّلُهُ . وَهَذَا كُلُّهُ مُحَافَظَةً عَلَى التَّوْحِيدِ . فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ اتِّخَاذَ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ كَمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قَالُوا : هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ
فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ طَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَعَبَدُوهُمْ . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضَ هَذَا الْمَعْنَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ كَمَا ذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّ هَذِهِ الْأَوْثَانَ صَارَتْ إلَى الْعَرَبِ وَذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرُهُ فِي التَّفْسِيرِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ فِي " قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ " مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ . وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْمَشَاهِدِ الَّتِي عَلَى الْقُبُورِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ - مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ - الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ الْمَسَاجِدَ وَيُعَظِّمُونَ الْمَشَاهِدَ : الَّتِي يُشْرَكُ فِيهَا وَيُكَذَّبُ فِيهَا " وَيُبْتَدَعُ فِيهَا دِينٌ لَمْ يُنَزِّلْ اللَّهُ بِهِ سُلْطَانًا فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إنَّمَا فِيهِ ذِكْرُ الْمَسَاجِدِ دُونَ الْمَشَاهِدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ
فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَهَذِهِ أَلْفَاظُ الْمُجِيبِ .
فَلْيَتَدَبَّرْ الْإِنْسَانُ مَا تَضَمَّنَتْهُ وَمَا عَارَضَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُعَارِضُونَ مِمَّا نَقَلُوهُ عَنْ الْجَوَابِ وَمَا ادَّعَوْا أَنَّهُ بَاطِلٌ : هَلْ هُمْ صَادِقُونَ مُصِيبُونَ فِي هَذَا ؟ أَوْ هَذَا ؟ أَوْ هُمْ بِالْعَكْسِ ؟ وَالْمُجِيبُ أَجَابَ بِهَذَا مِنْ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً : بِحَسَبِ حَالِ هَذَا السَّائِلِ وَاسْتِرْشَادِهِ وَلَمْ يَبْسُطْ الْقَوْلَ فِيهَا وَلَا سَمَّى كُلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ بِحَسَبِ مَا تَيَسَّرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ . وَإِلَّا فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ مَوْجُودَانِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَفِي شُرُوحِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالْقَوْلُ بِتَحْرِيمِ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ - وَإِنْ كَانَ قَبْرَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَكَذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَحْمَد . الْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مَعْنَاهُ بِتَحْرِيمِ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : قَبْرُ نَبِيِّنَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ . ثُمَّ لِهَذَا الْقَوْلِ مَأْخَذَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ سَفَرٌ إلَى مَسْجِدِهِ . وَهَذَا الْمَأْخَذُ هُوَ الصَّحِيحُ . وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ . وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي : أَنَّ نَبِيَّنَا لَا يُشَبَّهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ
طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : أَنَّهُ يُحْلَفُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ : حُكْمُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ كَحُكْمِهِ : قَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْحَلِفِ بِهِمْ وَقَالَهُ بَعْضُهُمْ فِي زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ . وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ . وَآخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد قَالُوا : الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ نَفْيُ الْفَضِيلَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ وَنَفْيُ الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ ؛ لَا نَفْيُ الْجَوَازِ . وَهَذَا قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي الْمَعَالِي وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَمَنْ وَافَقَهُمَا مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . فَهَذَانِ هُمَا الْقَوْلَانِ الْمَوْجُودَانِ فِي كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ : ذَكَرَهُمَا الْمُجِيبُ وَلَمْ يَعْرِفْ أَحَدًا مَعْرُوفًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْكُتُبِ قَالَ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلًا ثَالِثًا لَحَكَاهُ ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَإِلَى الْآنَ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّ أَحَدًا قَالَ ذَلِكَ وَلَكِنْ أَطْلَقَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ الْقَوْلَ بِاسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ . وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْمُجِيبُ نِزَاعًا فِي الْجَوَابِ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَالْمُسَافِرُ إلَى قَبْرِهِ لَا بُدَّ إنْ كَانَ عَالِمًا بِالشَّرِيعَةِ أَنْ يَقْصِدَ السَّفَرَ إلَى
مَسْجِدِهِ فَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ ؛ فَإِنَّ الْجَوَابَ إنَّمَا كَانَ عَمَّنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِهِمْ وَالْعَالِمُ بِالشَّرِيعَةِ لَا يَقَعُ فِي هَذَا فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ اسْتَحَبَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ وَهُوَ يُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِهِ . فَكَيْفَ لَا يَقْصِدُ السَّفَرَ إلَيْهِ فَكُلُّ مَنْ عَلِمَ مَا يَفْعَلُهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَهُ وَإِنَّمَا يَنْتَفِي الْقَصْدُ مَعَ الْجَهْلِ . إمَّا مَعَ الْجَهْلِ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ مُسْتَحَبٌّ كَوْنُهُ مَسْجِدَهُ لَا لِأَجْلِ الْقَبْرِ وَإِمَّا مَعَ الْجَهْلِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ إنَّمَا يَصِلُ إلَى مَسْجِدِهِ . فَأَمَّا مَعَ الْعِلْمِ بِالْأَمْرَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ . وَلِهَذَا كَانَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ حُكْمٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْقُبُورِ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَأَهْلُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ يَجْعَلُونَ السَّفَرَ إلَى زِيَارَتِهِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ لَهُمْ مِنْ السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ . يُسَافِرُونَ إلَيْهِ لِيَدْعُوهُ وَيَدْعُوا عِنْدَهُ وَيَدْخُلُوا إلَى قَبْرِهِ وَيَقْعُدُوا عِنْدَهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ أَوْ عِنْدَهُ مَسْجِدٌ بُنِيَ لِأَجْلِ الْقَبْرِ فَيُصَلُّونَ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ تَعْظِيمًا لِصَاحِبِ الْقَبْرِ وَهَذَا مِمَّا لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى فِعْلِهِ وَنَهَى أُمَّتَهُ عَنْ فِعْلِهِ فَقَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ
عَنْ ذَلِكَ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَمْ يَعْرِفْ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ . وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ الَّذِي صَنَّفَهُ هَذَا الْمُعْتَرِضُ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ وَبَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ وَالِافْتِرَاءِ . فَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَوَابِ : إنَّهُ ظَهَرَ لِي مِنْ صَرِيحِ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَفَحْوَاهُ وَمَقْصِدِهِ إلَيَّ وَمَغْزَاهُ : وَهُوَ تَحْرِيمُ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَسَائِرِ الْقُبُورِ وَالسَّفَرِ إلَيْهَا وَدَعْوَاهُ أَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا . فَيُقَالُ : مَعْلُومٌ لِكُلِّ مَنْ رَأَى الْجَوَابَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ ؛ لَا قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ بِسَفَرِ ؛ وَلَا فِيهِ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ السَّفَرِ ؛ بَلْ قَدْ صَرَّحَ بِالْخِلَافِ فِي ذَلِكَ . فَكَيْفَ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ : إنَّ نَفْسَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ مُطْلَقًا مَعْصِيَةٌ مُحَرَّمَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا فَهَذَا افْتِرَاءٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْجَوَابِ ؛ ثُمَّ إنَّهُ تَنَاقَضَ فِي ذَلِكَ فَحَكَى بَعْدَ هَذَا عَنْ الْمُجِيبِ أَنَّهُ حَكَى الْخِلَافَ فِي جَوَازِ السَّفَرِ . ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ : إنَّ مَا ادَّعَاهُ مُجْمَعٌ عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ وَأَنَّهُ يُنَاقِضُ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الَّذِي يُنَاقِضُ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ . وَأَمَّا الْمُجِيبُ
فَحَكَى قَوْلَهُمْ فِي جَوَازِ السَّفَرِ وَأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ وَلَا طَاعَةٍ . فَمَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَإِذَا فَعَلَهُ لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ طَاعَةٌ كَانَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ فَصَارَ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً . هَذَا لَفْظُ الْجَوَابِ .
وَمَعْلُومٌ فِي كُلِّ عَمَلٍ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ أَوْ مُبَاحٌ لَيْسَ بِقُرْبَةِ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ قُرْبَةً فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ وَإِذَا فَعَلَهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ كَمَا لَوْ تَقَرَّبَ بِلَعِبِ النَّرْدِ وَالشَّطْرَنْجِ وَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْحُشُوشِ وَاسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْمَعَازِفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ التَّحْرِيمُ وَالْإِبَاحَةُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا قُرْبَةٌ . فَاَلَّذِي يَجْعَلُهُ عِبَادَةً يَتَقَرَّبُ بِهِ كَمَا يَتَقَرَّبُ بِالْعِبَادَاتِ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ . وَهَذَا يُشْبِهُ التَّقَرُّبَ بِالْمَلَاهِي وَالْمَعَازِفِ ؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَبَعْضُهُمْ أَبَاحَهَا وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهَا قُرْبَةٌ . فَقَائِلُ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ ؛ وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ زِنْدِيقٌ : مِثْلُ مَا حَكَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي عَنْ ابْنِ الراوندي أَنَّهُ قَالَ : اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْغِنَاءِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ حَلَالٌ وَأَنَا أَقُولُ إنَّهُ وَاجِبٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ أَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَاَلَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ بِسَمَاعِ الْقَصَائِدِ وَالتَّغْبِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُمْ مُخْطِئُونَ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَئِمَّةِ ؛ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْغِنَاءَ قُرْبَةٌ
مُطْلَقًا وَلَكِنْ يَقُولُهُ فِي صُورَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِبَعْضِ أَهْلِ الدِّينِ الَّذِينَ يُحَرِّكُونَ قُلُوبَهُمْ بِهَذَا السَّمَاعِ إلَى الطَّاعَاتِ فَيُحَرِّكُونَ بِهِ وَجْدَ الْمَحَبَّةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَاتِ وَوَجْدَ الْحُزْنِ وَالْخَوْفِ وَالتَّرْهِيبِ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ إنَّهُ قُرْبَةٌ مَعَ أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ لَوْ جُعِلَ هَذَا قُرْبَةً ؛ لِكَوْنِهِ بِدْعَةً لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةَ وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَفَاسِدَ رَاجِحَةٍ عَلَى مَا ظَنُّوهُ مِنْ الْمَصَالِحِ كَمَا فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا مَنَافِعُ لِلنَّاسِ فَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا . وَالشَّرِيعَةُ تَأْمُرُ بِالْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ وَالْجِهَادُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ النُّفُوسِ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَفِتْنَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الْقَتْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } وَنَهَى عَنْ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ وَالرَّاجِحَةِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَعَنْ : " الْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يُبِيحُهَا قَطُّ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَلَا فِي شِرْعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ . وَتَحْرِيمُ الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَفْسَدَتُهُ رَاجِحَةٌ . وَهَذَا الضَّرْبُ تُبِيحُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ مَفْسَدَةَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاغْتِذَاءِ بِهِ . وَالْفُقَهَاءُ إنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْخَمْرِ هَلْ تُشْرَبُ لِلْعَطَشِ . لِتَنَازُعِهِمْ فِي
كَوْنِهَا تُذْهِبُ الْعَطَشَ وَالنَّاهِي قَالَ : لَا تَزِيدُ الشَّارِبَ إلَّا عَطَشًا فَلَا يَحْصُلُ بِهِ بَقَاءُ الْمُهْجَةِ . وَالْمُبِيحُ يَقُولُ بَلْ قَدْ تُرَطِّبُ رُطُوبَةً تَبْقَى مَعَهَا الْمُهْجَةُ وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ الْمَأْخَذَيْنِ كَانَ هُوَ الْوَاقِعَ كَانَ قَوْلُ صَاحِبِهِ أَصْوَبَ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ كَانَ مَنْ جَعَلَهُ قُرْبَةً مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ فَمَنْ أَحْدَثَ قَوْلًا ثَالِثًا فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَهُمْ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اسْتِمَاعَ الْغِنَاءِ قُرْبَةٌ مُطْلَقًا وَإِنْ قَالَ إنَّ سَمَاعَ الْقَوْلِ الَّذِي شُرِطَ لَهُ الْمَكَانُ وَالْإِمْكَانُ وَالْإِخْوَانُ - وَهُوَ تَرْغِيبٌ فِي الطَّاعَاتِ وَتَرْهِيبٌ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ - قُرْبَةٌ فَلَا يَقُولُ قَطُّ إنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَ الْمَلَاهِيَ فَهُوَ مُتَقَرِّبٌ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : إنَّ السَّفَرَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قُرْبَةٌ وَإِنَّهُ إذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَنَّهُ يَفِي بِهَذَا النَّذْرِ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْبَةٌ أَوْ قَالُوا هُوَ قُرْبَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا : فَهَذَا حَقٌّ إذَا عُرِفَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَابْنُ بَطَّالٍ وَغَيْرُهُمَا : فَمُرَادُهُمْ السَّفَرُ الْمَشْرُوعُ إلَى مَسْجِدِهِ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ الَّتِي تُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَكْرَهُونَ أَنْ تُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ . فَهَذَا الْإِجْمَاعُ
عَلَى هَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ لَا رَيْبَ فِيهِ . وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِالنَّهْيِ عَنْهُ أَوْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةِ وَلَا طَاعَةٍ . وَالسَّفَرُ لِغَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ قَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : كَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَغَيْرِهِمَا : أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ لَا يَفْعَلُهُ لَا نَاذِرٌ وَلَا مُتَطَوِّعٌ وَصَرَّحُوا بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَإِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدَيْنِ هُوَ مِنْ السَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَإِنْ نَذَرَهُ سَوَاءٌ سَافَرَ لِزِيَارَةِ أَيِّ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ قَبْرٍ مِنْ قُبُورِهِمْ أَوْ قُبُورِ غَيْرِهِمْ أَوْ مَسْجِدٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ : فَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ السَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ؛ فَكَيْفَ يَقُولُونَ : إنَّهُ قُرْبَةٌ ؛ وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً لَا يُنَاقِضُ النِّزَاعَ فِي الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ . وَهَذَا الْإِجْمَاعُ الْمَحْكِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَا يَقْدَحُ فِيهِ خِلَافُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إنْ وُجِدَ ؛ وَلَكِنْ إنْ وُجِدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصُّلَحَاءِ الْمَعْرُوفِينَ مِنْ السَّلَفِ قَالَ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَوْ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَانَ هَذَا قَادِحًا فِي هَذَا الْإِجْمَاعِ وَيَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ؛ وَلَكِنَّ الَّذِي يَحْكِي الْإِجْمَاعَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ كَثِيرًا لِكَثِيرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ يُرَدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ إلْزَامُ النَّاسِ بِهِ بِلَا حُجَّةٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
فَصْلٌ :
وَمِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ الزِّيَارَةِ الْمَعْهُودَةِ فِي قَبْرِ غَيْرِهِ حَتَّى يَحْتَجَّ عَلَيْهَا بِزِيَارَةِ الْبَقِيعِ وَشُهَدَاءِ أُحُدٍ وَزِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ . وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَ مَنْ حَرَّمَ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ وَسَائِرِ الْقُبُورِ مُجَاهِرًا بِالْعَدَاوَةِ لِلْأَنْبِيَاءِ مُظْهِرًا لَهُمْ الْعِنَادَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ : كَمَالِكِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ والجُوَيْنِي أَبِي مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِ أَحْمَد . فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ إمَامُهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ مُجَاهِرِينَ لِلْأَنْبِيَاءِ بِالْعَدَاوَةِ مُعَانِدِينَ لَهُمْ : وَهَذَا لَوْ قَالَهُ فِيمَا أَخْطَئُوا فِيهِ لَاسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ الْبَلِيغَةَ ؛ فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ فِيمَا اتَّبَعُوا فِيهِ الرَّسُولَ وَاتَّبَعُوا فِيهِ سُنَّتَهُ الصَّحِيحَةَ فَحَرَّمُوا مَا حَرَّمَ . فَقَدْ جَعَلَ الْمُطِيعَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِي رَضِيَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ عَمَلَهُ مُجَاهِرًا لَهُمْ بِالْعَدَاوَةِ مُعَانِدًا لَهُمْ . فِي كُفْرِ مَنْ حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِإِيمَانِهِ . وَمِثْلُ هَذَا يُبَيِّنُ لَهُ الصَّوَابَ وَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ
الرَّسُولُ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَلَيْهِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ثُمَّ أَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَيْسَ بِكُفْرِ بَلْ هُوَ مِمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ قَوْلٌ سَائِغٌ وَقَائِلُهُ مُجْتَهِدٌ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ سَوَاءٌ أَصَابَ أَوْ أَخْطَأَ فَإِذَا أَصَرَّ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ تَبَيَّنَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ : فَأَصَرَّ عَلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَمَنْ جَعَلَ اعْتِقَادَ أَنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ مُعَادَاةً لِلْمَسِيحِ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ مَنْ قَالَ : لَا تَحْلِفْ بِالْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ عَادَاهُمْ وَكَفَرَ ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا يُسْتَتَابُ . وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهَا مَالِكٌ إمَامُهُ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ وَهُوَ فِي كُتُبِهِمْ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَهُوَ لَمْ يُعْرَفْ مِمَّا قَالُوا بَلْ يَكْفُرُ وَيُلْعَنُ وَيُشْتَمُ مَنْ قَالَ بِنَفْسِ الْقَوْلِ الَّذِي قَالُوهُ فَيَلْزَمُهُ تَكْفِيرُهُمْ وَسَبُّهُمْ وَاسْتِحْلَالُ دِمَائِهِمْ . وَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ : وَرَدَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَغَيْرُهَا مِمَّا لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ ؛ لَكِنَّهَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ
الشَّرْعِيَّةِ . وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَا مَا قَالَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرافضي الَّذِي يَقُولُ : قَدْ رُوِيَ فِي النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ الْإِمَامُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ وَأُخَرُ دُونَهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ زِيَارَةِ قَبْرِهِ لَمْ يُخَرِّجْ شَيْئًا مِنْهَا أَهْلُ الصَّحِيحِ وَلَا السُّنَنِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا : كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ ؛ وَلَا الْمَسَانِيدِ الَّتِي هِيَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ : كَمُسْنَدِ أَحْمَد . وَلَا اسْتَدَلَّ بِشَيْءِ مِنْهَا إمَامٌ ؛ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا حَدِيثًا وَاحِدًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْزُوَهُ إلَى كِتَابٍ . وَقَوْلُهُ : إنَّ مَا لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ مِنْهَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا . إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ حَسَنَةً عِنْدَ مَنْ قَسَّمَ الْحَدِيثَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ وَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِحُسْنِهَا وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ لَمْ يَحْكُمُوا بِذَلِكَ وَهُوَ وَأَمْثَالُهُ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ . فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ فِي الدِّينِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ : بِأَنْ يُدْخِلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ جَمِيعُ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ ؛ بَلْ حَكَمُوا بِأَنَّهُ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ " الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ " الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهَا وَمَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ ؛ كَالصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ
وَبَيْنَ مَا ابْتَدَعَهُ الضَّالُّونَ مِنْ الْإِشْرَاكِ بِالْمَيِّتِ وَالْحَجِّ إلَى قَبْرِهِ وَدُعَائِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَقْصُودُهُ بِزِيَارَتِهِ وَالسَّفَرِ إلَيْهِ أَنَّهُ يَدْعُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؛ لَا أَنَّهُ يَدْعُو لَهُ . وَهَذِهِ الزِّيَارَةُ لَمْ يَفْعَلْهَا الرَّسُولُ وَلَا أَذِنَ فِيهَا قَطُّ ؛ فَكَيْفَ بِالسَّفَرِ إلَيْهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ إلَى الطَّوَاغِيتِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ جَعَلَ زِيَارَةَ الْمَيِّتِ كَزِيَارَتِهِ حَيًّا وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ { الَّذِي زَارَ أَخًا لَهُ فِي الْحَيَاةِ } عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ الْمَيِّتِ وَهَذِهِ التَّسْوِيَةُ وَالْقِيَاسُ مَا عُرِفَتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ سَافَرُوا إلَى الرَّسُولِ فَسَاعَدُوهُ وَسَمِعُوا كَلَامَهُ وَخَاطَبُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَجَابَهُمْ وَعَلَّمَهُمْ وَأَدَّبَهُمْ وَحَمَّلَهُمْ رَسَائِلَ إلَى قَوْمِهِمْ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ : لَا يَكُونُ مِثْلَهُمْ أَحَدٌ بِالْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ : كَالْجِهَادِ وَالْحَجِّ . فَكَيْفَ يَكُونُ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ ظَاهِرِ حُجْرَتِهِ مِثْلَهُمْ أَوْ تُقَاسُ هَذِهِ الزِّيَارَةُ بِهَذِهِ الزِّيَارَةِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا يُفْعَلُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ حُجْرَتِهِ مِنْ صَلَاةٍ عَلَيْهِ وَسَلَامٍ وَثَنَاءٍ وَإِكْرَامٍ وَذِكْرِ مَحَاسِنَ وَفَضَائِلَ : مُمْكِنٌ فِعْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَمَاكِنِ وَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ كَمَا قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ } . وَلَوْ كَانَ لِلْأَعْمَالِ عِنْدَ الْقَبْرِ فَضِيلَةٌ لَفَتَحَ لِلْمُسْلِمِينَ بَابَ الْحُجْرَةِ ؛ فَلَمَّا مُنِعُوا مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْقَبْرِ
وَأُمِرُوا بِالْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ : عُلِمَ أَنَّ فَضِيلَةَ الْعَمَلِ فِيهِ لِكَوْنِهِ فِي مَسْجِدِهِ كَمَا أَنَّ صَلَاةً فِي مَسْجِدِهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ وَلَمْ يَأْمُرْ قَطُّ بِأَنْ يُقْصَدَ بِعَمَلِ صَالِحٍ أَنْ يُفْعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمِنْهَا افْتِرَاؤُهُ عَلَى الْمُجِيبِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ افْتِرَاءً ظَاهِرًا وَسَبَبُ افْتِرَائِهِ عَلَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَرَجَّحَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ لِكَوْنِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ تُوَافِقُهُمْ وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ مُعَادَاةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ إذْ كُلُّ مَنْ عَادَى سُنَّتَهُ وَشَرِيعَتَهُ وَدِينَهُ فَقَدْ عَادَاهُ وَمَنْ عَادَى شَخْصًا لِأَجْلِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا عَادَى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ . فَكَيْفَ يَجُوزُ الْكَذِبُ وَالِافْتِرَاءُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَهُوَ كَذِبٌ ظَاهِرٌ . وَلَوْ كَانَ الْمُجِيبُ مُخْطِئًا لَمَا جَازَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ وَالِافْتِرَاءَ حَرَامٌ مُطْلَقًا . وَاَللَّهُ أَوْجَبَ الصِّدْقَ وَالْعَدْلَ لِكُلِّ أَحَدٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ مِنْ الْأَقْوَالِ هِيَ أَقْوَالُ الْمُتَّبِعِينَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُعْتَرِضُ الْقَادِحُ فِيهِمْ وَفِيمَا قَالُوهُ الشَّاتِمُ الْمُكَفِّرُ لِمَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَطَاعَهُ وَاتَّبَعَهُ عَلَى نَفْسِ مَا هُوَ مُتَابَعَةٌ لِلرَّسُولِ وَإِيمَانٌ بِهِ : قَوْلُهُ هَذَا الْمُتَضَمِّنُ عَدَاوَةَ الرَّسُولِ وَعَدَاوَةَ مَا جَاءَ بِهِ وَعَدَاوَةَ مَنْ اتَّبَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ . فَقَوْلُهُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ مِنْ جِنْسِ أَقْوَالِ الْمُحَادِّينَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمُوَالِينَ لِأَهْلِ
الْإِفْكِ وَالشِّرْكِ الْمُضَاهِينَ لِلنَّصَارَى وَأَمْثَالِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ قَوْلَهُمْ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ ؛ لِقِلَّةِ الْعِلْمِ وَسُوءِ الْفَهْمِ وَالْبُعْدِ عَنْ أَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَعْرِفَةِ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ . بَلْ هُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ يَتَكَلَّمُونَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْكَلَامِ صَاحِبُهَا إلَى الِاسْتِتَابَةِ وَالتَّعْزِيرِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّفْهِيمِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ وَالْمُنَاظَرَةِ لَهُ كَمَا يُوجَدُ فِي جُهَّالِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الرَّافِضَةِ وَالْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مَنْ يُسَارِعُ إلَى تَكْفِيرِ مَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ مَنْ السَّلَفِ ؛ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ وَسُوءِ فَهْمِهِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . فَهُمْ مُبْتَدِعُونَ بِدْعَةً بِجَهْلِهِمْ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيَتَّبِعُونَ سُنَّةَ الرَّسُولِ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ وَيَعْدِلُونَ فِيهِمْ وَيَعْذُرُونَ مَنْ اجْتَهَدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ ؛ إنَّمَا يَذُمُّونَ مَنْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ الْمُفَرِّطُ فِي طَلَبِ الْحَقِّ لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ وَالْمُعْتَدِي الْمُتَّبِعُ لِهَوَاهُ بِلَا عِلْمٍ لِفِعْلِهِ الْمُحَرَّمَ . فَيَذُمُّونَ مَنْ تَرَكَ الْوَاجِبَ أَوْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَ ؛ وَلَا يُعَاقِبُونَهُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } لَا سِيَّمَا فِي مَسَائِلَ تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ وَخَفِيَ الْعِلْمُ فِيهَا عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ وَمَنْ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ بِطَرِيقَةِ أَهْلِ
الْعِلْمِ بَلْ جَازَفَ فِي الْقَوْلِ بِلَا عِلْمٍ . فَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَصْلُحُ لِلْمُنَاظَرَةِ ؛ إلَّا كَمَا يُنَاظَرُ جُهَّالُ الْعَوَامِّ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُضَاهِينَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَنْ قَالَ الْحَقَّ فِي الْمَخْلُوقِ سَابًّا لَهُ شَاتِمًا وَهُمْ يَسُبُّونَ اللَّهَ وَيَشْتُمُونَهُ وَيُؤْذُونَهُ وَلَا يَخَافُونَ مَنْ سَبِّ الْخَالِقِ وَشَتْمِهِ وَالشِّرْكِ بِهِ مَا يَخَافُونَهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ لَهُمْ : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُشْرِكِينَ : { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } فَلَا يَغْضَبُونَ مَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ بِالْبَاطِلِ كَمَا يَغْضَبُونَ مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِالْحَقِّ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ . } وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ : { أَنَّ النَّصَارَى - نَصَارَى نَجْرَانَ -
لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا : يَا مُحَمَّدُ لَمْ تَذْكُرْ صَاحِبَنَا ؟ قَالَ : وَمَنْ صَاحِبُكُمْ ؟ قَالُوا : عِيسَى قَالَ : وَأَيُّ شَيْءٍ أَقُولُ لَهُ ؟ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ . قَالُوا : بَلْ هُوَ اللَّهُ فَقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِعَارِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ . فَقَالُوا : بَلَى فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنْ اللَّهِ ؛ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ : شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ وَكَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ . فَأَمَّا شَتْمُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ إنِّي اتَّخَذْت وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ . وَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إيَّايَ فَقَوْلُهُ : لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَن عَلَيَّ مِنْ إعَادَتِهِ } وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ عَنْ النَّصَارَى : لَا تَرْحَمُوهُمْ فَلَقَدْ سَبُّوا اللَّهَ مسبة مَا سَبَّهُ إيَّاهَا أَحَدٌ مِنْ الْبَشَرِ . فَهَؤُلَاءِ يَنْتَقِصُونَ الْخَالِقَ وَيَأْنَفُونَ أَنْ يُذْكَرَ الْمَخْلُوقُ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ تَنْقِيصًا لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ إعْطَاؤُهُ حَقَّهُ وَخَفْضٌ لَهُ عَنْ دَرَجَةِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا إلَّا اللَّهُ وَهَذِهِ حَالُ مَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . وَمِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ قُرْبَةً جَازَ التَّوَسُّلُ إلَيْهِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ
وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ الْخَطَأِ .
