الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
فِيمَا ذَكَرَ لَكَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا يُقَالُ لَهُ : مَا تَعْنِي بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ ؟ تَعْنِي بِهِ مَا هُوَ الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِك ؟ حَيْثُ قُلْت فِي تَقْسِيمِ الْأَلْفَاظِ : الِاسْمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا ؛ أَوْ مُتَعَدِّدًا . فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَمَفْهُومُهُ يَنْقَسِمُ عَلَى وُجُوهٍ . الْقِسْمَةُ الْأُولَى : إنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ : أَوْ لَا يَصِحُّ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ طَلَبِيٌّ . وَذَكَرَ تَمَامَهُ بِكَلَامِ بَعْضُهُ حَقٌّ ؛ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ اتَّبَعَ فِيهِ الْمَنْطِقِيِّينَ . ثُمَّ قَالَ : أَمَّا إنْ كَانَ مَفْهُومُهُ غَيْرَ صَالِحٍ لِاشْتِرَاكِ كَثِيرِينَ فِيهِ فَهُوَ الْجُزْئِيُّ وَذَكَرَ أَنَّهُ الْعِلْمُ خَاصَّةً ؛ وَقَسَّمَهُ تَقْسِيمَ النُّحَاةِ . ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا إنْ كَانَ الِاسْمُ وَاحِدًا وَالْمُسَمَّى مُخْتَلِفًا : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ ؛ أَوْ هُوَ مُسْتَعَارٌ فِي بَعْضِهَا . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمُسَمَّيَاتُ مُتَبَايِنَةً كَالْجُونِ لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ أَوْ غَيْرَ مُتَبَايِنَةٍ كَمَا إذَا أَطْلَقْنَا اسْمَ الْأَسْوَدِ عَلَى شَخْصٍ بِطَرِيقِ الْعِلْمِيَّةِ وَبِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ مِنْ السَّوَادِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مَجَازٌ . فَإِنْ أَرَدْت هَذَا فَالْمُشْتَرَكُ هُوَ الِاسْمُ الْوَاحِدُ الَّذِي يَخْتَلِفُ مُسَمَّاهُ وَيَكُونُ مَوْضُوعًا عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ وَتَقْسِيمُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى وَاحِدًا وَيَكُونُ كُلِّيًّا وَجُزْئِيًّا كَمَا ذَكَرْته . وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ لَك : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إذَا كَانَتْ حَقِيقَةً فِيمَا ذَكَرَ مِنْ الصُّوَرِ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ إنَّمَا
يَصِحُّ فِي وَاحِدٍ يَكُونُ مَعْنَاهُ إمَّا وَاحِدًا وَإِمَّا مُتَعَدِّدًا وَنَحْنُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَوْرِدَ النِّزَاعِ دَاخِلٌ فِيمَا ذَكَرْته فَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا إذَا كَانَ اللَّفْظُ وَاحِدًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ هُوَ لَفْظُ ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَمَتْنِهَا وَجَنَاحِ السَّفَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذَا اللَّفْظُ لَيْسَ لَهُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ ؛ لَيْسَ مَعْنَاهُ مُتَعَدِّدًا مُخْتَلِفًا : بَلْ حَيْثُ وُجِدَ هَذَا اللَّفْظُ كَانَ مَعْنَاهُ وَاحِدًا كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ . فَإِنْ قُلْت : لَكِنَّ لَفْظَ الظَّهْرِ وَالْمَتْنِ وَالْجَنَاحِ يُوجَدُ لَهُ مَعْنًى غَيْرُ هَذَا . قِيلَ : لَفْظُ ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَجَنَاحِهَا لَيْسَ هُوَ لَفْظَ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ وَجَنَاحِ الطَّائِرِ وَلَا أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَفْظُ الظَّهْرِ وَالطَّرِيقِ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْرُوفٍ يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ وَهُوَ ظَهْرُ الْإِنْسَانِ مَثَلًا ؛ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ لَفْظِ ظَهْرِ الطَّرِيقِ بَلْ هَذَا اللَّفْظُ مُغَايِرٌ لِهَذَا اللَّفْظِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : اللَّفْظُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ بَلْ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الظَّهْرِ يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْحَيَوَانِ حَقِيقَةً بِالِاتِّفَاقِ وَمَعَ هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ لَا يَسْبِقُ إلَى ذِهْنِهِمْ إلَّا ظَهْرُ الْإِنْسَانِ لَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ ظَهْرُ الْكَلْبِ ؛ وَلَا ظَهْرُ الثَّعْلَبِ وَالذِّئْبِ وَبَنَاتِ عِرْسٍ وَظَهْرُ النَّمْلَةِ وَالْقَمْلَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ظَهْرَ الْإِنْسَانِ هُوَ الَّذِي يَتَصَوَّرُونَهُ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ كَثِيرًا فِي عَامَّةِ كَلَامِهِمْ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ ؛ يَنْصَرِفُ إلَى الظَّهْرِ الْمَعْرُوفِ .
وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَيْمَانُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُ بِلُغَتِهِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً أَيْضًا كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ رُءُوسُ الْأَنْعَامِ : أَوْ رُءُوسُ الْغَنَمِ ؛ أَوْ الرَّأْسُ الَّذِي يُؤْكَلُ فِي الْعَادَةِ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْبَيْضِ ؛ يُرَادُ بِهِ الْبَيْضُ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ . فَأَمَّا رَأْسُ النَّمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَدْخُلُ فِي اللَّفْظِ وَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ فِي الْيَمِينِ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً إذَا قِيلَ : بَيْضُ النَّمْلِ وَبَيْضُ السَّمَكِ بِالْإِضَافَةِ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : بِعْتُك بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ : انْصَرَفَ الْإِطْلَاقُ إلَى مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ مُسَمَّى هَذَا اللَّفْظِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَقْدِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ حَتَّى إنَّهُ فِي الْمَكَانِ الْوَاحِدِ يَكُونُ لَفْظُ الدِّينَارِ يُرَادُ بِهِ فِي ثَمَنِ بَعْضِ السِّلَعِ الذَّهَبُ الْخَالِصُ ؛ وَفِي سِلْعَةٍ أُخْرَى ذَهَبٌ مَغْشُوشٌ ؛ وَفِي سِلْعَةٍ أُخْرَى مِقْدَارٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ فَيُحْمَلُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ عَلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُتَبَايِعَانِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ بِمَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ نَفْسُ اللَّفْظِ مُتَغَايِرًا كَلَفْظِ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ ؛ وَظَهْرِ الطَّرِيقِ ؛ وَرَأْسِ الْإِنْسَانِ وَرَأْسِ الدَّرْبِ ؛ وَرَأْسِ الْمَالِ ؛ أَوْ رَأْسِ الْعَيْنِ ؛ أَوْ قُيِّدَ أَحَدُهُمَا بِالتَّعْرِيفِ كَلَفْظِ الظَّهْر ؛ وَقُيِّدَ الْآخَرُ بِالْإِضَافَةِ ؛ وَكَانَ اللَّامُ يُوجِبُ إرَادَةَ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ ؛ وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ . فَالْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ لَيْسَ هُوَ الْمُعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى .
وَقَدْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَمَعَ هَذَا يَخْتَلِفُ الْمَعْنَى كَمَا فِي لَفْظِ الرَّسُولِ ؛ لِأَنَّ جُزْءَ الدَّلَالَةِ مَعْرِفَةُ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ : فَكَيْفَ يَكُونُ تَعْرِيفُ الْإِضَافَةِ مَعَ تَعْرِيفِ اللَّامِ ؟ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ظَهْرِ الْإِنْسَانِ هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اخْتِلَافِ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِكًا لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ لَا يَكُونُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ اخْتَلَفَ مَعْنَاهُ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ مُشْتَرِكٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا مَقْرُونًا بِمَا يُبَيِّنُ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ قِيلَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا لَازِمًا ؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا بَطَلَ السُّؤَالُ ؛ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا الْتَزَمْنَا قَوْلَ مَنْ يَنْفِي الِاشْتِرَاكَ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَمَا يَلْتَزِمُ قَوْلَ مَنْ يَنْفِي الْمَجَازَ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ تَمْنَعُونَ ثُبُوتَ الِاشْتِرَاكِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِهِ ؟ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُودِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَوْهُ وَصَاحِبِ الْكِتَابِ أَبِي الْحَسَنِ الآمدي يَعْتَرِفُ بِضِعْفِ أَدِلَّةِ مُثْبِتِيهِ وَقَدْ ذَكَرَ لِنَفْسِهِ دَلِيلًا هُوَ أَضْعَفُ مِمَّا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : فِي مَسَائِلِهِ
" الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى " : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ : هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي اللُّغَةِ ؟ فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ . قَالَ : وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ وُقُوعِهِ أَمَّا الخطابي الْعَقْلِيُّ فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ وَاضِعٍ وَاحِدٍ وَأَنْ يَتَّفِقَ وَضْعُ قَبِيلَةٍ لِلِاسْمِ عَلَى مَعْنَاهُ وَوَضْعُ أُخْرَى لَهُ بِإِزَاءِ مَعْنًى آخَرَ مِنْ غَيْرِ شُعُورِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا وُضِعَتْ الْأُخْرَى ثُمَّ يَشْتَهِرُ الْوَضْعَانِ لِخَفَاءِ سَبَبِهِ قَالَ : وَهُوَ الْأَشْبَهُ . قَالَ وَأَمَّا بَيَانُ الْوُقُوعِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَلْفَاظُ الْمُشْتَرِكَةُ وَاقِعَةً فِي اللُّغَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ ؛ وَالْأَسْمَاءُ مُتَنَاهِيَةٌ ضَرُورَةُ تَرْكِيبِهَا مِنْ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ لَخَلَتْ أَكْثَرُ الْمُسَمَّيَاتِ عَنْ أَلْفَاظِ الْأَسْمَاءِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا . وَهُوَ مُمْتَنِعٌ قَالَ : وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَسْمَاءَ إنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاهِيَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَحْصُلُ مِنْ تَضَاعُفِ التَّرْكِيبَاتِ مُتَنَاهِيَةً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَضَادَّةَ وَالْمُخْتَلِفَةَ - وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا - : غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ غَيْرَ أَنَّ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ مَقْصُودًا بِالْوَضْعِ وَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِيهِ ذَلِكَ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ؛ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَضْعُ . وَلِهَذَا يَأْتِي كَثِيرٌ مِنْ الْمَعَانِي لَمْ تَضَعْ الْعَرَبُ بِإِزَائِهَا أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ وَلَا التَّفْضِيلِ كَأَنْوَاعِ الرَّوَائِحِ وَكَثِيرٍ مِنْ الصِّفَاتِ .
قَالَ : وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ : أَطْلَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ اسْمَ " الْقُرْءِ " عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ؛ وَهُمَا ضِدَّانِ ؛ فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الِاسْمِ الْمُشْتَرِكِ فِي اللُّغَةِ . قَالَ : وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مُشْتَرِكًا غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ بَلْ غَايَةُ الْمَوْضُوعِ اتِّحَادُ الِاسْمِ وَتَعَدُّدُ الْمُسَمَّى وَلَعَلَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى وَاحِدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ حَقِيقَتِهِمَا أَوْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْأُخْرَى وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا مَوْضِعُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ . وَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى إمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي فَلِأَنَّ التَّجَوُّزَ أَوْلَى مِنْ الِاشْتِرَاكِ كَمَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ . قَالَ : وَالْأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ اتِّفَاقُ إجْمَاعِ الْكُلِّ عَلَى إطْلَاقِ اسْمِ الْوُجُودِ عَلَى الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَ مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا لَصَحَّ نَفْيُهُ إذْ هِيَ أَمَارَةُ الْمَجَازِ ؛ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْوُجُودِ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ ؛ أَوْ عَلَى حَقِيقَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى ذَاتِهِ . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَاتَ الرَّبِّ مُخَالِفَةٌ بِذَاتِهَا لِمَا سِوَاهَا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ ؛ وَإِلَّا لَوَجَبَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا شَارَكَهَا فِي مَعْنَاهَا فِي الْوُجُوبِ ؛ ضَرُورَةُ التَّسَاوِي فِي مَفْهُومِ الذَّاتِ ؛ وَهُوَ مُحَالٌ . وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ اسْمِ الْوُجُودِ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ - تَعَالَى -
فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ مِنْهَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ اسْمِ الْوُجُودِ فِي الْحَوَادِثِ ؛ وَإِمَّا خِلَافُهُ . فَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى الْوُجُودِ فِي الْوُجُودِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ ؛ ضَرُورَةَ أَنَّ وُجُودَ الْبَارِي وَاجِبٌ لِذَاتِهِ ؛ أَوْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الرَّبِّ مُمْكِنًا ؛ ضَرُورَةَ إمْكَانِ وُجُودِ مَا سِوَى اللَّهِ ؛ وَهُوَ مُحَالٌ . وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَزِمَ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ ؛ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . فَهَذَا فِي دَلِيلِهِ وَهُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ ؛ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ : عَلَى أَنَّ اسْمَ الْوُجُودِ حَقِيقَةٌ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ ؛ وَأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الِاشْتِرَاكَ . وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ قَطْعًا . وَالْأُولَى فِيهَا نِزَاعٌ ؛ خِلَافُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْإِجْمَاعِ . فَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ اسْمٍ تَسَمَّى بِهِ الْمَخْلُوقُ لَا يُسَمَّى بِهِ الْخَالِقُ إلَّا مَجَازًا حَتَّى لَفْظِ الشَّيْءِ وَهُوَ قَوْلُ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْبَاطِنِيَّةِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُسَمُّونَهُ مَوْجُودًا وَلَا شَيْئًا ؛ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ عَكَسَ وَقَالَ : بَلْ كُلَّمَا يُسَمَّى بِهِ الرَّبُّ فَهُوَ حَقِيقَةٌ ؛ وَمَجَازٌ فِي غَيْرِهِ . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ النَّاشِي مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ .
وَالْجُمْهُورُ قَالُوا : إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا ؛ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ قَالُوا : إنَّهُ مُتَوَاطِئٌ التَّوَاطُؤَ الْعَامَّ ؛ أَوْ مُشَكِّكًا إنْ جَعَلَ الْمُشَكِّكَ نَوْعًا آخَرَ ؛ وَهُوَ غَيْرُ التَّوَاطُؤِ الْخَاصِّ الَّذِي تَتَمَاثَلُ مَعَانِيهِ فِي مَوَارِدِ أَلْفَاظِهِ . وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُشْتَرَكًا شِرْذِمَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُعْرَفُ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ وَلَا نُظَّارٍ مَشْهُورِينَ . وَمَنْ حَكَى ذَلِكَ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ كَمَا حَكَاهُ الرَّازِيَّ فَقَدْ غَلِطَ ؛ فَإِنَّ مَذْهَبَ الرَّجُلِ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ : أَنَّ الْوُجُودَ اسْمٌ عَامٌّ يَنْقَسِمُ إلَى : قَدِيمٍ ؛ وَحَادِثٍ وَلَكِنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ مَاهِيَّتِه وَهَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ فَظَنَّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا كَمَا احْتَجَّ بِهِ الآمدي وَذَلِكَ غَلَطٌ كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ يَتَبَيَّنُ بِالْكَلَامِ عَلَى حُجَّتِهِ . وَقَوْلُهُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْوُجُودِ دَالًّا عَلَى الذَّاتِ ؛ أَوْ عَلَى صِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى الذَّاتِ . يُقَالُ لَهُ : أَتُرِيدُ بِهِ لَفْظَ الْوُجُودِ الْعَامِّ الْمُنْقَسِمِ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ ؛ أَمْ لَفْظَ الْوُجُودِ الْخَاصِّ ؟ كَمَا يُقَالُ : وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الرَّبُّ وَغَيْرُهُ - بَلْ كُلُّ
مُسَمَّيَيْنِ - تَارَةً تُعْتَبَرُ مُطْلَقَةً عَامَّةً تَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ ؛ وَتَارَةً تُعْتَبَرُ مُقَيَّدَةً بِهَذَا الْمُسَمَّى . وَلَفْظُ الْحَيِّ وَالْعَلِيمِ ؛ وَالْقَدِيرِ ؛ وَالسَّمِيعِ ؛ وَالْبَصِيرِ وَالْمَوْجُودِ ؛ وَالشَّيْءِ ؛ وَالذَّاتِ : إذَا كَانَ عَامًّا يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَإِذَا قِيلَ : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ : لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقَ كَمَا إذَا قِيلَ : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } لَمْ يَدْخُلْ الْخَالِقُ فِي اسْمِ هَذَا الْحَيِّ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ ؛ وَالْكَلَامُ ؛ وَالِاسْتِوَاءُ ؛ وَالنُّزُولُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : تَارَةً يُذْكَرُ مُطْلَقًا عَامًّا : وَتَارَةً يُقَالُ : عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ ؛ وَكَلَامُهُ ؛ وَنُزُولُهُ ؛ وَاسْتِوَاؤُهُ : فَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْخَالِقِ ؛ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ الْمَخْلُوقُ . كَمَا إذَا قِيلَ : عِلْمُ الْمَخْلُوقِ وَقُدْرَتُهُ : وَكَلَامُهُ ؛ وَنُزُولُهُ ؛ وَاسْتِوَاؤُهُ فَهَذَا يَخْتَصُّ بِالْمَخْلُوقِ وَلَا يَشْرَكُهُ فِيهِ الْخَالِقُ . فَالْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ خَصَّصَ وَمَيَّزَ وَقَطَعَ الِاشْتِرَاكَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ . وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ لَفْظُ الْوُجُودِ مُطْلَقًا وَقِيلَ : وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ . فَإِذَا قِيلَ : وُجُودُ الْعَبْدِ وَذَاتُهُ وَمَاهِيَّتُه وَحَقِيقَتُهُ كَانَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِهِ دَالًّا عَلَى ذَاتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ الْمُتَّصِفَةِ بِصِفَاتِهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ : وُجُودُ الرَّبِّ وَنَفْسِهِ ؛ وَذَاتُهُ ؛ وَمَاهِيَّتُه وَحَقِيقَتُهُ : كَانَ دَالًّا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ : وَهُوَ نَفْسُهُ الْمُتَّصِفَةُ بِصِفَاتِهِ . فَقَوْلُهُ : اسْمُ الْوُجُودِ إمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ ؛ أَوْ صِفَةٍ زَائِدَةٍ . يُقَالُ لَهُ : إنْ أَرَدْت لَفْظَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ ؛ فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْوَاجِبِ وَلَا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْمُمْكِنِ ؛ بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ وَالْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ إنَّمَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا فِي الذِّهْنِ وَاللَّفْظِ وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ هُوَ نَفْسُهُ كُلِّيٌّ مَعَ كَوْنِهِ فِي الْخَارِجِ . وَهَذَا كَمَا إذَا قِيلَ : الذَّاتُ وَالنَّفْسُ : بِحَيْثُ يَعُمُّ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ الْكُلِّيِّ لَا عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا كَمَا إذَا قِيلَ : الْوُجُودُ يَنْقَسِمُ إلَى : وَاجِبٍ ؛ وَمُمْكِنٍ . وَالذَّاتُ تَنْقَسِمُ إلَى : وَاجِبٍ : وَمُمْكِنٍ . وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَأَمَّا إنْ أُرِيدَ بِالْوُجُودِ مَا يَعُمُّهُمَا جَمِيعًا كَمَا إذَا قِيلَ : الْوُجُودُ كُلُّهُ وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ ؛ أَوْ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ فَهُنَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ مِنْهُمَا كَمَا إذَا قِيلَ : وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ . فَفِي الْجُمْلَةِ اللَّفْظُ : إمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ فَقَطْ كَالْوُجُودِ الْمُنْقَسِمِ أَوْ عَلَى الْمُمَيَّزِ فَقَطْ كَقَوْلِ : وُجُودِ الْوَاجِبِ : وَقَوْلِ : وُجُودِ الْمُمْكِنِ
أَوْ عَلَيْهِمَا كَقَوْلِك : الْوُجُودُ كُلُّهُ وَاجِبُهُ وَمُمْكِنُهُ ؛ وَالْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ . وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ . وَقَوْلُهُ : إذَا كَانَ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ فَذَاتُهُ مُخَالِفَةٌ لِمَا سِوَاهَا مِنْ الْمَوْجُودَاتِ يُقَالُ : لَفْظُ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ الْمُنْقَسِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ وَأَمَّا لَفْظُ الْوُجُودِ الْخَاصِّ لِوُجُودِ الرَّبِّ أَوْ الْعَامِّ كَقَوْلِنَا : الْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِذَاتِ الرَّبِّ وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِذَاتِ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ ذَاتِ الرَّبِّ وَذَاتِ الْعَبْدِ تَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالرَّبِّ وَبِالْعَبْدِ : وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةُ هَذَا مُخَالِفًا لِحَقِيقَةِ هَذَا فَكَذَلِكَ لَفْظُ الْوُجُودِ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا مَعَ اخْتِلَافِ حَقِيقَةِ الْمَوْجُودَيْنِ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ حَقِيقَةُ هَذَا الْوُجُودِ يُخَالِفُ حَقِيقَةَ هَذَا الْوُجُودِ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا . قِيلَ : هَذَا غَلَطٌ مِنْهُ نَشَأَ غَلَطُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ : وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ تَتَّفِقُ فِي أَسْمَاءٍ عَامَّةٍ تُتَنَاوَلُ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ وَالتَّشْكِيكِ كَلَفْظِ اللَّوْنِ ؛ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ وَالْحُمْرَةَ مَعَ اخْتِلَافِ حَقَائِقِ الْأَلْوَانِ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ الصِّفَةِ وَالْعَرَضِ وَالْمَعْنَى يَتَنَاوَلُ الْعِلْمَ ؛ وَالْقُدْرَةَ ؛ وَالْحَيَاةَ وَالطَّعْمَ ؛ وَاللَّوْنَ : وَالرِّيحَ مَعَ اخْتِلَافِ حَقَائِقِ الْأَلْوَانِ .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحَيَوَانِ يَتَنَاوَلُ الْإِنْسَانَ وَالْبَهِيمَةَ مَعَ اخْتِلَافِ حَقَائِقِهِمَا فَلَفْظُ الْوُجُودِ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ قَدْ تَشْتَرِكُ فِي مَعْنًى عَامٍّ يَشْمَلُهَا ؛ وَيَكُونُ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى كَلَفْظِ اللَّوْنِ ثُمَّ بِالتَّخْصِيصِ يَتَنَاوَلُ مَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ كَمَا يُقَالُ : لَوْنُ الْأَسْوَدِ وَلَوْنُ الْأَبْيَضِ وَقِيلَ : وُجُودُ الرَّبِّ وَوُجُودُ الْعَبْدِ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِالِاسْمِ الْعَامِّ الْمُتَنَاوِلِ لِأَفْرَادِهِ كَمَا إذَا قِيلَ : اللَّوْنُ أَوْ الْأَلْوَانُ ؛ أَوْ الْحَيَوَانُ ؛ وَالْعَرَضُ ؛ أَوْ الْوُجُودُ : يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَتْ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً ؛ لِشُمُولِ اللَّفْظِ لَهَا كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ وَإِنْ كَانَتْ أَفْرَادُهَا تَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ آخَرَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : إنْ كَانَ مَدْلُولُ اسْمِ الْوُجُودِ صِفَةً فَإِنْ كَانَ الْمَفْهُومُ وَاحِدًا فِي الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ : لَزِمَ كَوْنُ الْوَاجِبِ مُمْكِنًا وَالْمُمْكِنِ وَاجِبًا وَإِلَّا لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ . يُقَالُ لَهُ : أَتَعْنِي مَدْلُولَ الِاسْمِ الْوُجُودَ الْمُطْلَقَ أَوْ الْمُقَيَّدَ الْمُضَافَ ؟ كَمَا إذَا قِيلَ : وُجُودُ الْوَاجِبِ ؛ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ ؟ فَإِنْ عَنَيْت الْأَوَّلَ فَالْمَفْهُومُ وَاحِدٌ وَلَا يَلْزَمُ تَمَاثُلُهُمَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ ؛ وَإِنْ كَانَ مَا فِي الذِّهْنِ مِنْ مَعْنَى الْوُجُودِ مُمَاثِلًا لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي الْخَارِجِ مِنْهُ مُتَمَاثِلًا
وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يُطَابِقَ الِاثْنَيْنِ وَيَعُمَّهُمَا فَقَطْ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُتَوَاطِئَةِ الْمُشَكِّكَةِ إذَا قِيلَ : السَّوَادُ شَارَكَ سَوَادَ الْقَارِ وَالْحِبْرِ مَعَ عَدَمِ تَمَاثُلِهِمَا وَإِذَا قِيلَ : الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ وَالنَّاقِصَ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْحَيِّ يَتَنَاوَلُ حَيَاةَ الْمَلَائِكَةِ وَحَيَاةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَحَيَاةَ الذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ مَعَ عَدَمِ تَمَاثُلِهِمَا فَكَيْفَ يَكُونُ وُجُودُ الرَّبِّ أَوْ عِلْمُهُ أَوْ قُدْرَتُهُ مُمَاثِلًا لِوُجُودِ الْمَخْلُوقِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ ؟ إذْ يَشْمَلُهَا اسْمُ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْقُدْرَةِ الْمُطْلَقَةِ . وَإِنْ قَالَ : بَلْ أَعْنِي بِهِ الْوُجُودَ الْمُقَيَّدَ مِثْلَ قَوْلِنَا : وُجُودُ الْوَاجِبِ وَوُجُودُ الْمُمْكِنِ . قِيلَ : هُنَا الْمَفْهُومُ يَخْتَلِفُ ؛ لِاخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَفْظِ قَيَّدَ بِهِ الْوُجُودَ وَهُوَ الْإِضَافَةُ فَهَذِهِ الْإِضَافَةُ الْمُقَيَّدَةُ تَمْنَعُ التَّمَاثُلَ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ اللَّفْظِيُّ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَا يَحْصُلُ فِي نَفْسِ لَفْظِ الْوُجُودِ بَلْ الْإِضَافَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى اللَّفْظِ وَالْإِضَافَةُ أَوْ التَّعْرِيفُ كَقَوْلِنَا : وُجُودُ الرَّبِّ أَوْ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ وَوُجُودُ الْمَخْلُوقِ ؛ أَوْ الْوُجُودُ الْمُمْكِنُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَهَذَا الَّذِي احْتَجَّ بِهِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِيمَا يُسَمَّى بِهِ الرَّبُّ وَالْعَبْدُ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْحُجَّةِ الَّتِي
احْتَجَّ بِهَا عَلَى الْمَجَازِ حَيْثُ قَالَ : إنْ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ ؛ وَهُوَ غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ الَّذِي دَلَّ عَلَى خُصُوصِ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى خُصُوصِ ذَاكَ بَلْ الزَّائِدُ عَلَى اللَّفْظِ . فَإِذَا قِيلَ : وُجُودُ الرَّبِّ وَوُجُودُ الْعَبْدِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ وَظَهْرِ الْفَرَسِ كَمَا تَقُولُ ظَهْرَ الْإِنْسَانِ وَظَهْرَ الطَّرِيقِ يَعْنِي جَمِيعَ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الدَّالِّ عَلَى مَا يُخَالِفُ بِهِ هَذَا هُوَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِكُلِّ مَوْضِعٍ لَا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ بَلْ الْمُشْتَرَكُ يَدُلُّ عَلَى الْمُشْتَرَكِ . وَالْمُخْتَصُّ يَدُلُّ عَلَى الْمُخْتَصِّ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ بَيْنَ الظَّهْرَيْنِ جِهَةَ اتِّفَاقٍ وَافْتِرَاقٍ وَكَذَلِكَ بَيْن الْوُجُودَيْنِ جِهَةُ اتِّفَاقٍ وَافْتِرَاقٍ وَهُوَ الَّذِي يَعْنِي بِهِ الِاشْتِرَاكَ وَالِامْتِيَازَ لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ؛ وَذَلِكَ غَلَطٌ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مُخْتَصٌّ بِالْخَارِجِ وَلَكِنَّ الذِّهْنَ يَأْخُذُ مِنْهُمَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا وَيُقَالُ : هُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الْوُجُودِ والحيوانية والإنسانية كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } وَقَالَ : { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } فَالْعَذَابُ الَّذِي يُصِيبُ الْآخَرَ هُوَ نَظِيرُهُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِهِ اشْتِرَاكًا فِي جِنْسِ الْعَذَابِ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ وَلَكِنْ اشْتَرَكَا فِي الْعَذَابِ الْخَاصِّ . بِمَعْنَى : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ كَالْمُشْتَرَكِينَ فِي الْعَقَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
الْجَوَابُ السَّادِسُ : أَنْ يُقَالَ : مَنَعَ " الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ " قَوْلُهُ : لَوْ كَانَ مُشْتَرِكًا لَمَا سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ إنَّمَا هُوَ السَّبُعُ وَمِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْحِمَارِ إنَّمَا هُوَ الْبَهِيمَةُ وَكَذَلِكَ مَا فِي الضَّرُورَةِ . فَيُقَالُ : إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَسَدِ وَالْحِمَارِ الْمُعَرَّفِ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُتَكَلِّمُ أَوْ الْمُخَاطَبُ وَإِذَا كَانَ الْمُعَرَّفُ هُوَ الْبَهِيمَةَ انْصَرَفَ إلَيْهَا وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ مُعَرَّفًا يُوجِبُ انْصِرَافَهُ إلَى الْبَلِيدِ وَالشُّجَاعِ وَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً أَيْضًا كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ : لَاهَا اللَّهَ إذًا لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أَسَدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يُعْطِيَك سَلْبَهُ . وَكَمَا أُشِيرَ إلَى شَخْصٍ وَقِيلَ : هَذَا الْأَسَدُ أَوْ إلَى بَلِيدٍ وَقِيلَ : هَذَا الْحِمَارُ . فَالتَّعْرِيفُ هُنَا عَيَّنَهُ وَقَطَعَ إرَادَةَ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ وَالْبُيُوتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ الَّذِي يُؤْكَلُ فِي الْعَادَةِ ؛ وَالْبُيُوتِ إلَى مَسَاكِنِ النَّاسِ ثُمَّ إذَا قِيلَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ وَبَيْضُ النَّمْلِ وَرُءُوسُ الْجَرَادِ كَانَ أَيْضًا حَقِيقَةً بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . الْجَوَابُ السَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : أَنْتَ جَعَلْت دَلِيلَ الْحَقِيقَةِ أَنْ يَسْبِقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ فَاعْتَبَرْت فِي الْمُسْتَمِعِ السَّابِقِ إلَى فَهْمِهِ ؛
وَفِي الْمُتَكَلِّمِ إطْلَاقَ لَفْظِهِ وَهَذَا لَا ضَابِطَ لَهُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْبِقُ إلَى فَهْمِ الْمُسْتَمِعِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَإِذَا قَالَ : ظَهْرُ الطَّرِيقِ وَمَتْنُهَا لَمْ يَسْبِقْ إلَى فَهْمِهِ ظَهْرُ الْحَيَوَانِ أَلْبَتَّةَ بَلْ مُمْتَنِعٌ عِنْدَهُ إرَادَتُهُ . الْجَوَابُ الثَّامِنُ : قَوْلُك : مِنْ إطْلَاقِ جَمِيعِ اللَّفْظِ : كَلَامٌ مُجْمَلٌ ؛ فَإِنْ أَرَدْت كَوْنَ اللَّفْظِ مُطْلَقًا عَنْ الْقُيُودِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ قَطُّ ؛ فَإِنَّ النَّظَرَ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي كَلَامِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ : كَلَامُ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَالْجِنِّ وَسَائِرِ بَنِي آدَمَ وَالْأُمَمِ لَا يُوجَدُ إلَّا مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ إمَّا فِي ضِمْنِ جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ وَلَا يُوجَدُ إلَّا مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِهِ إلَّا إذَا عُرِفَتْ عَادَةُ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَهُنَا لَفْظٌ مُقَيَّدٌ مَقْرُونٌ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَمُتَكَلِّمٌ قَدْ عُرِفَتْ عَادَتُهُ وَمُسْتَمِعٌ قَدْ عَرَفَ عَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ فَهَذِهِ الْقُيُودُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كَلَامٍ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُطْلَقًا عَنْهُ . فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدٍ دُونَ قَيْدٍ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ . فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : يَرْجِعُ إلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ اللَّفْظِ . الْجَوَابُ التَّاسِعُ : أَنْ يُقَالَ لَهُ : اُذْكُرْ أَيَّ قَيْدٍ شِئْت وَفَرِّقْ بَيْنَ مُقَيِّدٍ وَمُقَيَّدٍ ؛ فَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا إلَّا اُنْتُقِضَ وَأُبَيِّنُ لَك مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي تَذْكُرُهَا فَارِقَةً بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنَّ مَا جَعَلْته حَقِيقَةً تَجْعَلُهُ مَجَازًا وَمَا
جَعَلْته مَجَازًا تَجْعَلُهُ حَقِيقَةً وَأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الْفَارِقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ مَنْ لَا يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُمْكِنَهُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ التَّعْبِيرَ فَرْعُ التَّصَوُّرِ فَمَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا إلَّا كَانَ خَطَأً .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا حُجَّتُهُ الثَّانِيَةُ ، فَقَوْلُهُ : كَيْفَ وَأَنَّ أَهْلَ الْأَعْصَارِ لَمْ تَزَلْ تَتَنَاقَلُ فِي أَقْوَالِهَا وَكُتُبِهَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ تَسْمِيَةَ هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا فَيُقَالُ : هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ قَطْعًا فَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ أَنَّهُمْ قَالُوا : هَذَا حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ هَذَا لَمْ يَقَعْ مِنْ أَهْلِ الْوَضْعِ وَلَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَحَدٌ مِمَّنْ نَقَلَ لُغَتَهُمْ بَلْ وَلَا ذَكَرَ هَذَا أَحَدٌ عَنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ وَبَيَّنُوا مَعَانِيَهُ وَمَا يَدُلُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَالَ : هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ ؛ وَهَذَا مَجَازٌ وَلَا مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ لَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ وَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ وَلَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَصْحَابُهُ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ وَلَا مُجَاهِدٌ وَلَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَلَا عِكْرِمَةُ وَلَا الضَّحَّاكُ وَلَا طاوس وَلَا السدي وَلَا قتادة وَلَا غَيْرُ هَؤُلَاءِ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ كَالْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا الثَّوْرِيُّ وَلَا الأوزاعي وَلَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَلَا غَيْرُهُ . وَإِنَّمَا وُجِدَ فِي كَلَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ لَكِنْ بِمَعْنَى آخَرَ كَمَا أَنَّهُ وُجِدَ فِي كَلَامِ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى بِمَعْنَى آخَرَ . وَلَمْ يُوجَدْ أَيْضًا تَقْسِيمُ الْكَلَامِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ كَأَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَأَبِي عَمْرٍو الشيباني وَأَبِي زَيْدٍ ؛ وَالْأَصْمَعِيِّ ؛ وَالْخَلِيلِ ؛ وَسِيبَوَيْهِ ؛ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ ؛ وَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ عَنْ الْعَرَبِ . وَهَذَا يَعْلَمُهُ بِالِاضْطِرَارِ مَنْ طَلَبَ عِلْمَ ذَلِكَ كَمَا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْعَرَبِ أَنَّهَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِاصْطِلَاحِ النُّحَاةِ الَّتِي قَسَّمَتْ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ : فَاعِلًا وَاللَّفْظَ الْآخَرَ مَفْعُولًا ؛ وَلَفْظًا ثَالِثًا مَصْدَرًا ؛ وَقَسَّمَتْ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ : مُعْرَبًا ؛ وَبَعْضَهَا مَبْنِيًّا . لَكِنْ يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا اصْطِلَاحُ النُّحَاةِ لَكِنَّهُ اصْطِلَاحٌ مُسْتَقِيمُ الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَنْ اصْطَلَحَ عَلَى لَفْظِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ؛ فَإِنَّهُ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ فِي هَذَا الْمَعْنَى : إذْ لَيْسَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يَخُصَّ هَذَا بِلَفْظِ وَهَذَا بِلَفْظِ بَلْ أَيُّ مَعْنًى خَصُّوا بِهِ اسْمَ الْحَقِيقَةِ وُجِدَ فِيمَا سَمَّوْهُ مَجَازًا وَأَيُّ مَعْنًى خَصُّوا بِهِ اسْمَ الْمَجَازِ يُوجَدُ فِيمَا سَمَّوْهُ حَقِيقَةً وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ . وَلَيْسُوا مُطَالَبِينَ بِمَا يُقَالُ : إنَّ حَدَّ الْحَقِيقِيِّ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجِنْسِ
وَالْفَصْلِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ يُطَالَبُوا بِهِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ بَاطِلًا ؟ بَلْ الْمَطْلُوبُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِّ اللَّفْظِيِّ كَمَا يُمَيَّزُ بَيْنَ مُسَمَّى الِاسْمِ الْمُعْرَبِ وَالْمَبْنِيِّ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ ؛ وَيُمَيَّزُ بَيْنَ مُسَمَّيَاتِ سَائِرِ الْأَسْمَاءِ فَيُطَالَبُونَ بِمَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا سَمَّوْهُ حَقِيقَةً وَمَا سَمَّوْهُ مَجَازًا وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ نَوْعَانِ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ حَتَّى يُسَمَّى هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا . وَهَذَا بَحْثٌ عَقْلِيٌّ غَيْرُ الْبَحْثِ اللَّفْظِيِّ ؛ فَإِنَّهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ . قَدْ ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ وَالْفَرْقَ مَنْقُولٌ عَنْ الْعَرَبِ وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ كَمَا يَغْلَطُ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ وَالْفَرْقَ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَأَنَّ هَذَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ يُشْبِهُ أَنَّ الْوَاحِدَ تَرَبَّى عَلَى اصْطِلَاحٍ اصْطَلَحَهُ طَائِفَةٌ فَيَظُنُّ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ كَانَ هَذَا اصْطِلَاحَهُمْ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْعَرَبَ قَسَّمَتْ هَذَا التَّقْسِيمَ أَوْ أَنَّ هَذَا أُخِذَ عَنْهَا تَوْقِيفٌ كَمَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَغَلَطُهُ أَظْهَرُ وَقَدْ وُجِدَ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمْ .
