الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
يَكُونُوا يَذْهَبُونَ إلَى الْقَبْرِ . وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُمْ أَوْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى خَلْفَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ غَيْرِهِ يَقِفُ عِنْدَ الْحُجْرَةِ خَارِجًا مِنْهَا . وَأَمَّا دُخُولُ الْحُجْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ . فَإِذَا كَانُوا بَعْدَ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ يَفْعَلُونَ مَا سَنَّهُ لَهُمْ فِي الصَّلَاة وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَلَا يَذْهَبُونَ إلَى قَبْرِهِ فَكَيْفَ يَقْصِدُونَ أَنْ يُسَافِرُوا إلَيْهِ ؟ أَوْ يَقْصِدُونَ بِالسَّفَرِ إلَيْهِ دُونَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ ؟ وَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ فَلْيَنْقُلْ ذَلِكَ عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ إذَا نَقَلَهُ يَكُونُ قَائِلُهُ قَدْ خَالَفَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ كَمَا خَالَفَ فَاعِلُهُ فِعْلَ الْأُمَّةِ وَخَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعَ أَصْحَابِهِ وَعُلَمَاءَ أُمَّتِهِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . و { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى . } . وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ذَكَرُوا فِي مَنَاسِكِهِمْ اسْتِحْبَابَ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدِهِ وَذَكَرُوا زِيَارَةَ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ إنَّهُ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا زِيَارَةَ الْقَبْرِ يَكُونُ سَفَرُهُ مُسْتَحَبًّا . وَلَوْ قَالُوا ذَلِكَ فِي قَبْرِ غَيْرِهِ . لَكِنَّ هَذَا لَمْ يَقْصِدْهُ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَكُونُ عَارِفًا بِالشَّرِيعَةِ وَبِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهَى عَنْهُ وَغَايَتُهُ أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلِهِ
وَيَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ . وَأَمَّا مَنْ يَعْرِفُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ أَمَرَ بِالسَّفَرِ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قَبْرِ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِ نَبِيٍّ بَلْ صَرَّحَ أَكَابِرُهُمْ بِتَحْرِيمِ مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ . وَإِنَّمَا قَالَ إنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَتَنَازَعُوا حِينَئِذٍ فِيمَنْ سَافَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ هَلْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا ذَكَرَ فِي جَوَابِ الْفُتْيَا . وَبَعْضُهُمْ فَرَّقَ بَيْنَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ : إنَّ السَّفَرَ لِمُجَرَّدِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ مُحَرَّمٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَقَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْعَاصِيَ بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . فَعَلَى قَوْلِهِمْ لَا تُقْصَرُ الصَّلَاةُ ؛ لَكِنَّ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا مُحَرَّمٌ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ لَمْ يَفْعَلْهُ فَإِنَّهُ لَا غَرَضَ لِمُسْلِمِ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِالْمُحَرَّمِ . وَحِينَئِذٍ فَسَفَرُهُمْ الَّذِي لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إذَا قَصَرُوا فِيهِ الصَّلَاةَ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ كَمَا لَوْ سَافَرَ الرَّجُلُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ أَوْ سَمَاعِ الْحَدِيثِ مِنْ شَخْصٍ فَوَجَدَهُ كَذَّابًا أَوْ جَاهِلًا فَإِنَّ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي مِثْلِ هَذَا السَّفَرِ جَائِزٌ . وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُ أَحْمَد فِي السَّفَرِ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ هَلْ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ ؟ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ : قِيلَ : لَا يَقْصُرُ مُطْلَقًا .
وَقِيلَ : يَقْصُرُ مُطْلَقًا وَقِيلَ : لَا يَقْصُرُ إلَّا إلَى قَبْرِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقِيلَ : لَا يَقْصُرُ إلَّا إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ وَقُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ دُونَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ وَاَلَّذِينَ اسْتَثْنَوْا قَبْرَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِمْ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : - وَهُوَ الصَّحِيحُ - أَنَّ السَّفَرَ الْمَشْرُوعَ إلَيْهِ هُوَ السَّفَرُ إلَى مَسْجِدِهِ وَهَذَا السَّفَرُ تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَؤُلَاءِ رَأَوْا مُطْلَقَ السَّفَرِ وَلَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَ قَصْدٍ وَقَصْدٍ ؛ إذْ كَانَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلُّوا فِي مَسْجِدِهِ فَكُلُّ مَنْ سَافَرَ إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ فَقَدْ سَافَرَ إلَى مَسْجِدِهِ الْمُفَضَّلِ . وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ : فَمَنْ نَذَرَ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُوفِي بِنَذْرِهِ وَإِنْ نَذَرَ قَبْرَ غَيْرِهِ فَوَجْهَانِ . وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يُطْلِقُ السَّفَرَ إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ . وَعِنْدَهُمْ أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ ؛ إذْ كَانَ كُلُّ مُسْلِمٍ لَا بُدَّ إذَا أَتَى الْحُجْرَةَ الْمُكَرَّمَةَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِ ؛ فَهُمَا عِنْدَهُمْ مُتَلَازِمَانِ . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : الْمُسْلِمُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْصِدَ فِي ابْتِدَاءِ السَّفَرِ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ فَالسَّفَرُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَازِمٌ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُسَافِرُوا لِمُجَرَّدِ الْقَبْرِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ السَّفَرُ لِمُجَرَّدِ قَصْدِ الْقَبْرِ جَائِزٌ وَظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ لِخُصُوصِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ نَبِيًّا فَقَالَ : تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ : أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا السَّفَرِ
فَكُلُّ مَنْ سَافَرَ إلَى قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ لَا بُدَّ أَنْ تَحْصُلَ لَهُ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ يُثَابُ عَلَيْهَا بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ . وَأَمَّا نَفْسُ الْقَصْدِ فَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَقْصِدُونَ السَّفَرَ إلَى مَسْجِدِهِ وَإِنْ قَصَدَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَدَ السَّفَرَ إلَى الْقَبْرِ أَيْضًا - إذَا لَمْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَذَا فَقَدْ لَا يَقْصِدُ إلَّا السَّفَرَ إلَى الْقَبْرِ ثُمَّ إنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهِ فَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ . وَمَا فَعَلَهُ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَيَحْصُلُ لَهُ أَجْرٌ وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ ؛ بِخِلَافِ السَّفَرِ إلَى قَبْرِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ يُشْرَعُ السَّفَرُ إلَيْهِ ؛ لَكِنْ قَدْ يَفْعَلُ هَذَا طَاعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا وَيُغْفَرُ لَهُ مَا جَهِلَ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ . وَالصَّلَاةُ فِي الْمَسَاجِدِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا مُطْلَقًا ؛ بِخِلَافِ مَسْجِدِهِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ فَإِنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَكَانَ حُرْمَتُهُ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ قَبْلَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ فِيهِ حِينَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهِ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَالْعِبَادَةُ فِيهِ إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا بَقِيَ بَعْدَ إدْخَالِ الْحُجْرَةِ فِيهِ فَإِنَّهَا إنَّمَا أُدْخِلَتْ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ فِي إمَارَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ تَوَلَّى سَنَةَ بِضْعٍ وَثَمَانِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَوْنُهُ نَبِيًّا فَعَدَّى ذَلِكَ فَقَالُوا : يُسَافِرُ
إلَى سَائِرِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ كَذَلِكَ .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ النَّاسُ هَلْ يُحْلَفُ . بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يُحْلَفُ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ كَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَالْمَلَائِكَةِ . فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّهُ لَا يُحْلَفُ بِالنَّبِيِّ وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ كَمَا لَا يُحْلَفُ بِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ حَلَفَ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَحَنِثَ . فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاَللَّهِ } . وَقَالَ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } . وَفِي السُّنَنِ : { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } .وَعَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُحْلَفُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ خُصُوصًا وَيَجِبُ ذِكْرُهُ فِي الشَّهَادَتَيْنِ وَالْأَذَانِ . فَلِلْإِيمَانِ بِهِ اخْتِصَاصٌ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ . وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ : بَلْ هَذَا لِكَوْنِهِ نَبِيًّا . وَطُرِدَ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مَعَ أَنَّ الصَّوَابَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ سَلَفُهُمْ وَخَلَفُهُمْ أَنَّهُ لَا يُحْلَفُ بِمَخْلُوقِ لَا نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِ نَبِيٍّ وَلَا مَلَكٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مَلِكٍ مِنْ الْمُلُوكِ وَلَا شَيْخٍ مِنْ الشُّيُوخِ .
وَالنَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد كَمَا تَقَدَّمَ حَتَّى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عَبَّاسٍ وَغَيْرَهُمَا يَقُولُ أَحَدَهُمْ : لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ
أَحْلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ صَادِقًا . وَفِي لَفْظٍ : لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُضَاهِيَ . فَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ شِرْكٌ وَالشِّرْكُ أَعْظَمُ مِنْ الْكَذِبِ . وَغَايَةُ الْكَذِبِ أَنْ يُشَبَّهَ بِالشِّرْكِ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ } قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا . وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } { حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } وَهَذَا الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بَلْ الْمُحَرَّمُ - الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْيَمِينِ الْفَاجِرَةِ عِنْدَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ . وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ ؛ لَكِنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَهُوَ الْحَقُّ . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاة عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَعَنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ وَاِتِّخَاذِ قَبْرِهِ عِيدًا . وَنَهَى عَنْ السَّفَرِ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ . وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . فَهَذَا كُلُّهُ مُحَافَظَةً
عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَلَا يُعْبَدُ غَيْرُهُ وَلَا يُتَوَكَّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَلَا يُدْعَى إلَّا هُوَ وَلَا يُتَّقَى إلَّا هُوَ وَلَا يُصَلَّى وَلَا يُصَامُ إلَّا لَهُ وَلَا يُنْذَرُ إلَّا لَهُ وَلَا يُحْلَفُ إلَّا بِهِ وَلَا يُحَجُّ إلَّا إلَى بَيْتِهِ . فَالْحَجُّ الْوَاجِبُ لَيْسَ إلَّا إلَى أَفْضَلِ بُيُوتِهِ وَأَقْدَمِهَا وَهُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ . وَالسَّفَرُ الْمُسْتَحَبُّ لَيْسَ إلَّا إلَى مَسْجِدَيْنِ لِكَوْنِهِمَا بَنَاهُمَا نَبِيَّانِ . فَالْمَسْجِدُ النَّبَوِيُّ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ أَسَّسَهُ عَلَى التَّقْوَى خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ وَمَسْجِدُ إيليا قَدْ كَانَ مَسْجِدًا قَبْلَ سُلَيْمَانَ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلًا ؟ قَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ . قَالَ قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى . قُلْت : كَمْ بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ سَنَةً ثُمَّ حَيْثُ مَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَإِنَّهُ لَك مَسْجِدٌ } . وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ : { فَإِنَّ فِيهِ الْفَضْلَ } وَهَذِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ . فَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى كَانَ مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَكِنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَنَاهُ بِنَاءً عَظِيمًا . فَكُلٌّ مِنْ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ بَنَاهُ نَبِيٌّ كَرِيمٌ لِيُصَلِّيَ فِيهِ هُوَ وَالنَّاسُ . فَلَمَّا كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - تَقْصِدُ الصَّلَاةَ فِي هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ شُرِعَ السَّفَرُ إلَيْهِمَا لِلصَّلَاةِ فِيهِمَا وَالْعِبَادَةِ اقْتِدَاءً بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَتَأَسِّيًا بِهِمْ . كَمَا أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
لَمَّا بَنَى الْبَيْتَ وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ بِحَجِّهِ فَكَانُوا يُسَافِرُونَ إلَيْهِ مِنْ زَمَنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَى النَّاسِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ . كَمَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَفْرُوضًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ لَمَّا نَزَلَتْ " سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ " . وَفِي الْبَقَرَةِ أَمَرَ بِإِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لِمَنْ شَرَعَ فِيهِمَا ؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّطَوُّعُ بِهِمَا يُوجِبُ إتْمَامَهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ . وَقِيلَ إنَّ الْأَمْرَ بِالْإِتْمَامِ إيجَابٌ لَهُمَا ابْتِدَاءً وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ . فَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى وَمَسْجِدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَى كُلًّا مِنْهُمَا رَسُولٌ كَرِيمٌ وَدَعَا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ إلَيْهِمَا لِلْعِبَادَةِ فِيهِمَا . وَلَمْ يَبْنِ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَسْجِدًا وَدَعَا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ لِلْعِبَادَةِ فِيهِ إلَّا هَذِهِ الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ . وَلَكِنْ كَانَ لَهُمْ مَسَاجِدُ يُصَلُّونَ فِيهَا وَلَمْ يَدْعُوا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ إلَيْهَا كَمَا كَانَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُصَلِّي فِي مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا دَعَا النَّاسُ إلَى حَجَّ الْبَيْتِ . وَلَا دَعَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى السَّفَرِ إلَى قَبْرِهِ وَلَا بَيْتِهِ وَلَا مَقَامِهِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آثَارِهِ بَلْ هُمْ دَعَوْا إلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَهُمْ { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } .
وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ عَنْ مَوْضِعِهِ . وَأَمَّا سَائِرُ الْمَسَاجِدِ فَفَضِيلَتُهَا مِنْ أَنَّهَا مَسْجِدٌ لِلَّهِ وَبَيْتٌ يُصَلَّى فِيهِ وَهَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمَسَاجِدِ ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا تَكْثُرُ الْعِبَادَةُ فِيهِ أَوْ لِكَوْنِهِ أَعْتَقَ مِنْ غَيْرِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَزِيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي عَامَّةِ الْمَسَاجِدِ بَعْضُهَا أَكْثَرُ عِبَادَةً مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُهَا أعتق مِنْ بَعْضٍ . فَلَوْ شُرِعَ السَّفَرُ لِذَلِكَ لَسُوفِرَ إلَى عَامَّةِ الْمَسَاجِدِ .