وَمِنْهَا ظَنُّهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ السَّفَرِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ؛ بَلْ إنَّمَا نَقَلَهُ الْمُجِيبُ إنْ صَحَّ نَقْلُهُ عَمَّنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ . وَهُوَ نَصُّ مَالِكٍ الصَّرِيحِ فِي خُصُوصِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ وَجُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ . وَمِنْهَا زَعْمُهُ أَنَّ الَّذِينَ حَكَى الْمُجِيبُ قَوْلَهُمْ - وَهُمْ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ عبدوس وَأَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي - لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مَنْ سِوَاهُمْ وَلَا يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ لِمَنْ عَدَاهُمْ ؛ وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُقَالُ فِي أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ ؛ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ ؛ إلَّا صَاحِبَ الشَّرْعِ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّ النَّبِيَّ يَسْمَعُ مِنْ الْقُرْبِ وَيُبَلَّغُ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ مِنْ الْبُعْدِ : لَمْ يَذْكُرْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْحِسَانِ الَّتِي فِي السُّنَنِ ؛ بَلْ إنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى حَدِيثٍ مَوْضُوعٍ { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْته وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا بُلِّغْته } وَهَذَا إنَّمَا يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ السدي عَنْ الْأَعْمَشِ . وَهُوَ كَذَّابٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ عَلَى الْأَعْمَشِ بِإِجْمَاعِهِمْ . ثُمَّ قَدْ غَيَّرَ لَفْظَهُ . فَفِي النُّسْخَةِ الَّتِي رَأَيْتهَا مُصَحَّحًا : { وَمَنْ
صَلَّى عَلَيَّ نَائِيًا سَمِعْته } وَإِنَّمَا لَفْظُهُ { بُلِّغْته } وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ مُسْنَدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَهُوَ نَقْلٌ مِنْهُ . وَمَنْ يَحْتَجُّ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ وَيُعْرِضُ عَنْ أَحَادِيثِ أَهْلِ السُّنَنِ الْحِسَانِ فَهُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ . وَإِذَا كَانَ قَدْ حَرَّفَ لَفْظَهُ فَهُوَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمَلَاحِدَةِ فِي قَوْلِهِ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ } الْحَدِيثُ فَهُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ . وَمَعَ هَذَا فَحَرَّفُوا لَفْظَهُ فَقَالُوا : أَوَّلُ بِالضَّمِّ وَلَفْظُهُ { أَوَّلَ مَا خَلَقَ } بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ كَمَا رُوِيَ " لَمَّا خَلَقَ " . وَمِنْهَا أَنَّهُ احْتَجَّ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى زِيَارَةِ قَبْرِهِ ؛ وَظَنَّ أَنَّ الْجَوَابَ يَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَمَّا أُجْمِعَ عَلَيْهِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْجَوَابِ بِأَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ طَاعَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ مَا تَضَمَّنَهُ مِمَّا يُسَمَّى بِزِيَارَةِ لِقَبْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَحَبَّةِ : مِثْلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ بِالْوَسِيلَةِ وَغَيْرِهَا وَالشَّهَادَةِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَتَعْزِيرِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الزِّيَارَةِ : فَهَذَا كُلُّهُ مُسْتَحَبٌّ . وَالْمُجِيبُ يُصَرِّحُ بِاسْتِحْبَابِ ذَلِكَ وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُسَمَّى هَذَا زِيَارَةً ؟ وَذَكَرَ تَنَازُعَ الْعُلَمَاءِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . فَذَكَرَ جَوَازَ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَزِيَارَةِ قَبْرِهِ وَذَكَرَ بَعْضَ مَا
تُنُوزِعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ . وَهَذَا ظَنَّ أَنَّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ نَبِيِّنَا كَالسَّفَرِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ . أَحَدُهَا : أَنَّ مَسْجِدَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ وَالسَّفَرَ إلَيْهِ مَشْرُوعٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَالثَّانِي : أَنَّ زِيَارَتَهُ كَمَا يُزَارُ غَيْرُهُ مُمْتَنِعَةٌ وَإِنَّمَا يَصِلُ الْإِنْسَانُ إلَى مَسْجِدِهِ وَفِيهِ يَفْعَلُ مَا شُرِعَ لَهُ . الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْرُ نَبِيِّنَا يُزَارُ كَمَا تُزَارُ الْقُبُورُ لَكَانَ أَهْلُ مَدِينَتِهِ أَحَقَّ النَّاسِ بِذَلِكَ كَمَا أَنَّ أَهْلَ كُلِّ مَدِينَةٍ أَحَقُّ بِزِيَارَةِ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا اتَّفَقَ السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ مَدِينَتِهِ لَا يَزُورُونَ قَبْرَهُ بَلْ وَلَا يَقِفُونَ عِنْدَهُ لِلسَّلَامِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَخَرَجُوا . وَإِنْ لَمْ يُسَمَّى هَذَا زِيَارَةً بَلْ يُكْرَهُ لَهُمْ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ السَّفَرِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَفْعَلُونَهُ : عُلِمَ أَنَّ مَنْ جَعَلَ زِيَارَةَ قَبْرِهِ مَشْرُوعَةً كَزِيَارَةِ قَبْرِ غَيْرِهِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ نَهَى أَنْ يُتَّخَذَ قَبْرُهُ عِيدًا وَأَمَرَ الْأُمَّةَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَتُسَلِّمَ حَيْثُ مَا كَانَتْ وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يَبْلُغُهُ . فَلَمْ يَكُنْ تَخْصِيصُ الْبُقْعَةِ بِالدُّعَاءِ لَهُ مَشْرُوعًا ؛ بَلْ يُدْعَى لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ وَعِنْدَ كُلِّ
أَذَانٍ وَفِي كُلِّ صَلَاةٍ وَعِنْدَ دُخُولِ كُلِّ مَسْجِدٍ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ . وَهَذَا لِعُلُوِّ قَدْرِهِ وَارْتِفَاعِ دَرَجَتِهِ . فَقَدْ خَصَّهُ اللَّهُ مِنْ الْفَضِيلَةِ . بِمَا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ ؛ لِئَلَّا يُجْعَلَ قَبْرُهُ مِثْلَ سَائِرِ الْقُبُورِ ؛ بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَيُبَيَّنُ فَضْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى أُمَّتِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَلْزَمْ مِنْ دَعْوَاهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُجْمَعٌ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَنْ يَكُونَ السَّادَةُ الصَّحَابَةُ مَعَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ لِلْإِجْمَاعِ خَارِقِينَ مُصِرِّينَ عَلَى تَقْرِيرِ الْحَرَامِ مُرْتَكِبِينَ بِأَنْفُسِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْإِقْدَامُ مُجْمِعِينَ عَلَى الضَّلَالَةِ سَالِكِينَ طَرِيقَ العماية وَالْجَهَالَةِ . وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْجَهْلِ بِالشَّرِيعَةِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ - الَّتِي أَجْمَعَ عَلَيْهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ - وَبَيْنَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ - الَّتِي أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ : مِمَّا يُبَيِّنُ اشْتِمَالَ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ مُخَالَفَةِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ يَفْهَمُ مَا قَالَ وَلَوَازِمَهُ لَكَانَ مُرْتَدًّا يَجِبُ قَتْلُهُ لَكِنَّهُ جَاهِلٌ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَتَصَوَّرُهُ وَيَتَصَوَّرُ لَوَازِمَهُ . فَيُقَالُ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ - مِمَّنْ ظَنَّ أَنَّ فِي الْجَوَابِ مَا يُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ -
الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ سَلَفًا وَخَلَفًا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ هُوَ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فِيهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْقِيَامِ بِحَقِّ رَسُولِهِ : مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ كَشَهَادَتِنَا لَهُ وَثَنَائِنَا عَلَيْهِ . وَصَلَاتِنَا وَسَلَامِنَا عَلَيْهِ مِنْ أَفْضَلِ مَا عَبَدْنَا اللَّهَ بِهِ وَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي مَسْجِدِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَ زِيَارَةً لِقَبْرِهِ أَوْ لَمْ يُسَمَّ . فَإِنَّ لَفْظَ الزِّيَارَةِ لِقَبْرِهِ وَاسْتِحْبَابَ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَمَنْ وَافَقَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِ هُنَاكَ وَالصَّلَاةُ . وَهُمْ لَا يُسَمُّونَ هَذَا زِيَارَةً لِقَبْرِهِ . فَكَيْفَ بالذين لَمْ يَكُونُوا يَقِفُونَ عِنْدَ الْقَبْرِ بِحَالِ وَهُمْ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا مَا ابْتَدَعَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَسَمَّى ذَلِكَ " زِيَارَةً لِقَبْرِهِ " فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ الَّتِي تُفْعَلُ عِنْدَ قَبْرِ غَيْرِهِ لَيْسَ هُوَ مِنْ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ . وَأَمَّا مَا يَدْخُلُ فِي الْأَعْمَالِ الشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ بِسُنَّتِهِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ وَبِإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ . ثُمَّ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ مَنْ لَا يُسَمِّي هَذَا " زِيَارَةً لِقَبْرِهِ " بَلْ يَكْرَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ : إنَّ ذَلِكَ سَفَرٌ إلَى قَبْرِهِ . وَقَدْ صَرَّحَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِثْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ إلَى هُنَاكَ إذَا
كَانَ مَقْصُودُهُ الْقَبْرَ أَنَّهُ سَفَرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } وَأَنَّ السَّفَرَ الَّذِي هُوَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ أَنْ يُقْصَدَ السَّفَرُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُسَافِرَ إلَى الْمَدِينَةِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ : لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ مَعْرُوفًا فِي الْكُتُبِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ فَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ السَّفَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ الْعُلَمَاءِ يُسَمُّونَ هَذَا زِيَارَةً لِقَبْرِهِ . وَيَقُولُونَ : تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِهِ أَوْ السَّفَرُ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ وَمَقْصُودُهُمْ بِالزِّيَارَةِ هُوَ مَقْصُودُ الْأَوَّلِينَ وَهُوَ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَأَنْ يُفْعَلَ فِي مَسْجِدِهِ مَا يُشْرَعُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدَهُمْ يُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ مَعَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَزُورُ قَبْرَهُ الزِّيَارَةَ الْمَعْرُوفَةَ فِي سَائِر الْقُبُورِ فَإِنَّ تِلْكَ قُبُورٌ بَارِزَةٌ يُوصَلُ إلَيْهَا وَيُقْعَدُ عِنْدَهَا . أَوْ يُقَامُ عِنْدَهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُفْعَلَ عِنْدَهَا مَا يُشْرَعُ : كَالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ : كَدُعَائِهِ وَالشِّرْكِ بِهِ وَالنِّيَاحَةِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَالنَّدْبِ . فَهَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ " زِيَارَةِ الْقُبُورِ " . وَالرَّسُولُ دُفِنَ فِي بَيْتِهِ فِي حُجْرَتِهِ وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ إلَى هُنَاكَ وَالْوُصُولِ إلَى قَبْرِهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَزُورَ قَبْرَهُ كَمَا يَزُورُ قَبْرَ غَيْرِهِ ؛ لَا زِيَارَةً شَرْعِيَّةً وَلَا بِدْعِيَّةً ؛ بَلْ إنَّمَا يَصِلُ جَمِيعُ الْخَلْقِ
إلَى مَسْجِدِهِ وَفِيهِ يَفْعَلُونَ مَا يُشْرَعُ لَهُمْ أَوْ مَا يُكْرَهُ لَهُمْ . وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ - لَمَّا شُرِعَ - سَفَرُ طَاعَةٍ وَقُرْبَةٍ بِالْإِجْمَاعِ ؛ وَهُوَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ . وَالْمُجِيبُ قَدْ ذَكَرَ اسْتِحْبَابَ هَذَا السَّفَرِ وَأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْجَوَابِ وَبَيَّنَ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَزِيَارَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَّنَ مَا لَمْ يُشْرَعْ مِنْ السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ غَيْرِهِ مِمَّا فِي قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ فَإِنَّ السَّفَرَ إلَى هُنَاكَ لَيْسَ هُوَ سَفَرٌ إلَى مَسْجِدٍ شُرِعَ السَّفَرُ إلَيْهِ بَلْ الْمَسَاجِدُ الَّتِي هُنَاكَ إنْ كَانَتْ مِمَّا يُشْرَعُ بِنَاؤُهُ وَالصَّلَاةُ فِيهِ - كَجَوَامِعِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي فِي الْأَمْصَارِ - فَهَذِهِ لَيْسَ السَّفَرُ إلَيْهَا قُرْبَةً وَلَا طَاعَةً ؛ لَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا عَامَّةِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالسَّفَرُ إلَيْهَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . فَإِنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفْرَغٌ . وَالتَّقْدِيرُ فِيهِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يُقَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ } إلَى مَسْجِدٍ { إلَّا الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ } فَيَكُونُ نَهْيًا عَنْهَا بِاللَّفْظِ وَنَهْيًا عَنْ سَائِرِ الْبِقَاعِ الَّتِي يُعْتَقَدُ فَضِيلَتُهَا بِالتَّنْبِيهِ وَالْفَحْوَى وَطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ وَالْعِبَادَةَ فِيهَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْعِبَادَةِ فِي تِلْكَ الْبِقَاعِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ إلَى الْبِقَاعِ الْفَاضِلَةِ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ فَالسَّفَرُ إلَى المفضولة
أَوْلَى وَأَحْرَى . وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ : لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَّا إلَى الثَّلَاثَةِ . إنْ جَعَلَ مَعْنَاهُ لَا يَجِبُ إلَّا إلَى الثَّلَاثَةِ وَأَرَادَ بِهِ الْوُجُوبَ بِالنَّذْرِ - كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ - فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : مَا سِوَى الثَّلَاثَةِ لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ وَلَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ . وَمَنْ حَمَلَ مَعْنَى الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِحْبَابِ أَوْ نَفْيِ الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ فَقَوْلُهُمَا وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى فَإِذَا لَمْ يَجِبْ بِالنَّذْرِ إلَّا هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فَقَدْ وَجَبَ بِالنَّذْرِ السَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ وَلَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ . فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوبَهُ لِكَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا بِالشَّرْعِ . فَإِذَا لَمْ يَجِبْ إلَّا هَذَانِ مِمَّا لَيْسَ وَاجِبًا بِالشَّرْعِ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا إلَّا هَذَانِ . وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : التَّقْدِيرُ لَا تُسَافِرُوا إلَى بُقْعَةٍ وَمَكَانٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ . أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى لَا يُسْتَحَبُّ إلَى مَكَانٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ مَعْنَى كُلِّ مَنْ قَالَ : لَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ إلَى غَيْرِ الثَّلَاثَةِ . أَيْ لَا تُسَافِرُوا لِقَصْدِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالْبُقْعَةِ بِعَيْنِهِ ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَقْصُودُ وَالْعِبَادَةُ فِي نَفْسِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ كَالسَّفَرِ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ؛ بِخِلَافِ السَّفَرِ إلَى الثُّغُورِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ السَّفَرُ إلَى مَكَانِ الرِّبَاطِ . و " الثَّغْرُ " قَدْ يَكُونُ مَكَانًا ثُمَّ يَفْتَحُ الْمُسْلِمُونَ مَا جَاوَرَهُمْ فَيَنْتَقِلُ
الثَّغْرُ إلَى حَدِّ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ الْمَكَانُ تَارَةً ثَغْرًا وَتَارَةً لَيْسَ بِثَغْرِ ؛ كَمَا يَكُونُ تَارَةً دَارَ إسْلَامٍ وَبِرٍّ وَتَارَةً دَارَ كُفْرٍ وَفِسْقٍ ؛ كَمَا كَانَتْ مَكَّةُ دَارَ كُفْرٍ وَحَرْبٍ وَكَانَتْ الْمَدِينَةُ دَارَ إيمَانٍ وَهِجْرَةٍ وَمَكَانًا لِلرِّبَاطِ فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ وَلَمْ تَبْقَ الْمَدِينَةُ دَارَ هِجْرَةٍ وَرِبَاطٍ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ؛ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا } وَصَارَتْ الثُّغُورُ أَطْرَافُ أَرْضِ الْحِجَازِ الْمُجَاوِرَةِ لِأَرْضِ الْحَرْبِ : أَرْضَ الشَّامِ وَأَرْضَ الْعِرَاقِ . ثُمَّ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الشَّامَ وَالْعِرَاقَ صَارَتْ الثُّغُورُ بِالشَّامِ سَوَاحِلَ الْبَحْرِ ؛ كَعَسْقَلَانَ وَعَكَّةَ وَمَا جَاوَرَ ذَلِكَ . وَبِالْعِرَاقِ عبادان وَنَحْوُهَا ؛ وَلِهَذَا يَكْثُرُ ذِكْرُ " عَسْقَلَانَ " و " عبادان " فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ ؛ لِكَوْنِهِمَا كَانَا ثَغْرَيْنِ وَكَانَتْ أَيْضًا " طرطوش " ثَغْرًا لَمَّا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَمَّا أَخَذَهَا الْكُفَّارُ صَارَ الثَّغْرُ مَا يُجَاوِرُ أَرْضَ الْعَدُوِّ مِنْ الْبِلَادِ الْحَلَبِيَّةِ . فَالْمُسَافِرُ إلَى الثُّغُورِ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَوْ التِّجَارَةِ أَوْ زِيَارَةِ قَرِيبِهِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ مَكَانًا مُعَيَّنًا إلَّا بِالْعَرْضِ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَقْصُودَهُ فِيهِ وَلَوْ كَانَ مَقْصُودُهُ فِي غَيْرِهِ لَذَهَبَ إلَيْهِ . فَالسَّفَرُ إلَى مِثْلِ هَذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهِ مَنْ يُسَافِرُ لِمَكَانِ مُعَيَّنٍ لِفَضِيلَةِ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ كَاَلَّذِي يُسَافِرُ إلَى الْمَسَاجِدِ وَآثَارِ الْأَنْبِيَاءِ : كَالطُّورِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
مُوسَى وَغَارِ حِرَاءَ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ الْوَحْيُ ابْتِدَاءً عَلَى الرَّسُولِ وَغَارِ ثَوْرٍ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ : { إذْ هُمَا فِي الْغَارِ } وَمَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْمَغَارَاتِ وَالْجِبَالِ : كَالسَّفَرِ إلَى جَبَلِ لُبْنَانَ وَمَغَارَةِ الدَّمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُسَافِرُ إلَى مَا يَعْتَقِدُ فَضْلَهُ مِنْ الْجِبَالِ وَالْغِيرَانِ . فَإِذَا كَانَ الطُّورُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى وَسَمَّاهُ الْبُقْعَةَ الْمُبَارَكَةَ وَالْوَادِيَ الْمُقَدَّسَ لَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ فَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْجِبَالِ أَوْلَى أَنْ لَا يُسَافَرَ إلَيْهِ . وَقَوْلِي بِالْإِجْمَاعِ . أَعْنِي بِهِ إجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي بَصْرَةَ وَغَيْرِهِمْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } أَنَّ الطُّورَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى وَسَمَّاهُ بالواد الْمُقَدَّسِ وَالْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ دَاخِلٌ فِي النَّهْيِ وَنَهَوْا النَّاسَ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهِ وَلَمْ يَخُصُّوا النَّهْيَ بِالْمَسَاجِدِ . وَلِهَذَا لَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ ذَلِكَ بِالنَّذْرِ وَمَا عَلِمْت فِي هَذَا نِزَاعًا قَدِيمًا وَلَا رَأَيْت أَحَدًا صَرَّحَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ؛ إلَّا ابْنَ حَزْمٍ الظَّاهِرِيَّ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ إذَا نَذَرَهُ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَإِذَا نَذَرَ السَّفَرَ إلَى أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْجَبَ الْوَفَاءَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِفَحْوَى الْخِطَابِ وَتَنْبِيهِهِ وَهَذَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ دَاوُد فَلَا يَجْعَلُ قَوْلَهُ : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } دَلِيلًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ السَّبِّ وَالشَّتْمِ
وَالضَّرْبِ وَلَا نَهْيَهُ عَنْ أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يُغْتَسَلَ فِيهِ نَهْيًا عَنْ صَبِّ الْبَوْلِ ثُمَّ الِاغْتِسَالُ فِيهِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ نَقْصِ الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَأَنَّهُ مِنْ " بَابِ السَّفْسَطَةِ " فِي جَحْدِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَإِذَا كَانَ غَارُ حِرَاءَ الَّذِي كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَصْعَدُونَ إلَيْهِ لِلتَّعَبُّدِ فِيهِ وَيُقَالُ : إنَّ عَبْدَ الْمُطَلِّبِ سَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ يَتَحَنَّثُ فِيهِ وَفِيهِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ أَوَّلًا ؛ لَكِنْ مِنْ حِينِ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ مَا صَعِدَ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا قَرِبَهُ ؛ لَا هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ وَقَدْ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَزُرْهُ وَلَمْ يَصْعَدْ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ مَعَهُ بِمَكَّةَ . وَبَعْدَ الْهِجْرَةِ أَتَى مَكَّةَ مِرَارًا فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَعَامِ الْفَتْحِ وَأَقَامَ بِهَا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا وَفِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ وَلَمْ يَأْتِ غَارَ حِرَاءَ وَلَا زَارَهُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا الْغَارُ لَا يُسَافَرُ إلَيْهِ وَلَا يُزَارُ فَغَيْرُهُ مِنْ الْمَغَارَاتِ كَمَغَارَةِ الدَّمِ وَنَحْوِهَا أَوْلَى أَنْ لَا تُزَارَ . فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ بَعْدَ مَبْعَثِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ مَشْرُوعَةٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ جُعِلَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مَسْجِدًا وَطَهُورًا " .
