الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ : وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مَا يُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِالْإِمْسَاكِ فِي الْبُيُوتِ إلَى الْمَمَاتِ أَوْ إلَى جَعْلِ السَّبِيلِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَعُمُّ الصِّنْفَيْنِ فَقَالَ : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } فَإِنَّ الْأَذَى يَتَنَاوَلُ الصِّنْفَيْنِ وَأَمَّا الْإِمْسَاكُ فَيُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ فَالنِّسَاءُ يُؤْذَيْنَ وَيُحْبَسْنَ بِخِلَافِ الرِّجَالِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِمْ بِالْحَبْسِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ أَنْ تُصَانَ وَتُحْفَظَ بِمَا لَا يَجِبُ مِثْلُهُ فِي الرَّجُلِ وَلِهَذَا خُصَّتْ بِالِاحْتِجَابِ وَتَرْكِ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَتَرْكِ التَّبَرُّجِ فَيَجِبُ فِي حَقِّهَا الِاسْتِتَارُ بِاللِّبَاسِ وَالْبُيُوتِ مَا لَا يَجِبُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ . لِأَنَّ ظُهُورَ النِّسَاءِ سَبَبُ الْفِتْنَةِ وَالرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَيْهِنَّ . وَقَوْلُهُ { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ : عَلَى أَنَّ نِصَابَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْفَاحِشَةِ أَرْبَعَةٌ وَعَلَى أَنَّ الشُّهَدَاءَ بِهَا عَلَى نِسَائِنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مِنَّا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ عِنْدَ أَحْمَدَ : أَشْهَرُهُمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِيَةُ أَنَّهَا تُقْبَلُ اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ إلَّا
أُمَّتِي فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ تَجُوزُ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ } فَإِنَّهُ لَمْ يَنْفِ شَهَادَةَ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بَلْ مَفْهُومُ ذَلِكَ جَوَازُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ؛ وَلَكِنْ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وَفِي آخِرِ الْحَجِّ مِثْلُهَا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْت ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَيُقَالُ لِنُوحِ : مَنْ يَشْهَدُ لَك فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ فَيُؤْتَى بِكُمْ فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ بَلَّغَ } وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْجِنَازَتَيْنِ وَأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى إحْدَاهُمَا خَيْرًا وَعَلَى الْأُخْرَى شَرًّا فَقَالَ : { أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ } الْحَدِيثُ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ محضوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُشَوِّبُوهُ بِغَيْرِهِ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةً عَلَى سَائِرِ فِرَقِ الْأُمَّةِ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ فَإِنَّ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالظُّلْمِ مَا يُخْرِجُهُمْ عَنْ كَمَالِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ : { يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولَهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ } .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ مَنْ جَوَّزَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } الْآيَةُ ثُمَّ قَالَ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ : دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ نَسْخُ الظَّاهِرِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ الْفَحْوَى وَالتَّنْبِيهِ وَهَذِهِ الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى نُصُوصِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الْمُوَافِقِينَ لِلسَّلَفِ فِي الْعَمَلِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَمَا يُوَافِقُهَا مِنْ الْحَدِيثِ أَوْجَهُ وَأَقْوَى فَإِنَّ مَذْهَبَهُ قَبُولُ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ فَإِذَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِغَيْرِهِمْ فَعَلَى بَعْضِهِمْ أجوز وأجوز . وَلِهَذَا يَجُوزُ فِي الشَّهَادَةِ لِلضَّرُورَةِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حَتَّى نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَكُونُ فِي مَجَامِعِهِنَّ الْخَاصَّةِ . مِثْلَ الْحَمَّامَاتِ وَالْعُرْسَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَالْكُفَّارُ الَّذِينَ لَا يَخْتَلِطُ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إذَا حَكَمْنَا بَيْنَهُمْ وَاَللَّهُ أَمَرَنَا أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الزَّانِيَيْنِ مِنْ الْيَهُودِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ إقْرَارٍ مِنْهُمَا وَلَا شَهَادَةِ مُسْلِمٍ عَلَيْهِمَا وَلَوْلَا قَبُولُ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ إنَّ فِي تَوَلِّي مَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا نِزَاعٌ فَهَلْ يَتَوَلَّى الْكَافِرُ الْعَدْلُ فِي دِينِهِ مَالَ وَلَدِهِ الْكَافِرِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ : أَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلَى بِبَعْضِ وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ وقَوْله تَعَالَى { فَآذُوهُمَا } أَمْرٌ بِالْأَذَى مُطْلَقًا وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفِيَّتَهُ وَصِفَتَهُ وَلَا قَدْرَهُ بَلْ ذَكَرَ أَنَّهُ يَجِبُ إيذَاؤُهُمَا وَلَفْظُ " الْأَذَى " يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَقْوَالِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ : { لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلَّا أَذًى } وَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا أَحَدَ أَصْبِرُ عَلَى أَذَى سَمْعِهِ مِنْ اللَّهِ } وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ذَكَرْنَاهَا فِي " كِتَابِ الصَّارِمِ الْمَسْلُولِ " . وَهَذَا كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ { عَاقِبُوهُ وَآذُوهُ } وَقَالَ { فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } وَالْإِعْرَاضُ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْإِيذَاءِ . فَالْمُذْنِبُ لَا يَزَالُ يُؤْذَى وَيُنْهَى وَيُوعَظُ وَيُوَبَّخُ وَيُغَلَّظُ لَهُ فِي الْكَلَامِ إلَى أَنْ يَتُوبَ وَيُطِيعَ اللَّهَ وَأَدْنَى ذَلِكَ هَجْرُهُ فَلَا يُكَلَّمَ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ وَهَذِهِ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا فَمَنْ أَتَى الْفَاحِشَةَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إيذَاؤُهُ بِالْكَلَامِ الزَّاجِرِ لَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ إلَى
أَنْ يَتُوبَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَحْدُودًا بِقَدَرِ وَلَا صِفَةٍ إلَّا مَا يَكُونُ زَاجِرًا لَهُ دَاعِيًا إلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَوْبَتُهُ وَصَلَاحُهُ وَقَدْ عَلَّقَهُ تَعَالَى عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ : التَّوْبَةُ وَالْإِصْلَاحُ . فَإِذَا لَمْ يُوجَدَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْإِعْرَاضِ مَوْجُودًا فَيُؤْذَى وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْإِيذَاءِ لِلَّذَيْنِ يَأْتِيَانِ الْفَاحِشَةَ مِنَّا وَدَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَذَى فِي حَقِّ مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ فَأَمَّا مَنْ تَابَ بِتَرْكِ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَلَمْ يَصْلُحْ فَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ صَلَاحُ الْعَمَلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَهَذِهِ تُشْبِهُ قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } إلَى قَوْلِهِ { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } فَأَمَرَ بِقِتَالِهِمْ ثُمَّ عَلَّقَ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهِمْ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ : وَهُوَ إقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مَعَ أَنَّهُمْ إذَا تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ ثُمَّ إنْ صَلَّوْا وَزَكَّوْا وَإِلَّا عُوقِبُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ فِي التَّوْبَةِ شَرَعَ الْكَفَّ عَنْ أَذَاهُ وَيَكُونُ الْأَمْرُ فِيهِ مَوْقُوفًا عَلَى التَّمَامِ وَكَذَلِكَ التَّائِبُ مِنْ الْفَاحِشَةِ يَشْرَعُ الْكَفُّ عَنْ أَذَاهُ إلَى أَنْ يَصْلُحَ فَإِنْ أَصْلَحَ وَجَبَ الْإِعْرَاضُ عَنْ أَذَاهُ وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ لَمْ يَجِبْ الْكَفُّ عَنْ أَذَاهُ بَلْ يَجُوزُ أَوْ يَجِبُ أَذَاهُ . وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى التَّعْزِيرِ بِالْأَذَى وَالْأَذَى وَإِنْ كَانَ
يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا فِي الْكَلَامِ فِي مُرْتَكِبِ الْفَاحِشَةِ فَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ بَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ : { إنَّك قَدْ آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . وَكَذَلِكَ قَالَ فِي حَقِّ فَاطِمَةَ ابْنَتِهِ { يُرِيبُنِي مَا رَابَهَا وَيُؤْذِينِي مَا آذَاهَا } وَكَذَلِكَ قَالَ لِمَنْ أَكَلَ الثُّومَ وَالْبَصَلَ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ } وَقَالَ لِصَاحِبِ السِّهَامِ : { خُذْ بِنِصَالِهَا لِئَلَّا تُؤْذِيَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } . وقَوْله تَعَالَى { فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا } هَلْ يَكُونُ مِنْ تَوْبَتِهِ اعْتِرَافُهُ بِالذَّنْبِ فَإِذَا ثَبَتَ الذَّنْبُ بِإِقْرَارِهِ فَجَحَدَ إقْرَارَهُ وَكَذَّبَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ أَوْ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ هَلْ يُعَدُّ بِذَلِكَ تَائِبًا ؟ فِيهِ نِزَاعٌ فَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لِمَنْ جَحَدَ وَإِنَّمَا التَّوْبَةُ لِمَنْ أَقَرَّ وَتَابَ وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ أُتِيَ بِجَمَاعَةِ مِمَّنْ شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِالزَّنْدَقَةِ فَاعْتَرَفَ مِنْهُمْ نَاسٌ فَتَابُوا فَقَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَجَحَدَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ فَقَتَلَهُمْ وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ إنْ كُنْت أَلْمَمْت بِذَنْبِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . فَمَنْ أَذْنَبَ سِرًّا فَلْيَتُبْ سِرًّا وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ ذَنْبَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ
فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ } وَفِي الصَّحِيحِ : { كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَبِيتَ الرَّجُلُ عَلَى الذَّنْبِ قَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ } فَإِذَا ظَهَرَ مِنْ الْعَبْدِ الذَّنْبُ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ التَّوْبَةِ وَمَعَ الْجُحُودِ لَا تَظْهَرُ التَّوْبَةُ فَإِنَّ الْجَاحِدَ يَزْعُمُ أَنَّهُ غَيْرُ مُذْنِبٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَسْتَعْمِلُونَ ذَلِكَ فِيمَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا فَإِنَّ هَذَا أَظْهَرُ حَالِ الضَّالِّينَ وَهَذَا أَظْهَرُ حَالِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَمِنْ أَذَاهُ مَنْعُهُ - مَعَ الْقُدْرَةِ - مِنْ الْإِمَامَةِ وَالْحُكْمِ وَالْفُتْيَا وَالرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَأَمَّا بِدُونِ الْقُدْرَةِ فَلْيَفْعَلْ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } فَأَمَرَ بِإِيذَائِهِمَا وَلَمْ يُعَلِّقْ ذَلِكَ عَلَى اسْتِشْهَادِ أَرْبَعَةٍ كَمَا عَلَّقَ ذَلِكَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَإِمْسَاكِهِنَّ فِي الْبُيُوتِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ هُنَا كَمَا أَمَرَ بِهِ هُنَاكَ ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ وَاحِدًا مِثْلَ الْإِعْتَاقِ فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُتَّفِقًا فِي الْجِنْسِ دُونَ النَّوْعِ كَإِطْلَاقِ الْأَيْدِي فِي التَّيَمُّمِ وَتَقْيِيدِهَا فِي الْوُضُوءِ إلَى الْمَرَافِقِ وَإِطْلَاقِ سِتِّينَ مِسْكِينًا فِي الْإِطْعَامِ وَتَقْيِيدِ الْإِعْتَاقِ بِالْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ كِلَاهُمَا عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ يُرَادُ بِهَا نَفْعُ الْخَلْقِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَلَمْ يَحْمِلْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي قَوْلِهِ : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } الْآيَةُ : وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } قَالَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الدِّينِ : الشَّرْطُ فِي الرَّبَائِبِ خَاصَّةً وَقَالُوا : أَبْهَمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ وَالْمُبْهَمُ هُوَ الْمُطْلَقُ وَالْمَشْرُوطُ فِيهِ هُوَ الْمُؤَقَّتُ الْمُقَيَّدُ فَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ يَحْرُمْنَ بِالْعَقْدِ وَالرَّبَائِبُ لَا يَحْرُمْنَ إلَّا إذَا دُخِلَ بِأُمَّهَاتِهِنَّ ؛ لَكِنْ تَنَازَعُوا هَلْ الْمَوْتُ كَالدُّخُولِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُخْتَلِفٌ وَالْقَيْدُ لَيْسَ مُتَسَاوِيًا فِي الْأَعْيَانِ ؛ فَإِنَّ تَحْرِيمَ جِنْسٍ لَيْسَ مِثْلَ تَحْرِيمِ جِنْسٍ آخَرَ يُخَالِفُهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الدَّمِ وَالْمِيتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ لَمَّا كَانَ أَجْنَاسًا فَلَيْسَ تَقْيِيدُ الدَّمِ بِكَوْنِهِ مَسْفُوحًا يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ أَنْ يَكُونَ مَسْفُوحًا وَهُنَا الْقَيْدُ كَوْنُ الرَّبِيبَةِ مَدْخُولًا بِأُمِّهَا وَالدُّخُولُ بِالْأُمِّ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي الْحَلِيلَتَيْنِ وَأُمِّ الْمَرْأَةِ ؛ إذْ الدُّخُولُ فِي الْحَلِيلَةِ بِهَا نَفْسِهَا وَفِي أُمِّ الْمَرْأَةِ بِبِنْتِهَا . وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ لَمْ يَحْمِلُوا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي نَصْبِ الشَّهَادَةِ ؛ بَلْ لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وامرأتين وَفِي الرَّجْعَةِ رَجُلَيْنِ أَقَرُّوا كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحُكْمِ مُخْتَلِفٌ وَهُوَ الْمَالُ وَالْبُضْعُ وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ يُؤَثِّرُ فِي نِصَابِ الشَّهَادَةِ وَكَمَا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْفَاحِشَةِ وَفِي الْقَذْفِ بِهَا اُعْتُبِرَ فِيهِ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ فَلَا يُقَاسُ بِذَلِكَ عُقُودُ الْأَيْمَانِ وَالْأَبْضَاعِ وَذَكَرَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ :
جَلْدُ ثَمَانِينَ وَتَرْكُ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ أَبَدًا وَإِنَّهُمْ فَاسِقُونَ { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَرْفَعُ الْجَلْدَ إذَا طَلَبَهُ الْمَقْذُوفُ وَتَرْفَعُ الْفِسْقَ بِلَا تَرَدُّدٍ وَهَلْ تَرْفَعُ الْمَنْعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ؟ فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ قَالُوا تَرْفَعُهُ .
وَإِذَا اُشْتُهِرَ عَنْ شَخْصٍ الْفَاحِشَةُ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ يُرْجَمْ ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ الْمُلَاعَنَةِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ جَاءَتْ بِهِ يُشْبِهُ الزَّوْجَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ يُشْبِهُ الرَّجُلَ الَّذِي رَمَاهَا بِهِ فَقَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا } فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } فَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَهَذِهِ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ كُنْت رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتهَا } ؟ فَقَالَ : لَا تِلْكَ امْرَأَةٌ كَانَتْ تُعْلِنُ السُّوءَ فِي الْإِسْلَامِ : فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَرْجُمُ أَحَدًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَلَوْ ظَهَرَ عَنْ الشَّخْصِ السُّوءُ . وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الشَّبَهَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا إلَى آخِرِهِ قَالَ : { أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ } وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَبِمَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ } . فَقَدْ جَعَلَ الِاسْتِفَاضَةَ
حُجَّةً وَبَيِّنَةً فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا حُجَّةً فِي الرَّجْمِ . وَكَذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ عِنْدَ أَحْمَد وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحِ إذَا أَدَّوْهَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ رَأَى الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ وَالصَّبِيَّ فِي لِحَافٍ أَوْ فِي بَيْتِ مِرْحَاضٍ أَوْ رَآهُمَا مُجَرَّدَيْنِ أَوْ مَحْلُولَيْ السَّرَاوِيلِ وَيُوجَدُ مَعَ ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . مِنْ وُجُودِ اللِّحَافِ قَدْ خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ إلَى مَكَانِهِمَا أَوْ يَكُونُ مَعَ أَحَدِهِمَا أَوْ مَعَهُمَا ضَوْءٌ قَدْ أَظْهَرَهُ فَرَآهُ فَأَطْفَأَهُ فَإِنَّ إطْفَاءَهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِخْفَائِهِ بِمَا يَفْعَلُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا يُسْتَخْفَى بِهِ إلَّا مَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَيَانِ عَلَى مَا شَهِدَ بِهِ . فَهَذَا الْبَابُ بَابٌ عَظِيمُ النَّفْعِ فِي الدِّينِ وَهُوَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي أَهْمَلَهَا كَثِيرٌ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ زَاعِمِينَ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ أَحَدٌ إلَّا بِشُهُودِ عَايَنُوا أَوْ إقْرَارٍ مَسْمُوعٍ وَهَذَا خِلَافُ مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَسُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَخِلَافُ مَا فُطِرَتْ عَلَيْهِ الْقُلُوبُ الَّتِي تَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ وَتُنْكِرُ الْمُنْكَرَ وَيَعْلَمُ الْعُقَلَاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا تَأْبَاهُ سِيَاسَةٌ عَادِلَةٌ ؛ فَضْلًا عَنْ الشَّرِيعَةِ الْكَامِلَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } . فَفِي الْآيَةِ دَلَالَاتٌ .
أَحَدُهَا قَوْلُهُ : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } فَأَمَرَ بِالتَّبَيُّنِ عِنْدَ مَجِيءِ كُلِّ فَاسِقٍ بِكُلِّ نَبَأٍ ؛ بَلْ مِنْ الْأَنْبَاءِ مَا يُنْهَى فِيهِ عَنْ التَّبَيُّنِ وَمِنْهَا مَا يُبَاحُ فِيهِ تَرْكُ التَّبَيُّنِ وَمِنْ الْأَنْبَاءِ مَا يَتَضَمَّنُ الْعُقُوبَةَ لِبَعْضِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَ الْأَمْرَ بِأَنَّهُ إذَا جَاءَنَا فَاسِقٌ بِنَبَأٍ خَشْيَةَ أَنْ نُصِيبَ قَوْمًا بِجَهَالَةِ فَلَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ أُصِيبَ بِنَبَأٍ كَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ بَلْ هَذِهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الْإِصَابَةَ بِنَبَأِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ لَا يُنْهَى عَنْهَا مُطْلَقًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ فِي جِنْسِ الْعُقُوبَاتِ فَإِنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي إخْبَارِ وَاحِدٍ بِأَنَّ قَوْمًا قَدْ حَارَبُوا بِالرِّدَّةِ أَوْ نَقْضِ الْعَهْدِ . وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ مَتَى اقْتَرَنَ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ دَلِيلٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فَقَدْ اسْتَبَانَ الْأَمْرُ وَزَالَ الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ فَتَجُوزُ إصَابَةُ الْقَوْمِ وَعُقُوبَتُهُمْ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ مَعَ قَرِينَةٍ إذَا تَبَيَّنَ بِهِمَا الْأُمُورُ فَكَيْفَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مَعَ دَلَالَةٍ أُخْرَى ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَوْثٌ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ فَإِذَا انْضَافَ إيمَانُ الْمُقْسِمِينَ صَارَ ذَلِكَ بَيِّنَةً تُبِيحُ دَمَ الْمُقْسِمِ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ : { أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } فَجَعَلَ الْمَحْذُورَ هُوَ الْإِصَابَةُ لِقَوْمِ بِلَا عِلْمٍ فَمَتَى أُصِيبُوا بِعِلْمِ زَالَ الْمَحْذُورُ وَهَذَا هُوَ الْمَنَاطُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ كَمَا قَالَ : { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِخَوْفِ النَّدَمِ وَالنَّدَمُ إنَّمَا يَحْصُلُ عَلَى عُقُوبَةِ الْبَرِيءِ مِنْ الذَّنْبِ كَمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد : { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ فَإِنَّ الْإِمَامَ إنْ يُخْطِئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ } فَإِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَنْ يُخْطِئَ فَيُعَاقِبَ بَرِيئًا أَوْ يُخْطِئَ فَيَعْفُوَ عَنْ مُذْنِبٍ كَانَ هَذَا الْخَطَأُ خَيْرُ الْخَطَأَيْنِ . أَمَّا إذَا حَصَلَ عِنْدَهُ عِلْمٌ أَنَّهُ لَمْ يُعَاقِبْ إلَّا مُذْنِبًا فَإِنَّهُ لَا يَنْدَمُ وَلَا يَكُونُ فِيهِ خَطَأٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد أَنَّ التَّغْرِيبَ جَاءَ فِي السُّنَّةِ فِي مَوْضِعَيْنِ " أَحَدُهُمَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الزَّانِي إذَا لَمْ يُحْصَنْ : { جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَالثَّانِي نَفْيُ الْمُخَنَّثِينَ فِيمَا رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ وَهُوَ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ أَخِيهَا : إنْ فَتَحَ اللَّهُ لَك الطَّائِفَ غَدًا أَدُلُّك عَلَى ابْنَةِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعِ وَتُدْبِرُ بِثَمَانِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيُّ . وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحِ { لَا يَدْخُلَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُمْ } وَفِي رِوَايَةٍ { أَرَى هَذَا يَعْرِفُ مِثْلَ هَذَا لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيْكُمْ بَعْدَ الْيَوْمِ } . قَالَ ابْنُ جريج : الْمُخَنَّثُ هُوَ هيْت وَهَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ هَنَبٌ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَاتِعٌ وَقِيلَ هَوَانٌ . وَرَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا مُسْلِمًا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ ،
والمترجلات مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ : أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ وَأَخْرِجُوا فُلَانًا وَفُلَانًا : يَعْنِي الْمُخَنَّثِينَ } وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةً : - بَهْمٌ وَهيْتُ وَمَاتِعٌ - عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُونُوا يُرْمَوْنَ بِالْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى إنَّمَا كَانَ تَخْنِيثُهُمْ وَتَأْنِيثُهُمْ لِينًا فِي الْقَوْلِ وَخِضَابًا فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ كَخِضَابِ النِّسَاءِ وَلَعِبًا كَلَعِبِهِنَّ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي يَسَارٍ الْقُرَشِيِّ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمُخَنَّثِ وَقَدْ خَضَّبَ رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ بِالْحِنَّاءِ فَقَالَ : مَا بَالُ هَذَا ؟ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ يَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فَأَمَرَ بِهِ فَنُفِيَ إلَى النَّقِيعِ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَقْتُلُهُ فَقَالَ : إنِّي نُهِيت عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ } قَالَ أَبُو أُسَامَةَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ : وَالنَّقِيعُ نَاحِيَةٌ عَنْ الْمَدِينَةِ وَلَيْسَ بِالْبَقِيعِ وَقِيلَ : إنَّهُ الَّذِي حَمَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ ثُمَّ حَمَاهُ عُمَرُ وَهُوَ عَلَى عِشْرِينَ فَرْسَخًا مِنْ الْمَدِينَةِ وَقِيلَ : عِشْرِينَ مِيلًا . وَنَقِيعُ الْخُضُمَّاتِ مَوْضِعٌ آخَرُ قُرْبَ الْمَدِينَةِ وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي حَمَاهُ عُمَرُ . وَالنَّقِيعُ مَوْضِعٌ يَسْتَنْقِعُ فِيهِ الْمَاءُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { أَوَّلُ جُمْعَةٍ جُمِعَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي نَقِيعِ الْخُضُمَّاتِ } . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْبُيُوتِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي يُمَكِّنُ الرِّجَالَ مِنْ نَفْسِهِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِ وَبِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ مَحَاسِنِهِ وَفِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى بِهِ شَرٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهُوَ
أَحَقُّ بِالنَّفْيِ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِخْرَاجِهِ عَنْهُمْ ؛ فَإِنَّ الْمُخَنَّثَ فِيهِ إفْسَادٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَشَبَّهَ بِالنِّسَاءِ فَقَدْ تُعَاشِرُهُ النِّسَاءُ وَيَتَعَلَّمْنَ مِنْهُ وَهُوَ رَجُلٌ فَيُفْسِدُهُنَّ وَلِأَنَّ الرِّجَالَ إذَا مَالُوا إلَيْهِ فَقَدْ يُعْرِضُونَ عَنْ النِّسَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا رَأَتْ الرَّجُلَ يَتَخَنَّثُ فَقَدْ تَتَرَجَّلُ هِيَ وَتَتَشَبَّهُ بِالرِّجَالِ فَتُعَاشِرُ الصِّنْفَيْنِ وَقَدْ تَخْتَارُ هِيَ مُجَامَعَةَ النِّسَاءِ كَمَا يَخْتَارُ هُوَ مُجَامَعَةَ الرِّجَالِ . وَأَمَّا إفْسَادُهُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ الْفِعْلِ بِهِ - كَمَا يَفْعَلُ بِالنِّسَاءِ - بِمُشَاهَدَتِهِ وَمُبَاشَرَتِهِ وَعِشْقِهِ فَإِذَا أُخْرِجَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ وَسَافَرَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ سَاكِنٍ فِيهِ النَّاسُ وَوَجَدَ هُنَاكَ مَنْ يَفْعَلُ بِهِ الْفَاحِشَةَ فَهُنَا يَكُونُ نَفْيُهُ بِحَبْسِهِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَيْسَ مَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَإِنْ خِيفَ خُرُوجُهُ فَإِنَّهُ يُقَيَّدُ إذْ هَذَا هُوَ مَعْنَى نَفْيِهِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي نَفْيِ الْمُحَارَبِ مِنْ الْأَرْضِ هَلْ هُوَ طَرْدُهُ بِحَيْثُ لَا يَأْوِي فِي بَلَدٍ أَوْ حَبْسُهُ أَوْ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ هَذَا وَهَذَا فَفِي مَذْهَبِ أَحْمَد ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ الثَّالِثَةُ أَعْدَلُ وَأَحْسَنُ فَإِنَّ نَفْيَهُ بِحَيْثُ لَا يَأْوِي فِي بَلَدٍ لَا يُمْكِنُ لِتَفَرُّقِ الرَّعِيَّةِ وَاخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ بِطَرْدِهِ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَحَبْسُهُ قَدْ لَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ إلَى طَعَامٍ وَشَرَابٍ وَحَارِسٍ ؛ وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْيَ أَسْهَلُ إنْ أَمْكَنَ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ هِيتًا لَمَّا اشْتَكَى الْجُوعَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْجُمُعَةِ إلَى الْجُمُعَةِ يَسْأَلُ مَا يُقِيتُهُ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى } وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ : { أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } لَا يَتَضَمَّنُ نَفْيَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هُوَ نَفْيُهُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ وَهَذَا حَاصِلٌ بِطَرْدِهِ وَحَبْسِهِ . وَهَذَا الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ النَّفْيِ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْهِجْرَةِ أَيْ هَجْرِهِ وَلَيْسَ هَذَا كَنَفْيِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وَلَا هَجْرُهُ كَهَجْرِهِمْ فَإِنَّهُ مَنَعَ النَّاسَ مِنْ مُخَالَطَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ حَتَّى أَزْوَاجُهُمْ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ النَّاسِ وَحُضُورِ مَجَامِعِهِمْ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا دُونَ النَّفْيِ الْمَشْرُوعِ فَإِنَّ النَّفْيَ الْمَشْرُوعَ مَجْمُوعٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْآدَمِيِّينَ مُحْتَاجِينَ إلَى مُعَاوَنَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى مَصْلَحَةِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَمَنْ كَانَ بِمُخَالَطَتِهِ لِلنَّاسِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ عَوْنٌ عَلَى الدِّينِ بَلْ يُفْسِدُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ اسْتَحَقَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ بِلَا مَصْلَحَةٍ ؛ فَإِنَّ مُخَالَطَتَهُ لَهُمْ فِيهَا فَسَادُهُمْ وَفَسَادُ أَوْلَادِهِمْ ؛ فَإِنَّ الصَّبِيَّ إذَا رَأَى صَبِيًّا مِثْلَهُ يَفْعَلُ شَيْئًا تَشَبَّهَ بِهِ وَسَارَ بِسِيرَتِهِ مَعَ الْفُسَّاقِ فَإِنَّ الِاجْتِمَاعَ بِالزُّنَاةِ وَاللُّوطِيِّينَ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَسَادِ وَالضَّرَرِ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرِّجَالِ فَيَجِبُ أَنْ يُعَاقَبَ اللُّوطِيُّ وَالزَّانِي بِمَا فِيهِ تَفْرِيقُهُ وَإِبْعَادُهُ . وَجِمَاعُ الْهِجْرَةِ هِيَ هِجْرَةُ السَّيِّئَاتِ وَأَهْلِهَا وَكَذَلِكَ هِجْرَانُ الدُّعَاةِ إلَى
الْبِدَعِ وَهِجْرَانُ الْفُسَّاقِ وَهِجْرَانُ مَنْ يُخَالِطُ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ أَوْ يُعَاوِنُهُمْ وَكَذَلِكَ مَنْ يَتْرُكُ الْجِهَادَ الَّذِي لَا مَصْلَحَةَ لَهُمْ بِدُونِهِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِهَجْرِهِمْ لَهُ لَمَّا لَمْ يُعَاوِنْهُمْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فَالزُّنَاةُ وَاللُّوطِيَّةُ وَتَارِكُ الْجِهَادِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ وشربة الْخَمْرِ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَمُخَالَطَتُهُمْ مُضِرَّةٌ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مُعَاوَنَةٌ لَا عَلَى بِرٍّ وَلَا تَقْوَى فَمَنْ لَمْ يَهْجُرْهُمْ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ فَاعِلًا لِلْمَحْظُورِ فَهَذَا تَرْكُ الْمَأْمُورِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَذَلِكَ فِعْلُ الْمَحْظُورِ مِنْهُ فَعُوقِبَ كُلٌّ مِنْهَا بِمَا يُنَاسِبُ جُرْمَهُ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّمَا يَشْرَعُ التَّعْزِيرُ فِي مَعْصِيَةٍ لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فَإِنْ كَانَ فِيهَا كَفَّارَةٌ فَعَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قَالَ : وَمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مِنْهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُ عَلَى جِهَادِ جَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُ يُجَاهِدُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى جِهَادِهِ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى عُقُوبَةِ جَمِيعِ الْمُعْتَدِينَ فَإِنَّهُ يُعَاقِبُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى عُقُوبَتِهِ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ النَّفْيُ وَالْحَبْسُ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ كَانَ النَّفْيُ وَالْحَبْسُ عَلَى حَسَبِ الْقُدْرَةِ مِثْلَ أَنْ يُحْبَسَ بِدَارِ لَا يُبَاشِرُ إلَّا أَهْلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا أَوْ أَنْ لَا يُبَاشِرَ إلَّا شَخْصًا أَوْ شَخْصَيْنِ فَهَذَا هُوَ الْمُمْكِنُ ؛ فَيَكُونُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ فِي مَكَانٍ قَدْ قَلَّ فِيهِ الْقَبِيحُ وَلَا يُعْدَمُ بِالْكُلِّيَّةِ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ
الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا فَالْقَلِيلُ مِنْ الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ وَدَفْعُ بَعْضِ الشَّرِّ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ كُلِّهِ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ تُحْبَسُ شَبِيهًا بِحَالِهَا إذَا زَنَتْ سَوَاءٌ كانت بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فَإِنَّ جِنْسَ الْحَبْسِ مِمَّا شُرِعَ فِي جِنْسِ الْفَاحِشَةِ . وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَفَى نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ مِنْ الْمَدِينَةِ وَمِنْ وَطَنِهِ إلَى الْبَصْرَةِ لَمَّا سَمِعَ تَشْبِيبَ النِّسَاءِ بِهِ وَتَشَبُّهَهُ بِهِنَّ وَكَانَ أَوَّلًا قَدْ أَمَرَ بِأَخْذِ شَعْرِهِ ؛ لِيُزِيلَ جَمَالَهُ الَّذِي كَانَ يَفْتِنُ بِهِ النِّسَاءَ فَلَمَّا رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْنَتَيْنِ غَمَّهُ ذَلِكَ فَنَفَاهُ إلَى الْبَصْرَةِ فَهَذَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ ذَنْبٌ وَلَا فَاحِشَةٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا ؛ لَكِنْ كَانَ فِي النِّسَاءِ مَنْ يَفْتَتِنُ بِهِ فَأَمَرَ بِإِزَالَةِ جَمَالِهِ الْفَاتِنِ فَإِنَّ انْتِقَالَهُ عَنْ وَطَنِهِ مِمَّا يُضْعِفُ هِمَّتَهُ وَبَدَنِهِ وَيُعْلَمُ أَنَّهُ مُعَاقَبٌ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الَّذِينَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ الْفَاحِشَةُ وَالْعِشْقُ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُعَاقَبَةِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَنْفِي فِي الْخَمْرِ إلَى خَيْبَرَ زِيَادَةً فِي عُقُوبَةِ شَارِبهَا . وَمَنْ أَقْوَى مَا يُهَيِّجُ الْفَاحِشَةَ إنْشَادُ أَشْعَارِ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مِنْ الْعِشْقِ وَمَحَبَّةِ الْفَوَاحِشِ وَمُقَدِّمَاتِهَا بِالْأَصْوَاتِ الْمُطْرِبَةِ فَإِنَّ الْمُغَنِّيَ إذَا غَنَّى بِذَلِكَ حَرَّكَ الْقُلُوبَ الْمَرِيضَةَ إلَى مَحَبَّةِ الْفَوَاحِشِ فَعِنْدَهَا يَهِيجُ مَرَضُهُ وَيَقْوَى بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ الْقَلْبُ فِي عَافِيَةٍ مِنْ ذَلِكَ جَعَلَ فِيهِ مَرَضًا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا .