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا دَعْوَى تَوَاتُرِ هَذَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ وَعَنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ لَمْ يَزَلْ يَتَنَاقَلُ فِي أَقْوَالِهَا وَكُتُبِهَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ تَسْمِيَةُ هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا وَهَذَا التَّوَاتُرُ الَّذِي ادَّعَاهُ لَا يُمْكِنُهُ وَلَا غَيْرُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِخَبَرِ وَاحِدٍ فَضْلًا عَنْ هَذَا التَّوَاتُرِ الَّذِي ادَّعَاهُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا حُجَّةُ الْنُّفَاةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَإِنَّهُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظٌ مَجَازِيٌّ فَإِمَّا أَنْ يُقَيَّدَ مَعْنَاهُ بِقَرِينَةٍ ؛ أَوْ لَا يُقَيَّدَ بِقَرِينَةٍ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مَعَ الْقَرِينَةِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فَكَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةً فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى . وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ أَيْضًا حَقِيقَةٌ ؛ إذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِالْإِفَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ . ثُمَّ قَالَ : قُلْنَا : جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُفِيدُ عِنْدَ عَدَمِ الشُّهْرَةِ إلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ إلَّا هَذَا وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ ؟ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ . فَيُقَالُ : هُوَ قَدْ سَلَّمَ أَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ فَيُقَالُ : إذَا كَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَهَذَا التَّفْرِيقُ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ ؛ وَلَا أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ ؛ وَلَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ؛ وَلَا السَّلَفُ : كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْأَلْفَاظِ الْمَوْجُودَةِ الَّتِي تَكَلَّمُوا بِهَا وَنَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَوْلَى مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِاصْطِلَاحِ
حَادِثٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ وَإِذَا كَانَ فِيهِ مَفَاسِدُ كَانَ يَنْبَغِي تَرْكُهُ لَوْ كَانَ الْفَرْقُ مَعْقُولًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْفَرْقُ غَيْرَ مَعْقُولٍ وَفِيهِ مَفَاسِدُ شَرْعِيَّةٌ وَهُوَ إحْدَاثٌ فِي اللُّغَةِ كَانَ بَاطِلًا عَقْلًا وَشَرْعًا وَلُغَةً . أَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فِيهِ هَذَا عَنْ هَذَا وَأَمَّا الشَّرْعُ فَإِنَّ فِيهِ مَفَاسِدَ يُوجِبُ الشَّرْعُ إزَالَتَهَا وَأَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ تَغْيِيرَ الْأَوْضَاعِ اللُّغَوِيَّةِ غَيْرُ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ بَلْ مَعَ وُجُودِ الْمَفْسَدَةِ . فَإِنْ قِيلَ : وَمَا الْمَفَاسِدُ ؟ قِيلَ : مِنْ الْمَفَاسِدِ أَنَّ لَفْظَ الْمَجَازِ الْمُقَابِلِ لِلْحَقِيقَةِ سَوَاءٌ جُعِلَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ أَوْ مِنْ عَوَارِضِ الِاسْتِعْمَالِ يُفْهِمُ وَيُوهِمُ نَقْصَ دَرَجَةِ الْمَجَازِ عَنْ دَرَجَةِ الْحَقِيقَةِ لَا سِيَّمَا وَمِنْ عَلَامَاتِ الْمَجَازِ صِحَّةُ إطْلَاقِ نَفْيِهِ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِرَحِيمِ وَلَا بِرَحْمَنِ ؛ لَا حَقِيقَةً بَلْ مَجَازٌ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلِقُونَهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ؛ وَقَالَ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ كَمَا ذَكَرَ هَذَا الآمدي مِنْ أَنَّ الْعُمُومَ الْمَخْصُوصَ مَجَازٌ وَقَالَ مِنْ جِهَةِ مُنَازِعِهِ : فَإِنْ قِيلَ : لَوْ قَالَ : " لَا إلَهَ " تَامَّةٌ مُطْلَقَةٌ يَكُونُ كُفْرًا وَلَوْ اقْتَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ . وَهُوَ قَوْلُهُ : " إلَّا اللَّهُ " كَانَ إيمَانًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتَ طَالِقٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً بِتَنْجِيزِ الطَّلَاقِ وَلَوْ اقْتَرَنَ بِهِ الشَّرْطُ وَهُوَ قَوْلُهُ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ : كَانَ
تَعْلِيقًا مَعَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالشَّرْطَ لَهُ مَعْنًى . وَلَوْلَا الدَّلَالَةُ وَالْوَضْعُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ . قُلْنَا : لَا نُسَلِّمُ التَّغْيِيرَ فِي الْوَضْعِ بَلْ غَايَتُهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَمَّا اقْتَضَاهُ مِنْ جِهَةِ إطْلَاقِهِ إلَى غَيْرِهِ بِالْقَرِينَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِي " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " إذَا كَانَتْ مِنْ مَوْرِدِ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ كُلَّ عَامٍّ خُصَّ وَلَوْ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَانَ مَجَازًا ؛ فَيَكُونُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " عِنْدَهُ مَجَازًا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ فِي الشَّرْعِ وَقَائِلُهُ إلَى أَنْ يُسْتَتَابَ - فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ - أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى أَنْ يُجْعَلَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ هَذَا الْقَائِلُ مُفْتَرٍ عَلَى اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِلَفْظِ " لَا إلَهَ " مُجَرَّدًا وَلَا كَانُوا نَافِينَ لِلصَّانِعِ حَتَّى يَقُولُوا : " لَا إلَهَ " بَلْ كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قَالَ تَعَالَى : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ } وَلِهَذَا قَالُوا : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } . وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ يُثْبِتُ تَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ وَيَعِيبُ عَلَيْهِمْ الشِّرْكَ وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَا دَعَا الْخَلْقَ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَالَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ } وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَكُونُوا يُنَازِعُونَهُ فِي
الْإِثْبَاتِ بَلْ فِي النَّفْيِ فَكَانَ الرَّسُولُ وَالْمُشْرِكُونَ مُتَّفِقِينَ عَلَى إثْبَاتِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ كَانَ الرَّسُولُ يَنْفِي إلَهِيَّةَ مَا سِوَى اللَّهِ وَهُمْ يُثْبِتُونَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ لَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ : بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ إلَّا لِإِثْبَاتِ إلَهِيَّةِ اللَّهِ وَلِنَفْيِ إلَهِيَّةِ مَا سِوَاهُ وَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا يُثْبِتُونَ إلَهِيَّةَ مَا سِوَاهُ مَعَ إلَهِيَّتِهِ أَمَّا الْآلِهَةُ مُطْلَقًا بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَمْ يَكُونُوا مِمَّا يَعْتَقِدُونَهُ حَتَّى يُعَبِّرُوا عَنْهُ فَكَيْفَ يُقَالُ : هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي وَضَعُوا لَهُ هَذَا اللَّفْظَ فِي أَصْلِ لُغَتِهِمْ ؟ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : لَا نُسَلِّمُ تَغْيِيرَ الدَّلَالَةِ بَلْ غَايَتُهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَمَّا اقْتَضَاهُ مِنْ جِهَةِ إطْلَاقِهِ إلَى غَيْرِهِ بِالْقَرِينَةِ . فَيُقَالُ لَهُ : وَهَذِهِ مَغْلَطَةٌ ؛ فَإِنَّهُ فِي حَالِ الْقَيْدِ لَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا وَهُوَ لَا يَقْتَضِي النَّفْيَ الْعَامَّ إذَا كَانَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ فَأَمَّا مَعَ الْقَيْدِ فَقَوْلُهُ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " اللَّفْظُ مُطْلَقًا فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ صُرِفَ عَمَّا كَانَ يَقْتَضِيهِ لَوْ كَانَ مُطْلَقًا ؟ فَلَوْ كَانَ مُطْلَقًا لَكَانَ يَقْتَضِي النَّفْيَ الْعَامَّ فَبِالتَّقْيِيدِ زَالَ الْإِطْلَاقُ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى تَغْيِيرِ الدَّلَالَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ بَطَلَتْ وَصَارَتْ لَهُ دَلَالَةٌ أُخْرَى عِنْدَ التَّقْيِيدِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فَخَرَجَ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ فِي اللَّفْظِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ وَعِنْدَ أَهْلِ الْوَقْفِ فَخَرَجَ مِنْ اللَّفْظِ مَا لَوْلَاهُ لَصَلَحَ أَنْ يَدْخُلَ فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا يَخْرُجُ مِنْ اللَّفْظِ مَا دَخَلَ بَلْ مَا لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ
يَمْنَعُ ذَلِكَ الِاقْتِضَاءَ فَلَمْ يَبْقَ اللَّفْظُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ مُقْتَضِيًا لِنَفْيِ الْمُسْتَثْنِي أَلْبَتَّةَ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مُقْتَضِيًا بِقَوْلِهِ صَرْفُهُ عَنْ مُقْتَضَاهُ مِنْ جِهَةِ إطْلَاقِهِ لَيْسَ بِسَدِيدِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُقْتَضِيًا مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ اسْتِثْنَاءٌ وَلَا يُصْرَفُ شَيْءٌ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا بَلْ مُقَيَّدًا بِالِاسْتِثْنَاءِ فَلَيْسَ هُنَاكَ إطْلَاقٌ يَكُونُ لَهُ اقْتِضَاءٌ وَلَا هُنَاكَ لَفْظٌ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسْتَثْنَى وَلَا هُنَاكَ مُسْتَثْنًى مَنْفِيٌّ . وَأَيْضًا مِنْ مَفَاسِدِ هَذَا جَعْلُ عَامَّةِ الْقُرْآنِ مَجَازًا كَمَا صَنَّفَ بَعْضُهُمْ مَجَازَاتِ الْقِرَاءَاتِ وَكَمَا يُكْثِرُونَ مِنْ تَسْمِيَةِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَجَازًا وَذَلِكَ يُفْهَمُ وَيُوهِمُ الْمَعَانِيَ الْفَاسِدَةَ هَذَا إذَا كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعَانِي صَحِيحًا فَكَيْفَ وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ مَا لَيْسَ بِمَجَازِ مَجَازًا ؟ وَيَنْفُونَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَعَانِي الثَّابِتَةِ وَيُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ كَمَا وُجِدَ ذَلِكَ لِلْمُتَوَسِّعِينَ فِي الْمَجَازِ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : كَيْفَ وَالْمَجَازُ وَالْحَقِيقَةُ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ ؟ . فَيُقَالُ : أَوَّلًا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عِنْدَكُمْ بَلْ كَثِيرًا مَا تَجْعَلُونَ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ اسْمًا لِلْمَعْنَى فَتَقُولُونَ : حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ كَذَا وَمَجَازُهُ كَذَا ؛ وَتَقُولُونَ حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ فَتَجْعَلُونَهُ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ تَارَةً وَمِنْ
عَوَارِضِ الْمَعْنَى أُخْرَى وَقَدْ تَجْعَلُونَهُ مِنْ عَوَارِضِ الِاسْتِعْمَالِ فَيُقَالُ : اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَقِيقَةٌ وَفِي هَذَا مَجَازٌ . ثُمَّ يُقَالُ : لَا ضَابِطَ لِهَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ مَنْ يَجْعَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ حَقِيقَةً . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ مَجَازًا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا جَمِيعًا كَمَا قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْعُمُومِ وَالْأَمْرُ إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ : هُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ تَنَاقُضَ هَذَا الْأَصْلِ . ثُمَّ يُقَالُ : هَبْ أَنَّ هَذَا مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ : فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عَوَارِضِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ مَعْنَاهُ فَقَوْلُك : هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ : بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يَدُلّ قَطُّ إلَّا بِقَرَائِنَ مَعْنَوِيَّةٍ وَهُوَ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ عَاقِلًا لَهُ عَادَةً بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى ؛ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِعَادَتِهِ وَالْمُسْتَمِعُ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهَذِهِ كُلُّهَا قَرَائِنُ مَعْنَوِيَّةٌ تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَلَا يَدُلُّ اللَّفْظُ إلَّا مَعَهَا . فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ مَعَ تَجَرُّدِهِ عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ الْعَقْلِيَّةِ : غَلَطٌ . الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ : أَنْتَ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ : فَإِنَّ
الْعَامِلَ الْمَخْصُوصَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَالْبَدَلِ إنَّمَا اقْتَرَنَ بِهِ قَرَائِنُ لَفْظِيَّةٌ ؛ وَقَدْ جَعَلْته مَجَازًا وَأَيْضًا فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ خَالِدًا سَيْفٌ سَلَّهُ اللَّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ } وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أَسَدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَمَا مَثَّلْت بِهِ مِنْ قَوْلِهِ : ظَهْرِ الطَّرِيقِ ؛ وَمَتْنِهِ هِيَ قَرَائِنُ لَفْظِيَّةٌ بِهَا عُرِفَ الْمَعْنَى وَهُوَ عِنْدَك مَجَازٌ . الثَّالِثُ : أَنْ نَقُولَ : اُذْكُرْ لَنَا ضَابِطًا مِنْ الْقَرَائِنِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ حَقِيقَةً وَالْقَرَائِنِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا مَجَازًا فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ لَا سَبِيلَ لَك إلَيْهِ ؛ لِبُطْلَانِ الْفَرْقِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . الرَّابِعُ : أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَى قَرِينَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ فَلَوْ قِيلَ لَك : الْحَقِيقَةُ اسْمٌ لِنَفْسِ اللَّفْظِ لَكَانَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مَا يُبَيِّنُ مَعْنَاهُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْقَرِينَةُ لَفْظِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً وَلَفْظُ الْحَقِيقَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ اسْمُ اللَّفْظِ لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ . الْخَامِسُ : أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَك : أَنَا أَجْعَلُ لَك لَفْظَ الْحَقِيقَةِ اسْمًا لِلَّفْظِ وَلِمَا اقْتَرَنَ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ لَك جَوَابٌ عَنْ هَذَا إلَّا أَنْ يَقُولَ : أَنَا أَجْعَلُهُ اسْمًا لِلَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ دُونَ الْمَعْنَوِيَّةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ مَعَك إلَّا مُجَرَّدُ تَحَكُّمٍ قَابَلْت بِهِ تَحَكُّمًا وَلَيْسَ تَحَكُّمُك أَوْلَى
فَكَيْفَ تَجْعَلُ ذَلِكَ حُجَّةً مَعْنَوِيَّةً عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ خَصْمِك ؟ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ " بِالْوَجْهِ السَّادِسِ " : وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُك : كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ ؟ لَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ حِكَايَةِ اللَّفْظِ الَّذِي ابْتَدَعْته فَإِذَا قَالَ لَك الْمُنَازِعُ : بَلْ الْحَقِيقَةُ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الدَّالِّ مِنْ اللَّفْظِ وَالْقَرِينَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَانَ قَدْ قَابَلَ اصْطِلَاحَك بِاصْطِلَاحِهِ الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ مِنْ اصْطِلَاحِك حَيْثُ سَمَّى جَمِيعَ الْبَيَانِ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ عِبَادَهُ حَقِيقَةً وَأَنْتَ جَعَلْت كَثِيرًا مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَهُ مَجَازًا . فَإِنْ قُلْت : فَهَذَا النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ قِيلَ لَك : فَهَذَا جَوَابُك الْأَوَّلُ ؛ وَهُوَ قَوْلُك : النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ . قَوْلُهُ : لِي بَعْدَ هَذَا جَوَابٌ آخَرُ ؛ وَهُوَ قَوْلُك : كَيْفَ وَأَنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ ؟ فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ يَقْتَضِي أَنَّك ذَكَرْت جَوَابًا ثَانِيًا غَيْرَ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا إعَادَةُ مَعْنَى ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ هُوَ أَنَّا اصْطَلَحْنَا عَلَى أَنْ يُسَمَّى بِالْحَقِيقَةِ اللَّفْظُ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَك إلَّا اعْتِرَافُك بِأَنَّ النِّزَاعَ لَفْظِيٌّ فَلَوْ كَانَ الِاصْطِلَاحُ مُسْتَقِيمًا : لَمْ يَكُنْ نفاة الْمَجَازِ الَّذِينَ سَمَّوْا جَمِيعَ الْكَلَامِ حَقِيقَةً إذَا كَانَ قَدْ بَيَّنَ بِهِ الْمُرَادَ : بِأَنْقَصَ
حَالًا مِمَّنْ سَمَّى مَا هُوَ مِنْ خِيَارِ الْكَلَامِ وَأَحْسَنِهِ وَأَتَمِّهِ بَيَانًا : مَجَازًا وَجَعَلَهُ فَرْعًا فِي اللُّغَةِ لَا أَصْلًا ؛ وَوَضْعًا حَادِثًا غَيَّرَ بِهِ الْوَضْعَ الْمُتَقَدِّمَ ؛ وَجَعَلَهُ تَابِعًا لِغَيْرِهِ لَا مَتْبُوعًا .
فَصْلٌ :
وَقَدْ ذَكَرَ نُفَاةِ الْمَجَازِ حُجَّةً ضَعِيفَةً وَهِيَ قَوْلُهُمْ : وَأَيْضًا مَا مِنْ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ إلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ الْخَاصِّ بِهَا فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ فِيهَا مَعَ افْتِقَارِهِ إلَى الْقَرِينَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بَعِيدٌ عَنْ أَهْلِ الْحِكْمَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي وَضْعِهِمْ . وَقَدْ أَجَابَ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ : وَجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ دُونَ الْحَقِيقَةِ قَدْ يَكُونُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْخِفَّةِ عَلَى اللِّسَانِ ؛ أَوْ لِمُسَاغَتِهِ فِي وَزْنِ الْكَلَامِ لَفْظًا وَنَثْرًا وَالْمُطَابَقَةِ ؛ وَالْمُجَانَسَةِ ؛ وَالسَّجْعِ وَقَصْدِ التَّعْظِيمِ وَالْعُدُولِ عَنْ الْحَقِيقِيِّ لِلتَّحْقِيقِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الْكَلَامِ . فَيُقَالُ : هَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ وَالْمُحْتَجُّ بِهَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُسَلِّمَ لَهَا انْقِسَامَ الْكَلَامِ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ لَكِنَّهُ يُوجِبُ اسْتِعْمَالَ الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ : لَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ ؛ بَلْ الْمَوَاضِعُ الَّتِي سَمَّوْهَا
مَجَازًا إذَا ثَبَتَ اسْتِعْمَالُهَا فِي اللُّغَةِ فَهِيَ كُلُّهَا حَقِيقَةٌ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَالتَّعْبِيرُ لِبَعْضِ الْحَقَائِقِ يَكُونُ أَحْسَنَ وَأَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ وَمَرَاتِبُ الْبَيَانِ وَالْبَلَاغَةِ مُتَفَاوِتَةٌ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِطَرِيقَةِ الْحَقِيقَةِ وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ إلَّا مَعَ قَرِينَةٍ وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } هُوَ سُؤَالُ الْجُدْرَانِ ؛ فَهُوَ جَاهِلٌ . وَهَذَا الْبَحْثُ يُشْبِهُ بَحْثَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ يُنْكِرُونَ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي حَالٍ فِي مَعْنًى وَفِي حَالٍ أُخْرَى فِي مَعْنًى آخَرَ كَمَا يُسْتَعْمَلُ لَفْظُ الْقَرْيَةِ تَارَةً فِي السُّكَّانِ وَتَارَةً فِي الْمَسَاكِنِ وَيَدَّعُونَ أَنَّهُ لَا يَعْنِي بِهِ إلَّا الْمَسَاكِنَ ؛ وَهَذَا غَلَطٌ وَافَقُوا فِيهِ أُولَئِكَ لَكِنَّ أُولَئِكَ يَقُولُونَ : هُنَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ : وَاسْأَلْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ . وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : بَلْ الْمُرَادُ وَاسْأَلْ الْجُدْرَانَ . وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْيَةِ نَفْسُ النَّاسِ الْمُشْتَرِكِينَ السَّاكِنِينَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَفْظُ الْقَرْيَةِ هُنَا أُرِيدَ بِهِ هَؤُلَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ } كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } وَقَوْلُهُ : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا } وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ .
فَصْلٌ :
وَتَمَامُ هَذَا بِالْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ قَالَ : يُعْتَذَرُ عَنْ قَوْلِهِ : { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } وَالْأَنْهَارُ غَيْرُ جَارِيَةٍ . فَيُقَالُ : النَّهْرُ كَالْقَرْيَةِ وَالْمِيزَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ الْحَالُّ وَيُرَادُ بِهِ الْمَحَلُّ فَإِذَا قِيلَ : حَفَرَ النَّهْرَ ؛ أُرِيدَ بِهِ الْمَحَلُّ وَإِذَا قِيلَ : جَرَى النَّهْرُ ؛ أُرِيدَ بِهِ الْحَالُّ . وَعَنْ قَوْلِهِ : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَعِلٍ كَاشْتِعَالِ النَّارِ فَهَذَا مُسَلَّمٌ ؛ لَكِنْ يُقَالُ : لَفْظُ الِاشْتِعَالِ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْبَيَاضِ الَّذِي سَرَى مِنْ السَّوَادِ سَرَيَانَ الشُّعْلَةِ مِنْ النَّارِ وَهَذَا تَشْبِيهٌ وَاسْتِعَارَةٌ لَكِنَّ قَوْلَهُ : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ } اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الِاشْتِعَالِ مُقَيَّدًا بِالرَّأْسِ لَمْ يَحْتَمِلْ اللَّفْظَ فِي اشْتِعَالِ الْحَطَبِ وَهَذَا اللَّفْظُ - وَهُوَ قَوْلُهُ : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } - لَمْ يُسْتَعْمَلْ قَطُّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بَلْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ إلَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ هَذَا الْوَضْعُ يُغَيِّرُ بَعْدَ وَضْعٍ اشْتَعَلَتْ النَّارُ فَلَا يَضُرُّ وَإِنْ قُصِدَ بِهِ تَشْبِيهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِهَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَضُرُّ بَلْ هَذَا شَأْنُ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ لَا بُدَّ أَنْ
يَكُونَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ تَشْتَبِهُ فِيهِ تِلْكَ الْأَفْرَادُ . وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ اسْتِعَارَةً فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَعِيرُوا ذَلِكَ اللَّفْظَ بِعَيْنِهِ بَلْ رَكَّبُوا لَفْظَ اشْتَعَلَ مَعَ الرَّأْسِ تَرْكِيبًا لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ وَلَا أَرَادُوا بِهِ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى قَطُّ . وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا : لَمْ يَشْتَعِلْ الرَّأْسُ شَيْبًا بَلْ يُقَالُ : لَيْسَ اشْتِعَالُ الرَّأْسِ مِثْلَ اشْتِعَالِ الْحَطَبِ وَإِنْ أَشْبَهَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ . قَالَ : وَعَنْ قَوْلِهِ : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ } وَالذُّلُّ لَا جَنَاحَ لَهُ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : لَا رَيْبَ أَنَّ الذُّلَّ لَيْسَ لَهُ جَنَاحٌ مِثْلَ جَنَاحِ الطَّائِرِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلطَّائِرِ جَنَاحٌ مِثْلَ أَجْنِحَةِ الْمَلَائِكَةِ وَلَا جَنَاحُ الذُّلِّ مِثْلَ جَنَاحِ السَّفَرِ لَكِنَّ جَنَاحَ الْإِنْسَانِ جَانِبُهُ كَمَا أَنَّ جَنَاحَ الطَّيْرِ جَانِبُهُ وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَخْفِضَ جَانِبَهُ لِأَبَوَيْهِ ؛ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الذُّلِّ لَهُمَا لَا عَلَى وَجْهِ الْخَفْضِ الَّذِي لَا ذُلَّ مَعَهُ وَقَدْ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وَلَمْ يَقُلْ : جَنَاحَ الذُّلِّ فَالرَّسُولُ أُمِرَ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ وَهُوَ جَانِبُهُ وَالْوَلَدُ أُمِرَ بِخَفْضِ جَنَاحِهِ ذُلًّا فَلَا بُدَّ مَعَ خَفْضِ جَنَاحِهِ أَنْ يَذِلَّ لِأَبَوَيْهِ بِخِلَافِ الرَّسُولِ فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالذُّلِّ فَاقْتِرَانُ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَانِ مَعَانِيهِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ مَعْنًى حَقَّهُ .
ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ كَمَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { مِنَ الرَّحْمَةِ } فَهُوَ جَنَاحُ ذُلٍّ مِنْ الرَّحْمَةِ لَا جَنَاحُ ذُلٍّ مِنْ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ : إذْ الْأَوَّلُ مَحْمُودٌ وَالثَّانِي مَذْمُومٌ . قَالَ : وَقَوْلُهُ : { أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } وَالْأَشْهُرُ لَيْسَتْ هِيَ الْحَجَّ ؟ فَيُقَالُ : مَعْلُومٌ أَنَّ أَوْقَاتَ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ الْأَفْعَالِ هِيَ الزَّمَانُ وَلَا يَفْهَمُ هَذَا أَحَدٌ مِنْ اللَّفْظِ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ : فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ : وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الْحَسَنَةِ فِي خِطَابِهَا أَنَّهُمْ يَحْذِفُونَ مِنْ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ الْمَذْكُورُ دَلِيلًا عَلَيْهِ اخْتِصَارًا كَمَا أَنَّهُمْ يُورِدُونَ الْكَلَامَ بِزِيَادَةِ تَكُونُ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ الْمَعْنَى . فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ } فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ لَكِنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ إذْ كَانَ قَوْلُهُ : قُلْنَا : ( أَنِ اضْرِبْ ) ؛ فَانْفَلَقَ : دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ ضَرَبَ فَانْفَلَقَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ آمَنَ } تَقْدِيرُهُ بِرَّ مَنْ آمَنَ أَوْ صَاحِبْ مَنْ آمَنَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ } أَيْ : أَوْقَاتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ فَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي تَسْمِيَةِ هَذَا مَجَازًا وَقَوْلُ الْقَائِلِ : نَفْسُ الْحَجِّ لَيْسَ بِأَشْهُرِ ؛ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا مَدْلُولَ الْكَلَامِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَدْلُولُهُ عِنْدَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ أَوْ سَمِعَهُ : أَنَّ أَوْقَاتَ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ .
قَالَ : وَقَوْلُهُ : { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ } وَالصَّلَوَاتُ لَا تَنْهَدِمُ ؟ فَيُقَالُ : قَدْ قِيلَ : إنَّ الصَّلَوَاتِ اسْمٌ لِمَعَابِدِ الْيَهُودِ يُسَمُّونَهَا صَلَوَاتٍ بِاسْمِ مَا يُفْعَلُ فِيهَا كَنَظَائِرِهِ ؛ وَهُوَ إنَّمَا اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَكَانِ مَقْرُونًا بِقَوْلِهِ : { لَهُدِّمَتْ } وَالْهَدْمُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَكَانِ فَاسْتَعْمَلَهُ مَعَ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْمَكَانِ .
قَالَ : وَقَوْلُهُ : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } ؟ فَنَقُولُ : لَفْظُ الْغَائِطِ فِي الْقُرْآنِ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَهُوَ : الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ مِنْ الْأَرْضِ ؛ وَكَانُوا يَنْتَابُونَ الْأَمَاكِنَ الْمُنْخَفِضَةَ لِذَلِكَ وَهُوَ الْغَائِطُ كَمَا يُسَمَّى خَلَاءٌ لِقَصْدِ قَاضِي الْحَاجَةِ الْمَوْضِعَ الْخَالِيَ وَيُسَمَّى مِرْحَاضًا لِأَجْلِ الرَّحْضِ بِالْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ اسْمٌ لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ إذَا قَضَى حَاجَتَهُ فَصَارَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً يُفْهَمُ مِنْهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ التَّغَوُّطُ فَقَدْ يُسَمُّونَ مَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِنْسَانِ غَائِطًا تَسْمِيَةً لِلْحَالِّ بِاسْمِ مَحَلِّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : جَرَى الْمِيزَابُ . وَمِنْهُ قَوْلُ عَائِشَةَ : مُرْنَ أَزْوَاجَكُمْ يَغْسِلْنَ عَنْهُنَّ أَثَرَ الْغَائِطِ . وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ ؛ بَلْ الْمَجِيءُ مِنْ الْغَائِطِ يَتَضَمَّنُ التَّغَوُّطَ فَكَنَّى عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْعَمَلِ
الظَّاهِرِ الْمُسْتَلْزِمِ الْأَمْرَ الْمَسْتُورَ وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ يُذْكَرُ الْمَلْزُومُ لِيُفْهَمَ مِنْهُ لَازِمُهُ الْمَدْلُولُ . وَكِلَاهُمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا وَسِيلَةٌ إلَى الْآخَرِ كَقَوْلِ إحْدَى النِّسْوَةِ فِي حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ : { زَوْجِي عَظِيمُ الرَّمَادِ طَوِيلُ النِّجَادِ قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ الناد } . فَإِنَّ عِظَمَ الرَّمَادِ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ الطَّبْخِ الْمُسْتَلْزِمَ فِي عَادَتِهِمْ لِكَثْرَةِ الضَّيْفِ ؛ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْكَرَمِ . وَطُولَ النِّجَادِ يَسْتَلْزِمُ طُولَ الْقَامَةِ وَقُرْبَ الْبَيْتِ مِنْ النَّادِّ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَهُ بِحُجَّةِ النَّادِّ إلَى بَيْتِهِ وَالنَّادُّ اسْمٌ لِلْحَالِّ وَالْمَحَلِّ أَيْضًا . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } وَقَوْلُهُ : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } فَهُنَا هُوَ الْمَحَلُّ وَفِي تِلْكَ هُوَ الْحَالُّ وَهُمْ الْقَوْمُ الَّذِينَ يَنْتَدُونَ وَمِنْهُ " دَارُ النَّدْوَةِ " . وَأَصْلُهُ مِنْ مُنَادَاةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ بِخِلَافِ النِّجَاءِ فَإِنَّهُمْ الَّذِينَ يَتَنَاجَوْنَ قَالَ الشَّعْبِيُّ : إذَا كَثُرَتْ الْحَلَقَةُ فَهِيَ إمَّا نِدَاءٌ وَإِمَّا نِجَاءٌ قَالَ تَعَالَى : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } فَنَادَاهُ . وَنَاجَاهُ .
وَقَالَ : قَوْلُهُ : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ؟ فَيُقَالُ : قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ } فَلَيْسَ مَفْهُومُ اللَّفْظِ أَنَّهُ شُعَاعُ الشَّمْسِ وَالنَّارِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَمَا ظَنَّ بَعْضُ الغالطين أَنَّ هَذَا مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَالنُّورُ يُرَادُ بِهِ الْمُسْتَنِيرُ الْمُنِيرُ لِغَيْرِهِ بِهَدْيِهِ فَيَدْخُلُ فِي هَذَا أَنْتَ الْهَادِي لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ وَإِذَا كَانَ كَوْنُهُ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَقَيِّمَهَا لَا يُنَاقِضُ أَنْ يَكُونَ قَدْ جَعَلَ بَعْضَ عِبَادِهِ يَرُبُّ بَعْضًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَيَفْهَمُهُ ؛ فَكَذَلِكَ كَوْنُهُ { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } مُنِيرُهَا لَا يُنَاقِضُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ مُنِيرًا لِبَعْضِ . وَاسْمُ النُّورِ إذَا تَضَمَّنَ صِفَتَهُ وَفِعْلَهُ كَانَ ذَلِكَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى النُّورِ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الْقَمَرَ نُورًا كَانَ مُتَّصِفًا بِالنُّورِ وَكَانَ مُنِيرًا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَالْخَالِقُ أَوْلَى بِصِفَةِ الْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ .
قَالَ : وَقَوْلُهُ : { فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } قَالَ : وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِعُدْوَانِ ؟ فَيُقَالُ : الْعُدْوَانُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ لَكِنْ إنْ كَانَ بِطَرِيقِ الظُّلْمِ كَانَ مُحَرَّمًا وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ كَانَ عَدْلًا مُبَاحًا فَلَفْظُ الْعُدْوَانِ فِي
مِثْلِ هَذَا هُوَ تَعَدِّي الْحَدِّ الْفَاصِلِ لَكِنْ لَمَّا اعْتَدَى صَاحِبُهُ جَازَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِ وَالِاعْتِدَاءُ الْأَوَّلُ ظُلْمٌ وَالثَّانِي مُبَاحٌ وَلَفْظُ عَدْلٍ مُبَاحٌ . وَلَفْظُ الِاعْتِدَاءِ هُنَا مُقَيَّدٌ بِمَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْعُدْوَانِ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُ ظُلْمٌ فَإِذَا لَمْ يُقَيَّدْ بِالْجَزَاءِ فُهِمَ مِنْهُ الِابْتِدَاءُ : إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا يُقَابِلُهُ .
قَالَ : وَقَوْلُهُ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَقَوْلُهُ : { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ } ؟ فَيُقَالُ : السَّيِّئَةُ اسْمٌ لِمَا سَبَقَ صَاحِبُهَا فَإِنْ فُعِلَتْ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْعَدْلِ وَالْقِصَاصِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِمَا فُعِلَ مَعَهُ مِنْ السَّيِّئَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَسْبِقُ الْفَاعِلَ حَتَّى يُنْهَى عَنْهَا بَلْ تَسْبِقُ الْمُجَازَى بِهَا وَلَفْظُ السَّيِّئَةِ وَالْحَسَنَةِ يُرَادُ بِهِ الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ ؛ وَيُرَادُ بِهِ النِّعْمَةُ وَالْمُصِيبَةُ كَقَوْلِهِ : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } وَقَوْلِهِ : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } ؟ وَقَوْلِهِ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ } لَمْ يُرِدْ بِهِ كُلَّ مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ جَزَاءُ مَنْ أَسَاءَ إلَى غَيْرِهِ بِظُلْمِ فَهِيَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمُصَابِ فَجَزَاؤُهَا أَنْ يُصَابَ الْمُسِيءُ بِسَيِّئَةٍ مِثْلِهَا كَأَنَّهُ قِيلَ : جَزَاءُ مَنْ أَسَاءَ إلَيْك أَنْ تُسِيءَ إلَيْهِ مِثْلَ مَا أَسَاءَ إلَيْك وَهَذِهِ سَيِّئَةٌ حَقِيقَةً.
أَمَّا الِاسْتِهْزَاءُ وَالْمَكْرُ بِأَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ وَالْمُرَادُ شَرٌّ فَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ جَحْدِ الْحَقِّ وَظُلْمِ الْخَلْقِ فَهُوَ ذَنْبٌ مُحَرَّمٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ جَزَاءً عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِمِثْلِ فِعْلِهِ كَانَ عَدْلًا حَسَنًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إنَّا مَعَكُمْ إنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا } كَمَا قَالَ : { إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا } { وَأَكِيدُ كَيْدًا } وَقَالَ : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ }. وَكَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُعْتَدِي بِمِثْلِ فِعْلِهِ ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَهَذَا مِنْ الْعَدْلِ الْحَسَنِ وَهُوَ مَكْرٌ وَكَيْدٌ إذَا كَانَ يُظْهِرُ لَهُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ .
قَالَ : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } فَهَذَا اللَّفْظُ أَصْلُهُ أَنَّ الْمُحَارِبِينَ يُوقِدُونَ نَارًا يَجْتَمِعُ إلَيْهَا أَعْوَانُهُمْ وَيَنْصُرُونَ وَلِيَّهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَلَا تَتِمُّ مُحَارَبَتُهُمْ إلَّا بِهَا فَإِذَا طفئت لَمْ يَجْتَمِعْ أَمْرُهُمْ ثُمَّ صَارَ هَذَا كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْأَمْثَالُ فِي كُلِّ مُحَارِبٍ بَطَلَ كَيْدُهُ كَمَا يُقَالُ : يَدَاك أَوْكَتَا وَفُوك نَفَخَ وَمَعْنَاهُ أَنْتَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِك . وَكَمَا يُقَالُ : الصَّيْفَ ضَيَّعْت اللَّبَنَ مَعْنَاهُ : فَرَّطْت وَقْتَ الْإِمْكَانِ . وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كَانَ لَهَا مَعْنًى خَاصٌّ نُقِلَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ إلَى مَعْنًى
أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ وَصَارَ يُفْهَمُ مِنْهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا خُصُوصُ مَعْنَاهَا الْأَوَّلِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي نَقَلَهَا أَهْلُ الْعُرْفِ إلَى أَعَمَّ مِنْ مَعْنَاهَا مِثْلَ لَفْظِ الرَّقَبَةِ وَالرَّأْسِ فِي قَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ هَذَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ اللُّزُومِ فَإِنَّ تَحْرِيرَ الْعُنُقِ يَسْتَلْزِمُ تَحْرِيرَ سَائِر الْبَدَنِ ؛ وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ إذَا قَالَ : يَدُك حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ؛ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ : هَلْ يُعْتَقُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ السِّرَايَةِ أَوْ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ وَمَعْنَاهُ : أَنْتَ حُرٌّ إنْ فَعَلْت كَذَا وَالْحَقِيقَةُ الْحَرْفِيَّةُ وَالشَّرْعِيَّةُ مَعْلُومَةٌ فِي اللُّغَةِ . قَالَ : إلَى مَا لَا يُحْصَى ذِكْرُهُ مِنْ الْمَجَازَاتِ ؟ وَقَالُوا : مَا يُذْكَرُ مِنْ هَذَا الْبَابِ إمَّا أَنْ يَكُونَ النِّزَاعُ فِي مَعْنَاهُ أَوْ الْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالنِّزَاعُ فِي تَسْمِيَتِهِ مَجَازًا وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَلَا حُجَّةَ لَك فِيهِ ؛ كَقَوْلِهِ : { يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ } قِيلَ : أَرَادَ بِالسَّمَاءِ الْمَطَرَ أَيْ : يَا مَطَرُ انْقَطِعْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْإِقْلَاعُ الْإِمْسَاكُ أَيْ : يَا سَمَاءُ امْسِكِي عَنْ الْإِمْطَارِ . وَكَثِيرًا مَا يَأْتِي الْمُدَّعِي إلَى أَلْفَاظٍ لَهَا مَعَانٍ مَعْرُوفَةٍ فَيَدَّعِي اسْتِعْمَالَهَا
فِي غَيْرِ تِلْكَ الْمَعَانِي بِلَا حُجَّةٍ وَيَقُولُ : هَذَا مَجَازٌ فَهَذَا لَا يُقْبَلُ وَمَنْ قَسَّمَ الْكَلَامَ إلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَلَامِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَهَذَا يُرَادُ بِهِ شَيْئَانِ : يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ إذَا عُرِفَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَقِيلَ : هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مَجَازٌ قِيلَ : بَلْ الْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ . وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ لِلَّفْظِ مَدْلُولَانِ حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ فَالْأَصْلُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ ؛ فَيَسْتَدِلُّ تَارَةً بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ عَلَى دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ وَتَارَةً بِاللَّفْظِ الْمَعْرُوفِ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ .
فَإِذَا قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } إنَّ أَصْلَ الذَّوْقِ بِالْفَمِ . قِيلَ : ذَلِكَ ذَوْقُ الطَّعَامِ ؛ فَالذَّوْقُ يَكُونُ لِلطَّعَامِ وَيَكُونُ لِجِنْسِ الْعَذَابِ كَمَا قَالَ : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وَقَوْلُهُ : { ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } وَقَوْلُهُ : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } فَقَوْلُهُ : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ } صَرِيحٌ فِي ذَوْقِ مَسِّ الْعَذَابِ لَا يَحْتَمِلُ ذَوْقَ الطَّعَامِ . ثُمَّ الْجُوعُ وَالْخَوْفُ إذَا لَبِسَ الْبَدَنَ كَانَ أَعْظَمَ فِي الْأَلَمِ ؛ بِخِلَافِ الْقَلِيلِ مِنْهُ فَإِذَا قَالَ : { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَدُلُّ عَلَى لَبْسِهِ لِصَاحِبِهِ وَإِحَاطَتِهِ بِهِ فَهَذِهِ الْمَعَانِي تَدُلُّ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَلْفَاظُ دُونَ مَا إذَا قِيلَ جَاعَتْ وَخَافَتْ ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ لَا عَلَى عِظَمِ كَيْفِيَّتِهِ وَكَمِّيَّتِهِ فَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْبَيَانِ وَالْجَمِيعُ إنَّمَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ اللَّفْظُ فِي مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ فِي اللُّغَةِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ ذَوْقُ لِبَاسِ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ لَيْسَ
هُوَ ذَوْقُ الطَّعَامِ وَذَوْقُ الْجُوعِ لَيْسَ هُوَ ذَوْقُ لِبَاسِ الْجُوعِ . وَلِهَذَا كَانَ تَحْرِيرُ هَذَا الْبَابِ هُوَ مِنْ عِلْمِ الْبَيَانِ الَّذِي يَعْرِفُ بِهِ الْإِنْسَانُ بَعْضَ قَدَرَ الْقُرْآنِ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظٌ إلَّا مَقْرُونٌ بِمَا يُبَيِّنُ بِهِ الْمُرَادَ . وَمَنْ غَلِطَ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ فَمِنْ قُصُورِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ ؛ فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : { يَشْرَبُ بِهَا } أَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ كَانَ مِنْ قِبَلِهِ عَلِمَهُ ؛ فَإِنَّ الشَّارِبَ قَدْ يَشْرَبُ وَلَا يُرْوَى فَإِذَا قِيلَ : يَشْرَبُ مِنْهَا : لَمْ يَدُلَّ عَلَى الرَّيِّ وَإِذَا ضُمِّنَ مَعْنَى الرَّيِّ فَقِيلَ : { يَشْرَبُ بِهَا } كَانَ دَلِيلًا عَلَى الشُّرْبِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الرَّيُّ وَهَذَا شُرْبٌ خَاصٌّ دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْبَاءِ . كَمَا دَلَّ لَفْظُ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } عَلَى إلْصَاقِ الْمَمْسُوحِ بِهِ بِالْعُضْوِ ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ مَسْحَ الْوَجْهِ . فَمَنْ قَالَ : الْبَاءُ زَائِدَةٌ جَعَلَ الْمَعْنَى امْسَحُوا وُجُوهَكُمْ وَلَيْسَ فِي مُجَرَّدِ مَسْحِ الْوَجْهِ إلْصَاقُ الْمَمْسُوحِ مِنْ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ وَمَنْ قَرَأَ : { وَأَرْجُلَكُمْ } فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْوَجْهِ وَالْأَيْدِي ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ : { إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَلَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ لَفَسَدَ الْمَعْنَى وَكَانَ يَكُونُ فَامْسَحُوا رُءُوسَكُمْ . وَأَيْضًا فَكُلُّهُمْ قَرَءُوا قَوْلَهُ فِي التَّيَمُّمِ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وَلَفْظُ الْآيَتَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَلَوْ كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْمَجْرُورِ مَعْطُوفًا عَلَى الْمَحَلِّ لَقَرَءُوا أَيْدِيَكُمْ بِالنَّصْبِ فَلَمَّا لَمْ يَقْرَءُوهَا كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ :
{ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } عُطِفَ عَلَى الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ :
فَصْلٌ :
فِي أَسْئِلَتِهِمْ وَقَدْ تَكَلَّفُوا غَايَةَ التَّكْلِيفِ وَتَعَسَّفُوا غَايَةَ التَّعْسِيفِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ .
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : إنَّ الْقَرْيَةَ هِيَ مُجْتَمَعُ النَّاسِ ؛ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ ؛ وَمَا قَرَأَتْ النَّاقَةُ فِي رَحِمِهَا فَالضِّيَافَةُ مُقْرِئٌ وَمُقْرٍ لِاجْتِمَاعِ الْأَضْيَافِ عِنْدَهُمْ وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ وَالْقِرَاءَةُ لِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَجْمُوعَ كَلَامٍ فَكَذَلِكَ حَقِيقَةُ الِاجْتِمَاعِ إنَّمَا هُوَ لِلنَّاسِ دُونَ الْجُدْرَانِ فَمَا أَرَادَ إلَّا مَجْمَعَ النَّاسِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةُ الْقَرْيَةِ يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } وقَوْله تَعَالَى { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْمُجْتَمَعِ إلَى النَّاسِ دُونَ الْجُدْرَانِ وَالْعِيرُ اسْمٌ لِلْقَافِلَةِ . قَالُوا : وَالْأَبْنِيَةُ وَالْحَمِيرُ إذَا أَرَادَ اللَّهُ نُطْقَهَا أَنْطَقَهَا وَزَمَنُ النُّبُوَّاتِ وَقْتٌ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ . وَلَوْ سَأَلَهَا لَأَجَابَتْهُ عَنْ حَالِهِ مُعْجِزَةً لَهُ وَكَرَامَةً .
وقَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ } إنَّمَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ : { قَوْلَ الْحَقِّ } إلَى اسْمِهِ وَنِسْبَتِهِ إلَى أُمِّهِ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ قَوْلِ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ صَاحِبُكُمْ أَحْمَد : اللَّهُ هُوَ اللَّهُ يَعْنِي : الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى . وقَوْله تَعَالَى { وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } فَإِنَّهُ لَمَّا نُسِفَ بَعْدَ أَنْ بَرُدَ فِي الْبَحْرِ وَشَرِبُوا مِنْ الْمَاءِ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ الْعِجْلِ فَلَا شَيْءَ مِمَّا ذَكَرْتُمْ إلَّا وَهُوَ حَقِيقَةٌ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : فَيُقَالُ : لِلْقَرْيَةِ مَا جُمِعَتْ وَاجْتَمَعَ فِيهَا لَا نَفْسَ الْمُجْتَمَعِ ؛ فَلِهَذَا سُمِّيَ الْقُرْءُ وَالْأَقْرَاءُ لِزَمَانِ الْحَيْضِ أَوْ زَمَانِ الطُّهْرِ وَالتَّصْرِيَةِ وَالْمُصَرَّاةُ والصراة اسْمُ مَجْمَعِ اللَّبَنِ وَالْمَاءِ ؛ لَا لِنَفْسِ اللَّبَنِ وَالْمَاءِ الْمُجْتَمِعِ وَالْقَارِي . الْجَامِعُ لِلْقَرْيِ وَالْمُقْرِي الْجَامِعُ لِلْأَضْيَافِ فَأَمَّا نَفْسُ الْأَضْيَافِ فَلَا وَالْقَافِلَةُ لَا تُسَمَّى عِيرًا إنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ بَهَائِم مَخْصُوصَةٍ ؛ فَإِنَّ الْمُشَاةَ وَالرِّجَالَ لَا تُسَمَّى عِيرًا فَلَوْ كَانَ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْقَافِلَةِ لَكَانَ يَقَعُ عَلَى الرِّجَالِ كَمَا يَقَعُ عَلَى أَرْبَابِ الدَّوَابِّ ؛ فَبَطَلَ مَا قَالُوهُ . وَقَوْلُهُمْ : لَوْ سَأَلَ لَأَجَابَ الْجِدَارُ : فَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يَقَعُ بِحَسَبِ الِاخْتِيَارِ وَلَا يَكُونُ مُعْتَمِدًا عَلَى وُقُوعِهِ إلَّا عِنْدَ التَّحَدِّي بِهِ فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ بِالْهَاجِسِ وَعُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَلَا .
وَقَوْلُهُ : { ذَلِكَ عِيسَى } يَرْجِعُ إلَى الِاسْمِ : فَإِنَّهُمْ إذَا حَمَلُوهُ عَلَى هَذَا كَانَ مَجَازًا ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ الِاسْمُ لَيْسَ بِمُضَافِ إلَيْهِ ؛ وَلِذَا نَقُولُ : { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ } وَالِاسْمُ الَّذِي هُوَ الْقَوْلُ لَيْسَ بِابْنِ مَرْيَمَ وَإِنَّمَا ابْنُ مَرْيَمَ نَفْسُ الْجِسْمِ وَالرُّوحِ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِمَا الِاسْمُ الَّذِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْآيَاتُ الْخَارِقَةُ الَّتِي جَعَلُوهُ لِأَجْلِ ظُهُورِهَا إلَهًا . وَقَوْلُهُمْ : الْمُرَادُ نَفْسُ ذَاتِ الْعِجْلِ لَمَّا نَسَفَهُ : فَإِذَا نُسِفَ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ عِجْلًا : بَلْ الْعِجْلُ حَقِيقَةُ الصُّورَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي خَارَتْ وَإِلَّا بُرَادَةُ الذَّهَبِ لَا تَصِلُ إلَّا الْقُلُوبَ وَغَايَةُ مَا تَصِلُ إلَى الْأَجْوَافِ : فَإِمَّا أَنْ يَسْبِقَهَا الطَّبْعُ فَيُحِيلَهَا إلَى أَنْ تَصِلَ إلَى الْقَلْبِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ سُحَالَةُ الذَّهَبِ إذَا حَصَلَتْ فِي الْمَعِدَةِ رَسَبَتْ بِحَيْثُ لَا تَرْتَقِي إلَى غَيْرِ مَحَلِّهَا فَضْلًا عَنْ أَنْ تَصِلَ إلَى الْقَلْبِ ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الْعَرَبِ : أُشْرِبُوا : لَا يَرْجِعُ إلَى الشُّرْبِ إنَّمَا يَرْجِعُ إلَى الْأَسْبَابِ وَهُوَ : الإيساغ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الْحُبِّ لَا إلَى الذَّوَاتِ الَّتِي هِيَ الْأَجْسَامُ ؛ وَلِهَذَا لَا يُقَالُ : أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْمَاءَ إذْ هُوَ مَشْرُوبٌ فَكَيْفَ يُقَالُ فِي الْعِجْلِ عَلَى أَنَّ إضَافَتَهُ نَفْسَهُ إلَى الْقَلْبِ إضَافَةٌ لَهُ إلَى مَحَلِّ الْحُبِّ ؟ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ فِي سِحَالَتِهِ إذَا تَنَاوَلُوهَا : هَذَا أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ مُوسَى وَمِنْ إلَهِ مُوسَى ؛ لِمَا نَالَهُمْ مِنْ مَحَبَّتِهِ فِي قُلُوبِهِمْ .
قُلْت : أَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقَرْيَةِ ؛ فَالْقَرْيَةُ وَالنَّهْرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ اسْمٌ لِلْحَالِّ وَالْمَحَلِّ فَهُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ وَسُكَّانَهَا ثُمَّ الْحُكْمُ قَدْ يَعُودُ إلَى السَّاكِنِ ؛ وَقَدْ يَعُودُ إلَى الْمَسَاكِنِ ؛ وَقَدْ يَعُودُ إلَيْهِمَا كَاسْمِ الْإِنْسَانِ ؛ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ ؛ وَقَدْ يَعُودُ الْحُكْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا كَذَلِكَ الْكَلَامُ اسْمٌ لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَقَدْ يَعُودُ الْحُكْمُ إلَى أَحَدِهِمَا . وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ فَهَذَا الْمَوْضِعُ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ قَرَأَ بِالْهَمْزَةِ وَقَرَى يَقْرِي بِالْيَاءِ ؛ فَإِنَّ الَّذِي بِمَعْنَى الْجَمْعِ هُوَ قَرَى يَقْرِي بِلَا هَمْزَةٍ وَمِنْهُ الْقَرْيَةُ وَالْقِرَاءَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِنْهُ قَرَيْت الضَّيْفَ أَقْرِيهِ أَيْ : جَمَعْته وَضَمَمْته إلَيْك وَقَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ جَمَعْته وتقريت الْمِيَاهَ : تَتَبَّعْتهَا وقروت الْبِلَادَ وَقَرَيْتهَا وَاسْتَقْرَيْتهَا إذَا تَتَبَّعْتهَا تَخْرُجُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَمِنْهُ الِاسْتِقْرَاءُ ؛ وَهُوَ : تَتَبُّعُ الشَّيْءِ أَجْمَعَهُ وَهَذَا غَيْرُ قَوْلِك : اسْتَقْرَأْته الْقُرْآنَ ؛ فَإِنَّ ذَاكَ مِنْ الْمَهْمُوزِ فَالْقَرْيَةُ هِيَ الْمَكَانُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ النَّاسُ وَالْحُكْمُ يَعُودُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذَا أُخْرَى . وَأَمَّا قَرَأَ بِالْهَمْزِ فَمَعْنَاهُ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ وَالْقُرْءُ وَالْقِرَاءَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : مَا قَرَأْت النَّاقَةَ سَلًّا جَزُورٌ قَطُّ ؛ أَيْ : مَا أَظْهَرَتْهُ وَأَخْرَجَتْهُ مِنْ رَحِمِهَا وَالْقَارِي : هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الْقُرْآنَ وَيُخْرِجُهُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } فَفَرَّقَ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقُرْآنِ
وَالْقُرْءُ : هُوَ الدَّمُ لِظُهُورِهِ وَخُرُوجِهِ وَكَذَلِكَ الْوَقْتُ ؛ فَإِنَّ التَّوْقِيتَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَمْرِ الظَّاهِرِ . ثُمَّ الطُّهْرُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْقُرْءِ تَبَعًا كَمَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِي اسْمِ الْيَوْمِ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ : دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك } وَالطُّهْرُ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ حَيْضٌ هُوَ قُرْءٌ فَالْقُرْءُ اسْمٌ لِلْجَمِيعِ . وَأَمَّا الطُّهْرُ الْمُجَرَّدُ فَلَا يُسَمَّى قُرْءًا ؛ وَلِهَذَا إذَا طَلُقَتْ فِي أَثْنَاءِ حَيْضَةٍ لَمْ تَعْتَدَّ بِذَلِكَ قُرْءًا ؛ لِأَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ وَإِذَا طَلُقَتْ فِي أَثْنَاءِ طُهْرٍ كَانَ الْقُرْءُ الْحَيْضَةَ مَعَ مَا تَقَدَّمَهَا مِنْ الطُّهْرِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضُ كَعُمَرِ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِتَرَبُّصِ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ؛ فَلَوْ كَانَ الْقُرْءُ هُوَ الطُّهْرُ لَكَانَتْ الْعِدَّةُ قُرْأَيْنِ وَبَعْضَ الثَّالِثِ فَإِنَّ النِّزَاعَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ؛ فَإِنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ يَقُولُونَ : هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَصِغَارَ الصَّحَابَةِ إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ حَلَّتْ فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَقَدْ مَضَى بَعْضُ الطُّهْرِ وَاَللَّهُ أَمَرَ أَنْ يُطَلِّقَ لِاسْتِقْبَالِ الْعِدَّةِ لَا فِي أَثْنَاءِ الْعِدَّةِ وَقَوْلُهُ : { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } عَدَدٌ لَيْسَ هُوَ كَقَوْلِهِ : أَشْهُرٍ ؛ فَإِنَّ ذَاكَ صِيغَةُ جَمْعٍ لَا عَدَدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ لَا يَكْفِي بَعْضُ الثَّالِثِ .