وَالْأَمَاكِنُ الْمُفَضَّلَةُ هِيَ الْمَسَاجِدُ وَهِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ ؛ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِيهَا الِاعْتِكَافُ
فَلَا يَكُونُ الِاعْتِكَافُ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } لَا يَكُونُ الِاعْتِكَافُ لَا بِخَلْوَةِ وَلَا غَيْرِ خَلْوَةٍ ؛ لَا فِي غَارٍ وَلَا عِنْدَ قَبْرٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُ الضَّالُّونَ السَّفَرَ إلَيْهِ وَالْعُكُوفَ عِنْدَهُ كَعُكُوفِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَوْثَانِهِمْ . قَالَ الْخَلِيلُ : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } { إنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَقَدْ صَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ إيليا فَاعْتَكَفَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَاعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَجْزَأَ عَنْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ عَلَى رُؤُوسِ الْجِبَالِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ لِيَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ . وَهَذَا الَّذِي نَهَى عَنْهُ سَعِيدٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُسَمِّي ذَلِكَ اعْتِكَافًا فَمَنْ فَعَلَ مَا يَفْعَلُ الْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِالِاتِّفَاقِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ مِنْ قَبْرِ وَأَثَرِ
نَبِيٍّ وَمَسْجِدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ : لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِ نَبِيِّنَا مُسْتَحَبٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَهُوَ مُرَادُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ قَالُوا : تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِهِ بِالْإِجْمَاعِ . فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ . وَلِلَّهِ الْحَمْدُ . وَالْمُجِيبُ قَدْ ذَكَرَ اسْتِحْبَابَ هَذَا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَكَلَامُ الْمُجِيبِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَنَّهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْ تَقْرِيرِ الْحَرَامِ أَوْ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ مُنَزَّهُونَ أَنْ يُجْمَعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ أَوْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ العماية وَالْجَهَالَةِ . وَهَذَا الْمُعْتَرِضُ وَأَشْبَاهُهُ مِنْ الْجُهَّالِ سَوَّوْا بَيْنَ هَذَا السَّفَرِ الَّذِي ثَبَتَ اسْتِحْبَابُهُ بِنَصِّ الرَّسُولِ وَإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ وَبَيْنَ السَّفَرِ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا بِنَصِّ الرَّسُولِ وَإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ . وَقَاسَوْا هَذَا بِهَذَا وَالْمُجِيبُ إنَّمَا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي النَّوْعِ الثَّانِي : فِي الَّذِي لَا يُسَافِرُ إلَّا لِقَصْدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَذَكَرَ أَنَّ الَّذِي يُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ وَزِيَارَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَحَكَوْا عَنْ الْمُجِيبِ أَنَّهُ يَنْهَى عَنْ زِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَالسَّفَرِ إلَيْهِ وَيُحَرِّمُ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِحَيْثُ جَعَلُوهُ يَنْهَى عَمَّا يَفْعَلُهُ الْحُجَّاجُ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَأَنَّ مَنْ سَافَرَ إلَى هُنَاكَ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . وَهَذَا كُلُّهُ افْتِرَاءٌ وَبُهْتَانٌ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَى السَّفَر إلَى سَائِرِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ إلَّا السَّفَرَ إلَى نَبِيِّنَا . فَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ قَاسُوا عَلَيْهِ السَّفَرَ إلَى سَائِرِ الْقُبُورِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَخَالَفُوا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَإِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ . وَضَلُّوا مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . مِنْهَا : أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ قَبْرُ نَبِيٍّ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ وَالْإِجْمَاعِ إلَّا قَبْرُ نَبِيِّنَا وَمَا سِوَاهُ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَمِنْهَا : أَنَّ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيِّنَا مُرَادُهُمْ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ قَصَدَ الْمُسَافِرُ إلَيْهِ فَهُوَ إنَّمَا يَصِلُ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ مُنْتَهَى سَفَرِهِ ؛ لَا يَصِلُ إلَى الْقَبْرِ ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَصِلُ إلَى الْقَبْرِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَوَغِّلًا فِي الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ فَيَظُنُّ أَنَّ مَسْجِدَهُ إنَّمَا شُرِعَ السَّفَرُ إلَيْهِ لِأَجْلِ الْقَبْرِ وَأَنَّهُ لِذَلِكَ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَأَنَّهُ لَوْلَا الْقَبْرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ أَوْ جُعِلَ تَبَعًا لِلْقَبْرِ كَمَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيَظُنُّ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ تَبَعٌ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْقَبْرُ كَمَا يَظُنُّ الْمُسَافِرُونَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ غَيْرَ قَبْرِ نَبِيِّنَا وَكَمَا أَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ إلَى الْجُمْعَةِ يُصَلِّي إذَا دَخَلَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ ؛ وَلَكِنْ هُوَ إنَّمَا جَاءَ لِأَجْلِ الْجُمْعَةِ لَا لِأَجْلِ رَكْعَتَيْ التَّحِيَّةِ . فَمَنْ ظَنَّ هَذَا فِي مَسْجِدِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ بِدِينِ
الْإِسْلَامِ وَأَجْهَلِهِمْ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ وَأَصْحَابِهِ وَسِيرَتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ . وَهَذَا مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا جَهِلَهُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا يَأْخُذُ بَعْضَ الْإِسْلَامِ وَيَتْرُكُ بَعْضَهُ ؛ فَإِنَّ مَسْجِدَهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ الْهِجْرَةِ وَهُوَ أَفْضَلُ مَسْجِدٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ . وَقِيلَ : هُوَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا . فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ مَسَاجِدَ الْمُسْلِمِينَ - مَسَاجِدُ الْجَوَامِعِ الَّتِي يُصَلَّى فِيهَا الْجُمْعَةُ وَغَيْرُهَا - فَضِيلَتُهَا وَاسْتِحْبَابُ قَصْدِهَا لِلصَّلَاةِ فِيهَا لِأَجْلِ قَبْرٍ عِنْدَهَا . فَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ فَكَيْفَ يُقَالُ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا كُلِّهَا وَأَفْضَلُ . و " الْمَسْجِدُ " الْحَرَامُ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ . فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ : إنَّ فَضِيلَتَهُ لِقَبْرِ هُنَاكَ . و " الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى " أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَبِبَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ فَضِيلَتَهُ لِأَجْلِ الْقُبُورِ نَعَمْ هَذَا اعْتِقَادُ النَّصَارَى : يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فَضِيلَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِأَجْلِ " الْكَنِيسَةِ " الَّتِي يُقَالُ إنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى قَبْرِ الْمَصْلُوبِ وَيُفَضِّلُونَهَا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ وَأَجْهَلِهِمْ
وَهَذَا يُضَاهِي مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمَّا كَانَتْ فِيهِ الْأَوْثَانُ وَكَانُوا يَقْصِدُونَهُ لِأَجْلِ تِلْكَ الْأَوْثَانِ الَّتِي فِيهِ لَمْ يَكُونُوا يُصَلُّونَ فِيهِ ؛ بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } لَكِنْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ نَفْسَ الْبَيْتِ وَيَطُوفُونَ بِهِ كَمَا كَانُوا يَحُجُّونَ كُلَّ عَامٍ مَعَ مَا كَانُوا غَيَّرُوهُ مِنْ شَرِيعَةِ إبْرَاهِيمَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ فَأَظْهَرَهَا وَدَعَا إلَيْهَا وَأَقَامَ الْحَجَّ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَنَفَى الشِّرْكَ عَنْ الْبَيْتِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } . فَبَيَّنَ أَنَّ عُمَّارَ الْمَسَاجِدِ هُمْ الَّذِينَ لَا يَخْشَوْنَ إلَّا اللَّهَ وَمَنْ لَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَلَا يَرْجُو وَيَتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ فَإِنَّ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ مُتَلَازِمَانِ . وَاَلَّذِينَ يَحُجُّونَ إلَى الْقُبُورِ يَدْعُونَ أَهْلَهَا وَيَتَضَرَّعُونَ لَهُمْ وَيَعْبُدُونَهُمْ وَيَخْشَوْنَ غَيْرَ اللَّهِ وَيَرْجُونَ غَيْرَ اللَّهِ كَالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ آلِهَتَهُمْ وَيَرْجُونَهَا ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِهُودِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنْ نَقُولُ إلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ } { مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } { إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَلَمَّا حَاجُّوا إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ : { أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَلَمَّا خَوَّفُوا مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَنْ دُونَ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ } { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ } { إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } .
فَصْلٌ :
و " الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى " صَلَّتْ فِيهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ عَهْدِ الْخَلِيلِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلًا ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى قُلْت : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ سَنَةً ثُمَّ حَيْثُ مَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ وَصَلَّى فِيهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ وَسُلَيْمَانُ بَنَاهُ هَذَا الْبِنَاءَ وَسَأَلَ رَبَّهُ ثَلَاثًا : سَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ بَعْدِهِ وَسَأَلَهُ حُكْمًا يُوَافِقُ حُكْمَهُ وَسَأَلَهُ أَنَّهُ لَا يَؤُمُّ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إلَّا غَفَرَ لَهُ } . وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْتِي مِنْ الْحِجَازِ فَيَدْخُلُ فَيُصَلِّي فِيهِ ثُمَّ يَخْرُجُ وَلَا يَشْرَبُ فِيهِ مَاءً لِتُصِيبَهُ دَعْوَةُ سُلَيْمَانَ . وَكَانَ الصَّحَابَةُ ثُمَّ التَّابِعُونَ يَأْتُونَ وَلَا يَقْصِدُونَ شَيْئًا مِمَّا حَوْلَهُ مِنْ الْبِقَاعِ وَلَا يُسَافِرُونَ إلَى قَرْيَةِ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرِهَا . وَكَذَلِكَ " مَسْجِدُ نَبِيِّنَا " بَنَاهُ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَمَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ
وَالْأَنْصَارُ وَهُوَ أَوَّلُ مَسْجِدٍ أُذِّنَ فِيهِ فِي الْإِسْلَامِ وَفِيهِ كَانَ الرَّسُولُ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَفِيهِ كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ مِنْ الْمَغَازِي وَغَيْرِ الْمَغَازِي . وَفِيهِ سُنَّتْ السُّنَّةُ وَالْإِسْلَامُ مِنْهُ خَرَجَ وَكَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلِفِ وَالسَّفَرُ إلَيْهِ مَشْرُوعًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ قَبْرٌ ؛ لَا قَبْرُهُ وَلَا قَبْرُ غَيْرِهِ ثُمَّ لَمَّا دُفِنَ الرَّسُولُ دُفِنَ فِي حُجْرَتِهِ وَبَيْتِهِ لَمْ يُدْفَنْ فِي الْمَسْجِدِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْتِ وَالْمَسْجِدِ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ ؛ فَإِنَّ الْمَسْجِدَ يُعْتَكَفُ فِيهِ وَالْبَيْتَ لَا يُعْتَكَفُ فِيهِ وَكَانَ إذَا اعْتَكَفَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَالْمَسْجِدُ لَا يَمْكُثُ فِيهِ جُنُبٌ وَلَا حَائِضٌ وَبَيْتُهُ كَانَتْ عَائِشَةُ تَمْكُثُ فِيهِ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَذَلِكَ كُلُّ بَيْتٍ مَرْسُومٍ تَمْكُثُ فِيهِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ حَائِضٌ وَكَانَتْ تُصِيبُهُ فِيهِ الْجَنَابَةُ فَيَمْكُثُ فِيهِ جُنُبًا حَتَّى يَغْتَسِلَ وَفِيهِ ثِيَابُهُ وَطَعَامُهُ وَسَكَنُهُ وَرَاحَتُهُ ؛ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْبُيُوتَ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ " بُيُوتَ النَّبِيِّ " فِي كِتَابِهِ وَأَضَافَهَا تَارَةً إلَى الرَّسُولِ وَتَارَةً إلَى أَزْوَاجِهِ ؛ وَلَيْسَ لِتِلْكَ الْبُيُوتِ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ وَفَضِيلَتُهُ وَفَضِيلَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ وَلَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَيْهَا وَلَا الصَّلَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِأَلْفِ صَلَاةٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَالِ
حَيَاتِهِ كَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ . أَفْضَلَ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ عِبَادَةِ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَهُمْ لَمَّا مَاتُوا لَمْ تَكُنْ قُبُورُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ بُيُوتِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَسْكُنُونَهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَلَا أَبْدَانُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَكْثَرَ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً مِمَّا كَانَتْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا . تَكْفِتُ النَّاسَ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا وَأَمْوَاتًا فِي بَطْنِهَا وَلَيْسَ كَفْتُهُمْ أَمْوَاتًا بِأَفْضَلَ مِنْ كَفْتِهِمْ أَحْيَاءً ؛ وَلِهَذَا تُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَأُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . فَيُدْعَى لَهُمْ وَيُسْتَغْفَرُ لَهُمْ وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ تُقْصَدَ قُبُورُهُمْ لِمَا تُقْصَدُ لَهُ الْمَسَاجِدُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ } فَلَيْسَ فِي الْبِقَاعِ أَفْضَلُ مِنْهَا وَلَيْسَتْ مَسَاكِنُ الْأَنْبِيَاءِ لَا أَحْيَاءً وَلَا أَمْوَاتًا بِأَفْضَلَ مِنْ الْمَسَاجِدِ . هَذَا هُوَ الثَّابِتُ بِنَصِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَفْضَلُ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَأَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَهَا أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ . فَقَوْلٌ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعْلَمُ إجْمَاعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى بُطْلَانِهِ إجْمَاعًا ضَرُورِيًّا كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ مِنْهُ عِنْدَ الْقُبُورِ . وَالْمَقْصُودُ
بِالِاعْتِكَافِ : الْعِبَادَةُ وَالصَّلَاةُ وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَفْضِيلِ قَبْرٍ مِنْ الْقُبُورِ عَلَى الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا . فَقَوْلٌ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَلَكِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فَأَخَذَهُ عَنْهُ آخَرُ وَظَنَّهُ إجْمَاعًا ؛ لِكَوْنِ أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْفُسِهَا أَفْضَلَ مِنْ الْمَسَاجِدِ . فَقَوْلُهُمْ يَعُمُّ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ فَأَبْدَانُهُمْ أَفْضَلُ مَنْ كُلِّ تُرَابٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا يَلْزَمُ مَنْ كَوْنِ أَبْدَانِهِمْ أَفْضَلَ أَنْ تَكُونَ مَسَاكِنُهُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا أَفْضَلَ ؛ بَلْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِهِمْ أَنَّ مَسَاجِدَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ . وَقَدْ يَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ بِمَا رُوِيَ مِنْ : { أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُذَرُّ عَلَيْهِ مِنْ تُرَابِ حُفْرَتِهِ } فَيَكُونُ قَدْ خُلِقَ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ . وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا لَا يَثْبُتُ وَمَا رُوِيَ فِيهِ كُلُّهُ ضَعِيفٌ وَالْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَمْ يُذَرَّ عَلَيْهِ تُرَابٌ وَلَكِنَّ آدَمَ نَفْسَهُ هُوَ الَّذِي خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ خُلِقَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ التُّرَابَ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ لِشَخْصِ وَبَعْضُهُ لِشَخْصِ آخَرَ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحَالَ وَصَارَ بَدَنًا حَيًّا لَمَا نُفِخَ فِي آدَمَ الرُّوحُ فَلَمْ يَبْقَ تُرَابًا . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : التَّنْبِيهُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الإجماعات الَّتِي يَذْكُرُهَا بَعْضُ النَّاسِ وَيَبْنُونَ عَلَيْهَا مَا يُخَالِفُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ : الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْمَيِّتَ خُلِقَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ مَنِيِّ أَبَوَيْهِ أَقْرَبُ مَنْ خَلْقِهِ مِنْ التُّرَابِ وَمَعَ هَذَا فَاَللَّهُ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ : يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنْ الْمُؤْمِنِ فَيَخْلُقُ مِنْ الشَّخْصِ الْكَافِرِ مُؤْمِنًا نَبِيًّا وَغَيْرَ نَبِيٍّ كَمَا خَلَقَ الْخَلِيلَ مِنْ آزَرَ وَإِبْرَاهِيمُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ هُوَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآزَرُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَلْقَى إبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ إبْرَاهِيمُ : أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَعْصِنِي فَيَقُولُ لَهُ : فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيك . فَيَقُولُ إبْرَاهِيمُ : يَا رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي وَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَدِ فَيُقَالُ لَهُ : الْتَفِتْ فَيَلْتَفِتُ فَإِذَا هُوَ بِذِيخِ عَظِيمٍ وَالذِّيخُ ذَكَرُ الضِّبَاعِ فَيُمْسَخُ آزَرُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ وَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ } . وَكَمَا خُلِقَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبَوَيْهِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِأُمِّهِ وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ : أَيْنَ أَبِي ؟ قَالَ : إنَّ أَبَاك فِي النَّارِ فَلَمَّا أَدْبَرَ دَعَاهُ فَقَالَ : إنَّ أَبِي وَأَبَاك فِي النَّارِ } وَقَدْ أَخْرَجَ مِنْ نُوحٍ وَهُوَ
رَسُولٌ كَرِيمٌ ابْنَهُ الْكَافِرَ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَأَغْرَقَهُ وَنَهَى نُوحًا عَنْ الشَّفَاعَةِ فِيهِ . وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مَخْلُوقُونَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ الْكُفَّارِ . فَإِذَا كَانَتْ الْمَادَّةُ الْقَرِيبَةُ الَّتِي يُخْلَقُ مِنْهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ لَا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِأَبْدَانِهِمْ فِي الْفَضِيلَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ فَأَخْرَجَ الْبَدَنَ الْمُؤْمِنَ مِنْ مَنِيِّ كَافِرٍ فَالْمَادَّةُ الْبَعِيدَةُ وَهِيَ التُّرَابُ أَوْلَى أَنْ لَا تُسَاوِيَ أَبْدَانَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهَذِهِ الْأَبْدَانُ عَبَدَتْ اللَّهَ وَجَاهَدَتْ فِيهِ وَمُسْتَقَرُّهَا الْجَنَّةُ . وَأَمَّا الْمَوَادُّ الَّتِي خُلِقَتْ مِنْهَا هَذِهِ الْأَبْدَانُ فَمَا اسْتَحَالَ مِنْهَا وَصَارَ هُوَ الْبَدَنَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَدَنِ وَأَمَّا مَا فَضَلَ مِنْهَا فَذَاكَ بِمَنْزِلَةِ أَمْثَالِهِ . وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ مَا اسْتَحَالَ مِنْ الْمَوَادِّ فَصَارَ بَدَنًا وَبَيْنَ مَا لَمْ يَسْتَحِلْ ؛ بَلْ بَقِيَ تُرَابًا أَوْ مَيِّتًا . فَتُرَابُ الْقُبُورِ إذَا قُدِّرَ أَنَّ الْمَيِّتَ خُلِقَ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ فَاسْتَحَالَ مِنْهُ وَصَارَ بَدَنَ الْمَيِّتِ : فَهُوَ بَدَنُهُ وَفَضْلُهُ مَعْلُومٌ . وَأَمَّا مَا بَقِيَ فِي الْقَبْرِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ بَلْ تُرَابٌ كَانَ يُلَاقِي جِبَاهَهُمْ عِنْدَ السُّجُودِ - وَهُوَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ الْمَعْبُودِ - أَفْضَلُ مِنْ تُرَابِ الْقُبُورِ وَاللُّحُودِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مَسْجِدَ الرَّسُولِ وَغَيْرَهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ فَضِيلَتُهَا بِكَوْنِهَا بُيُوتَ اللَّهِ الَّتِي بُنِيَتْ لِعِبَادَتِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } - إلَى قَوْلِهِ - { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
وَالْمَسَاجِدُ الثَّلَاثَةُ لَهَا فَضْلٌ عَلَى مَا سِوَاهَا فَإِنَّهَا بَنَاهَا أَنْبِيَاءُ وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ إلَيْهَا . فَالْخَلِيلُ دَعَا إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسُلَيْمَانُ دَعَا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَبِيُّنَا دَعَا إلَى الثَّلَاثَةِ : إلَى مَسْجِدِهِ . وَالْمَسْجِدَيْنِ وَلَكِنْ جَعَلَ السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَرْضًا وَالْآخَرَيْنِ تَطَوُّعًا . وَإِبْرَاهِيمُ وَسُلَيْمَانُ لَمْ يُوجِبَا شَيْئًا وَلَا أَوْجَبَ الْخَلِيلُ الْحَجَّ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ بَنُو إسْرَائِيلَ يَحُجُّونَ وَلَكِنْ حَجَّ مُوسَى وَيُونُسُ وَغَيْرُهُمَا : وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ
الْحَجُّ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَإِنَّمَا وَجَبَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } هَذَا هُوَ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ : أَنَّهُ يُفِيدُ إيجَابَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَقِيلَ : إنَّهُ يُفِيدُ إيجَابَهُمَا ابْتِدَاءً وَإِتْمَامَهُمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ . وَقِيلَ : إنَّمَا يُفِيدُ وُجُوبَ إتْمَامِهِمَا بَعْدَ الشُّرُوعِ لَا إيجَابَهُمَا ابْتِدَاءً . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِإِجْمَاعِ النَّاسِ بَعْدَ شُرُوعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ - عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ - لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ وَأُبِيحُ فِيهَا التَّحَلُّلُ لِلْمُحْصَرِ فَحَلَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ لَمَّا صَدَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ وَرَجَعُوا . وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ يَجِبُ عَلَى الشَّارِعِ فِيهِمَا إتْمَامُهُمَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَتَنَازَعُوا فِي الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالِاعْتِكَافِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِتْمَامُ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَسْجِدَ الرَّسُولِ . فَضِيلَةُ السَّفَرِ إلَيْهِ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ فِيهِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ ؛ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَبْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا مِنْ الْفُرُوقِ بَيْنَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهِ وَبَيْنَ قَبْرِهِ وَغَيْرِهِ . فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ مِنْ وُجُوهٍ .
وَهَذَا الْمُعْتَرِضُ وَأَمْثَالُهُ جَعَلُوا السَّفَرَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ نَوْعًا . ثُمَّ لَمَّا رَأَوْا مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيِّنَا ظَنُّوا أَنَّ سَائِرَ الْقُبُورِ يُسَافَرُ إلَيْهَا كَمَا يُسَافَرُ إلَيْهِ . فَضَلُّوا مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ السَّفَرَ إلَيْهِ إنَّمَا هُوَ سَفَرٌ إلَى مَسْجِدِهِ وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا السَّفَرَ هُوَ لِلْمَسْجِدِ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ وَبَعْدَ دَفْنِهِ وَقَبْلَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ وَبَعْدَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ فِيهِ . فَهُوَ سَفَرٌ إلَى الْمَسَاجِدِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَبْرُ هُنَاكَ أَوْ لَمْ يَكُنْ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَبَّهَ بِهِ السَّفَرُ إلَى قَبْرٍ مُجَرَّدٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يُسَمِّيَ هَذَا زِيَارَةً لِقَبْرِهِ .