وَرُقْيَةُ الْحَيَّةِ هِيَ مَا تُسْتَخْرَجُ بِهَا الْحَيَّةُ مِنْ جُحْرِهَا وَرُقْيَةُ الْعَيْنِ وَالْحُمَّةِ هِيَ مَا تُسْتَخْرَجُ بِهِ الْعَافِيَةُ وَرُقْيَةُ الزِّنَا هُوَ مَا يَدْعُو إلَى الزِّنَا وَيُخْرِجُ مِنْ الرَّجُلِ هَذَا الْأَمْرَ الْقَبِيحَ وَالْفِعْلَ الْخَبِيثَ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : " الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ " وَقَالَ تَعَالَى لإبليس : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ } وَاسْتِفْزَازُهُ إيَّاهُمْ بِصَوْتِهِ يَكُونُ بِالْغِنَاءِ - كَمَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ - وَبِغَيْرِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ كَالنِّيَاحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ كُلَّهَا تُوجِبُ انْزِعَاجَ الْقَلْبِ وَالنَّفْسَ الْخَبِيثَةَ إلَى ذَلِكَ وَتُوجِبُ حَرَكَتَهَا السَّرِيعَةَ وَاضْطِرَابَهَا حَتَّى يَبْقَى الشَّيْطَانُ يَلْعَبُ بِهَؤُلَاءِ أَعْظَمَ مِنْ لَعِبِ الصِّبْيَانِ بِالْكُرَةِ وَالنَّفْسُ مُتَحَرِّكَةٌ ؛ فَإِنْ سَكَنَتْ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَإِلَّا فَهِيَ لَا تَزَالُ مُتَحَرِّكَةً . وَشَبَّهَهَا بَعْضُهُمْ بِكُرَةِ عَلَى مُسْتَوَى أَمْلَسَ لَا تَزَالُ تَتَحَرَّكُ عَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ : { الْقَلْبُ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ إذَا اسْتَجْمَعْت غَلَيَانًا } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ رِيشَةٍ بِفَلَاةِ مِنْ الْأَرْضِ تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { كَانَتْ يَمِينُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ اصْرِفْ قُلُوبَنَا إلَى طَاعَتِك } وَفِي التِّرْمِذِيِّ
عَنْ أَبِي سُفْيَانَ { قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك . قَالَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِك وَبِمَا جِئْت بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ . الْقُلُوبُ بَيْنَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ } .
وقَوْله تَعَالَى { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعُقُوبَةِ الزَّانِيَيْنِ حَرَّمَ مُنَاكَحَتَهُمَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ هَجْرًا لَهُمَا وَلِمَا مَعَهُمَا مِنْ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } وَجَعَلَ مُجَالِسَ فَاعِلِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ مِثْلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّكُمْ إذًا مِثْلُهُمْ } وَهُوَ زَوْجٌ لَهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } أَيْ عُشَرَاءَهُمْ وَقُرَنَاءَهُمْ وَأَشْبَاهَهُمْ وَنُظَرَاءَهُمْ وَلِهَذَا يُقَالُ الْمُسْتَمِعُ شَرِيكُ الْمُغْتَابِ . وَرُفِعَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْمٌ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَكَانَ فِيهِمْ جَلِيسٌ لَهُمْ صَائِمٌ فَقَالَ : ابْدَءُوا بِهِ فِي الْجَلْدِ أَلَمْ تَسْمَعْ اللَّهَ يَقُولُ { فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ } ؟ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمُجَالَسَةِ وَالْعِشْرَةِ الْعَارِضَةِ حِينَ فِعْلِهِمْ لِلْمُنْكَرِ يَكُونُ مُجَالِسُهُمْ مِثْلًا لَهُمْ فَكَيْفَ بِالْعَشْرَةِ الدَّائِمَةِ . وَالزَّوْجُ يُقَالُ لَهُ الْعَشِيرُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { رَأَيْت النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ
يَكْفُرْنَ قِيلَ : يَكْفُرْنَ بِاَللَّهِ ؟ قَالَ : يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ . أَمَّا الْمُشْرِكُ فَلَا إيمَانَ لَهُ يَزْجُرُهُ عَنْ الْفَوَاحِشِ وَمُجَامَعَةِ أَهْلِهَا . وَأَمَّا الزَّانِي فَفُجُورُهُ يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا . وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ مُطْلَقِ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا مُشْرِكًا كَمَا فِي الصَّحِيحِ : { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } وَذَلِكَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَزْجُرُ وَأَنَّ فَاعِلَهُ إمَّا مُشْرِكٌ وَإِمَّا زَانٍ لَيْسَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَمْنَعُهُمْ إيمَانُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الزَّانِيَةَ فِيهَا إفْسَادُ فِرَاشِ الرَّجُلِ وَفِي مُنَاكَحَتِهَا مُعَاشَرَةُ الْفَاجِرَةِ دَائِمًا وَمُصَاحَبَتُهَا وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِهَجْرِ السُّوءِ وَأَهْلِهِ مَا دَامُوا عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الزَّانِي فَإِنَّ الزَّانِيَ إنْ لَمْ يُفْسِدْ فَرَاشَ امْرَأَتِهِ كَانَ قَرِينَ سُوءٍ لَهَا كَمَا قَالَ الشَّعْبِيُّ : مَنْ زَوَّجَ كَرِيمَتَهُ مِنْ فَاسِقٍ فَقَدْ قَطَعَ رَحِمَهَا . وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ بِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ ضَرَرٌ فِي دِينِهَا وَدُنْيَاهَا فَنِكَاحُ الزَّانِيَةِ أَشَدُّ مِنْ جِهَةِ الْفِرَاشِ وَنِكَاحُ الزَّانِي أَشَدُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ السَّيِّدُ الْمَالِكُ الْحَاكِمُ عَلَى الْمَرْأَةِ فَتَبْقَى الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ الْعَفِيفَةُ فِي أَسْرِ الْفَاجِرِ الزَّانِي
الَّذِي يُقَصِّرُ فِي حُقُوقِهَا وَيَتَعَدَّى عَلَيْهَا . وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي الدِّينِ وَعَلَى ثُبُوتِ الْفَسْخِ بِفَوَاتِ هَذِهِ الْكَفَاءَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ بِدُونِ ذَلِكَ وَهُمَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِنَّ مَنْ نَكَحَ زَانِيَةً مَعَ أَنَّهَا تَزْنِي فَقَدْ رَضِيَ بِأَنْ يَشْتَرِكَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِيهَا وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقِيَادَةِ وَالدِّيَاثَةِ وَمَنْ نَكَحَتْ زَانٍ وَهُوَ يَزْنِي بِغَيْرِهَا فَهُوَ لَا يَصُونُ مَاءَهُ حَتَّى يَضَعَهُ فِيهَا ؛ بَلْ يَرْمِيهِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الْبَغَايَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الزَّانِيَةِ الْمُتَّخِذَةِ خِدْنًا فَإِنَّ مَقْصُودَ النِّكَاحِ حِفْظُ الْمَاءِ فِي الْمَرْأَةِ وَهَذَا الرَّجُلُ لَا يَحْفَظُ مَاءَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَطَ فِي الرِّجَالِ أَنْ يَكُونُوا مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَقَالَ : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَنْبَغِي إغْفَالُهُ ؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ نَصَّهُ وَبَيَّنَهُ بَيَانًا مَفْرُوضًا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } . فَأَمَّا تَحْرِيمُ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَفِيهِ آثَارٌ عَنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِيهِ وَلَيْسَ مَعَ مَنْ أَبَاحَهُ مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ . وَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ { وَالْمُحْصَنَاتُ }
وَزَعَمُوا أَنَّ الْبَغْيَ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ وَتِلْكَ الْآيَاتُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي الْإِحْصَانِ الْعِفَّةُ وَإِذَا اُشْتُرِطَ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ فَذَاكَ تَكْمِيلٌ لِلْعِفَّةِ وَالْإِحْصَانِ وَمَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِئَلَّا يُرِقَّ وَلَدَهُ كَيْفَ يُبِيحُ الْبَغِيَّ الَّتِي تُلْحِقُ بِهِ مَنْ لَيْسَ بِوَلَدِهِ وَأَيْنَ فَسَادُ فِرَاشِهِ مِنْ رِقِّ وَلَدِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ النِّكَاحَ هُنَا هُوَ الْوَطْءُ وَالْمَعْنَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَطَأُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَطَؤُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَمَنْ وَطِئَ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً بِنِكَاحِ فَهُوَ زَانٍ وَكَذَلِكَ مَنْ وَطِئَهَا زَانٍ فَإِنَّ ذَمَّ الزَّانِي بِفِعْلِهِ الَّذِي هُوَ الزِّنَا حَتَّى لَوْ اسْتَكْرَهَهَا أَوْ استدخلت ذَكَرَهُ وَهُوَ نَائِمٌ كَانَتْ الْعُقُوبَةُ لِلزَّانِي دُونَ قَرِينِهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ . وَالْمَقْصُودُ قَوْلُهُ { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ هَذَا لِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ فَاجِرًا بَلْ لِخُصُوصِ كَوْنِهِ زَانِيًا وَكَذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ فُجُورِهَا بَلْ لِخُصُوصِ زِنَاهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَرْأَةَ زَانِيَةً إذَا تَزَوَّجَتْ زَانِيًا كَمَا جَعَلَ الزَّوْجَ زَانِيًا إذَا تَزَوَّجَ زَانِيَةً هَذَا إذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ يَعْتَقِدَانِ تَحْرِيمَ الزِّنَا وَإِذَا كَانَا مُشْرِكَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ . وَمَضْمُونُهُ أَنَّ الرَّجُلَ الزَّانِيَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُهُ حَتَّى يَتُوبَ وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَافِقَ اشْتِرَاطَهُ الْإِحْصَانَ وَالْمَرْأَةُ إذَا كَانَتْ
زَانِيَةً لَا تُحْصِنُ فَرْجَهَا عَنْ غَيْرِ زَوْجِهَا بَلْ يَأْتِيهَا هُوَ وَغَيْرُهُ كَانَ الزَّوْجُ زَانِيًا هُوَ وَغَيْرُهُ يَشْتَرِكُونَ فِي وَطْئِهَا كَمَا تَشْتَرِكُ الزُّنَاةُ فِي وَطْءِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفْيُ الْوَلَدِ الَّذِي لَيْسَ مِنْهُ . فَمَنْ نَكَحَ زَانِيَةً فَهُوَ زَانٍ أَيْ تَزَوَّجَهَا وَمَنْ نَكَحَتْ زَانِيًا فَهِيَ زَانِيَةٌ أَيْ تَزَوَّجَتْهُ ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الزُّنَاةِ قَصَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الزَّوَانِي فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ خِدْنًا وَخَلِيلًا لَهُ لَا يَأْتِي غَيْرَهَا فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ زَانِيًا لَا يُعِفُّ امْرَأَتَهُ وَإِذَا لَمْ يُعِفَّهَا تَشَوَّقَتْ هِيَ إلَى غَيْرِهِ فَزَنَتْ بِهِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى نِسَاءِ الزَّوَانِي أَوْ مَنْ يَلُوطُ بِالصِّبْيَانِ فَإِنَّ نِسَاءَهُ يَزْنِينَ لِيَقْضِينَ إرْبَهُنَّ وَوَطَرَهُنَّ ويراغمن أَزْوَاجَهُنَّ بِذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَعِفُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ فَهُنَّ أَيْضًا لَمْ يَعْفِفْنَ أَنْفُسَهُنَّ عَنْ غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : " عِفُّوا تَعِفُّ نِسَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَبَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ " فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَمِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا رَضِيَ أَنْ يَنْكِحَ زَانِيَةً رَضِيَ بِأَنْ تَزْنِيَ امْرَأَتُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فَأَحَدُهُمَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مَا يُحِبُّ لِلْآخَرِ فَإِذَا رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْكِحَ زَانِيًا فَقَدْ رَضِيَتْ عَمَلَهُ وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَنْكِحَ زَانِيَةً فَقَدْ رَضِيَ عَمَلَهَا وَمَنْ رَضِيَ الزِّنَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الزَّانِي . فَإِنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ هُوَ الْإِرَادَةُ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ " مَنْ غَابَ عَنْ مَعْصِيَةٍ فَرَضِيَهَا
كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا أَوْ فَعَلَهَا " : وَفِي الْحَدِيثِ { الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ } وَأَعْظَمُ الْخِلَّةِ خِلَّةُ الزَّوْجَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ فِي نُفُوسِ بَنِي آدَمَ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فَيَسْتَعْظِمُ الرَّجُلُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَزْنِيَ فَإِذَا لَمْ يَكْرَهْ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ بَغِيًّا وَهُوَ دَيُّوثٌ كَيْفَ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ زَانٍ وَلِهَذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ هُوَ دَيُّوثٌ أَوْ قَوَّادٌ يَعِفُّ عَنْ الزِّنَا فَإِنَّ الزَّانِيَ لَهُ شَهْوَةٌ فِي نَفْسِهِ وَالدَّيُّوثُ لَيْسَ لَهُ شَهْوَةٌ فِي زِنَا غَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إيمَانٌ يَكْرَهُ بِهِ زِنَا غَيْرِهِ بِزَوْجَتِهِ كَيْفَ يَكُونُ مَعَهُ إيمَانٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الزِّنَا فَمَنْ اسْتَحَلَّ أَنْ يَتْرُكَ امْرَأَتَهُ تَزْنِي اسْتَحَلَّ أَعْظَمَ الزِّنَا وَمَنْ أَعَانَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ كَالزَّانِي وَمَنْ أَقَرَّ عَلَى ذَلِكَ مَعَ إمْكَانِ تَغْيِيرِهِ فَقَدْ رَضِيَهُ وَمَنْ تَزَوَّجَ غَيْرَ تَائِبَةٍ فَقَدْ رَضِيَ أَنْ تَزْنِيَ إذْ لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ كَيْدَ النِّسَاءِ عَظِيمٌ .
وَلِهَذَا جَازَ لِلرَّجُلِ إذَا أَتَتْ امْرَأَتُهُ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أَنْ يَعْضُلَهَا لِتَفْتَدِي نَفْسَهَا مِنْهُ وَهُوَ نَصُّ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لِأَنَّهَا بِزِنَاهَا طَلَبَتْ الِاخْتِلَاعَ مِنْهُ وَتَعَرَّضَتْ لِإِفْسَادِ نِكَاحِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُقَامَ مَعَهَا حَتَّى تَتُوبَ وَلَا يَسْقُطَ الْمُهْرُ بِمُجَرَّدِ زِنَاهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُلَاعِنِ لَمَّا قَالَ : مَالِي قَالَ { لَا مَالَ لَك عِنْدَهَا إنْ كُنْت صَادِقًا عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْت كَاذِبًا عَلَيْهَا
فَهُوَ أَبْعَدُ لَك } لِأَنَّهَا إذَا زَنَتْ قَدْ تَتُوبُ ؛ لَكِنَّ زِنَاهَا يُبِيحُ لَهُ إعْضَالَهَا حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ نَفْسَهَا إنْ اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ أَوْ تَتُوبُ . وَفِي الْغَالِبِ أَنَّ الرَّجُلَ لَا يَزْنِي بِغَيْرِ امْرَأَتِهِ إلَّا إذَا أَعْجَبَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَلَا يَزَالُ يَزْنِي بِمَا يُعْجِبُهُ فَتَبْقَى امْرَأَتُهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَلَّقَةِ الَّتِي لَا هِيَ أَيِّمٌ وَلَا ذَاتُ زَوْجٍ فَيَدْعُوهَا ذَلِكَ إلَى الزِّنَا وَيَكُونُ الْبَاعِثُ لَهَا عَلَى ذَلِكَ مُقَابَلَةُ زَوْجِهَا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ مُكَايِدَةً لَهُ وَمُغَايَظَةً ؛ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَحْفَظْ غَيْبَهَا لَمْ تَحْفَظْ غَيْبَهُ وَلَهَا فِي بُضْعِهِ حَقٌّ كَمَا لَهُ فِي بُضْعِهَا حَقٌّ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْعَادِينَ لِخُرُوجِهِ عَمَّا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَحْصَنَ نَفْسَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ دَاعِيَةَ الزَّانِي تَشْتَغِلُ بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ الْبَغَايَا فَلَا تَبْقَى دَاعِيَتُهُ إلَى الْحَلَالِ تَامَّةً وَلَا غَيْرَتُهُ كَافِيَةً فِي إحْصَانِهِ الْمَرْأَةَ فَتَكُونُ عِنْدَهُ كَالزَّانِيَةِ الْمُتَّخِذَةِ خِدْنًا . وَهَذِهِ مَعَانٍ شَرِيفَةٌ لَا يَنْبَغِي إهْمَالُهَا . وَعَلَى هَذَا فَالْمَرْأَةُ المساحقة زَانِيَةٌ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { زِنَا النِّسَاءِ سِحَاقُهُنَّ } وَالرَّجُلُ الَّذِي يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ بِمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ هُوَ زَانٍ وَالْمَرْأَةُ النَّاكِحَةُ لَهُ زَانِيَةٌ فَلَا تَنْكِحُهُ إلَّا زَانِيَةٌ أَوْ مُشْرِكَةٌ وَلِهَذَا يَكْثُرُ فِي نِسَاءِ اللُّوطِيَّةِ مَنْ تَزْنِي بِغَيْرِ زَوْجِهَا وَرُبَّمَا زَنَتْ بِمَنْ يتلوط هُوَ بِهِ مُرَاغَمَةً لَهُ وَقَضَاءً لِوَطَرِهَا وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ بِمُخَنَّثِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ هِيَ مُتَزَوِّجَةٌ بِزَانٍ بَلْ هُوَ أَسْوَأُ الشَّخْصَيْنِ حَالًا فَإِنَّهُ مَعَ الزِّنَا صَارَ مُخَنَّثًا مَلْعُونًا عَلَى نَفْسِهِ لِلتَّخْنِيثِ غَيْرُ اللَّعْنَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ والمترجلات مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ { أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ . } وَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِمُخَنَّثِ قَدْ انْتَقَلَتْ شَهْوَتُهُ إلَى دُبُرِهِ ؟ فَهُوَ يُؤْتَى كَمَا تُؤْتَى الْمَرْأَةُ وَتَضْعُفُ دَاعِيَتُهُ مِنْ أَمَامِهِ كَمَا تَضْعُفُ دَاعِيَةُ الزَّانِي بِغَيْرِ امْرَأَتِهِ عَنْهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ غَيْرَةٌ عَلَى نَفْسِهِ ضَعُفَتْ غَيْرَتُهُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَغَيْرِهَا ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ مَنْ كَانَ مُخَنَّثًا لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ غَيْرَةٍ عَلَى وَلَدِهِ وَمَمْلُوكِهِ وَمَنْ يَكْفُلُهُ وَالْمَرْأَةُ إذَا رَضِيَتْ بِالْمُخَنَّثِ وَاللُّوطِيِّ كَانَتْ عَلَى دِينِهِ فَتَكُونُ زَانِيَةً وَأَبْلَغَ فَإِنَّ تَمْكِينَ الْمَرْأَةِ مِنْ نَفْسِهَا أَسْهَلُ مِنْ تَمْكِينِ الرَّجُلِ مِنْ نَفْسِهِ فَإِذَا رَضِيَتْ ذَلِكَ مِنْ زَوْجِهَا رَضِيَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا . وَلَفْظُ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً } الْآيَةُ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ إمَّا بِطَرِيقِ عُمُومِ اللَّفْظِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّنْبِيهِ وَفَحْوَى الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَأَدْنَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي حَدِّ اللُّوطِيِّ وَنَحْوِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وقَوْله تَعَالَى { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ النِّسَاءَ الْخَبِيثَاتِ لِلرِّجَالِ الْخَبِيثَيْنِ فَلَا تَكُونُ خَبِيثَةٌ لِطَيِّبٍ فَإِنَّ ذَلِكَ خِلَافَ الْحَصْرِ ، فَلَا
تَنْكِحُ الزَّانِيَةُ الْخَبِيثَةُ إلَّا زَانِيًا خَبِيثًا وَأَخْبَرَ أَنَّ الطَّيِّبِينَ لِلطَّيِّبَاتِ فَلَا يَكُونُ الطَّيِّبُ لِامْرَأَةٍ خَبِيثَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ خِلَافَ الْحَصْرِ ؛ إذْ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَبِيثَاتِ لِلْخَبِيثَيْنِ فَلَا تَبْقَى خَبِيثَةٌ لِطَيِّبِ وَلَا طَيِّبٌ لِخَبِيثَةِ . وَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَ الطَّيِّبَاتِ لِلطَّيِّبِينَ فَلَا تَبْقَى طَيِّبَةٌ لِخَبِيثِ فَجَاءَ الْحَصْرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ : { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ صَدْرُهَا بِسَبَبِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَمَا قَالُوهُ فِي عَائِشَةَ وَلِهَذَا لَمَّا قِيلَ فِيهَا مَا قِيلَ وَصَارَتْ شُبْهَةٌ اسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ اسْتَشَارَهُ فِي طَلَاقِهَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بَرَاءَتَهَا ؛ إذْ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَنْ تَكُونَ امْرَأَتُهُ غَيْرَ طَيِّبَةٍ وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ دَيُّوثٌ } وَالدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ السُّوءَ فِي أَهْلِهِ . وَلِهَذَا كَانَتْ الْغَيْرَةُ عَلَى الزِّنَا مِمَّا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَأَمَرَ بِهَا حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ لَأَنَا أَغَيْرُ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَغَيْرُ مِنِّي ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَلِهَذَا أَذِنَ اللَّهُ لِلْقَاذِفِ إذَا كَانَ زَوْجَهَا أَنْ يُلَاعِنَ : فَيَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَجَعَلَ ذَلِكَ يَدْفَعُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ كَمَا لَوْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى قَذْفِهَا لِأَجْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ
الْغَيْرَةِ وَلِأَنَّهَا ظَلَمَتْهُ بِإِفْسَادِ فِرَاشِهِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ حَبِلَتْ مِنْ الزِّنَا فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ لِيَنْفِيَ عَنْهُ النَّسَبَ الْبَاطِلَ لِئَلَّا يَلْحَقَ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ . وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ سَوَاءٌ حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بِتَلَاعُنِهِمَا أَوْ احْتَاجَتْ إلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ أَوْ حَصَلَتْ عِنْدَ انْقِضَاءِ لِعَانِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَلْعُونٌ أَوْ خَبِيثٌ فَاقْتِرَانُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَقْتَضِي مُقَارَنَةَ الْخَبِيثِ الْمَلْعُونِ لِلطَّيِّبِ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِمْرَانَ ابْنِ حُصَيْنٍ { حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَعَنَتْ نَاقَةً لَهَا فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ مَا عَلَيْهَا وَأُرْسِلَتْ ؛ وَقَالَ : لَا تَصْحَبُنَا نَاقَةٌ مَلْعُونَةٌ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا اجْتَازَ بِدِيَارِ ثَمُودٍ قَالَ : { لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ ؛ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ } فَنَهَى عَنْ عُبُورِ دِيَارِهِمْ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْخَوْفِ الْمَانِعِ مِنْ الْعَذَابِ . وَهَكَذَا السُّنَّةُ فِي مُقَارِنَةِ الظَّالِمِينَ وَالزُّنَاةِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يُقَارِنَهُمْ وَلَا يُخَالِطَهُمْ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَسْلَمُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا لِظُلْمِهِمْ مَاقِتًا لَهُمْ شَانِئًا مَا هُمْ فِيهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ } الْآيَةُ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ وَعَمَلِهِ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لِصَاحِبِ مِصْرَ لِقَوْمِ كُفَّارٍ . وَذَلِكَ أَنَّ مُقَارَنَةَ الْفُجَّارِ إنَّمَا يَفْعَلُهَا الْمُؤْمِنُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُكْرَهًا عَلَيْهَا وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَفْسَدَةِ الْمُقَارَنَةِ أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي تَرْكِهَا مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ فِي دِينِهِ فَيَدْفَعُ أَعْظَمَ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَتَحْصُلُ الْمَصْلَحَةُ الرَّاجِحَةُ بِاحْتِمَالِ الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْمُكْرَهُ هُوَ مَنْ يَدْفَعُ الْفَسَادَ الْحَاصِلَ بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى : { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } { إلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا } { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا } وَقَالَ : { وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِين مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ } الْآيَةُ .
فَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُنَاكَحَةِ الزَّانِي وَالْمُنَاكَحَةُ نَوْعٌ خَاصٌّ مِنْ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُزَاوَجَةِ وَالْمُقَارَنَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ وَلِهَذَا سُمِّيَ كُلٌّ مِنْهُمَا زَوْجًا وَصَاحِبًا وَقَرِينًا وَعَشِيرًا لِلْآخَرِ وَالْمُنَاكَحَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْمُجَامَعَةُ وَالْمُضَامَّةُ فَقُلُوبُهُمَا تَجْتَمِعُ إذَا عُقِدَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَيَصِيرُ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّعَاطُفِ وَالتَّرَاحُمِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى تَثْبُتَ بِذَلِكَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فِي غَيْرِ الرَّبِيبَةِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ وَالتَّوَارُثُ وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ : وَأَوْسَطُ ذَلِكَ اجْتِمَاعُهُمَا خَالِيَيْنِ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُعَاشَرَةُ الْمُقَرِّرَةُ لِلصَّدَاقِ كَمَا قَضَى بِهِ الْخُلَفَاءُ وَآخِرُ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ الْمُبَاضَعَةِ وَهَذَا وَإِنْ اجْتَمَعَ بِدُونِ عَقْدِ نِكَاحٍ فَهُوَ اجْتِمَاعٌ ضَعِيفٌ ؛ بَلْ اجْتِمَاعُ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ اجْتِمَاعِ الْبَدَنَيْنِ بِالسِّفَاحِ . وَدَلَّ قَوْلُهُ : { الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَمِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى النَّهْيِ عَنْ مُقَارَنَةِ الْفُجَّارِ وَمُزَاوَجَتِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَى هَذَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ : مِثْلُ قَوْلِهِ : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } أَيْ : وَأَشْبَاهَهُمْ وَنُظَرَاءَهُمْ وَالزَّوْجُ أَعَمُّ مِنْ النِّكَاحِ الْمَعْرُوفِ قَالَ تَعَالَى : { يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ } { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا } وَقَالَ : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } وَقَالَ : { مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } و { كَرِيمٌ } وَقَالَ : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } وَقَالَ : { جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } وَقَالَ : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } وَقَالَ : { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ } وَقَالَ : { إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ } . وَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ نَصَّ فِي الزَّوْجَةِ الَّتِي هِيَ الصَّاحِبَةُ وَفِي الْوَلَدِ مِنْهَا فَمَعْنَى ذَلِكَ فِي كُلِّ مُشَابِهٍ وَمُقَارِنٍ وَمُشَارِكٍ وَفِي كُلِّ فَرْعٍ وَتَابِعٍ ف { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } و { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } . فَالْمُصَاحَبَةُ وَالْمُصَاهَرَةُ وَالْمُؤَاخَاةُ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُرَادِ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ : { لَا تُصَاحِبْ إلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَك إلَّا تَقِيٌّ } وَفِيهَا : { الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يخالل } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرِ } و " الضَّفِيرُ " الْحَبْلُ وَشَكَّ الرَّاوِي هَلْ أَمَرَ بِبَيْعِهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ . وَهَذَا أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعِ الْأُمَّةِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَلَوْ بِأَدْنَى مَالٍ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : إنْ لَمْ يَبِعْهَا كَانَ تَارِكًا لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْإِمَاءُ اللَّاتِي يَفْعَلْنَ هَذَا تَكُونُ عَامَّتُهُنَّ لِلْخِدْمَةِ لَا لِلتَّمَتُّعِ فَكَيْفَ بِأَمَةِ التَّمَتُّعِ ؟ وَإِذَا وَجَبَ إخْرَاجُ الْأَمَةِ الزَّانِيَةِ عَنْ مِلْكِهِ فَكَيْفَ بِالزَّوْجَةِ الزَّانِيَةِ وَالْعَبْدُ وَالْمَمْلُوكُ نَظِيرُ الْأَمَةِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَعَنَ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا } فَهَذَا يُوجِبُ لَعْنَةَ كُلِّ مَنْ آوَى مُحْدِثًا سَوَاءٌ كَانَ إحْدَاثُهُ بِالزِّنَا أَوْ السَّرِقَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِيوَاءُ بِمِلْكِ يَمِينٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ تَرْكُهُ إنْكَارًا لِلْمُنْكَرِ .
فَصْلٌ :
وَالْمُؤْمِنُ مُحْتَاجٌ إلَى امْتِحَانِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُصَاحِبَهُ وَيُقَارِنَهُ بِنِكَاحِ وَغَيْرِهِ قَالَ تَعَالَى : { إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } الْآيَةُ . وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِي زَنَى بِهَا الرَّجُلُ فَإِنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ بِهَا إلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ ؛ لَكِنْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَمْتَحِنَهَا هَلْ هِيَ صَحِيحَةُ التَّوْبَةِ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد : أَنَّهُ يُرَاوِدُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَإِنْ أَجَابَتْهُ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهَا وَإِنْ لَمْ تُجِبْهُ فَقَدْ تَابَتْ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هَذَا الِامْتِحَانُ
فِيهِ طَلَبُ الْفَاحِشَةِ مِنْهَا وَقَدْ تَنْقُضُ التَّوْبَةَ وَقَدْ تَأْمُرُهُ نَفْسُهُ بِتَحْقِيقِ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَيُزَيِّنُ لَهُمَا الشَّيْطَانُ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ يُحِبُّهَا وَتُحِبُّهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَهُ مَعَهَا فِعْلُ الْفَاحِشَةِ مَرَّاتٍ وَذَاقَتْهُ وَذَاقَهَا فَقَدْ تَنْقُضُ التَّوْبَةَ وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا أَرَادَهُ مِنْهَا . وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ : الْأَمْرُ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ امْتِحَانُهَا لَا يُقْصَدُ بِهِ نَفْسُ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ أَمْرًا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَيُمْكِنُهُ أَنْ لَا يَطْلُبَ الْفَاحِشَةَ ؛ بَلْ يُعَرِّضُ بِهَا وَيَنْوِي شَيْئًا آخَرَ وَالتَّعْرِيضُ لِلْحَاجَةِ جَائِزٌ ؛ بَلْ وَاجِبٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . وَأَمَّا نَقْضُهَا تَوْبَتَهَا فَإِذَا جَازَ أَنْ تَنْقُضَ التَّوْبَةَ مَعَهُ جَازَ أَنْ تَنْقُضَهَا مَعَ غَيْرِهِ وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةً مِمَّنْ يُرَاوِدُهَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُمْتَنِعَةً مِنْهُ لَمْ تَكُنْ مُمْتَنِعَةً مِنْ غَيْرِهِ . وَأَمَّا تَزْيِينُ الشَّيْطَانِ لَهُ الْفِعْلَ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي كُلِّ أَمْرٍ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْخَيْرِ يَجِدُ فِيهِ مَحَبَّتَهُ فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُصَاحِبَ الْمُؤْمِنَ أَوْ أَرَادَ الْمُؤْمِنُ أَنْ يُصَاحِبَ أَحَدًا وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُ الْفُجُورُ وَقِيلَ إنَّهُ تَابَ مِنْهُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقُولًا عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا : فَإِنَّهُ يَمْتَحِنُهُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ بِرُّهُ أَوْ فُجُورُهُ وَصِدْقُهُ أَوْ كَذِبُهُ وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ أَحَدًا وِلَايَةً امْتَحَنَهُ ؛ كَمَا أَمَرَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ غُلَامَهُ أَنْ يَمْتَحِنَ ابْنَ أَبِي مُوسَى لَمَّا أَعْجَبَهُ سَمْتُهُ فَقَالَ لَهُ : قَدْ عَلِمْت مَكَانِي عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَمْ تُعْطِينِي إذَا أَشَرْت عَلَيْهِ بِوِلَايَتِك ؟
فَبَذَلَ لَهُ مَالًا عَظِيمًا فَعَلِمَ عُمَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْوِلَايَةِ وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَكَذَلِكَ الصِّبْيَانُ وَالْمَمَالِيكُ الَّذِينَ عُرِفُوا أَوْ قِيلَ عَنْهُمْ الْفُجُورُ وَأَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَنَّهُ يَمْتَحِنُهُ فَإِنَّ الْمُخَنَّثَ كَالْبَغِيِّ وَتَوْبَتُهُ كَتَوْبَتِهَا . وَمَعْرِفَةُ أَحْوَالِ النَّاسِ تَارَةً تَكُونُ بِشَهَادَاتِ النَّاسِ وَتَارَةً تَكُونُ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَتَارَةً تَكُونُ بِالِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ.
فَصْلٌ :
وَكَمَا عَظَّمَ اللَّهُ الْفَاحِشَةَ عَظَّمَ ذِكْرَهَا بِالْبَاطِلِ وَهُوَ الْقَذْفُ فَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } ثُمَّ ذَكَرَ رَمْيَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَمَا أَمَرَ فِيهِ مِنْ التَّلَاعُنِ ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ أَهْلِ الْإِفْكِ وَبَيَّنَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْخَيْرِ لِلْمَقْذُوفِ الْمَكْذُوبِ عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ لِلْقَاذِفِ وَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذَا سَمِعُوا ذَلِكَ أَنْ يَظُنُّوا بِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْخَيْرَ وَيَقُولُونَ : هَذَا إفْكٌ مُبِينٌ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ كَذِبٌ ظَاهِرٌ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَوْلٌ بِلَا حُجَّةٍ فَقَالَ : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُهُ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَتُهُ لَعَذَّبَهُمْ بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ .
وَقَوْلُهُ : { إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } فَهَذَا بَيَانٌ لِسَبَبِ الْعَذَابِ وَهُوَ تَلَقِّي الْبَاطِلِ بِالْأَلْسِنَةِ وَالْقَوْلِ بِالْأَفْوَاهِ وَهُمَا نَوْعَانِ مُحَرَّمَانِ : الْقَوْلُ بِالْبَاطِلِ وَالْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ . ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ : { لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } . فَالْأَوَّلُ تَحْضِيضٌ عَلَى الظَّنِّ الْحَسَنِ وَهَذَا نَهْيٌ لَهُمْ عَنْ التَّكَلُّمِ بِالْقَذْفِ . فَفِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } وَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } وَكَذَا قَوْله تَعَالَى { ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ مِثْلِ هَذَا الظَّنِّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ : { مَا أَظُنُّ فُلَانًا وَفُلَانًا يَدْرِيَانِ مِنْ أَمْرِنَا هَذَا شَيْئًا } . فَهَذَا يَقْتَضِي جَوَازَ بَعْضِ الظَّنِّ كَمَا احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ بِذَلِكَ ؛ لَكِنْ مَعَ الْعِلْمِ بِمَا عَلَيْهِ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَازِعِ لَهُ عَنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ يَجِبُ أَنْ يَظُنَّ بِهِ الْخَيْرَ دُونَ الشَّرِّ . وَفِي الْآيَةِ نَهْيٌ عَنْ تَلَقِّي مِثْلِ هَذَا بِاللِّسَانِ وَنَهْيٌ عَنْ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ فِي فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَالْقَذْفِ مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا الرَّجْمَ وَقَدْ رَجَمَ هُوَ - تَعَالَى - قَوْمَ
لُوطٍ إذْ كَانُوا هُمْ أَوَّلَ مَنْ فَعَلَ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ وَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ عَلَى الْقَذْفِ بِهَا ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَالرَّمْيَ بِغَيْرِهَا فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَيَجُوزُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَبْلُغَ الثَّمَانِينَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ : " لَا أُوتِيَ بِأَحَدِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي " . وَكَمَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : إذَا شَرِبَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحَدُّ الشُّرْبِ ثَمَانُونَ وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ . وقَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } الْآيَةُ . وَهَذَا ذَمٌّ لِمَنْ يُحِبُّ ذَلِكَ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ بِاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَهُوَ ذَمٌّ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْفَاحِشَةِ أَوْ يُخْبِرُ بِهَا مَحَبَّةً لِوُقُوعِهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ : إمَّا حَسَدًا أَوْ بُغْضًا وَإِمَّا مَحَبَّةً لِلْفَاحِشَةِ وَإِرَادَةً لَهَا وَكِلَاهُمَا مَحَبَّةٌ لِلْفَاحِشَةِ وَبُغْضًا لِلَّذِينَ آمَنُوا فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ فِعْلَهَا ذَكَرَهَا . وَكَرِهَ الْعُلَمَاءُ الْغَزَلَ مِنْ الشِّعْرِ الَّذِي يُرَغِّبُ فِيهَا وَكَذَلِكَ ذِكْرُهَا غِيبَةٌ مُحَرَّمَةٌ سَوَاءٌ كَانَ بِنَظْمِ أَوْ نَثْرٍ وَكَذَلِكَ التَّشَبُّهُ بِمَنْ يَفْعَلُهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ : مِثْلَ الْأَمْرِ بِهَا ؛ فَإِنَّ الْفِعْلَ يُطْلَبُ بِالْأَمْرِ تَارَةً وَبِالْإِخْبَارِ تَارَةً فَهَذَانِ الْأَمْرَانِ لِلْفَجَرَةِ الزُّنَاةِ اللُّوطِيَّةِ : مِثْلَ ذِكْرِ قِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ أُولَئِكَ يَعْتَبِرُونَ مِنْ الْغَيْرَةِ بِهِمْ وَهَؤُلَاءِ يَعْتَبِرُونَ مِنْ الِاغْتِرَارِ ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ يَذْكُرُونَ مِنْ قِصَصِ
أَشْبَاهِهِمْ مَا يَكُونُ بِهِ لَهُمْ فِيهِمْ قُدْوَةٌ وَأُسْوَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } قِيلَ : أَرَادَ الْغِنَاءَ وَقِيلَ أَرَادَ قِصَصَ الْمُلُوكِ مِنْ الْكُفَّارِ مِنْ الْفَرَسِ . وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا رَغَّبَ النُّفُوسَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَنَهَاهَا عَنْ مَعْصِيَتِهِ مِنْ خَبَرٍ أَوْ أَمْرٍ فَهُوَ مِنْ طَاعَتِهِ وَكُلُّ مَا رَغَّبَهَا فِي مَعْصِيَتِهِ وَنَهَى عَنْ طَاعَتِهِ فَهُوَ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فَأَمَّا ذِكْرُ الْفَاحِشَةِ وَأَهْلِهَا بِمَا يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ فِي الشَّرِيعَةِ : مِثْلَ النَّهْيِ عَنْهَا وَعَنْهُمْ وَالذَّمِّ لَهَا وَلَهُمْ وَذِكْرُ مَا يُبَغِّضُهَا وَيُنَفِّرُ عَنْهَا وَذِكْرُ أَهْلِهَا مُطْلَقًا حَيْثُ يَسُوغُ ذَلِكَ وَمَا يَشْرَعُ لَهُمْ مِنْ الذَّمِّ فِي وُجُوهِهِمْ وَمَغِيبِهِمْ : فَهَذَا كُلُّهُ حَسَنٌ يَجِبُ تَارَةً وَيُسْتَحَبُّ أُخْرَى وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُ فِيهَا مِنْ وَصْفِهَا وَوَصْفِ أَهْلِهَا مِنْ الْعِشْقِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ الَّذِي يُوجِبُ الِانْتِهَاءَ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالْبُغْضَ لِمَا يُبْغِضُهُ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ قَصَّ عَلَيْنَا فِي الْقُرْآنِ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ وَقِصَصَ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ : لِنَعْتَبِرَ بِالْأَمْرَيْنِ : فَنُحِبُّ الْأَوَّلِينَ وَسَبِيلَهُمْ وَنَقْتَدِي بِهِمْ وَنُبْغِضُ الْآخَرِينَ وَسَبِيلَهُمْ وَنَجْتَنِبُ فِعَالَهُمْ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ مِنْ ذِكْرِ الْفَاحِشَةِ
وَعَلَائِقِهَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ قَالَ تَعَالَى : { وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ . فَهَذَا لُوطٌ خَاطَبَ أَهْلَ الْفَاحِشَةِ - وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ - بِتَقْرِيعِهِمْ بِهَا بِقَوْلِهِ : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ وَنَهْيُ إنْكَارٍ ذَمٌّ وَنَهْيٌ كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ : أَتَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا ؟ أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ ؟ ثُمَّ قَالَ : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ } وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ ثَانٍ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ مَا فِيهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقَذْفِ وَاللَّمْزِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فَقَدْ وَاجَهَهُمْ بِذَمِّهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى فِعْلِ الْفَاحِشَةِ ثُمَّ إنَّ أَهْلَ الْفَاحِشَةِ تَوَعَّدُوهُمْ وَتَهَدَّدُوهُمْ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ الْقَرْيَةِ وَهَذَا حَالُ أَهْلِ الْفُجُورِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ مَنْ يَنْهَاهُمْ طَلَبُوا نَفْيَهُ وَإِخْرَاجَهُ وَقَدْ عَاقَبَ اللَّهُ أَهْلَ الْفَاحِشَةِ اللُّوطِيَّةِ بِمَا أَرَادُوا أَنْ يَقْصِدُوا بِهِ أَهْلَ التَّقْوَى ؛ حَيْثُ أَمَرَ بِنَفْيِ الزَّانِي وَنَفْيِ الْمُخَنَّثِ فَمَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْيِ هَذَا وَهَذَا وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَخْرَجَ الْمُتَّقِينَ مِنْ بَيْنِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وَمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَمِنْ كَلَامِ يُوسُفَ مِنْ قَوْلِهِ : { مَا بَالُ
النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } وَهَذَا مِنْ بَابِ الِاعْتِبَارِ الَّذِي يُوجِبُ انْتِهَارَ النُّفُوسِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالتَّمَسُّكِ بِالتَّقْوَى وَكَذَلِكَ مَا بَيَّنَهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } . وَمَعَ هَذَا فَمِنْ النَّاسِ وَالنِّسَاءِ مَنْ يُحِبُّ سَمَاعَ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ الْعِشْقِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ؛ لِمَحَبَّتِهِ لِذَلِكَ وَرَغْبَتِهِ فِي الْفَاحِشَةِ حَتَّى إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقْصِدُ إسْمَاعَهَا لِلنِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ لِمَحَبَّتِهِمْ لِلسُّوءِ وَيَعْطِفُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَخْتَارُونَ أَنْ يَسْمَعُوا مَا فِي سُورَةِ النُّورِ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كُلُّ مَا حَصَّلْته فِي سُورَةِ يُوسُفَ أَنْفَقْته فِي سُورَةِ النُّورِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } ثُمَّ قَالَ : { وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلَّا خَسَارًا } وَقَالَ { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } . فَكُلُّ أَحَدٍ يُحِبُّ سَمَاعَ ذَلِكَ لِتَحْرِيكِ الْمُحِبَّةِ الْمَذْمُومَةِ وَيُبْغِضُ سَمَاعَ ذَلِكَ إعْرَاضًا عَنْ دَفْعِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَإِزَالَتِهَا : فَهُوَ مَذْمُومٌ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ ذِكْرُ أَحْوَالِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَرْغِيبٌ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ سَمَاعُ كَلَامِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالنَّظَرُ فِي كُتُبِهِمْ لِمَنْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ وَيَدْعُوهُ إلَى سَبِيلِهِمْ وَإِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهَذَا الْبَابُ تَجْتَمِعُ فِيهِ الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَمَّ هَؤُلَاءِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } الْآيَةُ وَمَا بَعْدَهَا وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } وَقَوْلِهِ : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } وَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةُ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ فَأَهْلُ الْمَعَاصِي كَثِيرُونَ فِي الْعَالَمِ ؛ بَلْ هُمْ أَكْثَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةُ . وَفِي النُّفُوسِ مِنْ الشُّبُهَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَالشَّهَوَاتِ قَوْلًا وَعَمَلًا مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَهْلُهَا يَدْعُونَ النَّاسَ إلَيْهَا وَيَقْهَرُونَ مَنْ يَعْصِيهِمْ وَيُزَيِّنُونَهَا لِمَنْ يُطِيعُهُمْ . فَهُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَأَنْدَادُهُمْ فَرُسُلُ اللَّهِ يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهَا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَيُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَيُحَذِّرُونَهُمْ مِنْهَا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ وَيُجَاهِدُونَ مَنْ يَفْعَلُهَا . وَهَؤُلَاءِ يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ
وَيَأْمُرُونَهُمْ بِهَا بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَيُجَاهِدُونَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ثُمَّ قَالَ : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَنَا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ مَسْبُوقٌ بِمَعْرِفَتِهِ فَمَنْ لَا يَعْلَمُ الْمَعْرُوفَ لَا يُمْكِنُهُ الْأَمْرُ بِهِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ مَسْبُوقٌ بِمَعْرِفَتِهِ فَمَنْ لَا يَعْلَمُهُ لَا يُمْكِنُهُ النَّهْيُ عَنْهُ وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا فِعْلَ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ حُبَّ الشَّيْءِ وَفِعْلَهُ وَبُغْضَ ذَلِكَ وَتَرْكَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِمَا حَتَّى يَصِحَّ الْقَصْدُ إلَى فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِعِلْمِهِ فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ الشَّيْءَ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ حُبٌّ لَهُ وَلَا بُغْضٌ وَلَا فِعْلٌ وَلَا تَرْكٌ ؛ لَكِنَّ فِعْلَ الشَّيْءِ وَالْأَمْرَ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُعْلَمَ عِلْمًا مُفَصَّلًا يُمْكِنُ مَعَهُ فِعْلُهُ وَالْأَمْرُ بِهِ إذَا أُمِرَ بِهِ مُفَصَّلًا . وَلِهَذَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ مَعْرِفَةَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ : مِثْلَ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إذَا أَمَرَ بِأَوْصَافِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِثُبُوتِهَا فَكَمَا أَنَّا لَا نَكُونُ مُطِيعِينَ إذَا عَلِمْنَا عَدَمَ الطَّاعَةِ فَلَا نَكُونُ مُطِيعِينَ إلَّا إذَا لَمْ نَعْلَمْ وُجُودَهَا ؛ بَلْ الْجَهْلُ بِوُجُودِهَا كَالْعِلْمِ بِعَدَمِهَا وَكَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعْصِيَةً فَإِنَّ الْجَهْلَ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بَعْضِهَا بِجِنْسِهِ ؛ فَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ الْمُمَاثَلَةَ كَانَ كَمَا لَوْ عَلِمْنَا الْمُفَاضَلَةَ . وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَا يَتْرُكُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ فَقَدْ يُكْتَفَى بِمَعْرِفَتِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مُجْمَلًا فَالْإِنْسَانُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمُنْكَرِ وَإِنْكَارِهِ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى الْحُجَجِ الْمُبَيِّنَةِ لِذَلِكَ وَإِلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُعَارِضُ بِهِ أَصْحَابَهَا مِنْ الْحُجَجِ وَإِلَى دَفْعِ أَهْوَائِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى إرَادَةٍ جَازِمَةٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالصَّبْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } . وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ نَذْكُرَ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ لَهَا وَالنَّهْيِ عَنْهَا وَبَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ الْفَسَادِ فَإِنَّ الْإِنْكَارَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ قَبْلَ الْإِنْكَارِ بِالْيَدِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِيمَا يَذْكُرُهُ تَعَالَى عَنْ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ وَالْعُصَاةِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ ؛ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالْبُغْضِ لَهَا وَلِأَهْلِهَا وَبَيَانِ فَسَادِهَا وَضِدِّهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا كَمَا أَنَّ فِيمَا يَذْكُرُهُ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَدْحِ وَالْحُبِّ وَبَيَانِ صَلَاحِهِ وَمَنْفَعَتِهِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا } { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا } { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } { أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } { إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا } { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } الْآيَاتُ . وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فَاَلَّذِي يُحِبُّ أَقْوَالَهُمْ وَأَفْعَالَهُمْ هُوَ مِنْهُمْ : إمَّا كَافِرٌ وَإِمَّا فَاجِرٌ بِحَسَبِ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ بِعَكْسِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَذَابٌ فِي تَرْكِهِ ؛ لَكِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى مُجَرَّدِ عَدَمِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُثَابُ عَلَى قَصْدِهِ لِتَرْكِ ذَلِكَ وَإِرَادَتِهِ وَذَلِكَ مَسْبُوقٌ بِالْعِلْمِ بِقُبْحِ ذَلِكَ وَبُغْضِهِ لِلَّهِ وَهَذَا الْعِلْمُ وَالْقَصْدُ وَالْبُغْضُ هُوَ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي يُثَابُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَدْنَى الْإِيمَانِ ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ } إلَى آخِرِهِ وَتَغْيِيرُ الْقَلْبِ يَكُونُ بِالْبُغْضِ لِذَلِكَ وَكَرَاهَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَبِقُبْحِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْإِنْكَارُ بِاللِّسَانِ ثُمَّ يَكُونُ بِالْيَدِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } فِيمَنْ رَأَى الْمُنْكَرَ . فَأَمَّا إذَا رَآهُ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُنْكَرٌ وَلَمْ يَكْرَهْهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِيمَانُ مَوْجُودًا فِي الْقَلْبِ فِي حَالِ وُجُودِهِ وَرُؤْيَتِهِ : بِحَيْثُ يَجِبُ بُغْضُهُ
وَكَرَاهَتُهُ وَالْعِلْمُ بِقُبْحِهِ يُوجِبُ جِهَادَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ إذَا وُجِدُوا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُنْكَرُ مَوْجُودًا لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ وَيُثَابُ مَنْ أَنْكَرَهُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَلَا يُثَابُ مَنْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ حَتَّى يُنْكِرَهُ وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْمُنْكَرَاتِ قَدْ يَعْرِضُ عَنْهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إعْرَاضَهُمْ عَنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَعَنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ فَلَيْسُوا مِنْ الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي إزَالَتِهَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . فَتَدَبَّرْ هَذَا فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ بُغْضُ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ وَبُغْضُ الْفُجُورِ وَأَهْلِهِ وَبُغْضُ نَهْيِهِمْ وَجِهَادِهِمْ كَمَا يُحِبُّ الْمَعْرُوفَ وَأَهْلَهُ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ وَلَا يُجَاهِدَ عَلَيْهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَقَوْلُهُ { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ
أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } الْآيَةُ . وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ كَرَاهَتُهُمْ لِلْجِهَادِ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ أَعْظَمُ مِنْ كَرَاهَتِهِمْ لِلْمُنْكَرَاتِ لَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَتْ الْمُنْكَرَاتُ وَقَوِيَتْ فِيهَا الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ فَرُبَّمَا مَالُوا إلَيْهَا تَارَةً وَعَنْهَا أُخْرَى فَتَكُونُ نَفْسُ أَحَدِهِمْ لَوَّامَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَمَّارَةً ثُمَّ إذَا ارْتَقَى إلَى الْحَالِ الْأَعْلَى فِي هَجْرِ السَّيِّئَاتِ وَصَارَتْ نَفْسُهُ مُطَمْئِنَةً تَارِكَةً لِلْمُنْكَرَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ لَا تُحِبُّ الْجِهَادَ وَمُصَابَرَةَ الْعَدُوِّ عَلَى ذَلِكَ وَاحْتِمَالَ مَا يُؤْذِيهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ : فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ آخَرُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } الْآيَاتُ إلَى قَوْلِهِ : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } وَالشَّفَاعَةُ الْإِعَانَةُ ؛ إذْ الْمُعِينُ قَدْ صَارَ شَفْعًا لِلْمُعَانِ فَكُلُّ مَنْ أَعَانَ عَلَى بِرٍّ أَوْ تَقْوَى كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهُ وَمَنْ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ كَانَ لَهُ كِفْلٌ مِنْهُ وَهَذَا حَالُ النَّاسِ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمِنْ ذَلِكَ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } إلَى قَوْلِهِ { إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } .
وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ : مِنْ الْإِيمَانِ وَآثَارِهِ وَالْكُفْرِ وَآثَارِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْبَرِّ وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَسْمَعُونَ أَخْبَارَ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَيَشْهَدُونَ رُؤْيَتَهُمْ عَلَى وَجْهِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُمْ وَلِأَخْبَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ كَرُؤْيَةِ الصَّحَابَةِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمْعِهِمْ لِمَا بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَالْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ يَسْمَعُ وَيَرَى عَلَى وَجْهِ الْبُغْضِ وَالْجَهْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ } وَقَالَ : { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } وَقَالَ : { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } وَقَالَ : { فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ : { وَالَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } وَقَالَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } وَالْآيَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا . وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى زِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِتْنَةٌ فَقَالَ تَعَالَى { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } وَفِي التَّوْبَةِ { فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ } الْآيَةُ وَقَالَ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الْآيَةُ وَقَالَ : { وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وَقَالَ : { أَفَلَا يَنْظُرُونَ
إلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } الْآيَاتُ . وَقَالَ : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَقَالَ : { أَفَلَمْ يَرَوْا إلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } الْآيَةُ وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ : { إنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ } وَقَالَ : { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ } الْآيَاتُ وَقَالَ : { إذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا } الْآيَةُ . فَالنَّظَرُ إلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا عَلَى وَجْهِ الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ لَهَا وَلِأَهْلِهَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَالنَّظَرُ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ عَلَى وَجْهِ التَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ مَأْمُورٌ بِهِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ . وَأَمَّا رُؤْيَةُ ذَلِكَ عِنْدَ الْجِهَادِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِدَفْعِ شَرِّ أُولَئِكَ وَإِزَالَتِهِ فَمَأْمُورٌ بِهِ وَكَذَلِكَ رُؤْيَةُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فِي الْجُمْلَةِ فَالْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ يُنْظَرُ إلَيْهَا نَظَرًا مَأْمُورًا بِهِ إمَّا لِلِاعْتِبَارِ وَإِمَّا لِبُغْضِ ذَلِكَ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ لِبُغْضِ الْجِهَادِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ ؛ وَقَدْ تَحْصُلُ لِلْعَبْدِ فِتْنَةٌ بِنَظَرِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ نَظَرُ عِبْرَةٍ وَقَدْ يُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ نَظَرُ فِتْنَةٍ كَاَلَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي } الْآيَةُ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ لَمَّا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَجَهَّزَ لِغَزْوِ الرُّومِ فَقَالَ : إنِّي مُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ وَأَخَافُ الْفِتْنَةَ بِنِسَاءِ الرُّومِ فَأْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ قَالَ تَعَالَى : { أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } .
فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا يَكُونُ بِاللِّسَانِ مِنْ الْقَوْلِ وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ الْفِعْلِ بِالْجَوَارِحِ فَكُلُّ عَمَلٍ يَتَضَمَّنُ مَحَبَّةَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا دَاخِلٌ فِي هَذَا ؛ بَلْ يَكُونُ عَذَابُهُ أَشَدُّ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ تَوَعَّدَ بِالْعَذَابِ عَلَى مُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ قَدْ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا قَوْلٌ وَلَا فِعْلٌ فَكَيْفَ إذَا اقْتَرَنَ بِهَا قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ ؟ بَلْ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ وَالْقَذْفِ بِهَا وَإِشَاعَتِهَا فِي الَّذِينَ آمَنُوا وَمَنْ رَضِيَ عَمَلَ قَوْمٍ حُشِرَ مَعَهُمْ كَمَا حُشِرَتْ امْرَأَةُ لُوطٍ مَعَهُمْ وَلَمْ تَكُنْ تَعْمَلُ فَاحِشَةَ اللِّوَاطِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقَعُ مِنْ الْمَرْأَةِ لَكِنَّهَا لَمَّا رَضِيَتْ فِعْلَهُمْ عَمَّهَا الْعَذَابُ مَعَهُمْ . فَمِنْ هَذَا الْبَابِ قِيلَ : مَنْ أَعَانَ عَلَى الْفَاحِشَةِ وَإِشَاعَتِهَا مِثْلُ الْقُوَّادِ الَّذِي يَقُودُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ إلَى الْفَاحِشَةِ لِأَجْلِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ رِيَاسَةٍ أَوْ سُحْتٍ يَأْكُلُهُ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ الَّتِي تُنْفِقُ بِذَلِكَ : مِثْلَ الْمُغَنِّينَ وشربة الْخَمْرِ وَضُمَّانِ الْجِهَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ دَفْعِ مَنْ يُنْكِرُهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ قَلِيلَةً خَفِيفَةً خَفِيَّةً وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَا يَدْعُو إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَيَنْهَى عَنْ طَاعَتِهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مُحَرَّمٌ بِخِلَافِ عَكْسِهِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } أَيْ أَنَّ مَا فِيهَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ : { وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ } أَيْ : يُوقِعُهُمْ ذَلِكَ فِي مَعْصِيَتِهِ الَّتِي هِيَ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي تَنْهَى عَنْهُ الصَّلَاةُ وَالْخَمْرُ تَدْعُو إلَى الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَإِنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ تَدْعُوهُ نَفْسُهُ إلَى الْجِمَاعِ حَلَالًا كَانَ أَوْ حَرَامًا فَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ الْجِمَاعَ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا تَدْعُو إلَى الْحَرَامِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْجِمَاعِ فَيَأْتِي شَارِبُ الْخَمْرِ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الْجِمَاعِ سَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا وَالسُّكْرُ يُزِيلُ الْعَقْلَ الَّذِي كَانَ يُمَيِّزُ السَّكْرَانُ بِهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ يَنْهَى عَنْ مُوَاقَعَةِ الْحَرَامِ ؛ وَلِهَذَا يُكْثِرُ شَارِبُ الْخَمْرِ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْفَوَاحِشِ مَا لَا يُكْثِرُ مِنْ غَيْرِهَا حَتَّى رُبَّمَا يَقَعُ عَلَى ابْنَتِهِ وَابْنِهِ وَمَحَارِمِهِ وَقَدْ يَسْتَغْنِي بِالْحَلَالِ إذَا أَمْكَنَهُ وَيَدْعُو شُرْبُ الْخَمْرِ إلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ : مِنْ سَرِقَةٍ وَمُحَارَبَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْخَمْرِ وَمَا يَسْتَتْبِعُهُ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ مِنْ فَوَاحِشَ وَغِنَاءٍ . وَشُرْبُ الْخَمْرِ يُظْهِرُ أَسْرَارَ الرِّجَالِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ شَارِبُهُ بِمَا فِي بَاطِنِهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إذَا أَرَادُوا اسْتِفْهَامَ مَا فِي قُلُوبِ الرِّجَالِ مِنْ الْأَسْرَارِ يَسْقُونَهُمْ الْخَمْرَ وَرُبَّمَا يَشْرَبُونَ مَعَهُمْ مَا لَا يَسْكَرُونَ بِهِ . وَأَيْضًا فَالْخَمْرُ تَصُدُّ الْإِنْسَانَ عَنْ عِلْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَمَصْلَحَتِهِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ وَجَمِيعِ أُمُورِهِ الَّتِي يُدَبِّرُهَا بِرَأْيِهِ وَعَقْلِهِ فَجَمِيعُ الْأُمُورِ الَّتِي تَصُدُّ
عَنْهَا الْخَمْرُ مِنْ الْمَصَالِحِ وَتُوقِعُهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ دَاخِلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ . } وَكَذَلِكَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ هِيَ مُنْتَهَى قَصْدِ الشَّيْطَانِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلِ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ إفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ } . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ تُوقِعُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَأَنَّ كُلَّ عَدَاوَةٍ أَوْ بَغْضَاءَ فَأَصْلُهَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَالشَّيْطَانُ يَأْمُرُ بِالْمَعْصِيَةِ لِيُوقِعَ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَلَا يَرْضَى بِغَايَةِ مَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَالْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ شَرٌّ مَحْضٌ لَا يُحِبُّهَا عَاقِلٌ ؛ بِخِلَافِ الْمَعَاصِي فَإِنَّ فِيهَا لَذَّةً كَالْخَمْرِ وَالْفَوَاحِشِ ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ تُرِيدُ ذَلِكَ وَالشَّيْطَانُ يَدْعُو إلَيْهَا النُّفُوسَ حَتَّى يُوقِعَهَا فِي شَرٍّ لَا تَهْوَاهُ وَلَا تُرِيدُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ مَا يُرِيدُهُ الشَّيْطَانُ بِالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ ثُمَّ قَالَ فِي سُورَةِ النُّورِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ }
وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } { إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فَنَهَى عَنْ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ - وَهُوَ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ بِالِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ - وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالسُّوءِ وَالْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَقَالَ فِيهَا : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا } فَالشَّيْطَانُ يَعِدُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالسُّوءِ وَاَللَّهُ يَعِدُ الْمَغْفِرَةَ وَالْفَضْلَ وَيَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } وَقَالَ عَنْ أُمَّتِهِ : { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } . وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ . فَتَارَةً يَخُصُّ اسْمَ الْمُنْكَرِ بِالنَّهْيِ وَتَارَةً يُقْرِنُهُ بِالْفَحْشَاءِ وَتَارَةً يُقْرِنُ مَعَهُمَا الْبَغْيَ وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ : تَارَةً يَخُصُّهُ بِالْأَمْرِ وَتَارَةً يُقْرِنُ بِهِ غَيْرَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ قَدْ يَكُونُ عُمُومُهَا وَخُصُوصُهَا بِحَسَبِ الْإِفْرَادِ وَالتَّرْكِيبِ : كَلَفْظِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا أُفْرِدَ كَانَ عَامًّا لِمَا يَدُلَّانِ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ ؛ بِخِلَافِ اقْتِرَانِهِمَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مَعْنَى كُلٍّ
مِنْهُمَا لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ بَلْ أَخَصُّ مِنْ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْإِفْرَادِ وَأَيْضًا فَقَدْ يُعْطَفُ عَلَى الِاسْمِ الْعَامِّ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّخْصِيصِ ثُمَّ قَدْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ الْمُخَصَّصَ يَكُونُ مَذْكُورًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَالْخَاصِّ . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا . فَاسْمُ " الْمُنْكَرِ " يَعُمُّ كُلَّ مَا كَرِهَهُ اللَّهُ وَنَهَى عَنْهُ وَهُوَ الْمُبْغَضُ وَاسْمُ " الْمَعْرُوفِ " يَعُمُّ كُلَّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ فَحَيْثُ أُفْرِدَا بِالذِّكْرِ فَإِنَّهُمَا يَعُمَّانِ كُلَّ مَحْبُوبٍ فِي الدِّينِ وَمَكْرُوهٍ وَإِذَا قُرِنَ الْمُنْكَرُ بِالْفَحْشَاءِ فَإِنَّ الْفَحْشَاءَ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالشَّهْوَةِ و " الْمُنْكَرُ " هُوَ الَّذِي تُنْكِرُهُ الْقُلُوبُ فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ مَا فِي الْفَاحِشَةِ مِنْ الْمَحَبَّةِ يُخْرِجُهَا عَنْ الدُّخُولِ فِي الْمُنْكَرِ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُنْكِرُهَا الْقُلُوبُ فَإِنَّهَا تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ و " الْمُنْكَرُ " قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ يَعُمُّ مَعْنَى الْفَحْشَاءِ وَقَدْ يُقَالُ : خُصَّتْ لِقُوَّةِ الْمُقْتَضِي لِمَا فِيهَا مِنْ الشَّهْوَةِ وَقَدْ يُقَالُ : قَصَدَ بِالْمُنْكَرِ مَا يُنْكَرُ مُطْلَقًا وَالْفَحْشَاءُ لِكَوْنِهَا تُشْتَهَى وَتُحَبُّ وَكَذَلِكَ " الْبَغْيُ " قُرِنَ بِهَا لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ مَحَبَّةِ النُّفُوسِ . وَلِهَذَا كَانَ جِنْسُ عَذَابِ صَاحِبِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ عَذَابِ صَاحِبِ الْفَحْشَاءِ وَمَنْشَؤُهُ مِنْ قُوَّةِ الْغَضَبِ كَمَا أَنَّ الْفَحْشَاءَ مَنْشَؤُهَا عَنْ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَلِكُلِّ مِنْ النُّفُوسِ لَذَّةٌ بِحُصُولِ مَطْلُوبِهَا فَالْفَوَاحِشُ وَالْبَغْيُ مَقْرُونَانِ بِالْمُنْكَرِ وَأَمَّا الْإِشْرَاكُ وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ
مَحْضٌ لَيْسَ فِي النُّفُوسِ مَيْلٌ إلَيْهِمَا ؛ بَلْ إنَّمَا يَكُونَانِ عَنْ عِنَادٍ وَظُلْمٍ فَهُمَا مُنْكَرٌ وَظُلْمٌ مَحْضٌ بِالْفِطْرَةِ . فَهَذِهِ الْخِصَالُ فَسَادٌ فِي الْقُوَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ سَوَاءٌ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَى الشَّيْطَانِ أَوْ إلَى مَنْ يَتَّبِعُ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّ مَنْ أَتَى الْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ أَمَرَهُ فَهُوَ مُتَّبِعُهُ مُطِيعُهُ عَابِدٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْآتِي هُوَ الْآمِرُ فَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ أَبْلَغُ مِنْ فِعْلِهِ فَمَنْ أَمَرَ بِهَا غَيْرَهُ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ . وَمِنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ اسْتِمَاعُ الْعَبْدِ مَزَامِيرَ الشَّيْطَانِ وَالْمُغَنِّي هُوَ مُؤَذِّنُهُ الَّذِي يَدْعُو إلَى طَاعَتِهِ فَإِنَّ الْغِنَاءَ رُقْيَةُ الزِّنَا وَكَذَلِكَ مِنْ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ { قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْفُجُورِ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَسْتَحِلُّ مُؤَاخَاةَ النِّسَاءِ والمردان وَإِحْضَارَهُمْ فِي سَمَاعِ الْغِنَاءِ وَدَعْوَى مَحَبَّةِ صُوَرِهِمْ لِلَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فُتِنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَصَارُوا ضَالِّينَ مُضِلِّينَ . ثُمَّ إنَّهُ سُبْحَانَهُ نَهَى الْمَظْلُومَ بِالْقَذْفِ أَنْ يَمْنَعَ مَا يَنْبَغِي لَهُ فِعْلُهُ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى ذَوِي قَرَابَتِهِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَهْلِ التَّوْبَةِ وَأَمَرَهُ بِالْعَفْوِ
وَالصَّفْحِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا وَلْيَغْفِرُوا وَلَا رَيْبَ أَنَّ صِلَةَ الْأَرْحَامِ وَاجِبَةٌ وَإِيتَاءَ الْمَسَاكِينِ وَاجِبٌ وَإِعَانَةَ الْمُهَاجِرِينَ وَاجِبٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ مَا يَجِبُ مِنْ الْإِحْسَانِ لِلْإِنْسَانِ بِمُجَرَّدِ ظُلْمِهِ وَإِسَاءَتِهِ فِي عِرْضِهِ كَمَا لَا يَمْنَعُ الرَّجُلُ مِيرَاثَهُ وَحَقَّهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَالْفَيْءِ بِمُجَرَّدِ ذَنْبٍ مِنْ الذُّنُوبِ وَقَدْ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِبَعْضِ الذُّنُوبِ . وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الصِّلَةِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا لِذَوِي الْأَرْحَامِ - الَّذِينَ لَا يَرِثُونَ بِفَرْضِ وَلَا تَعْصِيبٍ - فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ وَكَانَ أَحَدَ الْخَائِضِينَ فِي الْإِفْكِ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَكَانَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ بِنْتُ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ نَهَى عَنْ تَرْكِ إيتَائِهِمْ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْفِعْلِ كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا لِأَنَّ الْحَلِفَ عَلَى تَرْكِ الْجَائِزِ جَائِزٌ .
فَصْلٌ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَقَالَ فِيهَا{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } ،
{ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وَقَالَ فِيهَا : { لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } فَذَكَرَ عَدَدَ الشُّهَدَاءِ وَأَطْلَقَ صِفَتَهُمْ وَلَمْ يُقَيِّدْهُمْ بِكَوْنِهِمْ مِنَّا وَلَا مِمَّنْ نَرْضَى وَلَا مِنْ ذَوِي الْعَدْلِ كَمَا قَيَّدَ صِفَةَ الشُّهَدَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي مِثْلُ شَهَادَةِ أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَغَيْرِهِمْ هَلْ تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْ الْقَاذِفِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . " أَحَدُهُمَا " أَنَّهَا تَدْرَأُ الْحَدَّ عَنْ الْقَاذِفِ وَإِنْ لَمْ تُوجِبْ حَدَّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ كَشَهَادَةِ الزَّوْجِ عَلَى امْرَأَتِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْرَأُ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى امْرَأَتِهِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تَدْفَعُ الْعَذَابَ عَنْهَا بِشَهَادَتِهَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ وَلَوْ لَمْ تَشْهَدْ فَهَلْ تُحَدُّ أَوْ تُحْبَسُ حَتَّى تُقِرَّ أَوْ تُلَاعِنَ أَوْ يُخَلَّى سَبِيلُهَا ؟ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا حَدٌّ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْأَرْبَعُ شَهَادَاتٍ لِلْقَاذِفِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ وَلَوْ اعْتَرَفَ الْمَقْذُوفُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا دُرِئَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ وَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ عَنْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ غَيْرَ مُحْصَنٍ - مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالْفَاحِشَةِ - لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهُ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَمْ يُحَدَّ هُوَ حَدَّ الزِّنَا لِمُجَرَّدِ الِاسْتِفَاضَةِ ،
وَإِنْ كَانَ يُعَاقَبُ كُلٌّ مِنْهُمَا دُونَ الْحَدِّ وَقَدْ اُعْتُبِرَ نِصَابُ حَدِّ الزِّنَا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ . وَكَذَلِكَ تُعْتَبَرُ صِفَاتُهُمْ فَلَا يُقَامُ حَدُّ الزِّنَا عَلَى مُسْلِمٍ إلَّا بِشَهَادَةِ مُسْلِمِينَ لَكِنْ يُقَالُ : لَمْ يُقَيِّدْهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا عُدُولًا مَرْضِيِّينَ كَمَا قَيَّدَهُمْ فِي آيَةِ الدَّيْنِ بِقَوْلِهِ : { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } وَقَالَ فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ : { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَقَالَ فِي آيَةِ الرَّجْعَةِ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ نَحْمِلَ الشَّهَادَةَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا لِأَهْلِ الْعَدْلِ وَالرِّضَا وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُمْتَثِلُونَ مَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ بِقَوْلِهِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } الْآيَةُ . وَفِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ } وَقَوْلُهُ : { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ } فَهُمْ يَقُومُونَ بِالشَّهَادَةِ بِالْقِسْطِ لِلَّهِ فَيَحْصُلُ مَقْصُودُ الَّذِي اسْتَشْهَدَهُ . " الْوَجْهُ الثَّانِي " أَنَّ كَوْنَ شَهَادَتِهِمْ مَقْبُولَةً مَسْمُوعَةً لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ وَالرِّضَى . فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي الْقَبُولِ وَالْأَدَاءِ وَقَدْ نَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } الْآيَةُ لَكِنَّ هَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْفَاسِقَ الْوَاحِدَ يَجِبُ التَّبَيُّنُ فِي خَبَرِهِ ،
وَأَمَّا الْفَاسِقَانِ فَصَاعِدًا فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ تَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ عَدَدِ الشُّهُودِ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فِي مَوَاضِعَ وَعِنْدَ جُمْهُورِهِمْ قَدْ يُحْكَمُ بِلَا شُهُودٍ فِي مَوَاضِعَ عِنْدَ النُّكُولِ وَالرَّدِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُحْكَمُ بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ كَمَا مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ { قَضَى بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِشَاهِدِ وَيَمِينٍ } وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْتَبِرْ عِنْدَ الْأَدَاءِ هَذَا الْقَيْدَ : لَا فِي آيَةِ الزِّنَا وَلَا فِي آيَةِ الْقَذْفِ بَلْ قَالَ : { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَقَالَ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ عِنْدَ خَبَرِ الْفَاسِقِينَ فَإِنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ يُوجِبُ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا لَا يُوجِبُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ : إذَا اسْتَرَابَ الْحَاكِمُ فِي الشُّهُودِ فَرَّقَهُمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَكَانِ الشَّهَادَةِ وَزَمَانِهَا وَصِفَتِهَا وَتَحَمُّلِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَبَيَّنُ بِهِ اتِّفَاقُهُمْ وَاخْتِلَافُهُمْ . وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَذَفَةِ لَا تُقْبَلُ لَهُمْ شَهَادَةٌ أَبَدًا وَاحِدًا كَانُوا أَوْ عَدَدًا ؛ بَلْ لَفْظُ الْآيَةِ يَنْتَظِمُ الْعَدَدَ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ وَالْبَدَلِ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّفْسِيرِ وَكَانَ الَّذِينَ قَذَفُوا
عَائِشَةَ عَدَدًا وَلَمْ يَكُونُوا وَاحِدًا لَمَّا رَأَوْهَا قَدْ قَدِمَتْ صُحْبَةَ صَفْوَانِ بْنِ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِي بَعْدَ قُفُولِ الْعَسْكَرِ وَكَانَتْ قَدْ ذَهَبَتْ تَطْلُبُ قِلَادَةً لَهَا عَدِمَتْ فَرَفَعَ أَصْحَابُ الْهَوْدَجِ هَوْدَجَهَا مُعْتَقِدِينَ أَنَّهَا فِيهِ لِخِفَّتِهَا وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ فَلَمَّا رَجَعَتْ لَمْ تَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْجَيْشِ فَمَكَثَتْ مَكَانَهَا وَكَانَ صَفْوَانُ قَدْ تَخَلَّفَ وَرَاءَ الْجَيْشِ فَلَمَّا رَآهَا أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ عَنْهَا وَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى رَكِبَتْهَا ثُمَّ ذَهَبَ بِهَا إلَى الْعَسْكَرِ فَكَانَتْ خَلْوَتُهُ بِهَا لِلضَّرُورَةِ كَمَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِلَا مَحْرَمٍ لِلضَّرُورَةِ كَسَفَرِ الْهِجْرَةِ : مِثْلَ مَا قَدِمَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي معيط مُهَاجِرَةً وَقِصَّةِ عَائِشَةَ . وَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقَاذِفِينَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مُجْتَمِعِينَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ . وَدَلَّتْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ شَهَادَتَهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ مَقْبُولَةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ وَكَانَ مِنْهُمْ حمنة بِنْتُ جَحْشٍ وَغَيْرُهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ شَهَادَةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ تَابُوا لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِبَرَاءَتِهَا وَمَنْ لَمْ يَتُبْ حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ بِالْقُرْآنِ وَهَؤُلَاءِ مَا زَالُوا مُسْلِمِينَ وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ قَطْعِ صِلَتِهِمْ وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ كَمَا اسْتَفَاضَ رَدُّ عُمَرَ شَهَادَةِ أَبِي بَكْرَةَ وَقِصَّةُ عَائِشَةَ كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ قِصَّةِ الْمُغِيرَةِ ؛ لَكِنَّ مَنْ
رَدَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ قَدْ يَقُولُ : أَرُدُّ شَهَادَةَ مَنْ حُدَّ فِي الْقَذْفِ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُحَدُّوا وَالْأَوَّلُونَ يُجِيبُونَ بِأَجْوِبَةِ .
أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّ أُولَئِكَ . وَالثَّانِي أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالثَّالِثُ أَنَّ الَّذِينَ اعْتَبَرُوا الْحَدَّ اعْتَبَرُوهُ وَقَالُوا : قَدْ يَكُونُ الْقَاذِفُ صَادِقًا وَقَدْ يَكُونُ كَاذِبًا فَإِعْرَاضُ الْمَقْذُوفِ عَنْ طَلَبِ حَدِّ الْقَذْفِ قَدْ يَكُونُ لِصِدْقِ الْقَاذِفِ فَإِذَا طُلِبَ الْحَدُّ وَلَمْ يَأْتِ الْقَاذِفُ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ظَهَرَ كَذِبُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ ظُهُورِ كَذِبِ كُلِّ أَحَدٍ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي بَرَّأَهَا بِكَلَامِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ يُتْلَى فَإِذَا كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ بَعْدَ تَوْبَتِهِمْ مَقْبُولَةً فَشَهَادَةُ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ شَهِدَ عَلَى غَيْرِهَا بِالْقَذْفِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَقِصَّةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الَّتِي حَكَمَ فِيهَا بَيْن الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي شَأْنِ الْمُغِيرَةِ لَمَّا شَهِدَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا وَتَوَقَّفَ الرَّابِعُ عَنْ الشَّهَادَةِ فَجَلَدَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةَ وَرَدَّ شَهَادَتَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا كَمَا دَلَّتْ قِصَّةُ عَائِشَةَ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَالْجَلَدِ ؛ لِأَنَّ اثْنَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ تَابَا فَقَبِلَ عُمَرُ
وَالْمُسْلِمُونَ شَهَادَتَهُمَا وَالثَّالِثُ وَهُوَ أَبُو بَكْرَةَ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ أَفْضَلِهِمْ لَمْ يَتُبْ فَلَمَّا لَمْ يَتُبْ لَمْ يَقْبَلْ الْمُسْلِمُونَ شَهَادَتَهُ وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ تُبْ أَقْبَلْ شَهَادَتَك ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ الْقُرْآنُ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْقَذَفَةَ إنْ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ أَبَدًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } فَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } وَصْفُ ذَمٍّ لَهُمْ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ رَدِّ شَهَادَتِهِمْ .
وَأَمَّا تَفْسِيرُ " الْعَدَالَةِ " الْمَشْرُوطَةِ فِي هَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ : فَإِنَّهَا الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ وَالصَّلَاحُ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْكَبِيرَةِ وَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغِيرَةِ . و " الصَّلَاحُ فِي الْمُرُوءَةِ " اسْتِعْمَالُ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ وَاجْتِنَابُ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ فَإِذَا وُجِدَ هَذَا فِي شَخْصٍ كَانَ عَدْلًا فِي شَهَادَتِهِ وَكَانَ مِنْ الصَّالِحِينَ الْأَبْرَارِ . وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَشْهَدُ أَحَدٌ فِي وَصِيَّةٍ أَوْ رَجْعَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ حَتَّى يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ هَذَا صِفَةُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي أَكْمَلَ إيمَانَهُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَبَّاتِ لَمْ يُكْمِلْهَا وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . ثُمَّ إنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا قَدْ يُفَسِّرُونَ الْوَاجِبَاتِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا ؛ بَلْ قَدْ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ مَا لَا يُحْصِيهِ
إلَّا اللَّهُ تَعَالَى مِمَّا يَكُونُ تَرْكُهُ أَعْظَمَ إثْمًا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلُوهُ قَادِحًا فِي عَدَالَتِهِ ؛ إمَّا لِعَدَمِ اسْتِشْعَارِ كَثْرَةِ الْوَاجِبَاتِ وَإِمَّا لِالْتِفَاتِهِمْ إلَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ دُونَ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ وَبِالْجُمْلَةِ هَذَا مُعْتَبَرٌ فِي بَابِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : الْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِينَ الْعَدَالَةُ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ بَلْ الْأَصْلُ فِي بَنِي آدَمَ الظُّلْمُ وَالْجَهْلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } . وَمُجَرَّدُ التَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَا يُوجِبُ انْتِقَالَ الْإِنْسَانِ عَنْ الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ إلَى الْعَدْلِ . و ( بَابُ الشَّهَادَةِ مَدَارُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الشَّهِيدُ مَرْضِيًّا أَوْ يَكُونَ ذَا عَدْلٍ يَتَحَرَّى الْقِسْطَ وَالْعَدْلَ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَالصِّدْقَ فِي شَهَادَتِهِ وَخَبَرِهِ وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ هَذَا مَعَ الْإِخْلَالِ بِكَثِيرِ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ ؛ كَمَا أَنَّ الصِّفَاتِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا كَثِيرًا مَا تُوجَدُ بِدُونِ هَذَا كَمَا قَدْ رَأَيْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الصِّنْفَيْنِ كَثِيرًا ؛ لَكِنْ يُقَالُ : إنَّ ذَلِكَ مَظِنَّةُ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهَا وَعَلَامَةٌ لَهَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ : { عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ وَالْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ } الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ .
فَالصِّدْقُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْبِرِّ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْفُجُورِ فَإِذَا وُجِدَ الْمَلْزُومُ وَهُوَ تَحَرِّي الصِّدْقِ وُجِدَ اللَّازِمُ وَهُوَ الْبِرُّ وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ وَهُوَ الْبِرُّ انْتَفَى الْمَلْزُومُ وَهُوَ الصِّدْقُ وَإِذَا وُجِدَ الْكَذِبُ وَهُوَ الْمَلْزُومُ وُجِدَ الْفُجُورُ وَهُوَ اللَّازِمُ وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ وَهُوَ الْفُجُورُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ وَهُوَ الْكَذِبُ ؛ فَلِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِعَدَمِ بِرِّ الرَّجُلِ عَلَى كَذِبِهِ وَبِعَدَمِ فُجُورِهِ عَلَى صِدْقِهِ . فَالْعَدْلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ مَنْ انْتَفَى فُجُورُهُ وَهُوَ إتْيَانُ الْكَبِيرَةِ وَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ وَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ فِيهِ انْتَفَى كَذِبُهُ الَّذِي يَدْعُوهُ إلَى هَذَا الْفُجُورِ وَالْفَاسِقُ هُوَ مَنْ عَدِمَ بِرُّهُ وَإِذَا عَدِمَ بِرُّهُ عَدِمَ صِدْقُهُ وَدَلَالَةُ هَذَا الْحَدِيثِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْبِرِّ يَسْتَلْزِمُ الْبِرَّ وَالدَّاعِيَ إلَى الْفُجُورِ يَسْتَلْزِمُ الْفُجُورَ . فَالْخَطَأُ كَالنِّسْيَانِ وَالْعَمْدُ كَالْكَذِبِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } - فِي طَرْدِهِ الْكَلَامَ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا فَقَالَ - وَأَمَّا الْجَوَابُ الْمُفَصَّلُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ . " أَحَدُهَا " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً فِي قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَرَوَى هَشِيمٌ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حوشب ثَنَا شَيْخٌ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ قَالَ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ " سُورَةَ النُّورِ " فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ قَالَ : هَذِهِ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً وَهِيَ مُبْهَمَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَوْبَةٌ وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ تَوْبَةً ثُمَّ قَرَأَ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلَى قَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } فَجَعَلَ لِهَؤُلَاءِ تَوْبَةً وَلَمْ يَجْعَلْ لِأُولَئِكَ تَوْبَةً قَالَ : فَهَمَّ رَجُلٌ أَنْ يَقُومَ فَيُقَبِّلَ رَأْسَهُ مِنْ حُسْنِ مَا فَسَّرَهُ .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِرَاشٍ عَنْ الْعَوَّامِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ } نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ خَاصَّةً وَاللَّعْنَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةٌ فَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ يَقْذِفُ عَائِشَةَ وَأُمَّهَاتَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ لِمَا فِي قَذْفِهِنَّ مِنْ الطَّعْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَيْبِهِ فَإِنَّ قَذْفَ الْمَرْأَةِ أَذًى لِزَوْجِهَا كَمَا هُوَ أَذًى لِابْنِهَا لِأَنَّهُ نِسْبَةٌ لَهُ إلَى الدِّيَاثَةِ وَإِظْهَارٌ لِفَسَادِ فِرَاشِهِ ؛ فَإِنَّ زِنَا امْرَأَتِهِ يُؤْذِيهِ أَذًى عَظِيمًا وَلِهَذَا جَوَّزَ لَهُ الشَّارِعُ أَنْ يَقْذِفَهَا إذَا زَنَتْ وَدَرَأَ الْحَدَّ عَنْهُ بِاللِّعَانِ وَلَمْ يُبِحْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْذِفَ امْرَأَةً بِحَالِ وَلَعَلَّ مَا يَلْحَقُ بَعْضَ النَّاسِ مِنْ الْعَارِ وَالْخِزْيِ بِقُذُفِ أَهْلِهِ أَعْظَمُ مِمَّا يَلْحَقُهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَقْذُوفُ .
وَلِهَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الْمَنْصُوصَتَيْنِ عَنْهُ إلَى أَنَّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً مُحْصَنَةً كَالْأَمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ وَلَدٌ مُحْصَنٌ حُدَّ لِقَذْفِهَا لِمَا أَلْحَقُهُ مِنْ الْعَارِ بِوَلَدِهَا وَزَوْجِهَا الْمُحْصَنَيْنِ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُ وَهِيَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَذًى لَهُمَا لَا قَذْفٌ لَهُمَا وَالْحَدُّ التَّامُّ إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ وَفِي جَانِبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذًى كَقَذْفِهِ وَمَنْ يَقْصِدُ عَيْبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْبِ أَزْوَاجِهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ اللَّعْنَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ عَامَّةٌ . وَقَدْ وَافَقَ ابْنَ عَبَّاسٍ جَمَاعَةٌ فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد وَالْأَشَجُّ عَنْ خَصِيفٍ
قَالَ سَأَلْت سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقُلْت : الزِّنَا أَشَدُّ أَوْ قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ؟ قَالَ : لَا ؛ بَلْ الزِّنَا قَالَ : قُلْت : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } فَقَالَ : إنَّمَا كَانَ هَذَا فِي عَائِشَةَ خَاصَّةً وَرَوَى أَحْمَد بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } فَقَالَ : هَذِهِ الْآيَةُ لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً وَرَوَى الْأَشَجُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ : هُنَّ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الْكَلْبِيِّ : إنَّمَا عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا مَنْ رَمَى امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فَاسِقٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ يَتُوبُ . وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا تُسْتَوْجَبُ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ فَتَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ : { الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ وَالْمَعْهُودُ هُنَا أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ وَوُقُوعِ مَنْ وَقَعَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ أَوْ يُقْصَرُ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَلَى سَبَبِهِ لِلدَّلِيلِ الَّذِي يُوجِبُ ذَلِكَ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ رَتَّبَ هَذَا الْوَعِيدَ عَلَى قَذْفِ مُحْصَنَاتٍ غَافِلَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ وَقَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } الْآيَةُ . فَرَتَّبَ الْحَدَّ وَرَدَّ الشَّهَادَةَ وَالْفِسْقَ عَلَى مُجَرَّدِ قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ
الْمُحْصَنَاتُ الْغَافِلَاتُ الْمُؤْمِنَاتُ لَهُنَّ مَزِيَّةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الْمُحْصَنَاتِ ؛ وَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْهُودٌ لَهُنَّ بِالْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّهُنَّ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ وَهُنَّ أَزْوَاجُ نَبِيِّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَعَوَامُّ الْمُسْلِمَاتِ إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْهُنَّ فِي الْغَالِبِ ظَاهِرُ الْإِيمَانِ . وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ : { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فَتَخْصِيصُهُ مُتَوَلِّي كِبَرَهُ دُونَ غَيْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ وَقَالَ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فَعُلِمَ أَنَّ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ لَا يَمَسُّ كُلَّ مَنْ قَذَفَ وَإِنَّمَا يَمَسُّ مُتَوَلِّي كِبَرَهُ فَقَطْ وَقَالَ هُنَا : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي رَمَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ يَعِيبُ بِذَلِكَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَلَّى كِبَرَ الْإِفْكِ وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِ ابْنُ أبي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةً أَيْضًا مُوَافِقَةً لِتِلْكَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ رَمْيُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَذًى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُعِنَ صَاحِبُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَيْسَ فِيهَا تَوْبَةٌ ؛ لِأَنَّ مُؤْذِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَوْ يُرِيدُ إذَا تَابَ مِنْ الْقَذْفِ حَتَّى يُسْلِمَ إسْلَامًا جَدِيدًا وَعَلَى هَذَا فَرَمْيُهُنَّ نِفَاقٌ مُبِيحٌ لِلدَّمِ إذَا قُصِدَ بِهِ أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَذْفَهُنَّ أَذًى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي ابْنِ سلول قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاَللَّهِ مَا عَلِمْت عَلَى أَهْلِي إلَّا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْت عَلَيْهِ إلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إلَّا مَعِي فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ : أَنَا أَعْذُرُك مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَك فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عبادة - وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ - فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ : لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلَنَّهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فَقَامَ أسيد بْنُ حضير وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عبادة : كَذَبْت لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ قَالَتْ فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْفِضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى صَحِيحَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً . وَيَقُولُ آخَرُونَ يَعْنِي أَزْوَاجَ الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : قَذْفُ
الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْمُوجِبَاتِ ثُمَّ قَرَأَ : { إنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةُ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ : قَذْفُ الْمُحْصَنَةِ يُحْبِطُ عَمَلَ تِسْعِينَ سَنَةٍ رَوَاهُمَا الْأَشَجُّ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ . وَوَجْهُهُ ظَاهِرُ الْخِطَابِ فَإِنَّهُ عَامٌّ فَيَجِبُ إجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ ؛ إذْ لَا مُوجِبَ لِخُصُوصِهِ وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِنَفْسِ السَّبَبِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ حُكْمَ غَيْرِ عَائِشَةَ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ السَّبَبِ وَلِأَنَّهُ لَفْظُ جَمْعٍ وَالسَّبَبُ فِي وَاحِدَةٍ هُنَا ؛ وَلِأَنَّ قَصْرَ عمومات الْقُرْآنِ عَلَى أَسْبَابِ نُزُولِهَا بَاطِلٌ فَإِنَّ عَامَّةَ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِأَسْبَابِ اقْتَضَتْ ذَلِكَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يُقْصَرْ عَلَى سَبَبِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ : أَنَّهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ذَكَرَ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةَ عَلَى أَيْدِي الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْجَلْدِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَالتَّفْسِيقِ وَهُنَا ذَكَرَ الْعُقُوبَةَ الْوَاقِعَةَ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَهِيَ اللَّعْنَةُ فِي الدَّارَيْنِ وَالْعَذَابُ الْعَظِيمُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَعَنْ أَصْحَابِهِ : { أَنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْكَبَائِرِ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ : { قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ . } تَمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثمالي : بَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ إذْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا خَرَجَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ
مُهَاجِرَةً قَذَفَهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَقَالُوا : إنَّمَا خَرَجَتْ تَفْجُرُ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِيمَنْ قَذَفَ الْمُؤْمِنَاتِ قَذْفًا يَصُدُّهُنَّ بِهِ عَنْ الْإِيمَانِ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ ذَمَّ الْمُؤْمِنِينَ لِيُنَفِّرَ النَّاسَ عَنْ الْإِسْلَامِ كَمَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَعَلَى هَذَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَوْلُهُ : إنَّهَا نَزَلَتْ زَمَنَ الْعَهْدِ يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ عَنَى بِهَا مِثْلَ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَاهِدِينَ وَإِلَّا فَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ لَيَالِيَ الْإِفْكِ وَكَانَ الْإِفْكُ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَبْلَ الْخَنْدَقِ وَالْهُدْنَةُ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِنِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهَا عَلَى ظَاهِرِهَا وَعُمُومِهَا لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قَذْفُ عَائِشَةَ وَكَانَ فِيمَنْ قَذَفَهَا مُؤْمِنٌ وَمُنَافِقٌ وَسَبَبُ النُّزُولِ لَا بُدَّ أَنْ يَنْدَرِجَ فِي الْعُمُومِ وَلِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِتَخْصِيصِهَا . وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ هُنَا : { لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ وَلَمْ يُسَمِّ اللَّاعِنَ وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَإِذَا لَمْ يُسَمَّ الْفَاعِلُ جَازَ أَنْ يَلْعَنَهُمْ غَيْرُ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ وَجَازَ أَنْ يَلْعَنَهُمْ اللَّهُ فِي وَقْتٍ وَيَلْعَنَهُمْ بَعْضُ خَلْقِهِ فِي وَقْتٍ وَجَازَ أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّى لَعْنَةَ بَعْضِهِمْ وَهُوَ مَنْ كَانَ قَذْفُهُ طَعْنًا فِي الدِّينِ وَيَتَوَلَّى خَلْقُهُ لَعْنَةَ الْآخَرِينَ وَإِذَا كَانَ اللَّاعِنُ مَخْلُوقًا فَلَعْنُهُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى
الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يُبْعِدُونَهُمْ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ . وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ تَلَاعَنَا وَقَالَ الزَّوْجُ فِي الْخَامِسَةِ : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فَهُوَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ إنْ كَانَ كَاذِبًا فِي الْقَذْفِ أَنْ يَلْعَنَهُ اللَّهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولُهُ أَنْ يُبَاهِلَ مَنْ حَاجَّهُ فِي الْمَسِيحِ بَعْدَ مَا جَاءَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِأَنْ يَبْتَهِلُوا فَيَجْعَلُوا لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ فَهَذَا مِمَّا يُلْعَنُ بِهِ الْقَاذِفُ وَمِمَّا يُلْعَنُ بِهِ أَنْ يُجْلَدَ وَأَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ وَيُفَسَّقَ فَإِنَّهُ عُقُوبَةٌ لَهُ وَإِقْصَاءٌ لَهُ عَنْ مَوَاطِنِ الْأَمْنِ وَالْقَبُولِ وَهِيَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَعَنَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ لَهُ تُوجِبُ زَوَالَ النَّصْرِ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبُعْدَهُ عَنْ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ فِي الدَّارَيْنِ . وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْفَرْقَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } وَلَمْ يَجِئْ إعْدَادُ الْعَذَابِ الْمُهِينِ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ كَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } وَقَوْلِهِ : { وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } وَقَوْلِهِ : { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } { إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا
شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } { وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ } { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ . } وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } فَهِيَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - فِيمَنْ جَحَدَ الْفَرَائِضَ وَاسْتَخَفَّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْعَذَابَ أُعِدَّ لَهُ . وَأَمَّا الْعَذَابُ الْعَظِيمُ فَقَدْ جَاءَ وَعِيدًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَفِي الْمُحَارِبِ { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَفِي الْقَاتِلِ { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ } وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِهَانَةَ إذْلَالٌ وَتَحْقِيرٌ وَخِزْيٌ وَذَلِكَ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى أَلَمِ الْعَذَابِ فَقَدْ يُعَذَّبُ الرَّجُلُ الْكَرِيمُ وَلَا يُهَانُ فَلَمَّا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ الَّذِي تَوَعَّدَ بِهِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَلَمَّا قَالَ هُنَاكَ : { وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ } جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ : { لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . } وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ أَيْضًا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ هُنَاكَ : { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } وَالْعَذَابُ إنَّمَا أُعِدَّ لِلْكَافِرِينَ ؛ فَإِنَّ جَهَنَّمَ لَهُمْ خُلِقَتْ لِأَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلُوهَا وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلُوهَا إذَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُمْ وَإِذَا دَخَلُوهَا فَإِنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ قَالَ سُبْحَانَهُ { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فَأَمَرَ سُبْحَانَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يَأْكُلُوا الرِّبَا وَأَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ وَأَنْ يَتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يُخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ دُخُولِ النَّارِ إذَا أَكَلُوا الرِّبَا وَفَعَلُوا الْمَعَاصِيَ مَعَ أَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلْكَافِرِينَ لَا لَهُمْ . وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلَا يَحْيَوْنَ وَأَمَّا أَقْوَامٌ لَهُمْ ذُنُوبٌ فَيُصِيبُهُمْ سَفْعٌ مِنْ النَّارِ ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ اللَّهُ مِنْهَا . } وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَدْخُلُهَا الْأَبْنَاءُ بِعَمَلِ آبَائِهِمْ وَيَدْخُلُهَا قَوْمٌ بِالشَّفَاعَةِ وَقَوْمٌ بِالرَّحْمَةِ وَيُنْشِئُ اللَّهُ لِمَا فَضَلَ مِنْهَا خَلْقًا آخَرَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَيُدْخِلُهُمْ إيَّاهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُعَدُّ لِمَنْ يَسْتَوْجِبُهُ وَيَسْتَحِقُّهُ وَلِمَنْ هُوَ أَوْلَى النَّاسِ بِهِ ثُمَّ قَدْ يَدْخُلُ مَعَهُ غَيْرُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِ أَوْ لِسَبَبِ آخَرَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } إلَى قَوْلِهِ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ } . وَالنَّظَرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ نَظَرُ الْعَوْرَاتِ وَنَظَرُ الشَّهَوَاتِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْعَوْرَاتِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الِاسْتِئْذَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ . ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحَدَهُمَا وَفِي الْآيَتَيْنِ فِي آخِرِ السُّورَةِ النَّوْعَ الثَّانِيَ وَهُوَ اسْتِئْذَانُ الصِّغَارِ وَالْمَمَالِيكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } فَأَمَرَ بِاسْتِئْذَانِ الصِّغَارِ وَالْمَمَالِيكِ حِينَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ النَّوْمِ وَحِينَ إرَادَةِ النَّوْمِ ،