وَأَمَّا قَوْلُك : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ } فَفِيهِ قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ : الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ قَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْحَقِّ : عِيسَى ؛ كَمَا سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ . وَقِيلَ : بَلْ الْمُرَادُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ قَوْلُ الْحَقِّ ؛ فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ ؛ كَقَوْلِهِ : { سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } الْآيَةَ { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ } أَيْ : هَذَا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ عِيسَى فَتَسْمِيَتُهُ قَوْلَ الْحَقِّ كَتَسْمِيَتِهِ كَلِمَةَ اللَّهِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ خَبَرًا وَبَدَلًا . وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ فَلَهُ نَظَائِرُ فَالْقَوْلُ فِي تَسْمِيَتِهِ مَجَازًا كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلُ الْحَقِّ إلَّا أَنَّهُ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَدْخُلُ فِي هَذَا . وَمَنْ قَالَ : الْمُرَادُ بِالْحَقِّ اللَّهُ ؛ وَالْمُرَادُ قَوْلُ اللَّهِ : فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مَعْنًى صَحِيحًا فَعَادَةُ الْقُرْآنِ إذَا أُضِيفَ الْقَوْلُ إلَى اللَّهِ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُ اللَّهِ لَا يُقَالُ : قَوْلُ الْحَقِّ إلَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ الْقَوْلَ الْحَقَّ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { قَوْلُهُ الْحَقُّ } وَقَوْلُهُ : { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } وَقَوْلُهُ : { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } ثُمَّ مِثْلُ هَذَا إذَا أُضِيفَ فِيهِ الْمَوْصُوفُ إلَى الصِّفَةِ كَقَوْلِهِ : { وَحَبَّ الْحَصِيدِ } وَقَوْلِهِمْ : صَلَاةُ الْأُولَى وَدَارُ الْآخِرَةِ هُوَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ
نُحَاةِ الْكُوفَةِ وَغَيْرِهِمْ إضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إلَى صِفَتِهِ بِلَا حَذْفٍ وَعِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ أَنَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ : صَلَاةُ السَّاعَةِ الْأُولَى وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ وَلَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ وَقَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ : { الدَّارُ الْآخِرَةُ } وَقَالَ : { قَوْلُهُ الْحَقُّ } . وَبِالْجُمْلَةِ فَنَظَائِرُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرٌ وَلَيْسَ فِي هَذَا حُجَّةً لِمَنْ سَمَّى ذَلِكَ مَجَازًا إلَّا كَحُجَّتِهِ فِي نَظَائِرِهِ فَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْأَصْلِ .
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : وَمِنْ أَدِلَّتِنَا قَوْله تَعَالَى { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ فَلُغَةُ الْعَرَبِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ وَهِيَ بَعْضُ طُرُقِ الْبَيَانِ وَالْفَصَاحَةِ فَلَوْ أَخَلَّ بِذَلِكَ لَمَا تَمَّتْ أَقْسَامُ الْكَلَامِ وَفَصَاحَتُهُ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ وَإِنَّمَا يَبِينُ تَعْجِيزُ الْقَوْمِ إذَا طَالَ وَجَمَعَ مِنْ اسْتِعَارَتِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَلَا نَصَّ بِجَوَازِ الْأَلْفَاظِ إلَّا إذَا طَالَتْ ؛ وَلِهَذَا لَا يَحْصُلُ التَّحَدِّي بِمِثْلِ بَيْتٍ وَلَا بِالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ وَلِهَذَا جَعَلَ حُكْمَ الْقَلِيلِ مِنْهُ غَيْرَ مُحْتَرَمٍ احْتِرَامَ الطَّوِيلِ فَسَوَّغَ الشَّرْعُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ تِلَاوَتَهُ كُلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا إعْجَازَ فِيهِ فَإِذَا أَتَى بِالْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ وَسَائِرِ ضُرُوبِ الْكَلَامِ وَأَقْسَامِهِ فَفَاقَ كَلَامُهُ الْجَامِعَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ : كَانَ الْإِعْجَازُ ؛ وَظَهَرَ التَّعْجِيزُ لَهُمْ فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ .
قُلْت : مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ السُّورَةَ الْقَصِيرَةَ لَا إعْجَازَ فِيهَا مِمَّا يُنَازِعُهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَيَقُولُونَ : بَلْ السُّورَةُ مُعْجِزَةٌ بَلْ وَنَازَعَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ فِي الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعِمَادِ - شَيْخُ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ - : قَوْلُهُ إنَّمَا جَازَ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْيَسِيرِ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ لَا إعْجَازَ فِيهِ : مَا أَرَاهُ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مُحْتَرَمٌ وَإِنَّمَا سَاغَ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ بَعْضِ الْآيَةِ تَوْسِعَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ وَنَظَرًا فِي تَحْصِيلِ الْمَثُوبَةِ وَالْحَرَجِ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ كَمَا سَوَّغَ لَهُ الصَّلَاةَ مَعَ يَسِيرِ الدَّمِ مَعَ نَجَاسَتِهِ .
قُلْت : وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ : فَحَقٌّ بَلْ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } وَقَالَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ : إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْأَلْفَاظَ الَّتِي فِيهِ لَيْسَتْ مَجَازًا وَنَظِيرُهَا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازٌ فَقَدْ تَنَاقَضَ لَكِنَّ الْأَصْحَابَ الَّذِينَ قَالُوا : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَجَازًا ؛ فَلَا يَلْزَمُهُمْ التَّنَاقُضُ . وَأَيْضًا فَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَجَازًا غَيْرَ مَا يُوجَدُ نَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِينَ فِيهِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ وَالْمُجَازَفَةِ مِنْ الْمَدْحِ وَالْهَجْوِ وَالْمُرَائِي وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يُصَانُ عَنْهُ كَلَامُ الْحَكِيمِ ؛ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ : فَإِذَا كَانَ الْمُسَمِّي لَا يُسَمِّي مَجَازًا إلَّا مَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُسَمِّيَ
مَا فِي الْقُرْآنِ مَجَازًا وَهَذَا لِأَنَّ تَسْمِيَةَ بَعْضِ الْكَلَامِ مَجَازًا إنَّمَا هُوَ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ لَيْسَ أَمْرًا شَرْعِيًّا وَلَا لُغَوِيًّا وَلَا عَقْلِيًّا . وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُهُمْ يُسَمِّي بِالْمَجَازِ مَا اُسْتُعْمِلَ فِيمَا هُوَ مُبَايِنٌ لِمُسَمَّاهُ وَمَا اُسْتُعْمِلَ بَعْضُ مُسَمَّاهُ لَا يُسَمِّيهِ مَجَازًا فَلَا يُسَمُّونَ اسْتِعْمَالَ الْعَامِّ فِي بَعْضِ مَعْنَاهُ مَجَازًا وَلَا الْأَمْرَ إذَا أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ مَجَازًا وَهُوَ اصْطِلَاحُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ . وَقَدْ لَا يَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْجُمْلَةِ لَا يُسَمَّى غَيْرًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَلَا يُقَالُ : الْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ أَنَّهُ غَيْرُهَا وَلَا لِيَدِ الْإِنْسَان أَنَّهَا غَيْرُهُ وَلِأَنَّ الْمَجَازَ عِنْدَهُمْ مَا اُحْتِيجَ إلَى الْقَرِينَةِ فِي إثْبَاتِ الْمُرَادِ إلَّا فِي دَفْعِ مَا لَمْ يُرَدْ وَالْقَرِينَةُ فِي الْأَمْرِ تُخْرِجُ بَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَتُبْقِي الْبَاقِيَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ اللَّفْظُ بِخِلَافِ الْقَرِينَةِ فِي الْأَسَدِ فَإِنَّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ لَا يَدْخُلُ فِي لَفْظِ الْأَسَدِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَإِذَا كَانَ اصْطِلَاحُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَآخَرُونَ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّهُ مَتَى لَمْ يُرِدْ بِاللَّفْظِ جَمِيعَ مَعْنَاهُ فَهُوَ مَجَازٌ عِنْدَهُمْ ثُمَّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُهُمْ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْقَرِينَةِ الْمُنْفَصِلَةِ أَوْ الْمُسْتَقِلَّةِ ؛ وَبَيْنَ مَا تَأَصَّلَتْ بِاللَّفْظِ ؛ أَوْ كَانَتْ مِنْ لَفْظِهِ ؛ أَوْ لَمْ تَسْتَقِلَّ ؛ فَلَمْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مَجَازًا لِئَلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَامَّةُ الْكَلَامِ مَجَازًا حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ : مَجَازًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُنَازِعُونَ
فِي أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ حَقٌّ وَإِنَّمَا كَانُوا يَجْعَلُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى فَكَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَهُمْ فِي نَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَمَّا سِوَى اللَّهِ حَقِيقَةً إذْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَأَنَّ الْمَوْضُوعَ الْأَصْلُ هُوَ النَّفْيُ وَهُوَ نَفْيُ الْإِلَهِ مُطْلَقًا فَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَعْتَقِدْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ بَلْ وَلَا لَهُمْ قَصْدٌ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهُ وَلَا وَضَعُوا لَهُ لَفْظًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ إذْ كَانَ التَّعْبِيرُ هُوَ عَمَّا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمَعَانِي وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَتَصَوَّرُوهُ إلَّا نَافِينَ لَهُ يَتَصَوَّرُوهُ مُثْبِتِينَ لَهُ وَنَفْيُ النَّفْيِ إثْبَاتٌ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَصَدُوا بِهِ فِي لُغَتِهِمْ كَانَ أَنْ يُبْعَثَ الرَّسُولُ لِنَفْيِ كُلِّ إلَهٍ وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَوْضُوعُ اللَّفْظِ الَّذِي قَصَدُوهُ بِهِ أَوَّلًا وَقَوْلُهُمْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ : اسْتِعْمَالٌ لِذَلِكَ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ مَوْضُوعَ اللَّفْظِ عِنْدَهُمْ : فَكَذِبُهُ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ الشِّرْكِ فَكَيْفَ فِي حَالِ الْإِيمَانِ ؟ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ جَمِيعَ التَّخْصِيصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ كَالصِّفَةِ ؛ وَالشَّرْطِ ؛ وَالْغَايَةِ ؛ وَالْبَدَلِ ؛ وَالِاسْتِثْنَاءِ : هُوَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لَكِنَّ أَكْثَرَ الْأَلْفَاظِ قَدْ اسْتَعْمَلُوهَا تَارَةً مُجَرَّدَةً عَنْ هَذِهِ التَّخْصِيصَاتِ وَتَارَةً مَقْرُونَةً بِهَا بِخِلَافِ قَوْلِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا قَطُّ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهَا مُجَرَّدَةً عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ إذْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى بَاطِلًا عِنْدَهُمْ فَمَنْ جَعَلَ هَذَا حَقِيقَةً فِي لُغَتِهِمْ ظَهَرَ كَذِبُهُ عَلَيْهِمْ وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَ اسْتِثْنَاءٍ وَاسْتِثْنَاءٍ تَنَاقَضَ وَخَالَفَ الْإِجْمَاعَ ؛ وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ بُنِيَ عَلَى أَصْلٍ فَاسِدٍ مُتَنَاقِضٍ وَالْقَوْلُ الْمُتَنَاقِضُ إذَا طَرَدَهُ صَاحِبُهُ وَأَلْزَمَ صَاحِبَهُ لَوَازِمَهُ ظَهَرَ مِنْ فَسَادِهِ وَقُبْحِهِ مَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَطْرُدْهُ تَنَاقَضَ وَظَهَرَ فَسَادُهُ فَيَلْزَمُ فَسَادُهُ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ . وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ لِلْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ قَوْلٌ أَلْبَتَّةَ بَلْ كُلُّ أَقْوَالِهِمْ مُتَنَاقِضَةٌ وَحُدُودُهُمْ وَالْعَلَامَاتُ الَّتِي ذَكَرُوهَا فَاسِدَةٌ ؛ إذْ كَانَ أَصْلُ قَوْلِهِمْ بَاطِلًا فَابْتَدَعُوا فِي اللُّغَةِ تَقْسِيمًا وَتَعْبِيرًا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ تَصَوُّرًا مُطَابِقًا وَلَا يُعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةِ سَدِيدَةٍ ؛ بِخِلَافِ الْمَعْنَى الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّهُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقَوْلِ السَّدِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } وَالسَّدِيدُ : السَّادُّ الصَّوَابُ الْمُطَابِقُ لِلْحَقِّ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَهُوَ الْعَدْلُ وَالصِّدْقُ بِخِلَافِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَيَجْعَلَهُمَا مُخْتَلِفَيْنِ ؛ بَلْ مُتَضَادَّيْنِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِسَدِيدِ . وَهَذَا يُبْسَطُ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } اسْأَلْ الْجُدْرَانَ ؛ وَالْعِيرَ الْبَهَائِمَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا نُقِلَ عَنْهُمْ فَقَدَ أَخْطَئُوا . وَإِنْ جَعَلُوا اللَّفْظَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي مَعْنًى فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مَجَازًا وَفِيهِ لَيْسَ بِمَجَازِ فَقَدْ أَخْطَئُوا أَيْضًا . وَإِنْ قَصَدُوا أَنَّ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مِنْ الْمُبَالَغَاتِ وَالْمُجَازَفَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ فَقَدْ أَصَابُوا فِي ذَلِكَ . وَإِذَا قَالُوا :
نَحْنُ نُسَمِّي تِلْكَ الْأُمُورَ مَجَازًا بِخِلَافِ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ : فَهَذَا اصْطِلَاحٌ هُمْ فِيهِ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ مِمَّنْ جَعَلَ أَكْثَرَ كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازًا كَمَا يُحْكَى عَنْ ابْنِ جِنِّيٍّ أَنَّهُ قَالَ : قَوْلُ الْقَائِلِ : خَرَجَ زَيْدٌ : مَجَازٌ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَرُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ يَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْخُرُوجِ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ زَيْدًا حَصَلَ مِنْهُ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْخُرُوجِ ؛ هَذَا حَقِيقَةُ اللَّفْظِ : فَإِنْ أُرِيدَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْخُرُوجِ فَهُوَ مَجَازٌ . فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَقُولُهُ مَنْ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ وَابْنُ جِنِّيٍّ لَهُ فَضِيلَةٌ وَذَكَاءٌ ؛ وَغَوْصٌ عَلَى الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ فِي سِرِّ الصِّنَاعَةِ وَالْخَصَائِصِ وَإِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَهَذَا الْكَلَامُ إنْ كَانَ لَمْ يَقُلْهُ فَهُوَ أَشْبَهُ بِفَضِيلَتِهِ وَإِذَا قَالَهُ فَالْفَاضِلُ قَدْ يَقُولُ مَا لَا يَقُولُهُ إلَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى مُسَمَّى الْمَصْدَرِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِقَيْدِ الْعُمُومِ بَلْ وَلَا بِقَيْدِ آخَرَ . فَإِذَا قِيلَ : خَرَجَ زَيْدٌ ؛ وَقَامَ بَكْرٌ ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَالْفِعْلُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ مُسَمَّى خُرُوجٍ ؛ وَمُسَمَّى قِيَامٍ ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدُلَّ اللَّفْظُ عَلَى نَوْعِ ذَلِكَ الْخُرُوجِ وَالْقِيَامِ وَلَا عَلَى قَدْرِهِ بَلْ هُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } فَإِنَّهُ أَوْجَبَ رَقَبَةً وَاحِدَةً ؛ لَمْ يُوجِبْ كُلَّ رَقَبَةٍ ؛ وَهِيَ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ
الرِّقَابِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَأَيُّ رَقَبَةٍ أَعْتَقَهَا أَجْزَأَتْهُ . كَذَلِكَ إذَا قِيلَ خَرَجَ دَلَّ عَلَى وُجُودِ خُرُوجٍ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا ؛ وَقَدْ يَكُونُ كَثِيرًا وَقَدْ يَكُونُ رَاكِبًا ؛ وَقَدْ يَكُونُ مَاشِيًا ؛ وَمَعَ هَذَا فَلَا يُتَنَاوَلُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ إلَّا خُرُوجٌ يُمْكِنُ مِنْ زَيْدٍ . وَإِمَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَقْتَضِي عُمُومَ كُلِّ مَا يُسَمَّى خُرُوجٌ فِي الْوُجُودِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ الْقَائِلُ إلَّا إذَا فَسَدَ تَصَوُّرُهُ وَكَانَ إلَى الْحَيَوَانِ أَقْرَبُ وَالظَّنُّ بِابْنِ جِنِّيٍّ أَنَّهُ لَا يَقُولُ هَذَا . ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي سَائِر اللُّغَاتِ فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ : إنَّ أَهْلَ اللُّغَاتِ جَمِيعَهُمْ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْجُمَلِ الْفِعْلِيَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهُمَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ إنَّمَا وَضَعُوا تِلْكَ الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ فِي الْعَالَمِ وَأَنَّ اسْتِعْمَالَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ عُدُولٌ بِاللَّفْظِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ ؟ وَلَكِنْ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ أَصْلِ الْقَوْلِ بِالْمَجَازِ إذَا أَفْضَى إلَى أَنْ يُقَالَ : فِي الْوُجُودِ مِثْلُ هَذَا الْهَذَيَانِ وَيَجْعَلُ ذَلِكَ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ تُوضَعُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ . فَمَنْ قَالَ مِنْ نفاة الْمَجَازِ فِي الْقُرْآنِ : إنَّا لَا نُسَمِّي مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَجَازًا وَإِنَّمَا نُسَمِّي مَجَازًا مَا خَرَجَ عَنْ مِيزَانِ الْعَدْلِ مِثْلَ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَدْحِ وَالْهَجْوِ
وَالْمَرَاثِي وَالْحَمَاسَةِ : فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ اصْطِلَاحًا صَحِيحًا فَهَذَا الِاصْطِلَاحُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّنْ يَجْعَلُ أَكْثَرَ الْكَلَامِ مَجَازًا بَلْ وَمِمَّنْ يَجْعَلُ التَّخْصِيصَ الْمُتَّصِلَ كُلَّهُ مَجَازًا ؛ فَيَجْعَلُ مِنْ الْمَجَازِ قَوْلَهُ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَقَوْلَهُ : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } وَقَوْلَهُ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } وَقَوْلَهُ : { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } وَقَوْلَهُ : { فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } وَقَوْلَهُ : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } " وَقَوْلَهُ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } وَقَوْلَهُ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَقَوْلَهُ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَقَوْلَهُ : { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } وَقَوْلَهُ : { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَقَوْلَهُ : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ } وَقَوْلَهُ : { فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ } وَقَوْلَهُ : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَقَوْلَهُ : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } وَقَوْلَهُ : { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } وَقَوْلَهُ : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا } وَقَوْلَهُ : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَقَوْلَهُ : { أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } وَقَوْلَهُ : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ } وَقَوْلَهُ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } وَقَوْلَهُ : { إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } وَقَوْلَهُ : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } وَقَوْلَهُ : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَقَوْلَهُ : { فَشَرِبُوا مِنْهُ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } وَقَوْلَهُ : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ } وَقَوْلَهُ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } وَأَمْثَالَ هَذَا مِمَّا لَا يُعَدُّ إلَّا بِكُلْفَةِ . فَمَنْ جَعَلَ هَذَا كُلَّهُ مَجَازًا وَأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ هَذَا كُلَّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ اللَّفْظُ لَهُ أَوَّلًا : فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ وَلَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْكَلَامِ مَجَازًا ؛ إذْ كَانَ هَذَا يَلْزَمُهُ فِي كُلِّ لَفْظٍ مُطْلَقٍ قُيِّدَ بِقَيْدِ وَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ : اسْمِيَّةٌ وَفِعْلِيَّةٌ وَالِاسْمِيَّةُ أَصْلُهَا الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ ؛ فَيَلْزَمُ إذَا وُصِفَ الْمُبْتَدَأُ وَالْخَبَرُ أَوْ اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ أَوْ قُيِّدَ بِحَالِ كَانَ مَجَازًا . وَيَلْزَمُهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ كَانَ وَأَخَوَاتُهَا وَإِنَّ وَأَخَوَاتُهَا وَظَنَنْت وَأَخَوَاتُهَا فَغَيَّرَتْ مَعْنَاهُ وَإِعْرَابَهُ أَنْ يَصِيرَ مَجَازًا : فَإِنَّ دُخُولَ الْقَيْدِ عَلَيْهِ تَارَةً يَكُونُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ ؛ وَتَارَةً فِي وَسَطِهِ : وَتَارَةً فِي آخِرِهِ
لَا سِيَّمَا بَابِ ظَنَنْت ؛ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَزَيْدًا مُنْطَلِقًا ظَنَنْت ؛ وَلِهَذَا عِنْدَ التَّقْدِيمِ يَجِبُ الْإِعْمَالُ وَفِي التَّوَسُّطِ يَجُوزُ الْإِلْغَاءُ ؛ وَفِي التَّأَخُّرِ يَحْسُنُ مَعَ جَوَازِ الْإِعْمَالِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قُدِّمَ الْمَفْعُولُ ضَعُفَ الْعَمَلُ ؛ وَلِهَذَا يُقَوُّونَهُ بِدُخُولِ حَرْفِ الْجَرِّ ؛ كَمَا يُقَوُّونَهُ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ لِكَوْنِهِ أَضْعَفَ مِنْ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ : { لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } وَقَوْلِهِ : { إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } . وَيَلْزَمُهُ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إذَا قُيِّدَتْ بِمَصْدَرِ مَوْصُوفٍ أَوْ مَعْدُودٍ أَوْ نَوْعٍ مِنْ الْمَصْدَرِ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا كَقَوْلِهِ : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَقَوْلِهِ : { وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا . } وَكَذَلِكَ ظَرْفُ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُقَيَّدُ بِهِ الْفِعْلُ مِنْ حُرُوفِ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } وَقَوْلِهِ : { عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ } وَقَوْلِهِ : { وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ } وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } .
وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ مَعَ مُبَالَغَتِهِ هُنَا فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَجَازٌ : فَهُوَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَنْصُرُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ ؛ لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا غَيْرِهِ وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ
لَهُ مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ الْحَنْبَلِيِّينَ الَّذِينَ قَالُوا بِالْمَجَازِ فَقَالَ فِي فُنُونِهِ : جَرَتْ مَسْأَلَةٌ هَلْ فِي اللُّغَةِ مَجَازٌ ؟ فَاسْتَدَلَّ حَنْبَلِيٌّ أَنَّ فِيهَا مَجَازًا بِأَنَّا وَجَدْنَا أَنَّ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا يَحْصُلُ نَفْيُهُ وَهُوَ تَسْمِيَةُ الرَّجُلِ الْمِقْدَامِ أَسَدًا ؛ وَالْعَالِمِ وَالْكَرِيمِ الْوَاسِعِ الْعَطَاءِ وَالْجُودِ بَحْرًا . . . (1) فَنَقُولُ فِيهِ : لَيْسَ بِبَحْرِ وَلَا بِأَسَدِ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ نَقُولَ فِي السَّبُعِ الْمَخْصُوصِ وَالْبَحْرِ لَيْسَ بِأَسَدِ وَلَا بَحْرٍ فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي حَسُنَ نَفْيُ الِاسْمِ عَنْهُ أَنَّهُ مُسْتَعَارٌ كَمَا نَقُولُ فِي الْمُسْتَعِيرِ لِمَالِ غَيْرِهِ : لَيْسَ بِمَالِكِ لَهُ وَلَا يَحْسُنُ أَنْ نَقُولَ فِي الْمَالِكِ لَيْسَ بِمَالِكِ لَهُ . قَالَ : اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مُعْتَرِضٌ أُصُولِيٌّ حَنْبَلِيٌّ فَقَالَ : الَّذِي عَوَّلْت عَلَيْهِ لَا أُسَلِّمُهُ وَلَا تَعْوِيلَ عَلَى الصُّورَةِ بَلْ عَلَى الْمُخَصَّصَةِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا : حَيَوَانٌ : يَشْمَلُ السَّبُعَ وَالْإِنْسَانَ فَإِذَا قُلْنَا : سَبُعٌ وَأَسَدٌ : كَانَ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِقْدَامِ وَالْهُوَاشِ وَالتَّفَخُّمِ لِلصِّيَالِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ وَصُورَةِ السَّبُعِ وَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ كَسَوَادِ الْحِبْرِ وَسَوَادِ الْقَارِ جَمِيعًا لَا يَخْتَلِفَانِ فِي اسْمِ السَّوَادِ بِالْمَعْنَى وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي هِيَ هِبَةٌ تَجْمَعُ الْبَصَرَ اتِّسَاعُ الْحَدَقَةِ فَكَذَلِكَ اتِّسَاعُ الْجُودِ وَالْعِلْمِ وَاتِّسَاعُ الْمَاءِ جَمِيعًا يَجْمَعُهُ الِاتِّسَاعُ فَيُسَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَحْرًا لِلْمَعْنَى الَّذِي جَمَعَهُمَا وَهُوَ حَقِيقَةُ الِاتِّسَاعِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ الِاسْتِعَارَةَ لِأَحَدِهِمَا إلَّا إذَا ثَبَتَ سَبْقُ التَّسْمِيَةِ لِأَحَدِهِمَا ؛ وَلَا سِيَّمَا عَلَى أَصْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْكَلَامَ
قَدِيمٌ ؛ وَالْقَدِيمُ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ؛ فَإِنَّ السَّابِقَ وَالْمَسْبُوقَ مِنْ صِفَاتِ بَعْضِهِ الْحَادِثِ مِنْ الزَّمَانِ . قُلْت : فَقَدْ جُعِلَ هَذَا اللَّفْظُ مُتَوَاطِئًا دَالًّا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ وَلَكِنَّهُ يَخْتَصُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِقَدْرِ مُتَمَيِّزٍ لِمَا امْتَازَ بِهِ مِنْ الْقَرِينَةِ كَمَا فِي مَا مَثَّلَهُ بِهِ مِنْ السَّوَادِ وَهَذَا بِعَيْنِهِ . يَرُدُّ عَلَيْهِ فِيمَا احْتَجَّ بِهِ لِلْمَجَازِ .
قَالَ : وَمِنْ أَدِلَّةِ الْمَجَازِ مَا زَعَمَ الْمُسْتَدِلُّونَ لَهُ مِنْ أَجْوَدِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْنُّفَاةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } وقَوْله تَعَالَى { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ } وَالصَّلَوَاتُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ : إمَّا الْأَدْعِيَةُ وَإِمَّا الْأَفْعَالُ الْمَخْصُوصَةُ وَكِلَاهُمَا لَا يُوصَفُ بِالتَّهَدُّمِ وَالْجَمَادُ لَا يَتَّصِفُ بِالْإِرَادَةِ . فَإِنْ قِيلَ : كَانَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ تَسْمِيَةُ الْمُصَلَّى صَلَاةً وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } أَعْضَاءُ السُّجُودِ . وَالْجِدَارُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إرَادَةٌ لَكِنَّهُ لَا يَسْتَحِيلُ مِنْ اللَّهِ فِعْلُ الْإِرَادَةِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إحْدَاثِ أَبْنِيَةٍ مَخْصُوصَةٍ . فَيُقَالُ : هَذَا دَعْوَى عَنْ الْوَضْعِ : إذْ لَا يُعْلَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْأَصْلِ
إلَّا الدُّعَاءُ وَزِيدَ فِي الشَّرْعِ أَوْ نُقِلَ إلَى الْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ فَأَمَّا الْأَبْنِيَةُ فَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ نَقْلٍ عَنْ الْعَرَبِ وَإِنْ سُمِّيَتْ صَلَوَاتٍ فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِعَارَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ الصَّلَوَاتِ . وَلَوْ خَلَقَ اللَّهُ فِي الْجِدَارِ إرَادَةً لَمْ يَكُنْ بِهَا مُرِيدًا كَمَا لَوْ خَلَقَ فِيهِ كَلَامًا لَمْ يَكُنْ بِهِ مُتَكَلِّمًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ الْمُرَادُ بِهَا عِيسَى نَفْسُهُ : فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَصْدَرَ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَفْعُولِ بِهِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ : هَذَا دِرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ : { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْرًا وَالْمَقْدُورِ قُدْرَةً وَالْمَرْحُومِ بِهِ رَحْمَةً وَالْمَخْلُوقِ بِالْكَلِمَةِ كَلِمَةً لَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ مَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِمَّا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ كَقَوْلِهِ : { يَا مَرْيَمُ إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْكَلِمَةَ هُوَ الْمَسِيحُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَسِيحَ نَفْسَهُ لَيْسَ هُوَ الْكَلَامُ { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فَبَيَّنَ لَمَّا تَعَجَّبَتْ مِنْ الْوَلَدِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ؛ إذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِمَّا يَخْلُقُهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { كُنْ فَيَكُونُ } وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : عِيسَى مَخْلُوقٌ بالكن ؛ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الكن
وَلِهَذَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فَقَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ أَنَّهُ خُلِقَ بكن لَا أَنَّهُ نَفْسُ كُنْ وَنَحْوِهَا مِنْ الْكَلَامِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ الْأَفْعَالَ أَزْمِنَةٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْخَبَرَ عَنْ زَمَانِ الْحَجِّ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهَا . { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } وَالْحَجُّ الْمَفْرُوضُ فِيهِنَّ لَيْسَ هُوَ الْأَشْهُرَ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ : { أَشْهُرٌ } لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْسَ الْفِعْلِ بَلْ بَيَّنَ مُرَادَهُ بِكَلَامِهِ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ اللَّفْظَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ أَزْمِنَةٌ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } لَمَّا قَالَ : { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ وَلَكِنَّ الْبِرَّ هُوَ التَّقْوَى فَلَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ إلَّا مَعَ مَا يُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ مَعَ قَيْدٍ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ هُنَا ؛ كَمَا هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَعَ قَيْدٍ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ هُنَاكَ وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ اشْتِرَاكٌ وَبَيْنَهُمَا امْتِيَازٌ بِمَنْزِلَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ كَلَفْظِ الصَّارِمِ وَالْمُهَنَّدِ وَالسَّيْفِ ؛ فَإِنَّهَا تَشْتَرِكُ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى الذَّاتِ فَهِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْمُتَوَاطِئَةِ وَيَمْتَازُ كُلٌّ مِنْهَا بِدَلَالَتِهِ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ فَتُشْبِهُ الْمُتَبَايِنَةَ . وَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَأَسْمَاءُ رَسُولِهِ وَكِتَابِهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ .
وَكَذَلِكَ مَا يُعَرَّفُ بِاللَّامِ لَامِ الْعَهْدِ يَنْصَرِفُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى مَا يَعْرِفُهُ الْمُخَاطَبُ إمَّا بِعُرْفِ مُتَقَدِّمٍ ؛ وَإِمَّا بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ ؛ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ هَذَا الْمُرَادِ لَيْسَ هُوَ ذَاكَ لَكِنْ بَيْنَهُمَا قَدَرَ مُشْتَرَكٌ وَقَدْرٌ فَارِقٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَا إلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا } { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } وَقَالَ تَعَالَى { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ لَفْظُ الرَّسُولِ وَلَامُ التَّعْرِيفِ لَكِنَّ الْمَعْهُودَ الْمَعْرُوفَ هُنَاكَ هُوَ رَسُولُ فِرْعَوْنَ وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمَعْرُوفُ الْمَعْهُودُ هُنَا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ } هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ وَالِاسْمُ مُتَوَاطِئٌ وَهُوَ مُعَرَّفٌ بِاللَّامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَكِنَّ الْعَهْدَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ غَيْرُ الْعَهْدِ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَهَذَا أَحَدُ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَدُلُّ اللَّفْظُ : فَإِنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ لَا تَدُلُّ إلَّا مَعَ مَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِ بِالْمَعْهُودِ الْمَعْرُوفِ . وَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِشَارَةِ ؛ كَقَوْلِهِ : هَذَا وَهَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ : إنَّمَا يَدُلُّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ هُنَاكَ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلَالَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ لَفْظِيَّةٍ تُبَيِّنُ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ غَيْرُ لَفْظِ الْإِشَارَةِ فَتِلْكَ الدَّلَالَةُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إلَّا بِهَا وَبِلَفْظِ الْإِشَارَةِ كَمَا أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إلَّا بِهَا
وَبِالْمَعْهُودِ وَمِثْلُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لَا يُقَالُ : إنَّهَا مَجَازٌ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ بَلْ وَالضَّمَائِرِ وَلَامِ الْعَهْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَجَازًا وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَإِنْ قَالَهُ جَاهِلٌ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ دَلَالَةَ الْأَلْفَاظِ وَظَنَّ أَنَّ الْحَقَائِقَ تَدُلُّ بِدُونِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ بَلْ لَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْ الْأَلْفَاظِ إلَّا مَقْرُونًا بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَبِحَالِ الْمُتَكَلِّمِ الَّذِي يَعْرِفُ عَادَتَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْكَلَامِ وَإِلَّا فَنَفْسُ اسْتِمَاعِ اللَّفْظِ بِدُونِ الْمَعْرِفَةِ لِلْمُتَكَلِّمِ وَعَادَتُهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ ؛ إذَا كَانَتْ دَلَالَتُهَا دَلَالَةً قَصْدِيَّةً إرَادِيَّةً تَدُلُّ عَلَى مِمَّا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ أَنْ يَدُلَّ بِهَا عَلَيْهِ لَا تَدُلُّ بِذَاتِهَا . فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْرِفَ مَا يَجِبُ أَنْ يُرِيدَهُ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ ؛ بَلْ بِالْعَقْلِ مَعَ السَّمْعِ . وَلِهَذَا كَانَتْ دَلَالَةُ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانِيهَا سَمْعِيَّةً عَقْلِيَّةً تُسَمَّى الْفِقْهُ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَنْ عَرَفَهَا : هُوَ يَفْقَهُ وَلِمَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا : لَا يَفْقَهُ . قَالَ تَعَالَى { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا } وَقَالَ : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } .
وَلِهَذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ : أَنْ يَفْقَهَ مُرَادَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . تَمَّ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَحَبِيبِهِ وَأَفْضَلِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
فِي أُصُولِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } . وَفِي التَّشَهُّدِ : { التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ } وَهَذِهِ الْأُصُولُ الَّتِي أَمَرَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لشريح حَيْثُ قَالَ : اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَفِي رِوَايَةٍ فَبِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيُفْتِ بِمَا فِي كِتَابِ
اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ . وَكَذَلِكَ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوْجَبَ طَاعَتَهُمْ إذَا لَمْ يَكُنْ نِزَاعٌ وَلَمْ يَأْمُرْ بِالرَّدِّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إلَّا إذَا كَانَ نِزَاعٌ . فَدَلَّ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ وُجُوبِ طَاعَتِهِمْ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الرَّدَّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا وَجَبَ عِنْدَ النِّزَاعِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ النِّزَاعِ لَا يَجِبُ وَإِنْ جَازَ لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَأَمَرَ بِمُوَالَاتِهِمْ وَالْمُوَالَاةُ تَقْتَضِي الْمُوَافَقَةَ وَالْمُتَابَعَةَ كَمَا أَنَّ الْمُعَادَاةَ تَقْتَضِي الْمُخَالَفَةَ وَالْمُجَانَبَةَ فَمَنْ وَافَقْته مُطْلَقًا فَقَدْ وَالَيْته مُطْلَقًا وَمَنْ وَافَقْته فِي غَالِبِ الْأُمُورِ فَقَدْ وَالَيْته فِي غَالِبِهَا وَمَوْرِدُ النِّزَاعِ لَمْ تُوَالِهِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ تُعَادِهِ . فَأَمَّا الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَثِيرٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ : " { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } { فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا } { وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ } وَ { يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ } { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ } الْآيَةَ { فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ } { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } . وَهَذَا كَثِيرٌ . وَأَمَّا السَّلَفُ فَآيَاتٌ أَحَدُهَا : مَا تَقَدَّمَ مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَأُولِي الْأَمْرِ } وَقَوْلُهُ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ } وَقَوْلُهُ : { وَالْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلُهُ { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } وَلَوْ خَرَجَ الْمُؤْمِنُونَ عَنْ الْحَقِّ وَالْهُدَى لَمَا كَانَتْ لَهُمْ الْعِزَّةُ إذْ ذَاكَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ وَالضَّلَالَ لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي يُسْتَحَقُّ بِهِ الْعِزَّةُ وَالْعِزَّةُ مَشْرُوطَةٌ بِالْإِيمَانِ لِقَوْلِهِ : { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } أَمَرَ بِسُؤَالِهِ الْهِدَايَةَ إلَى صِرَاطِهِمْ ؛ وَقَالَ : { فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ وَفِيهَا الدَّلَالَةُ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَالسَّلَفُ الْمُؤْمِنُونَ مُنِيبُونَ أَيْ فَيَجِبُ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَالسَّلَفُ كَذَلِكَ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } وَمَنْ خَرَجَ عَنْ إجْمَاعِهِمْ
فَقَدْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } وَقَوْلُهُ : { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وَقَالَ قَوْمُ عِيسَى : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } فِي آلِ عِمْرَانَ وَالْمَائِدَةِ لِأَنَّ لَنَا الشَّهَادَةَ وَلَهُمْ الْعِبَادَةُ بِلَا شَهَادَةٍ وَالْأُمَّةُ الْوَسَطُ الْعَدْلُ الْخِيَارُ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ عَادِلِينَ كَالرَّسُولِ ؛ وَلِهَذَا { قَالَ فِي الْجِنَازَةِ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَقَالَ : أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ } وَقَالَ : { تُوشِكُوا أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ } فَعُلِمَ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ فِيمَا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَشْخَاصِ وَالْأَفْعَالِ ؛ وَلَوْ كَانُوا قَدْ يَشْهَدُونَ بِمَا لَيْسَ بِحَقِّ لَمْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ مُطْلَقًا . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } وَفِيهَا أَدِلَّةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ : { خَيْرَ أُمَّةٍ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْمُرُوا بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَيَنْهَوْا عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ وَالصَّوَابُ فِي الْأَحْكَامِ مَعْرُوفٌ وَالْخَطَأُ مُنْكَرٌ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } وَمِنْهَا قَوْلُ الْخَلِيلِ { رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } وَقَوْلُ يُوسُفَ : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَالرِّضْوَانُ لَا يَكُونُ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى ذَنْبٍ أَوْ خَطَأٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ الْعَفْوُ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } وَقَوْلُهُ : { وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } فَإِنَّهُ يَدُلُّ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الِاصْطِفَاءَ يَقْتَضِي التَّصْفِيَةَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ الِاتِّفَاقِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ وَالْخَطَأِ . وَالثَّانِي التَّسْلِيمُ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي سَلَامَتَهُمْ مِنْ الْعُيُوبِ كَمَا سَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى نُوحٍ وَعَلَى الْمَسِيحِ . وَمِنْهَا قَوْلُهُ { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُدًى فِي كُلِّ شَيْءٍ وَقَوْلُهُ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إخْرَاجَهُمْ مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } وَقَوْلُهُ : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ } . وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } . وَمَا كَانَ نَحْوَهَا مِنْ الْأَمْرِ بِالْجَمَاعَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْفُرْقَةِ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ قَوْلِهِمْ : هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ لِمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِهِمْ وَرُبَّمَا كَانَ حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ : تَطْهِيرُ الْمَاءِ إذَا وَقَعَ فِيهِ نَجَاسَةٌ خِلَافُ الْقِيَاسِ (*) بَلْ وَتَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالتَّوَضُّؤُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالسَّلَمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْإِجَارَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالْمُضَارَبَةُ وَالْمُزَارَعَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْقَرْضُ وَصِحَّةُ صَوْمِ الْمُفْطِرِ نَاسِيًا وَالْمُضِيُّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ : فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُعَارِضُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ النَّصَّ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَصْلُ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لَفْظَ الْقِيَاسِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ يَدْخُلُ فِيهِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ . فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ
الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ الْأَوَّلُ قِيَاسُ الطَّرْدِ وَالثَّانِي قِيَاسُ الْعَكْسِ وَهُوَ مِنْ الْعَدْلِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ . فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْعِلَّةُ الَّتِي عُلِّقَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَوْجُودَةً فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ يَمْنَعُ حُكْمَهَا وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ قَطُّ . وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَهُوَ : أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ فِي الشَّرْعِ فَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ . وَحَيْثُ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ بِحُكْمِ يُفَارِقُ بِهِ نَظَائِرَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَخْتَصَّ ذَلِكَ النَّوْعُ بِوَصْفِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ وَيَمْنَعُ مُسَاوَاتَهُ لِغَيْرِهِ لَكِنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ قَدْ يَظْهَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ وَقَدْ لَا يَظْهَرُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الْمُعْتَدِلِ أَنْ يَعْلَمَ صِحَّتَهُ كُلُّ أَحَدٍ فَمَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ الشَّرِيعَةِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ فَإِنَّمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ . وَحَيْثُ عَلِمْنَا أَنَّ النَّصَّ جَاءَ بِخِلَافِ قِيَاسٍ : عَلِمْنَا قَطْعًا أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدٌ بِمَعْنَى أَنَّ صُورَةَ النَّصِّ امْتَازَتْ عَنْ تِلْكَ الصُّوَرِ الَّتِي يَظُنُّ أَنَّهَا مِثْلُهَا بِوَصْفِ أَوْجَبَ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ لَهَا بِذَلِكَ الْحُكْمِ فَلَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يُخَالِفُ قِيَاسًا صَحِيحًا لَكِنْ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ .
وَنَحْنُ نُبَيِّنُ أَمْثِلَةَ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ فَاَلَّذِينَ قَالُوا : الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ : ظَنُّوا أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا عَمَلٌ بِعِوَضِ وَالْإِجَارَةُ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ فَلَمَّا رَأَوْا الْعَمَلَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ غَيْرَ مَعْلُومٍ وَالرِّبْحُ فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ قَالُوا : تُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَهَذَا مِنْ غَلَطِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارَكَاتِ لَا مِنْ جِنْسِ الْمُعَاوَضَاتِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعِلْمُ بِالْعِوَضَيْنِ وَالْمُشَارَكَاتُ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ وَإِنْ قِيلَ إنَّ فِيهَا شَوْبَ الْمُعَاوَضَةِ .
وَكَذَلِكَ الْمُقَاسَمَةُ جِنْسٌ غَيْرُ جِنْسِ الْمُعَاوَضَةِ الْخَاصَّةِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا شَوْبُ مُعَاوَضَةٍ حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهَا بَيْعٌ يُشْتَرَطُ فِيهَا شُرُوطُ الْبَيْعِ الْخَاصِّ .
وَإِيضَاحُ هَذَا : أَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْمَالُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَقْصُودًا مَعْلُومًا ؛ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ . فَهَذِهِ الْإِجَارَةُ اللَّازِمَةُ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَقْصُودًا لَكِنَّهُ مَجْهُولٌ أَوْ غَرَرٌ فَهَذِهِ الْجَعَالَةُ وَهِيَ : عَقْدٌ جَائِزٌ لَيْسَ بِلَازِمِ فَإِذَا قَالَ : مَنْ رَدَّ عَبْدِي الْآبِقَ فَلَهُ مِائَةٌ فَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ وَقَدْ لَا يَقْدِرُ وَقَدْ يَرُدُّهُ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَقَدْ
يَرُدُّهُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ؛ فَلِهَذَا لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً لَكِنْ هِيَ جَائِزَةٌ فَإِنْ عَمِلَ هَذَا الْعَمَلَ اسْتَحَقَّ الْجُعْلَ وَإِلَّا فَلَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ فِيهَا إذَا حَصَلَ بِالْعَمَلِ جُزْءًا شَائِعًا ؛ وَمَجْهُولًا جَهَالَةً لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَمِيرُ الْغَزْوِ : مَنْ دَلَّ عَلَى حِصْنٍ فَلَهُ ثُلُثُ مَا فِيهِ " وَيَقُولَ لِلسَّرِيَّةِ الَّتِي يَسْرِيهَا : لَك خُمُسُ مَا تَغْنَمِينَ أَوْ رُبُعُهُ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي سَلَبِ الْقَاتِلِ : هَلْ هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْعِ ؟ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَوْ بِالشَّرْطِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد فَمَنْ جَعَلَهُ مُسْتَحَقًّا بِالشَّرْطِ جَعَلَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إذَا جَعَلَ لِلطَّبِيبِ جُعْلًا عَلَى شِفَاءِ الْمَرِيضِ جَازَ كَمَا أَخَذَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ جُعِلَ لَهُمْ قَطِيعٌ عَلَى شِفَاءِ سَيِّدِ الْحَيِّ فَرَقَاهُ بَعْضُهُمْ حَتَّى بَرِئَ فَأَخَذُوا الْقَطِيعَ ؛ فَإِنَّ الْجُعْلَ كَانَ عَلَى الشِّفَاءِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ . وَلَوْ اسْتَأْجَرَ طَبِيبًا إجَارَةً لَازِمَةً عَلَى الشِّفَاءِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الشِّفَاءَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ فَقَدْ يَشْفِيهِ اللَّهُ وَقَدْ لَا يَشْفِيهِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا تَجُوزُ فِيهِ الْجَعَالَةُ دُونَ الْإِجَارَةِ اللَّازِمَةِ . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ : فَهُوَ مَا لَا يُقْصَدُ فِيهِ الْعَمَلُ ؛ بَلْ الْمَقْصُودُ الْمَالُ وَهُوَ الْمُضَارَبَةُ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ فِي نَفْسِ عَمَلِ الْعَامِلِ كَمَا لِلْجَاعِلِ وَالْمُسْتَأْجِرِ قَصْدٌ فِي عَمَلِ الْعَامِلِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ عَمِلَ
مَا عَمِلَ وَلَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ وَإِنْ سُمِّيَ هَذَا جَعَالَةً بِجُزْءِ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ كَانَ نِزَاعًا لَفْظِيًّا بَلْ هَذِهِ مُشَارَكَةٌ هَذَا بِنَفْعِ بَدَنِهِ وَهَذَا بِنَفْعِ مَالِهِ وَمَا قَسَّمَ اللَّهُ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْإِشَاعَةِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِرِبْحِ مُقَدَّرٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا يُخْرِجُهُمَا عَنْ الْعَدْلِ الْوَاجِبِ فِي الشَّرِكَةِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُزَارَعَةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَشْرُطُونَ لِرَبِّ الْمَالِ زَرْعَ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا وَهُوَ مَا يَنْبُتُ عَلَى الماذيانات وَإِقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ : إنَّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَمْرٌ إذَا نَظَرَ فِيهِ ذُو الْبَصَرِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ أَوْ كَانَ قَالَ . فَبَيَّنَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مُوجِبُ الْقِيَاسِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَوْ شُرِطَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَجُزْ ؛ لَأَنَّ مَبْنَى الْمُشَارَكَاتِ عَلَى الْعَدْلِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَإِذَا خُصَّ أَحَدُهُمَا بِرِبْحِ دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ هَذَا عَدْلًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِكُلِّ مِنْهُمَا جُزْءٌ شَائِعٌ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي الْمَغْنَمِ وَفِي الْمَغْرَمِ فَإِنْ حَصَلَ رِبْحٌ اشْتَرَكَا فِي الْمَغْنَمِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ وَذَهَبَ نَفْعُ بَدَنِ هَذَا كَمَا ذَهَبَ نَفْعُ مَالِ هَذَا وَلِهَذَا كَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ ذَهَابِ نَفْعِ الْعَامِلِ .
وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ رِبْحُ الْمِثْلِ لَا أُجْرَةُ الْمِثْلِ فَيُعْطَى الْعَامِلُ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ أَنْ يُعْطَاهُ مِثْلُهُ مِنْ الرِّبْحِ : إمَّا نِصْفُهُ وَإِمَّا ثُلُثُهُ وَإِمَّا ثُلُثَاهُ . فَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا مُقَدَّرًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ الْمَالِكِ كَمَا يُعْطِيَ فِي الْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ فَهَذَا غَلَطٌ مِمَّنْ قَالَهُ . وَسَبَبُ الْغَلَطِ ظَنُّهُ أَنَّ هَذَا إجَارَةٌ فَأَعْطَاهُ فِي فَاسِدِهَا عِوَضَ الْمِثْلِ كَمَا يُعْطِيهِ فِي الْمُسَمَّى الصَّحِيحِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ غَلَطَ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْعَامِلَ قَدْ يَعْمَلُ عَشْرَ سِنِينَ فَلَوْ أُعْطِيَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ لَأُعْطِيَ أَضْعَافَ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَةِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ إنْ كَانَ هُنَاكَ رِبْحٌ فَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ فِي الْفَاسِدَةِ أَضْعَافَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فِي الصَّحِيحَةِ ؟ وَكَذَلِكَ الَّذِينَ أَبْطَلُوا الْمُزَارَعَةَ وَالْمُسَاقَاةَ ظَنُّوا أَنَّهَا إجَارَةٌ بِعِوَضِ مَجْهُولٍ فَأَبْطَلُوهَا وَبَعْضُهُمْ صَحَّحَ مِنْهَا مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ كَالْمُسَاقَاةِ عَلَى الشَّجَرِ لِعَدَمِ إمْكَانِ إجَارَتِهَا بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ تُمْكِنُ إجَارَتُهَا . وَجَوَّزُوا مِنْ الْمُزَارَعَةِ مَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْمُسَاقَاةِ إمَّا مُطْلَقًا ؛ وَإِمَّا إذَا كَانَ الْبَيَاضُ الثُّلُثَ . وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ بُطْلَانُ الْمُزَارَعَةِ وَإِنَّمَا جُوِّزَتْ لِلْحَاجَةِ . وَمَنْ أَعْطَى النَّظَرَ حَقَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ أَبْعَدُ عَنْ الظُّلْمِ وَالْقِمَارِ مِنْ الْإِجَارَةِ بِأُجْرَةِ مُسَمَّاةٍ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَقْصِدُ الِانْتِفَاعَ بِالزَّرْعِ النَّابِتِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَمَقْصُودُهُ مِنْ
الزَّرْعِ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ كَانَ فِي هَذَا حُصُولُ أَحَدِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ عَلَى مَقْصُودِهِ دُونَ الْآخَرِ . وَأَمَّا الْمُزَارَعَةُ فَإِنْ حَصَلَ الزَّرْعُ اشْتَرَكَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ اشْتَرَكَا فِي الْحِرْمَانِ فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِحُصُولِ مَقْصُودِهِ دُونَ الْآخَرِ فَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَأَبْعَدُ عَنْ الظُّلْمِ مِنْ الْإِجَارَةِ . وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ جَمِيعِهَا هُوَ الْعَدْلُ ؛ فَإِنَّهُ بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ الْكُتُبُ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } وَالشَّارِعُ نَهَى عَنْ الرِّبَا لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَعَنْ الْمَيْسِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقُرْآنُ جَاءَ بِتَحْرِيمِ هَذَا وَهَذَا وَكِلَاهُمَا أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ : كَبَيْعِ الْغَرَرِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ وَبَيْعِ السِّنِينَ وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ : هِيَ دَاخِلَةٌ إمَّا فِي الرِّبَا وَإِمَّا فِي الْمَيْسِرِ فَالْإِجَارَةُ بِالْأُجْرَةِ الْمَجْهُولَةِ مِثْلَ أَنْ يَكْرِيَهُ الدَّارَ بِمَا يَكْسِبُهُ الْمُكْتَرِي فِي حَانُوتِهِ مِنْ الْمَالِ هُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ . وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَيْسِرِ بَلْ هُوَ مِنْ أَقْوَمِ الْعَدْلِ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْمُزَارَعَةَ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ
أَحَقُّ بِالْجَوَازِ مِنْ الْمُزَارَعَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ وَلِهَذَا كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُزَارِعُونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ . وَاَلَّذِينَ اشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ قَاسُوا ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَقَالُوا فِي الْمُضَارَبَةِ : الْمَالُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الْمُزَارَعَةِ وَجَعَلُوا الْبَذْرَ مِنْ رَبِّ الْمَالِ كَالْأَرْضِ . وَهَذَا الْقِيَاسُ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَلِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ فِي الْمُضَارَبَةِ يَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَرْضِ فِي الْمُزَارَعَةِ وَأَمَّا الْبَذْرُ الَّذِي لَا يَعُودُ نَظِيرُهُ إلَى صَاحِبِهِ بَلْ يَذْهَبُ كَمَا يَذْهَبُ نَفْعُ الْأَرْضِ فَإِلْحَاقُهُ بِالنَّفْعِ الذَّاهِبِ أَوْلَى مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْأَصْلِ الْبَاقِي فَالْعَاقِدُ إذَا أَخْرَجَ الْبَذْرَ ذَهَبَ عَمَلُهُ وَبَذْرُهُ وَرَبُّ الْأَرْضِ ذَهَبَ نَفْعُ أَرْضِهِ وَبَذْرُ هَذَا كَأَرْضِ هَذَا فَمَنْ جَعَلَ الْبَذْرَ كَالْمَالِ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعِيدَ مِثْلَ الْبَذْرِ إلَى صَاحِبِهِ كَمَا قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ فَكَيْفَ وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ الْبَذْرِ نَظِيرَ عَوْدِ بَذْرِهِ إلَيْهِ لَمْ يُجَوِّزُوا ذَلِكَ .
وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَى جِنْسِ قَوْلِ الْقَائِلِ : هَذَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْحَوَالَةُ " فَمَنْ قَالَ : تُخَالِفُ الْقِيَاسَ قَالَ : إنَّهَا بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَهَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ عَامٌّ وَلَا إجْمَاعٌ . وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَالْكَالِئُ هُوَ الْمُؤَخَّرُ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ بِالْمُؤَخَّرِ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ وَهَذَا كَمَا لَوْ أَسْلَمَ شَيْئًا فِي شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ وَكِلَاهُمَا مُؤَخَّرٌ فَهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ بَيْعُ كَالِئٍ بِكَالِئِ . وَأَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ فَيَنْقَسِمُ إلَى بَيْعِ وَاجِبٍ بِوَاجِبِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَيَنْقَسِمُ إلَى بَيْعِ سَاقِطٍ بِسَاقِطِ وَسَاقِطٍ بِوَاجِبِ . وَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْحَوَالَةَ مِنْ جِنْسِ إيفَاءِ الْحَقِّ لَا مِنْ جِنْسِ الْبَيْعِ . فَإِنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إذَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَدِينِ مَالَهُ كَانَ هَذَا اسْتِيفَاءً فَإِذَا أَحَالَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ الدَّيْنَ عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وَلِهَذَا ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْحَوَالَةَ فِي مَعْرِضِ الْوَفَاءِ فَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } فَأَمَرَ الْمَدِينَ بِالْوَفَاءِ وَنَهَاهُ عَنْ الْمَطْلِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ ظَالِمٌ إذَا مَطَلَ وَأَمَرَ الْغَرِيمَ بِقَبُولِ الْوَفَاءِ إذَا أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } أَمَرَ الْمُسْتَحِقَّ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَمَرَ الْمَدِينَ أَنْ يُؤَدِّيَ بِإِحْسَانٍ . وَوَفَاءُ الدَّيْنِ لَيْسَ هُوَ الْبَيْعَ الْخَاصَّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَوْبُ الْمُعَاوَضَةِ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَفَاءَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ بِسَبَبِ أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا قَبَضَ الْوَفَاء صَارَ فِي ذِمَّتِهِ لِلْمَدِينِ مِثْلُهُ يتقاص مَا عَلَيْهِ بِمَالِهِ وَهَذَا تَكَلُّفٌ أَنْكَرَهُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا : بَلْ نَفْسُ الْمَالِ الَّذِي قَبَضَهُ يَحْصُلُ بِهِ الْوَفَاءُ وَلَا حَاجَةَ أَنْ نُقَدِّرَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَوْفِي دَيْنًا وَأُولَئِكَ قَصَدُوا أَنْ يَكُونَ وَفَاءُ الدَّيْنِ بِدَيْنٍ وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ بَلْ الدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ وَالْمُعَيَّنُ مِنْ جِنْسِ الْمُعَيَّنِ فَمَنْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ مُطْلَقٌ كُلِّيٌّ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ وَأَيُّ مُعَيَّنٍ اسْتَوْفَاهُ حَصَلَ بِهِ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ الْمُطْلَقِ .
فَصْلٌ :
وَمَنْ قَالَ : الْقَرْضُ خِلَافُ الْقِيَاسِ قَالَ : لِأَنَّهُ بَيْعُ رِبَوِيٍّ بِجِنْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ . وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ الْقَرْضَ مِنْ جِنْسِ التَّبَرُّعِ بِالْمَنَافِعِ كَالْعَارِيَةِ وَلِهَذَا { سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنِيحَةً فَقَالَ : أَوْ مَنِيحَةُ ذَهَبٍ أَوْ مَنِيحَةُ وَرِقٍ } وَبَابُ الْعَارِيَةِ أَصْلُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ أَصْلَ الْمَالِ لِيَنْتَفِعَ بِمَا يَسْتَخْلِفُ مِنْهُ ثُمَّ يُعِيدَهُ إلَيْهِ فَتَارَةً يَنْتَفِعُ بِالْمَنَافِعِ كَمَا فِي عَارِيَةِ الْعَقَارِ وَتَارَةً يَمْنَحُهُ مَاشِيَةً لِيَشْرَبَ لَبَنَهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا وَتَارَةً يُعِيرَهُ شَجَرَةً لِيَأْكُلَ ثَمَرَهَا ثُمَّ يُعِيدَهَا فَإِنَّ اللَّبَنَ وَالثَّمَرَ يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَنَافِعِ وَلِهَذَا كَانَ فِي الْوَقْفِ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَالْمُقْرِضُ يُقْرِضُهُ مَا يُقْرِضُهُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ ثُمَّ يُعِيدَ لَهُ بِمِثْلِهِ فَإِنَّ إعَادَةَ الْمِثْلِ تَقُومُ مَقَامَ إعَادَةِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا نُهِيَ أَنْ يَشْتَرِطَ زِيَادَةً عَلَى الْمِثْلِ كَمَا لَوْ شَرَطَ فِي الْعَارِيَةِ أَنْ يَرُدَّ مَعَ الْأَصْلِ غَيْرَهُ . وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْبَيْعِ فَإِنَّ عَاقِلًا لَا يَبِيعُ دِرْهَمًا بِمِثْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَى أَجَلٍ وَلَا يُبَاعُ الشَّيْءُ بِجِنْسِهِ إلَى أَجَلٍ إلَّا مَعَ اخْتِلَافِ الصِّفَةِ أَوْ الْقَدْرِ كَمَا يُبَاعُ نَقْدٌ بِنَقْدِ آخَرَ وَصَحِيحٌ بِمَكْسُورِ وَنَحْوُ ذَلِكَ
وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِي الْقَرْضِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُقْرِضِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّفْتَجَةِ وَلِهَذَا كَرِهَهَا مَنْ كَرِهَهَا وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَنْتَفِعُ بِهَا أَيْضًا فَفِيهَا مَنْفَعَةٌ لَهُمَا جَمِيعًا إذَا أَقْرَضَهُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَالنِّكَاحُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ : فَهُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ وَشُبْهَتُهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْإِنْسَانُ شَرِيفٌ وَالنِّكَاحُ فِيهِ ابْتِذَالُ الْمَرْأَةِ وَشَرَفُ الْإِنْسَانِ يُنَافِي الِابْتِذَالَ . وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ النِّكَاحَ مِنْ مَصْلَحَةِ شَخْصِ الْمَرْأَةِ وَنَوْعِ الْإِنْسَانِ وَالْقَدَرُ الَّذِي فِيهِ مِنْ كَوْنِ الذَّكَرِ يَقُومُ عَلَى الْأُنْثَى هُوَ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي بِهَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ جِنْسِ الْحَيَوَانِ فَضْلًا عَنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَمِثْلُ هَذَا الِابْتِذَالُ لَا يُنَافِي الْإِنْسَانِيَّةَ كَمَا لَا يُنَافِيهَا أَنْ يَتَغَوَّطَ الْإِنْسَانُ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ وَأَنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذَلِكَ أَكْمَلَ بَلْ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَحَصَلَتْ لَهُ بِهِ مَصْلَحَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَالْمَرْأَةُ مُحْتَاجَةٌ إلَى النِّكَاحِ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَصْلَحَتِهَا فَكَيْفَ يُقَالُ : الْقِيَاسُ يَقْتَضِي مَنْعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ ؟ وَكَذَلِكَ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّ شُبْهَةَ مَنْ قَالَ : إنَّهَا تُخَالِفُ الْقِيَاسَ أَنَّ
الْمَاءَ إذَا لَاقَاهَا نَجُسَ الْمَاءُ ثُمَّ إذَا صُبَّ مَاءٌ آخَرُ لَاقَى الْأَوَّلَ . وَهَلُمَّ جَرَّا قَالُوا : فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنَّهَا تُنَجِّسُ الْمِيَاهَ الْمُتَلَاحِقَةَ وَالنَّجِسَ لَا يُزِيلُ النَّجَسَ . وَهَذَا غَلَطٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَ قُلْتُمْ الْقِيَاسَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى النَّجَاسَةَ نَجُسَ ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ : لِأَنَّهُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَذَلِكَ . قِيلَ : الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ : الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَمَنْ سَلَّمَ الْأَصْلَ قَالَ لَيْسَ جَعْلُ الْإِزَالَةِ مُخَالِفَةً لِلْقِيَاسِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ تَنَجُّسِ الْمَاءِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ بِأَنْ يُقَالَ : الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَاقَى نَجَاسَةً لَا يَنْجُسُ كَمَا أَنَّهُ إذَا لَاقَاهَا حَالَ الْإِزَالَةِ لَا يَنْجُسُ فَهَذَا الْقِيَاسُ أَصَحُّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَزُولُ بِالْمَاءِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا تَنَجُّسُ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ فَمَوْرِدُ نِزَاعٍ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مَوَاقِعُ النِّزَاعِ حُجَّةً عَلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقَاسَ مَوَارِدُ النِّزَاعِ عَلَى مَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ . ثُمَّ يُقَالُ : الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْمَعْقُولُ أَنَّ الْمَاءَ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ النَّجَاسَةُ لَا يَنْجُسُ ؛ فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ خَلْقِهِ وَهُوَ طَيِّبٌ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمَائِعَاتِ جَمِيعِهَا إذَا وَقَعَتْ فِيهَا نَجَاسَةٌ فَاسْتَحَالَتْ حَتَّى لَمَّ يَظْهَرُ طَعْمُهَا
وَلَا لَوْنُهَا وَلَا رِيحُهَا أَنْ لَا تَنْجُسَ فَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ : هَلْ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْمَاءِ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ أَوْ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالثَّانِي قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ . وَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ هَذَا ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ هَذَا وَهُمْ أَهْلُ الْحِجَازِ وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ وَالنُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الطَّيِّبَاتِ وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ وَالطِّيبُ وَالْخُبْثُ بِاعْتِبَارِ صِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِالشَّيْءِ فَمَا دَامَ عَلَى حَالِهِ فَهُوَ طَيِّبٌ فَلَا وَجْهَ لِتَحْرِيمِهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَتْ قَطْرَةُ خَمْرٍ فِي جُبٍّ لَمْ يُجْلَدْ شَارِبُهُ . وَاَلَّذِينَ يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْقِيَاسَ نَجَاسَةُ الْمَاءِ بِالْمُلَاقَاةِ فَرَّقُوا بَيْنَ مُلَاقَاتِهِ فِي الْإِزَالَةِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا بِفُرُوقِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَاءُ هَاهُنَا وَارِدٌ عَلَى النَّجَاسَةِ وَهُنَاكَ وَرَدَتْ النَّجَاسَةُ عَلَيْهِ وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ صُبَّ مَاءٌ فِي جُبٍّ نَجِسٍ يَنْجُسُ عِنْدَهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَاءُ إذَا كَانَ فِي مَوْرِدِ التَّطْهِيرِ لِإِزَالَةِ الْخَبَثِ أَوْ الْحَدَثِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ النَّجَاسَةِ وَلَا الِاسْتِعْمَالِ إلَّا إذَا انْفَصَلَ وَأَمَّا قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا وَلَا نَجِسًا . وَهَذَا حِكَايَةُ مَذْهَبٍ لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْمَاءُ فِي حَالِ الْإِزَالَةِ جَارٍ وَالْمَاءُ الْجَارِي لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ أَنَصُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَلَكِنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ تَارَةً تَكُونُ بِالْجَرَيَانِ وَتَارَةً تَكُونُ بِدُونِهِ كَمَا لَوْ صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الثَّوْبِ فِي الطَّسْتِ . فَالصَّوَابُ أَنَّ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَالنَّجَاسَةُ لَا تَزُولُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ وَأَمَّا فِي حَالِ تَغَيُّرِهِ فَهُوَ نَجِسٌ لَكِنْ تُخَفَّفُ بِهِ النَّجَاسَةُ وَأَمَّا الْإِزَالَةُ فَإِنَّمَا تَحْصُلُ بِالْمَاءِ الَّذِي لَيْسَ بِمُتَغَيِّرِ . وَهَذَا الْقِيَاسُ فِي الْمَاءِ هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمَائِعَاتِ كُلِّهَا أَنَّهَا لَا تَنْجُسُ إذَا اسْتَحَالَتْ النَّجَاسَةُ فِيهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا فِيهَا أَثَرٌ ؛ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَا مِنْ الْخَبَائِثِ . وَهَذَا الْقِيَاسُ هُوَ الْقِيَاسُ فِي قَلِيلِ الْمَاءِ وَكَثِيرِهِ ؛ وَقَلِيلِ الْمَائِعِ وَكَثِيرِهِ فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى نَجَاسَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا نَقُولُ : إنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ بَلْ نَقُولُ : دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ مَا اسْتَحَالَتْ . وَلِهَذَا كَانَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْمِيَاهِ مَذْهَبَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ : أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد نَصَرَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كَالْإِمَامِ أَبِي الْوَفَاءِ بْنِ عَقِيلٍ ؛ وَأَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ الْمَنِيِّ .