وَاَلَّذِينَ لَمْ يَكْرَهُوهُ يُسَلِّمُونَ لِأُولَئِكَ الْحُكْمَ ؛ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الِاسْمِ . وَأَمَّا غَيْرُهُ فَهُوَ زِيَارَةٌ لِقَبْرِهِ بِلَا نِزَاعٍ . فَلِلْمَانِعِ أَنْ يَقُولَ : لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسَافَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِهِ أَصْلًا وَكُلُّ مَا سُمِّيَ زِيَارَةَ قَبْرٍ فَإِنَّهُ لَا يُسَافَرُ إلَيْهِ وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِ نَبِيِّنَا لَيْسَ سَفَرًا إلَى زِيَارَةِ قَبْرِهِ بَلْ هُوَ سَفَرٌ لِعِبَادَةِ فِي مَسْجِدِهِ . الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا السَّفَرَ مُسْتَحَبٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالسَّفَرَ إلَى قُبُورِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا لَا بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ ؛ بَلْ
هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ . الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَسْجِدَ الَّذِي عِنْدَ قَبْرِهِ مَسْجِدُهُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَهُوَ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَالْمَسَاجِدُ الَّتِي عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ نُهِيَ عَنْ اتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ وَالصَّلَاةُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ . فَكَيْفَ عَنْ السَّفَرِ إلَيْهَا . السَّادِسُ : أَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ - الَّذِي يُسَمَّى السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ - هُوَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى سَائِرِ الْقُبُورِ فَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بَلْ وَلَا عَنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ . فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِهَذَا ؟ وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَهْدِهِ وَإِلَى هَذَا الْوَقْتِ يُسَافِرُونَ إلَى مَسْجِدِهِ ؛ إمَّا مَعَ الْحَجِّ وَإِمَّا بِدُونِ الْحَجِّ . فَعَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُونُوا يَأْتُونَهُ مَعَ الْحَجِّ - كَمَا يُسَافِرُونَ إلَى مَكَّةَ - فَإِنَّ الطُّرُقَاتِ كَانَتْ آمِنَةً وَكَانَ إنْشَاءُ السَّفَرِ إلَيْهِ أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِسَفَرِ الْحَجِّ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ يُفْرِدُوا لِلْعُمْرَةِ سَفَرًا وَلِلْحَجِّ سَفَرًا وَهَذَا أَفْضَلُ - بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ - مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ ؛ فَإِنَّ الَّذِينَ فَضَّلُوا التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ كَمَا فَضَّلَ أَحْمَد التَّمَتُّعَ لِمَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَالْقِرَانَ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ - فِي الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَصَرَّحَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا -
هُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ : إنَّ إفْرَادَ الْعُمْرَةِ بِسَفَرِ وَالْحَجِّ بِسَفَرِ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - فِيمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ - أَنَّ عُمْرَةً كُوفِيَّةً أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَا زَالُوا يُسَافِرُونَ إلَى مَسْجِدِهِ وَلَا يُسَافِرُونَ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ : كَقَبْرِ مُوسَى وَقَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَة أَنَّهُ سَافَرَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ مَعَ كَثْرَةِ مَجِيئِهِمْ إلَى الشَّامِ وَالْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ . فَكَيْفَ يُجْعَلُ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِ الرَّسُولِ الَّذِي يُسَمِّيهِ بَعْضُ النَّاسِ زِيَارَةً لِقَبْرِهِ مِثْلَ السَّفَرِ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِعُ : أَنَّ السَّفَرَ الْمَشْرُوعَ إلَى مَسْجِدِهِ يَتَضَمَّنُ أَنْ يُفْعَلَ فِي مَسْجِدِهِ مَا كَانَ يُفْعَلُ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ : مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَالثَّنَاءِ وَالدُّعَاءِ كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَسَائِرِ الْبِقَاعِ . وَإِنْ كَانَ مَسْجِدُهُ أَفْضَلَ . فَالْمَشْرُوعُ فِيهِ عِبَادَةٌ لِلَّهِ مَأْمُورٌ بِهَا وَأَمَّا الَّذِي يَفْعَلُهُ مَنْ سَافَرَ إلَى قَبْرِ غَيْرِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ نَوْعِ الشِّرْكِ كَدُعَائِهِمْ وَطَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْهُمْ وَاِتِّخَاذِ قُبُورِهِمْ مَسَاجِدَ وَأَعْيَادًا وَأَوْثَانًا . وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ عِنْدَ قَبْرِهِ مِثْلَ هَذَا .
قُلْت لَك : أَمَّا عِنْدُ الْقَبْرِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَجَابَ دَعْوَتَهُ حَيْثُ قَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ . } . وَأَمَّا فِي مَسْجِدِهِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ الْجُهَّالِ وَأَمَّا مَنْ يَعْلَمُ شَرْعَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُ مَا شُرِعَ وَهَؤُلَاءِ يَنْهَوْنَ أُولَئِكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَلَا يَجْتَمِعُ الزُّوَّارُ عَلَى الضَّلَالِ وَأَمَّا قَبْرُ غَيْرِهِ فَالْمُسَافِرُونَ إلَيْهِ كُلُّهُمْ جُهَّالٌ ضَالُّونَ مُشْرِكُونَ وَيَصِيرُونَ عِنْدَ نَفْسِ الْقَبْرِ ؛ وَلَا أَحَدَ هُنَاكَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنْ يُقَالَ قَبْرُهُ مَعْلُومٌ مُتَوَاتِرٌ ؛ بِخِلَافِ قَبْرِ غَيْرِهِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَفِظَ عَامَّةَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ بِبَرَكَةِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ النَّاسُ مَعَ ظُهُورِ دِينِهِ أَنْ يَتَّخِذُوا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ مَسَاجِدَ كَمَا أَظْهَرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِنُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ : مِنْ إعْلَانِ ذِكْرِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ وَالتَّصْدِيقِ لِأَقْوَالِهِمْ وَالِاتِّبَاعِ لِأَعْمَالِهِمْ : مَا لَمْ يَكُنْ هَذَا لِأُمَّةِ أُخْرَى . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ تَصْدِيقُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتُهُمْ فِيمَا أَمَرُوا وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيمَا فَعَلُوا وَحُبُّ مَا كَانُوا يُحِبُّونَهُ وَبُغْضُ مَا كَانُوا يُبْغِضُونَهُ وَمُوَالَاةُ مَنْ يُوَالُونَهُ وَمُعَادَاةُ مَنْ يُعَادُونَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَخْبَارِهِمْ . وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ . وَهَذَا أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي الْقُلُوبِ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسِنَةِ ؛ وَأَمَّا نَفْسُ الْقَبْرِ فَلَيْسَ
فِي رُؤْيَتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ بَلْ أَهْلُ الضَّلَالِ يَتَّخِذُونَهَا أَوْثَانًا كَمَا كَانَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَتَّخِذُونَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ . فَبِبَرَكَةِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ ذِكْرِهِمْ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِمْ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَنْتَفِعُ بِهِ الْعِبَادُ . وَأَبْطَلَ مَا يَضُرُّ الْخَلْقَ مِنْ الشِّرْكِ بِهِمْ وَاِتِّخَاذِ قُبُورِهِمْ مَسَاجِدَ كَمَا كَانُوا يَتَّخِذُونَهَا فِي زَمَنِ مَنْ قَبْلَنَا . وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ قَبْرُ نَبِيٍّ ظَاهِرٌ يُزَارُ ؛ لَا بِسَفَرِ وَلَا بِغَيْرِ سَفَرٍ . لَا قَبْرُ الْخَلِيلِ وَلَا غَيْرُهُ . وَلَمَّا ظَهَرَ بتستر " قَبْرُ دَانْيَالَ " وَكَانُوا يَسْتَسْقُونَ بِهِ كَتَبَ فِيهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ؛ فَكَتَبَ إلَيْهِ يَأْمُرُهُ أَنْ يَحْفِرَ بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا وَيَدْفِنُهُ بِاللَّيْلِ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَيُعْفِي الْقُبُورَ كُلَّهَا لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ . وَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَمِمَّنْ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بَكْرٍ فِي " زِيَادَاتِ مَغَازِي ابْنِ إسْحَقَ " عَنْ أَبِي خلدة خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ . حَدَّثَنَا أَبُو الْعَالِيَةِ قَالَ : لَمَّا فَتَحْنَا " تُسْتَرَ " وَجَدْنَا فِي بَيْتِ مَالِ الْهُرْمُزَانِ سَرِيرًا عَلَيْهِ رَجُلٌ مَيِّتٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مُصْحَفٌ لَهُ فَأَخَذْنَا الْمُصْحَفَ فَحَمَلْنَاهُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَدَعَا لَهُ كَعْبًا فَنَسَخَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَأَنَا أَوَّلُ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ قَرَأَهُ : قَرَأْته مِثْلَمَا أَقْرَأُ الْقُرْآنَ هَذَا . فَقُلْت : لِأَبِي الْعَالِيَةِ : مَا كَانَ فِيهِ ؟ قَالَ : سِيرَتُكُمْ وَأُمُورُكُمْ وَلُحُونُ كَلَامِكُمْ وَمَا هُوَ كَائِنٌ بَعْدُ
قُلْت : فَمَا صَنَعْتُمْ بِالرَّجُلِ ؟ قَالَ : حَفَرْنَا بِالنَّهَارِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَبْرًا مُتَفَرِّقَةً فَلَمَّا كَانَ بِاللَّيْلِ دَفَنَّاهُ وَسَوَّيْنَا الْقُبُورَ كُلَّهَا لِنُعَمِّيَهُ عَلَى النَّاسِ لَا يَنْبُشُونَهُ . قُلْت : وَمَا يَرْجُونَ فِيهِ ؟ قَالَ : كَانَتْ السَّمَاءُ إذَا حُبِسَتْ عَنْهُمْ بَرَزُوا بِسَرِيرِهِ فَيُمْطَرُونَ . فَقُلْت : مَنْ كُنْتُمْ تَظُنُّونَ الرَّجُلَ ؟ قَالَ : رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ " دَانْيَالُ " فَقُلْت : مُنْذُ كَمْ وَجَدْتُمُوهُ مَاتَ ؟ قَالَ : مُنْذُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ . قُلْت مَا كَانَ تَغَيَّرَ مِنْهُ شَيْءٌ ؟ قَالَ : لَا ؛ إلَّا شُعَيْرَاتٌ مِنْ قَفَاهُ ؛ إنَّ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ لَا تُبْلِيهَا الْأَرْضُ وَلَا تَأْكُلُهَا السِّبَاعُ . وَلَمْ تَدَعْ الصَّحَابَةُ فِي الْإِسْلَامِ قَبْرًا ظَاهِرًا مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ يَفْتَتِنُ بِهِ النَّاسُ ؛ وَلَا يُسَافِرُونَ إلَيْهِ وَلَا يَدْعُونَهُ وَلَا يَتَّخِذُونَهُ مَسْجِدًا . بَلْ قَبْرُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَبُوهُ فِي الْحُجْرَةِ وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْقُبُورِ عَفْوُهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ؛ إنْ كَانَ النَّاسُ يَفْتَتِنُونَ بِهِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْتَتِنُونَ بِهِ فَلَا يَضُرُّ مَعْرِفَةُ قَبْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ أَتَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ : أَجِبْ رَبَّك فَلَطَمَهُ مُوسَى فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَرَجَعَ الْمَلَكُ إلَى اللَّهِ فَقَالَ : أَرْسَلْتنِي إلَى عَبْدٍ لَك لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي قَالَ : فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ : ارْجِعْ إلَى مُوسَى فَقُلْ لَهُ : الْحَيَاةَ تُرِيدُ ؟ فَإِنْ كُنْت تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَك عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَمَا وَارَتْ يَدَك مِنْ شَعْرِهِ فَإِنَّك تَعِيشُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةً . قَالَ ثُمَّ مَاذَا ؟
قَالَ : الْمَوْتُ قَالَ : فَمِنْ الْآنَ يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَدْنِنِي مِنْ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كُنْت ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ } . وَقَدْ مَرَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَرَآهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ وَمَعَ هَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يُسَافِرُ إلَيْهِ وَلَا ذَهَبُوا إلَيْهِ لَمَّا دَخَلُوا الشَّامَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا لَمْ يَكُونُوا يُسَافِرُونَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ وَهَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . فَقَبْرُ " دَانْيَالَ " - كَمَا قِيلَ - كَانُوا يَجِدُونَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْمِسْكِ فَعَفَوْهُ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهِ النَّاسُ . و " قَبْرُ الْخَلِيلِ " عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ . قِيلَ : إنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَنَاهُ فَلَا يَصِلُ أَحَدٌ إلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا نُقِبَ الْبِنَاءُ بَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّمَا نَقَبَهُ النَّصَارَى لَمَّا اسْتَوْلَوْا عَلَى مُلْكِ الْبِلَادِ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ الْوُصُولِ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - فَكَانَ السَّفَرُ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مُمْتَنِعًا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَإِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ . فَالْأَنْبِيَاءُ كَثِيرُونَ جِدًّا وَمَا يُضَافُ إلَيْهِمْ مِنْ الْقُبُورِ قَلِيلٌ جِدًّا ؛ وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ ثَابِتٌ عُرْفًا . فَالْقُبُورُ الْمُضَافَةُ إلَيْهِمْ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ : مِثْلُ " قَبْرِ نُوحٍ " الَّذِي فِي أَسْفَلِ جَبَلِ لُبْنَانَ . وَمِنْهَا
مَا لَا يُعْلَمُ ثُبُوتُهُ بِالْإِجْمَاعِ - إلَّا قَبْرَ نَبِيِّنَا وَالْخَلِيلِ وَمُوسَى - فَإِنَّ هَذَا مِنْ كَرَامَةِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ صَانَ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَسَاجِدَ صِيَانَةً لَمْ يَحْصُلْ مِثْلُهَا فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَأُمَّتَهُ أَظْهَرُوا التَّوْحِيدَ إظْهَارًا لَمْ يُظْهِرْهُ غَيْرُهُمْ . فَقَهَرُوا عُبَّادَ الْأَوْثَانِ وَعُبَّادَ الصُّلْبَانِ وَعُبَّادَ النِّيرَانِ . وَكَمَا أَخْفَى اللَّهُ بِهِمْ الشِّرْكَ فَأَظْهَرَ اللَّهُ بِمُحَمَّدِ وَأُمَّتِهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْأَنْبِيَاءِ وَتَعْظِيمِهِمْ وَتَعْظِيمِ مَا جَاءُوا بِهِ وَإِعْلَانِ ذِكْرِهِمْ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِثْلُهُ فِي أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ وَفِي الْقُرْآنِ يَأْمُرُ بِذِكْرِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا } { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا } الْآيَاتُ . وَقَوْلُهُ : { اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إنَّهُ أَوَّابٌ } وَذَكَرَ بَعْدَهُ سُلَيْمَانَ إلَى قَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ } إلَى قَوْلِهِ { وَاذْكُرْ إسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ } . فَأَمَرَ بِذِكْرِ هَؤُلَاءِ . وَأَمَّا مُوسَى وَقَبْلَهُ نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ } { وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ } { إنْ كُلٌّ إلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ } . وَقَدْ أَمَرَ بِذِكْرِ مُوسَى وَغَيْرِهِ أَيْضًا فِي سُورَةٍ
أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ . فَاَلَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّهُ بِمُحَمَّدِ وَأُمَّتِهِ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَفْضَلِ الذِّكْرِ وَأَخْبَارِهِمْ وَمَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءُوا بِهِ وَالْحُكْمِ بِالْكُفْرِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِوَاحِدِ مِنْهُمْ وَقَتْلِهِ وَقَتْلِ مَنْ سَبَّ أَحَدًا مِنْهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ أَقْدَارِهِمْ : مَا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي مِلَّةٍ مِنْ الْمِلَلِ .
و " أَصْلُ الْإِيمَانِ " تَوْحِيدُ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِرُسُلِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : خِلَّتَانِ تُسْأَلُ الْعِبَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْهُمَا : عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَعَمَّا أَجَابُوا الرُّسُلَ . وَلِهَذَا يُقَرِّرُ اللَّهُ هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ بَلْ يُقَدِّمُهُمَا عَلَى كُلِّ مَا سِوَاهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَصْلُ الْأُصُولِ : مِثْلَمَا ذَكَرَ فِي " سُورَةِ الْبَقَرَةِ " فَإِنَّهُ افْتَتَحَهَا بِذِكْرِ أَصْنَافِ الْخَلْقِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ : مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَمُنَافِقٌ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ كَانَ لَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ . فَإِنَّ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ بِهَا نِفَاقٌ ؛ بَلْ إمَّا مُؤْمِنٌ ؛ وَإِمَّا كَافِرٌ . و " الْبَقَرَةُ " مَدَنِيَّةٌ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ أَرْبَعَ آيَاتٍ فِي ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَيْنِ فِي ذِكْرِ الْكَافِرِينَ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ . وَافْتَتَحَهَا بِالْإِيمَانِ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَوَسَّطَهَا بِذَلِكَ وَخَتَمَهَا
بِذَلِكَ . قَالَ فِي أَوَّلِهَا : { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَالصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } أَنَّهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ وَالْعَطْفُ لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } وَقَوْلِهِ : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } وَقَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . وَمَنْ قَالَ : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } أَرَادَ بِهِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ : فَقَدْ غَلِطَ ؛ فَإِنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ فَلَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ . وَأَهْلُ الْكِتَابِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ لَمْ يَكُونُوا مُفْلِحِينَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ .
وَقَالَ فِي وَسَطِ السُّورَةِ : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فَأَمَرَ بِالْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ وَقَدْ قَالَ فِي أَثْنَائِهَا : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ } وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ تَقْسِيمِ الْخَلْقِ قَرَّرَ أُصُولَ الدِّينِ . فَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ أَوَّلًا ثُمَّ النُّبُوَّةَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ثُمَّ قَرَّرَ النُّبُوَّةَ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } . ثُمَّ ذَكَرَ الْجَنَّةَ . فَقَرَّرَ التَّوْحِيدَ وَالنُّبُوَّةَ وَالْمَعَادَ . وَهَذِهِ أُصُولُ الْإِيمَانِ .
وَفِي آلِ عِمْرَانَ قَالَ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ } { مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } . فَذَكَرَ التَّوْحِيدَ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ثَانِيًا وَذَكَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ كَمَا قَالَ : { وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ } . وَلَفْظُ " الْفُرْقَانَ " يَتَنَاوَلُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِثْلَ الْآيَاتِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ : كَالْحَيَّةِ وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَانْفِلَاقِ الْبَحْرِ . وَالْقُرْآنُ فُرْقَانٌ بَيْنَ هَذَا الْوَجْهِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِلْمٌ عَظِيمٌ . وَهُوَ أَيْضًا فُرْقَانٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فَرَّقَ بِبَيَانِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَمَا قَالَ : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } وَلِهَذَا فَسَّرَ جَمَاعَةٌ الْفُرْقَانَ هُنَا بِهِ . وَلَفْظُ " الْفُرْقَانِ " أَيْضًا يَتَنَاوَلُ نَصْرَ اللَّهِ لِأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهْلَاكَ أَعْدَائِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ الْأَعْلَامِ قَالَ تَعَالَى : { إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } . وَالْآيَاتُ الَّتِي يَجْعَلُهَا اللَّهُ دِلَالَةً عَلَى صِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ مِمَّا يُنَزِّلُهُ كَمَا قَالَ : { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً } وَقَالَ : { إنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : التَّنْبِيهُ . وَكَذَلِكَ فِي " سُورَةِ يُونُسَ " قَالَ تَعَالَى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } ثُمَّ قَالَ : { إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } وَفِي سُورَةِ " الم السَّجْدَةُ " قَالَ تَعَالَى : { الم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } وَقَالَ : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } . وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } وَقَوْلُهُ : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَوْلُهُ : { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ } وَقَوْلُهُ : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } ثُمَّ قَالَ :
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِسُورَتَيْ الْإِخْلَاصِ تَارَةً وَتَارَةً قَوْله تَعَالَى { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ } الْآيَاتُ . وَفِي الثَّانِيَةِ { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إلَى هَذَيْنَ الْأَصْلَيْنِ فَلَا يَنْجُونَ مِنْ الْعَذَابِ وَلَا يَسْعَدُونَ إلَّا بِهِمَا . فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَمَا جَاءُوا بِهِ وَأَصْلُ مَا جَاءُوا بِهِ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } . وَالْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ - هُمْ وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي تَبْلِيغِ كَلَامِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَأَنْبَائِهِ الَّتِي أَنْبَأَ بِهَا عَنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَعَرْشِهِ وَمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَلَيْسُوا وَسَائِطَ فِي خَلْقِهِ لِعِبَادِهِ وَلَا فِي رِزْقِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ وَإِمَاتَتِهِمْ وَلَا
جَزَائِهِمْ بِالْأَعْمَالِ وَثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ وَلَا فِي إجَابَةِ دَعَوَاتِهِمْ وَإِعْطَاءِ سُؤَالِهِمْ ؛ بَلْ هُوَ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَهُوَ الَّذِي يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } . فَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ مَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَلَا لِأَحَدِ مِنْهُمْ شِرْكٌ مَعَهُ وَلَا لَهُ ظَهِيرٌ مِنْهُمْ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الشَّفَاعَةُ { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فَالْأَمْرُ فِي الشَّفَاعَةِ إلَيْهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا } وَقَالَ : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } . وَقَوْلُهُ { إلَّا مَنْ
شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ .
فَانْقَسَمَ النَّاسُ فِيهِمْ " ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ " : قَوْمٌ أَنْكَرُوا تَوَسُّطَهُمْ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَكَذَّبُوا بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ : مِثْلُ قَوْمِ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَشُعَيْبٍ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يُخْبِرُ اللَّهُ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا الْمُرْسَلِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ كَذَّبُوا جِنْسَ الرُّسُلِ ؛ يُؤْمِنُوا بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مُنْكِرُو النُّبُوَّاتِ مِنْ البراهمة وَفَلَاسِفَةِ الْهِنْدِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكُلُّ مَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ لَا يَكُونُ إلَّا مُشْرِكًا وَكَذَلِكَ مَنْ كَذَّبَ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } . فَكُلُّ مَنْ كَذَّبَ مُحَمَّدًا أَوْ الْمَسِيحَ أَوْ دَاوُد أَوْ سُلَيْمَانَ أَوْ غَيْرَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بُعِثُوا بَعْدَ مُوسَى : فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ
تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَالْفَلَاسِفَةُ وَالْمَلَاحِدَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ النُّبُوَّاتِ مَنْ جِنْسِ الْمَنَامَاتِ وَيَجْعَلُ مَقْصُودَهَا التَّخْيِيلَ فَقَطْ . قَالَ تَعَالَى : { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } فَهَؤُلَاءِ مُكَذِّبُونَ بِالنُّبُوَّاتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُمْ مَخْصُوصِينَ بِعِلْمِ يَنَالُونَهُ بِقُوَّةِ قُدْسِيَّةٍ بِلَا تَعَلُّمٍ ؛ وَلَا يُثْبِتُ مَلَائِكَةً تَنْزِلُ بِالْوَحْيِ . وَلَا كَلَامًا لِلَّهِ يَتَكَلَّمُ بِهِ بَلْ يَقُولُونَ إنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ فَلَا يَعْلَمُ لَا مُوسَى وَلَا مُحَمَّدًا وَلَا غَيْرَهُمَا مِنْ الرُّسُلِ وَيَقُولُونَ : خَاصِّيَّةُ النَّبِيِّ - هَذِهِ الْقُوَّةُ الْعِلْمِيَّةُ الْقُدْسِيَّةُ - قُوَّةٌ يُؤَثِّرُ بِهَا فِي الْعَالَمِ وَعَنْهَا تَكُونُ الْخَوَارِقُ وَقُوَّةٌ تَخَيُّلِيَّةٌ وَهُوَ أَنْ تُمَثَّلَ لَهُ الْحَقَائِقُ فِي صُوَرٍ خَيَالِيَّةٍ فِي نَفْسِهِ فَيَرَى فِي نَفْسِهِ أَشْكَالًا نُورَانِيَّةً وَيَسْمَعُ فِي نَفْسِهِ كَلَامًا . فَهَذَا هُوَ النَّبِيُّ عِنْدَهُمْ . وَهَذِهِ الثَّلَاثُ تُوجَدُ لِكَثِيرِ مِنْ آحَادِ الْعَامَّةِ الَّذِينَ غَيْرُهُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ . وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ مِنْ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ فَهُمْ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ . وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ يُقِرُّ بِمَا جَاءُوا بِهِ إلَّا فِي أَشْيَاءَ تُخَالِفُ رَأْيَهُ فَيُقَدِّمُ رَأْيَهُ عَلَى مَا جَاءُوا بِهِ وَيُعْرِضُ عَمَّا جَاءُوا بِهِ فَيَقُولُ : إنَّهُ لَا يَدْرِي مَا أَرَادُوا بِهِ أَوْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ . وَهَؤُلَاءِ مَوْجُودُونَ فِي أَهْل الْكِتَابِ وَفِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ ؛ ثُمَّ ذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِيهِمْ .
وَقِسْمٌ ثَانٍ غَلَوْا فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَفِي الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا : فَجَعَلُوهُمْ وَسَائِطَ فِي الْعِبَادَةِ فَعَبَدُوهُمْ لِيُقَرِّبُوهُمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى وَصَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ وَعَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي النَّصَارَى وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنْ ضُلَّالِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذَا الصِّنْفَ فِي الْقُرْآنِ فِي " آلِ عِمْرَانَ " وَفِي " بَرَاءَةٌ " فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ عَلَى النَّصَارَى وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } . وَهَذَا الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ هُوَ الَّذِي كَتَبَ إلَى هِرَقْلَ مِلْكِ الرُّومِ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إذَا اسْتَشْفَعُوا بِهِمْ شَفَعُوا لَهُمْ وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ مُعَظَّمًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَاسْتَشْفَعَ بِهِ شَفَعَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ كَمَا يَشْفَعُ خَوَاصُّ الْمُلُوكِ عِنْدَهُمْ . وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ فِي غَيْرِ
مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ ؛ فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ يَشْفَعُ عِنْدَ الْمَخْلُوقِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَيَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ لِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ أَوْ مَحَبَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَكُونُ الشَّفِيعُ شَرِيكًا لِلْمَشْفُوعِ إلَيْهِ . وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي حَقِّ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } . وَهَؤُلَاءِ يَحُجُّونَ إلَى قُبُورِهِمْ وَيَدْعُونَهُمْ ؛ وَقَدْ يَسْجُدُونَ لَهُمْ وَيَنْذِرُونَ لَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ . وَهَؤُلَاءِ أَيْضًا مُشْرِكُونَ . وَأَكْثَرُ الْمُشْرِكِينَ يَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّكْذِيبِ بِبَعْضِ مَا جَاءُوا بِهِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ فَيَكُونُ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ بِالْخَالِقِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْمَعُ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ . فَيُعَطِّلُ الْخَالِقَ أَوْ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ . فَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَيْسُوا مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا مِنْ هَؤُلَاءِ بَلْ يُثْبِتُونَ أَنَّهُمْ وَسَائِطُ فِي التَّبْلِيغِ عَنْ اللَّهِ وَيُؤْمِنُونَ بِهِمْ وَيُحِبُّونَهُمْ وَلَا يَحُجُّونَ إلَى قُبُورِهِمْ وَلَا يَتَّخِذُونَ قُبُورَهُمْ مَسَاجِدَ . وَذَلِكَ تَحْقِيقُ " شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ " . فَإِظْهَارُ ذِكْرِهِمْ وَمَا جَاءُوا بِهِ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِمْ وَإِخْفَاءُ قُبُورِهِمْ لِئَلَّا يَفْتَتِنَ بِهَا النَّاسُ هُوَ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ . وَالصَّحَابَةُ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ قَامُوا بِهَذَا .
وَلِهَذَا تَجِدُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ : مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ . مِنْ مَشَايِخِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْعَدْلِ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ : مَا يُوجِبُ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءَ لَهُ وَأَنْ يَكُونَ لَهُ لِسَانُ صِدْقٍ وَمَا يَنْتَفِعُ بِهِ : إمَّا كَلَامٌ لَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ وَإِمَّا عَمَلٌ صَالِحٌ يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ . فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَنْبِيَاءُ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - يُقْصَدُ الِانْتِفَاعُ بِمَا قَالُوهُ وَأَخْبَرُوا بِهِ وَأَمَرُوا بِهِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِيمَا فَعَلُوهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . وَأَمَّا أَهْلُ الضَّلَالِ - كَالنَّصَارَى وَأَهْلِ الْبِدَعِ - فَهُمْ مَعَ غُلُوِّهِمْ وَتَعْظِيمِهِمْ لِقُبُورِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِمْ لَا تَجِدُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَخْبَارِهِمْ مَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ مِنْ كَذِبِهِ ؛ بَلْ قَدْ الْتَبَسَ هَذَا بِهَذَا وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ يُمَيِّزُ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ بَيْنَ مَا جَاءَ عَنْ الْمَسِيحِ وَمَا جَاءَ عَنْ غَيْرِهِ : إمَّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . وَإِمَّا مِنْ شُيُوخِهِمْ بَلْ قَدْ لَبَسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ الضَّلَالِ وَالْبِدَعِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ : تَجِدُهُمْ يُعَظِّمُونَ شَيْخًا أَوْ إمَامًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَيُشْرِكُونَ بِهِ وَيَدْعُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِ وَيَنْذِرُونَ لَهُ وَيَحُجُّونَ إلَى قَبْرِهِ . وَقَدْ يَسْجُدُونَ لَهُ وَقَدْ يَعْبُدُونَهُ أَعْظَمَ مِمَّا يَعْبُدُونَ اللَّهَ كَمَا يَفْعَلُ النَّصَارَى وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأَحْوَالِهِ : يَنْقُلُونَ عَنْهُ أَخْبَارًا مُسَيَّبَةً لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ
وَلَا يُعْرَفُ صِدْقُهَا مَنْ كَذِبِهَا ؛ بَلْ عَامَّةُ مَا يَحْفَظُونَهُ مَا فِيهِ غُلُوٌّ وَشَطْحٌ لِلْإِشْرَاكِ بِهِ . فَأَهْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَلَا يَشُوبُونَهُ بِغَيْرِهِ يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيَعْبُدُونَهُ وَحْدَهُ وَيَعْرِفُونَ أَنْبِيَاءَهُ فَيُقِرُّونَ بِمَا جَاءُوا بِهِ وَيَقْتَدُونَ بِهِ وَيَعْرِفُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَيَنْتَفِعُونَ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ . وَأَهْلُ الضَّلَالِ فِي ظُلْمَةٍ لَا يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَلَا أَنْبِيَاءَهُ . وَلَا أَوْلِيَاءَهُ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ مَنْ يُشْبِهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي بَعْضِ الْأُمُورِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى . قَالَ : فَمَنْ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَتَأْخُذَنَّ أُمَّتِي مَأْخَذَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا : شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَارِسُ وَالرُّومُ ؟ قَالَ : فَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ ؟ . وَمُشَابَهَتُهُمْ فِي الشِّرْكِ بِقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ هُوَ مِنْ مُشَابَهَتِهِمْ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا أُمَّتَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ فِي صِحَّتِهِ وَمَرَضِهِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ : } إنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِد فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ { . وَأَمَّا لَعْنُهُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ : فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا : لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ بِهَا كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : } لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ { يَحْذَرُ مَا صَنَعُوا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ ؛ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا وَفِي لَفْظٍ : غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَوْ خُشِيَ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ وَلَهُ وَلِلْبُخَارِيِّ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُولَئِكَ إذَا مَاتَ فِيهِمْ
الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا وَبُيِّنَ مَا خَالَفُوا فِيهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي غَيْرِهِ . وَلَمَّا كَانَ أُولَئِكَ أَعْلَمَ وَأَفْضَلَ كَانَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِهِمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
صُورَةُ خُطُوطِ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى ظَهْرِ فُتْيَا الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّة فِي " السَّفَرِ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ " :
هَذَا الْمَنْقُولُ بَاطِنُهَا جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ أَنَّ زِيَارَةَ الْأَنْبِيَاءِ بِدْعَةٌ أَوْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ لَا يَتَرَخَّصُ فِي السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ . هَذَا كَلَامٌ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ . وَقَدْ نَقَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ أَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَةٌ وَسُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَهَذَا الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ يَنْبَغِي أَنْ يُزْجَرَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ عِنْد
الْعُلَمَاء وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ وَيُمْنَعَ مِنْ الْفَتَاوَى الْغَرِيبَةِ الْمَرْدُودَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَيُحْبَسَ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ ذَلِكَ وَيُشْهَرَ أَمْرُهُ لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ . كَتَبَهُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ جَمَاعَةَ . وَتَحْتَهُ : يَقُولُ أَحْمَد بْنُ عُمَرَ المقدسي الْحَنْبَلِيُّ . وَتَحْتَهُ : كَذَلِكَ يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ الجريري الْحَنَفِيِّ . لَكِنْ يُحْبَسُ الْآنَ جَزْمًا مُطْلَقًا . وَتَحْتَهُ : كَذَلِكَ يَقُولُ الْعَبْدُ الْفَقِيرُ إلَى اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَالِكِيُّ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَيُبَالَغُ فِي زَجْرِهِ بِحَسَبِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ . فَهَذِهِ صُورَةُ خُطُوطِهِمْ بِمِصْرِ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ سَيِّدِنَا وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ آمِينَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
فَصْلٌ :
فِي الْجَوَابِ عَمَّا كُتِبَ عَلَى نُسْخَةِ جَوَابِ الْفُتْيَا وَبَيَانِ بُطْلَانِ ذَلِكَ وَأَنَّ الْحُكْمَ بِهِ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ : قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهِيَ خَمْسُونَ وَجْهًا : تُبَيِّنُ بُطْلَانَ مَا كُتِبَ بِهِ وَبُطْلَانَ الْحُكْمِ بِهِ . الْأَوَّلُ : أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ الْجَوَابِ مَا لَيْسَ فِيهِ وَرَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى ذَلِكَ النَّقْلِ الْبَاطِلِ . وَمِثْلُ هَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّهُ نَقَلَ أَنَّ الْمُجِيبَ قَالَ : إنَّ زِيَارَةَ الْأَنْبِيَاءِ بِدْعَةٌ أَوْ أَنَّهُ ذَكَرَ نَحْوَ ذَلِكَ وَالْمُجِيبُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ وَلَا نَقَلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛ وَإِنَّمَا فِي الْجَوَابِ ذِكْرُ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . هَلْ يَحْرُمُ هَذَا السَّفَرُ أَوْ يَجُوزُ وَأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ . وَالطَّائِفَتَانِ لَمْ يَقُولَا ذَلِكَ فِي الزِّيَارَةِ الْمُطْلَقَةِ بَلْ جُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ مُسْتَحَبَّةٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ ؛ وَلَكِنْ لَا يَقُولُونَ : إنَّهُ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهَا كَمَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ إتْيَانُ الْمَسَاجِدِ غَيْرَ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَأَنَّ إتْيَانَهَا
قَدْ يَكُونُ فَرْضًا وَقَدْ يَكُونُ سُنَّةً : مِثْلَ إتْيَانِهَا لِلْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِفَرْضِ وَلَا سُنَّةٍ فَهَكَذَا زِيَارَةُ الْقُبُورِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ مُسْتَحَبَّةٌ وَهِيَ سُنَّةٌ وَالسَّفَرُ إلَى ذَلِكَ لَيْسَ بِفَرْضِ وَلَا سُنَّةٍ عِنْدَ الطَّائِفَتَيْنِ . وَالْمُجِيبُ لَمْ يَذْكُرْ لِنَفْسِهِ فِي الْجَوَابِ قَوْلًا ؛ بَلْ حَكَى أَقْوَالَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَدِلَّتَهُمْ وَهَؤُلَاءِ نَقَلُوا عَنْهُ مَا لَمْ يَقُلْهُ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا لَا يُنَازَعُ فِيهِ وَأَخْطَئُوا فِيمَا نَقَلُوهُ وَفَهِمُوهُ مِنْ كَلَامِ مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ وَفِيمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا وَلَكِنَّ مَقْصُودَ هَذَا الْوَجْهِ : أَنَّ الَّذِي كَتَبَ عَلَى الْجَوَابِ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ هُوَ الْقَائِلُ وَأَنَّهُ قَالَ : إنَّ زِيَارَةَ الْأَنْبِيَاءِ بِدْعَةٌ وَهَذَا بَاطِلٌ عَنْهُ . وَالْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى النَّقْلِ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّفَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لَيْسَ بِفَرْضِ وَلَا سُنَّةٍ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ سُنَّةً سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّ لِأُمَّتِهِ السَّفَرَ لِذَلِكَ وَلَا قَالَ عُلَمَاءُ شَرِيعَتِهِ إنَّ السَّفَرَ إلَيْهَا سُنَّةٌ . فَقَدْ حَكَمُوا بِمَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ وَهَذَا الْحُكْمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُجِيبَ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ - فِيمَنْ لَمْ يُسَافِرْ إلَّا إلَى الْقُبُورِ وَلَمْ يَقْصِدْ مَعَ ذَلِكَ الْمَسْجِدَ - قَوْلَ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ وَلَمْ يَسْتَحِبَّهُ
وَقَوْلَ مَنْ حَرَّمَهُ . وَهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى رَدِّ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَاقِضُ مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ بَلْ قَالُوا : وَهَذَا الْمُفْتِي الْمَذْكُورُ يَنْبَغِي أَنْ يُزْجَرَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَمَتَى مَا بَطَلَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ بِالْقَوْلَيْنِ تَعَيَّنَ جَعْلُ السَّفَرِ سُنَّةً مُسْتَحَبَّةً . وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِنَقْلِ مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّفَرِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ الْقَوْلَيْنِ . الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِنَقْلِ مَنْ نَقَلَ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضِيلَةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا وَسُنَّةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا . وَهَؤُلَاءِ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى الزِّيَارَةِ لَا عَلَى السَّفَرِ لِمُجَرَّدِ الْقَبْرِ . وَلَوْ نَقَلُوا الْإِجْمَاعَ عَلَى السَّفَرِ لِلزِّيَارَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُونَ الْمَسْجِدَ وَالْقَبْرَ لَا يَقْصِدُ الْقَبْرَ دُونَ الْمَسْجِدِ إلَّا جَاهِلٌ وَإِذَا قَصَدَ الزَّائِرُ الْمَسْجِدَ وَالْقَبْرَ جَمِيعًا فَالْمُجِيبُ لَمْ يَذْكُرْ الْقَوْلَيْنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُمَا فِيمَنْ لَمْ يُسَافِرْ إلَّا لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْجَوَابُ لَمْ يَكُنْ فِي خُصُوصِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانَ فِي جِنْسِ الْقُبُورِ . وَجَعَلُوا ذَلِكَ إجْمَاعًا عَلَى السَّفَرِ إلَى سَائِرِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ الْمُجِيبَ فَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَارَةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِهَا وَبَيْنَ مَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَمَا نَقَلُوهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَيْهِ وَهُمْ جَعَلُوهُ حُجَّةً
عَلَى بُطْلَانِ الْجَوَابِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا قِيلَ بِاسْتِحْبَابِ السَّفَرِ مُطْلَقًا فَغَلِطُوا عَلَى مَنْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فَلَمْ يَفْهَمُوا مُرَادَهُ وَحَكَمُوا بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ الْبَاطِلِ وَمِثْلُ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا النَّقْلَ مُخَالِفًا لِلْجَوَابِ وَلَيْسَ مُخَالِفًا لَهُ ؛ بَلْ الْمُفْتِي قَدْ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ اسْتِحْبَابَ الْعُلَمَاءِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَحْكِ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ قَالَ : زِيَارَةُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرَّمَةٌ وَالْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى النَّقْلِ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . الْخَامِسُ : أَنَّ هَؤُلَاءِ جَعَلُوا جِنْسَ الزِّيَارَةِ مُسْتَحَبًّا بِالْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ الْمَشْرُوعِ وَالْمُحَرَّمِ . وَالزِّيَارَةُ بَعْضُهَا مَشْرُوعٌ وَبَعْضُهَا مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا وَهُمْ أَنْكَرُوا هَذَا التَّفْصِيلَ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَالْحُكْمُ بِهِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . فَإِنَّ الْمُجِيبَ لَمْ يُنْكِرْ السَّفَرَ لِلزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ بَيَّنَ فِي الْجَوَابِ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ السَّفَرِ وَمِنْ الزِّيَارَةِ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كَلَامِهِ مَشْهُورٌ عَنْهُ . وَذَكَرَ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَمَا اتَّفَقُوا عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ . فَلَوْ وَافَقُوا عَلَى التَّفْصِيلِ لَمْ يُنْكِرُوا الْجَوَابَ فَلَمَّا جَعَلُوا الْجَوَابَ بَاطِلًا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْصِلُوا .
السَّادِسُ : أَنَّ الزِّيَارَةَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ . وَنَوْعٌ اتَّفَقُوا عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ . وَنَوْعٌ تَنَازَعُوا فِيهِ . وَفِي الْجَوَابِ ذِكْرُ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ . وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ وَبَيْنَ مَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَلَا ذَكَرُوا أَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ يُرَدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ؛ بَلْ جَعَلُوهُ مَرْدُودًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَالْحُكْمُ بِذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . وَالْمُجِيبُ إنَّمَا ذَكَرَ اتِّفَاقَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ إذَا سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قَبْرِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي الْغَالِبِ فِي قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مَنْ هُوَ عَارِفٌ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ الْمَسْجِدَ مَعَ الْقَبْرِ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَلِهَذَا احْتَجَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ بِهَذَا الْحَدِيثِ . وَهَذِهِ الزِّيَارَةُ الَّتِي يَفْعَلُهَا مَنْ يَعْلَمُ الشَّرِيعَةَ لَمْ يَذْكُرْ الْمُجِيبُ أَنَّهَا لَا تُسْتَحَبُّ بِالْإِجْمَاعِ . وَكَيْفَ يَقُولُ ذَلِكَ وَاسْتِحْبَابُهَا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ السَّابِعُ : أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الزِّيَارَةَ سُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ لَيْسَ هُوَ إجْمَاعًا عَلَى كُلِّ مَا يُسَمَّى زِيَارَةً وَلَا عَلَى هَذَا اللَّفْظِ ؛ بَلْ هُوَ إجْمَاعٌ عَلَى مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ حُقُوقِهِ فِي مَسْجِدِهِ . وَهَلْ يُكْرَهُ أَنْ يُسَمَّى ذَلِكَ زِيَارَةً لِقَبْرِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَكَثِيرٌ مِمَّا يُسَمَّى زِيَارَةً لِقَبْرِهِ فِيهِ نِزَاعٌ أَوْ هُوَ مَنْهِيٌّ
عَنْهُ بِالْإِجْمَاعِ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا الْإِجْمَاعَ مُتَنَاوِلًا لِمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ وَاحْتَجُّوا بِالْإِجْمَاعِ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَهَذَا خَطَأٌ . الثَّامِنُ : أَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَلَا إلَى الرَّسُولِ ؛ بَلْ قَالُوا إنَّهُ كَلَامٌ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ بِلَا حُجَّةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . التَّاسِعُ : أَنَّ الَّذِينَ حَكَوْا الْإِجْمَاعَ عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّفَرِ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقَبْرِ بَلْ الْإِجْمَاعُ إنَّمَا هُوَ عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ . وَأَمَّا السَّفَرُ لِمُجَرَّدِ الْقَبْرِ فَهَذَا فِيهِ النِّزَاعُ الْمَشْهُورُ . وَمَا فِيهِ نِزَاعٌ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ؛ بَلْ ادَّعَوْا فِيهِ الْإِجْمَاعَ وَغَلِطُوا عَلَى مَنْ حَكَوْا عَنْهُ الْإِجْمَاعَ وَمَنْ زُجِرَ عَنْ قَوْلٍ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ كَانَ هُوَ الْمُخْطِئَ بِالْإِجْمَاعِ . الْعَاشِرُ : أَنَّ مَا لَا إجْمَاعَ فِيهِ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ احْتَجَّ فِيهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ هُوَ الْمُصِيبَ وَالْجَوَابُ فِيهِ ذِكْرُ النِّزَاعِ وَالِاحْتِجَاجِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا ذَلِكَ مَرْدُودًا وَلَمْ يَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ؛ بَلْ رَدُّوا عَلَى مَنْ احْتَجَّ
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ وَحَكَمُوا بِهَذَا الرَّدِّ الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ . وَالْحُكْمُ بِمِثْلِ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْفُتْيَا مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ كَالزِّيَارَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ وَمَا أَجْمَعُوا عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَهَذَا أَقْصَى مَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُفْتِينَ . وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا التَّفْصِيلُ لَيْسَ بَاطِلًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ جَعَلُوهُ بَاطِلًا وَحَكَمُوا بِذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّ مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يَفْصِلَ النِّزَاعَ فِيهِ بِحُكْمِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يَقُولَ : حَكَمْت بِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الصَّحِيحُ وَأَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ ؛ بَلْ الْحَاكِمُ فِيمَا تَنَازَعَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ : قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِ آحَادِ الْعُلَمَاءِ إنْ كَانَ عَالِمًا وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامَّةِ الْمُقَلِّدِينَ وَالْمَنْصِبُ وَالْوِلَايَةُ لَا يَجْعَلُ مَنْ لَيْسَ عَالِمًا مُجْتَهِدًا عَالِمًا مُجْتَهِدًا وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ بِالْوِلَايَةِ وَالْمَنْصِبِ لَكَانَ الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ أَحَقَّ بِالْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَبِأَنْ يَسْتَفْتِيَهُ النَّاسُ وَيَرْجِعُوا إلَيْهِ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ . فَإِذَا كَانَ الْخَلِيفَةُ وَالسُّلْطَانُ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلَا يُلْزِمُ الرَّعِيَّةَ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ دُونَ قَوْلٍ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ : فَمَنْ هُوَ دُونَ السُّلْطَانِ فِي الْوِلَايَةِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يَتَعَدَّى
طُورَهُ وَلَا يُقِيمَ نَفْسَهُ فِي مَنْصِبٍ لَا يَسْتَحِقُّ الْقِيَامَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - وَهُمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُلْزِمُونَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ كِتَابِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : إنَّمَا بَعَثْت عُمَّالِي - أَيْ نُوَّابِي - إلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ كِتَابَ رَبِّكُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَيَقْسِمُوا بَيْنَكُمْ فَيْأَكُمْ ؛ بَلْ هَذِهِ يَتَكَلَّمُ فِيهَا مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْلَمُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْلَمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْكَلَامِ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا وَالْحَاكِمُ لَيْسَ لَهُ فِيهَا كَلَامٌ لِكَوْنِهِ حَاكِمًا ؛ بَلْ إنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ تَكَلَّمَ فِيهَا كَآحَادِ الْعُلَمَاءِ . فَهَؤُلَاءِ حَكَمُوا فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ الْحُكْمُ بِالْإِجْمَاعِ . وَهَذَا مِنْ الْحُكْمِ الْبَاطِلِ بِالْإِجْمَاعِ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّ الْأَحْكَامَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ - سَوَاءٌ كَانَتْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا أَوْ مُتَنَازَعًا فِيهَا - لَيْسَ لِلْقُضَاةِ الْحُكْمُ فِيهَا ؛ بَلْ الْحَاكِمُ الْعَالِمُ كَآحَادِ الْعُلَمَاءِ يَذْكُرُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ الْقَاضِي فِي أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ . وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْعَمَلِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ مُحَرَّمًا فَهَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَيْسَ لِأَحَدِ فِيهَا حُكْمٌ إلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَدِلَّةِ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ حَكَمُوا فِي الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ وَحُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ
بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
الرَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْكُلِّيَّةِ إنَّمَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ عَالِمًا بِأَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِمَا . وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَا قَالَهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَتَنَازَعُوا فِيهِ وَلَا يَعْرِفُونَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا رَغَّبَ فِيهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يَسُنَّهُ وَلَا يَعْرِفُونَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَالضَّعِيفَةَ فِي هَذَا الْبَابِ بَلْ وَلَا يَعْرِفُونَ مَذْهَبَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا عِنْدَهُمْ نَقْلٌ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا الْعُلَمَاءِ الْمَشْهُورِينَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ فِيمَا قَالُوهُ وَحَكَمُوا بِهِ ؛ بَلْ هُمْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ آحَادِ الْمُتَفَقِّهَةِ الطَّلَبَةِ الَّذِينَ يَنْبَغِي لَهُمْ طَلَبُ عِلْمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ بَلْ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُفْتِيَ فِيهَا وَلَا يُنَاظِرَ وَلَا يُصَنِّفَ ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَحْكُمَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَحَكَمَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ الْحُكْمُ فِيهِ كَانَ حُكْمُهُ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ فَكَيْفَ إذَا حَكَمَ فِيمَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ الْحُكْمُ وَحَكَمَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ كَانَ حُكْمُهُ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ . الْخَامِسَ عَشَرَ : أَنَّ الْقَاضِيَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا عِنْدَ بَعْضِ
الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ لِلْعُلَمَاءِ : وَهَؤُلَاءِ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسَائِلُ مِمَّا لَهُمْ فِيهِ الْحُكْمُ فَهُمْ لَمْ يُقَلِّدُوا فِيمَا قَالُوهُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا أَنْ يَكُونُوا فِيهِ مُجْتَهِدِينَ ؛ بَلْ حَكَمُوا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ وَهَذَا الْحُكْمُ الْبَاطِلُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ عَلَى يَهُودِيٍّ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٌ . فَكَيْفَ إذَا حَكَمُوا عَلَى عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا حُكْمَ لَهُمْ فِيهَا بِإِجْمَاعِ .