وَحِينَ الْقَائِلَةِ ؛ فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ تَبْدُو الْعَوْرَاتُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ } . وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ الْمُمَيِّزَ وَالْمُمَيِّزَ مِنْ الصِّبْيَانِ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ كَمَا لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَمْلُوكِ وَغَيْرِهِمَا . وَأَمَّا دُخُولُ هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } . وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّوَّافِينَ يُرَخَّصُ فِيهِمْ مَا لَا يُرَخَّصُ فِي غَيْرِ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ وَالطَّوَّافُ مَنْ يَدْخُلُ بِغَيْرِ إذْنٍ كَمَا تَدْخُلُ الْهِرَّةُ وَكَمَا يَدْخُلُ الصَّبِيُّ وَالْمَمْلُوكُ وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ أَوْلَى . وَيُرَخَّصُ فِي طَهَارَتِهِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ فِي الصِّبْيَانِ وَالْهِرَّةِ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُمْ إنْ أَصَابَتْهُمْ نَجَاسَةٌ أَنَّهَا تَطْهُرُ بِمُرُورِ الرِّيقِ عَلَيْهَا وَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الطَّوَّافِينَ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ فِي الْهِرَّةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا تَأْكُلُ الْفَأْرَةَ وَلَمْ تَكُنْ بِالْمَدِينَةِ مِيَاهٌ تَرِدُهَا السَّنَانِيرُ لِيُقَالَ طَهُرَ فَمُهَا بِوُرُودِهَا الْمَاءَ فَعُلِمَ أَنَّ طَهَارَةَ هَذِهِ الْأَفْوَاهِ لَا تَحْتَاجُ إلَى غَسْلٍ فَالِاسْتِئْذَانُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ قَبْلَ دُخُولِ
الْبَيْتِ مُطْلَقًا وَالتَّفْرِيقُ فِي آخِرِهَا لِأَجْلِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ وَالصَّغِيرَ طَوَّافٌ يَحْتَاجُ إلَى دُخُولِ الْبَيْتِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَشَقَّ اسْتِئْذَانُهُ بِخِلَافِ الْمُحْتَلِمِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } الْآيَةُ إلَى قَوْلِهِ : { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ بِالْغَضِّ مِنْ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ كَمَا أَمَرَهُمْ جَمِيعًا بِالتَّوْبَةِ وَأَمَرَ النِّسَاءَ خُصُوصًا بِالِاسْتِتَارِ وَأَنْ لَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ وَمَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ فَمَا ظَهَرَ مِنْ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ الظَّاهِرَةُ فَهَذَا لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا فِي إبْدَائِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَحْذُورٌ آخَرُ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ لَا بُدَّ مِنْ إبْدَائِهَا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَد . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ مِنْ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ . وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ النِّسَاءَ بِإِرْخَاءِ الْجَلَابِيبِ لِئَلَّا يُعْرَفْنَ وَلَا يُؤْذَيْنَ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ ذَكَرَ عُبَيْدَةُ السلماني وَغَيْرُهُ : أَنَّ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ كُنَّ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ الْجَلَابِيبَ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى لَا يَظْهَرَ إلَّا عُيُونُهُنَّ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ الطَّرِيقِ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُحْرِمَةَ تُنْهَى عَنْ الِانْتِقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ } وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّقَابَ
وَالْقُفَّازَيْنِ كَانَا مَعْرُوفَيْنِ فِي النِّسَاءِ اللَّاتِي لَمْ يُحْرِمْنَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي سَتْرَ وُجُوهِهِنَّ وَأَيْدِيهِنَّ . وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ بِالسَّمْعِ أَوْ غَيْرِهِ فَقَالَ : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } وَقَالَ : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } فَلَمَّا نَزَلَ ذَلِكَ عَمَدَ نِسَاءُ الْمُؤْمِنِينَ إلَى خُمُرِهِنَّ فَشَقَقْنَهُنَّ وَأَرْخَيْنَهَا عَلَى أَعْنَاقِهِنَّ . و " الْجَيْبُ " هُوَ شِقٌّ فِي طُولِ الْقَمِيصِ . فَإِذَا ضَرَبَتْ الْمَرْأَةُ بِالْخِمَارِ عَلَى الْجَيْبِ سَتَرَتْ عُنُقَهَا . وَأُمِرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُرْخِيَ مِنْ جِلْبَابِهَا وَالْإِرْخَاءُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْبَيْتِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي الْبَيْتِ فَلَا تُؤْمَرُ بِذَلِكَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ بِصَفِيَّةَ قَالَ أَصْحَابُهُ : إنْ أَرْخَى عَلَيْهَا الْحِجَابَ فَهِيَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ لَمْ يَضْرِبْ عَلَيْهَا الْحِجَابَ فَهِيَ مِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَضَرَبَ عَلَيْهَا الْحِجَابَ } وَإِنَّمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ عَلَى النِّسَاءِ لِئَلَّا تُرَى وُجُوهُهُنَّ وَأَيْدِيهِنَّ . وَالْحِجَابُ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا كَانَتْ سُنَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ أَنَّ الْحُرَّةَ تَحْتَجِبُ وَالْأَمَةُ تَبْرُزُ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى أَمَةً مُخْتَمِرَةً ضَرَبَهَا وَقَالَ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ أَيْ لُكَاعُ فَيَظْهَرُ مِنْ الْأَمَةِ رَأْسُهَا وَيَدَاهَا وَوَجْهُهَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } . فَرَخَّصَ لِلْعَجُوزِ الَّتِي لَا تَطْمَعُ فِي النِّكَاحِ أَنْ تَضَعَ ثِيَابَهَا فَلَا تُلْقِي عَلَيْهَا جِلْبَابَهَا وَلَا تَحْتَجِبُ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْحَرَائِرِ لِزَوَالِ الْمَفْسَدَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي غَيْرِهَا كَمَا اسْتَثْنَى التَّابِعِينَ غَيْرَ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ فِي إظْهَارِ الزِّينَةِ لَهُمْ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ الَّتِي تَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْفِتْنَةُ وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا كَانَ يُخَافُ بِهَا الْفِتْنَةُ كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تُرْخِيَ مِنْ جِلْبَابِهَا وَتَحْتَجِبَ وَوَجَبَ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهَا وَمِنْهَا . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إبَاحَةُ النَّظَرِ إلَى عَامَّةِ الْإِمَاءِ وَلَا تَرْكُ احْتِجَابِهِنَّ وَإِبْدَاءُ زِينَتِهِنَّ وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَأْمُرْهُنَّ بِمَا أَمَرَ الْحَرَائِرَ وَالسُّنَّةُ فَرَّقَتْ بِالْفِعْلِ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْحَرَائِرِ وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ الْحَرَائِرِ بِلَفْظِ عَامٍّ بَلْ كَانَتْ عَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْهُمْ الْحَرَائِرُ دُونَ الْإِمَاءِ وَاسْتَثْنَى الْقُرْآنُ مِنْ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ الْقَوَاعِدَ فَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِنَّ احْتِجَابًا وَاسْتَثْنَى بَعْضَ الرِّجَالِ وَهُمْ غَيْرُ أُولِي الْإِرْبَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ لَهُمْ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَأَنْ يُسْتَثْنَى بَعْضُ الْإِمَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى وَهُنَّ مَنْ كَانَتْ الشَّهْوَةُ وَالْفِتْنَةُ حَاصِلَةً بِتَرْكِ احْتِجَابِهَا وَإِبْدَاءِ زِينَتِهَا . وَكَمَا أَنَّ الْمَحَارِمَ أَبْنَاءُ أَزْوَاجِهِنَّ وَنَحْوُهُ مِمَّنْ فِيهِ شَهْوَةٌ وَشَغَفٌ لَمْ يَجُزْ
إبْدَاءُ الزِّينَةِ الْخَفِيَّةِ لَهُ فَالْخِطَابُ خَرَجَ عَامًّا عَلَى الْعَادَةِ فَمَا خَرَجَ عَنْ الْعَادَةِ خَرَجَ بِهِ عَنْ نَظَائِرِهِ فَإِذَا كَانَ فِي ظُهُورِ الْأَمَةِ وَالنَّظَرِ إلَيْهَا فِتْنَةٌ وَجَبَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَهَكَذَا الرَّجُلُ مَعَ الرِّجَالِ وَالْمَرْأَةُ مَعَ النِّسَاءِ : لَوْ كَانَ فِي الْمَرْأَةِ فِتْنَةٌ لِلنِّسَاءِ وَفِي الرَّجُلِ فِتْنَةٌ لِلرِّجَالِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْغَضِّ لِلنَّاظِرِ مِنْ بَصَرِهِ مُتَوَجِّهًا كَمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْأَمْرُ بِحِفْظِ فَرْجِهِ فَالْإِمَاءُ وَالصِّبْيَانُ إذَا كُنَّ حِسَانًا تختشى الْفِتْنَةُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِمْ كَانَ حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ
قَالَ المروذي قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ - الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلَى الْمَمْلُوكِ قَالَ : إذَا خَافَ الْفِتْنَةَ لَمْ يُنْظَرْ إلَيْهِ كَمْ نَظْرَةٍ أَلْقَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا الْبَلَاءَ : وَقَالَ المروذي : قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : رَجُلٌ تَابَ وَقَالَ : لَوْ ضُرِبَ ظَهْرِي بِالسِّيَاطِ مَا دَخَلْت فِي مَعْصِيَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَدَعُ النَّظَرَ فَقَالَ : أَيُّ تَوْبَةٍ هَذِهِ { قَالَ جَرِيرٌ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ : اصْرِفْ بَصَرَك } . وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : حَدَّثَنِي أَبِي وَسُوِيدُ قَالَا : حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ هُرَاسَةَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ ذكوان قَالَ : لَا تُجَالِسُوا أَوْلَادَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا كَصُوَرِ النِّسَاءِ وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنْ الْعَذَارَى . وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ وَالْقِيَاسُ وَالتَّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى وَكَانَ يُقَالُ :
لَا يَبِيتُ الرَّجُلُ فِي بَيْتٍ مَعَ الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي سَهْلٍ الصعلوكي : قَالَ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يُقَالُ لَهُمْ اللُّوطِيُّونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ . صِنْفٌ يَنْظُرُونَ وَصِنْفٌ يُصَافِحُونَ وَصِنْفٌ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ الْعَمَلَ . وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي : كَانُوا يَكْرَهُونَ مُجَالَسَةَ الْأَغْنِيَاءِ وَأَبْنَاءِ الْمُلُوكِ وَقَالَ : مُجَالَسَتُهُمْ فِتْنَةٌ إنَّمَا هُمْ بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ . وَوَقَفَتْ جَارِيَةٌ لَمْ يُرَ أَحْسَنُ وَجْهًا مِنْهَا عَلَى بِشْرٍ الْحَافِي فَسَأَلَتْهُ عَنْ بَابِ حَرْبٍ فَدَلَّهَا ثُمَّ وَقَفَ عَلَيْهِ غُلَامٌ حَسَنُ الْوَجْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ بَابِ حَرْبٍ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ الْغُلَامُ السُّؤَالَ فَغَمَّضَ عَيْنَيْهِ فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا نَصْرٍ جَاءَتْك جَارِيَةٌ فَسَأَلَتْك فَأَجَبْتهَا وَجَاءَك هَذَا الْغُلَامُ فَسَأَلَك فَلَمْ تُكَلِّمْهُ فَقَالَ : نَعَمْ . يُرْوَى عَنْ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَعَ الْجَارِيَةِ شَيْطَانٌ وَمَعَ الْغُلَامِ شَيْطَانَانِ فَخَشِيت عَلَى نَفْسِي شَيْطَانَيْهِ . وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ الْقَزْوِينِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ بِشْرٍ أَنَّهُ قَالَ : احْذَرُوا هَؤُلَاءِ الْأَحْدَاثَ وَقَالَ فَتْحٌ الْمُوصِلِيُّ : صَحِبْت ثَلَاثِينَ شَيْخًا كَانُوا يُعَدُّونَ مِنْ الْأَبْدَالِ كُلُّهُمْ أَوْصَانِي عِنْدَ مُفَارَقَتِي لَهُ : اتَّقِ صُحْبَةَ الْأَحْدَاثِ : اتَّقِ مُعَاشَرَةَ الْأَحْدَاثِ . وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَا يَدَعُ أَمْرَدَ يُجَالِسُهُ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمُرْدِ مَجْلِسَهُ لِلسَّمَاعِ فَاحْتَالَ هِشَامٌ فَدَخَلَ فِي غِمَارِ النَّاسِ مُسْتَتِرًا بِهِمْ وَهُوَ أَمَرَدُ فَسَمِعَ مِنْهُ سِتَّةَ عَشَرَ حَدِيثًا فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ مَالِكٌ فَضَرَبَهُ سِتَّةَ عَشَرً سَوْطًا فَقَالَ هِشَامٌ : لَيْتَنِي سَمِعْت
مِائَةَ حَدِيثٍ وَضَرَبَنِي مِائَةَ سَوْطٍ وَكَانَ يَقُولُ : هَذَا عِلْمٌ إنَّمَا أَخَذْنَاهُ عَنْ ذَوِي اللِّحَى وَالشُّيُوخِ فَلَا يَحْمِلُهُ عَنَّا إلَّا أَمْثَالُهُمْ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : مَا طَمِعَ أَمْرَدُ أَنْ يَصْحَبَنِي وَلَا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ فِي طَرِيقٍ . وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الروذباري : قَالَ لِي أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ الْمُؤَدَّبِ : يَا أَبَا عَلِيٍّ مِنْ أَيْنَ أَخَذَ صُوفِيَّةُ عَصْرِنَا هَذَا الْأُنْسَ بِالْأَحْدَاثِ وَقَدْ تَصْحَبُهُمْ السَّلَامَةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ ؟ فَقَالَ : هَيْهَاتَ قَدْ رَأَيْنَا مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُمْ إيمَانًا إذَا رَأَى الْحَدَثَ قَدْ أَقْبَلَ فَرَّ مِنْهُ كَفِرَارِهِ مِنْ الْأَسَدِ وَإِنَّمَا ذَاكَ عَلَى حَسَبِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي تَغْلِبُ الْأَحْوَالُ عَلَى أَهْلِهَا فَيَأْخُذُهَا تَصَرُّفُ الطِّبَاعِ مَا أَكْثَرَ الْخَطَأِ مَا أَكْثَرَ الْغَلَطِ قَالَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ جَاءَ رَجُلٌ إلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مَعَهُ غُلَامٌ أَمْرَدُ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ لَهُ : مَنْ هَذَا الْفَتَى فَقَالَ الرَّجُلُ : ابْنِي فَقَالَ لَا تَجِئْ بِهِ مَعَك مَرَّةً أُخْرَى فَلَامَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَحْمَد : عَلَى هَذَا رَأَيْنَا أَشْيَاخَنَا وَبِهِ أَخْبَرُونَا عَنْ أَسْلَافِهِمْ . وَجَاءَ حَسَنُ بْنُ الرَّازِي إلَى أَحْمَد وَمَعَهُ غُلَامٌ حَسَنُ الْوَجْهِ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةً فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ قَالَ لَهُ أَحْمَد : يَا أَبَا عَلِيٍّ لَا تَمْشِ مَعَ هَذَا الْغُلَامِ فِي طَرِيقٍ فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّهُ ابْنُ أُخْتِي قَالَ : وَإِنْ كَانَ : لَا يَأْثَمُ النَّاسُ فِيك وَرَوَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يُلِحُّ بِالنَّظَرِ إلَى الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ فَاتَّهِمُوهُ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مُسْنَدَةٌ ضَعِيفَةٌ وَحَدِيثٌ مُرْسَلٌ أَجْوَدُ مِنْهَا وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ . ثَنَا عُمَرُ بْنُ شَاهِينَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمُقْرِي . ثَنَا أَحْمَد بْنُ حَمَّادٍ المصيصي ثَنَا عَبَّاسُ بْنُ مُجَوِّزٍ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : { قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ غُلَامٌ أَمْرَدُ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ فَأَجْلَسَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَقَالَ كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُد فِي النَّظَرِ } هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ . وَأَمَّا الْمُسْنَدَةُ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ نَظَرَ إلَى غُلَامٍ أَمْرَدَ بِرِيبَةِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ أَرْبَعِينَ عَامًا } وَرَوَى الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُجَالِسُوا أَبْنَاءَ الْمُلُوكِ ؛ فَإِنَّ الْأَنْفُسَ تَشْتَاقُ إلَيْهِمْ مَا لَا تَشْتَاقُ إلَى الْجَوَارِي الْعَوَاتِقِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ .
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ مَعَ الْمَرْأَةِ وَكَذَلِكَ مَحَارِمُ الْمَرْأَةِ : مِثْلُ ابْنِ زَوْجِهَا وَابْنِهِ وَابْنِ أَخِيهَا وَابْنِ أُخْتِهَا وَمَمْلُوكِهَا عِنْدَ مَنْ يَجْعَلُهُ مَحْرَمًا : مَتَى كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ أَوْ عَلَيْهَا تَوَجَّهَ الِاحْتِجَابُ بَلْ وَجَبَ . وَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاحْتِجَابِ فِيهَا مَظِنَّةُ الْفِتْنَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى :
{ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } فَقَدْ تَحْصُلُ الزَّكَاةُ وَالطَّهَارَةُ بِدُونِ ذَلِكَ لَكِنَّ هَذَا أَزْكَى وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ وَالْبُرُوزُ قَدْ انْتَفَى فِيهِ الزَّكَاةُ وَالطَّهَارَةُ لِمَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ مِنْ شَهْوَةِ الْقَلْبِ وَاللَّذَّةِ بِالنَّظَرِ كَانَ تَرْكُ النَّظَرِ وَالِاحْتِجَابُ أَوْلَى بِالْوُجُوبِ وَلَا زَكَاةَ بِدُونِ حِفْظِ الْفَرْجِ مِنْ الْفَاحِشَةِ ؛ لِأَنَّ حِفْظَهُ يَتَضَمَّنُ حِفْظَهُ عَنْ الْوَطْءِ بِهِ فِي الْفُرُوجِ وَالْأَدْبَارِ وَدُونَ ذَلِكَ وَعَنْ الْمُبَاشَرَةِ وَمَسِّ الْغَيْرِ لَهُ وَكَشْفِهِ لِلْغَيْرِ وَنَظَرِ الْغَيْرِ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ فَرْجَهُ عَنْ نَظَرِ الْغَيْرِ وَمَسِّهِ . وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ { بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ لَمَّا قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ فَقَالَ : احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك قَالَ : فَإِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضَهُمْ فِي بَعْضٍ ؟ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا يَرَيَنَّهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا قَالَ : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ؟ قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ } وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُبَاشِرَ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ وَأَنْ يُبَاشِرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ } و { نَهَى عَنْ الْمَشْيِ عُرَاةً } { وَنَهَى عَنْ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَأَنْ تَنْظُرَ الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ } وَقَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ إنَاثِ أُمَّتِي فَلَا تَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرِ } .
وَقَالَ الْعُلَمَاءُ : يُرَخَّصُ لِلنِّسَاءِ فِي الْحَمَّامِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يُرَخَّصُ لِلرِّجَالِ مَعَ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَكُونَ مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ عَلَيْهَا غُسْلٌ لَا يُمْكِنُهَا إلَّا فِي الْحَمَّامِ . وَأَمَّا إذَا اعْتَادَتْ الْحَمَّامَ وَشَقَّ عَلَيْهَا تَرْكُهُ فَهَلْ يُبَاحُ لَهَا عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا لَا يُبَاحُ وَالثَّانِي يُبَاحُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ .
وَكَمَا يَتَنَاوَلُ غَضَّ الْبَصَرِ عَنْ عَوْرَةِ الْغَيْرِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ النَّظَرِ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْغَضَّ عَنْ بُيُوتِ النَّاسِ فَبَيْتُ الرَّجُلِ يَسْتُرُ بَدَنَهُ كَمَا تَسْتُرُهُ ثِيَابُهُ وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ غَضَّ الْبَصَرِ وَحِفْظَ الْفَرْجِ بَعْدَ آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ وَذَلِكَ أَنَّ الْبُيُوتَ سُتْرَةٌ كَالثِّيَابِ الَّتِي عَلَى الْبَدَنِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ اللِّبَاسَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } فَكُلٌّ مِنْهُمَا وِقَايَةٌ مِنْ الْأَذَى الَّذِي يَكُونُ سَمُومًا مُؤْذِيًا كَالْحَرِّ وَالشَّمْسِ وَالْبَرْدِ وَمَا يَكُونُ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ وَالْيَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي أَوَّلِ " سُورَةِ النَّحْلِ " أُصُولَ النِّعَمِ وَذَكَرَ هُنَا مَا يَدْفَعُ الْبَرْدَ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ وَمَا يَدْفَعُ الْحَرَّ فَإِنَّهُ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ ثُمَّ قَالَ : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تُسْلِمُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إذَا اطَّلَعَ فِي بَيْتِك أَحَدٌ وَلَمْ تَأْذَنْ لَهُ فَخَذَفْته بِحَصَاةِ فَفَقَأْت عَيْنَهُ مَا كَانَ عَلَيْك مِنْ جُنَاحٍ } وَهَذَا الْخَاصُّ يُفَسِّرُ الْعَامَّ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ : أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَخْذِفُ قَالَ : لَا تَخْذِفُ ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ } وَقَالَ : إنَّهُ لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ وَلَا يُنْكَأُ بِهِ عَدُوٌّ وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ { أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي حُجْرَةٍ فِي بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِدْرَى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ فَقَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تَنْظُرُ إلَيَّ لَطَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك ؛ إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ } . وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ ؛ لِأَنَّ النَّاظِرَ مُعْتَدٍ بِنَظَرِهِ فَيُدْفَعُ كَمَا يُدْفَعُ سَائِرُ الْبُغَاةِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَدُفِعَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ . وَلَمْ يَجُزْ قَلْعُ عَيْنِهِ ابْتِدَاءً إذَا لَمْ يَذْهَبْ إلَّا بِذَلِكَ وَالنُّصُوصُ تُخَالِفُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ أَبَاحَ أَنْ تَخْذِفَهُ حَتَّى تَفْقَأَ عَيْنَهُ قَبْلَ أَمْرِهِ بِالِانْصِرَافِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { لَوْ أَعْلَمُ أَنَّك تُنْظِرُنِي لَطَعَنْت بِهِ فِي عَيْنِك } فَجَعَلَ نَفْسَ النَّظَرِ مُبِيحًا لِلطَّعْنِ فِي الْعَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَمْرَ لَهُ بِالِانْصِرَافِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَاقَبَةِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَيْثُ جَنَى هَذِهِ الْجِنَايَةَ عَلَى حُرْمَةِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَلَهُ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ بِالْحَصَى وَالْمِدْرَى .
وَالنَّظَرُ إلَى الْعَوْرَاتِ حَرَامٌ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ } وَفِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ } فَإِنَّ الْفَوَاحِشَ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْمُبَاشَرَةِ بِالْفَرْجِ أَوْ الدُّبُرِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَالنَّظَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَمَا فِي قِصَّةِ لُوطٍ : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } وَقَوْلُهُ : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } . فَالْفَاحِشَةُ أَيْضًا تَتَنَاوَلُ كَشْفَ الْعَوْرَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُبَاشَرَةٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا } وَهَذِهِ الْفَاحِشَةُ هِيَ طَوَافُهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَكَانُوا يَقُولُونَ لَا نَطُوفُ بِثِيَابِ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا ؛ إلَّا الْحَمْسَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ فِي ثِيَابِهِمْ وَغَيْرُهُمْ إنْ حَصَلَ لَهُ ثِيَابٌ مِنْ الْحَمْسِ طَافَ فِيهَا وَإِلَّا طَافَ عريانا وَإِنْ طَافَ بِثِيَابِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ فَأَلْقَاهَا فَكَانَتْ تُسَمَّى لِقَاءً وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا ثِيَابٌ جَعَلَتْ يَدَهَا عَلَى فَرْجِهَا وَيَدَهَا الْأُخْرَى عَلَى دُبُرِهَا وَطَافَتْ وَتَقُولُ : الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ فَاحِشَةً وَقَوْلُهُ فِي سِيَاقِ ذَلِكَ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } يَتَنَاوَلُ كَشْفَ الْعَوْرَةِ أَيْضًا وَإِبْدَاءَهَا وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَنَّ إبْدَاءَ فِعْلِ النِّكَاحِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ يُسَمَّى فَحْشَاءَ وَتَفَحُّشًا فَكَشْفُ الْأَعْضَاءِ وَالْفِعْلُ لِلْبَصَرِ كَكَشْفِ ذَلِكَ لِلسَّمْعِ.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَشْفَيْنِ يُسَمَّى وَصْفًا كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تَنْعَتْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا } وَيُقَالُ : فُلَانٌ يَصِفُ فُلَانًا وَثَوْبٌ يَصِفُ الْبَشَرَةَ ثُمَّ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ إظْهَارِ ذَلِكَ لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ ؛ بَلْ يُسْتَحَبُّ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الْمُسْتَحَبُّ أَوْ الْوَاجِبُ إلَّا بِذَلِكَ { كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَاعِزِ : أنكتها } وَكَقَوْلِهِ { مَنْ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بهن أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا } . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْفَاحِشَةَ تَتَنَاوَلُ الْفِعْلَ الْقَبِيحَ وَتَتَنَاوَلُ إظْهَارَ الْفِعْلِ وَأَعْضَاءَهُ وَهَذَا كَمَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مَا فَحُشَ وَإِنْ كَانَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ فَاحِشَةً وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذَا مِنْ الْفَوَاحِشِ الْبَاطِنَةِ فَظَهَرَ أَنَّ الْفَاحِشَةَ تَتَنَاوَلُ الْعُقُودَ الْفَاحِشَةَ كَمَا تَتَنَاوَلُ الْمُبَاشَرَةَ بِالْفَاحِشَةِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ وَالْوَطْءَ . وَفِي قَوْلِهِ : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } عُمُومٌ لِأَنْوَاعِ كَثِيرَةٍ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَأَمَرَ تَعَالَى بِحِفْظِ الْفَرْجِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ : { وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } وَبِقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } الْآيَاتِ . وَقَالَ : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ } فَحِفْظُ الْفَرْجِ مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } وَحِفْظُهَا هُوَ صَرْفُهَا عَمَّا لَا يَحِلُّ .