وَالسَّفَرُ إلَى الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ حَجٌّ فَالْمُشْرِكُونَ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا يَحُجُّونَ إلَى اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَلِهَذَا لَمَّا { قَالَ الْحَبْرُ الَّذِي بَشَّرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَيَّةِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ : إنَّهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُ نَبِيٍّ يُبْعَثُ وَهُوَ مِنْ بَيْتٍ يَحُجُّهُ الْعَرَبُ . فَقَالَ أُمَيَّةُ : نَحْنُ مَعْشَرَ ثَقِيفٍ فِينَا بَيْتٌ يَحُجُّهُ الْعَرَبُ ؛ فَقَالَ الْحَبْرُ : إنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ إنَّهُ مِنْ إخْوَانِكُمْ مِنْ قُرَيْشٍ } . فَأَخْبَرَ أُمَيَّةَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَحُجُّ إلَى اللَّاتِ . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ هَذَا كَانَ رَجُلًا يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ وَيُطْعِمُهُمْ إيَّاهُ فَلَمَّا مَاتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ وَصَارَ وَثَنًا يُحَجُّ إلَيْهِ وَيُصَلَّى لَهُ وَيُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ } بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَانَتْ اللَّاتُ لِأَهْلِ الطَّائِفِ وَالْعُزَّى لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنَاةُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ . وَلِهَذَا { قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ لَمَّا جَعَلَ يَرْتَجِزُ فَقَالَ : اُعْلُ هُبَلَ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ قَالُوا : وَمَا نَقُولُ ؟ قَالَ : قُولُوا : اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ . فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : إنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ قَالُوا : وَمَا نَقُولُ ؟ قَالَ قُولُوا : اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ } . فَالسَّفَرُ إلَى الْبِقَاعِ الْمُعَظَّمَةِ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ يَحُجُّونَ إلَى آلِهَتِهِمْ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجُّ إلَى اللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى . وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَحُجُّونَ إلَى الْبَيْتِ وَيَطُوفُونَ بِهِ وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتِ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا تَارَةً يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَتَارَةً يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ . وَكَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ : لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا ملك . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ } يَقُولُ تَعَالَى : إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكًا لَهُ مِثْلَ نَفْسِهِ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ مَمْلُوكِي شَرِيكًا لِي ؟ وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ وَسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَلِهَذَا جُعِلَ الشِّرْكُ بِالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ كُفْرًا فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } . وَذَمَّ النَّصَارَى عَلَى شِرْكِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى :
{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وَالْمُشْرِكُونَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنْ الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ يَحُجُّونَ إلَى آلِهَتِهِمْ كَمَا يَحُجُّونَ إلَى سمناة وَغَيْرِهِ مِنْ آلِهَتِهِمْ . وَكَذَلِكَ النَّصَارَى يَحُجُّونَ إلَى قُمَامَةَ وَبَيْتِ لَحْمٍ وَيَحُجُّونَ إلَى الْقَوْنَة الَّتِي بصيدنايا وَالْقَوْنَة الصُّورَةُ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَنَائِسِهِمْ الَّتِي بِهَا الصُّوَرُ الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا وَيَدْعُونَهَا وَيَسْتَشْفِعُونَ بِهَا . وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ أبرهة مَلِكَ الْحَبَشَةِ الَّذِي سَاقَ الْفِيلَ إلَى مَكَّةَ لِيَهْدِمَهَا حِينَ اسْتَوْلَتْ الْحَبَشَةُ عَلَى الْيَمَنِ وَقَهَرُوا الْعَرَبَ . ثُمَّ بَعْدَ هَذَا وَفَدَ سَيْفُ بْنُ ذِي يزن فَاسْتَنْجَدَ كِسْرَى مَلِكَ الْفُرْسِ فَأَنْجَدَهُ بِجَيْشِ حَتَّى أَخْرَجَ الْحَبَشَةَ عَنْهَا - وَهُوَ مِمَّنْ بَشَّرَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَانَتْ آيَةُ الْفِيلِ الَّتِي أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا حُرْمَةَ الْكَعْبَةِ لَمَّا أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ الطَّيْرَ الْأَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلِ أَيْ جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَالْحِجَارَةُ مِنْ سِجِّيلٍ طِينٌ قَدْ اسْتَحْجَرَ وَكَانَ عَامَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ مِنْ دَلَائِلَ نُبُوَّتِهِ وَأَعْلَامِ رِسَالَتِهِ وَدَلَائِلَ شَرِيعَتِهِ . وَالْبَيْتُ الَّذِي لَا يَحُجُّ وَلَا يُصَلِّي إلَيْهِ إلَّا هُوَ وَأُمَّتُهُ . قَالُوا : كَانَ أبرهة قَدْ بَنَى كَنِيسَةً بِأَرْضِ الْيَمَنِ وَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إلَيْهَا فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ فَأَحْدَثَ فِي الْكَنِيسَةِ فَغَضِبَ
لِذَلِك أبرهة وَسَافَرَ إلَى الْكَعْبَةِ لِيَهْدِمَهَا حَتَّى جَرَى مَا جَرَى . قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ } { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ } { تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ } { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسِّيَرِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ بَنَى كَنِيسَةً أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إلَيْهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا مَا يَفْعَلُهُ فِي كَنَائِسِ النَّصَارَى . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ إلَى الْكَنَائِسِ عِنْدَهُمْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُ يُسَمَّى حَجًّا وَيُضَاهَى بِهِ الْبَيْتُ الْحَرَامُ وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ أَنْ يَجْعَلَ بُقْعَةً لِلْعِبَادَةِ فِيهَا كَمَا يُسَافِرُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ قَصَدَ مَا هُوَ عِبَادَةٌ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَحُجَّ أَحَدٌ أَوْ يُسَافِرَ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَالْحَجُّ الْوَاجِبُ الَّذِي يُسَمَّى عِنْدَ الْإِطْلَاقِ حَجًّا إنَّمَا هُوَ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَاصَّةً . وَالسَّفَرُ إلَى بُقْعَةٍ لِلْعِبَادَةِ فِيهَا هُوَ إلَى الْمَسْجِدَيْنِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَسْفَارِ إلَى مَكَانٍ مُعَظَّمٍ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْحَجِّ إلَيْهِ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ { أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا اجْتَمَعَ بِأُمَيَّةِ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيِّ وَذَكَرَ عَنْ عَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِقُرْبِ نَبِيٍّ يُبْعَثُ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ أُمَيَّةُ : قُلْت نَحْنُ مِنْ الْعَرَبِ . قَالَ : إنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَحُجُّهُ الْعَرَبُ قَالَ فَقُلْت : نَحْنُ مَعْشَرَ ثَقِيفٍ فِينَا بَيْتٌ يَحُجُّهُ الْعَرَبُ
قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ إنَّهُ مِنْ إخْوَانِكُمْ قُرَيْشٍ } . كَمَا تَقَدَّمَ . وَثَقِيفٌ كَانَ فِيهِمْ اللَّاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } { وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى } { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى } وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهَا مَكَانُ رَجُلٍ كَانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ وَيَسْقِيهِ لِلْحُجَّاجِ فَلَمَّا مَاتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ وَصَارَ ذَلِكَ وَثَنًا عَظِيمًا يُعْبَدُ وَالسَّفَرُ إلَيْهِ كَانُوا يُسَمُّونَهُ حَجًّا كَمَا تَقَدَّمَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ إلَى الْمَشَاهِدِ حَجٌّ إلَيْهَا كَمَا يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْعَامَّةِ : وَحَقُّ النَّبِيِّ الَّذِي تَحُجُّ الْمَطَايَا إلَيْهِ . قَالَ عَبْدُ بْنُ حميد فِي تَفْسِيرِهِ : حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : { أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى } قَالَ : كَانَ رَجُلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ فَمَاتَ فَاُتُّخِذَ قَبْرُهُ مُصَلًّى . وَقَالَ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " اللَّاتُ " رَجُلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحُجَّاجِ . وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ يَلُتُّ السَّوِيقَ عَلَى الْحَجَرِ فَلَا يَشْرَبُ مِنْهُ أَحَدٌ إلَّا سَمِنَ فَعَبَدُوهُ . وَرُوِيَ عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ : كَانَ مُجَاهِدٌ يَقْرَأُ " اللَّاتَّ " مُثَقَّلَةً وَيَقُولُ : كَانَ رَجُلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ عَلَى صَخْرَةٍ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ وَيُطْعِمُهُ النَّاسَ فَمَاتَ فَقُبِرَ فَعَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ . وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ قَالَ : " اللَّاتُ " حَجَرٌ كَانَ يُلَتُّ السَّوِيقُ عَلَيْهِ فَسُمِّيَ " اللَّاتَ " . وَقَالَ :
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ السدي عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ : " اللَّاتُ " الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَى آلِهَتِهِمْ وَكَانَ يَلُتُّ لَهُمْ السَّوِيقَ " وَالْعُزَّى " نَخْلَةٌ كَانُوا يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا السُّتُورَ وَالْعِهْنَ " وَمَنَاةُ " حَجَرٌ بِقَدِيدِ . وَقَدْ قَرَأَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ اللَّاتَّ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ . وَقِيلَ إنَّهَا اسْمٌ مَعْدُولٌ عَنْ عَنْ اسْمِ اللَّهِ . قَالَ الخطابي : الْمُشْرِكُونَ يَتَعَاطَوْنَ اللَّهَ اسْمًا لِبَعْضِ أَصْنَامِهِمْ فَصَرَفَهُ اللَّهُ إلَى اللَّاتِ صِيَانَةً لِهَذَا الِاسْمِ وَذَبًّا عَنْهُ . قُلْت : وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَالْقِرَاءَتَيْنِ فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ يَلُتُّ السَّوِيقَ عَلَى حَجَرٍ وَعَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ وَسَمُّوهُ بِهَذَا الِاسْمِ وَخَفَّفُوهُ وَقَصَدُوا أَنْ يَقُولُوا هُوَ الْإِلَهُ كَمَا كَانُوا يُسَمُّونَ الْأَصْنَامَ آلِهَةً فَاجْتَمَعَ فِي الِاسْمِ هَذَا وَهَذَا . وَكَانَتْ " اللَّاتُ " لِأَهْلِ الطَّائِفِ وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا " الرَّبَّةَ " " وَالْعُزَّى " لِأَهْلِ مَكَّةَ . وَلِهَذَا { قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ : إنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ فَقَالُوا : مَا نَقُولُ ؟ قَالَ قُولُوا : اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ } الْحَدِيثُ وَقَدْ تَقَدَّمَ . وَكَانَتْ مَنَاةُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ . فَكُلُّ مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ أَهْلِ الْحِجَازِ كَانَ لَهَا طَاغُوتٌ تَحُجُّ إلَيْهِ وَتَتَّخِذُهُ شَفِيعًا وَتَعْبُدُهُ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ " الْعُزَّى " كَانَتْ لغطفان فَذَلِكَ لِأَنَّ غطفان كَانَتْ تَعْبُدُهَا وَهِيَ فِي جِهَتِهَا . وَأَهْلُ مَكَّةَ يَحُجُّونَ إلَيْهَا
فَإِنَّ الْعُزَّى كَانَتْ بِبَطْنِ نَخْلَةَ مِنْ نَاحِيَةِ عَرَفَاتٍ . وَمَعْلُومٌ بِالنُّقُولِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْعُزَّى . كَمَا عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ أَهْلَ الطَّائِفِ كَانَ لَهُمْ اللَّاتَ وَمَنَاةُ كَانَتْ حَذْوَ قَدِيدٍ كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُهِلُّونَ لَهَا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى مِنْ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ كَانَتْ أَصْنَامًا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ مِنْ حِجَارَةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْكَعْبَة " هُبَلُ " الَّذِي ارْتَجَزَ لَهُ { أَبُو سُفْيَانُ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ : اُعْلُ هُبَلَ اُعْلُ هُبَلَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تُجِيبُوهُ ؟ قَالُوا : وَمَا نَقُولُ ؟ قَالَ قُولُوا : اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ } . كَمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ . هَذَا وَكَانَ إساف وَنَائِلَةُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَكَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا . وَهَذِهِ الْأَسْمَاءُ الثَّلَاثَةُ مُؤَنَّثَةٌ : اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَقَدْ قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْت : فِينَا بَيْتٌ يَحُجُّهُ الْعَرَبُ وَأَبُو سُفْيَانَ يُوَافِقُهُ عَلَى ذَلِكَ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبِقَاعَ الَّتِي يُسَافَرُ إلَيْهَا فَالسَّفَرُ إلَيْهَا حَجٌّ وَالْحَجُّ نُسُكٌ وَهُوَ حَجٌّ إلَى غَيْرِ بَيْتِ اللَّهِ وَنُسُكٌ لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا أَنَّ الدُّعَاءَ لَهَا صَلَاةٌ لِغَيْرِ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } فَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ وَنُسُكُهُ لِلَّهِ فَمَنْ سَافَرَ إلَى بُقْعَةٍ غَيْرِ بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي يُشْرَعُ السَّفَرُ إلَيْهَا وَدَعَا غَيْرَ اللَّهِ فَقَدْ جَعَلَ نُسُكَهُ وَصَلَاتَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ السَّفَرِ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ ؛ إذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ خَاصِّيَّةٌ تَسْتَحِقُّ السَّفَرَ إلَيْهِ وَلَا شَرَعَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ السَّفَرَ إلَيْهِ بِخِلَافِ الثَّلَاثَةِ فَإِنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ مِنْهَا بَنَاهُ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَدَعَا النَّاسَ إلَى السَّفَرِ إلَيْهِ فَلَهَا خَصَائِصُ لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا . فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ إلَى بُيُوتِ اللَّهِ غَيْرَ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ بِمَشْرُوعِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ بَلْ قَدْ نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ بِالسَّفَرِ إلَى بُيُوتِ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ تُتَّخَذُ قُبُورُهُمْ مَسَاجِدُ وَأَوْثَانًا وَأَعْيَادًا وَيُشْرَكُ بِهَا وَتُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِنْ مُعَظِّمِيهَا يُفَضِّلُ الْحَجَّ إلَيْهَا عَلَى الْحَجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ فَيَجْعَلُ الشِّرْكَ وَعِبَادَةَ الْأَوْثَانِ أَفْضَلَ مِنْ التَّوْحِيدِ وَعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا } { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا إنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا } { لَعَنَهُ اللَّهُ } وَكَانَتْ لَهَا شَيَاطِينُ تُكَلِّمُهُمْ وَتَتَرَاءَى لَهُمْ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فِي كُلِّ