السَّادِسَ عَشَرَ : لَوْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا الْحُكْمُ وَقَدْ حَكَمُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْحُكْمُ حَتَّى يَسْمَعُوا كَلَامَ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَحُجَّتَهُ وَيَعْذُرُوا إلَيْهِ وَهَلْ لَهُ جَوَابٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا فِي الْحُقُوقِ كَالْأَمْوَالِ هَلْ يُحْكَمُ فِيهَا عَلَى غَائِبٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَمَنْ جَوَّزَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ قَالَ : هُوَ بَاقٍ عَلَى حُجَّتِهِ تُسْمَعُ إذَا حَضَرَ . فَأَمَّا الْعُقُوبَاتُ وَالْحُدُودُ فَلَا يُحْكَمُ فِيهَا عَلَى غَائِبٍ وَهَؤُلَاءِ حَكَمُوا عَلَى غَائِبٍ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ سَمَاعِ كَلَامِهِ وَالْإِدْلَاءِ بِحُجَّتِهِ وَهَذَا لَوْ كَانَ عَلَى يَهُودِيٍّ كَانَ حُكْمًا بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ . وَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ النَّاسِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْعَقْلِ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ حُكْمٌ بِغَيْرِ حَقٍّ .
السَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَاكِمُ خَصْمًا لِشَخْصِ فِي حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ عَلَى خَصْمِهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ " الْمَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ " إذَا تَنَازَعَ حَاكِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ آيَةٍ أَوْ
حَدِيثٍ أَوْ بَعْضِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُمَا خَصْمَانِ فِيمَا تَنَازَعَا فِيهِ . وَالْحَاكِمُ لَا يَحْكُمُ عَلَى خَصْمِهِ بِالْإِجْمَاعِ . الثَّامِنَ عَشَرَ : أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ مَنْقُولَةٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ حَكَمُوا فِيهَا بِخِلَافِ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَذَاهِبَ أَئِمَّتِهِمْ وَلَا مَذَاهِبَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَلَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَالْآثَارُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمَنْ ادَّعَى مِنْهُمْ أَنَّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِذَلِكَ وَلْيَذْكُرْ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مِنْ إجْمَاعٍ وَنِزَاعٍ وَأَدِلَّةِ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي يَقُولُ بِخِلَافِ جَوَابِ الْمُفْتِي قَوْلٌ بَاطِلٌ ؛ وَإِلَّا فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ حَكَمُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
التَّاسِعَ عَشَرَ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ عَارِفًا بِمَذْهَبِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِمَذْهَبِهِ وَلَا يَقُولَ : يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنَّكُمْ تُفْتُونَ بِمَذْهَبِيِّ وَأَنَّهُ أَيُّ مَذْهَبٍ خَالَفَ مَذْهَبِي كَانَ بَاطِلًا ؛ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ عَلَى مَذْهَبِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَلَوْ قَالَ : مَنْ خَالَفَ مَذْهَبِي فَقَوْلُهُ مَرْدُودٌ وَيَجِبُ مَنْعُ الْمُفْتِي بِهِ وَحَبْسُهُ لَكَانَ مَرْدُودًا عَلَيْهِ وَكَانَ مُسْتَحِقًّا الْعُقُوبَةَ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لَيْسَ هُوَ مَذْهَبَ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بَلْ الَّذِي أَفْتَى بِهِ الْمُفْتِي هُوَ مُوَافِقٌ لِلْإِجْمَاعِ ؛ دُونَ مَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُ وَخَالَفَ الْإِجْمَاعَ .
الْوَجْهُ الْعِشْرُونَ : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَالِمَ الْكَثِيرَ الْفَتَاوَى أَخْطَأَ فِي مِائَةِ مَسْأَلَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا وَكُلُّ مَنْ سِوَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ . وَمَنْ مَنَعَ عَالِمًا مِنْ الْإِفْتَاءِ مُطْلَقًا وَحَكَمَ بِحَبْسِهِ لِكَوْنِهِ أَخْطَأَ فِي مَسَائِلَ : كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ . فَالْحُكْمُ بِالْمَنْعِ وَالْحَبْسِ حُكْمٌ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمُفْتِي قَدْ أَجَابَ بِمَا هُوَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلُ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ ؟ .
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : أَنْ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ " مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ " بِمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ؛ دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ : فِي أَيِّ بَابٍ كَانَ ذَلِكَ : مِنْ مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَجِّ وَالزِّيَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ أَنْ يُلْزِمَهُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ بِلَا حُجَّةٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ؛ وَلَا أَنْ يَحْكُمَ بِلُزُومِهِ وَلَا مَنْعِهِ مِنْ الْقَوْلِ الْآخَرِ بِالْإِجْمَاعِ . فَكَيْفَ إذَا مَنَعَهُ مَنْعًا عَامًّا وَحَكَمَ بِحَبْسِهِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَبْطَلْ الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ الْحَاكِمَ لَوْ ظَنَّ الْإِجْمَاعَ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ إجْمَاعٌ وَأَلْزَمَ النَّاسَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِكِتَابِ أَوْ سُنَّةٍ وَكَانَ فِيهِ نِزَاعٌ لَمْ يَعْلَمْهُ لَكَانَ مُخْطِئًا فِي إلْزَامِ النَّاسِ
بِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ ؛ إلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ .
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ الْحَاكِمَ متى خَالَفَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا نُقِضَ حُكْمُهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَحُكْمُ هَؤُلَاءِ خَالَفَ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّقْضِ بِالْإِجْمَاعِ . الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَأَمْثَالَهُ هُوَ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحُكْمِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فِي بَعْضِ مَا هُوَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ : فَكَذَلِكَ هَذَا . الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مَعَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهَا مُثِيرَةٌ لِلْفِتَنِ مُفَرِّقَةٌ بَيْنَ قُلُوبِ الْأُمَّةِ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْعُدْوَانِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى وُلَاةِ أُمُورِهِمْ مُؤْذِيَةٌ لَهُمْ جَالِبَةٌ لِلْفِتَنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ صَلَاحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ فَسَادُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَيَجِبُ نَقْضُهُ بِالْإِجْمَاعِ .
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ أَذًى لِلْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَانُوا مُطِيعِينَ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَجْرُهُمْ فِيهِ عَلَى اللَّهِ كَالْجِهَادِ . أَمَّا إذَا كَانَ الَّذِي يُؤْذِيهِمْ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ وَجَبَ رَدُّهُ بِالْإِجْمَاعِ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُؤْذِيَةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَوُلَاةِ أُمُورِهِمْ
وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ : فَيَجِبُ رَدُّهَا بِالْإِجْمَاعِ . السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ هَذَا الْمُفْتِي يَنْبَغِي أَنْ يُزْجَرَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْفَتَاوَى الْبَاطِلَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ . وَقَوْلُهُمْ هُوَ الْبَاطِلُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ . وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ هُوَ الْبَاطِلُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ كَانَ قَوْلُهُ وَحُكْمُهُ بِهِ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ . فَإِنَّ هَذِهِ الْفُتْيَا هِيَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ : فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَيْسَ الْعُلَمَاءُ وَالْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ قَوْلٌ إلَّا مَا ذُكِرَ فِيهَا وَمَا ذَكَرُوهُ لَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ .
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّهُمْ قَالُوا يُمْنَعُ مِنْ الْفَتَاوَى الْغَرِيبَةِ الْمَرْدُودَةِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْحُكْمُ بِهِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ؛ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُنْقَضُ حُكْمُ الْحَاكِمِ إذَا خَالَفَ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ إجْمَاعًا أَوْ مَعْنَى ذَلِكَ . فَأَمَّا مَا وَافَقَ قَوْلَ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي " مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ " فَإِنَّهُ لَا يُنْقَضُ لِأَجْلِ مُخَالَفَتِهِ قَوْلَ الْأَرْبَعَةِ وَمَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ يَجُوزُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ الْمُفْتِي بِالْإِجْمَاعِ ؛ بَلْ الْفُتْيَا أَيْسَرُ ؛ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُلْزِمُ وَالْمُفْتِيَ لَا يُلْزِمُ . فَمَا سَوَّغَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ فَهُوَ يُسَوِّغُونَ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَمَنْ حَكَمَ بِمَنْعِ الْإِفْتَاءِ بِذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَسَائِرَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . فَمَا قَالُوهُ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْأَرْبَعَةِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : أَنَّ جَمِيعَ الْمَذَاهِبِ فِيهَا أَقْوَالٌ قَالَهَا بَعْضُ أَهْلِهَا لَيْسَتْ قَوْلًا لِصَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَفِيهَا جَمِيعِهَا مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ يَحْكُونَ ذَلِكَ قَوْلًا فِي الْمَذْهَبِ وَلَا يَحْكُمُونَ بِبُطْلَانِهِ إلَّا بِالْحُجَّةِ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا خَرَجَ عَلَى أُصُولِ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ وَبَيَّنَ مِنْ نُصُوصِهِمْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ أَتْبَاعُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ . وَالْمُجِيبُ قَدْ ذَكَرَ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَمَنْ قَبْلَهُمْ - مِمَّنْ يُعَظِّمُونَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ - وَكَلَامِ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مَا يُعْرَفُ بِهِ أَقْوَالُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِبْطَالُ الْقَوْلِ لِمُجَرَّدِ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَرْبَعَةِ هُوَ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ وَلِأَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ : فَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
الْوَجْهُ الْمُوفِي ثَلَاثِينَ : أَنَّ مَا أَنْكَرُوهُ فِي مَسَائِلِ الزِّيَارَةِ وَمَسَائِلِ الطَّلَاقِ مِنْ فَتَاوَى الْمُفْتِي الْمَدْلُولِ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يَخْرُجُ عَنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَفْتَى بِهِ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ - كَاَلَّذِي أَفْتَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ " مَسْأَلَةِ الزِّيَارَةِ " فَإِنَّ الَّذِي قَالَهُ هُوَ قَوْلُ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ وَقَوْلُ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ذَكَرُوا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ - وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَفْتَى بِهِ فِيهَا قَوْلُ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ " كَمَسَائِلِ الطَّلَاقِ " فَإِنَّ مَسَائِلَ النِّزَاعِ فِيهَا قَدْ تَنَازَعَ فِيهَا أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمُفْتِي
الْمَذْكُورُ لَمْ يُفْتِ فِيهَا إلَّا بِمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَمَا يُمْكِنُ الْإِفْتَاءُ فِيهَا إلَّا بِذَلِكَ . وَمَنْ أَنْكَرَ مَا لَا يَعْلَمُهُ وَحَكَمَ بِلَا عِلْمٍ وَخَالَفَ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ كَانَ حُكْمُهُ بَاطِلًا بِالْإِجْمَاعِ .
الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ قَوْلَهُمْ : يُحْبَسُ إذَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ ذَلِكَ وَيُشْهَرُ أَمْرُهُ ؛ لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ . وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مَنْ أَظْهَرَ الْبِدْعَةَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَحَبَّهَا وَدَعَا إلَيْهَا النَّاسَ وَحَكَمَ بِعُقُوبَةِ مَنْ أَمَرَ بِالسُّنَّةِ وَدَعَا إلَيْهَا وَالسَّفَرُ إلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ هِيَ الْبِدْعَةُ الَّتِي لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ جَعْلُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ جِنْسًا وَاحِدًا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ خَطَأٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ " الزِّيَارَةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ " الَّتِي يُسَافِرُ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ إلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ غَيْرِهِ : كُلُّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ . فَمَنْ أَمَرَ بِذَلِكَ كَانَ أَحَقَّ بِالْمَنْعِ وَيُشْهَرُ خَطَؤُهُ ؛ لِيَتَحَفَّظَ النَّاسُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ : أَوْلَى مِمَّنْ أَفْتَى بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ مَعَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُ خَطَأَ هَؤُلَاءِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَزْمِنَةِ كَمَا فَعَلَهُ فِي سَائِرِ مَنْ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ وَخَالَفَ شَرِيعَةَ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ . فَإِنَّ الْمُفْتِيَ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ مَا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ
وَمَا اتَّفَقُوا عَلَى النَّهْيِ عَنْهُ . وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَلَمْ يُنْهَ عَنْ الزِّيَارَةِ مُطْلَقًا ؛ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي ذَكَرُوهُ هُوَ مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ لَا مُخَالِفٌ لَهُ . فَالزِّيَارَةُ الَّتِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقَائِلِينَ بِاسْتِحْبَابِهَا لَا يُجْعَلُ الْمُسْتَحِبُّ مُسَمَّى الزِّيَارَةِ وَيُسَوَّى بَيْنَ دِينِ الرَّحْمَنِ وَدِينِ الشَّيْطَانِ كَمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ دِينِ الرَّحْمَنِ وَدِينِ الشَّيْطَانِ .
الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ قَبُولَ قَوْلِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ بِلَا حُجَّةٍ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا هُوَ دِينُ النَّصَارَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ : فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ } . وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ؛ بَلْ حَكَمُوا بِرَدِّهِ بِقَوْلِهِمْ وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَيْضًا فَحَكَمُوا بِقَوْلِ ثَالِثِ خِلَافِ قَوْلَيْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَخَرَجُوا وَحُكْمُهُمْ عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ كَلَامَهُمْ تَضَمَّنَ الِاعْتِرَافَ بِأَنَّ مَا أَفْتَى بِهِ الْمُفْتِي هُوَ قَوْلُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . وَحِينَئِذٍ فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَلَا يَحْكُمُ فِيهِ إلَّا كِتَابُ اللَّهِ أَوْ سُنَّةُ نَبِيِّهِ وَهَؤُلَاءِ حَكَمُوا فِيمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ . وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا لَوْ كَانَ مَا أَفْتَى بِهِ قَوْلَ بَعْضِهِمْ فَكَيْفَ وَهُوَ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمَا . وَالْقَوْلُ الَّذِي أَنْكَرُوهُ هُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ وَقَوْلُهُمْ لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ وَلَا الصِّغَارِ .
الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُفْتِيَ أَفْتَى بِالْخَطَإِ فَالْعُقُوبَةُ لَا تَجُوزُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ فَالْوَاجِبُ أَنْ تُبَيِّنَ دِلَالَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى خَطَئِهِ وَيُجَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الدَّلِيلِ وَالْجَوَابِ عَنْ الْمُعَارِضِ ؛ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ مَعَ هَذَا حُجَّةٌ وَمَعَ هَذَا حُجَّةٌ لَمْ يَجُزْ تَعْيِينُ الصَّوَابِ مَعَ أَحَدِهِمَا إلَّا بِمُرَجِّحِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ الْمُفْتِي مُخْطِئًا لَمْ يُقِيمُوا عَلَيْهِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ هُوَ الْمُصِيبَ وَهُمْ الْمُخْطِئُونَ فَحُكْمُ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الْحُكَّامِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ الْمُفْتِيَ إذَا تَبَيَّنَتْ لَهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ الصَّوَابُ وَإِلَّا كَانَ لَهُ أُسْوَةُ أَمْثَالِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ قَوْلًا مَرْجُوحًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعُقُوبَةَ وَالْحَبْسَ وَالْمَنْعَ عَنْ
الْفُتْيَا مُطْلَقًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْحُكْمُ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ إلْزَامَ النَّاسِ بِمَا لَمْ يُلْزِمْهُمْ بِهِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَنْعَهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْحُكْمُ بِهِ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى مَا قَالُوهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَلَا أَجَابُوا عَنْ حُجَّةِ مَنْ احْتَجَّ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمِثْلُ هَذَا الْإِلْزَامِ وَالْحُكْمُ بِهِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ إذَا تَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ بَلْ الْقَوْلُ الثَّالِثُ يَكُونُ مُخَالِفًا لِإِجْمَاعِهِمْ . وَالْمُسْلِمُونَ تَنَازَعُوا فِي السَّفَرِ لِغَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ جَائِزٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ . فَاسْتِحْبَابُ ذَلِكَ قَوْلٌ ثَالِثٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ قَالَ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَلَا يُسْتَحَبُّ إلَى الْمَسَاجِدِ بَلْ السَّفَرُ إلَى الْمَسَاجِدِ قَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ مُسْتَحَبٌّ يَجِبُ بِالنَّذْرِ وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى الْقُبُورِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَلَا أَنَّهُ يَجِبُ بِالنَّذْرِ وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الذَّهَابَ إلَى الْمَسَاجِدِ أَفْضَلُ مِنْ الذَّهَابِ إلَى الْقُبُورِ ؛ فَإِنَّ زِيَارَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ حَيْثُ كَانَتْ مَشْرُوعَةً فَلَا تُشْرَعُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَالْمَسْجِدُ مَشْرُوعٌ إتْيَانُهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَإِتْيَانُهُ أَوْلَى مِنْ إتْيَانِهَا بِالْإِجْمَاعِ .
الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّ إتْيَانَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصْدَ ذَلِكَ وَالسَّفَرَ لِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إتْيَانِ قَبْرِهِ لَوْ كَانَتْ الْحُجْرَةُ مَفْتُوحَةً وَالسَّفَرِ إلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَأْتُونَ مَسْجِدَهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةَ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَالْحُجْرَةُ إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ لَمْ يَدْخُلْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ نَهَاهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ وَأَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ عِيدًا أَوْ وَثَنًا . وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : { صَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ } . وَكَذَلِكَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ صَلَاتَهُمْ وَسَلَامَهُمْ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى مِنْ عِنْدِ قَبْرِهِ . وَكُلُّ مَنْ يُسَافِرُ لِلزِّيَارَةِ فَسَفَرُهُ إنَّمَا يَكُونُ إلَى الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ قَصَدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ وَالسَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدِ مُسْتَحَبٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ . وَالْمُجِيبُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ الزِّيَارَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا وَالْمُتَنَازَعَ فِيهَا وَهَؤُلَاءِ أَعْرَضُوا عَنْ الْأَمْرِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَعُلَمَاءُ أُمَّتِهِ وَعَنْ اسْتِحْبَابِ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَمِيعُ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ وَفَهِمُوا مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ مَا لَمْ يَقْصِدُوهُ ؛ فَإِنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضًا الَّذِي حَكَى أَلْفَاظَهُ قَدْ صَرَّحَ بِمَا صَرَّحَ بِهِ إمَامُهُ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّفَرُ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ اسْتِحْبَابَ قَصْدِ الْقَبْرِ ؛ دُونَ الْمَسْجِدِ ؛ بَلْ ذَكَرَ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْعُلَمَاءِ فِي فَضْلِ زِيَارَةِ الرَّسُولِ مَا بَيَّنَ بِهِ مُرَادَهُ وَذَكَرَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَقِفَ بَعْدَ السَّلَامِ وَهَذَا كَرَاهَتُهُ لِزِيَارَةِ أَكْثَرِ الْعَامَّةِ . وَهَؤُلَاءِ
جَعَلُوا مُسَمَّى الزِّيَارَةِ مُسْتَحَبًّا وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْبِدْعِيَّةِ . وَذَكَرَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يُكْرَهُ لَهُمْ الْوُقُوفُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَإِنْ قَصَدُوا مُجَرَّدَ السَّلَامِ ؛ إلَّا عِنْدَ السَّفَرِ . وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ قَصْدُ الْمَسْجِدِ . وَأَنَّ هَذَا لَمْ يَزَلْ الْمُسْلِمُونَ يَفْعَلُونَهُ فَقَالَ " فَصْلٌ فِي حُكْمِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ " : وَزِيَارَةُ قَبْرِهِ سُنَّةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَفَضِيلَةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا . قَالَ : وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُقَالَ : زُرْنَا قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ قَالَ : " وَقَالَ إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْفَقِيهُ : وَمِمَّا لَمْ يَزَلْ مِنْ شَأْنِ مَنْ حَجَّ الْمُرُورُ بِالْمَدِينَةِ وَالْقَصْدُ إلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلتَّبَرُّكِ بِرُؤْيَةِ رَوْضَتِهِ وَمِنْبَرِهِ وَقَبْرِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَلَامِسِ يَدَيْهِ وَمَوَاطِئِ قَدَمَيْهِ وَالْعَمُودِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ جبرائيل بِالْوَحْيِ فِيهِ عَلَيْهِ وَبِمَنْ عَمَّرَهُ وَقَصَدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَالِاعْتِبَارُ بِذَلِكَ كُلِّهِ . فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي حَكَوْهُ يَتَضَمَّنُ قَصْدَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ وَأَنَّ الْقَبْرَ مِنْ جُمْلَةِ آثَارِهِ . وَهَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّهُ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى السَّفَرِ إلَى مُجَرَّدِ الْقَبْرِ ؛ وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ ذَكَرَ خِلَافَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ . وَهَؤُلَاءِ أَخْطَئُوا عَلَيْهِ فِيمَا نَقَلَهُ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَهَذَا الْحُكْمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ : أَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَالِمَ الْكَثِيرَ الْفَتَاوَى أَفْتَى فِي عِدَّةِ مَسَائِلَ بِخِلَافِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةِ عَنْهُ . وَخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ : لَمْ يَجُزْ مَنْعُهُ مِنْ الْفُتْيَا مُطْلَقًا ؛ بَلْ يُبَيَّنُ لَهُ خَطَؤُهُ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ . فَمَا زَالَ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَعْصَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ . فَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ فِي " الْمُتْعَةِ وَالصَّرْفِ " بِخِلَافِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ وَلَمْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْفُتْيَا مُطْلَقًا بَلْ بَيَّنُوا لَهُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُخَالِفَةَ لِقَوْلِهِ فَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى لَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَّمَ الْمُتْعَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ رَوَوْا لَهُ تَحْرِيمَهُ لِرِبَا الْفَضْلِ وَلَمْ يَرُدُّوا فُتْيَاهُ لِمُجَرَّدِ قَوْلِهِمْ وَحُكْمِهِمْ وَيَمْنَعُوهُ مِنْ الْفُتْيَا مُطْلَقًا وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . فَالْمَنْعُ الْعَامُّ حُكْمٌ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . لَوْ كَانَ مَا نَازَعُوهُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ مَعَهُ ؛ بَلْ وَمَعَهُ إجْمَاعُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا أَنْكَرُوهُ مِنْ مَسَائِلِ الزِّيَارَةِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْ أَبْطَلْ حُكْمٍ فِي الْإِسْلَامِ وَمِنْ أَعْظَمِ التَّغْيِيرِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . الْوَجْهُ الْمُوفِي أَرْبَعِينَ : أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ يَعْرِفُهَا عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى هَذَا الْوَقْتِ ؛ فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ
يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَعْرِفَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا الْحَقَّ دُونَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَالْمُجِيبُ قَدْ صَنَّفَ فِيهَا مُجَلَّدَاتٍ : بَيَّنَ فِيهَا أَقْوَالَ الصَّحَابَةِ وَأَفْعَالَهُمْ ؛ وَأَقْوَالَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ : مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَبَيَّنَ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ صَحِيحَهَا وَضَعِيفَهَا وَكَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا وَبَيَّنَ خَطَأَ مَنْ نَازَعَهُ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي ذَلِكَ وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ لَوْ كَانُوا قَدْ قَالُوا بِبَعْضِ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ فَلَمْ يَأْتُوا عَلَيْهِ بِحُجَّةِ ؛ فَكَيْفَ وَقَدْ قَالُوا مَا يُخَالِفُ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ : فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي قَدْ بَيَّنَهُ الرَّسُولُ لِأُمَّتِهِ وَعَرَفَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ إلَى هَذَا الزَّمَانِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
الْوَجْهُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا بِبَعْضِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فَظَنُّوا أَنَّهُ لَا تَنَازُعَ فِيهِ كَانُوا عَدَدًا مِثْلَ مَنْ يَظُنُّ : أَنَّ السُّنَّةَ لِلزَّائِرِ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ الْقَبْرِ وَيَسْتَقْبِلَهُ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَقَدْ يَظُنُّ ذَلِكَ إجْمَاعًا وَهُوَ غالط ؛ فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يَسْتَحِبَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَسْتَحِبَّ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا قَدْ بَيَّنَ النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي مَوَاضِعِهِ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَحَكَمُوا بِقَوْلِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ . الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ : أَنَّ مَا قَالُوهُ لَوْ قَالَهُ مُفْتٍ لَوَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ
وَمَنْعُهُ وَحَبْسُهُ إنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ الْإِفْتَاءِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ إذَا قَالَهُ حَاكِمٌ يُلْزِمُ النَّاسَ بِهِ وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَى ذَلِكَ كَأَهْلِ الْبِدَعِ : مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ وَاَلَّذِينَ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً يُلْزِمُونَ بِهَا النَّاسَ وَيُعَادُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا وَيَسْتَحِلُّونَ عُقُوبَتَهُ وَالْبِدَعُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلشِّرْكِ وَاِتِّخَاذِ الْقُبُورِ أَوْثَانًا وَالْحَجِّ إلَيْهَا وَدُعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ : مِنْ بِدَعِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ . وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
أَمَّا بَعْدُ يَقُولُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة : إنَّنِي لَمَّا عَلِمْت مَقْصُودَ وَلِيِّ الْأَمْرِ السُّلْطَانِ - أَيَّدَهُ اللَّهُ وَسَدَّدَهُ فِيمَا رَسَمَ بِهِ - كَتَبْت إذْ ذَاكَ كَلَامًا مُخْتَصَرًا لِأَنَّ الْحَاضِرَ اسْتَعْجَلَ بِالْجَوَابِ وَهَذَا فِيهِ شَرْحُ الْحَالِ أَيْضًا مُخْتَصَرًا وَإِنَّ رَسْمَ وَلِيِّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَسَدَّدَهُ أَحْضَرْت لَهُ كُتُبًا كَثِيرَةً مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ - قَدِيمًا وَحَدِيثًا - مِمَّا فِيهِ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَلَامُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِ الْأَرْبَعَةِ وَأَتْبَاعِ الْأَرْبَعَةِ مِمَّا يُوَافِقُ مَا كَتَبْته فِي الْفُتْيَا ؛ فَإِنَّ الْفُتْيَا مُخْتَصَرَةٌ لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ . وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَذْكُرَ خِلَافَ ذَلِكَ ؛ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ : لَا الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ . وَإِنَّمَا خَالَفَ ذَلِكَ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلَا عِلْمٍ وَلَيْسَ مَعَهُ بِمَا يَقُولُهُ نَقْلٌ لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحْضِرَ كِتَابًا مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ عَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَقُولُهُ ؛ وَلَا يَعْرِفُ كَيْفَ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ يَفْعَلُونَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ . وَأَنَا خَطِّي مَوْجُودٌ بِمَا أَفْتَيْت بِهِ وَعِنْدِي مِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ كَتَبْته بِخَطِّي وَيُعْرَضُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ شَرْقًا وَغَرْبًا فَمَنْ قَالَ إنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا يُنَاقِضُ ذَلِكَ فَلْيَكْتُبْ خَطَّهُ بِجَوَابِ مَبْسُوطٍ يُعَرِّفُ فِيهِ مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ وَمَا حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ ؟ وَبَعْدَ ذَلِكَ فَوَلِيُّ الْأَمْرِ السُّلْطَانُ أَيَّدَهُ اللَّهُ إذَا رَأَى مَا كَتَبْته وَمَا كَتَبَهُ غَيْرِي فَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ ظَاهِرٌ مِثْلَ الشَّمْسِ : يَعْرِفُهُ أَقَلُّ غِلْمَانِ السُّلْطَانِ الَّذِي مَا رُئِيَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ سُلْطَانٌ مِثْلُهُ زَادَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَتَسْدِيدًا وَتَأْيِيدًا . فَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَإِنَّ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ الرُّسُلَ لَا يَشْتَبِهُ بِغَيْرِهِ
عَلَى الْعَارِفِ كَمَا لَا يَشْتَبِهُ الذَّهَبُ الْخَالِصُ بِالْمَغْشُوشِ عَلَى النَّاقِدِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَوْضَحَ الْحُجَّةَ وَأَبَانَ الْمَحَجَّةَ بِمُحَمَّدِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ . وَأَفْضَلِ النَّبِيِّينَ وَخَيْرِ خَلْقِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ . فَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ بَيَانُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَرَدُّ مَا يُخَالِفُهُ . فَيَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ " أَوَّلًا " مَا قَالَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَكْذُوبَةَ كَثِيرَةٌ وَبَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ قَدْ صَنَّفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَمَا يُشْبِهُهَا مُصَنَّفًا ذَكَرَ فِيهِ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى الصَّحَابَةِ أَلْوَانًا يَغْتَرُّ بِهَا الْجَاهِلُونَ . وَهُوَ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْكَذِبَ ؛ بَلْ هُوَ مُحِبٌّ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَظِّمٌ لَهُ لَكِنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِذَا وَجَدَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي فَضَائِلِ الْبِقَاعِ وَغَيْرِهَا قَدْ نَسَبَ حَدِيثًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ إلَى الصَّحَابَةِ اعْتَقَدَهُ صَحِيحًا وَبَنَى عَلَيْهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ ضَعِيفًا بَلْ كَذِبًا عِنْدَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِسُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ثُمَّ إذَا مَيَّزَ الْعَالِمُ بَيْنَ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَمْ يَقُلْهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَفْهَمَ مُرَادَهُ وَيَفْقَهَ مَا قَالَهُ وَيَجْمَعَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَيَضُمَّ كُلَّ شَكْلٍ إلَى شَكْلِهِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَرَسُولُهُ . فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَجِبُ تَلَقِّيهِ وَقَبُولُهُ وَبِهِ سَادَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَوَلِيُّ الْأَمْرِ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَسَدَّدَهُ هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِنَصْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَزَجْرِ مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ وَيَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ وَيَأْمُرُ بِمَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ يَسْعَى فِي إطْفَاءِ دِينِهِ إمَّا جَهْلًا وَإِمَّا هَوًى .
وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } { إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَهُ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } وَيُخَالِفُونَ شَرِيعَتَهُ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ سُنَّتَهُ وَمَقَاصِدَهُ وَيَتَحَرَّوْنَ مُتَابَعَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَسَبِ جَهْدِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
فَوَلِيُّ الْأَمْرِ السُّلْطَانُ أَعَزَّهُ اللَّهُ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْأَمْرُ فَهُوَ صَاحِبُ السَّيْفِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِوُجُوبِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالْيَدِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَيَبِينَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتَظْهَرُ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ وَرِسَالَةُ الرَّسُولِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ أَفْضَلَ الرُّسُلِ وَخَاتَمَهُمْ وَيَظْهَرُ الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ الَّذِي بُعِثَ بِهِ وَالنُّورُ الَّذِي أَوْحَى إلَيْهِ وَيُصَانُ ذَلِكَ
عَنْ مَا يَخْلِطُهُ بِهِ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيَجْهَلُونَ دِينَهُ وَيُحْدِثُونَ فِي دِينِهِ مِنْ الْبِدَعِ مَا يُضَاهِي بِدَعَ الْمُشْرِكِينَ وَيَنْتَقِصُونَ شَرِيعَتَهُ وَسُنَّتَهُ وَمَا بُعِثَ بِهِ مِنْ التَّوْحِيدِ فَفِي تَنْقِيصِ دِينِهِ وَسُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ مِنْ التَّنَقُّصِ لَهُ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ مَا يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ عُقُوبَةً مِثْلَهُ . فَوُلَاةُ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَحَقُّ بِنَصْرِ اللَّه وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَإِعْلَاءِ دِينِ اللَّهِ وَإِظْهَارِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا خَاتَمَ الْمُرْسَلِينَ وَأَفْضَلَ النَّبِيِّينَ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ يُعْبَدَ بِمَا أَمَرَ وَشَرَعَ لَا يُعْبَدَ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ . وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ وَمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا يَرْجُونَهُ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ إنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصْرِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ . وَقَدْ طَلَبَ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَيَّدَهُ اللَّهُ وَسَدَّدَهُ الْمَقْصُودَ بِمَا كَتَبْته . وَالْمَقْصُودُ طَاعَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا . وَلَا تَكُونَ الْعِبَادَةُ إلَّا بِشَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ ؛ أَوْ نَدَبَ إلَيْهِ كَقِيَامِ اللَّيْلِ
وَالسَّفَرِ إلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ فِيهِمَا وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَفِي الصَّلَاةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الْمَسَاجِدِ وَفِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنَّ الدِّينَ هُوَ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيمَا سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ . فَلَا تُتَجَاوَزُ سُنَّتُهُ فِيمَا فَعَلَهُ فِي عِبَادَتِهِ : مِثْلَ الذَّهَابِ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَزِيَارَةِ شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَقُبُورِ أَهْلِ الْبَقِيعِ . فَأَمَّا مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : كَعِبَادَاتِ أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ ؛ فَإِنَّ لَهُمْ عِبَادَاتٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا كِتَابًا وَلَا بَعَثَ بِهَا رَسُولًا ؛ مِثْلَ عِبَادَاتِ الْمَخْلُوقِينَ كَعِبَادَاتِ الْكَوَاكِبِ أَوْ الْمَلَائِكَةِ أَوْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ عِبَادَةِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي صُوِّرَتْ عَلَى صُوَرِهِمْ كَمَا تَفْعَلُهُ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِمْ يَقُولُونَ إنَّهُمْ يَسْتَشْفِعُونَ بِهِمْ . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } أَيْ مَا كَانَ بِدْعَةً فِي الشَّرْعِ وَقَدْ يَكُونُ مَشْرُوعًا لَكِنَّهُ إذَا فُعِلَ بَعْدَهُ سُمِّيَ بِدْعَةً كَقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ لَمَّا جَمَعَهُمْ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فَقَالَ : نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ . وَقِيَامُ رَمَضَانَ قَدْ سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ رَمَضَانَ وَسَنَنْت لَكُمْ قِيَامَهُ } . وَكَانُوا عَلَى عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلُّونَ أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ يُصَلِّي الرَّجُلُ وَحْدَهُ وَيُصَلِّي الرَّجُلُ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ جَمَاعَةٌ . وَقَدْ صَلَّى بِهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةً مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ . وَقَالَ : { إنَّ الرَّجُلَ إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ } . لَكِنْ لَمْ يُدَاوِمْ عَلَى الْجَمَاعَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا مَاتَ أَمِنُوا زِيَادَةَ الْفَرْضِ فَجَمَعَهُمْ عُمَرُ عَلَى أبي بْنِ كَعْبٍ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّهُ حَتَّى يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا وَآبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وَأَهْلِنَا وَأَمْوَالِنَا وَنُعَظِّمَهُ وَنُوَقِّرَهُ وَنُطِيعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَنُوَالِيَ مَنْ يُوَالِيهِ وَنُعَادِيَ مَنْ يُعَادِيهِ . وَنَعْلَمَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى اللَّهِ إلَّا بِمُتَابَعَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَا يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ بَلْ وَلَا مُؤْمِنًا وَلَا سَعِيدًا نَاجِيًا مِنْ الْعَذَابِ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . وَلَا وَسِيلَةَ يُتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا إلَّا الْإِيمَانُ بِهِ وَطَاعَتُهُ . وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمَخْصُوصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى الَّتِي مَيَّزَهُ اللَّهُ بِهَا عَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ صَاحِبُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَاللِّوَاءِ الْمَعْقُودِ لِوَاءِ الْحَمْدِ آدَمَ فَمَنْ
دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ . وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ { فَيَقُولُ الْخَازِنُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَيَقُولُ : أَنَا مُحَمَّدٌ . فَيَقُولُ بِك أُمِرْت أَنْ لَا أَفْتَحَ لِأَحَدِ قَبْلَك } . وَقَدْ فَرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ فَرَائِضَ وَسَنَّ لَهُمْ سُنَنًا مُسْتَحَبَّةً فَالْحَجُّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَرْضٌ وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِلصَّلَاةِ فِيهِمَا وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالِاعْتِكَافِ مُسْتَحَبٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِذَا أُتِيَ مَسْجِدُهُ فَإِنَّهُ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ . وَيُسَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ فِيهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا . وَطَلَبَ الْوَسِيلَةَ لَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ : اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته إنَّك لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ : حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ . وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ
قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ جَائِزٌ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَحَيْثُ صَلَّى الرَّجُلُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُوصِلُ صَلَاتَهُ وَسَلَامَهُ إلَيْهِ لِمَا فِي السُّنَنِ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمْعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ . قَالُوا : كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت ؟ - أَيْ صِرْت رَمِيمًا - قَالَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } . وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . فَالصَّلَاةُ تَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ كَمَا تَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْقَرِيبِ . وَفِي النَّسَائِي عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ } . وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَشَرَعَ ذَلِكَ لَنَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ نُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ بِالتَّحِيَّاتِ ثُمَّ نَقُولَ : { السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ } . وَهَذَا السَّلَامُ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا . وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا : { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ . وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } . وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِهِ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ يُصَلُّونَ
فِي مَسْجِدِهِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَإِذَا خَرَجُوا مِنْهُ وَلَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى الْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ وَلَا أَنْ يَتَوَجَّهُوا نَحْوَ الْقَبْرِ وَيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالسَّلَامِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْحُجَّاجِ - بَلْ هَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يَسْتَحِبَّهَا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بَلْ كَرِهُوا رَفْعَ الصَّوْتِ فِي مَسْجِدِهِ وَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلَيْنِ يَرْفَعَانِ أَصْوَاتَهُمَا فِي مَسْجِدِهِ وَرَآهُمَا غَرِيبَيْنِ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْتُمَا أَنَّ الْأَصْوَاتَ لَا تُرْفَعُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ لَوْ أَنَّكُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبًا . وَعَذَرَهُمَا بِالْجَهْلِ فَلَمْ يُعَاقِبْهُمَا . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا مَاتَ دُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَانَتْ هِيَ وَحَجَرُ نِسَائِهِ فِي شَرْقِيِّ الْمَسْجِدِ وَقِبْلِيِّهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي الْمَسْجِدِ وَاسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ انْقَرَضَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ . ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِنَحْوِ مِنْ سَنَةٍ مِنْ بَيْعَتِهِ وُسِّعَ الْمَسْجِدُ وَأُدْخِلَتْ فِيهِ الْحُجْرَةُ لِلضَّرُورَةِ : فَإِنَّ الْوَلِيدَ كَتَبَ إلَى نَائِبِهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ مِنْ مُلَّاكِهَا وَرَثَةِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُنَّ كُنَّ قَدْ تُوُفِّينَ كُلُّهُنَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ وَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ . فَهَدَمَهَا وَأَدْخَلَهَا فِي الْمَسْجِدِ وَبَقِيَتْ حُجْرَةُ عَائِشَةَ عَلَى حَالِهَا وَكَانَتْ مُغْلَقَةً لَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ الدُّخُولِ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لِصَلَاةِ عِنْدِهِ وَلَا لِدُعَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ إلَى حِينِ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي الْحَيَاةِ وَهِيَ تُوُفِّيَتْ قَبْلَ إدْخَالِ الْحُجْرَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَإِنَّهَا تُوُفِّيَتْ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ ثُمَّ وَلِيَ ابْنُهُ يَزِيدُ ثُمَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي الْفِتْنَةِ ثُمَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ثُمَّ ابْنُهُ الْوَلِيدُ وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ بَعْدَ ثَمَانِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَقَدْ مَاتَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ قِيلَ إنَّهُ لَمْ يَبْقَ بِالْمَدِينَةِ إلَّا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ قَبْلَ إدْخَالِ الْحُجْرَةِ بِعَشْرِ سِنِينَ . فَفِي حَيَاةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهَا لِسَمَاعِ الْحَدِيثِ ولاستفتائها وَزِيَارَتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ إذَا دَخَلَ أَحَدٌ يَذْهَبُ إلَى الْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ لَا لِصَلَاةِ وَلَا لِدُعَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ - بَلْ رُبَّمَا طَلَبَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْهَا أَنْ تُرِيَهُ الْقُبُورَ فَتُرِيَهُ إيَّاهُنَّ وَهِيَ قُبُورٌ لَا لَاطِئَةٌ وَلَا مُشْرِفَةٌ مَبْطُوحَةٌ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ . وَقَدْ اُخْتُلِفَ هَلْ كَانَتْ مُسَنَّمَةً أَوْ مُسَطَّحَةً وَاَلَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهَا مُسَنَّمَةٌ . قَالَ سُفْيَانُ التَّمَّارُ إنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَنَّمًا - وَلَكِنْ كَانَ الدَّاخِلُ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَهَذَا السَّلَامُ مَشْرُوعٌ لِمَنْ كَانَ يَدْخُلُ الْحُجْرَةَ . وَهَذَا السَّلَامُ هُوَ الْقَرِيبُ الَّذِي يَرُدُّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَاحِبِهِ . وَأَمَّا السَّلَامُ الْمُطْلَقُ
الَّذِي يُفْعَلُ خَارِجَ الْحُجْرَةِ وَفِي كُلِّ مَكَانٍ فَهُوَ مِثْلُ السَّلَامِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ . وَاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ مَرَّةً عَشْرًا وَيُسَلِّمُ عَلَى مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مَرَّةً عَشْرًا . فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ خُصُوصًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِلَافِ السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ كَمَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَالصَّلَاةُ عَلَى التَّعْيِينِ فَهَذَا إنَّمَا أَمَرَ بِهِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ الْعِبَادَ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . فَحُجَرُ نِسَائِهِ كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ الْمَسْجِدِ شَرْقِيِّهِ وَقِبْلِيِّهِ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ } هَذَا لَفْظُ الصَّحِيحَيْنِ وَلَفْظُ " قَبْرِي " لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ قَبْرٌ . وَمَسْجِدُهُ إنَّمَا فُضِّلَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ وَأَسَّسَهُ عَلَى التَّقْوَى . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ . عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَفْضَلُ الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ هَكَذَا رَوَى أَحْمَد وَالنَّسَائِي وَغَيْرُهُمَا
بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ . وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ فُضِّلَ بِهِ وَبِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ بَنَى الْبَيْتَ وَدَعَا النَّاسَ إلَى حَجِّهِ بِأَمْرِهِ تَعَالَى وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَى النَّاسِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الْحَجُّ فَرْضًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا فُرِضَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنَّمَا فُرِضَ سَنَةَ نَزَلَتْ آلُ عِمْرَانَ لَمَّا وَفَدَ أَهْلُ نَجْرَانَ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ . وَمَنْ قَالَ : فِي سَنَةِ سِتٍّ فَإِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَإِنَّ هَذِهِ نَزَلَتْ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ لَكِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهَا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِهِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ لَيْسَ فِيهَا إيجَابُ ابْتِدَاءٍ بِهِ فَالْبَيْتُ الْحَرَامُ كَانَ لَهُ فَضِيلَةُ بِنَاءِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَدُعَاءِ النَّاسِ إلَى حَجِّهِ وَصَارَتْ لَهُ فَضِيلَةٌ ثَانِيَةٌ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ وَمَنَعَهُ مِنْهُمْ . وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ حَجَّهُ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ . وَقَدْ حَجَّهُ النَّاسُ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فَعَبَدَ اللَّهَ فِيهِ بِسَبَبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْعَافُ مَا كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ مِمَّا كَانَ يُعْبَدُ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ . وَلَمَّا مَاتَ دُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ ؛ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا . وَفِي صَحِيحِ
مُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَّا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } . فَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَعَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا وَلَعَنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لِكَوْنِهِمْ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ لِأَنَّ هَذَا كَانَ هُوَ أَوَّلَ أَسْبَابِ الشِّرْكِ فِي قَوْمِ نُوحٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ : { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ : هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فِي قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا عَكَفُوا عَلَى قُبُورِهِمْ ثُمَّ صَوَّرُوا تَمَاثِيلَهُمْ ثُمَّ عَبَدُوهُمْ . فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَمَالِ نُصْحِهِ لِأُمَّتِهِ حَذَّرَهُمْ أَنْ يَقَعُوا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَنَهَاهُمْ عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَعَنْ الصَّلَاةِ إلَيْهَا لِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِالْكُفَّارِ كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا لِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِالْكُفَّارِ . وَلِهَذَا لَمَّا أُدْخِلَتْ الْحُجْرَةُ فِي مَسْجِدِهِ الْمُفَضَّلِ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ - كَمَا تَقَدَّمَ - بَنَوْا عَلَيْهَا حَائِطًا وسنموه وَحَرَّفُوهُ لِئَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ إلَى قَبْرِهِ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَقَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ فَلَمْ يُتَّخَذْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَثَنًا كَمَا اُتُّخِذَ قَبْرُ غَيْرِهِ بَلْ وَلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ الدُّخُولِ إلَى حُجْرَتِهِ بَعْدَ أَنْ بُنِيَتْ الْحُجْرَةُ . وَقَبْلَ ذَلِكَ مَا كَانُوا يُمَكِّنُونَ أَحَدًا مِنْ أَنْ يَدْخُلَ إلَيْهِ لِيَدْعُوَ عِنْدَهُ وَلَا يُصَلِّيَ عِنْدَهُ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ عِنْدَ قَبْرِ غَيْرِهِ . لَكِنْ مِنْ الْجُهَّالِ مَنْ يُصَلِّي إلَى حُجْرَتِهِ أَوْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ أَوْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَهَذَا إنَّمَا يُفْعَلُ خَارِجًا عِنْدَ حُجْرَتِهِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ . وَإِلَّا فَهُوَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ فَلَمْ يُمَكَّنْ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَدْخُلَ إلَى قَبْرِهِ فَيُصَلِّيَ عِنْدَهُ أَوْ يَدْعُوَ أَوْ يُشْرِكَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بِغَيْرِهِ اُتُّخِذَ قَبْرُهُ وَثَنًا فَإِنَّهُ فِي حَيَاةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا كَانَ أَحَدٌ يَدْخُلُ إلَّا لِأَجْلِهَا وَلَمْ تَكُنْ تُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ عِنْدَ قَبْرِهِ شَيْئًا مِمَّا نَهَى عَنْهُ وَبَعْدَهَا كَانَتْ مُغْلَقَةً إلَى أَنْ أُدْخِلَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدَّ بَابُهَا وَبُنِيَ عَلَيْهَا حَائِطٌ آخَرُ . كُلُّ ذَلِكَ صِيَانَةً لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَّخَذَ بَيْتُهُ عِيدًا وَقَبْرُهُ وَثَنًا وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَلَا يَأْتِي إلَى هُنَاكَ إلَّا مُسْلِمٌ وَكُلُّهُمْ مُعَظِّمُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُبُورُ آحَادِ أُمَّتِهِ فِي الْبِلَادِ مُعَظَّمَةٌ . فَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِيُسْتَهَانَ بِالْقَبْرِ الْمُكَرَّمِ بَلْ فَعَلَوْهُ لِئَلَّا يُتَّخَذَ وَثَنًا يُعْبَدُ وَلَا يُتَّخَذُ بَيْتُهُ عِيدًا . وَلِئَلَّا يُفْعَلَ بِهِ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِقُبُورِ أَنْبِيَائِهِمْ . وَالْقَبْرُ الْمُكَرَّمُ فِي الْحُجْرَةِ إنَّمَا عَلَيْهِ بَطْحَاءُ - وَهُوَ الرَّمْلُ الْغَلِيظُ - لَيْسَ عَلَيْهِ حِجَارَةٌ وَلَا خَشَبٌ وَلَا هُوَ مُطَيَّنٌ كَمَا فُعِلَ بِقُبُورِ غَيْرِهِ .
وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ كَمَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَوَقْتَ غُرُوبِهَا لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى الشِّرْكِ . وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُتَّخَذَ قَبْرَهُ وَثَنًا يُعْبَدُ ؛ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ مِثْلَ الَّذِينَ اُتُّخِذَتْ قُبُورُهُمْ مَسَاجِدَ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُ عِنْدَ قَبْرِهِ أَلْبَتَّةَ فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إذَا ابْتَدَعَ أُمَمُهُمْ بِدْعَةً بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا يَنْهَى عَنْهَا . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ فَعَصَمَ اللَّهُ أُمَّتَهُ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ وَعَصَمَ قَبْرَهُ الْمُكَرَّمَ أَنْ يُتَّخَذَ وَثَنًا فَإِنَّ ذَلِكَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوْ فُعِلَ لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ نَبِيٌّ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ قَدْ غَلَبُوا الْأُمَّةَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْبِدَعِ سَبِيلٌ أَنْ يَفْعَلُوا بِقَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ كَمَا فُعِلَ بِقُبُورِ غَيْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَصْلٌ :
قَدْ ذَكَرْت فِيمَا كَتَبْته مِنْ الْمَنَاسِكِ أَنَّ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ وَزِيَارَةَ قَبْرِهِ - كَمَا يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ - عَمَلٌ صَالِحٌ
مُسْتَحَبٌّ . وَقَدْ ذَكَرْت فِي عُدَّةِ " مَنَاسِكِ الْحَجِّ " السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ وَكَيْفَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهَلْ يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ أَمْ الْقِبْلَةَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ : يَسْتَقْبِلُ الْحُجْرَةَ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَجْعَلُ الْحُجْرَةَ عَنْ يَسَارِهِ فِي قَوْلٍ وَخَلْفَهُ فِي قَوْلٍ لِأَنَّ الْحُجْرَةَ الْمُكَرَّمَةَ لَمَّا كَانَتْ خَارِجَةً عَنْ الْمَسْجِدِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَسْتَقْبِلَ وَجْهَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةَ كَمَا صَارَ ذَلِكَ مُمْكِنًا بَعْدَ دُخُولِهَا فِي الْمَسْجِدِ . بَلْ كَانَ إنْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ صَارَتْ عَنْ يَسَارِهِ وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَهُ وَيَسْتَدْبِرُونَ الْغَرْبَ فَقَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَرْجَحُ وَإِنْ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْقِبْلَةَ حِينَئِذٍ وَيَجْعَلُونَ الْحُجْرَةَ عَنْ يَسَارِهِمْ فَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْجَحُ . وَالصَّلَاةُ تُقْصَرُ فِي هَذَا السَّفَرِ الْمُسْتَحَبِّ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إنَّ هَذَا السَّفَرَ لَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ . وَلَا نَهَى أَحَدٌ عَنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُسَافِرُ إلَى مَسْجِدِهِ يَزُورُ قَبْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ كَلَامِي وَكَلَامِ غَيْرِي نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا نَهْيٌ عَنْ الْمَشْرُوعِ فِي زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَلَا عَنْ الْمَشْرُوعِ فِي زِيَارَةِ سَائِرِ الْقُبُورِ ؛ بَلْ قَدْ ذَكَرْت فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ اسْتِحْبَابَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزُورُ أَهْلَ الْبَقِيعِ وَشُهَدَاءَ أُحُدٍ وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ
إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ . اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } . وَإِذَا كَانَتْ زِيَارَةُ قُبُورِ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ مَشْرُوعَةً فَزِيَارَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْلَى ؛ لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ خَاصِّيَّةٌ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ أَنَّا أُمِرْنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَأَنْ نُسَلِّمَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَسَائِرِ الْأَدْعِيَةِ وَأَنْ نُصَلِّيَ وَنُسَلِّمَ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ - مَسْجِدِهِ وَغَيْرِ مَسْجِدِهِ - وَعِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ فَكُلُّ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ . وَالسَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ مَشْرُوعٌ لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ حَتَّى كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُقَالَ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءُ لَهُمْ وَذَلِكَ السَّلَامُ وَالدُّعَاءُ قَدْ حَصَلَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فِي الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ وَغَيْرِ مَسْجِدِهِ وَعِنْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ . وَعِنْد كُلِّ دُعَاءٍ . فَتُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ دُعَاءٍ فَإِنَّهُ { أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } . وَلِهَذَا يُسَلِّمُ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَيَقُولُ : { السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ
وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ } . وَيُصَلِّي عَلَيْهِ فَيَدْعُو لَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ . وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ مَسْجِدٌ يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَيْهِ كَمَا يُسْتَحَبُّ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَإِنَّمَا يُشْرَعُ أَنْ يُزَارَ قَبْرُهُ كَمَا شُرِعَتْ زِيَارَةُ الْقُبُورِ . وَأَمَّا هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَرَعَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ وَنَهَى عَمَّا يُوهِمُ أَنَّهُ سَفَرٌ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ .
وَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ الزِّيَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الزِّيَارَةِ الْبِدْعِيَّةِ الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا بَلْ نَهَى عَنْهَا مِثْلَ اتِّخَاذِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ وَالصَّلَاةِ إلَى الْقَبْرِ وَاِتِّخَاذِهِ وَثَنًا . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } . حَتَّى إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ سَافَرَ إلَى الطُّورِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ بَصْرَةُ بْنُ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ : لَوْ أَدْرَكْتُك قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ لَمَا خَرَجْت سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَمَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ } . فَهَذِهِ الْمَسَاجِدُ شُرِعَ السَّفَرُ إلَيْهَا لِعِبَادَةِ اللَّهِ فِيهَا بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالِاعْتِكَافِ ؛ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ مُخْتَصٌّ بِالطَّوَافِ لَا يُطَافُ بِغَيْرِهِ . وَمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إذَا أَتَاهَا الْإِنْسَانُ وَصَلَّى فِيهَا مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ
كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْمَسْجِدِ كَانَتْ خُطُوَاتُهُ إحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً ؛ وَالْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ ؛ وَالْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ . مَا لَمْ يُحْدِثْ } . وَلَوْ سَافَرَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ مِثْلُ أَنْ سَافَرَ إلَى دِمَشْقَ مِنْ مِصْرَ لِأَجْلِ مَسْجِدِهَا أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ سَافَرَ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَشْرُوعًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَلَوْ نَذَرَ ذَلِكَ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ فِي الْمَسَاجِدِ وَقَالَهُ ابْنُ مسلمة مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي مَسْجِدِ قُبَاء خَاصَّةً . وَلَكِنْ إذَا أَتَى الْمَدِينَةَ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ قُبَاء وَيُصَلِّيَ فِيهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَفَرِ وَلَا بِشَدِّ رَحْلٍ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاء رَاكِبًا وَمَاشِيًا كُلَّ سَبْتٍ وَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَ { مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاء كَانَ لَهُ كَعُمْرَةِ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَقَالَ سَعْدُ بْن أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ : صَلَاةٌ فِيهِ كَعُمْرَةِ .
وَلَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَزِمَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَذْهَبَ إلَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : لَيْسَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ جِنْسِهِ مَا يَجِبُ بِالشَّرْعِ . وَالثَّانِي : عَلَيْهِ الْوَفَاءُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا طَاعَةٌ لِلَّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } . وَلَوْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ أَوْ السَّفَرَ إلَى مُجَرَّدِ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ صَالِحٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ بِاتِّفَاقِهِمْ فَإِنَّ هَذَا السَّفَرَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . بَلْ قَدْ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } . وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ مَا كَانَ طَاعَةً وَقَدْ صَرَّحَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ مَنْ نَذَرَ السَّفَرَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَّى بِنَذْرِهِ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ مُجَرَّدَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ . لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } . وَالْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ فِي " الْمَبْسُوطِ " وَمَعْنَاهَا فِي " الْمُدَوَّنَةِ " و " الْخِلَافِ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُتُبِ أَصْحَابِ مَالِكٍ . يَقُولُ : إنَّ مَنْ نَذَرَ إتْيَانَ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَا يُؤْتَى إلَّا
لِلصَّلَاةِ وَمَنْ نَذَرَ إتْيَانَ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ وَفَّى بِنَذْرِهِ وَإِنْ قَصَدَ شَيْئًا آخَرَ مِثْلَ زِيَارَةِ مَنْ بِالْبَقِيعِ أَوْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ لَمْ يَفِ بِنَذْرِهِ لِأَنَّ السَّفَرَ إنَّمَا يُشْرَعُ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ بِخِلَافِهِ بَلْ كَلَامُهُمْ يَدُلُّ عَلَى مُوَافَقَتِهِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ قَوْلَيْنِ : التَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ . وَقُدَمَاؤُهُمْ وَأَئِمَّتُهُمْ قَالُوا : إنَّهُ مُحَرَّمٌ . وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُمْ . وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } . صِيغَةُ خَبَرٍ وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ فَيَكُونُ حَرَامًا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَيْسَ بِنَهْيٍ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ بَلْ مُبَاحٌ كَالسَّفَرِ فِي التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا . فَيُقَالُ لَهُ : تِلْكَ الْأَسْفَارُ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْعِبَادَةُ بَلْ يُقْصَدُ بِهَا مَصْلَحَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ مُبَاحَةٌ وَالسَّفَرُ إلَى الْقُبُورِ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الْعِبَادَةُ وَالْعِبَادَةُ إنَّمَا تَكُونُ بِوَاجِبِ أَوْ مُسْتَحَبٍّ فَإِذَا حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ إلَى الْقُبُورِ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ كَانَ مَنْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ مُبْتَدِعًا مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَالتَّعَبُّدُ بِالْبِدْعَةِ لَيْسَ بِمُبَاحِ لَكِنْ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ يُعْذَرُ فَإِذَا بُيِّنَتْ لَهُ السُّنَّةُ لَمْ يَجُزْ لَهُ مُخَالَفَةُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا التَّعَبُّدُ بِمَا نَهَى عَنْهُ كَمَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَا عِنْدَ غُرُوبِهَا وَكَمَا لَا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الْعِيدَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ ؛ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ إنْسَانٌ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ . فَالطَّوَائِفُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ إنَّ السَّفَرَ إلَيْهَا مُسْتَحَبٌّ وَإِنْ كَانَ قَالَهُ بَعْضُ الْأَتْبَاعِ فَهُوَ مُمْكِنٌ وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الْمُجْتَهِدُونَ فَمَا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا . وَإِذَا قِيلَ هَذَا كَانَ قَوْلًا ثَالِثًا فِي الْمَسْأَلَةِ وَحِينَئِذٍ فَيُبَيَّنُ لِصَاحِبِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَطَأٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ - لَمْ يُسَافِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ وَلَا رَجُلٍ صَالِحٍ . و " قَبْرُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " بِالشَّامِ لَمْ يُسَافِرْ إلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَكَانُوا يَأْتُونَ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ فَيُصَلُّونَ فِيهِ وَلَا يَذْهَبُونَ إلَى قَبْرِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا بَلْ كَانَ فِي الْبِنَاءِ الَّذِي بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَلَا كَانَ : " قَبْرُ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ " يُعْرَفُ وَلَكِنْ أُظْهِرَ ذَلِكَ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَلِهَذَا وَقَعَ فِيهِ نِزَاعٌ فَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُنْكِرُهُ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَزُورُونَهُ فَيُعْرَفُ . وَلَمَّا اسْتَوْلَى
النَّصَارَى عَلَى الشَّامِ نَقَبُوا الْبِنَاءَ الَّذِي كَانَ عَلَى الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاِتَّخَذُوا الْمَكَانَ كَنِيسَةً . ثُمَّ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ الْبَلَدَ بَقِيَ مَفْتُوحًا . وَأَمَّا عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ فَكَانَ قَبْرُ الْخَلِيلِ مِثْلَ قَبْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يُسَافِرُ إلَى الْمَدِينَةِ لِأَجْلِ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ كَانُوا يَأْتُونَ فَيُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَيُسَلِّمُ مَنْ يُسَلِّمُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدْفُونٌ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَلَا يَدْخُلُونَ الْحُجْرَةَ وَلَا يَقِفُونَ خَارِجًا عَنْهَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ السُّورِ . وَكَانَ يَقْدَمُ فِي خِلَافِهِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمْدَادُ الْيَمَنِ الَّذِينَ فَتَحُوا الشَّامَ وَالْعِرَاقَ وَهُمْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَيُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَذْهَبُ إلَى الْقَبْرِ وَلَا يَدْخُلُ الْحُجْرَةَ وَلَا يَقُومُ خَارِجَهَا فِي الْمَسْجِدِ بَلْ السَّلَامُ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجِ الْحُجْرَةِ . وَعُمْدَةُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِيهِ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَبِكُلِّ حَالٍ فَهَذَا الْقَوْلُ لَوْ قَالَهُ نِصْفُ الْمُسْلِمِينَ لَكَانَ لَهُ حُكْمُ أَمْثَالِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ . فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ هُوَ الدِّينَ الْحَقَّ وَتُسْتَحَلَّ عُقُوبَةُ مَنْ خَالَفَهُ أَوْ يُقَالَ بِكُفْرِهِ فَهَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَخِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . فَإِنْ كَانَ الْمُخَالِفُ لِلرَّسُولِ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَكْفُرُ فَاَلَّذِي خَالَفَ سُنَّتَهُ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءَ أُمَّتِهِ فَهُوَ الْكَافِرُ . وَنَحْنُ لَا نُكَفِّرُ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْخَطَأِ لَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَا فِي غَيْرِهَا . وَلَكِنْ إنْ قُدِّرَ تَكْفِيرُ الْمُخْطِئِ فَمَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ - إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ - أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالصَّحَابَةَ وَسَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا فَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ فِي هَذَا وَغَيْرِهِ فَمَا أَمَرَ بِهِ هُوَ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ وَمَا نَهَى عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يَكُونُ شِرْكًا كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الضَّلَالِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ حَيْثُ يَتَّخِذُونَ الْمَسَاجِدَ عَلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَيُصَلُّونَ إلَيْهَا وَيَنْذِرُونَ لَهَا وَيَحُجُّونَ إلَيْهَا . بَلْ قَدْ يَجْعَلُونَ الْحَجَّ إلَى بَيْتِ الْمَخْلُوقِ أَفْضَلَ مِنْ الْحَجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ . وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " الْحَجَّ الْأَكْبَرَ " وَصَنَّفَ لَهُمْ شُيُوخُهُمْ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ كَمَا صَنَّفَ الْمُفِيدُ بْنُ النُّعْمَانِ كِتَابًا فِي مَنَاسِكَ الْمَشَاهِدِ سَمَّاهُ " مَنَاسِكُ حَجِّ الْمَشَاهِدِ " وَشَبَّهَ بَيْتَ الْمَخْلُوقِ بِبَيْتِ الْخَالِقِ . وَأَصْلُ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا نَجْعَلَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ نِدًّا وَلَا كُفُوًا وَلَا سَمِيًّا . قَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك . قُلْت ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك } فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ رَسُولِهِ { وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } الْآيَةُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } .
فَمَنْ سَوَّى بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي الْحُبِّ لَهُ أَوْ الْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أُمَّتَهُ عَنْ دَقِيقِ الشِّرْكِ وَجَلِيلِهِ حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } رَوَاهُ . أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ . { وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت ؛ فَقَالَ : أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا ؟ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ } وَقَالَ : { لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ ؛ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ } و { جَاءَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مَرَّةً فَسَجَدَ لَهُ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا مُعَاذُ ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتهمْ فِي الشَّامِ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ . فَقَالَ : يَا مُعَاذُ ؟ إنَّهُ لَا يَصْلُحُ السُّجُودُ إلَّا لِلَّهِ وَلَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا } . فَلِهَذَا فَرَّقَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ زِيَارَةِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَبَيْنَ زِيَارَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ فَزِيَارَةُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ لِقُبُورِ الْمُسْلِمِينَ تَتَضَمَّنُ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءَ لَهُمْ وَهِيَ مِثْلُ الصَّلَاةِ عَلَى جَنَائِزِهِمْ ؛ وَزِيَارَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ يُشَبِّهُونَ الْمَخْلُوقَ بِالْخَالِقِ يَنْذِرُونَ لَهُ وَيَسْجُدُونَ لَهُ وَيَدْعُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ مِثْلَ مَا يُحِبُّونَ الْخَالِقَ فَيَكُونُونَ قَدْ جَعَلُوهُ لِلَّهِ نِدًّا وَسَوَّوْهُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَقَدْ نَهَى اللَّهُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ فَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا } { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ أَقْوَامٌ يَدْعُونَ الْأَنْبِيَاءَ كَالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ وَيَدْعُونَ الْمَلَائِكَةَ فَأَخْبَرَهُمْ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ عَبِيدُهُ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَيَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ . وَنَهَى سُبْحَانَهُ أَنْ يُضْرَبَ لَهُ مَثَلٌ بِالْمَخْلُوقِ فَلَا يُشَبَّهُ بِالْمَخْلُوقِ الَّذِي
يَحْتَاجُ إلَى الْأَعْوَانِ وَالْحُجَّابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى . { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } .
وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ الشُّفَعَاءِ لَدَيْهِ وَشَفَاعَتُهُ أَعْظَمُ الشَّفَاعَاتِ وَجَاهُهُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ الجاهات وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ إذَا طَلَبَ الْخَلْقُ الشَّفَاعَةَ مِنْ آدَمَ ثُمَّ مِنْ نُوحٍ ثُمَّ مِنْ إبْرَاهِيمَ ثُمَّ مِنْ مُوسَى ثُمَّ مِنْ عِيسَى كُلُّ وَاحِدٍ يُحِيلُهُمْ عَلَى الْآخَرِ فَإِذَا جَاءُوا إلَى الْمَسِيحِ يَقُولُ : اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ؛ قَالَ : { فَأَذْهَبُ فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا وَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيُقَالُ : أَيْ مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ يُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . قَالَ : فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ } الْحَدِيثَ .
فَمَنْ أَنْكَرَ شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ كَمَا يُنْكِرُهَا الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ مَخْلُوقًا يَشْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَنُصُوصَ الْقُرْآنِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا
يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إلَّا هَمْسًا } { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا مِنْ شَفِيعٍ إلَّا مِنْ بَعْدِ إذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . فَالدِّينُ هُوَ مُتَابَعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُؤْمَرَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَيُنْهَى عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَيُحَبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَشْخَاصِ وَيُبْغَضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَشْخَاصِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفُرْقَانِ فَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؛ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ .
فَمَنْ سَافَرَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَوْ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى فِي مَسْجِدِهِ ؛ وَصَلَّى فِي مَسْجِدِ قُبَاء وَزَارَ الْقُبُورَ كَمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي عَمِلَ الْعَمَلَ الصَّالِحَ . وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا السَّفَرَ فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَأَمَّا مَنْ قَصَدَ السَّفَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقَبْرِ وَلَمْ يَقْصِدْ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ وَسَافَرَ إلَى مَدِينَتِهِ فَلَمْ يُصَلِّ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ بَلْ أَتَى الْقَبْرَ ثُمَّ رَجَعَ فَهَذَا مُبْتَدِعٌ
ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِإِجْمَاعِ أَصْحَابِهِ وَلِعُلَمَاءِ أُمَّتِهِ . وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الْقَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا أَجْرَ لَهُ . وَاَلَّذِي يَفْعَلُهُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ هُوَ الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ : يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الدُّخُولِ لِلْمَسْجِدِ وَفِي الصَّلَاةِ وَهَذَا مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ ذَكَرْت هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ وَفِي الْفُتْيَا وَذَكَرْت أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ أَذْكُرْ فِيهِ نِزَاعًا فِي الْفُتْيَا مَعَ أَنَّ فِيهِ نِزَاعًا ؛ إذْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَا يَسْتَحِبُّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُهَا مُطْلَقًا كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَالشَّعْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِين وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجِلَّةِ التَّابِعِينَ . وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ . وَعَنْهُ أَنَّهَا مُبَاحَةٌ لَيْسَتْ مُسْتَحَبَّةً . وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد ؛ لَكِنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ : أَنَّ الزِّيَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ مُسْتَحَبَّةٌ . وَهُوَ أَنْ يَزُورَ قُبُورَ الْمُؤْمِنِينَ لِلدُّعَاءِ لَهُمْ فَيُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَيَدْعُوَ لَهُمْ . وَتُزَارُ قُبُورُ الْكُفَّارِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُذَكِّرُ الْآخِرَةَ . وَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَهُ خَاصَّةٌ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ عِنْدَ قَبْرِ غَيْرِهِ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ هُوَ مَأْمُورٌ [ بِهِ ] (1) فِي حَقِّ الرَّسُولِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَعِنْد كُلِّ دُعَاءٍ . وَهُوَ قَدْ نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ
وَنَهَى أَنْ يُتَّخَذَ قَبْرُهُ عِيدًا وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ لَا يَجْعَلُهُ وَثَنًا يُعْبَدُ . فَمُنِعَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ إلَى قَبْرِهِ فَيَزُورَهُ كَمَا يَدْخُلُ إلَى قَبْرِ غَيْرِهِ . وَكُلُّ مَا يُفْعَلُ فِي مَسْجِدِهِ وَغَيْرِ مَسْجِدِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ أَمْرٌ خَصَّهُ اللَّهُ وَفَضَّلَهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَأَغْنَاهُ بِذَلِكَ عَمَّا يُفْعَلُ عِنْدَ قَبْرِ غَيْرِهِ - وَإِنْ كَانَ جَائِزًا . وَأَمَّا " اتِّخَاذُ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ " فَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ عِنْدَ كُلِّ قَبْرٍ وَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي إنَّمَا يُصَلِّي لِلَّهِ وَلَا يَدْعُو إلَّا اللَّهَ . فَكَيْفَ إذَا كَانَ يَدْعُو الْمَخْلُوقَ أَوْ يَسْجُدَ لَهُ وَيَنْذِرَ لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ وَأَمَّا إذَا قُدِّرَ أَنَّ مَنْ أَتَى الْمَسْجِدَ فَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ ؛ وَلَكِنْ أَتَى الْقَبْرَ ثُمَّ رَجَعَ فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَنْكَرَهُ الْأَئِمَّةُ كَمَالِكِ وَغَيْرِهِ وَلَيْسَ هَذَا مُسْتَحَبًّا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ هَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ ؟ وَمَا عَلِمْنَا أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ اسْتَحَبَّ مِثْلَ هَذَا بَلْ أَنْكَرُوا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ بِالسَّفَرِ مُجَرَّدَ الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ السَّفَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . وَلَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ يَفْعَلُ هَذَا بَلْ كَانَ الصَّحَابَةُ إذَا سَافَرُوا إلَى مَسْجِدِهِ صَلَّوْا فِيهِ وَاجْتَمَعُوا بِخُلَفَائِهِ مِثْلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَيَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْهُمْ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ . وَلَمْ