وَأَمَّا الْأَبْصَارُ فَلَا بُدَّ مِنْ فَتْحِهَا وَالنَّظَرِ بِهَا وَقَدْ يَفْجَأُ الْإِنْسَانُ مَا يَنْظُرُ إلَيْهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَلَا يُمْكِنُ غَضُّهَا مُطْلَقًا وَلِهَذَا أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالْغَضِّ مِنْهَا كَمَا أَمَرَ لُقْمَانُ ابْنَهُ بِالْغَضِّ مِنْ صَوْتِهِ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ } الْآيَةَ فَإِنَّهُ مَدَحَهُمْ عَلَى غَضِّ الصَّوْتِ عِنْدَ رَسُولِهِ مُطْلَقًا فَهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ يُنْهَوْنَ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا غَضُّ الصَّوْتِ مُطْلَقًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ غَضٌّ خَاصٌّ مَمْدُوحٌ وَيُمْكِنُ الْعَبْدُ أَنْ يَغُضَّ صَوْتَهُ مُطْلَقًا فِي كُلِّ حَالٍ وَلَمْ يُؤْمَرْ الْعَبْدُ بِهِ ؛ بَلْ يُؤْمَرُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ فِي مَوَاضِعَ : إمَّا أَمْرُ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ فَلِهَذَا قَالَ : { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } فَإِنَّ الْغَضَّ فِي الصَّوْتِ وَالْبَصَرِ جِمَاعُ مَا يَدْخُلُ إلَى الْقَلْبِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ فَبِالسَّمْعِ يَدْخُلُ الْقَلْبُ وَبِالصَّوْتِ يَخْرُجُ مِنْهُ كَمَا جَمَعَ الْعُضْوَيْنِ فِي قَوْلِهِ : { أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ } { وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ } فَبِالْعَيْنِ وَالنَّظَرِ يَعْرِفُ الْقَلْبُ الْأُمُورَ وَاللِّسَانُ وَالصَّوْتُ يُخْرِجَانِ مِنْ عِنْدِ الْقَلْبِ الْأُمُورَ هَذَا رَائِدُ الْقَلْبِ وَصَاحِبُ خَبَرِهِ وَجَاسُوسِهِ وَهَذَا تَرْجُمَانُهُ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } وَقَالَ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَقَالَ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } وَقَالَ فِي آيَةِ الِاسْتِئْذَانِ :
{ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } وَقَالَ : { فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } وَقَالَ : { فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ } وَقَالَ فِي دُعَاءِ الْجِنَازَةِ : { وَاغْسِلْهُ بِمَاءِ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ وَنَقِّهِ مِنْ خَطَايَاهُ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ } . فَالطَّهَارَةُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - هِيَ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ رِجْسٌ وَالزَّكَاةُ تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ عَدَمُ الذُّنُوبِ وَمَعْنَى النَّمَاءِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ : مِثْلُ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَمِثْلُ النَّجَاةِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْفَوْزِ بِالثَّوَابِ وَمِثْلُ عَدَمِ الشَّرِّ وَحُصُولِ الْخَيْرِ ؛ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ تَكُونُ مِنْ الْأَرْجَاسِ وَالْأَنْجَاسِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وَقَالَ : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ } وَقَالَ : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } وَقَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ } . وَقَالَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ : { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ } وَقَالَ اللُّوطِيَّةُ عَنْ لُوطٍ وَأَهْلِهِ : { أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } قَالَ مُجَاهِدٌ : عَنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ وَيُقَالُ فِي دُخُولِ الْغَائِطِ { أَعُوذُ بِك مِنْ الْخُبْثِ وَالْخَبَائِثِ } وَمِنْ الرِّجْسِ النَّجِسِ الْخَبِيثِ
الْمُخْبِثِ وَهَذِهِ النَّجَاسَةُ تَكُونُ مِنْ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَنَحْوِهَا وَهِيَ لَا تَزُولُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ عَنْ تَرْكِ الْفَاحِشَةِ وَغَيْرِهَا فَمَنْ تَابَ مِنْهَا فَقَدْ تَطَهَّرَ وَإِلَّا فَهُوَ مُتَنَجِّسٌ وَإِنْ اغْتَسَلَ بِالْمَاءِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَذَاكَ الْغُسْلُ يَرْفَعُ حَدَثَ الْجَنَابَةِ وَلَا يَرْفَعُ عَنْهُ نَجَاسَةَ الْفَاحِشَةِ الَّتِي قَدْ تَنَجَّسَ بِهَا قَلْبُهُ وَبَاطِنُهُ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ نَجَاسَةٌ لَا يَرْفَعُهَا الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ وَإِنَّمَا يَرْفَعُهَا الِاغْتِسَالُ بِمَاءِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الْمُسْتَمِرَّةِ إلَى الْمَمَاتِ . وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُ : ثَنَا سويد بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : لَوْ أَنَّ الَّذِي يَعْمَلُ - يَعْنِي عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ - اغْتَسَلَ بِكُلِّ قَطْرَةٍ فِي السَّمَاءِ وَكُلِّ قَطْرَةٍ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَزَلْ نَجِسًا . وَرَوَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ خَلَفٍ فِي " كِتَابِ ذَمِّ اللِّوَاطِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ أَنَّ لُوطِيًّا اغْتَسَلَ بِكُلِّ قَطْرَةٍ نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ لَلَقِيَ اللَّهَ غَيْرَ طَاهِرٍ . وَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ عَنْ الْعَبَّاسِ الْهَاشِمِيِّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا . وَحَدِيثُ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : اللُّوطِيَّانِ لَوْ اغْتَسَلَا بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمْ يُجْزِهِمَا إلَّا أَنْ يَتُوبَا وَرَفْعُ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ مُنْكَرٌ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ . وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ { أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ : مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا
أَوْ غُلَامًا أَوْ رَجُلًا : حُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْتَنَ مِنْ الْجِيفَةِ يَتَأَذَّى بِهِ النَّاسُ حَتَّى يُدْخِلَهُ اللَّهُ نَارَ جَهَنَّمَ وَيُحْبِطَ اللَّهُ عَمَلَهُ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَيُجْعَلُ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ وَيُسَمَّرُ عَلَيْهِ بِمَسَامِيرَ مِنْ حَدِيدٍ فَتَشُكُّ تِلْكَ الْمَسَامِيرُ فِي وَجْهِهِ وَجَسَدِهِ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : هَذَا لِمَنْ لَمْ يَتُبْ وَذَلِكَ أَنَّ تَارِكَ اللِّوَاطِ مُتَطَهِّرٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَفَاعِلُهُ غَيْرُ مُتَطَهِّرٍ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُتَنَجِّسًا ؛ فَإِنَّ ضِدَّ الطَّهَارَةِ النَّجَاسَةُ ؛ لَكِنَّ النَّجَاسَةَ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ : تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا . وَمِنْ هَاهُنَا غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ طَلَبِ طَهَارَةِ الْجُنُبِ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } قَالُوا : فَيَكُونُ الْجُنُبُ نَجِسًا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ } لَمَّا انْخَنَسَ مِنْهُ وَهُوَ جُنُبٌ وَكَرِهَ أَنْ يُجَالِسَهُ فَهَذِهِ النَّجَاسَةُ الَّتِي نَفَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ نَجَاسَةُ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ الَّتِي ظَنَّهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَالْجَنَابَةُ تَمْنَعُ الْمَلَائِكَةَ أَنْ تَدْخُلَ بَيْتًا فِيهِ جُنُبٌ وَقَالَ أَحْمَد : إذَا وَضَعَ الْجُنُبُ يَدَهُ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ أَنْجَسَ الْمَاءَ فَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ أَرَادَ النَّجَاسَةَ الْحِسِّيَّةَ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحُكْمِيَّةَ فَإِنَّ الْفَرْعَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ وَلَا يَكُونُ الْمَاءُ أَعْظَمَ مِنْ الْبَدَنِ ؛ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْمَانِعُ الَّذِي قَامَ بِالْبَدَنِ وَالْجُنُبُ ظَاهِرُهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ الْمَاءُ كَذَلِكَ طَاهِرًا لاَ يَتَوَضَّأُ بِهِ لِلصَّلَاةِ .
وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ النَّمَاءَ وَالزِّيَادَةَ كَالزَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ قَدْ تَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا ؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا تَنَظَّفَ مِمَّا يُفْسِدُهُ زَكَا وَنَمَا وَصَلَحَ وَزَادَ فِي نَفْسِهِ كَالزَّرْعِ يُنْفَى مِنْ الدَّغَلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } وَقَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } وَقَالَ : { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } فَإِنَّ الرُّجُوعَ عَمَلٌ صَالِحٌ يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ زَكَاةً وَطَهَارَةً وَقَالَ : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } فَإِنَّ ذَلِكَ مُجَانَبَةٌ لِأَسْبَابِ الرِّيبَةِ ؛ وَذَلِكَ مِنْ نَوْعِ مُجَانَبَةِ الذُّنُوبِ وَالْبُعْدِ عَنْهَا وَمُبَاعَدَتِهَا فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِ الطَّائِفَتَيْنِ . وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا وَهِيَ قَوْلُهُ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } فَالْغَضُّ مِنْ الْبَصَرِ وَحِفْظُ الْفَرْجِ يَتَضَمَّنُ الْبُعْدَ عَنْ نَجَاسَةِ الذُّنُوبِ وَيَتَضَمَّنُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي يَزْكُو بِهَا الْإِنْسَانُ وَهُوَ أَزْكَى وَالزَّكَاةُ تَتَضَمَّنُ الطَّهَارَةَ ؛ فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى تَرْكِ السَّيِّئَاتِ وَمَعْنَى فِعْلِ الْحَسَنَاتِ وَلِهَذَا تُفَسَّرُ تَارَةً بِالطَّهَارَةِ وَتَارَةً بِالزِّيَادَةِ وَالنَّمَاءِ وَمَعْنَاهَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ وَإِنْ كَانَ قَرَنَ الطَّهَارَةَ مَعَهَا فِي الذِّكْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } فَالصَّدَقَةُ تُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنْ الذُّنُوبِ وَتُوجِبُ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ كَمَا أَنَّ الْغَضَّ مِنْ الْبَصَرِ وَحِفْظَ الْفَرْجِ هُوَ أَزْكَى لَهُمْ
وَهُمَا يَكُونَانِ بِاجْتِنَابِ الذُّنُوبِ وَحِفْظِ الْجَوَارِحِ وَيَكُونَانِ بِالتَّوْبَةِ وَالصَّدَقَةِ الَّتِي هِيَ الْإِحْسَانُ وَهَذَانِ هُمَا التَّقْوَى وَالْإِحْسَانُ و { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } . وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ؟ فَقَالَ : الْأَجْوَفَانِ : الْفَمُ وَالْفَرْجُ وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ؟ فَقَالَ : تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ } فَيَدْخُلُ فِي تَقْوَى اللَّهِ حِفْظُ الْفَرْجِ وَغَضُّ الْبَصَرِ وَيَدْخُلُ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ إيذَائِهِمْ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى الصَّبْرِ وَالْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ يَكُونُ عَنْ الرَّحْمَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } . وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الزَّكَاةَ هُنَا كَمَا قَدَّمَهَا فِي قَوْلِهِ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } فَإِنَّ اجْتِنَابَ الذُّنُوبِ يُوجِبُ الزَّكَاةَ الَّتِي هِيَ زَوَالُ الشَّرِّ وَحُصُولُ الْخَيْرِ وَالْمُفْلِحُونَ هُمْ الَّذِينَ أَدَّوْا الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا وَصَفَهُمْ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَقَالَ : { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } الْآيَاتُ : وَقَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } فَإِذَا كَانَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُفْلِحُونَ وَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُفْلِحِينَ هُمْ الْمُتَّقُونَ : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ فَهُوَ مُفْلِحٌ : دَلَّ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ الزَّكَاةَ تَنْتَظِمُ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ . وَقَوْلُهُ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } وَقَوْلُهُ : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } فَالتَّزْكِيَةُ مِنْ الْعِبَادِ لِأَنْفُسِهِمْ هِيَ إخْبَارُهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِكَوْنِهَا زَاكِيَةً وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ ؛ لَا نَفْسُ جَعْلِهَا زَاكِيَةً وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ } وَقَالَ : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةُ وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ } الْآيَةُ فَامْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعِبَادِ بِإِرْسَالِهِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ أَرْسَلَهُ بِهَا : تِلَاوَةُ آيَاتِهِ عَلَيْهِمْ وَتَزْكِيَتُهُمْ وَتَعْلِيمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ . وَقَدْ أَفْرَدَ تَعْلِيمَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ بِالذِّكْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ } . وَقَوْلِهِ : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } وَذَلِكَ أَنَّ التِّلَاوَةَ عَلَيْهِمْ وَتَزْكِيَتَهُمْ أَمْرٌ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنَّ التِّلَاوَةَ هِيَ تَبْلِيغُ كَلَامِهِ تَعَالَى إلَيْهِمْ وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَتَزْكِيَتُهُمْ هُوَ جَعْلُ أَنْفُسِهِمْ زَكِيَّةً بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّاشِئِ عَنْ الْآيَاتِ الَّتِي سَمِعُوهَا وَتُلِيَتْ عَلَيْهِمْ فَالْأَوَّلُ سَمْعُهُمْ وَالثَّانِي طَاعَتُهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . الْأَوَّلُ عِلْمُهُمْ وَالثَّانِي عَمَلُهُمْ وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ فَإِذَا سَمِعُوا آيَاتِ اللَّهِ وَعَوْهَا بِقُلُوبِهِمْ وَأَحَبُّوهَا وَعَمِلُوا بِهَا وَلَمْ يَكُونُوا كَمَنْ قَالَ فِيهِمْ : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَإِذَا عَمِلُوا بِهَا زَكَوْا بِذَلِكَ وَكَانُوا مِنْ الْمُفْلِحِينَ الْمُؤْمِنِينَ . وَاَللَّهُ قَالَ : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وَقَالَ فِي ضِدِّهِمْ : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَعْظَمُ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَجَهْلًا وَذَلِكَ ضِدُّ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ فَاسْتِمَاعُ آيَاتِ اللَّهِ وَالتَّزَكِّي بِهَا أَمْرٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ سَمَاعِ رِسَالَةِ سَيِّدِهِ الَّتِي أَرْسَلَ بِهَا رَسُولَهُ إلَيْهِ وَهَذَا هُوَ السَّمَاعُ الْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَلَا بُدَّ مِنْ التَّزَكِّي بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ فَهَذَانِ لَا بُدَّ مِنْهُمَا .
وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ : لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ عَالِمًا بِالْحِكْمَةِ جَمِيعِهَا ؛ بَلْ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ كَمَا هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْجِهَادِ بَلْ وُجُوبُ ذَلِكَ أَسْبَقُ وَأَوْكَدُ مِنْ وُجُوبِ الْجِهَادِ ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْجِهَادِ وَلَوْلَاهُ لَمْ يَعْرِفُوا عَلَامَ يُقَاتِلُونَ وَلِهَذَا كَانَ قِيَامُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ قَبْلَ قِيَامِهِمْ بِالْجِهَادِ فَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ وَفَرْعُهُ وَتَمَامُهُ وَهَذَا أَصْلُهُ وَأَسَاسُهُ وَعَمُودُهُ وَرَأْسُهُ وَمَقْصُودُ الرِّسَالَةِ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات جَمِيعًا وَلَا رَيْبَ أَنَّ اسْتِمَاعَ كِتَابِ اللَّهِ وَالْإِيمَانَ بِهِ وَتَحْرِيمَ حَرَامِهِ وَتَحْلِيلَ حَلَالِهِ . وَالْعَمَلَ بِمُحْكِمِهِ وَالْإِيمَانَ بِمُتَشَابِهِهِ وَاجِبٌ
عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهَذَا هُوَ التِّلَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } . فَأَخْبَرَ عَنْ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَبِهِ قَالَ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ وَقَوْلُهُ : { حَقَّ تِلَاوَتِهِ } كَقَوْلِهِ { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } . وَأَمَّا حِفْظُ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَفَهْمُ جَمِيعِ مَعَانِيهِ وَمَعْرِفَةُ جَمِيعِ السُّنَّةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ؛ لَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَحْفَظَ مِنْ الْقُرْآنِ وَيَعْلَمَ مَعَانِيَهُ وَيَعْرِفَ مِنْ السُّنَّةِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْمَعَ جَمِيعَ الْقُرْآنِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمَعْرِفَةَ الْحِكَمِيَّةِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ لَيْسَ هُوَ عِلْمُ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ الَّتِي عَلَّمَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ وَأُمَّتَهُ ؛ بَلْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ حُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي وَالْأَفْعَالِ وَالْمَقَاصِدِ وَلَا يَجِبُ هَذَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ .
وقَوْله تَعَالَى { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ هِيَ التَّقْوَى وَالتَّقْوَى تَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ؛ بَلْ تَرْكُ السَّيِّئَاتِ مُسْتَلْزِمٌ لِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ إذْ الْإِنْسَانُ حَارِثٌ هُمَامٌ وَلَا يَدَعُ إرَادَةَ السَّيِّئَاتِ وَفِعْلَهَا إلَّا بِإِرَادَةِ الْحَسَنَاتِ وَفِعْلِهَا ؛ إذْ النَّفْسُ لَا تَخْلُو عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ جَمِيعًا ؛ بَلْ الْإِنْسَانُ بِالطَّبْعِ مُرِيدٌ فَعَّالٌ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَبَبُهُ
الزَّكَاةَ وَالتَّقْوَى الَّتِي بِهَا يَسْتَحِقُّ الْإِنْسَانُ الْجَنَّةَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَكَفَّلَ لِي بِحِفْظِ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ } . وَمَنْ تَزَكَّى فَقَدْ أَفْلَحَ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؛ وَالزَّكَاةُ مُتَضَمِّنَةٌ حُصُولَ الْخَيْرِ وَزَوَالَ الشَّرِّ فَإِذَا حَصَلَ الْخَيْرُ وَزَالَ الشَّرُّ - مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ - حَصَلَ لَهُ نُورٌ وَهُدًى وَمَعْرِفَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَالْعَمَلُ يَحْصُلُ لَهُ مَحَبَّةٌ وَإِنَابَةٌ وَخَشْيَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ . هَذَا لِمَنْ تَرَكَ هَذِهِ الْمَحْظُورَاتِ وَأَتَى بِالْمَأْمُورَاتِ وَيَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا قُدْرَةً وَسُلْطَانًا وَهَذِهِ صِفَاتُ الْكَمَالِ : الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ وَالْقُدْرَةُ . وَحُسْنُ الْإِرَادَةِ وَقَدْ جَاءَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ لِمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ نُورٌ فِي قَلْبِهِ وَمَحَبَّةٌ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ الْعَالِمُونَ الْعَامِلُونَ . وَفِي مَسْنَدِ أَحْمَد حَدَّثَنَا عَتَّابٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - أَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زُحَرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أمامة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا } . وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي أَمَالِيهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ بِهِ وَلَفْظُهُ : { مَنْ نَظَرَ إلَى امْرَأَةٍ فَغَضَّ بَصَرَهُ عِنْدَ أَوَّلِ دَفْعَةٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا } . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ :
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ : قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو مَهْدِيٍّ سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الزاهرية عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّظْرَةُ الْأُولَى خَطَأٌ وَالثَّانِيَةُ عَمْدٌ وَالثَّالِثَةُ تَدَبُّرٌ نَظَرُ الْمُؤْمِنِ إلَى مَحَاسِنِ الْمَرْأَةِ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهُ خَشْيَةَ اللَّهِ وَرَجَاءَ مَا عِنْدَهُ أَثَابَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عِبَادَةً تُبَلِّغُهُ لَذَّتَهَا } رَوَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ الخرائطي فِي " كِتَابِ اعْتِلَالِ الْقُلُوبِ " ثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ ثَنَا إسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ ثَنَا هَشِيمٌ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحَاقَ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ جِبِلَّةَ عَنْ حُذَيْفَةَ ابْنِ الْيَمَانِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهُ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ إيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ } . وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْخَلَّالُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَلِيٍّ وَفِيهِ ذِكْرُ السَّهْمِ . وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ : ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ أَبُو الشَّيْخِ ثَنَا ابْنُ عَفِيرٍ قَالَ ثَنَا شُعَيْبُ بْنُ سَلَمَةَ ثَنَا عِصْمَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى يَعْنِي ابْنَ عُقْبَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ : قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مِنْ عَبْدٍ يَكُفُّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا لَنَظَرَ إلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا } وَرَوَى ابْنُ أَبِي الْفَوَارِسِ مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : " غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ يُورِثُ حُبَّ اللَّهِ " وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي زَرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْ جَدِّهِ { جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي : قَالَ سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي } وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ هَشِيمٍ عَنْ يُونُسَ بِهِ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِهِ أَيْضًا وَقَالَ : التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : { أَطْرِقْ بَصَرَك } أَيْ اُنْظُرْ إلَى الْأَرْضِ وَالصَّرْفُ أَعَمُّ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ إلَى الْأَرْضِ أَوْ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى . وَقَالَ أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُوسَى الفزاري حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ رَبِيعَةَ الإيادي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بريدة عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ : يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ . فَإِنَّ لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْأُخْرَى } وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ شَرِيكٍ وَقَالَ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ حَدِيثِهِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَقْعُدُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ
يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ } وَرَوَى أَبُو الْقَاسِمِ البغوي عَنْ { أَبِي أمامة قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : اُكْفُلُوا لِي سِتًّا أَكْفُلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ : إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبُ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفُ : غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ } . فَالنَّظَرُ دَاعِيَةٌ إلَى فَسَادِ الْقَلْبِ . قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : النَّظَرُ سَهْمُ سُمٍّ إلَى الْقَلْبِ فَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِ الْفُرُوجِ كَمَا أَمَرَ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ الَّتِي هِيَ بَوَاعِثُ إلَى ذَلِكَ وَفِي الطَّبَرَانِي مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أمامة مَرْفُوعًا : { لَتَغُضُّنَّ أَبْصَارَكُمْ وَلَتَحْفَظُنَّ فُرُوجَكُمْ وَلَتُقِيمُنَّ وُجُوهَكُمْ أَوْ لَتُكْسَفَنَّ وُجُوهُكُمْ } وَقَالَ الطَّبَرَانِي حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ زُهَيْرٍ التستري قَالَ قَرَأْنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ الضَّرِيرِ الْمُقْرِي : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنَا هَزِيمُ بْنُ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إسْحَاقَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ النَّظَرَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَسْمُومٌ فَمَنْ تَرَكَهُ مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ أَبْدَلَهُ اللَّهُ إيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا وَمُسْلِمٌ مُسْنَدًا وَقَدْ كَانُوا يُنْهُونَ
أَنْ يَحِدَّ الرَّجُلُ بَصَرَهُ إلَى المردان وَكَانُوا يَتَّهِمُونَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دِينِهِ . وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى الْأَجَانِبِ مِنْ الرِّجَالِ بِشَهْوَةِ وَلَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَصْلًا . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : وَأَمَّا النُّورُ وَالْعِلْمُ وَالْحِكْمَةُ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } فَهِيَ لِكُلِّ مُحْسِنٍ . وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ ذَكَرَ آيَةَ النُّورِ بَعْدَ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَأَمْرُهُ بِالتَّوْبَةِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ أَنْ يُدْرِكَ ابْنُ آدَمَ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي : سَمِعْت أَبَا الْحُسَيْنِ الْوَرَّاقَ يَقُولُ : مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مُحَرَّمٍ أَوْرَثَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ حِكْمَةً عَلَى لِسَانِهِ يَهْتَدِي بِهَا وَيَهْدِي بِهَا إلَى طَرِيقِ مَرْضَاتِهِ . وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ؛ فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إلَى مَحْبُوبٍ فَتَرَكَهُ لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ بِنُورِ الْعَيْنِ مَكْرُوهًا أَوْ إلَى مَكْرُوهٍ فَتَرَكَهُ لِلَّهِ أَعْطَاهُ اللَّهُ نُورًا فِي قَلْبِهِ وَبَصَرًا يُبْصِرُ بِهِ الْحَقَّ . قَالَ شَاهٌ الكرماني : مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَعَوَّدَ نَفْسَهُ أَكْلَ الْحَلَالِ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ : لَمْ تُخْطِئْ لَهُ فِرَاسَةٌ وَإِذَا صَلَحَ عِلْمُ الرَّجُلِ فَعَرَفَ الْحَقَّ وَعَمِلَهُ وَاتَّبَعَ الْحَقَّ : صَارَ زَكِيًّا تَقِيًّا مُسْتَوْجِبًا لِلْجَنَّةِ .
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي أمامة الْمَشْهُورُ مِنْ رِوَايَةِ البغوي : حَدَّثَنَا طَالُوتُ بْنُ عَبَّادٍ حَدَّثَنَا فَضَالَةُ بْنُ جُبَيْرٍ سَمِعْت أَبَا أمامة يَقُولُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { اُكْفُلُوا لِي بِسِتِّ أَكْفُلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ : إذَا حَدَّثَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ فَلَا يَخُنْ وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ } . فَقَدْ كَفَلَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أَتَى بِهَذِهِ السِّتِّ خِصَالٍ فَالثَّلَاثَةُ الْأُولَى تَبْرِئَةٌ مِنْ النِّفَاقِ وَالثَّلَاثَةُ الْأُخْرَى تَبْرِئَةٌ مِنْ الْفُسُوقِ وَالْمُخَاطَبُونَ مُسْلِمُونَ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا كَانَ مُؤْمِنًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَاسِقًا كَانَ تَقِيًّا فَيَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ . وَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمَدَنِيُّ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ سَهْلٍ المازني قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صهبان حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ سَلِيمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا عَيْنٌ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَعَيْنٌ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَيْنٌ يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } .
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } يَتَنَاوَلُ النَّظَرَ إلَى الْأَمْوَالِ وَاللِّبَاسِ وَالصُّوَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا : أَمَّا اللِّبَاسُ وَالصُّوَرُ فَهُمَا اللَّذَانِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمَا كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا } وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يُمَتِّعُ بِالصُّوَرِ كَمَا يُمَتِّعُ بِالْأَمْوَالِ وَكِلَاهُمَا مِنْ زَهْرَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكِلَاهُمَا يَفْتِنُ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ وَرُبَّمَا أَفْضَى بِهِ إلَى الْهَلَاكِ دُنْيَا وَأُخْرَى . وَالْهَلْكَى رَجُلَانِ . فَمُسْتَطِيعٌ وَعَاجِزٌ فَالْعَاجِزُ مَفْتُونٌ بِالنَّظَرِ وَمَدِّ الْعَيْنِ إلَيْهِ وَالْمُسْتَطِيعُ مَفْتُونٌ فِيمَا أُوتِيَ مِنْهُ غَارِقٌ قَدْ أَحَاطَ بِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ إنْقَاذَ نَفْسِهِ مِنْهُ . وَهَذَا الْمَنْظُورُ قَدْ يُعْجِبُ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ كَانَ الْمَنْظُورُ مُنَافِقًا أَوْ فَاسِقًا كَمَا يُعْجِبُهُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُمْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } فَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِمْ وَاسْتِمَاعِ قَوْلِهِمْ فَلَا يُنْظَرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ رُؤْيَاهُمْ تُعْجِبُ النَّاظِرِينَ إلَيْهِمْ وَأَنَّ قَوْلَهُمْ يُعْجِبُ السَّامِعِينَ . ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ فَسَادِ قُلُوبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِقَوْلِهِ : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } فَهَذَا مِثْلُ قُلُوبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الْآيَةُ : وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } . وَالتَّوَسُّمُ مِنْ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ فَأَخْبَرَ
سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَ عُقُوبَاتِ الْمُعْتَدِينَ آيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ . وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } ثُمَّ قَرَأَ : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ اعْتَبَرَ بِمَا عَاقَبَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ كَانَ مِنْ الْمُتَوَسِّمِينَ . وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ اللُّوطِيَّةِ أَنَّهُ طَمَسَ أَبْصَارَهُمْ فَكَانَتْ عُقُوبَةُ أَهْلِ الْفَوَاحِشِ طَمْسَ الْأَبْصَارِ كَمَا قَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِيهِمْ وَشُوهِدَ مِنْهُمْ . وَكَانَ ثَوَابُ الْمُعْتَبِرِينَ بِهِمْ التَّارِكِينَ لِأَفْعَالِهِمْ إعْطَاءَ الْأَنْوَارِ وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِذِكْرِ آيَةِ النُّورِ عَقِيبَ غَضِّ الْأَبْصَارِ . وَأَمَّا الْقُدْرَةُ وَالْقُوَّةُ الَّتِي يُعْطِيهَا اللَّهُ لِمَنْ اتَّقَاهُ وَخَالَفَ هَوَاهُ فَذَلِكَ حَاصِلٌ مَعْرُوفٌ كَمَا جَاءَ { إنَّ الَّذِي يَتْرُكُ هَوَاهُ يَفْرُقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصَّرْعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمِ يَخْذِفُونَ حَجَرًا فَقَالَ : لَيْسَ الشِّدَّةُ فِي هَذَا وَإِنَّمَا الشِّدَّةُ فِي أَنْ يَمْتَلِئَ أَحَدُكُمْ غَيْظًا ثُمَّ يَكْظِمُهُ لِلَّهِ } أَوْ كَمَا قَالَ . وَهَذَا ذَكَرَهُ فِي الْغَضَبِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ لِبَنِي آدَمَ كَثِيرًا وَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ . وَسُلْطَانُ الشَّهْوَةِ يَكُونُ فِي الْغَالِبِ مَسْتُورًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَشَيْطَانُهَا خَافٍ وَيُمْكِنُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ الِاعْتِيَاضُ بِالْحَلَالِ عَنْ
الْحَرَامِ وَإِلَّا فَالشَّهْوَةُ إذَا اشْتَعَلَتْ وَاسْتَوْلَتْ قَدْ تَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْغَضَبِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } أَيْ ضَعِيفًا عَنْ النِّسَاءِ لَا يَصْبِرُ عَنْهُنَّ وَفِي قَوْلِهِ : { رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } ذَكَرُوا مِنْهُ الْعِشْقَ وَالْعِشْقُ يُفْضِي بِأَهْلِهِ إلَى الْأَمْرَاضِ وَالْإِهْلَاكِ وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ قَدْ يَبْلُغُ ذَلِكَ أَيْضًا وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ الْقُوَّةَ وَالْعِزَّةَ لِأَهْلِ الطَّاعَةِ التَّائِبِينَ إلَى اللَّهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ : { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ } وَقَوْلِهِ : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } { وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . وَإِذَا كَانَ الَّذِي قَدْ يَهْجُرُ السَّيِّئَاتِ يَغُضُّ بَصَرَهُ وَيَحْفَظُ فَرْجَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ مِنْ النُّورِ وَالْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَالْعِزَّةِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَمَا ظَنُّك بِاَلَّذِي لَمْ يَحُمْ حَوْلَ السَّيِّئَاتِ وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفَهُ قَطُّ وَلَمْ تُحَدِّثْهُ نَفْسُهُ بِهَا بَلْ هُوَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَهْلَهَا لِيَتْرُكُوا السَّيِّئَاتِ ؟ فَهَلْ هَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ ؛ بَلْ هَذَا لَهُ مِنْ النُّورِ وَالْإِيمَانِ وَالْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالسُّلْطَانِ وَالنَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ ذَاكَ وَحَالُهُ أَعْظَمُ وَأَعْلَى وَنُورُهُ أَتَمُّ وَأَقْوَى فَإِنَّ السَّيِّئَاتِ تَهْوَاهَا النُّفُوسُ وَيُزَيِّنُهَا الشَّيْطَانُ فَتَجْتَمِعُ فِيهَا الشُّبُهَاتُ وَالشَّهَوَاتُ . فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ قَدْ حَبَّبَ اللَّهُ إلَيْهِ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قَلْبِهِ وَكَرَّهَ
إلَيْهِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ حَتَّى يُعَوَّضَ عَنْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ بِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَعَنْ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ بِالنُّورِ وَالْهُدَى وَأَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ مَا أَيَّدَهُ بِهِ : حَيْثُ دَفَعَ بِالْعِلْمِ الْجَهْلَ وَبِإِرَادَةِ الْحَسَنَاتِ إرَادَةَ السَّيِّئَاتِ وَبِالْقُوَّةِ عَلَى الْخَيْرِ الْقُوَّةَ عَلَى الشَّرِّ فِي نَفْسِهِ فَقَطْ وَالْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطْلُبُ فِعْلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا حَتَّى يَدْفَعَ جَهْلَهُ بِالظُّلْمِ وَإِرَادَتَهُ السَّيِّئَاتِ بِإِرَادَةِ الْحَسَنَاتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالْجِهَادُ تَمَامُ الْإِيمَانِ وَسَنَامُ الْعَمَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } الْآيَةُ وَقَالَ { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ } الْآيَةُ فَكَذَلِكَ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ فِي حَقِّ الْمُجَاهِدِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } فَهَذَا فِي الْعِلْمِ وَالنُّورِ وَقَالَ : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } فَقَتْلُ النُّفُوسِ هُوَ قَتْلُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَهُوَ مِنْ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجُ مِنْ دِيَارِهِمْ هُوَ الْهِجْرَةُ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ إذَا فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا فَفِي الْآيَةِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ : الْخَيْرُ الْمُطْلَقُ وَالتَّثْبِيتُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْقُوَّةِ وَالْمُكْنَةِ وَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ وَهِدَايَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } وَقَالَ : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ
مَنْ يَنْصُرُهُ } إلَى قَوْلِهِ : { عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } وَقَالَ : { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } . وَأَمَّا أَهْلُ الْفَوَاحِشِ الَّذِينَ لَا يَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ وَلَا يَحْفَظُونَ فُرُوجَهُمْ فَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِضِدِّ ذَلِكَ : مِنْ السَّكْرَةِ وَالْعَمَهِ وَالْجَهَالَةِ وَعَدَمِ الْعَقْلِ وَعَدَمِ الرُّشْدِ وَالْبُغْضِ وَطَمْسِ الْأَبْصَارِ هَذَا مَعَ مَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنْ الْخُبْثِ وَالْفُسُوقِ وَالْعُدْوَانِ وَالْإِسْرَافِ وَالسُّوءِ وَالْفُحْشِ وَالْفَسَادِ وَالْإِجْرَامِ فَقَالَ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } فَوَصَفَهُمْ بِالْجَهْلِ وَقَالَ : { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وَقَالَ : { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } وَقَالَ : { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } وَقَالَ : { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ } وَقَالَ : { فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } وَقَالَ : { إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } وَقَالَ : { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } إلَى قَوْلِهِ : { انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } وَقَوْلُهُ : { مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } .
فَصْلٌ :
فِي قَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ : { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ : مِنْهَا أَنَّ أَمْرَهُ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوْبَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مُؤْمِنٌ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ : تَرْكُ غَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ وَتَرْكُ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ كَمَا فِي الْحَدِيثِ : { مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَّا أَخْطَأَ أَوْ هَمَّ بِخَطِيئَةِ إلَّا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا } وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ نَظَرٍ وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ . } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " مَا رَأَيْت شَيْئًا أَشْبَهُ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ } الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ . وَفِيهِ : { وَالنَّفْسُ
تَتَمَنَّى ذَلِكَ وَتَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا يُدْرِكُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ : الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدَانِ زِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرَّجُلَانِ زِنَاهُمَا الْخُطَى وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ } وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثًا وَاسْتَغْرَبَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ { إلَّا اللَّمَمَ } { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ تَغْفِرْ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمًّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَك لَا أَلَمَّا . } وَمِنْهَا أَنَّ أَهْلَ الْفَوَاحِشِ الَّذِينَ لَمْ يَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ وَلَمْ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالتَّوْبَةِ وَإِنَّمَا أُمِرُوا بِهَا لِتُقْبَلَ مِنْهُمْ فَالتَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ مِنْهُمْ وَمِنْ سَائِرِ الْمُذْنِبِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْفَوَاحِشُ مُغَلَّظَةً لِشِدَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا - كَإِتْيَانِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ - وَسَوَاءٌ تَابَ الْفَاعِلُ أَوْ الْمَفْعُولُ بِهِ فَمَنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ إذَا رَأَوْا مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ شَيْئًا أَيَّسُوهُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
حَتَّى يَقُولَ أَحَدُهُمْ : مَنْ عَمِلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَا يُفْلِحُ أَبَدًا وَلَا يَرْجُونَ لَهُ قَبُولَ تَوْبَةٍ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : مِنَّا كَذَا وَمِنَّا كَذَا وَالْمَعْفُوجُ لَيْسَ مِنَّا وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا لَا يَعُودُ صَالِحًا وَلَوْ تَابَ مَعَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا مُقِرًّا بِتَحْرِيمِ مَا فَعَلَ . وَيُدْخِلُونَ فِي ذَلِكَ مَنْ اُسْتُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْفَوَاحِشِ وَيَقُولُونَ : لَوْ كَانَ لِهَذَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مَا سَلَّطَ عَلَيْهِ مَنْ فَعَلَ بِهِ مِثْلَ هَذَا وَاسْتَكْرَهَهُ كَمَا يُفْعَلُ بِكَثِيرِ مِنْ الْمَمَالِيكِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَكَمَا يُفْعَلُ بِأُجَرَاءِ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَكَذَلِكَ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ صِبْيَانِ الْكَتَاتِيبِ وَغَيْرِهِمْ وَنَسُوا قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَهَؤُلَاءِ قَدْ لَا يَعْلَمُونَ صُورَةَ التَّوْبَةِ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا حَالًا وَعَمَلًا لِأَحَدِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ اعْتِقَادًا فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الضَّلَالِ وَالْغَيِّ ؛ فَإِنَّ الْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَالُهُمْ مُقَابِلٌ لِحَالِ مُسْتَحِلِّي الْفَوَاحِشِ ؛ فَإِنَّ هَذَا أَمِنَ مَكْرَ اللَّهِ بِأَهْلِهَا وَذَاكَ قَنَّطَ أَهْلَهَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ؛ وَالْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ هُوَ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ . وَهَذَا فِي أَصْلِ الذُّنُوبِ الْإِرَادِيَّةِ نَظِيرُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ
فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَعْتَقِدُ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ فَيَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ تَوْبَةَ الْمُبْتَدِعِ لَا تُقْبَلُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ : أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَد وَالْمُقَفَّى وَالْحَاشِرُ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ وَأَنَا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ } وَذَلِكَ أَنَّهُ بُعِثَ بِالْمَلْحَمَةِ وَهِيَ : الْمَقْتَلَةُ لِمَنْ عَصَاهُ وَبِالتَّوْبَةِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَبِالرَّحْمَةِ لِمَنْ صَدَّقَهُ وَاتَّبَعَهُ وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَكَانَ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَا يُؤْمَرُ بِقِتَالِ . وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْ أُمَمِهِمْ إذَا أَصَابَ بَعْضَ الذُّنُوبِ يَحْتَاجُ مَعَ التَّوْبَةِ إلَى عُقُوبَاتٍ شَدِيدَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ وَغَيْرِهِ : أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ إذَا أَصَابَ ذَنْبًا أَصْبَحَتْ الْخَطِيئَةُ وَالْكَفَّارَةُ مَكْتُوبَةٌ عَلَى بَابِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأُمَّةِ : { وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } فَخَصَّ الْفَاحِشَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ قَوْلِهِ { ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } وَالظُّلْمُ يَتَنَاوَلُ الْفَاحِشَةَ وَغَيْرَهَا تَحْقِيقًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ
مِنْ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ الْفَوَاحِشِ مُطْلَقًا : مِنْ الَّذِينَ يَأْتِيَانِهَا مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ تَابَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا } وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَالَ الشَّيْطَانُ وَعِزَّتِك يَا رَبِّ لَا أَبْرَحُ أُغْوِي بَنِي آدَمَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ فَقَالَ الرَّبُّ تَعَالَى : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي } وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْت لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْت لَك وَلَا أُبَالِي ابْنَ آدَمَ لَوْ لَقِيتنِي بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً . } وَاَلَّذِي يَمْنَعُ تَوْبَةَ أَحَدِ هَؤُلَاءِ إمَّا بِحَالِهِ وَإِمَّا بِقَالِهِ وَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَنْ يَقُولَ : إذَا تَابَ أَحَدُهُمْ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ وَإِمَّا أَنْ
يَقُولَ أَحَدُهُمْ : لَا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيَّ أَبَدًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَاطِلٌ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي تَوْبَةِ الْقَاتِلِ وَتَوْبَةِ الدَّاعِي إلَى الْبِدَعِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا نِزَاعٌ ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّمْثِيلِ وَالْبَيَانِ فِي " الْجَامِعِ " وَغَيْرِهِ وَتَكَلَّمُوا أَيْضًا فِي تَوْبَةِ الزِّنْدِيقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهُمْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي كَوْنِ التَّوْبَةِ فِي الظَّاهِرِ تَدْفَعُ الْعُقُوبَةَ : إمَّا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهَا وَإِمَّا لِكَوْنِهَا لَا تَمْنَعُ مَا وَجَبَ مِنْ الْحَدِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ الزِّنْدِيقَ وَنَحْوَهُ إذَا تَابَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَوْبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَتَقَبَّلْهَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الْقَاتِلُ وَالْمُضِلُّ فَذَاكَ لِأَجْلِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لَهَا حَالٌ آخَرُ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ الْكَلَامِ فِيهَا وَفِي تَفْصِيلِهَا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ أَنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَالْفَوَاحِشُ خُصُوصًا مَا عَلِمْت أَحَدًا نَازَعَ فِي التَّوْبَةِ مِنْهَا وَالزَّانِي وَالْمُزْنَى بِهِ مُشْتَرِكَانِ فِي ذَلِكَ إنْ تَابَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَيُبَيِّنُ التَّوْبَةَ خُصُوصًا مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْفَاحِشَةَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ دَعَاهُمْ جَمِيعَهُمْ إلَى تَقْوَى اللَّهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَلَوْ كَانَتْ تَوْبَةُ الْمَفْعُولِ بِهِ أَوْ غَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِمَا لَا يُقْبَلُ قَالَ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ } { إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ }
{ إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } فَأَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِتَوْبَتِهِمْ مِنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ لِلْفَاعِلِ فَإِنَّهُ إنَّمَا خُصَّ بِهِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الشَّهْوَةِ وَالطَّلَبِ فِي الْعَادَةِ ؛ بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ تُخْلَقْ فِيهِ شَهْوَةٌ لِذَلِكَ فِي الْأَصْلِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تَعْرِضُ لَهُ لِمَرَضِ طَارِئٍ أَوْ أَجْرٍ يَأْخُذُهُ مِنْ الْفَاعِلِ أَوْ لِغَرَضِ آخَرَ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
عَنْ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِكْرِ " زِنَا الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا " وَمَاذَا عَلَى الرَّجُلِ إذَا مَسَّ يَدَ الصَّبِيِّ الْأَمْرَدِ فَهَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ النِّسَاءِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ أَمْ لَا ؟ وَمَا عَلَى الرَّجُلِ إذَا جَاءَتْ إلَى عِنْدِهِ المردان وَمَدَّ يَدَهُ إلَى هَذَا وَهَذَا وَيَتَلَذَّذُ بِذَلِكَ وَمَا جَاءَ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ ؟ وَهَلْ هَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ : { إنَّ النَّظَرَ إلَى الْوَجْهِ الْمَلِيحِ عِبَادَةٌ } صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَالَ أَحَدٌ : أَنَا مَا أَنْظُرُ إلَى الْمَلِيحِ الْأَمْرَدِ لِأَجْلِ شَيْءٍ ؛ وَلَكِنِّي إذَا رَأَيْته قُلْت : سُبْحَانَ اللَّهِ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ صَوَابٌ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ . (*)
فَأَجَابَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ وَرَحِمَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ وَنَفَعَ بِعُلُومِهِ وَحَشَرَنَا فِي زُمْرَتِهِ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ كَمَسِّ النِّسَاءِ لِشَهْوَةِ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يُعْلَى فِي شَرْحِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . " وَالثَّانِي " أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ . وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فَإِنَّ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ يُفْسِدُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَفْسُدُ بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ كَالصِّيَامِ وَالْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَيُوجِبُ الْغُسْلَ كَمَا يُوجِبُهُ هَذَا ؛ فَتَكُونُ مُقَدِّمَاتُ هَذَا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ كَمُقَدِّمَاتِ هَذَا فَلَوْ مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ كَمَا عَلَيْهِ لَوْ مَسَّ أَجْنَبِيَّةً لِشَهْوَةِ ؛ كَذَلِكَ إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ مَسَّ الْمَرْأَةَ لِشَهْوَةِ فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ . وَاَلَّذِي لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِمَسِّهِ يَقُولُ : إنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا لِذَلِكَ . فَيُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ لِذَلِكَ وَأَنَّ الْفَاحِشَةَ اللُّوطِيَّةَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ لَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي بَعْضِ الْوَطْءِ فَلَوْ وَطِئَ فِي الدُّبُرِ تَعَلَّقَ بِهِ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ كَانَ الدُّبُرُ لَمْ يُخْلَقْ مَحَلًّا
لِلْوَطْءِ مَعَ أَنَّ نُفْرَةَ الطِّبَاعِ عَنْ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ أَعْظَمُ مِنْ نُفْرَتِهَا عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَنَقْضُ الْوُضُوءِ بِاللَّمْسِ يُرَاعَى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسُّ لِشَهْوَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ - كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا - يُرَاعَى كَمَا يُرَاعَى مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَحَيْثُ وُجِدَ اللَّمْسُ لِشَهْوَةِ تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ حَتَّى لَوْ مَسَّ بِنْتِهِ وَأُخْتَه وَأُمَّهُ لِشَهْوَةِ انْتَقَضَ وَضَوْءُهُ ؛ فَكَذَلِكَ مِنْ الْأَمْرَدِ . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ فَيُعْتَبَرُ الْمَظِنَّةُ وَهُوَ أَنَّ النِّسَاءَ مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ سَوَاءٌ كَانَ بِشَهْوَةِ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ مَسُّ الْمَحَارِمِ ؛ لَكِنَّ لَوْ مَسَّ ذَوَاتَ مَحَارِمِهِ لِشَهْوَةِ فَقَدْ وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْحِكْمَةِ . وَكَذَلِكَ إذَا مَسَّ الْأَمْرَدَ لِشَهْوَةِ وَالتَّلَذُّذُ بِمَسِّ الْأَمْرَدِ - كَمُصَافَحَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ - كَمَا يَحْرُمُ التَّلَذُّذُ بِمَسِّ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَمَا أَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ اللُّوطِيِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَيَجِبُ قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَمِلَ بِهِ أَصْحَابُهُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ وَقَتْلُهُ بِالرَّجْمِ كَمَا قَتَلَ اللَّهُ قَوْمَ لُوطٍ ؛ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ فِي قَتْلِ الزَّانِي أَنَّهُ بِالرَّجْمِ ؛ { فَرَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ والغامدية وَالْيَهُودِيِّينَ
وَالْمَرْأَةَ الَّتِي أَرْسَلَ إلَيْهَا أَنِيسًا وَقَالَ : اذْهَبْ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا فَرَجَمَهَا } .
وَالنَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةِ كَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِالشَّهْوَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ الشَّهْوَةُ شَهْوَةَ الْوَطْءِ أَوْ كَانَتْ شَهْوَةَ التَّلَذُّذِ بِالنَّظَرِ كَمَا يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ كَانَ مَعْلُومًا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ فَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ عِبَادَةٌ كَقَوْلِهِ : إنَّ النَّظَرَ إلَى وُجُوهِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ وَالنَّظَرَ إلَى مَحَارِمِ الرَّجُلِ كَبِنْتِ الرَّجُلِ وَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ عِبَادَةٌ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ جَعَلَ هَذَا النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ عِبَادَةً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ الْفَوَاحِشَ عِبَادَةً . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي صُوَرِ النِّسَاءِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْخَالِقِ مِنْ جِنْسِ مَا فِي صُوَرِ المردان فَهَلْ يَقُولُ مُسْلِمٌ : إنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَنْظُرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَى صُوَرِ النِّسَاءِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَصُوَرِ مَحَارِمِهِ . وَيَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ عِبَادَةٌ ؛ بَلْ مَنْ جَعَلَ مِثْلَ هَذَا
النَّظَرِ عِبَادَةً فَإِنَّهُ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ جَعَلَ إعَانَةَ طَالِبِ الْفَاحِشَةِ عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ تَنَاوُلَ يَسِيرِ الْخَمْرِ عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ السُّكْرَ مِنْ الْحَشِيشَةِ عِبَادَةً ؛ فَمَنْ جَعَلَ الْمُعَاوَنَةَ بِقِيَادَةِ أَوْ غَيْرِهَا عِبَادَةً أَوْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ تَحْرِيمَهَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ عِبَادَةً : فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَهُوَ مُضَاهٍ بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَفَاحِشَةُ أُولَئِكَ إنَّمَا كَانَتْ طَوَافَهُمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَكَانُوا يَقُولُونَ : لَا نَطُوفُ فِي الثِّيَابِ الَّتِي عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا فَهَؤُلَاءِ إنَّمَا كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً عَلَى وَجْهِ اجْتِنَابِ ثِيَابِ الْمَعْصِيَةِ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ بِمَنْ جَعَلَ جِنْسَ الْفَاحِشَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشَّهْوَةِ عِبَادَةً . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِغَضِّ الْبَصَرِ . وَهُوَ نَوْعَانِ : غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ الْعَوْرَةِ . وَغَضُّهُ عَنْ مَحَلِّ الشَّهْوَةِ . فَالْأَوَّلُ : كَغَضِّ الرَّجُلِ بَصَرَهُ عَنْ عَوْرَةِ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ } وَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ كَمَا { قَالَ لمعاوية بْنِ حَيْدَةَ : احْفَظْ عَوْرَتَك إلَّا مِنْ زَوْجَتِك أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُك
قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا مَعَ قَوْمِهِ قَالَ : إنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا تُرِيهَا أَحَدًا فَلَا يَرَيْنَهَا قُلْت : فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا ؟ قَالَ : فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ } . وَيَجُوزُ كَشْفُهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ كَمَا تُكْشَفُ عِنْدَ التَّخَلِّي وَكَذَلِكَ إذَا اغْتَسَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ - بِحَيْثُ يَجِدُ مَا يَسْتُرُهُ - فَلَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ عريانا كَمَا اغْتَسَلَ مُوسَى عريانا وَأَيُّوبُ وَكَمَا فِي اغْتِسَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَاغْتِسَالِهِ فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ النَّظَرِ - كَالنَّظَرِ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ - فَهَذَا أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ الْخَمْرَ أَشَدُّ مِنْ الْمِيتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَعَلَى صَاحِبِهَا الْحَدُّ وَتِلْكَ الْمُحَرَّمَاتُ إذَا تَنَاوَلَهَا مُسْتَحِلًّا لَهَا كَانَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ لَا تَشْتَهِيهَا النُّفُوسُ كَمَا تَشْتَهِي الْخَمْرَ . وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ لَا يُشْتَهَى كَمَا يُشْتَهَى النَّظَرُ إلَى النِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ . وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِشَهْوَةِ . وَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ يُسَبَّحُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَخْلُوقَاتِهِ كُلِّهَا وَلَيْسَ خَلْقُ الْأَمْرَدِ بِأَعْجَبَ فِي قُدْرَتِهِ مِنْ خَلْقِ ذِي اللِّحْيَةِ ؛ وَلَا خَلْقُ النِّسَاءِ بِأَعْجَبَ فِي
قُدْرَتِهِ مِنْ خَلْقِ الرِّجَالِ ؛ فَتَخْصِيصُ الْإِنْسَانِ بِالتَّسْبِيحِ بِحَالِ نَظَرِهِ إلَى الْأَمْرَدِ دُونَ غَيْرِهِ كَتَخْصِيصِهِ بِالتَّسْبِيحِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ ؛ وَمَا ذَاكَ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ عِنْدَهُ ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّ الْجَمَالَ يُغَيِّرُ قَلْبَهُ وَعَقْلَهُ وَقَدْ يُذْهِلُهُ مَا رَآهُ فَيَكُونُ تَسْبِيحُهُ لِمَا حَصَلَ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْهَوَى كَمَا أَنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا رَأَيْنَ يُوسُفَ { أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إنْ هَذَا إلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } فَإِذَا كَانَ اللَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَى الصُّوَرِ وَالْأَمْوَالِ ؛ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ فَكَيْفَ يُفَضِّلُ الشَّخْصَ بِمَا لَمْ يُفَضِّلْهُ اللَّهُ بِهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } وَقَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } . فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تُعْجِبُ النَّاظِرَ أَجْسَامُهُمْ ؛ لِمَا فِيهِمْ مِنْ الْبَهَاءِ وَالرُّوَاءِ وَالزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَلَيْسُوا مِمَّنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ فَكَيْفَ بِمَنْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِشَهْوَةِ
وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَهُنَا الِاعْتِبَارُ بِقَلْبِهِ وَعَمَلِهِ لَا بِصُورَتِهِ وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصُّورَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُصَوِّرِ فَهَذَا حَسَنٌ . وَقَدْ يُنْظَرُ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ اسْتِحْسَانِ خَلْقِهِ كَمَا يُنْظَرُ إلَى الْخَيْلِ وَالْبَهَائِمِ وَكَمَا يُنْظَرُ إلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْأَزْهَارِ ؛ فَهَذَا أَيْضًا إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ اسْتِحْسَانِ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ فَهُوَ مَذْمُومٌ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } . وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقُصُ الدِّينَ وَإِنَّمَا فِيهِ رَاحَةُ النَّفْسِ فَقَطْ : كَالنَّظَرِ إلَى الْأَزْهَارِ فَهَذَا مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى الْحَقِّ . وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَتَى كَانَ مَعَهُ شَهْوَةٌ كَانَ حَرَامًا بِلَا رَيْبٍ سَوَاءٌ كَانَتْ شَهْوَةُ تَمَتُّعٍ بِالنَّظَرِ أَوْ كَانَ نَظَرًا بِشَهْوَةِ الْوَطْءِ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ نَظَرِهِ إلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَزْهَارِ وَمَا يَجِدُهُ عِنْدَ نَظَرِهِ إلَى النِّسْوَانِ والمردان . فَلِهَذَا الْفُرْقَانِ افْتَرَقَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فَصَارَ النَّظَرُ إلَى المردان ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : " أَحَدُهَا " مَا تَقْتَرِنُ بِهِ الشَّهْوَةُ . فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالِاتِّفَاقِ .
و " الثَّانِي " مَا يُجْزَمُ أَنَّهُ لَا شَهْوَةَ مَعَهُ . كَنَظَرِ الرَّجُلِ الْوَرِعِ إلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ وَابْنَتِهِ الْحَسَنَةِ وَأُمِّهِ الْحَسَنَةِ فَهَذَا لَا يَقْتَرِنُ بِهِ شَهْوَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ وَمَتَى اقْتَرَنَتْ بِهِ الشَّهْوَةُ حَرُمَ . وَعَلَى هَذَا نَظَرُ مَنْ لَا يَمِيلُ قَلْبُهُ إلَى المردان كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَكَالْأُمَمِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْفَاحِشَةَ فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُفَرِّقُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ نَظَرِهِ إلَى ابْنِهِ وَابْنِ جَارِهِ وَصَبِيٍّ أَجْنَبِيٍّ لَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ شَيْءٌ مِنْ الشَّهْوَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدْ ذَلِكَ وَهُوَ سَلِيمُ الْقَلْبِ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَتْ الْإِمَاءُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ مُنْكْشِفَاتٍ الرُّءُوسَ وَيَخْدِمْنَ الرِّجَالَ مَعَ سَلَامَةِ الْقُلُوبِ فَلَوْ أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتْرُكَ الْإِمَاءَ التُّرْكِيَّاتِ الْحِسَانَ يَمْشِينَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْبِلَادِ وَالْأَوْقَاتِ كَمَا كَانَ أُولَئِكَ الْإِمَاءُ يَمْشِينَ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْفَسَادِ . وَكَذَلِكَ المردان الْحِسَانُ . لَا يَصْلُحُ أَنْ يَخْرُجُوا فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزِقَّةِ الَّتِي يُخَافُ فِيهَا الْفِتْنَةُ بِهِمْ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَلَا يُمَكَّنُ الْأَمْرَدُ الْحَسَنُ مِنْ التَّبَرُّجِ وَلَا مِنْ الْجُلُوسِ فِي الْحَمَّامِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ ؛ وَلَا مِنْ رَقْصِهِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ فِتْنَةٌ لِلنَّاسِ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ كَذَلِكَ . وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي " الْقِسْمِ الثَّالِثِ " مِنْ النَّظَرِ وَهُوَ النَّظَرُ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ؛ لَكِنْ مَعَ خَوْفِ ثَوَرَانِهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ فِي