صَنَمٍ شَيْطَانٌ يَتَرَاءَى لِلسَّدَنَةِ وَيُكَلِّمُهُمْ . وَقَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ : مَعَ كُلِّ صَنَمٍ جِنِّيَّةٌ . وَقَدْ قِيلَ : الْإِنَاثُ هِيَ الْمَوَاتُ . وَعَنْ الْحَسَنِ : كُلُّ شَيْءٍ لَا رُوحَ فِيهِ كَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ فَهُوَ إنَاثٌ . قَالَ الزَّجَّاجُ : وَالْمَوَاتُ كُلُّهَا يُخْبَرُ عَنْهَا كَمَا يُخْبَرُ مِنْ الْمُؤَنَّثِ . فَتَقُولُ فِي ذَلِكَ : الْأَحْجَارُ تُعْجِبُنِي وَالدَّرَاهِمُ تَنْفَعُك . وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالْمَوَاتِ بَلْ كُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ . تَعَالَى يُجْمَعُ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ فَيُقَالُ : الْمَلَائِكَةُ وَيُقَالُ لِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ : آلِهَةٌ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } { إنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } هِيَ أَوْثَانٌ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ قَالَ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ . } فَالْآلِهَةُ الْمَعْبُودَةُ مَنْ دُونِ اللَّهِ كُلُّهَا بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَهِيَ
الْأَوْثَانُ الَّتِي تُتَّخَذُ مَنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ أَسْمَاءً مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ . وَأَيْضًا فَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ أَوْ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَرَوْنَهُمْ وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ تَمَاثِيلَ صَوَّرُوهَا عَلَى مِثَالِ صُوَرِهِمْ وَهِيَ مِنْ تُرَابٍ وَحَجَرٍ وَخَشَبٍ فَهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَوَاتَ . وَفِي الصَّحِيحِ - صَحِيحِ مُسْلِمٍ - عَنْ أَبِي الهياج الأسدي قَالَ : قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلَا أَبْعَثُك عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَعَثَنِي أَنْ لَا أَدَعَ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْته وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْته } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } وَجَمِيعُ الْأَمْوَاتِ لَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ . فَلَا يَعْلَمُ بِقِيَامِ السَّاعَةِ إلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ أَبُو بَكْرٍ
الصَّدِيقُ فَقَالَ : مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ . وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } وَكَأَنَّ النَّاسَ مَا سَمِعُوهَا حَتَّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ } فَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ إلَّا وَهُوَ يَتْلُوهَا . وَالنَّاسُ تَغِيبُ عَنْهُمْ مَعَانِي الْقُرْآنِ عِنْدَ الْحَوَادِثِ فَإِذَا ذُكِّرُوا بِهَا عَرَفُوهَا . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى } { تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } أَيْ قِسْمَةٌ جَائِرَةٌ عَوْجَاءُ إذْ تَجْعَلُونَ لَكُمْ مَا تُحِبُّونَ وَهُمْ الذُّكُورُ وَتَجْعَلُونَ لِي الْإِنَاثَ وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ : الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ حَيْثُ جَعَلُوا لَهُ أَوْلَادًا إنَاثًا وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُ أَحَدِهِمْ أُنْثَى . كَالنَّصَارَى الَّذِينَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ وَلَدًا وَيُجِلُّونَ الرَّاهِبَ الْكَبِيرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ . وَأَمَّا اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى } فَسَّرَهَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الْكَلْبِيُّ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : هَذِهِ الْأَصْنَامُ بَنَاتُ اللَّهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَامِ إنَّهَا بَنَاتُ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ عَنْ الْمَلَائِكَةِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى . بَعْدَ هَذَا : { إنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى } وَقَالَ : { وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } فَإِنَّ الْوَلَدَ يُمَاثِلُ أَبَاهُ وَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ يُمَاثِلُ شَرِيكَهُ فَهُمْ ضَرَبُوا الْإِنَاثَ مَثَلًا وَهُمْ جَعَلُوا هَذِهِ شُرَكَاءَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فَكَانُوا يَجْعَلُونَهَا أَنْدَادًا لِلَّهِ وَالشَّرِيكُ كَالْأَخِ فَجَعَلُوا لَهُ أَوْلَادًا إنَاثًا وَشُرَكَاءَ إنَاثًا فَجَعَلُوا لَهُ بَنَاتٍ وَأَخَوَاتٍ وَهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ لِأَحَدِهِمْ أُنْثَى لَا بِنْتٌ وَلَا أُخْتٌ ؛ بَلْ إذَا كَانَ الْأَبُ يَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ لَهُ بِنْتٌ فَالْأُخْتُ أَشَدُّ كَرَاهَةً لَهُ مِنْهَا . وَلَمْ يَكُونُوا يُورِثُونَ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ . فَتَبَيَّنَ فَرْطُ جَهْلِهِمْ وَظُلْمِهِمْ إذْ جَعَلُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ فَكَانَتْ أَنْفُسُهُمْ عِنْدَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ . وَهَذَا كَمَا ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا فَقَالَ تَعَالَى : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ تَعَالَى { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ
فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . فَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُ أَحَدِهِمْ شَرِيكَهُ وَقَدْ جَعَلُوا مَمْلُوكِي الرَّبِّ شُرَكَاءَ لَهُ فَجَعَلُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَمِنْ الْأَوْلَادِ : لَا يَرْضَوْنَ مَمْلُوكِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ وَقَدْ جَعَلُوهُمْ لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَلَا يَرْضَوْنَ مِنْ الْأَوْلَادِ بِالْإِنَاثِ فَلَا يَرْضَوْنَهَا وَلَدًا وَلَا نَظِيرًا وَهُمْ جَعَلُوا الْإِنَاثَ لِلَّهِ أَوْلَادًا وَنُظَرَاءَ . وَالنُّكْتَةُ أَنَّ اللَّهَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَعْلَى وَأَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُمْ قَدْ جَعَلُوا لِلَّهِ مَا لَا يَرْضَوْنَهُ لِأَنْفُسِهِمْ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِصِفَةِ يُنَزَّهُ عَنْهَا الْمَخْلُوقُ كَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ فَقِيرٌ وَإِنَّهُ بَخِيلٌ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ لَا يُوصَفُ إلَّا بِالسُّلُوبِ أَوْ لَا يُوصَفُ لَا بِسَلْبِ وَلَا إثْبَاتٍ . وَاَلَّذِينَ جَعَلُوا بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ مُمَاثِلَةً لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فِي عِبَادَةٍ لَهُ أَوْ دُعَاءٍ لَهُ أَوْ تَوَكُّلٍ عَلَيْهِ أَوْ حُبِّهَا مِثْلَ حُبِّهِ وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَفْعَلُ لَا لِحِكْمَةِ ؛ بَلْ عَبَثًا . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضَعَ الْأَشْيَاءُ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا فَيُعَاقِبُ خِيَارَ النَّاسِ وَيُكْرِمُ شِرَارَهُمْ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُحَبَّ غَيْرُهُ كَمَا يُحَبُّ هُوَ وَيُدْعَى وَيَسْأَلُ فَجَعَلُوا مَمْلُوكَهُ نِدًّا لَهُ . وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَالْقُرْآنُ مَلْآنُ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . فَلَا يُمَثَّلُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ إذْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَلَا فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالطَّاعَةِ وَالدُّعَاءِ وَسَائِرِ حُقُوقِهِ . قَالَ تَعَالَى : { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } فَلَا أَحَدَ يُسَامِيهِ . وَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُسَاوِيهِ فِي مَعْنَى شَيْءٍ مِنْ الْأَسْمَاءِ لَا فِي مَعْنَى الْحَيِّ وَلَا الْعَلِيمِ وَلَا الْقَدِيرِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَلَا فِي مَعْنَى الذَّاتِ وَالْمَوْجُودِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ وَلَا يَكُونُ إلَهًا وَلَا رَبًّا وَلَا خَالِقًا . فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يكافيه فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ : فَلَا يُسَاوِيهِ شَيْءٌ وَلَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ وَلَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ . قَالَ تَعَالَى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } { وَجُنُودُ إبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } { قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } { تَاللَّهِ إنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ } { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ السَّفَرَ إلَى الْأَمَاكِنِ الْمُعَظَّمَةِ - الْقُبُورِ وَغَيْرِهَا - عِنْدَ أَصْحَابِهِ كَالْحَجِّ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ هُوَ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين لَفْظًا وَمَعْنًى فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ مِنْ دُعَاءِ الْمَخْلُوقِ وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ نَظِيرَ مَا يَقْصِدُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دُعَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ ؛ لَكِنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَهُمْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ حَجًّا إلَيْهَا وَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَمُتَأَخِّرِيهِمْ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ يَحُجُّونَ إلَى الْمَشَاهِدِ وَقُبُورِ شُيُوخِهِمْ وَأَئِمَّتِهِمْ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ حَجًّا . وَيَقُولُ دَاعِيَتُهُمْ : السَّفَرُ إلَى الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وَيُظْهِرُونَ عَلَمًا لِلْحَجِّ إلَيْهِ وَمَعَهُ مُنَادٍ يُنَادِي إلَيْهِ كَمَا يَرْفَعُ الْمُسْلِمُونَ عَلَمًا لِلْحَجِّ لَكِنَّ دَاعِيَ أَهْلِ الْبِدَعِ يُنَادِي : السَّفَرُ إلَى الْحَجِّ الْأَكْبَرِ عَلَانِيَةً فِي مِثْلِ بَغْدَادَ يَعْنِي السَّفَرَ إلَى مَشْهَدٍ مِنْ الْمَشَاهِدِ فَيَجْعَلُونَ السَّفَرَ إلَى قَبْرِ بَعْضِ الْمَخْلُوقِينَ هُوَ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ وَالْحَجَّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ الْأَصْغَرُ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّتُهُمْ فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ . وَمِنْ جُهَّالِ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : وَحَقُّ النَّبِيِّ الَّذِي تَحُجُّ الْمَطَايَا إلَيْهِ . فَلَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُصَلُّونَ وَيَدْعُونَ الْمَخْلُوقَ وَيَحُجُّونَ إلَى قَبْرِهِ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
الْعَالَمِينَ } { لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ } . وقَوْله تَعَالَى { وَنُسُكِي } قَدْ ذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِهِ : الذَّبْحَ لِلَّهِ وَالْحَجَّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ . وَذَكَرُوا أَنَّ لَفْظَ النُّسُكِ يَتَنَاوَلُ الْعِبَادَةَ مُطْلَقًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ بَيَّنَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الذَّبْحَ وَالْحَجَّ كِلَاهُمَا مَنْسَكٌ : قَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَصَابَ النُّسُكَ وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ شَاةُ لَحْمٍ عَجَّلَهَا لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ } . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } فَأَرَى اللَّهُ إبْرَاهِيمَ وَابْنَهُ إسْمَاعِيلَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي تُقْصَدُ فِي الْحَجِّ وَالْأَفْعَالَ الَّتِي تُفْعَلُ هُنَاكَ : كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَالصَّلَاةُ تَتَنَاوَلُ الدُّعَاءَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ وَاَلَّذِي هُوَ بِمَعْنَى السُّؤَالِ . فَالصَّلَاةُ تَجْمَعُ هَذَا وَهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } فَقَدْ فُسِّرَ دُعَاؤُهُ بِسُؤَالِهِ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ : { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ } فَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ لِلَّهِ وَلَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ إلَّا لِلَّهِ ؛ لَا تُبْنَى عَلَى قَبْرِ مَخْلُوقٍ وَلَا مِنْ أَجْلِهِ وَلَا يُسَافَرُ إلَى بُيُوتِ الْمَخْلُوقِينَ . وَقَدْ نَهَى أَنْ يُحَجَّ وَيُسَافَرَ إلَى بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا تِلْكَ الْخَصَائِصُ . وَهَذَا وَنَحْوُهُ يُعْرَفُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ مِنْ بَعْدِهِ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ . وَلِهَذَا لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ إمَامٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَسْتَحِبُّ السَّفَرَ إلَى زِيَارَةِ قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ . وَمَنْ نَقَلَ ذَلِكَ فَلْيُخَرِّجْ نَقْلَهُ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْفُتْيَا إلَّا مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاؤُهُمْ فَالْمُخَالِفُ لِذَلِكَ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَشَرْعِهِمْ وَلِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ؛ وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَلِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا يُعْبَدُ بِمَا شَرَعَهُ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ لَا يُعْبَدُ بِمَا نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يَشْرَعْهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا . فَبَعَثَهُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين .
وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّا مَعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ الْأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعَلَّاتِ } . وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ عَنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَأَتْبَاعِ مُوسَى وَالْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ مُتَّفِقِينَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنْ يُعْبَدَ بِمَا أَمَرَ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يُعْبَدُ غَيْرُهُ وَلَا يُعْبَدُ هُوَ بِدِينِ لَمْ يَشْرَعْهُ . فَلَمَّا أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . ثُمَّ لَمَّا نُسِخَ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِاسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ كَانَ هَذَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَذَلِكَ الْمَنْسُوخُ لَيْسَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } فَلِلتَّوْرَاةِ شِرْعَةٌ وَلِلْإِنْجِيلِ شِرْعَةٌ وَلِلْقُرْآنِ شِرْعَةٌ . فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِشَرْعِ التَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ الَّذِي لَمْ يُبَدَّلْ وَلَمْ يُنْسَخْ فَهُوَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ كَاَلَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ بِلَا تَبْدِيلٍ قَبْلَ مَبْعَثِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاَلَّذِينَ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةِ الْإِنْجِيلِ بِلَا تَبْدِيلٍ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا مَنْ اتَّبَعَ دِينًا مُبَدِّلًا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ أَوْ دِينًا مَنْسُوخًا فَهَذَا قَدْ خَرَجَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَالْيَهُودِ الَّذِينَ بَدَّلُوا التَّوْرَاةَ كَذَّبُوا الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالنَّصَارَى الَّذِينَ بَدَّلُوا الْإِنْجِيلَ وَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا عَلَى
دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ بَلْ هُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمْ فِيمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ الْحَقِّ وَابْتَدَعُوهُ مِنْ الْبَاطِلِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ مُبْتَدِعٍ خَالَفَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَ بِبَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقِّ وَابْتَدَعَ مِنْ الْبَاطِلِ مَا لَمْ تَشْرَعْهُ الرُّسُلُ . فَالرَّسُولُ بَرِيءٌ مِمَّا ابْتَدَعَهُ وَخَالَفَهُ فِيهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَنَّهُمْ حَلَّلُوا وَحَرَّمُوا وَشَرَعُوا دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وَالسُّوَرُ الْمَكِّيَّةُ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الدِّينِ الْعَامَ الَّذِي بُعِثَ بِهِ جَمِيعُ الرُّسُلِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ الْمُرْسَلِينَ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ . وَأُمَّتُهُ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . وَقَدْ بَعَثَهُ اللَّهُ بِأَفْضَلِ الْكُتُبِ وَأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ . وَأَكْمَلَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ الدِّينَ . وَأَتَمَّ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ . وَرَضِيَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا . وَهُوَ قَدْ دَعَا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ } وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَتَّبِعَ
هَذَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَلَا نَعْدِلَ عَنْهُ إلَى السُّبُلِ الْمُبْتَدَعَةِ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } { وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ . ثُمَّ قَرَأَ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } } وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى بَيَّنَ الدِّينَ وَأَوْضَحَ السَّبِيلَ وَقَالَ : { تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ النَّقِيَّةِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَرَكْت مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَلَا مِنْ شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ } . وَقَالَ { إنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الدِّينِ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ أَوْ حَرَامٌ أَوْ مُبَاحٌ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ . وَمَا دَلَّا عَلَيْهِ . وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ حَقٌّ جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ؛ فَإِنَّ أُمَّتَهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ كَمَا أَخْبَرَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ أَجَارَكُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ أَنْ تَجْتَمِعُوا عَلَى ضَلَالَةٍ } . وَمَا تَنَازَعُوا فِيهِ رَدُّوهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَفْعَلُونَ فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ هَذَا حَدِيثٌ سَمِعَهُ أَوْ مَعْنًى فَهِمَهُ خَفِيَ عَلَى الْآخَرِ وَالْآخَرُ مَأْجُورٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ أَيْضًا . وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا خَفِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ اجْتِهَادِهِ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } . وَلَوْ صَلَّى أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ إذَا أَغْيَمَتْ السَّمَاءُ كُلٌّ بِاجْتِهَادِهِ فَكُلُّهُمْ مُطِيعٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ لَكِنَّ الَّذِي أَصَابَ جِهَةَ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ وَلَهُ أَجْرَانِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } فَأَثْنَى تَعَالَى عَلَى
النَّبِيِّينَ جَمِيعًا مَعَ أَنَّهُ خَصَّ أَحَدَهُمَا بِفَهْمِ تِلْكَ الْحُكُومَةِ . وَالدِّينُ كُلُّهُ مَأْخُوذٌ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لِأَحَدِ بَعْدَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مِنْ دِينِهِ شَيْئًا . هَذَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ . بِخِلَافِ النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ لِعُلَمَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ أَنْ يَشْرَعُوا شَرْعًا يُخَالِفُ شَرْعَ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَامَ فَأَطَاعُوهُمْ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَالَ فَأَطَاعُوهُمْ فَكَانَتْ تِلْكَ عِبَادَتَهُمْ إيَّاهُمْ } . وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي شَيْءٍ أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَاتِّبَاعٍ لِمَنْ قَبْلُهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الدِّينِ بِلَا عِلْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ السَّفَرُ إلَى الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى . بِخِلَافِ غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } .
وَتَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لَمْ يُنْسَخْ فَإِنَّ أَحَادِيثَ النَّسْخِ لَمْ يَرْوِهَا الْبُخَارِيُّ وَلَمْ تَشْتَهِرْ . وَلَمَّا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ . احْتَجَّ بِحَدِيثِ الْمَرْأَةِ الَّتِي بَكَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ . وَنَقَلَ ابْنُ بَطَّالٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لَزُرْت قَبْرَ ابْنِي . وَقَالَ النَّخَعِي : كَانُوا يَكْرَهُونَ زِيَارَةَ الْقُبُورِ وَعَنْ ابْنِ سِيرِين مِثْلُهُ . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَقَالَ ؛ قَدْ كَانَ نَهَى عَنْهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ أَذِنَ فِيهَا فَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ إنْسَانٌ وَلَمْ يَقُلْ إلَّا خَيْرًا لَمْ أَرَ بِذَلِكَ بَأْسًا وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُضَعِّفُ زِيَارَتَهَا . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى أَوَّلًا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . فَقِيلَ : لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الشِّرْكِ . وَقِيلَ لِأَجْلِ النِّيَاحَةِ عِنْدَهَا . وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَفَاخَرُونَ بِهَا . وَقَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } { حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَاثَرُونَ بِقُبُورِ الْمَوْتَى . وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ : وَهَذَا تَأْنِيبٌ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَيْ حَتَّى جَعَلْتُمْ أَشْغَالَكُمْ الْقَاطِعَةَ لَكُمْ عَنْ الْعِبَادَةِ وَالْعِلْمِ زِيَارَةَ الْقُبُورِ تَكَثُّرًا بِمَنْ سَلَفَ وَإِشَادَةً بِذِكْرِهِ . ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ
الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا } فَكَانَ نَهْيُهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ . ثُمَّ أَبَاحَ الزِّيَارَةَ بَعْدُ لِمَعْنَى الِاتِّعَاظِ لَا لِمَعْنَى الْمُبَاهَاةِ وَالتَّفَاخُرِ وَتَسْنِيمِهَا بِالْحِجَارَةِ الرُّخَامِ وَتَلْوِينِهَا سَرَفًا وَبُنْيَانِ النَّوَاوِيسِ عَلَيْهَا هَذَا لَفْظُ ابْنِ عَطِيَّةَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ . وَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالْمُقَيَّرِ . وَاخْتَلَفُوا هَلْ نُسِخَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : لَمْ يُنْسَخْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَحَادِيثَ النَّسْخِ لَيْسَتْ مَشْهُورَةً . وَلِهَذَا لَمْ يُخَرِّجْ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ مَا فِيهِ نَسْخٌ عَامٌّ . وَقَالَ الْآخَرُونَ : بَلْ نُسِخَ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : إنَّمَا نُسِخَ إلَى الْإِبَاحَةِ فَزِيَارَةُ الْقُبُورِ مُبَاحَةٌ لَا مُسْتَحَبَّةٌ . وَهَذَا قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد . قَالُوا : لِأَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ بَعْدَ الْحَظْرِ إنَّمَا تُفِيدُ الْإِبَاحَةَ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَكُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا } وَرُوِيَ { فَزُورُوهَا وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا } . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ لِمَا كَانَ يُقَالُ عِنْدَهَا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُنْكَرَةِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ كَالنَّهْيِ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ أَوَّلًا لِأَنَّ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ تَدِبُّ فِيهَا وَلَا يُدْرَى بِذَلِكَ فَيَشْرَبُ الشَّارِبُ الْخَمْرَ وَهُوَ لَا يَدْرِي .
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : زِيَارَةُ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَحَبَّةٌ لِلدُّعَاءِ لِلْمَوْتَى مَعَ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ { كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إلَى الْبَقِيعِ فَيَدْعُو لَهُمْ } . وَكَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ خَرَجَ إلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ فَصَلَّى عَلَيْهِمْ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَوْتَى كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ } . وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ . اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } . وَهَذَا فِي زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ . وَأَمَّا زِيَارَةُ قَبْرِ الْكَافِرِ فَرُخِّصَ فِيهَا لِأَجْلِ تِذْكَارِ الْآخِرَةِ وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { زَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ . وَقَالَ : اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي وَاسْتَأْذَنْته فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } . وَالْعُلَمَاءُ الْمُتَنَازِعُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَحْتَجُّ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ وَيَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ - فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ - وَقَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } .
وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ صَحِيحَةٌ بِاعْتِبَارِ ؛ فَإِنَّ الزِّيَارَةَ إذَا تَضَمَّنَتْ أَمْرًا مُحَرَّمًا : مِنْ شِرْكٍ أَوْ كَذِبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ نِيَاحَةٍ وَقَوْلِ هُجْرٍ : فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ كَزِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ وَالسَّاخِطِينَ لِحُكْمِ اللَّهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ زِيَارَتُهُمْ مُحَرَّمَةٌ . فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ دِينٌ إلَّا دِينُ الْإِسْلَامِ . وَهُوَ الِاسْتِسْلَامِ لِخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ . فَيُسَلِّمُ لِمَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَيُسَلِّمُ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُحِبُّهُ . وَهَذَا نَفْعَلُهُ وَنَدْعُو إلَيْهِ وَذَاكَ نُسَلِّمُهُ وَنَتَوَكَّلُ فِيهِ عَلَيْهِ . فَنَرْضَى بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا . وَنَقُولُ فِي صَلَاتِنَا : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } مِثْلَ قَوْله تَعَالَى { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } وقَوْله تَعَالَى { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
وَالنَّوْعُ الثَّانِي : زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِمُجَرَّدِ الْحُزْنِ عَلَى الْمَيِّتِ لِقَرَابَتِهِ أَوْ صَدَاقَتِهِ فَهَذِهِ مُبَاحَةٌ كَمَا يُبَاحُ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نِيَاحَةٍ . كَمَا { زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ وَقَالَ : زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ } . فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ كَانَ نَهَى عَنْهَا لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ مِنْ الْمُنْكَرِ فَلَمَّا عَرَفُوا الْإِسْلَامَ أَذِنَ فِيهَا لِأَنَّ فِيهَا مَصْلَحَةٌ وَهُوَ تَذَكُّرُ الْمَوْتِ . فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إذَا رَأَى قَرِيبَهُ وَهُوَ
مَقْبُورٌ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَاسْتَعَدَّ لِلْآخِرَةِ وَقَدْ يَحْصُلُ مِنْهُ جَزَعٌ فَيَتَعَارَضُ الْأَمْرَانِ . وَنَفْسُ الْحُزْنِ مُبَاحٌ إنْ قَصَدَ بِهِ طَاعَةً كَانَ طَاعَةً وَإِنْ عَمِلَ مَعْصِيَةً كَانَ مَعْصِيَةً . وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ : فَهُوَ زِيَارَتُهَا لِلدُّعَاءِ لَهَا كَالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ . فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ الَّذِي دَلَّتْ السُّنَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ مَا يَقُولُونَ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ . وَأَمَّا زِيَارَةُ قُبَاء فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَتَى الْمَدِينَةَ أَنْ يَأْتِيَ قُبَاء فَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِهَا . وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنْ يَأْتِيَ الْبَقِيعَ وَشُهَدَاءَ أُحُدٍ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ فَزِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ يُقْصَدُ فِيهَا الدُّعَاءُ لَهُمْ لَا يُقْصَدُ فِيهَا أَنْ يَدْعُوَ مَخْلُوقًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا يَجُوزَ أَنْ تُتَّخَذَ مَسَاجِدَ وَلَا تُقْصَدُ لِكَوْنِ الدُّعَاءِ عِنْدَهَا أَوْ بِهَا أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ . وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَائِزِ أَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الدُّعَاءِ لِلْمَوْتَى عِنْدَ قُبُورِهِمْ . وَهَذَا مَشْرُوعٌ بَلْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ مُتَوَاتِرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ جَاءَ إنْسَانٌ إلَى سَرِيرِ الْمَيِّتِ يَدْعُوهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ كَانَ هَذَا شِرْكًا مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَوْ نَدَبَهُ وَنَاحَ لَكَانَ أَيْضًا مُحَرَّمًا وَهُوَ دُونُ الْأَوَّلِ . فَمَنْ احْتَجَّ بِزِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ وَلِأَهْلِ