وَكَذَلِكَ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ } فَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ جُنُبًا وَلَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ حُكْمُ الْجَنَابَةِ وَنَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ أَوْ عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَصِيرُ نَجِسًا بِذَلِكَ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ الْبَوْلُ بَعْدَ الْبَوْلِ مِنْ إفْسَادِهِ أَوْ لِمَا يُؤَدِّي إلَى الْوَسْوَاسِ كَمَا { نَهَى عَنْ بَوْلِ الرَّجُلِ فِي مُسْتَحَمِّهِ وَقَالَ : عَامَّةُ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ } وَنَهْيُهُ عَنْ الِاغْتِسَالِ قَدْ جَاءَ فِيهِ أَنَّهُ نَهَى - عَنْ الِاغْتِسَالِ فِيهِ بَعْدَ الْبَوْلِ وَهَذَا يُشْبِهُ نَهْيَهُ عَنْ بَوْلِ الْإِنْسَانِ فِي مُسْتَحَمِّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ : أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ } وَالتَّفْرِيقُ الْمَرْوِيُّ فِيهِ : " إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا ؛ وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ " غَلَطٌ كَمَا بَيَّنَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ مِنْ غَلَطِ مَعْمَرٍ فِيهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَاوِيهِ أَفْتَى فِيمَا إذَا مَاتَتْ أَنْ تُلْقَى وَمَا حَوْلَهَا وَيُؤْكَلَ فَقِيلَ لَهُمَا : إنَّهَا قَدْ دَارَتْ فِيهِ فَقَالَ : إنَّمَا ذَاكَ لَمَّا كَانَتْ حَيَّةً ؛ فَلَمَّا مَاتَتْ اسْتَقَرَّتْ . رَوَاهُ أَحْمَد فِي مَسَائِلِ ابْنِهِ صَالِحٍ . وَكَذَلِكَ الزُّهْرِيُّ رَاوِي الْحَدِيثِ أَفْتَى فِي الْجَامِدِ وَالْمَائِعِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ سَمْنًا كَانَ أَوْ زَيْتًا ؛ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ : بِأَنْ تُلْقَى وَمَا قَرُبَ مِنْهَا وَيُؤْكَلَ الْبَاقِي ؛
وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ فَكَيْفَ قَدْ يَكُونُ رَوَى فِيهِ الْفَرْقَ ؟ وَحَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ إنْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ : { إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ : لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيْءٌ } يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِنَجَاسَتِهِ كَوْنُ الْخَبَثِ فِيهِ مَحْمُولًا فَمَتَى كَانَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ لَمْ يَكُنْ مَحْمُولًا فَمَنْطُوقُ الْحَدِيثِ وَتَعْلِيلُهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا تَخْصِيصُ الْقُلَّتَيْنِ بِالذِّكْرِ فَإِنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِأَرْضِ الْفَلَاةِ ؛ وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ ؛ وَذَلِكَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ فِي الْعَادَةِ فَبَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيهِ خَبَثٌ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْمِلُ الْخَبَثَ وَقَدْ لَا يَحْمِلُهُ ؛ فَإِنَّ الْكَثِيرَةَ تُعِينُ عَلَى إحَالَةِ الْخَبَثِ إلَى طَبْعِهِ ؛ وَالْمَفْهُومُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُمُومُ فَلَيْسَ إذَا كَانَ الْقُلَّتَانِ لَا تَحْمِلُ الْخَبَثَ يَلْزَمُ أَنَّ مَا دُونَهَا يَلْزَمُهُ مُطْلَقًا عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ وَقَعَ جَوَابًا لِأُنَاسِ سَأَلُوهُ عَنْ مِيَاهٍ مُعَيَّنَةٍ ؛ فَقَدْ يَكُونُ التَّخْصِيصُ لِأَنَّ هَذِهِ كَثِيرَةٌ لَا تَحْمِلُ الْخَبَثَ وَالْقُلَّتَانِ كَثِيرٌ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْكَثِيرُ إلَّا قُلَّتَيْنِ وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ هَذَا حَدًّا فَاصِلًا بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَذَكَرَهُ ابْتِدَاءً وَلِأَنَّ الْحُدُودَ الشَّرْعِيَّةَ تَكُونُ مَعْرُوفَةً كَنِصَابِ الذَّهَبِ وَالْمُعَشَّرَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْمَاءُ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ النَّجَاسَةُ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهُ إلَّا خَرْصًا ؛ وَلَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ فِي الْعَادَةِ فَكَيْفَ يَفْصِلُ بَيْنَ
الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِمَا يَتَعَذَّرُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى غَالِبِ النَّاسِ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ وَقَدْ أَطْلَقَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ قَوْلَهُ : { الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ } وَ { الْمَاءُ لَا يُجْنِبُ } وَلَمْ يُقَدِّرْهُ مَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَمَنْطُوقُ هَذَا الْحَدِيثِ يُوَافِقُ تِلْكَ وَمَفْهُومُهُ إنَّمَا يَدُلُّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبَبٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا الِاخْتِصَاصَ بِالْحُكْمِ وَهَذَا لَا يُعْلَمُ هُنَا . وَحَدِيثُ الْأَمْرِ بِإِرَاقَةِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْآنِيَةَ الَّتِي يَلَغُ فِيهَا الْكَلْبُ فِي الْعَادَةِ صَغِيرَةٌ وَلُعَابُهُ لَزِجٌ يَبْقَى فِي الْمَاءِ وَيَتَّصِلُ بِالْإِنَاءِ فَيُرَاقُ الْمَاءُ وَيُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ رِيقِهِ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِلَّ بَعْدُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَغَ فِي إنَاءٍ كَبِيرٍ وَقَدْ نَقَلَ حَرْبٌ عَنْ أَحْمَد فِي كَلْبٍ وَلَغَ فِي جُبٍّ كَبِيرٍ فِيهِ زَيْتٌ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ . وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ وَمُوَافَقَتِهِ .
فَصْلٌ :
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ تَطْهِيرَ الْمَاءِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ هُوَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ وَإِلَّا فَمَنْ كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنَّ الْمَاءَ لَا
يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ فَالْقِيَاسُ عِنْدَهُ تَطْهِيرُهُ ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةِ زَالَ بِزَوَالِهَا وَإِذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ التَّغَيُّرَ فَإِذَا زَالَ التَّغَيُّرُ زَالَتْ النَّجَاسَةُ كَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا كَانَتْ فِي الْخَمْرِ الشِّدَّةُ الْمُضْطَرِبَةُ فَإِذَا زَالَتْ طَهُرَتْ . كَيْفَ وَالنَّجَاسَةُ فِي الْمَاءِ وَارِدَةٌ عَلَيْهِ كَنَجَاسَةِ الْأَرْضِ ؟ وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ : هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى " مَسْأَلَةِ الِاسْتِحَالَةِ " وَفِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد قَوْلَانِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ أَنَّهَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّهَا تَطْهُرُ بِالِاسْتِحَالَةِ أَصَحُّ فَإِنَّ النَّجَاسَةَ إذَا صَارَتْ مِلْحًا أَوْ رَمَادًا فَقَدْ تَبَدَّلَتْ الْحَقِيقَةُ وَتَبَدَّلَ الِاسْمُ وَالصِّفَةُ فَالنُّصُوصُ الْمُتَنَاوِلَةُ لِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَا تَتَنَاوَلُ الْمِلْحَ وَالرَّمَادَ وَالتُّرَابَ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَتْ تِلْكَ الْأَعْيَانُ خَبِيثَةً مَعْدُومٌ فِي هَذِهِ الْأَعْيَانِ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهَا خَبِيثَةٌ نَجِسَةٌ . وَاَلَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْخَمْرِ قَالُوا : الْخَمْرُ نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَطَهُرَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَيُقَالُ لَهُمْ : وَكَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالدَّمُ وَالْعَذِرَةُ إنَّمَا نَجُسَتْ بِالِاسْتِحَالَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَطْهُرَ بِالِاسْتِحَالَةِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : التَّوَضُّؤُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ لِأَنَّهَا لَحْمٌ وَاللَّحْمُ لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ وَصَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ
فَرَّقَ بَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ وَلَحْمِ الْإِبِلِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ مَعَاطِنِ هَذِهِ وَمَبَارِكِ هَذِهِ فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي هَذَا وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ الْقِيَاسَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَأَصْحَابِ الْغَنَمِ فَقَالَ : { الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي الْفَدَادِينِ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَالسَّكِينَةِ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ } { وَرُوِيَ فِي الْإِبِلِ : أَنَّهَا جِنٌّ خُلِقَتْ مِنْ جِنٍّ وَرُوِيَ : عَلَى ذُرْوَةِ كُلِّ بَعِيرٍ شَيْطَانٌ } فَالْإِبِلُ فِيهَا قُوَّةٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَالْغَاذِي شَبِيهٌ بِالْمُغْتَذَى . وَلِهَذَا حَرُمَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ : لِأَنَّهَا دَوَابُّ عَادِيَةٌ بِالِاغْتِذَاءِ بِهَا تَجْعَلُ فِي خُلُقِ الْإِنْسَانِ مِنْ الْعُدْوَانِ مَا يَضُرُّهُ فِي دِينِهِ فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَالْإِبِلُ إذَا أَكَلَ مِنْهَا تُبْقِي فِيهِ قُوَّةً شَيْطَانِيَّةً . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْغَضَبُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ } فَإِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ إطْفَاءِ الْقُوَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ مَا يُزِيلُ الْمَفْسَدَةَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْهَا فَإِنَّ الْفَسَادَ حَاصِلٌ مَعَهُ وَلِهَذَا يُقَالُ : إنَّ الْأَعْرَابَ بِأَكْلِهِمْ لُحُومَ الْإِبِلِ مَعَ عَدَمِ
الْوُضُوءِ مِنْهَا صَارَ فِيهِمْ مِنْ الْحِقْدِ مَا صَارَ . وَلِهَذَا { أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ أَنَّهُ أَكَلَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ فَقِيلَ : إنَّ الْأَوَّلَ مَنْسُوخٌ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ ذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى هَذَا بَلْ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَإِسْلَامُهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ تَارِيخِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ السَّوِيقِ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرِ فَإِنَّهُ كَانَ قَبْلَ إسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقِيلَ : بَلْ الْأَمْرُ بِالتَّوَضُّؤِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ اسْتِحْبَابٌ كَالْأَمْرِ بِالتَّوَضُّؤِ مِنْ الْغَضَبِ وَهَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ التَّنَافِي وَالتَّارِيخِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ بِخِلَافِ حَمْلِ الْأَمْرِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ فَإِنَّ لَهُ نَظَائِرَ كَثِيرَةً . وَكَذَلِكَ التَّوَضُّؤُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَمَسِّ النِّسَاءِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْرِيكِ الشَّهْوَةِ ؛ فَالتَّوَضُّؤُ مِمَّا يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ كَالتَّوَضُّؤِ مِنْ الْغَضَبِ وَمَا مَسَّتْهُ النَّارُ : هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ : فَإِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ مِنْ النَّارِ وَأَمَّا لَحْمُ الْإِبِلِ فَقَدْ قِيلَ : التَّوَضُّؤُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ لَكِنَّ تَفْرِيقَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ - مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَسَّتْهُ النَّارُ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ - دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَمَا فَوْقَ الِاسْتِحْبَابِ إلَّا الْإِيجَابُ وَلِأَنَّ الشَّيْطَنَةَ فِي الْإِبِلِ لَازِمَةٌ وَفِيمَا مَسَّتْهُ النَّارُ عَارِضَةٌ وَلِهَذَا نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَعْطَانِهَا لِلُزُومِ الشَّيْطَانِ لَهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي مَبَارِكِهَا فِي السَّفَرِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ عَارِضٌ وَالْحُشُوشُ
مُحْتَضِرَةٌ فَهِيَ أَوْلَى بِالنَّهْيِ مِنْ أَعْطَانِ الْإِبِلِ . وَكَذَلِكَ الْحَمَّامُ بَيْتُ الشَّيْطَانِ وَفِي الْوُضُوءِ مِنْ اللُّحُومِ الْخَبِيثَةِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ مِمَّا عُقِلَ مَعْنَاهُ فَيُعْدِي أَوْ لَيْسَ كَذَلِكَ ؟ وَالْخَبَائِثُ الَّتِي أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ كَلُحُومِ السِّبَاعِ أَبْلَغُ فِي الشَّيْطَنَةِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ فَالْوُضُوءُ مِنْهَا أَوْلَى . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْوُضُوءِ مِنْ النَّجَاسَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ ؛ كَالْفِصَادِ ؛ وَالْحِجَامَةِ وَالْجَرْحِ وَالْقَيْء وَالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ وَغَيْرِ شَهْوَةٍ وَالتَّوَضُّؤِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَالتَّوَضُّؤِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فَبَعْضُ الصَّحَابَةِ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ كَسَعْدِ وَابْنِ عُمَرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَكُنْ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ وَالْوُضُوءُ مِنْهُ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد رِوَايَتَانِ وَإِيجَابُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَعَدَمُ الْإِيجَابِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَكَذَلِكَ مَسُّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ إذَا قِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ فَهَذَا يَتَوَجَّهُ وَأَمَّا وُجُوبُ ذَلِكَ فَلَا يَقُومُ الدَّلِيلُ إلَّا عَلَى خِلَافِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ قَطُّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ وَلَا مِنْ النَّجَاسَاتِ الْخَارِجَةِ ؛ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } الْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ كَمَا فَسَّرَهُ بِذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ
لِوُجُوهِ مُتَعَدِّدَةٍ { وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ : إنَّمَا ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ } تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْغُسْلِ لَا لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ وُجُوبَ الْوُضُوءِ لَا يَخْتَصُّ بِدَمِ الْعُرُوقِ بَلْ كَانَتْ قَدْ ظَنَّتْ أَنَّ ذَلِكَ الدَّمَ هُوَ دَمُ الْحَيْضِ الَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ فَبَيَّنَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ هُوَ دَمَ الْحَيْضِ الَّذِي يُوجِبُ الْغُسْلَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرْشَحُ مِنْ الرَّحِمِ كَالْعَرَقِ وَإِنَّمَا هَذَا دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ فِي الرَّحِمِ وَدِمَاءُ الْعُرُوقِ لَا تُوجِبُ الْغُسْلَ وَهَذِهِ مَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ يَدَّعِي التَّنَاقُضَ فِي مَعَانِي الشَّرِيعَةِ أَوْ أَلْفَاظِهَا وَيَزْعُمُ أَنَّ الشَّارِعَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ بَلْ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ بِالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فِي الْحُكْمِ إلَّا لِافْتِرَاقِ صِفَاتِهِمَا الْمُنَاسِبَةِ لِلْفَرْقِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ شَيْئَيْنِ إلَّا لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الصِّفَاتِ الْمُنَاسِبَةِ لِلتَّسْوِيَةِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَلَا النِّسَاءِ وَلَا خُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَلَا الْقَهْقَهَةِ وَلَا غُسْلِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَ الْمُوجِبِينَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ بَلْ الْأَدِلَّةُ الرَّاجِحَةُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ لَكِنَّ الِاسْتِحْبَابَ مُتَوَجِّهٌ ظَاهِرٌ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ
مِنْ مَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ وَنَحْوِهِمَا كَمَا فِي السُّنَنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاءَ فَتَوَضَّأَ } وَالْفِعْلُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ الْحِجَامَةِ وَلَا أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْوُضُوءِ إذَا جُرِحُوا مَعَ كَثْرَةِ الْجِرَاحَاتِ وَالصَّحَابَةُ نُقِلَ عَنْهُمْ فِعْلُ الْوُضُوءِ لَا إيجَابُهُ . وَكَذَلِكَ الْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ ذَنْبٌ وَيُشْرَعُ لِكُلِّ مَنْ أَذْنَبَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَفِي اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ مِنْ الْقَهْقَهَةِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا الْوُضُوءُ مِنْ الْحَدَثِ الدَّائِمِ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَفِيهِ أَحَادِيثُ مُتَعَدِّدَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ صَحَّحَ بَعْضَهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَقَوْلُ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يُوجِبُونَ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَظْهَرُ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَإِنَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّ الْفِطْرَ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْفِطْرَ مِمَّا خَرَجَ لَا مِمَّا دَخَلَ وَهَؤُلَاءِ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ الْقَيْءُ وَالِاحْتِلَامُ وَدَمُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ .
وَأَمَّا مَنْ تَدَبَّرَ أُصُولَ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدَهُ فَإِنَّهُ رَأَى الشَّارِعَ لَمَّا أَمَرَ بِالصَّوْمِ أَمَرَ فِيهِ بِالِاعْتِدَالِ حَتَّى كَرِهَ الْوِصَالَ وَأَمَرَ بِتَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ وَجَعَلَ أَعْدَلَ الصِّيَامِ وَأَفْضَلَهُ صِيَامَ دَاوُد وَكَانَ مِنْ الْعَدْلِ أَنْ لَا يُخْرِجَ مِنْ الْإِنْسَانِ مَا هُوَ قِيَامُ قُوَّتِهِ فَالْقَيْءُ يُخْرِجُ الْغِذَاءَ وَالِاسْتِمْنَاءُ يُخْرِجُ الْمَنِيَّ وَالْحَيْضُ يُخْرِجُ الدَّمَ وَبِهَذِهِ الْأُمُورِ قِوَامُ الْبَدَنِ لَكِنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَمَا لَا يُمْكِنُ فَالِاحْتِلَامُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَكَذَا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ بِخِلَافِ دَمِ الْحَيْضِ فَإِنَّ لَهُ وَقْتًا مُعَيَّنًا فَالْمُحْتَجِمُ أَخْرَجَ دَمَهُ وَكَذَلِكَ الْمُفْتَصِدُ بِخِلَافِ مَنْ خَرَجَ دَمُهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَالْمَجْرُوحِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَكَانَتْ الْحِجَامَةُ مِنْ جِنْسِ الْقَيْءِ وَالِاسْتِمْنَاءِ وَالْحَيْضِ وَكَانَ خُرُوجُ دَمِ الْجُرْحِ مِنْ جِنْسِ الِاسْتِحَاضَةِ وَالِاحْتِلَامِ وَذَرْعِ الْقَيْءِ فَقَدْ تَنَاسَبَتْ الشَّرِيعَةُ وَتَشَابَهَتْ وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ الْقِيَاسِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ بِالْكُحْلِ وَلَا بِالتَّقْطِيرِ فِي الْإِحْلِيلِ وَلَا بِابْتِلَاعِ مَا لَا يُغَذِّي كَالْحَصَاةِ وَلَكِنْ يُفْطِرُ بِالسَّعُوطِ لِقَوْلِهِ : { وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا } .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : السَّلَمُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَقَوْلُهُمْ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَا رَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك } وَأَرْخَصَ فِي السَّلَمِ " وَهَذَا لَمْ يُرْوَ فِي الْحَدِيثِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : السَّلَمُ بَيْعُ الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ وَنَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ : إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ فَيَكُونُ قَدْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَفِيهِ نَظَرٌ . وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ بَيْعُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِنْ كَانَ فِي الذِّمَّةِ وَهَذَا أَشْبَهُ ؛ فَيَكُونُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا لَا يَدْرِي هَلْ يَحْصُلُ أَوْ لَا يَحْصُلُ ؟ وَهَذَا فِي السَّلَمِ الْحَالِّ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُوَفِّيهِ وَالْمُنَاسَبَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ . فَأَمَّا السَّلَمُ الْمُؤَجَّلُ فَإِنَّهُ دَيْنٌ مِنْ الدُّيُونِ وَهُوَ كَالِابْتِيَاعِ بِثَمَنِ مُؤَجَّلٍ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ كَوْنِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ وَكَوْنِ الْعِوَضِ الْآخَرِ مُؤَجَّلًا فِي الذِّمَّةِ ؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ
فِي الذِّمَّةِ حَلَالٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَإِبَاحَةُ هَذَا عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ لَا عَلَى خِلَافِهِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَقَالَ مَنْ قَالَ : هِيَ خِلَافُ الْقِيَاسِ ؛ لِكَوْنِهِ بَيْعَ مَالِهِ بِمَالِهِ . وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ بَاعَهُ نَفْسَهُ بِمَالِ فِي الذِّمَّةِ وَالسَّيِّدُ لَا حَقَّ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي بَدَنِهِ فَإِنَّ السَّيِّدَ حَقُّهُ مَالِيَّةُ الْعَبْدِ فِي إنْسَانِيَّتِهِ فَهُوَ مِنْ حَيْثُ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى إنْسَانٌ مُكَلَّفٌ فَيَلْزَمُهُ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ لِأَنَّهُ إنْسَانٌ وَالذِّمَّةُ الْعَهْدُ وَإِنَّمَا يُطَالَبُ الْعَبْدُ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ وَحِينَئِذٍ لَا مِلْكَ لِلسَّيِّدِ عَلَيْهِ فَالْكِتَابَةُ : بَيْعُهُ نَفْسَهُ بِمَالِ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ إذَا اشْتَرَى نَفْسَهُ كَانَ كَسْبُهُ لَهُ وَنَفْعُهُ لَهُ وَهُوَ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ لَكِنْ لَا يُعْتَقُ فِيهَا إلَّا بِالْإِذْنِ ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ إلَّا بِأَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْعِوَضَ فَمَتَى لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِوَضُ وَعَجَزَ الْعَبْدُ عَنْهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيعِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ . وَلِهَذَا يَقُولُ : إذَا عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ لِإِفْلَاسِهِ كَانَ لِلْبَائِعِ الرُّجُوعُ فِي الْمَبِيع فَالْعَبْدُ الْمُكَاتَبُ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ فَعَجْزُهُ عَنْ أَدَاءِ الْعِوَضِ كَعَجْزِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا الْقِيَاسُ فِي جَمِيعِ الْمُعَاوَضَاتِ إذَا عَجَزَ
الْمُعَاوِضُ عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ الْعِوَضِ كَانَ لِلْآخَرِ الرُّجُوعُ فِي عِوَضِهِ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ عَجْزُ الرَّجُلِ عَنْ الصَّدَاقِ وَعَجْزُ الزَّوْجِ عَنْ الْوَطْءِ وَطَرْدُهُ عَجْزُ الرَّجُلِ عَنْ الْعِوَضِ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَاَلَّذِينَ قَالُوا : هِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ قَالُوا : إنَّهَا بَيْعُ مَعْدُومٍ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ حِينَ الْعَقْدِ وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ . ثُمَّ إنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِإِجَارَةِ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ لِلرَّضَاعِ عَلَى خِلَافِ قِيَاسِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ عَلَى مَنَافِعَ وَإِجَارَةُ الظِّئْرِ عَقْدٌ عَلَى اللَّبَنِ وَاللَّبَنُ مِنْ بَابِ الْأَعْيَانِ لَا مِنْ بَابِ الْمَنَافِعِ وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَ إجَارَةٍ جَائِزَةٍ إلَّا هَذِهِ وَقَالُوا : هَذِهِ خِلَافُ الْقِيَاسِ وَالشَّيْءُ إنَّمَا يَكُونُ خِلَافَ الْقِيَاسِ إذَا كَانَ النَّصُّ قَدْ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ بِحُكْمِ وَجَاءَ فِي مَوْضِعٍ يُشَابِهُ ذَلِكَ بِنَقِيضِهِ فَيُقَالُ : هَذَا خِلَافٌ لِقِيَاسِ ذَلِكَ النَّصِّ . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْإِجَارَةِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى يُقَالَ : الْقِيَاسُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ بَلْ فِيهِ ذِكْرُ جَوَازِ هَذِهِ الْإِجَارَةِ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ فَسَادِ إجَارَةٍ تُشْبِهُهَا بَلْ وَلَا فِي السُّنَّةِ بَيَانُ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ تُشْبِهُ هَذِهِ وَإِنَّمَا أَصْلُ قَوْلِهِمْ
ظَنُّهُمْ أَنَّ الْإِجَارَةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ لَا عَلَى أَعْيَانٍ هِيَ أَجْسَامٌ وَسَنُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ كَشْفَ هَذِهِ الشُّبْهَةِ . وَلَمَّا اعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ صَارَ بَعْضُهُمْ يَحْتَالُ لِإِجْرَائِهَا عَلَى الْقِيَاسِ الَّذِي اعْتَقَدُوهُ فَقَالُوا : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهَا هُوَ إلْقَامُ الثَّدْيِ أَوْ وَضْعُهُ فِي الْحِجْرِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ الَّتِي هِيَ مُقَدِّمَاتُ الرَّضَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ إنَّمَا هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَإِلَّا فَهِيَ بِمُجَرَّدِهَا لَيْسَتْ مَقْصُودَةً وَلَا مَعْقُودًا عَلَيْهَا بَلْ وَلَا قِيمَةَ لَهَا أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ كَفَتْحِ الْبَابِ لِمَنْ اكْتَرَى دَارًا أَوْ حَانُوتًا أَوْ كَصُعُودِ الدَّابَّةِ لِمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً وَمَقْصُودُ هَذَا هُوَ السُّكْنَى وَمَقْصُودُ هَذَا هُوَ الرُّكُوبُ وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَعْمَالُ مُقَدِّمَاتٌ وَوَسَائِلُ إلَى الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ طَرَدُوا ذَلِكَ فِي مِثْلِ مَاءِ الْبِئْرِ وَالْعُيُونِ الَّتِي تَنْبُعُ فِي الْأَرْضِ فَقَالُوا : أُدْخِلَتْ ضِمْنًا وَتَبَعًا فِي الْعَقْدِ حَتَّى إنَّ الْعَقْدَ إذَا وَقَعَ عَلَى نَفْسِ الْمَاءِ كَاَلَّذِي يَعْقِدُ عَلَى عَيْنٍ تَنْبُعُ لِيَسْقِيَ بِهَا بُسْتَانَه أَوْ لِيَسُوقَهَا إلَى مَكَانِهِ لِيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَنْتَفِعَ بِمَائِهَا قَالُوا : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْإِجْرَاءُ فِي الْأَرْضِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَلَّفُونَهُ وَيُخْرِجُوا الْمَاءَ الْمَقْصُودَ بِالْعُقُودِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ .
وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ : عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِجَارَةَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ إجَارَةَ الظِّئْرِ وَنَحْوَهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ . أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ : قَوْلُهُمْ : الْإِجَارَةُ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ : مُقَدِّمَتَانِ مُجْمَلَتَانِ فِيهِمَا تَلْبِيسٌ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ : الْإِجَارَةُ بَيْعٌ إنْ أَرَادُوا أَنَّهَا الْبَيْعُ الْخَاصُّ الَّذِي يُعْقَدُ عَلَى الْأَعْيَانِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ أَرَادُوا الْبَيْعَ الْعَامَّ الَّذِي هُوَ مُعَاوَضَةٌ إمَّا عَلَى عَيْنٍ وَإِمَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ فَقَوْلُهُمْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ : أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لَا يَجُورُ إنَّمَا يَسْلَمُ - إنْ سَلِمَ - فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي الْمَنَافِعِ وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ الْبَيْعِ يَحْتَمِلُ هَذَا وَهَذَا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي الْإِجَارَةِ : هَلْ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إنْ عَرَفَا الْمَقْصُودَ انْعَقَدَتْ فَأَيُّ لَفْظٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ عَرَفَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ مَقْصُودَهُمَا انْعَقَدَ بِهِ الْعَقْدُ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجِدْ فِي أَلْفَاظِ الْعُقُودِ حَدًّا بَلْ ذَكَرَهَا مُطْلَقَةً فَكَمَا تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَلْسُنِ الْعَجَمِيَّةِ فَهِيَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْعَرَبِيَّةِ وَلِهَذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ . وَطَرَدَ هَذَا النِّكَاحَ فَإِنَّ أَصَحَّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ
يَدُلُّ عَلَيْهِ لَا يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ بَلْ نُصُوصُهُ لَمْ تَدُلُّ إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأَمَّا الْوَجْهُ الْآخَرُ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَامِدٍ وَأَتْبَاعِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَمُتَّبِعِيهِ . وَأَمَّا قُدَمَاءُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَجُمْهُورُهُمْ فَلَمْ يَقُولُوا بِهَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ : أَعْتَقْت أَمَتِي وَجَعَلْت عِتْقَهَا صَدَاقَهَا انْعَقَدَ النِّكَاحُ وَلَيْسَ هُنَا لَفْظُ إنْكَاحٍ وَتَزْوِيجٍ وَلِهَذَا ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ : أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ النِّكَاحُ بِلَفْظِ . وَأَمَّا ابْنُ حَامِدٍ فَطَرَدَ قَوْلَهُ وَقَالَ : لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ : وَتَزَوَّجْتهَا وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى جَعَلَ هَذَا خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ فَجَوَّزَ النِّكَاحَ هُنَا بِدُونِ لَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ . وَأُصُولُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَنُصُوصُهُ تُخَالِفُ هَذَا فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعُقُودَ تَنْعَقِدُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَهُوَ لَا يَرَى اخْتِصَاصَهَا بِالصِّيَغِ . وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ دَلَالَةِ الْحَالِ كَالصَّرِيحِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى إظْهَارِ النِّيَّةِ وَلِهَذَا قَالَ بِذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ وَالْقَذْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَالُوا : لِأَنَّ مَا سِوَى اللَّفْظَيْنِ كِنَايَةٌ ؛ وَالْكِنَايَةُ لَا يَثْبُتُ
حُكْمُهَا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ بَاطِنٌ وَالنِّكَاحُ مُفْتَقِرٌ إلَى شَهَادَةٍ وَالشَّهَادَةُ إنَّمَا تَقَعُ عَلَى السَّمْعِ فَهَذَا أَصْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ خَصُّوا عَقْدَ النِّكَاحِ بِاللَّفْظَيْنِ . وَابْنُ حَامِدٍ وَأَتْبَاعُهُ وَافَقُوهُمْ لَكِنَّ أُصُولَ أَحْمَدَ وَنُصُوصَهُ تُخَالِفُ هَذَا ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ بَاطِلَةٌ عَلَى أَصْلِهِ . أَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : مَا سِوَى هَذَيْنِ كِنَايَةٌ فَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَتْ أَلْفَاظُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ ثَابِتَةً بِعُرْفِ الشَّرْعِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كالخرقي وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمَا : أَنَّ الصَّرِيحَ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ لِمَجِيءِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ . فَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا ؛ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَلَا يُوَافِقُونَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الصَّرِيحُ هُوَ لَفْظُ الطَّلَاقِ فَقَطْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَامِدٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الصَّرِيحُ أَعَمُّ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ كَمَا يَذْكُرُ عَنْ مَالِكٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ : كِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ تَلِيهِ مُقَدِّمَةٌ بَاطِلَةٌ .
أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ صَرِيحَةٌ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ فَلَيْسَ
كَذَلِكَ بَلْ لَفْظُ السَّرَاحِ وَالْفِرَاقِ فِي الْقُرْآنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } فَأَمَرَ بِتَسْرِيحِهِنَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهُوَ طَلَاقٌ بَائِنٌ لَا رَجْعَةَ فِيهِ وَلَيْسَ التَّسْرِيحُ هُنَا تَطْلِيقًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } فَلَفْظُ الْفِرَاقِ وَالسَّرَاحِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الطَّلَاقَ فَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ ارْتِجَاعِهَا وَبَيْنَ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى طَلَاقٍ ثَانٍ . وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ صَرِيحًا فِي خِطَابِ الشَّارِعِ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِي خِطَابِ كُلِّ مَنْ يَتَكَلَّمُ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعٌ مِنْ الْبَيْعِ إنْ أَرَادَ بِهِ الْبَيْعَ الْخَاصَّ - وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْبَيْعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ - فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ ذَاكَ إنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى أَعْيَانٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ مَضْمُونَةٍ فِي الذِّمَّةِ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا نَوْعٌ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ عَلَى الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ : فَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ قَوْلَهُ ؛ إنَّ الْمُعَاوَضَةَ الْعَامَّةَ لَا تَكُونُ عَلَى مَعْدُومِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٍ بَلْ دَعْوَى كَاذِبَةٍ فَإِنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَ الْمُعَاوَضَةَ الْعَامَّةَ عَلَى الْمَعْدُومِ . وَإِنْ قَاسَ بَيْعَ الْمَنَافِعِ
عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ فَقَالَ : كَمَا أَنَّ بَيْعَ الْأَعْيَانِ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مَوْجُودٍ فَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ - وَهَذِهِ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ - فَهَذَا الْقِيَاسُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ فَإِنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يُمْكِنَ إثْبَاتُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ هُنَا مُتَعَذَّرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهَا فِي حَالِ وُجُودِهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُبَاعَ الْمَنَافِعُ فِي حَالِ وُجُودِهَا كَمَا تُبَاعُ الْأَعْيَانُ فِي حَالِ وُجُودِهَا . وَالشَّارِعُ أَمَرَ الْإِنْسَانَ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعَقْدَ عَلَى الْأَعْيَانِ الَّتِي لَمْ تُخْلَقْ إلَى أَنْ تُخْلَقَ فَنَهَى عَنْ بَيْعِ السِّنِينَ وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ؛ وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ والملاقيح وَعَنْ الْمَجْرِ وَهُوَ الْحَمْلُ ؛ وَهَذَا كُلُّهُ نَهْيٌ عَنْ بَيْعِ حَيَوَانٍ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ ؛ وَعَنْ بَيْعِ حَبٍّ وَثَمَرٍ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ وَأَمَرَ بِتَأْخِيرِ بَيْعِهِ إلَى أَنْ يُخْلَقَ . وَهَذَا التَّفْصِيلُ وَهُوَ : مَنْعُ بَيْعِهِ فِي الْحَالِ وَإِجَارَتُهُ فِي حَالٍ يَمْتَنِعُ مِثْلُهُ فِي الْمَنَافِعِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُبَاعَ إلَّا هَكَذَا فَمَا بَقِيَ حُكْمُ الْأَصْلِ مُسَاوِيًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ إلَّا أَنْ يُقَالَ : فَأَنَا أَقِيسُهُ عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْمَعْدُومَةِ فَيُقَالُ لَهُ : هُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : يُمْكِنُ بَيْعُهُ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَحَالِ عَدَمِهِ فَنَهَى الشَّارِعُ عَنْ بَيْعِهِ إلَّا إذَا وُجِدَ . وَالشَّيْءُ الْآخَرُ : لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ إلَّا فِي حَالِ عَدَمِهِ فَالشَّارِعُ لَمَّا نَهَى عَنْ بَيْعِ ذَاكَ حَالَ عَدَمِهِ فَلَا بُدَّ إذَا
قِسْت عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ ثَابِتَةً فِي الْفَرْعِ فَلِمَ قُلْت : إنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَعْدُومًا ؟ وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْعُهُ فِي حَالِ عَدَمِهِ مَعَ إمْكَانِ تَأْخِيرِ بَيْعِهِ إلَى حَالِ وُجُودِهِ ؟ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْعِلَّةُ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ خَاصٍّ وَهُوَ مَعْدُومٌ يُمْكِنُ بَيْعُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ وَأَنْتَ إنْ لَمْ تُبَيِّنْ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ كَانَ قِيَاسُك فَاسِدًا وَهَذَا سُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ وَهُوَ كَافٍ فِي وَقْفِ قِيَاسِك . لَكِنْ نُبَيِّنُ فَسَادَهُ فَنَقُولُ : مَا ذَكَرْنَاهُ عِلَّةٌ مُطَّرِدَةٌ وَمَا ذَكَرْته عِلَّةٌ مُنْتَقَضَةٌ ؛ فَإِنَّك إذَا عَلَّلْت الْمَنْعَ بِمُجَرَّدِ الْعَدَمِ اُنْتُقِضَتْ عِلَّتُك بِبَعْضِ الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ وَإِذَا عَلَّلْته بِعَدَمِ مَا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ بَيْعِهِ إلَى حَالِ وُجُودِهِ ؛ أَوْ بِعَدَمِ هُوَ غَرَرٌ اطَّرَدَتْ الْعِلَّةُ وَأَيْضًا فَالْمُنَاسَبَةُ تَشْهَدُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ حَالُ وُجُودٍ وَعَدَمٍ كَانَ بَيْعُهُ حَالَ الْعَدَمِ فِيهِ مُخَاطَرَةٌ وَقِمَارٌ وَبِهَا عَلَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْعَ حَيْثُ قَالَ : { أَرَأَيْت إنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } بِخِلَافِ مَا لَيْسَ لَهُ إلَّا حَالٌ وَاحِدَةٌ وَالْغَالِبُ فِيهِ السَّلَامَةُ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مُخَاطَرَةً فَالْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ . وَمِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ قُدِّمَ أَرْجَحُهُمَا فَهُوَ إنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُخَاطَرَةِ الَّتِي تَضُرُّ بِأَحَدِهِمَا وَفِي
الْمَنْعِ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْبَيْعِ ضَرَرٌ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ بِوُقُوعِهِمْ فِي الضَّرَرِ الْكَثِيرِ بَلْ يُدْفَعُ أَعْظَمُ الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَلِهَذَا لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الْمُزَابَنَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ نَوْعِ رِبَا أَوْ مُخَاطَرَةٍ فِيهَا ضَرَرٌ أَبَاحَهَا لَهُمْ فِي الْعَرَايَا لِلْحَاجَةِ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَشَدُّ وَكَذَلِكَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْمَيْتَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ خُبْثِ التَّغْذِيَةِ أَبَاحَهَا لَهُمْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْمَوْتِ أَشَدُّ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا كُلُّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ؟ قِيلَ : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْفَرْعَ اُخْتُصَّ بِوَصْفِ أَوْجَبَ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصْلِ فَكُلُّ فَرْقٍ صَحِيحٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ . وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ اسْتَوَيَا فِي الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ وَاخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا . فَفِي الْجُمْلَةِ : الشَّيْءُ إذَا شَابَهَ غَيْرَهُ فِي وَصْفٍ وَفَارَقَهُ فِي وَصْفٍ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْفَارِقِ مُخَالِفًا لِاسْتِوَائِهِمَا بِاعْتِبَارِ الْجَامِعِ لَكِنَّ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ طَرْدًا وَعَكْسًا وَهُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَأَمَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِيمَا يُوجِبُ الْحُكْمَ وَيَمْنَعُهُ فَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ . وَالشَّرْعُ دَائِمًا يُبْطِلُ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ كَقِيَاسِ إبْلِيسَ وَقِيَاسِ
الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } وَاَلَّذِينَ قَاسُوا الْمَيِّتَ عَلَى الْمُذَكَّى وَقَالُوا : أَتَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مَا قَتَلَ اللَّهُ ؟ فَجَعَلُوا الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ كَوْنَهُ قَتْلَ آدَمِيٍّ وَقِيَاسِ الَّذِينَ قَاسُوا الْمَسِيحَ عَلَى أَصْنَامِهِمْ فَقَالُوا : لَمَّا كَانَتْ آلِهَتُنَا تَدْخُلُ النَّارَ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ الْمَسِيحُ النَّارَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } { وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } وَهَذَا كَانَ وَجْهَ مُخَاصَمَةِ ابْنِ الزبعرى لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } { لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } فَإِنَّ الْخِطَابَ لِلْمُشْرِكِينَ لَا لِأَهْلِ الْكِتَابِ . وَالْمُشْرِكُونَ لَمْ يَعْبُدُوا الْمَسِيحَ وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَمَا تَعْبُدُونَ } الْأَصْنَامَ فَالْآيَةُ لَمْ تَتَنَاوَلْ الْمَسِيحَ لَا لَفْظًا وَلَا مَعْنًى . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ تَتَنَاوَلُ الْمَسِيحَ وَلَكِنْ أُخِّرَ بَيَانُ تَخْصِيصِهَا غَلَطٌ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَكَانَتْ حُجَّةُ الْمُشْرِكِينَ مُتَوَجِّهَةً ؛ فَإِنَّ مَنْ خَاطَبَ بِلَفْظِ الْعَامِّ يَتَنَاوَلُ حَقًّا وَبَاطِلًا لَمْ يُبَيِّنْ مُرَادَهُ تَوَجَّهَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا } أَيْ : هُمْ ضَرَبُوهُ مَثَلًا كَمَا قَالَ : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا } أَيْ : جَعَلُوهُ مَثَلًا لِآلِهَتِهِمْ فَقَاسُوا الْآلِهَةَ عَلَيْهِ وَأَوْرَدُوهُ مَوْرِدَ الْمُعَارَضَةِ
فَقَالُوا : إذَا دَخَلَتْ آلِهَتُنَا النَّارَ لِكَوْنِهَا مَعْبُودَةً فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْمَسِيحِ فَيَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ فَهِيَ لَا تَدْخُلُ النَّارَ وَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْعِلَّةَ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ مَعْبُودًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْعِلَّةُ أَنَّهُ مَعْبُودٌ لَيْسَ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ أَوْ مَعْبُودٌ لَا ظُلْمَ فِي إدْخَالِهِ النَّارَ . فَالْمَسِيحُ وَالْعُزَيْرُ وَالْمَلَائِكَةُ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِكَرَامَةِ اللَّهِ بِوَعْدِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ فَلَا يُعَذَّبُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى . وَالْمَقْصُودُ بِإِلْقَاءِ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ إهَانَةُ عَابِدِيهَا وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَهُمْ الْكَرَامَةُ دُونَ الْإِهَانَةِ فَهَذَا الْفَارِقُ بَيَّنَ فَسَادَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْجَامِعِ . وَالْأَقْيِسَةُ الْفَاسِدَةُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِخِلَافِ مِثْلِ هَذَا الْقِيَاسِ فَقَدْ أَصَابَ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَاشْتِمَالِهَا عَلَى الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ . وَمَنْ لَمْ يُخَالِفْ مِثْلَ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ بَلْ سَوَّى بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ لَزِمَهُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ كُلِّ مَوْجُودَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ فَيُسَوِّي بَيْنَ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَبَيْنَ بَعْضِ
الْمَخْلُوقِينَ فَيَكُونُ مِنْ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ وَيُشْرِكُونَ فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : { تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيسُ وَمَا عُبِدَتْ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلَّا بِالْمَقَايِيسِ أَيْ : بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَقَايِيسِ الَّتِي يَشْتَبِهُ فِيهَا الشَّيْءُ بِمَا يُفَارِقُهُ كَأَقْيِسَةِ الْمُشْرِكِينَ . وَمَنْ كَانَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِكَلَامِ النَّاسِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ رَأَى عَامَّةَ ضَلَالِ مَنْ ضَلَّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يُسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ مَعَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ مَا يُوجِبُ أَعْظَمَ الْمُخَالَفَةِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِكَلَامِهِمْ فِي وُجُودِ الرَّبِّ وَوُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ مَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِجَارَةِ بِنَاءً عَلَى تَسْلِيمِ قَوْلِهِمْ : إنَّ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْمَعْدُومَةِ لَا يَجُوزُ . وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقُولَ : لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ ؛ بَلْ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ
لَا يَجُوزُ لَا لَفْظٌ عَامٌّ وَلَا مَعْنًى عَامٌّ وَإِنَّمَا فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَعْدُومَةٌ كَمَا فِيهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ مَوْجُودَةٌ وَلَيْسَتْ الْعِلَّةُ فِي الْمَنْعِ لَا الْوُجُودَ وَلَا الْعَدَمَ بَلْ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } وَالْغَرَرُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ مَعْدُومًا كَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ هُوَ غَرَرٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَإِنَّ مُوجَبَ الْبَيْعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ عَاجِزٌ عَنْهُ وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يَشْتَرِيهِ مُخَاطَرَةً وَمُقَامَرَةً فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهُ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَمَرَ الْبَائِعَ . وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَخْذُهُ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ قَمَرَ الْمُشْتَرِيَ . وَهَكَذَا الْمَعْدُومُ الَّذِي هُوَ غَرَرٌ نَهَى عَنْ بَيْعِهِ لِكَوْنِهِ غَرَرًا لَا لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا كَمَا إذَا بَاعَ مَا يَحْمِلُ هَذَا الْحَيَوَانُ أَوْ مَا يَحْمِلُ هَذَا الْبُسْتَانُ فَقَدْ يَحْمِلُ وَقَدْ لَا يَحْمِلُ وَإِذَا حَمَلَ فَالْمَحْمُولُ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ وَلَا وَصْفُهُ فَهَذَا مِنْ الْقِمَارِ وَهُوَ مِنْ الْمَيْسِرِ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . وَمِثْلُ هَذَا إذَا أَكْرَاهُ دَوَابَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهَا ؛ أَوْ عَقَارًا لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ فَإِنَّهُ إجَارَةُ غَرَرٍ .
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ نَقُولَ : بَلْ الشَّارِعُ صَحَّحَ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ { أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ } { وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ } وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ وَعَدَمِ ظُهُورِهِ فَأَحَلَّ أَحَدَهُمَا وَحَرَّمَ الْآخَرَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَبْلَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ لَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْقَطْعِ كَمَا يَشْتَرِي الْحِصْرِمَ لِيَقْطَعَ حِصْرِمًا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ إذَا بِيعَ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ ؛ فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ جَوَّزَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الصَّلَاحِ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى الْبَقَاءِ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ . وَمَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ ؛ وَنَهَى عَنْهُ بِشَرْطِ التَّبْقِيَةِ أَوْ مُطْلَقًا : لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ لِظُهُورِ الصَّلَاحِ فَائِدَةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَذِنَ فِيهِ . وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ : مُوجَبُ الْعَقْدِ التَّسْلِيمُ عَقِيبَهُ فَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ . فَيُقَالُ لَهُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مُوجِبُ الْعَقْدِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ بِالْعَقْدِ أَوْ مَا أَوْجَبَهُ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ فَلَا الشَّارِعُ أَوْجَبَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ بَيْعٍ مُسْتَحِقٍّ التَّسْلِيمَ عَقِبَ الْعَقْدِ وَلَا الْعَاقِدَانِ الْتَزَمَا ذَلِكَ بَلْ تَارَةً يَعْقِدَانِ الْعَقْدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَمَا إذَا بَاعَ مُعَيَّنًا بِدَيْنِ حَالٍّ وَتَارَةً يَشْتَرِطَانِ تَأْخِيرَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ
كَمَا فِي السَّلَمِ ؛ وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ . وَقَدْ يَكُونُ لِلْبَائِعِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ فِي تَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ كَمَا كَانَ لِجَابِرِ حِينَ بَاعَ بَعِيرَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهُ إلَى الْمَدِينَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِكُلِّ عَاقِدٍ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا لَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَمَا إذَا بَاعَ عَقَارًا وَاسْتَثْنَى سُكْنَاهُ مُدَّةً أَوْ دَوَابَّهُ وَاسْتَثْنَى ظَهْرَهَا أَوْ وَهَبَ مِلْكًا وَاسْتَثْنَى مَنْفَعَتَهُ أَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ وَاسْتَثْنَى خِدْمَتَهُ مُدَّةً ؛ أَوْ مَا دَامَ السَّيِّدُ أَوْ وَقَفَ عَيْنًا وَاسْتَثْنَى غَلَّتَهَا لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ . وَهَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ قَالَ : لَا بُدَّ إذَا اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الْمَبِيعِ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَأْخُذَهَا لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنْفَعَةَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ عَقِبَ الْعَقْدِ . وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ . وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ إلَّا لِمُدَّةِ تَلِي الْعَقْدَ وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ أَحْيَانًا جَعَلُوهُ لَازِمًا لَهُمْ فِي كُلِّ حَالٍ وَهُوَ مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ . وَعَلَى هَذَا بَنَوْا إذَا بَاعَ الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْبَيْعُ بَاطِلٌ لِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ فَلَا يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا مُسْتَثْنًى بِالشَّرْعِ بِخِلَافِ الْمُسْتَثْنَى بِالشَّرْطِ . وَلَوْ بَاعَ الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ صَحَّ بِاتِّفَاقِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَةُ
الْبُضْعِ لِلزَّوْجِ وَقَدْ فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ الضَّعِيفِ وَهُوَ أَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عَقِبَهُ وَالشَّرْعُ لَمْ يَدُلّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ؛ بَلْ الْقَبْضُ فِي الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ كَالْقَبْضِ فِي الدَّيْنِ تَارَةً يَكُونُ مُوجَبُ الْعَقْدِ قَبْضَهُ عَقِبَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَتَارَةً يَكُونُ مُوجَبُ الْعَقْدِ تَأْخِيرَ التَّسْلِيمِ لِمَصْلَحَةِ مِنْ الْمَصَالِحِ . وَعَلَى هَذَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزَ بَيْعَ الثَّمَرِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ مُسْتَحِقٌّ الْإِبْقَاءَ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَعَلَى الْبَائِعِ السَّقْيُ وَالْخِدْمَةُ إلَى كَمَالِ الصَّلَاحِ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَا هُوَ مَعْدُومٌ لَمْ يُخْلَقْ وَهَذَا إذَا قُبِضَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ فَقَبْضُهُ يُبِيحُ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ وَقَبْضُهُ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الضَّمَانِ إلَيْهِ بَلْ إذَا تَلِفَ الثَّمَرُ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ كَانَ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَدِيثِ : أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ مُعَلَّقٌ لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ بِعْت مِنْ أَخِيك ثَمَرَةً فَأَصَابَتْهَا جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَخِيك شَيْئًا بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ؟ } وَلَيْسَ مَعَ الْمُنَازِعِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَبْضٍ جَوَّزَ التَّصَرُّفَ يَنْقُلُ الضَّمَانَ وَمَا لَمْ يُجَوِّزْ
التَّصَرُّفَ لَمْ يَنْقُلْ الضَّمَانَ ؛ بَلْ قَبْضُ الْعَيْنِ الْمُؤَجَّرَةِ يُجَوِّزُ التَّصَرُّفَ وَلَا يَنْقُلُ الضَّمَانَ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ بَيْعُ المقاثي ؛ فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ بَيْعَهَا إلَّا لُقَطَةً لُقَطَةً لِأَنَّهُ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَجَعَلُوا هَذَا مِنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : إذَا بِيعَتْ بِعُرُوقِهَا كَانَ كَبَيْعِ أَصْلِ الشَّجَرِ مَعَ الثَّمَرِ وَذَلِكَ يَجُوزُ قَبْلَ ظُهُورِ صَلَاحِهِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : { مَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ } فَإِذَا اشْتَرَطَ الثَّمَرَ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ وَهُنَا جَازَ بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا تَكُونُ خِدْمَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الشَّجَرِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَقْصُودُ فِي المقاثي هُوَ الثَّمَرُ فَلَا يُقَاسُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَ المقاثي كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهَذَا أَصَحُّ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهَا إلَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إذْ لَا تَتَمَيَّزُ لُقَطَةٌ عَنْ لُقَطَةٍ وَمَا لَا يُبَاعُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا يُنْهَى عَنْ بَيْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ الَّتِي يُمْكِنُ تَأْخِيرُ بَيْعِهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا فَلَمْ تَدْخُلْ المقاثي فِي نَهْيِهِ وَلِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَدْخَلُوا ضَمَانَ الْبَسَاتِينِ فِي نَهْيِهِ فَقَالُوا : إذَا ضَمِنَ الْحَدِيقَةَ لِمَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا حَتَّى تُثْمِرَ بِشَيْءِ مَعْلُومٍ كَانَ هَذَا بَيْعًا
لِلثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ ؛ فَلَا يَجُوزُ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ هَذَا وَلَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَ حَدِيقَةَ أسيد بْنِ حضير ثَلَاثَ سِنِينَ وَيَسْتَلِفُ الضَّمَانَ فَقَضَى بِهِ دَيْنًا كَانَ عَلَى أسيد ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَصِيَّهُ وَقَدْ جَوَّزَ ابْنُ عَقِيلٍ ضَمَانَهَا مَعَ الْأَرَاضِي الْمُؤَجَّرَةِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ وَجَوَّزَ مَالِكٌ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ وَقَضِيَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِمَّا يَشْتَهِرُ مِثْلُهَا فِي الْعَادَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَهُ فَالصَّوَابُ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالضَّمَانِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ ؟ ثُمَّ إذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا جَازَ هَذَا مَعَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَقْصُودُهُ الْحَبُّ لَكِنَّ مَقْصُودَهُ ذَلِكَ بِعَمَلِهِ هُوَ لَا بِعَمَلِ الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ الَّذِي يَسْتَأْجِرُ الْبُسْتَانَ لِيَخْدِمَ شَجَرَهُ وَيَسْقِيَهَا حَتَّى تُثْمِرَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي الَّذِي يَشْتَرِي ثَمَرًا وَعَلَى الْبَائِعِ مَئُونَةُ خِدْمَتِهَا وَسَقْيِهَا . فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ أَعْيَانٌ وَالْإِجَارَةُ لَا تَكُونُ عَلَى الْأَعْيَانِ . قِيلَ : الْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْأَعْيَانَ هُنَا حَصَلَتْ بِعَمَلِهِ هُوَ مِنْ الْأَصْلِ الْمُسْتَأْجَرِ
كَمَا حَصَلَ الْحَبُّ بِعَمَلِهِ الْمُؤَجَّرِ فِي أَرْضٍ وَإِذَا قِيلَ : الْحَبُّ حَصَلَ مِنْ بَذْرِهِ وَالثَّمَرُ حَصَلَ مِنْ شَجَرِ الْمُؤَجِّرِ : كَانَ هَذَا فَرْقًا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَاقَاةَ كَالْمُزَارَعَةِ ؟ وَالْمُسَاقِي يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مِنْ الثَّمَرَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ أَصْلِ الْمَالِكِ ؛ وَالْمُزَارِعُ يَسْتَحِقُّ جُزْءًا مِنْ الزَّرْعِ النَّابِتِ فِي أَرْضِ الْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْمَالِكِ ؛ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُ كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَالْبَذْرُ يَتْلَفُ لَا يَعُودُ إلَى صَاحِبِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ عَلَى أَنْ يُعَمِّرُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } فَالْأَرْضُ وَالنَّخْلُ وَالْمَاءُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَحَقُّوا بِعَمَلِهِمْ جُزْءًا مِنْ الثَّمَرِ كَمَا اسْتَحَقُّوا جُزْءًا مِنْ الزَّرْعِ ؛ وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْهُمْ وَالشَّجَرُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَإِذَا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ الَّتِي يَكُونُ النَّمَاءُ مُشْتَرَكًا لَمْ يُؤَثِّرْ فِي الْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ فَإِنَّ اسْتِئْجَارَ الْأَرْضِ لَيْسَ فِيهِ مِنْ النِّزَاعِ مَا فِي الْمُزَارَعَةِ فَإِذَا كَانَتْ إجَارَتُهَا أجوز مِنْ الْمُزَارَعَةِ فَإِجَارَةُ الشَّجَرِ أجوز مِنْ الْمُسَاقَاةِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ : هَذَا كَإِجَارَةِ الظِّئْرِ وَالْبِئْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا هُوَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَصْلِ الثَّانِي فِي الْإِجَارَةِ فَنَقُولُ : قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ إجَارَةَ الظِّئْرِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ إنَّمَا هُوَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ
الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى مَنَافِعِ أَعْرَاضٍ لَا تُسْتَحَقُّ بِهَا أَعْيَانٌ وَهَذَا الْقَدْرُ لَمْ يَدُلّ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ بَلْ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأُصُولُ أَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهَا حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَنَافِعِ كَالثَّمَرِ وَالشَّجَرِ ؛ وَاللَّبَنِ فِي الْحَيَوَانِ ؛ وَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي الْوَقْفِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ تَحْبِيسُ الْأَصْلِ وَتَسْبِيلُ الْفَائِدَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ بَاقِيًا وَأَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ تَحْدُثُ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَةُ الْوَقْفِ مَنْفَعَةً كَالسُّكْنَى وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ثَمَرَةً كَوَقْفِ الشَّجَرِ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَبَنًا كَوَقْفِ الْمَاشِيَةِ لِلِانْتِفَاعِ بِلَبَنِهَا . وَكَذَلِكَ " بَابُ التَّبَرُّعَاتِ " فَإِنَّ الْعَارِيَةَ وَالْعُرْيَةَ وَالْمِنْحَةَ هِيَ إعْطَاءُ الْعَيْنِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا فَالْمِنْحَةُ إعْطَاءُ الْمَاشِيَةِ لِمَنْ يَشْرَبُ لَبَنَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا وَالْعُرْيَةُ إعْطَاءُ الشَّجَرَةِ لِمَنْ يَأْكُلُ ثَمَرَهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا وَالسُّكْنَى إعْطَاءُ الدَّارِ لِمَنْ يَسْكُنُهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ تَارَةً تَكْرِيهِ الْعَيْنَ لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي لَيْسَتْ أَعْيَانًا كَالسُّكْنَى وَالرُّكُوبِ وَتَارَةً لِلْعَيْنِ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَلَبَنِ الظِّئْرِ وَنَقْعِ الْبِئْرِ وَالْعَيْنِ فَإِنَّ الْمَاءَ وَاللَّبَنَ لَمَّا كَانَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ كَانَ كَالْمَنْفَعَةِ وَالْمُسَوِّغُ لِلْإِجَارَةِ هُوَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ حَدَثٌ وَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ شَيْئًا فَشَيْئًا سَوَاءٌ كَانَ الْحَادِثُ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً إذْ كَوْنُهُ
جِسْمًا أَوْ مَعْنًى قَائِمًا بِالْجِسْمِ لَا أَثَرَ لَهُ فِي جِهَةِ الْجَوَازِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُقْتَضِي لِلْجَوَازِ بَلْ هَذَا أَحَقُّ بِالْجَوَازِ ؛ فَإِنَّ الْأَجْسَامَ أَكْمَلُ مِنْ صِفَاتِهَا ؛ وَلَا يُمْكِنُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إلَّا كَذَلِكَ . وَطُرِدَ هَذَا أَكْثَرُ فِي الظِّئْرِ مِنْ الْحَيَوَانِ لِلْإِرْضَاعِ ثُمَّ الظِّئْرُ تَارَةً تُسْتَأْجَرُ بِأُجْرَةِ مُقَدَّرَةٍ وَتَارَةً بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا وَتَارَةً يَكُونُ طَعَامُهَا وَكِسْوَتُهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأُجْرَةِ . وَأَمَّا الْمَاشِيَةُ إذَا عَقَدَ عَلَى لَبَنِهَا بِعِوَضِ فَتَارَةً يَشْتَرِي لَبَنَهَا مَعَ أَنَّ عَلْفَهَا وَخِدْمَتَهَا عَلَى الْمَالِكِ وَتَارَةً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَهَذَا الثَّانِي يُشْبِهُ ضَمَانَ الْبَسَاتِينِ وَهُوَ بِالْإِجَارَةِ أَشْبَهُ لِأَنَّ اللَّبَنَ تَسْقِيهِ الطِّفْلَ فَيَذْهَبُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ فَهُوَ كَاسْتِئْجَارِ الْعَيْنِ يَسْتَقِي بِمَائِهَا أَرْضَهُ بِخِلَافِ مَنْ يَقْبِضُ اللَّبَنَ فَإِنَّهُ هُنَا قَبَضَ الْعَيْنَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا وَتَسْمِيَةُ هَذَا بَيْعًا وَهَذَا إجَارَةً نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَقَاصِدِ . وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ اخْتِلَافَ الْعِبَارَاتِ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَفَسَادِهِ حَتَّى إنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ بِلَفْظِ دُونَ لَفْظٍ كَمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ إنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ لَا يَجُوزُ وَإِذَا كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ جَازَ : وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : إنَّ الْمُزَارَعَةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ لَا تَجُوزُ وَإِذَا عَقَدَهُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ جَازَ وَهَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ
فِي الْعُقُودِ بِمَقَاصِدِهَا وَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدًا فَتَجْوِيزُهُ بِعِبَارَةِ دُونَ عِبَارَةٍ كَتَجْوِيزِهِ بِلُغَةِ دُونَ لُغَةٍ نَعَمْ إذَا كَانَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ يَقْتَضِي حُكْمًا لَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ فَهَذَا لَهُ حُكْمٌ آخَرُ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يُقَالُ : إنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ أَوْ مُخَالِفُهُ وَإِنَّ الشَّارِعَ إذَا سَوَّى بَيْنَ شَيْئَيْنِ كَمَا سَوَّى بَيْنَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الرَّضَاعِ وَالْخِدْمَةِ فَالْفَارِقُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ التَّأْثِيرِ وَهُوَ كَوْنُ هَذَا عَيْنًا وَهَذَا مَنْفَعَةً وَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ هُوَ وَحْدَهُ مَنَاطَ الْحُكْمِ بَلْ لِلْفَارِقِ تَأْثِيرٌ .