أُحُدٍ عَلَى الزِّيَارَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا أَهْلُ الشِّرْكِ وَأَهْلُ النِّيَاحَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ ضَلَالًا مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِصَلَاتِهِ عَلَى الْجِنَازَةِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ بِالْمَيِّتِ وَيُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيُنْدَبَ وَيُنَاحَ عَلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الَّذِي فَعَلَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عِبَادَةٌ لِلَّهِ وَطَاعَةٌ لَهُ يُثَابُ عَلَيْهِ الْفَاعِلُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ الْمَدْعُوُّ لَهُ وَيَرْضَى بِهِ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ - عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ مَا هُوَ شِرْكٌ بِاَللَّهِ وَإِيذَاءٌ لِلْمَيِّتِ وَظُلْمٌ مِنْ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ كَزِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْجَزَعِ الَّذِينَ لَا يُخْلِصُونَ لِلَّهِ الدِّينَ وَلَا يُسَلِّمُونَ لِمَا حَكَمَ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَكُلُّ زِيَارَةٍ تَتَضَمَّنُ فِعْلَ مَا نَهَى عَنْهُ وَتَرْكَ مَا أَمَرَ بِهِ - كَاَلَّتِي تَتَضَمَّنُ الْجَزَعَ وَقَوْلَ الْهُجْرِ وَتَرْكَ الصَّبْرِ أَوْ تَتَضَمَّنُ الشِّرْكَ وَدُعَاءَ غَيْرِ اللَّهِ وَتَرْكَ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ - فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا . وَهَذِهِ الثَّانِيَةُ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ الْأُولَى . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى إلَيْهَا بَلْ وَلَا عِنْدَهَا بَلْ ذَلِكَ مِمَّا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { لَا تُصَلُّوا إلَى الْقُبُورِ وَلَا تَجْلِسُوا عَلَيْهَا } رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . فَزِيَارَةُ الْقُبُورِ عَلَى وَجْهَيْنِ : وَجْهٌ نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهُوَ أَنْ نَتَّخِذَهَا مَسَاجِدَ وَنَتَّخِذَهَا وَثَنًا وَنَتَّخِذَهَا عِيدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُقْصَدَ لِلصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا أَنْ تُعْبَدَ كَمَا تُعْبَدُ الْأَوْثَانُ وَلَا أَنْ تُتَّخَذَ عِيدًا يُجْتَمَعُ إلَيْهَا فِي وَقْتٍ
مُعَيَّنٍ كَمَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ فِي عَرَفَةَ وَمِنًى . وَأَمَّا " الزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ " فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ . وَقِيلَ : مُبَاحَةٌ . وَقِيلَ : كُلُّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ . وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ نَحْمِلَ الْمُطْلَقَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَنُفَصِّلَ الزِّيَارَةَ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَمُبَاحٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَهُوَ الصَّوَابُ . قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ : لَا نَأْتِي إلَّا هَذِهِ الْآثَارَ : مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسْجِدَ قُبَاء وَأَهْلَ الْبَقِيعِ وَأُحُدٍ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ إلَّا هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ وَهَاتَيْنِ الْمَقْبَرَتَيْنِ كَانَ يُصَلِّي يَوْمَ الْجُمْعَةِ فِي مَسْجِدِهِ وَيَوْمَ السَّبْتِ يَذْهَبُ إلَى قُبَاء كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ } . وَأَمَّا أَحَادِيثُ النَّهْيِ فَكَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا : { لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَفِي لَفْظٍ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُولَئِكَ إذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ صَاحِبَةُ الْحُجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ قَدْ رَوَتْ أَحَادِيثَ هَذَا الْبَابِ مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجُنْدُبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } . رَوَاهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَالْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } . وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ اشْتَدَّ
غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَفِي سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَسَنِ بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - أَحَدُ الْأَشْرَافِ الحسنيين بَلْ أَجَلُّهُمْ قَدْرًا فِي عَصْرِ تَابِعِي التَّابِعِينَ فِي خِلَافَةِ الْمَنْصُورِ وَغَيْرِهِ - رَأَى رَجُلًا يُكْثِرُ الِاخْتِلَافَ إلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } . فَمَا أَنْتَ وَرَجُلٌ بِالْأَنْدَلُسِ إلَّا سَوَاءٌ . فَلَمَّا أَرَادَ الْأَئِمَّةُ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ طَلَبُوا مَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ مِنْ سُنَّتِهِ . فَاعْتَمَدَ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَعَنْ أَحْمَد أَخَذَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُد فَلَمْ يَذْكُرْ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثَ وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ " بَابَ زِيَارَةِ الْقَبْرِ " مَعَ أَنَّ دِلَالَةَ الْحَدِيثِ عَلَى الْمَقْصُودِ فِيهَا نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى كُلِّ مَا تُسَمِّيهِ النَّاسُ " زِيَارَةً " بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَيَبْقَى الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ فِيهِ : هَلْ هُوَ السَّلَامُ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا كَانَ مَنْ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ ؟ أَوْ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ خَارِجِ الْحُجْرَةِ . فَاَلَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِهِ جَعَلُوهُ مُتَنَاوِلًا لِهَذَا وَهَذَا
وَهُوَ غَايَةُ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ السَّلَامَ مِنْ الْقَرِيبِ وَتُبَلِّغُهُ الْمَلَائِكَةُ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ كَمَا فِي النَّسَائِي عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ } . وَفِي السُّنَنِ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ . قَالُوا : وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْك وَقَدْ أَرَمْت ؟ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ لُحُومَ الْأَنْبِيَاءِ } . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . وَذَكَرَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْتِي فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . وَفِي رِوَايَةٍ : كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ . رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ . وَعَلَى هَذَا اعْتَمَدَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا يُفْعَلُ عِنْدَ الْحُجْرَةِ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا أَثَرُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِثْلُ الْوُقُوفِ لِلدُّعَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَثْرَةِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَرِهَهُ مَالِكٌ وَقَالَ : هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَفْعَلْهَا السَّلَفُ . وَلَنْ يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . وَأَمَّا السَّفَرُ إلَى قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي الْإِسْلَامِ فِي زَمَنِ مَالِكٍ وَإِنَّمَا حَدَثَ هَذَا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ . قَرْنِ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ . فَأَمَّا هَذِهِ الْقُرُونُ الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا ظَاهِرًا فِيهَا وَلَكِنْ بَعْدَهَا ظَهَرَ الْإِفْكُ وَالشِّرْكُ . وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ سَائِلٌ لِمَالِكِ عَنْ رَجُلٍ نَذَرَ أَنْ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : إنْ كَانَ أَرَادَ الْمَسْجِدَ فَلْيَأْتِهِ وَلْيُصَلِّ فِيهِ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْقَبْرَ فَلَا يَفْعَلْ لِلْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ { لَا تُعْمَلُ الْمَطِيُّ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ } . وَكَذَلِكَ مَنْ يَزُورُ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِيَدْعُوَهُمْ أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُمْ الدُّعَاءَ أَوْ يَقْصِدَ الدُّعَاءَ عِنْدَهُمْ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إجَابَةً فِي ظَنِّهِ فَهَذَا لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ عَلَى عَهْدِ مَالِكٍ لَا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرِهِ . وَإِذَا كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يُطِيلَ الرَّجُلُ الْوُقُوفَ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلدُّعَاءِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَقْصِدُ لَا السَّلَامَ عَلَيْهِ وَلَا الدُّعَاءَ لَهُ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ دُعَاءَهُ وَطَلَبَ حَوَائِجِهِ مِنْهُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ عِنْدَهُ فَيُؤْذِي الرَّسُولَ وَيُشْرِكُ بِاَللَّهِ وَيَظْلِمُ نَفْسَهُ وَلَمْ يَعْتَمِدْ الْأَئِمَّةُ ؛ لَا الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوِيهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ . مِثْلَ مَا يَرْوُونَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ زَارَنِي فِي مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } وَمِنْ قَوْلِهِ : { مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَعْتَمِدْ
عَلَيْهَا . وَلَمْ يَرْوِهَا لَا أَهْلُ الصِّحَاحِ وَلَا أَهْلُ السُّنَنِ الَّتِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا كَأَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي . لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ مَوْضُوعَةٌ كَمَا قَدْ بَيَّنَ الْعُلَمَاءُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا . وَمَنْ زَارَهُ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِ وَالْوَاحِدُ بَعْدَهُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ . وَهُوَ إذَا أَتَى بِالْفَرَائِضِ لَا يَكُونُ مِثْلَ الصَّحَابَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلَهُمْ بِالنَّوَافِلِ أَوْ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَوْ بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ . وَكَرِهَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ : زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ هَذَا اللَّفْظَ . لِأَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تَأْتِ بِهِ فِي قَبْرِهِ . وَقَدْ ذَكَرُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ وُجُوهًا . وَرَخَّصَ غَيْرُهُ فِي هَذَا اللَّفْظِ لِلْأَحَادِيثِ الْعَامَّةِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ . وَمَالِكٌ يَسْتَحِبُّ مَا يَسْتَحِبُّهُ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّفَرِ إلَى الْمَدِينَةِ وَالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ وَكَذَلِكَ السَّلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ عِنْدَ قُبُورِهِمْ اتِّبَاعًا لِابْنِ عُمَرَ . وَمَالِكٌ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى التَّابِعِينَ الَّذِينَ رَأَوْا الصَّحَابَةَ بِالْمَدِينَةِ . وَلِهَذَا كَانَ يَسْتَحِبُّ اتِّبَاعَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ . وَيَكْرَهُ أَنْ يَبْتَدِعَ أَحَدٌ هُنَاكَ بِدْعَةً . فَكَرِهَ أَنْ يُطِيلَ الرَّجُلُ الْقِيَامَ وَالدُّعَاءَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ : وَكَرِهَ مَالِكٌ لِأَهْلِ الْمَدِينَة كُلَّمَا دَخَلَ إنْسَانٌ الْمَسْجِدَ أَنْ يَأْتِيَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ . قَالَ مَالِكٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ : وَلَنْ
يُصْلِحَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . بَلْ كَانُوا يَأْتُونَ إلَى مَسْجِدِهِ فَيُصَلُّونَ فِيهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةَ صَلَّوْا أَئِمَّةً فِي مَسْجِدِهِ وَالْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ خَلْفَهُمْ كَمَا كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ وَهُمْ يَقُولُونَ فِي الصَّلَاةِ : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ . ثُمَّ إذَا قَضَوْا الصَّلَاةَ قَعَدُوا أَوْ خَرَجُوا . وَلَمْ يَكُونُوا يَأْتُونَ الْقَبْرَ لِلسَّلَامِ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَهِيَ الْمَشْرُوعَةُ . وَأَمَّا دُخُولُهُمْ عِنْدَ قَبْرِهِ لِلصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ هُنَاكَ أَوْ الصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْرَعْهُ لَهُمْ بَلْ نَهَاهُمْ وَقَالَ : { لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي } فَبَيَّنَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ وَكَذَلِكَ السَّلَامُ . وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا . وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مَرَّةً سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا . كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ . وَتَخْصِيصُ الْحُجْرَةِ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ جَعَلَ لَهَا عِيدًا وَهُوَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَنَهَاهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ أَوْ قَبْرَ غَيْرِهِ مَسْجِدًا . وَلَعَنَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَحْذَرُوا أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ غَيْرَهُمْ مِنْ اللَّعْنَةِ . وَكَانَ أَصْحَابُهُ خَيْرُ الْقُرُونِ وَهُمْ أَعْلَمُ الْأُمَّةِ بِسُنَّتِهِ وَأَطْوَعُ الْأُمَّةِ لِأَمْرِهِ . وَكَانُوا إذَا دَخَلُوا إلَى مَسْجِدِهِ لَا يَذْهَبُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى قَبْرِهِ
لَا مِنْ دَاخِلِ الْحُجْرَةِ وَلَا مِنْ خَارِجِهَا . وَكَانَتْ الْحُجْرَةُ فِي زَمَانِهِمْ يُدْخَلُ إلَيْهَا مِنْ الْبَابِ إذْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهَا . وَبَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَنْ بُنِيَ الْحَائِطُ الْآخَرُ . وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى قَبْرِهِ لَا يَدْخُلُونَ إلَيْهِ ؛ لَا لِسَلَامِ وَلَا لِصَلَاةِ عَلَيْهِ وَلَا لِدُعَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِسُؤَالِ عَنْ حَدِيثٍ أَوْ عِلْمٍ وَلَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَطْمَعُ فِيهِمْ حَتَّى يُسْمِعَهُمْ كَلَامًا أَوْ سَلَامًا فَيَظُنُّونَ أَنَّهُ هُوَ كَلَّمَهُمْ وَأَفْتَاهُمْ وَبَيَّنَ لَهُمْ الْأَحَادِيثَ أَوْ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ السَّلَامَ بِصَوْتِ يُسْمَعُ مِنْ خَارِجٍ كَمَا طَمِعَ الشَّيْطَانُ فِي غَيْرِهِمْ فَأَضَلَّهُمْ عِنْدَ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ : حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ صَاحِبَ الْقَبْرِ يُحَدِّثُهُمْ وَيُفْتِيهِمْ وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي الظَّاهِرِ وَأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْقَبْرِ وَيَرَوْنَهُ خَارِجًا مِنْ الْقَبْرِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ نَفْسَ أَبْدَانِ الْمَوْتَى خَرَجَتْ مِنْ الْقَبْرِ تُكَلِّمُهُمْ وَأَنَّ رُوحَ الْمَيِّتِ تَجَسَّدَتْ لَهُمْ فَرَأَوْهَا كَمَا رَآهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا . فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . وَهُمْ تَلَقَّوْا الدِّينَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَا وَاسِطَةٍ . فَفَهِمُوا مِنْ مَقَاصِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَايَنُوا مِنْ أَفْعَالِهِ وَسَمِعُوا مِنْهُ شِفَاهًا مَا لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ . وَكَذَلِكَ كَانَ يَسْتَفِيدُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَهُمْ قَدْ فَارَقُوا جَمِيعَ أَهْلِ الْأَرْضِ وَعَادَوْهُمْ وَهَجَرُوا جَمِيعَ الطَّوَائِفِ وَأَدْيَانَهُمْ وَجَاهَدُوهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } . وَهَذَا قَالَهُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَمَّا تَشَاجَرَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ لِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ كَانَ مِنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَهُمْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلُوا وَهُوَ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَخَالِدُ هُوَ وَعَمْرُو بْنُ العاص وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ أَسْلَمُوا فِي مُدَّةِ الْهُدْنَةِ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ فَكَانُوا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ التَّابِعِينَ لَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ . وَأَمَّا الَّذِينَ أَسْلَمُوا عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ فَلَيْسُوا بِمُهَاجِرِينَ فَإِنَّهُ لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ بَلْ كَانَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُقَالُ لَهُمْ الطُّلَقَاءُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَهُمْ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِمْ عَنْوَةً كَمَا يُطْلَقُ الْأَسِيرُ . وَاَلَّذِينَ بَايَعُوهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ هُمْ وَمَنْ كَانَ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْحَبَشَةِ هَمّ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَفِي الصَّحِيحِ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ : أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ } . وَكُنَّا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ . وَلِهَذَا لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُمْ مَنْ الْإِضْلَالِ وَالْإِغْوَاءِ مَا نَالَهُ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَعْمَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ قَدْ تُنْكَرُ عَلَيْهِ . وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الْبِدَعِ الْمَشْهُورَةِ : كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة . بَلْ كُلُّ هَؤُلَاءِ إنَّمَا حَدَثُوا فِيمَنْ بَعْدَهُمْ . وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَتَرَاءَى لَهُ فِي صُورَةِ بَشَرٍ وَيَقُولَ : أَنَا الْخَضِرُ أَوْ أَنَا إبْرَاهِيمُ أَوْ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَوْ الْمَسِيحُ أَوْ أَنْ يُكَلِّمَهُ عِنْدَ قَبْرٍ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ صَاحِبَ الْقَبْرِ كَلَّمَهُ ؛ بَلْ هَذَا إنَّمَا نَالَهُ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ . وَنَالَهُ أَيْضًا مِنْ النَّصَارَى حَيْثُ أَتَاهُمْ بَعْدَ الصَّلْبِ وَقَالَ : أَنَا هُوَ الْمَسِيحُ وَهَذِهِ مَوَاضِعُ الْمَسَامِيرِ - وَلَا يَقُولُ : أَنَا شَيْطَانٌ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَكُونُ جَسَدًا - أَوْ كَمَا قَالَ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ النَّصَارَى فِي أَنَّهُ صُلِبَ ؛ لَا فِي مُشَاهَدَتِهِ ؛ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يُشَاهِدْ الصَّلْبَ وَإِنَّمَا حَضَرَهُ بَعْضُ الْيَهُودِ وَعَلِمُوا الْمَصْلُوبَ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ الْمَسِيحُ . وَلِهَذَا جَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا صَلَبُوهُ . لَكِنَّهُمْ قَصَدُوا هَذَا الْفِعْلَ وَفَرِحُوا بِهِ قَالَ تَعَالَى : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا } { وَقَوْلِهِمْ إنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ كَمَا أَضَلَّ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ أَوْ جَهِلُوا السُّنَّةَ أَوْ رَأَوْا وَسَمِعُوا أُمُورًا مِنْ الْخَوَارِقِ فَظَنُّوهَا مِنْ جِنْسِ آيَاتِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَكَانَتْ مِنْ أَفْعَالِ الشَّيَاطِينِ . كَمَا أَضَلَّ النَّصَارَى وَأَهْلَ الْبِدَعِ بِمِثْلِ ذَلِكَ . فَهُمْ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ وَيَدَعُونَ الْمُحْكَمَ . وَكَذَلِكَ يَتَمَسَّكُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ فَيَسْمَعُ وَيَرَى أُمُورًا فَيَظُنُّ أَنَّهُ رَحْمَانِيٌّ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانِيٌّ وَيَدَعُونَ الْبَيِّنَ الْحَقَّ الَّذِي لَا إجْمَالَ فِيهِ . وَكَذَلِكَ لَمْ يَطْمَعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ وَيُغِيثَ مَنْ اسْتَغَاثَ بِهِ . أَوْ أَنْ يَحْمِلَ إلَيْهِمْ صَوْتًا يُشْبِهُ صَوْتَهُ . لِأَنَّ الَّذِينَ رَأَوْهُ عَلِمُوا أَنَّ هَذَا شِرْكٌ لَا يَحِلُّ . وَلِهَذَا أَيْضًا لَمْ يَطْمَعْ فِيهِمْ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِأَصْحَابِهِ : إذَا كَانَتْ لَكُمْ حَاجَةٌ فَتَعَالَوْا إلَى قَبْرِي وَاسْتُغِيثُوا بِي لَا فِي مَحْيَاهُ وَلَا فِي مَمَاتِهِ كَمَا جَرَى مِثْلُ هَذَا لِكَثِيرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَلَا طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَهُمْ وَيَقُولَ : أَنَا مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ أَوْ مِنْ الْأَوْتَادِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ السَّبْعَةِ أَوْ الْأَرْبَعِينَ . أَوْ يَقُولَ لَهُ : أَنْتَ مِنْهُمْ . إذْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَلَا طَمِعَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَهُمْ فَيَقُولَ : أَنَا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ يُخَاطِبَهُ عِنْدَ الْقَبْرِ كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ عِنْدَ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ وَعِنْدَ غَيْرِ الْقُبُورِ . كَمَا يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ يَرَوْنَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ شُيُوخِهِمْ . فَأَهْلُ الْهِنْدِ يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ شُيُوخِهِمْ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ . وَالنَّصَارَى يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَوَارِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ . وَالضُّلَّالُ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ يَرَوْنَ مَنْ يُعَظِّمُونَهُ : إمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَإِمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَقَظَةً وَيُخَاطِبُهُمْ وَيُخَاطِبُونَهُ . وَقَدْ يَسْتَفْتُونَهُ وَيَسْأَلُونَهُ عَنْ أَحَادِيثَ فَيُجِيبُهُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّ الْحُجْرَةَ قَدْ انْشَقَّتْ وَخَرَجَ مِنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَانَقَهُ هُوَ وَصَاحِبَاهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالسَّلَامِ حَتَّى وَصَلَ مَسِيرَةَ أَيَّامٍ وَإِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ . وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ أَعْرِفُ مِمَّنْ وَقَعَ لَهُ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ عَدَدًا كَثِيرًا . وَقَدْ حَدَّثَنِي بِمَا وَقَعَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ الصَّادِقِينَ مَنْ يَطُولُ هَذَا الْمَوْضِعُ بِذِكْرِهِمْ . وَهَذَا مَوْجُودٌ عِنْدَ خَلْقٍ كَثِيرٍ كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ لَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُكَذِّبُ بِهَذَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ إذَا صَدَّقَ بِهِ يَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّ الَّذِي رَأَى ذَلِكَ رَآهُ لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ . وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَأَنَّهُ بِحَسَبِ قِلَّةِ عِلْمِ الرَّجُلِ يُضِلُّهُ الشَّيْطَانُ . وَمَنْ كَانَ أَقَلَّ عِلْمًا قَالَ لَهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ خِلَافًا ظَاهِرًا . وَمَنْ عِنْدِهِ عِلْمٌ مِنْهَا لَا يَقُولُ لَهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ وَلَا مُفِيدًا فَائِدَةً فِي دِينِهِ ؛ بَلْ يُضِلُّهُ عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ الشَّيَاطِينِ وَهُوَ وَإِنْ ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَفَادَ شَيْئًا فَاَلَّذِي خَسِرَهُ مِنْ دِينِهِ أَكْثَرُ . وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ : إنَّ الْخَضِرَ أَتَاهُ وَلَا مُوسَى وَلَا عِيسَى وَلَا أَنَّهُ سَمِعَ رَدَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ . وَابْنُ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ وَلَمْ يَقُلْ قَطُّ إنَّهُ يَسْمَعُ الرَّدَّ . وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ . وَإِنَّمَا حَدَثَ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَأْتِيهِ فَيَسْأَلُهُ عِنْدَ الْقَبْرِ عَنْ بَعْضِ مَا تَنَازَعُوا فِيهِ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعِلْمِ لَا خُلَفَاؤُهُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا غَيْرُهُمْ . مَعَ أَنَّهُمْ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ أَنْ يَقُولَ لَهَا : اذْهَبِي إلَى قَبْرِهِ فَسَلِيهِ هَلْ يُورَثُ أَمْ لَا يُورَثُ . كَمَا أَنَّهُمْ أَيْضًا لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ فِيهِمْ فَيَقُولُ لَهُمْ : اُطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَكُمْ بِالْمَطَرِ لَمَّا أَجْدَبُوا . وَلَا قَالَ : اُطْلُبُوا مِنْهُ أَنْ يَسْتَنْصِرَ لَكُمْ . وَلَا أَنْ يَسْتَغْفِرَ كَمَا كَانُوا فِي حَيَاتِهِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ لَهُمْ وَأَنْ يَسْتَنْصِرَ لَهُمْ فَلَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ فِيهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ ذَلِكَ . وَلَا طَمِعَ بِذَلِكَ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ . وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الضَّلَالَاتُ مِمَّنْ قَلَّ عِلْمُهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ فَأَضَلَّهُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَضَلَّ النَّصَارَى فِي أُمُورٍ لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِمَا جَاءَ بِهِ الْمَسِيحُ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ . وَكَذَلِكَ لَمْ يَطْمَعْ الشَّيْطَانُ أَنْ يَطِيرَ بِأَحَدِهِمْ فِي الْهَوَاءِ وَلَا أَنْ يَقْطَعَ بِهِ الْأَرْضَ الْبَعِيدَةَ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ . كَمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا لِكَثِيرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ لِأَنَّ الْأَسْفَارَ الَّتِي كَانُوا يسافرونها كَانَتْ طَاعَاتٍ كَسَفَرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ وَهَذِهِ يُثَابُونَ عَلَى كُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُونَهَا فِيهِ وَكُلَّمَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ كَانَ الْأَجْرُ أَعْظَمَ : كَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ فَخُطُوَاتُهُ إحْدَاهَا
تَرْفَعُ دَرَجَةً وَالْأُخْرَى تَحُطُّ خَطِيئَةً . فَلَمْ يُمْكِنْ الشَّيْطَانَ أَنْ يُفَوِّتَهُمْ ذَلِكَ الْأَجْرَ بِأَنْ يَحْمِلَهُمْ فِي الْهَوَاءِ أَوْ يَؤُزَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أَزًّا حَتَّى يَقْطَعُوا الْمَسَافَةَ الْبَعِيدَةَ بِسُرْعَةِ . وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَسْرَى بِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِهِ الْكُبْرَى . وَكَانَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِهِ . فَلَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُ مِثْلُ هَذَا الْمِعْرَاجِ وَلَكِنَّ الشَّيْطَانَ يُخَيِّلُ إلَيْهِ مَعَارِيجَ شَيْطَانِيَّةً كَمَا خَيَّلَهَا لِجَمَاعَةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَأَمَّا قَطْعُ النَّهْرِ الْكَبِيرِ بِالسَّيْرِ عَلَى الْمَاءِ فَهَذَا قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَحْيَانًا مِثْلُ أَنْ لَا يُمْكِنَهُمْ الْعُبُورُ إلَى الْعَدُوِّ وَتَكْمِيلُ الْجِهَادِ إلَّا بِذَلِكَ . فَلِهَذَا كَانَ اللَّهُ يُكْرِمُ مَنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا أَكْرَمَ بِهِ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ وَأَصْحَابَهُ وَأَبَا مُسْلِمٍ الخولاني وَأَصْحَابَهُ وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا الْكِتَابِ . لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الصَّحَابَةَ خَيْرُ الْقُرُونِ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ . فَمَا ظَهَرَ فِيمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّا يُظَنُّ أَنَّهَا فَضِيلَةٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَلَمْ تَكُنْ فِيهِمْ فَإِنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَهِيَ نَقِيصَةٌ لَا فَضِيلَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْ جِنْسِ الْعُلُومِ أَوْ مَنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ أَوْ مِنْ جِنْسِ الْخَوَارِقِ وَالْآيَاتِ أَوْ مِنْ جِنْسِ السِّيَاسَةِ وَالْمُلْكِ . بَلْ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَهُمْ أَتْبَعُهُمْ لَهُمْ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا
فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا . قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ . وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَرَكُوا الْبِدَعَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْقُبُورِ كَقَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِأَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْثَانًا . وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَأْتِي مِنْ خَارِجٍ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ . بَلْ كَانُوا فِي حَيَاتِهِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَا يَأْتُونَ إلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ . وَإِذَا جَاءَ أَحَدُهُمْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامَ . وَكَذَلِكَ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَكَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى عَائِشَةَ فَكَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ كَمَا كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ . وَقَدْ جَاءَ هَذَا عَامًّا فِي جَمِيعِ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ رُوحَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ . فَإِذَا كَانَ رَدُّ السَّلَامِ مَوْجُودًا فِي عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ فِي أَفْضَلِ الْخَلْقِ أَوْلَى . وَإِذَا سَلَّمَ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ لَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ عَشْرًا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ سَلَّمَ عَلَيَّ مَرَّةً سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
عَشْرًا } . فَاَللَّهُ يَجْزِيهِ عَلَى هَذَا السَّلَامِ أَفْضَلَ مِمَّا يَحْصُلُ بِالرَّدِّ كَمَا أَنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . لَا يَقِفُ لَا لِدُعَاءِ لَهُ وَلَا لِنَفْسِهِ . وَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ مَا زَادَ عَلَى فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وُقُوفٍ لَهُ أَوْ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ بِدْعَةً مَحْضَةً . قَالَ مَالِكٌ : لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا . مَعَ أَنَّ فِعْلَ ابْنِ عُمَرَ إذَا لَمْ يَفْعَلْ مِثْلَهُ سَائِرُ الصَّحَابَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ لِلتَّسْوِيغِ كَأَمْثَالِ ذَلِكَ فِيمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ مُبَاحٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ فَالْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ وَالِاسْتِحْبَابُ وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مَرْجِعُهَا كُلُّهَا إلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ . فَالْقُرْآنُ هُوَ الَّذِي بَلَّغَهُ . وَالسُّنَّةُ هُوَ الَّذِي عَلَّمَهَا . وَالْإِجْمَاعُ بِقَوْلِهِ عُرِفَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ . وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْفَرْعَ مِثْلَ الْأَصْلِ وَأَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ . وَقَدْ عَلَّمَنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَاقَضُ فَلَا يَحْكُمُ فِي الْمُتَمَاثِلَيْنِ بِحُكْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ وَلَا يَحْكُمُ بِالْحُكْمِ لِعِلَّةِ تَارَةً وَيَمْنَعُهُ أُخْرَى مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ إلَّا لِاخْتِصَاصِ إحْدَى الصُّورَتَيْنِ بِمَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ . فَشَرْعُهُ هُوَ مَا شَرَعَهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتُهُ مَا سَنَّهَا هُوَ لَا يُضَافُ إلَيْهِ قَوْلُ غَيْرِهِ
وَفِعْلُهُ - وَإِنْ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ - إذَا وَرَدَتْ سُنَّتُهُ . بَلْ وَلَا يُضَافُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلِ يَدُلُّ عَلَى الْإِضَافَةِ . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ يَقُولُونَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَيَكُونُونَ مُصِيبِينَ مُوَافِقِينَ لِسُنَّتِهِ لَكِنْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : أَقُولُ فِي هَذَا بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ . فَإِنَّ كُلَّ مَا خَالَفَ سُنَّتَهُ فَهُوَ شَرْعٌ مَنْسُوخٌ أَوْ مُبَدَّلٌ لَكِنْ الْمُجْتَهِدُونَ وَإِنْ قَالُوا بِآرَائِهِمْ وَأَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَخَطَؤُهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ . وَكَانَ الصَّحَابَةُ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا فِي مَسْجِدِهِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي حَيَاتِهِ . لَا يَقْصِدُونَ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْحُجْرَةِ وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمْ إلَى الْقَبْرِ . وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ قَدْ شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَشُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمْ الْمَسْجِدَ أَيَّ مَسْجِدٍ كَانَ . فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ كُلُّ صَلَاةٍ يَقُولُ الْمُصَلِّي : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ثُمَّ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } . وَقَدْ شُرِعَ لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُصُوصًا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ عُمُومًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نَقُولُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ : السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا
قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ التَّشَهُّدُ بِأَلْفَاظِ أُخَرَ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُعَلِّمُ النَّاسَ التَّشَهُّدَ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى لَكِنْ هُوَ تَشَهُّدُ ابْنِ مَسْعُودٍ . وَلَكِنْ لَمْ يُخَرِّجْ الْبُخَارِيُّ إلَّا تَشَهُّدَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَالتَّشَهُّدُ أَوْلَى . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ إذَا قَالَ : السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ صَالِحٍ لِلَّهِ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ وَصَالِحِي الْإِنْسِ وَالْجِنِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } . وَالنَّوْعُ الثَّانِي : السَّلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ : بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك . وَإِذَا خَرَجَ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ .
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِك } . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ الدُّعَاءَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِأَنْ يَفْتَحَ لَهُ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ وَعِنْدَ خُرُوجِهِ يَسْأَلُ اللَّهَ مَنْ فَضْلِهِ . وَهَذَا الدُّعَاءُ مُؤَكَّدٌ فِي دُخُولِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ الْمَنَاسِكِ لِمَنْ أَتَى إلَى مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ . فَكَانَ السَّلَامُ عَلَيْهِ مَشْرُوعًا عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَفِي نَفْسِ كُلِّ صَلَاةٍ . وَهَذَا أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ مِنْ السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَأَدْوَمُ . وَهَذَا مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لَا مَفْسَدَةَ فِيهَا تُخْشَى فَبِهَا يَرْضَى اللَّهُ وَيُوصِلُ نَفْعَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِهِ وَإِلَى الْمُؤْمِنِينَ . وَهَذَا مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ ؛ بِخِلَافِ السَّلَامِ عِنْدَ الْقَبْرِ . مَعَ أَنَّ قَبْرَهُ مِنْ حِينِ دُفِنَ لَمْ يُمَكَّنْ أَحَدٌ مِنْ الدُّخُولِ إلَيْهِ لَا لِزِيَارَةِ وَلَا لِصَلَاةِ وَلَا لِدُعَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَلَكِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِيهِ لِأَنَّهُ بَيْتُهَا . وَكَانَتْ نَاحِيَةً عَنْ الْقُبُورِ ؛ لِأَنَّ الْقُبُورَ فِي مُقَدِّمِ الْحُجْرَةِ وَكَانَتْ هِيَ فِي مُؤَخِّرِ الْحُجْرَةِ . وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَدْخُلُونَ إلَى هُنَاكَ . وَكَانَتْ الْحُجْرَةُ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ خَارِجَةً عَنْ الْمَسْجِدِ مُتَّصِلَةً بِهِ وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ فِيهِ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بَعْدَ مَوْتِ الْعَبَادِلَةِ : ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَمْرٍو بَلْ بَعْدَ مَوْتِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ فَإِنَّ آخِرَ مَنْ مَاتَ بِهَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي بِضْعٍ
وَسَبْعِينَ سَنَةً . وَوُسِّعَ الْمَسْجِدُ فِي بِضْعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً . وَلَمْ يَكُنْ الصَّحَابَةُ يَدْخُلُونَ إلَى عِنْدِ الْقَبْرِ وَلَا يَقِفُونَ عِنْدَهُ خَارِجًا مَعَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ إلَى مَسْجِدِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } وَكَانُوا يَقْدَمُونَ مِنْ الْأَسْفَارِ لِلِاجْتِمَاعِ بِالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِهِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ . وَلَا يَأْتُونَ الْقَبْرَ إذْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مِمَّا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ وَلَمْ يَسُنَّهُ لَهُمْ . وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ وَسَنَّ لَهُمْ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِهِمْ الْمَسَاجِدَ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَكِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَأْتِيهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ السَّفَرِ . وَقَدْ يَكُونُ فِعْلُهُ غَيْرَ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا . فَلِهَذَا رَأَى مَنْ رَأَى مِنْ الْعُلَمَاءِ هَذَا جَائِزًا اقْتِدَاءً بِالصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ . وَابْنُ عُمَرَ كَانَ يُسَلِّمُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقِفُ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتْ ثُمَّ يَنْصَرِفُ . وَلَمْ يَكُنْ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ يَفْعَلُونَ كَمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ بَلْ كَانَ الْخُلَفَاءُ وَغَيْرُهُمْ يُسَافِرُونَ لِلْحَجِّ وَغَيْرِهِ وَيَرْجِعُونَ وَلَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إذْ لَمْ يَكُنْ هَذَا
عِنْدَهُمْ سُنَّةً سَنَّهَا لَهُمْ . وَكَذَلِكَ أَزْوَاجُهُ كُنَّ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ وَبَعْدَهُمْ يُسَافِرُونَ إلَى الْحَجِّ ثُمَّ تَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدَةٍ إلَى بَيْتِهَا كَمَا وَصَّاهُنَّ بِذَلِكَ . وَكَانَتْ أَمْدَادُ الْيَمَنِ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ يَأْتُونَ أَفْوَاجًا مِنْ الْيَمَن لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيُصَلُّونَ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي مَسْجِدِهِ وَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى دَاخِلِ الْحُجْرَةِ وَلَا يَقِفُ فِي الْمَسْجِدِ خَارِجًا لَا لِدُعَاءِ وَلَا لِصَلَاةِ وَلَا سَلَامٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . وَكَانُوا عَالِمِينَ بِسُنَّتِهِ كَمَا عَلَّمَتْهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَأَنَّ حُقُوقَهُ لَازِمَةٌ لِحُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ مِنْ حُقُوقِهِ وَحُقُوقِ رَسُولِهِ فَإِنَّ صَاحِبَهَا يُؤْمَرُ بِهَا فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ وَالْبِقَاعِ . فَلَيْسَتْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ بِأَوْكَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ . بَلْ صَاحِبُهَا مَأْمُورٌ بِهَا حَيْثُ كَانَ : إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا عِنْدَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَكِّدَةِ لَهَا كَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالْأَذَانِ . وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ هُوَ عِنْدَ قَبْرِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ . بَلْ نَفْسُ مَسْجِدِهِ لَهُ فَضِيلَةٌ لِكَوْنِهِ مَسْجِدَهُ . وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ قَبْلَ الْقَبْرِ لَمْ تَكُنْ لَهُ فَضِيلَةٌ إذْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيهِ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَإِنَّمَا حَدَثَتْ لَهُ الْفَضِيلَةُ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا أَدْخَلَ الْحُجْرَةَ فِي مَسْجِدِهِ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ
إلَّا جَاهِلٌ مُفْرِطٌ فِي الْجَهْلِ أَوْ كَافِرٌ فَهُوَ مُكَذِّبٌ لِمَا جَاءَ بِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ . وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَدْعُونَ فِي مَسْجِدِهِ كَمَا كَانُوا يَدْعُونَ فِي حَيَاتِهِ . لَمْ تَحْدُثْ لَهُمْ شَرِيعَةٌ غَيْرُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي عَلَّمَهُمْ إيَّاهَا فِي حَيَاتِهِ . وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْهُمْ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمْ حَاجَةٌ أَنْ يَذْهَبَ إلَى قَبْرِ نَبِيٍّ أَوْ صَالِحٍ فَيُصَلِّيَ عِنْدَهُ وَيَدْعُوَهُ أَوْ يَدْعُوَ بِلَا صَلَاةٍ أَوْ يَسْأَلَ حَوَائِجَهُ أَوْ يَسْأَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ . فَقَدْ عَلَّمَ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهُمْ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا قَبْرَهُ أَوْ حُجْرَتَهُ لَا بِصَلَاةِ وَلَا دُعَاءٍ لَا لَهُ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ . بَلْ قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْتَهُ عِيدًا . فَلَمْ يَقِلْ لَهُمْ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْجُهَّالِ لِأَصْحَابِهِ : إذَا كَانَ لَكُمْ حَاجَةٌ فَتَعَالَوْا إلَى قَبْرِي بَلْ نَهَاهُمْ عَمَّا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ أَوْ قَبْرَ غَيْرِهِ مَسْجِدًا يُصَلُّونَ فِيهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَسُدَّ ذَرِيعَةَ الشِّرْكِ . فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا وَجَزَاهُ أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الْأَمَانَةَ وَنَصَحَ الْأُمَّةَ وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ . وَكَانَ إنْعَامُ اللَّهِ بِهِ أَفْضَلَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ بِهَا عَلَى الْعِبَادِ .