فَصْلٌ :
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : حَمْلُ الْعَقْلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ . فَيُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ مَضْمُونًا كَانَ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ مُتَنَازِعُونَ فِي الْعَقْلِ : هَلْ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ ابْتِدَاءً أَوْ تَحَمُّلًا ؟ كَمَا تَنَازَعُوا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْغَيْرِ ؛ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ : هَلْ تَجِبُ ابْتِدَاءً أَوْ تَحَمُّلًا ؟ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي لَوْ أَخْرَجَهَا الَّذِي يُخْرِجُ عَنْهُ بِدُونِ إذْنِ
الْمُخَاطَبِ بِهَا فَمَنْ قَالَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُخَاطَبِ تَحَمُّلًا قَالَ : تُجْزِئُ . وَمَنْ قَالَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً قَالَ : هِيَ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ عَنْ الْغَيْرِ . وَلِذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي الْعَقْلِ إذَا لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةً : هَلْ تَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْقَاتِلِ أَمْ لَا ؟ وَالْعَقْلُ فَارَقَ غَيْرَهُ مِنْ الْحُقُوقِ فِي أَسْبَابٍ اقْتَضَتْ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ دِيَةَ الْمَقْتُولِ مَالٌ كَثِيرٌ وَالْعَاقِلَةُ إنَّمَا تَحْمِلُ الْخَطَأَ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ بِلَا نِزَاعٍ وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ نِزَاعٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا لَا تَحْمِلُهُ وَالْخَطَأُ مِمَّا يُعْذَرُ فِيهِ الْإِنْسَانُ ؛ فَإِيجَابُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ تَعَمَّدَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ إيجَابِ بَدَلِ الْمَقْتُولِ . فَالشَّارِعُ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِمْ مُوَالَاةُ الْقَاتِلِ وَنَصْرُهُ أَنْ يُعِينُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ هَذَا كَإِيجَابِ النَّفَقَاتِ الَّتِي تَجِبُ لِلْقَرِيبِ ؛ أَوْ تَجِبُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَإِيجَابِ فِكَاكِ الْأَسِيرِ مِنْ بَلَدِ الْعَدُوِّ ؛ فَإِنَّ هَذَا أَسِيرٌ بِالدِّيَةِ الَّتِي تَجِبُ عَلَيْهِ وَهِيَ لَمْ تَجِبْ بِاخْتِيَارِ مُسْتَحِقِّهَا وَلَا بِاخْتِيَارِهِ كَالدُّيُونِ الَّتِي تَجِبُ بِالْقَرْضِ وَالْبَيْعِ وَلَيْسَتْ أَيْضًا قَلِيلَةً فِي الْغَالِبِ كَإِبْدَالِ الْمُتْلَفَاتِ فَإِنَّ إتْلَافَ مَالٍ كَثِيرٍ بِقَدْرِ الدِّيَةِ خَطَأً نَادِرٌ جِدًّا بِخِلَافِ قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً فَمَا سَبَبُهُ الْعَمْدُ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَالْمُتْلِفُ ظَالِمٌ مُسْتَحِقٌّ فِيهِ لِلْعُقُوبَةِ وَمَا سَبَبُهُ الْخَطَأُ فِي الْأَمْوَالِ فَقَلِيلٌ فِي الْعَادَةِ ؛ بِخِلَافِ الدِّيَةِ .
وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ إلَّا مَالَهُ قَدَرَ كَثِيرٌ فَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد لَا تَحْمِلُ مَا دُونَ الثُّلُثِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا دُونَ السِّنِّ وَالْمُوضِحَةِ فَكَانَ إيجَابُهَا مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ كَبَنِي السَّبِيلِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْأَقَارِبِ الْمُحْتَاجِينَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الشَّرَائِعِ الَّتِي بِهَا قِيَامُ مَصْلَحَةِ الْعَالَمِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَسَّمَ خَلْقَهُ إلَى غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِسَدِّ خُلَّةِ الْفُقَرَاءِ وَحَرَّمَ الرِّبَا الَّذِي يَضُرُّ الْفُقَرَاءَ ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالصَّدَقَةِ مِنْ جِنْسِ النَّهْيِ عَنْ الرِّبَا ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } وَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي آخِرِ الْبَقَرَةِ أَحْكَامَ الْأَمْوَالِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : عَدْلٌ ؛ وَفَضْلٌ ؛ وَظُلْمٌ ؛ فَالْعَدْلُ : الْبَيْعُ ؛ وَالظُّلْمُ : الرِّبَا ؛ وَالْفَضْلُ : الصَّدَقَةُ . فَمَدَحَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَذَكَرَ ثَوَابَهُمْ وَذَمَّ الْمُرْبِينَ وَبَيَّنَ عِقَابَهُمْ وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالتَّدَايُنَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ؛ فَالْعَقْلُ مِنْ جِنْسِ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْحُقُوقِ لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ كَحَقِّ الْمُسْلِمِ ؛ وَحَقِّ ذِي الرَّحِمِ وَحَقِّ الْجَارِ ؛ وَحَقِّ الْمَمْلُوكِ وَالزَّوْجَةِ .
فَصْلٌ :
وَالْأَحْكَامُ الَّتِي يُقَالُ : إنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ نَوْعَانِ : نَوْعٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَنَوْعٌ مُتَنَازَعٌ فِيهِ . فَمَا لَا نِزَاعَ فِي حُكْمِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا هَلْ يُقَاسُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَيُحْكَى هَذَا عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُقَاسُ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَقَالُوا : إنَّمَا يُنْظَرُ إلَى شُرُوطِ الْقِيَاسِ فَمَا عُلِمَتْ عِلَّتُهُ أَلْحَقْنَا بِهِ مَا شَارَكَهُ فِي الْعِلَّةِ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ لَمْ يُقَلْ وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ انْتِفَاءُ الْفَارِقِ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالْجَمْعُ بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ كَالْجَمْعِ بِالْعِلَّةِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقَمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَرْعَ كَالْأَصْلِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الْقِيَاسُ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّهُ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ أَوْ خِلَافِهِ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ الْعَرَايَا يُلْحَقُ بِهَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا .
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ شَيْءٌ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ بَلْ مَا قِيلَ : إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ : فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّصَافِهِ بِوَصْفِ امْتَازَ بِهِ عَنْ الْأُمُورِ الَّتِي خَالَفَهَا وَاقْتَضَى مُفَارَقَتَهُ لَهَا فِي الْحُكْمِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَلِكَ الْوَصْفُ إنْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِيهِ فَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُفَارِقَةِ لَهُ . وَأَمَّا الْمُتَنَازَعُ فِيهِ فَمِثْلُ مَا يَأْتِي حَدِيثٌ بِخِلَافِ أَمْرٍ فَيَقُولُ الْقَائِلُونَ : هَذَا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ بِخِلَافِ قِيَاسِ الْأُصُولِ وَهَذَا لَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْ أَشْهَرِهَا الْمُصَرَّاةُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُصِرُّوا الْإِبِلَ وَلَا الْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَ مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ } وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ فَقَالَ قَائِلُونَ : هَذَا يُخَالِفُ قِيَاسَ الْأُصُولِ مِنْ وُجُوهٍ : مِنْهَا : أَنَّهُ رَدُّ الْمَبِيع بِلَا عَيْبٍ وَلَا خُلْفَ فِي صِفَةٍ . وَمِنْهَا : أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَاللَّبَنُ الَّذِي يَحْدُثُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ وَهُنَا قَدْ ضَمِنَهُ . وَمِنْهَا : أَنَّ اللَّبَنَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ . وَمِنْهَا : أَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ يُضْمَنُ بِالْقِيمَةِ مِنْ النَّقْدِ وَهُنَا ضَمِنَهُ بِالتَّمْرِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْمَالَ الْمَضْمُونَ يُضْمَنُ بِقَدْرِهِ لَا بِقَدْرِ بَدَلِهِ بِالشَّرْعِ وَهُنَا قُدِّرَ بِالشَّرْعِ . فَقَالَ الْمُتَّبِعُونَ لِلْحَدِيثِ : بَلْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ خَطَأٌ وَالْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِلْأُصُولِ وَلَوْ خَالَفَهَا لَكَانَ هُوَ أَصْلًا كَمَا أَنَّ غَيْرَهُ أَصْلٌ فَلَا تُضْرَبُ الْأُصُولُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ بَلْ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا كُلُّهَا فَإِنَّهَا كُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ . أَمَّا قَوْلُهُمْ : رَدٌّ بِلَا عَيْبٍ وَلَا فَوَاتُ صِفَةٍ فَلَيْسَ فِي الْأُصُولِ مَا يُوجِبُ انْحِصَارَ الرَّدِّ فِي هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ بَلْ التَّدْلِيسُ نَوْعٌ ثَبَتَ بِهِ الرَّدُّ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْخُلْفِ فِي الصِّفَةِ فَإِنَّ الْبَيْعَ تَارَةً تَظْهَرُ صِفَاتُهُ بِالْقَوْلِ وَتَارَةً بِالْفِعْلِ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَى صِفَةٍ وَكَانَ عَلَى خِلَافِهَا فَهُوَ تَدْلِيسٌ وَقَدْ { أَثْبَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخِيَارَ لِلرُّكْبَانِ إذَا تَلَقَّوْا وَاشْتَرَى مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَهْبِطُوا السُّوقَ وَيَعْلَمُوا السِّعْرَ } وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَلَكِنْ فِيهِ نَوْعُ تَدْلِيسٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } فَأَوَّلًا حَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ أَصَحُّ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْخَرَاجَ مَا يَحْدُثُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَفْظُ الْخَرَاجِ اسْمٌ لِلْغَلَّةِ : مِثْلَ كَسْبِ الْعَبْدِ وَأَمَّا اللَّبَنُ وَنَحْوُهُ فَمُلْحَقٌ بِذَلِكَ وَهُنَا كَانَ اللَّبَنُ مَوْجُودًا فِي الضَّرْعِ فَصَارَ جُزْءًا مِنْ الْمَبِيعِ وَلَمْ يُجْعَلْ الصَّاعُ عِوَضًا عَمَّا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ بَلْ عِوَضًا عَنْ
اللَّبَنِ الْمَوْجُودِ فِي الضَّرْعِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَأَمَّا تَضْمِينُ اللَّبَنِ بِغَيْرِهِ وَتَقْدِيرِهِ بِالشَّرْعِ فَلِأَنَّ اللَّبَنَ الْمَضْمُونَ اخْتَلَطَ بِاللَّبَنِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَتَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ فَلِهَذَا قَدَّرَ الشَّارِعُ الْبَدَلَ قَطْعًا لِلنِّزَاعِ وَقَدَّرَ بِغَيْرِ الْجِنْسِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْجِنْسِ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ أَوْ أَقَلَّ فَيُفْضِي إلَى الرِّبَا بِخِلَافِ غَيْرِ الْجِنْسِ فَإِنَّهُ كَأَنَّهُ ابْتَاعَ لِذَلِكَ اللَّبَنِ الَّذِي تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَةُ قَدْرِهِ بِالصَّاعِ مِنْ التَّمْرِ وَالتَّمْرُ كَانَ طَعَامَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ مَكِيلٌ مَطْعُومٌ يُقْتَاتُ بِهِ كَمَا أَنَّ اللَّبَنَ مَكِيلٌ مُقْتَاتٌ وَهُوَ أَيْضًا يُقْتَاتُ بِهِ بِلَا صَنْعَةٍ بِخِلَافِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَاتُ بِهِ إلَّا بِصَنْعَةِ فَهُوَ أَقْرَبُ الْأَجْنَاسِ الَّتِي كَانُوا يَقْتَاتُونَ بِهَا إلَى اللَّبَنِ . وَلِهَذَا كَانَ مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَمْصَارِ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ بِصَاعِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَقْتَاتُ التَّمْرَ فَهَذَا مِنْ مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ كَأَمْرِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِصَاعِ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ : إنَّ أَمْرَهُ لِلْمُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ بِالْإِعَادَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقِفُ وَحْدَهُ وَالْمَرْأَةُ تَقِفُ خَلْفَ الرِّجَالِ وَحْدَهَا كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ التَّقَدُّمُ بِالِاتِّفَاقِ وَالْمُؤْتَمُّونَ يُسَنُّ فِي حَقِّهِمْ الِاصْطِفَافُ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ يُشَبَّهُ هَذَا بِهَذَا
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُؤْتَمُّ بِهِ فَإِذَا كَانَ إمَامُهُمْ رَأَوْهُ وَكَانَ اقْتِدَاؤُهُمْ بِهِ أَكْمَلَ . وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَقِفُ وَحْدَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا فَالسُّنَّةُ فِي حَقِّهَا الِاصْطِفَافُ ؛ لَكِنَّ قَضِيَّةَ الْمَرْأَةِ تَدُلُّ عَلَى شَيْئَيْنِ . تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ خَلْفَ الصَّفِّ مَنْ يَقُومُ مَعَهُ وَتَعَذَّرَ الدُّخُولُ فِي الصَّفِّ صَلَّى وَحْدَهُ لِلْحَاجَةِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ؛ فَإِنَّ الْوَاجِبَاتِ تَسْقُطُ لِلْحَاجَةِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُصَافَّ غَيْرَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ سَقَطَ لِلْحَاجَةِ ؛ كَمَا سَقَطَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ لِلْحَاجَةِ فِي مِثْلِ صَلَاةِ الْخَوْفِ مُحَافَظَةً عَلَى الْجَمَاعَةِ . وَطُرِدَ ذَلِكَ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَمَاعَةِ إلَّا قُدَّامَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي هُنَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ أَمَامَهُ وَهُوَ قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِنْ كَانُوا لَا يُجَوِّزُونَ التَّقَدُّمَ عَلَى الْإِمَامِ إذَا أَمْكَنَ تَرْكُ التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ . وَفِي الْجُمْلَةِ : فَلَيْسَتْ الْمُصَافَّةُ أَوْجَبَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا سَقَطَ غَيْرُهَا لِلْعُذْرِ فِي الْجَمَاعَةِ فَهِيَ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ . وَمِنْ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ أَنْ الْمَعْجُوزَ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ سَاقِطُ الْوُجُوبِ وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ إلَيْهِ بِلَا مَعْصِيَةٍ غَيْرُ مَحْظُورٍ فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ
الْعَبْدُ وَلَمْ يُحَرِّمْ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ الْعَبْدُ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِيهِ : { إنَّ الرَّهْنَ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَحْلِبُ النَّفَقَةُ } إنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الرَّهْنَ إذَا كَانَ حَيَوَانًا فَهُوَ مُحْتَرَمٌ فِي نَفْسِهِ وَلِمَالِكِهِ فِيهِ حَقٌّ ؛ وَلِلْمُرْتَهِنِ فِيهِ حَقٌّ وَإِذَا كَانَ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَمْ يَرْكَبْ وَلَمْ يَحْلِبْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَتُهُ بَاطِلَةً وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ اللَّبَنَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ مَنْفَعَتَهُ وَعَوَّضَ عَنْهَا نَفَقَتَهُ كَانَ فِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَبَيْنَ الْحَقَّيْنِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَالْمُرْتَهِنُ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَدَّى عَنْهُ وَاجِبًا وَلَهُ فِيهِ حَقٌّ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِبَدَلِهِ وَالْمَنْفَعَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا فَأَخْذُهَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذْهَبَ عَلَى صَاحِبِهَا وَتَذْهَبَ بَاطِلًا . وَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ وَاجِبًا بِغَيْرِ إذْنِهِ كَالدَّيْنِ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ . وَإِذَا أَنْفَقَ نَفَقَةً تَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ عَبْدِهِ ؛ فَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد قَالَ : لَا يَرْجِعُ ؛ وَفَرَّقُوا بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ سَوَّوْا بَيْنَهُمَا وَقَالُوا : الْجَمِيعُ وَاجِبٌ وَلَوْ افْتَدَاهُ
مِنْ الْأَسْرِ كَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِالْفِدَاءِ وَلَيْسَتْ دَيْنًا وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ الْإِرْضَاعِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنَ الْأَبِ وَكَذَلِكَ قَالَ : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَأَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَقْدًا وَلَا إذْنًا وَنَفَقَةُ الْحَيَوَانِ وَاجِبَةٌ عَلَى رَبِّهِ وَالْمُرْتَهِنُ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ فَإِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَى رَبِّهِ كَانَ أَحَقَّ بِالرُّجُوعِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الرَّاهِنَ قَالَ : لَمْ آذَنْ لَك فِي النَّفَقَةِ قَالَ : هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْك وَأَنَا أَسْتَحِقُّ أَنْ أُطَالِبَك بِهَا لِحِفْظِ الْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ . وَإِذَا كَانَ الْمُنْفِقُ قَدْ رَضِيَ بِأَنْ يَعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الرَّهْنِ الَّتِي لَا يُطَالِبُهُ بِنَظِيرِ النَّفَقَةِ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ إلَى صَاحِبِهِ فَهَذَا خَيْرٌ مَحْضٌ مَعَ الرَّاهِنِ وَكَذَلِكَ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمُؤْتَمَنَ عَلَى حَيَوَانِ الْغَيْرِ كَالْمُودَعِ وَالشَّرِيكِ وَالْوَكِيلِ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَاعْتَاضَ بِمَنْفَعَةِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ هَذَا إحْسَانٌ إلَى صَاحِبِهِ إذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ . وَمِمَّا يُقَالُ : إنَّهُ أَبْعَدُ الْأَحَادِيثِ عَنْ الْقِيَاسِ : الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ الْحَسَنِ ؛ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ حريث ؛ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي رَجُلٍ وَقَعَ عَلَى جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ
إنْ كَانَ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ لِسَيِّدَتِهَا مِثْلُهَا وَقَدْ رُوِيَ فِي لَفْظٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَهِيَ وَمِثْلُهَا مِنْ مَالِهِ لِسَيِّدَتِهَا } وَهَذَا الْحَدِيثُ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي إسْنَادِهِ لَكِنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الْقُوَّةِ وَلَكِنْ لِإِشْكَالِهِ قَوِيَ عِنْدَهُمْ تَضْعِيفُهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ ثَلَاثَةِ أُصُولٍ هِيَ صَحِيحَةٌ كُلٌّ مِنْهَا قَوْلُ طَائِفَة مِنْ الْفُقَهَاءِ : أَحَدُهَا : أَنَّ مَنْ غَيَّرَ مَالَ غَيْرِهِ بِحَيْثُ يُفَوِّتُ مَقْصُودَهُ عَلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهُ بِمِثْلِهِ وَهَذَا كَمَا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَغْصُوبِ بِمَا أَزَالَ اسْمَهُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . أَحَدُهَا : إنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النَّقْصِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِذَلِكَ وَيَضْمَنُهُ لِصَاحِبِهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّالِثُ : يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ أَخْذِهِ وَتَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا ؛ فَإِنْ فَوَّتَ صِفَاتِهِ الْمَعْنَوِيَّةَ مِثْلَ
أَنْ يُنْسِيَهُ صِنَاعَتَهُ : أَوْ يُضْعِفَ قُوَّتَهُ ؛ أَوْ يُفْسِدَ عَقْلَهُ وَدِينَهُ : فَهَذَا أَيْضًا يُخَيَّرُ الْمَالِكُ بَيْنَ تَضْمِينِ النَّقْصِ وَبَيْنَ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ وَلَوْ قَطَعَ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي . فَعِنْدَ مَالِكٍ يَضْمَنُهَا بِالْبَدَلِ وَيَمْلِكُهَا لِتَعَذُّرِ مَقْصُودِهَا عَلَى الْمَالِكِ فِي الْعَادَةِ ؛ أَوْ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ إذَا قَطَعَ آذَانَ فَرَسِهِ وَذَنَبَهَا . الْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّ جَمِيعَ الْمُتْلَفَاتِ تُضْمَنُ بِالْجِنْسِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ حَتَّى الْحَيَوَانِ كَمَا أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ يَجِبُ فِيهِ رَدُّ الْمِثْلِ وَإِذَا اقْتَرَضَ حَيَوَانًا رَدَّ مِثْلَهُ كَمَا { اقْتَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكْرًا وَرَدَّ خَيْرًا مِنْهُ } وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرُورِ يُضْمَنُ وَلَدُهُ بِمِثْلِهِمْ كَمَا قَضَتْ بِهِ الصَّحَابَةُ وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَثْنَى رَأْسَ الْمَبِيع وَلَمْ يَذْبَحْهُ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَوْا بِشِرَائِهِ أَيْ : بِرَأْسِ مِثْلِهِ فِي الْقِيمَةِ وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَقِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْمَاشِيَةَ كَانَتْ قَدْ أَتْلَفَتْ حَرْثَ الْقَوْمِ وَهُوَ بُسْتَانُهُمْ قَالُوا : وَكَانَ عَيْنًا وَالْحَرْثُ اسْمٌ لِلشَّجَرِ وَالزَّرْعِ فَقَضَى دَاوُد بِالْغَنَمِ لِأَصْحَابِ الْحَرْثِ كَأَنَّهُ ضَمَّنَهُمْ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ إلَّا الْغَنَمُ فَأَعْطَاهُمْ الْغَنَمَ بِالْقِيمَةِ . وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَحَكَمَ بِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَاشِيَةِ يَقُومُونَ عَلَى الْحَرْثِ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ فَضَمَّنَهُمْ إيَّاهُ بِالْمِثْلِ وَأَعْطَاهُمْ الْمَاشِيَةَ يَأْخُذُونَ مَنْفَعَتَهَا عِوَضًا
عَنْ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي فَاتَتْ مِنْ حِينِ تَلَفِ الْحَرْثِ إلَى أَنْ يَعُودَ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الزُّهْرِيُّ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِيمَنْ كَانَ أَتْلَفَ لَهُ شَجَرًا فَقَالَ : يَغْرِسُهُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ وَقِيلَ : رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ قَالَا : عَلَيْهِ الْقِيمَةُ فَغَلَّظَ الزُّهْرِيُّ الْقَوْلَ فِيهِمَا . وَهَذَا مُوجَبُ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ بِالْمِثْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ قَالَ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَقَالَ : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَقَالَ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } وَقَالَ : { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } فَإِذَا أَتْلَفَ نَقْدًا أَوْ حُبُوبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ أَمْكَنَ ضَمَانُهَا بِالْمِثْلِ وَإِنْ كَانَ الْمُتْلَفُ ثِيَابًا أَوْ آنِيَةً أَوْ حَيَوَانًا فَهُنَا مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ . فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ : إمَّا أَنْ يَضْمَنَهُ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ دَرَاهِمُ مُخَالِفَةٌ لِلْمُتْلَفِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ لَكِنَّهَا تُسَاوِيهِ فِي الْمَالِيَّةِ وَإِمَّا أَنْ يَضْمَنَهُ بِثِيَابِ مِنْ جِنْسِ ثِيَابِ الْمِثْلِ أَوْ آنِيَةٍ مِنْ جِنْسِ آنِيَتِهِ أَوْ حَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِ حَيَوَانِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ الْقِيمَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَمَعَ كَوْنِ قِيمَتِهِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَهُنَا الْمَالِيَّةُ مُسَاوِيَةٌ كَمَا فِي النَّقْدِ وَامْتَازَ هَذَا بِالْمُشَارَكَةِ فِي الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ فَكَانَ ذَلِكَ أَمْثَلَ مِنْ هَذَا وَمَا كَانَ أَمْثَلَ فَهُوَ أَعْدَلُ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ إذَا تَعَذَّرَ الْمِثْلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَنَظِيرُ هَذَا مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ مِنْ الْقِصَاصِ فِي اللَّطْمَةِ
وَالضَّرْبَةِ وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِي الَّتِي شَرَحَهَا الجوزجاني فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْمُتَرْجِمِ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : الْمُسَاوَاةُ متعذرة فِي ذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى التَّعْزِيرِ ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ : مَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ هُوَ مُوجَبُ الْقِيَاسِ فَإِنَّ التَّعْزِيرَ عِقَابٌ غَيْرُ مُقَدَّرِ الْجِنْسِ وَلَا الصِّفَةِ وَلَا الْقَدْرِ وَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى اجْتِهَادِ الْوَالِي وَمِنْ الْمَعْلُومِ الْأَمْرُ بِضَرْبِ يُقَارِبُ ضَرْبَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ : أَقْرَبُ إلَى الْعَدْلِ وَالْمُمَاثَلَةُ مِنْ عُقُوبَةٍ تُخَالِفُهُ فِي الْجِنْسِ وَالْوَصْفِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ أَصْلًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُمَاثِلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذَّرٌ حَتَّى فِي الْمَكِيلَاتِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَتْلَفَ صَاعًا مِنْ بُرٍّ فَضَمِنَ بِصَاعِ مِنْ بُرٍّ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ أَحَدَ الصَّاعَيْنِ فِيهِ مِنْ الْحَبِّ مَا هُوَ مِثْلُ الْآخَرِ بَلْ قَدْ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } فَإِنَّ تَحْدِيدَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مِمَّا قَدْ يَعْجِزُ عَنْهُ الْبَشَرُ وَلِهَذَا يُقَالُ : هَذَا أَمْثَلُ مِنْ هَذَا إذَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمُمَاثَلَةِ مِنْهُ ؛ إذَا لَمْ تَحْصُلْ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
الْأَصْلُ الثَّالِثُ : مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ مَرْفُوعَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ كَعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا قَدْ ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ . فَهَذَا الْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ الثَّابِتَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِلْقِيَاسِ الْعَادِلِ فَإِذَا طَاوَعَتْهُ فَقَدْ أَفْسَدَهَا عَلَى سَيِّدِهَا ؛ فَإِنَّهَا مَعَ الْمُطَاوَعَةِ تَبْقَى زَانِيَةً : وَذَلِكَ يُنْقِصُ قِيمَتَهَا وَلَا يُمَكِّنُ سَيِّدَهَا مِنْ اسْتِخْدَامِهَا كَمَا كَانَتْ تُمْكِنُ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِبُغْضِهِ لَهَا وَلِطَمَعِ الْجَارِيَةِ فِي السَّيِّدِ ؛ وَلِاسْتِشْرَافِ السَّيِّدِ إلَيْهَا لَا سِيَّمَا وَيَعْسُرُ عَلَى سَيِّدِهَا فَلَا يُطِيعُهَا كَمَا كَانَتْ تُطِيعُهُ وَإِذَا تَصَرَّفَ بِالْمَالِ بِمَا يُنْقِصُ قِيمَتَهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمِثْلِ فَقَضَى لَهَا بِالْمِثْلِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَوْ رَضِيَتْ أَنْ تَبْقَى مِلْكًا لَهَا وَتُغَرِّمَهُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَقْضِيُّ بِهِ مَا أُبِيحَ لَهَا وَلَكِنْ مُوجَبُ هَذَا أَنَّ الْأَمَةَ إذَا أَفْسَدَهَا رَجُلٌ عَلَى أَهْلِهَا حَتَّى طَاوَعَتْ عَلَى الزِّنَا فَلِأَهْلِهَا أَنْ يُطَالِبُوهُ بِبَدَلِهَا وَوَجَبَ مِثْلُهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِثْلَ يَجِبُ فِي كُلِّ مَضْمُونٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَأَمَّا إذَا اسْتَكْرَهَهَا فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُثْلَةِ ؛ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْوَطْءِ مُثْلَةٌ فَإِنَّ الْوَطْءَ يَجْرِي مَجْرَى الْإِتْلَافِ . وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ مَنْ اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى التلوط بِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ عَقْرٍ أَوْ عُقُوبَةٍ لَا تَجْرِي مَجْرَى مَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ فَهِيَ لَمَّا صَارَتْ لَهُ بِإِفْسَادِهَا عَلَى سَيِّدِهَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ مِثْلَهَا كَمَا فِي الْمُطَاوَعَةِ وَأَعْتَقَهَا عَلَيْهِ كَوْنُهُ مَثَّلَ بِهَا . وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا اسْتَكْرَهَ عَبْدَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَوْ اسْتَكْرَهَ أَمَةَ الْغَيْرِ عَلَى الْفَاحِشَةِ عَتَقَتْ وَضَمِنَهَا