وَقَدْ دَلَّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَأَفْضَلِ الْبِقَاعِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { قُلْت
يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الصَّلَاةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ . قُلْت : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . قَالَهُ سَأَلْته عَنْهُنَّ وَلَوْ اسْتَزَدْته لَزَادَنِي } . وَفِي الْمُسْنَدِ وَسُنَنِ ابْنِ مَاجَه عَنْ ثوبان عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ } . وَالصَّلَاةُ قَدْ شُرِعَ لِلْأُمَّةِ أَنْ تَتَّخِذَ لَهَا مَسَاجِدَ وَهِيَ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ : { أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ الْمَسَاجِدُ وَأَبْغَضُ الْبِقَاعِ إلَى اللَّهِ الْأَسْوَاقُ } . وَمَعَ هَذَا فَقَدْ لَعَنَ مَنْ يَتَّخِذُ قُبُورَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ وَهُوَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ نَصِيحَةً لِلْأُمَّةِ وَحِرْصًا مِنْهُ عَلَى هُدَاهَا . كَمَا نَعَتَهُ اللَّهَ بِقَوْلِهِ : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ مِنْهُ : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ . قَالَتْ عَائِشَةُ : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } وَفِي رِوَايَةٍ : { وَلَكِنْ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ { غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا } . وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا : { لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا . وَمِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ صَاحِبَةَ الْحُجْرَةِ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْوِي هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَقَدْ سَمِعْتهَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا مِنْ الصَّحَابَةِ أَيْضًا يَرْوِيهَا : كَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أُولَئِكَ إذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ : إنِّي أَبْرَأُ إلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَوْ كُنْت مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا . أَلَا وَإِنَّ مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَرْثَدٍ الغنوي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا } . وَفِي الْمُسْنَدِ وَصَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ } . وَقَدْ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ أَنْ يَتَّخِذُوا قَبْرَهُ عِيدًا . فَلَمَّا عَلِمَ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ قَدْ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَتَّخِذُوهُ مُصَلًّى لِلْفَرَائِضِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَدْعُونَهَا وَيُصَلُّونَ لَهَا وَيَنْذِرُونَ لَهَا : كَانَ نَهْيُهُمْ عَنْ دُعَائِهَا أَعْظَمَ وَأَعْظَمَ . كَمَا أَنَّهُ لَمَّا نَهَاهُمْ عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا لِئَلَّا يَتَشَبَّهُوا بِمَنْ يَسْجُدُ لِلشَّمْسِ : كَانَ نَهْيُهُمْ عَنْ السُّجُودِ لِلشَّمْسِ أَوْلَى وَأَحْرَى . فَكَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ وَالدُّعَاءَ وَالذِّكْرَ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي بُنِيَتْ لِلَّهِ دُونَ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّتِي نُهُوا أَنْ يَتَّخِذُوهَا مَسَاجِدَ وَإِنَّمَا هِيَ بُيُوتُ الْمَخْلُوقِينَ . وَكَانُوا يَفْعَلُونَ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكَرَاهَةِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ قَصْدَهُمْ الْقَبْرَ إذَا دَخَلُوا أَوْ خَرَجُوا مِنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ
وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ مُجَرَّدَ السَّلَامِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي قُبَاء رَاكِبًا وَمَاشِيًا كُلَّ سَبْتٍ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا } وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ . زَادَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَيَذْهَبُ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء فَيُصَلِّي فِيهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَكِلَاهُمَا أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَهْلَ قُبَاء عَنْ هَذَا الطَّهُورِ الَّذِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ قَالَ { نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَسْجِدِ أَهْلِ قُبَاء { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } قَالَ : كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ . فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ { سَعْدٍ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى وَهُوَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمَّ قَالَ : هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ } . فَتَبَيَّنَ أَنَّ كِلَا الْمَسْجِدَيْنِ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى لَكِنَّ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ أَكْمَلُ فِي هَذَا النَّعْتِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَذَا الِاسْمِ . وَمَسْجِدُ قُبَاء كَانَ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ
مُجَاوِرٌ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي نُهِيَ عَنْ الْقِيَامِ فِيهِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ إتْيَانَ قُبَاء كُلَّ أُسْبُوعٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِالْمَدِينَةِ يَأْتُونَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا فِي الْأُسْبُوعِ وَلَا فِي غَيْرِ الْأُسْبُوعِ . وَإِنَّمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْتِي الْقَبْرَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ . وَكَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ كَانُوا يَقْدَمُونَ مِنْ الْأَسْفَارِ وَلَا يَأْتُونَ الْقَبْرَ لَا لِسَلَامِ وَلَا لِدُعَاءِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . فَلَمْ يَكُونُوا يَقِفُونَ عِنْدَهُ خَارِجَ الْحُجْرَةِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ . وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَدْخُلُ الْحُجْرَةَ لِذَلِكَ ؛ بَلْ وَلَا يَدْخُلُونَهَا إلَّا لِأَجْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا كَانَتْ مُقِيمَةً فِيهَا . وَحِينَئِذٍ فَكَانَ مَنْ يَدْخُلُ إلَيْهَا يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ إذَا حَضَرُوا عِنْدَهُ . وَأَمَّا السَّلَامُ الَّذِي لَا يَسْمَعُهُ فَذَلِكَ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِهِ عَشْرًا كَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ . وَهَذَا السَّلَامُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ . وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ السَّلَامِ الْمُخْتَصِّ بِقَبْرِهِ . فَإِنَّ هَذَا الْمُخْتَصَّ بِقَبْرِهِ مِنْ جِنْسِ تَحِيَّةِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا .
وَأَمَّا السَّلَامُ الْمُطْلَقُ الْعَامُّ فَالْأَمْرُ بِهِ مِنْ خَصَائِصِهِ كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ مِنْ خَصَائِصِهِ . وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى غَيْرِهِ عُمُومًا وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِهِ خُصُوصًا نِزَاعٌ . وَقَدْ عَدَّى بَعْضُهُمْ ذَلِكَ إلَى السَّلَامِ
فَجَعَلَهُ مُخْتَصًّا بِهِ كَمَا اخْتَصَّ بِالصَّلَاةِ . وَحُكِيَ هَذَا عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي ؛ لَكِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ السَّلَامَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَفِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } فَهُنَا أَخْبَرَ وَأَمَرَ . وَأَمَّا فِي حَقِّ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَخْبَرَ وَلَمْ يَأْمُرْ فَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ } . وَلِهَذَا إذَا ذَكَرَ الْخُطَبَاءُ ذَلِكَ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرِ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ وَأَيَّهَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَرِيَّتِهِ أَيْ قَالَ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } . فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بَدَأَ فِيهَا بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ لَكِنْ لَمْ يُؤَيِّهْ فِيهَا بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَرِيَّتِهِ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ } .
وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ تُشْرَعُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ الدُّعَاءِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ . وَفِي الْخُطَبِ فَأَوْجَبَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَلَمْ يُوجِبْهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ . وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهَا فَهَلْ هِيَ رُكْنٌ أَوْ تَسْقُطُ بِالسَّهْوِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ مَعَ الدُّعَاءِ فَلَا نَدْعُو حَتَّى نَبْدَأَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ مَأْمُورٌ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ فِي التَّشَهُّدِ الَّذِي هُوَ
رُكْنٌ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا . وَالتَّشَهُّدُ الْأَخِيرُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ : إذَا تَرَكَ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ . وَهَذَا يُسَمِّيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَاجِبًا وَيُسَمِّيهِ أَصْحَابُ مَالِكٍ سُنَّةً وَاجِبَةً . وَيَقُولُونَ : سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ . وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْنَوِيٌّ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ يُعِيدُ وَمَنْ تَرَكَهُ سَهْوًا فَعَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ . وَمَالِكٌ وَأَحْمَد عِنْدَهُمَا الْأَفْعَالُ فِي الصَّلَاةِ أَنْوَاعٌ كَأَفْعَالِ الْحَجِّ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَجْعَلُهَا ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ ؛ لَكِنْ عِنْدَهُ أَنَّ النَّوْعَ الْوَاجِبَ يَكُونُ مُسِيئًا بِتَرْكِهِ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا . وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَعِنْدَهُ الْوَاجِبُ فِيهَا هُوَ الرُّكْنُ بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ بِاتِّفَاقِهِمْ فِيهِ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ غَيْرُ الرُّكْنِ وَغَيْرُ الْمُسْتَحَبِّ .
وَلَا نِزَاعَ أَنَّهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى . { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } وَكَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى } . وَكَمَا رُوِيَ أَنَّهُ { قَالَ لِامْرَأَةِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَعَلَى زَوْجِك } وَكَانَتْ قَدْ طَلَبَتْ مِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا وَعَلَى زَوْجِهَا . وَأَيْضًا لَا نِزَاعَ أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَى آلِهِ تَبَعًا كَمَا عَلَّمَ أُمَّتَهُ أَنْ يَقُولُوا : { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ
مَجِيدٌ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } .
وَأَمَّا صَلَاةُ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ مُنْفَرِدًا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ أَوْ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيٍّ . فَفِيهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَد فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِعُمَرِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك . وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِهِ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَقِيلٍ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي ذَلِكَ نِزَاعًا .
وَالثَّانِي : الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُمَا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ جَدُّنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُ وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَا أَعْلَمُ الصَّلَاةَ تَنْبَغِي مِنْ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ مَنْ مَنَعَ : أَمَّا صَلَاتُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَهُ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِهِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِهِ تَبَعًا فَقَدْ يَجُوزُ تَبَعًا مَا لَا يَجُوزُ قَصْدًا . وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ يَحْتَجُّ بِالْخَلِيفَتَيْنِ الرَّاشِدَيْنِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَبِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَهْيٌ عَنْ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ لَا يَجِبُ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَحَدٍ كَمَا يَجِبُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَتَخْصِيصُهُ كَانَ بِالْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ لَا بِالْجَوَازِ وَالِاسْتِحْبَابِ . قَالُوا : وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ
الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ : { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ } . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُؤْمِنِ فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ ؟ . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهَذَا ذَكَرَهُ لَمَّا صَارَ أَهْلُ الْبِدَعِ يَخُصُّونَ بِالصَّلَاةِ عَلِيًّا أَوْ غَيْرَهُ وَلَا يُصَلُّونَ عَلَى غَيْرِهِمْ . فَهَذَا بِدْعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ الْعَبَّاسِيِّينَ وَلَا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَلَا عَلَى أَزْوَاجِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ } . فَحِينَئِذٍ لَا حُجَّةَ لِمَنْ خَصَّ بِالصَّلَاةِ بَعْضَ أَهْلِ الْبَيْتِ دُون سَائِرِ أَهْلِ الْبَيْتِ وَدُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ . وَلَمَّا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَنْ قَالَ إنَّ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِهِ مَمْنُوعٌ مِنْهَا طَرَدَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي فَقَالُوا : لَا يُسَلَّمُ عَلَى غَيْرِهِ . وَهَذَا لَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْكَرُوهُ . فَإِنَّ السَّلَامَ عَلَى الْغَيْرِ مَشْرُوعٌ سَلَامَ التَّحِيَّةِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ مُؤَكَّدٌ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالرَّدُّ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ إمَّا عَلَى الْأَعْيَانِ وَإِمَّا عَلَى الْكِفَايَةِ . وَالْمُصَلِّي إذَا خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ . وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ فَيَقُولُوا : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ } . فَاَلَّذِينَ جَعَلُوا السَّلَامَ مِنْ خَصَائِصِهِ لَا يَمْنَعُونَ مِنْ السَّلَامِ عَلَى الْحَاضِرِ لَكِنْ يَقُولُونَ : لَا يُسَلَّمُ عَلَى الْغَائِبِ . فَجَعَلُوا السَّلَامَ عَلَيْهِ مَعَ الْغَيْبَةِ مِنْ خَصَائِصِهِ . وَهَذَا حَقٌّ . لَكِنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ وَإِيجَابَهُ هُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ . فَلَيْسَ فِيهِ سَلَامٌ عَلَى مُعَيَّنٍ إلَّا عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ أَنَّ السَّلَامَ كَالصَّلَاةِ كِلَاهُمَا وَاجِبٌ لَهُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا . وَغَيْرُهُ فَلَيْسَ وَاجِبًا إلَّا سَلَامُ التَّحِيَّةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ فَإِنَّهُ مُؤَكَّدٌ بِالِاتِّفَاقِ . وَهَلْ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَاَلَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ أَنَّهُ وَاجِبٌ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ وَيَعُودُهُ إذَا مَرِضَ وَيُشَيِّعُهُ إذَا مَاتَ وَيُجِيبُهُ إذَا دَعَاهُ وَرُوِيَ وَيُشَمِّتُهُ إذَا عَطَسَ } . وَقَدْ أَوْجَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ . وَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِإِجْمَاعِهِمْ وَالسَّلَامُ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَوْكَدُ مِنْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ . وَكَذَلِكَ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَالشَّرُّ الَّذِي يَحْصُلُ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَمْ يَعُدْهُ إذَا مَرِضَ أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يُجِبْ دَعْوَتَهُ . وَالسَّلَامُ أَسْهَلُ مِنْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَمِنْ الْعِيَادَةِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لِبَسْطِهَا مَوَاضِعُ أُخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ سَلَامَ التَّحِيَّةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ فِي الْمَحْيَا وَفِي الْمَمَاتِ إذَا زَارَ قَبْرَ الْمُسْلِمِ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ لِكُلِّ مَنْ لَقِيَهُ حَيًّا أَوْ زَارَ قَبْرَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ . فَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ هَذَا السَّلَامَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَبْرِهِ الَّذِي قَالَ فِيهِ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَلَا فِيهِ فَضِيلَةٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ . بَلْ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ " حَيٍّ وَمَيِّتٍ . وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَرُدُّ السَّلَامَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ . وَهَذَا لَيْسَ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بَلْ إذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ . وَهَكَذَا إذَا زَارَ الْقَبْرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْمَيِّتِ . لَا أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَاللِّقَاءِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ . وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ هُوَ مِنْ السَّلَامِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَمَنْ سَلَّمَ يُسَلِّمُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا كَمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ عَشْرًا . فَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْمَأْمُورُ بِهِ الْأَفْضَلُ الْأَنْفَعُ الْأَكْمَلُ الَّذِي لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ . وَذَاكَ جَهْدٌ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا يُؤْمَرُ بِقَطْعِ الْمَسَافَةِ لِمُجَرَّدِهِ ؛ بَلْ قَصْدُ نِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَالدُّعَاءِ هُوَ اتِّخَاذٌ لَهُ عِيدًا وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا } . فَلِهَذَا كَانَ الْعَمَلُ الشَّائِعُ فِي الصَّحَابَةِ - الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مَسْجِدَهُ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ
فِي الصَّلَاةِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِي الصَّلَاةِ مِمَّا اخْتَارُوا مِنْ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ قَالَ : { ثُمَّ لِيَتَخَيَّر بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ } . وَلَمْ يَكُونُوا يَذْهَبُونَ إلَى الْقَبْرِ لَا مِنْ دَاخِلِ الْحُجْرَةِ وَلَا مِنْ خَارِجِهَا ؛ لَا لِدُعَاءِ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا سَلَامٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقْصِدُوهَا لِحَوَائِجِهِمْ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ يُعْرَفْ فِي الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا قَبْرِ غَيْرِهِ لَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا تَابِعِيهِمْ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ إذَا تَصَوَّرَهَا ذُو الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ عَرَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ . وَفَرَّقَ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُ التَّوْحِيدَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِيمَانَ وَمَنْ يَجْهَلُ ذَلِكَ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَجُمْهُورَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَيُصَلُّونَ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَ الْقُدُومِ مِنْ السَّفَرِ بَلْ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ فَيُصَلُّونَ فِيهِ وَيُسَلِّمُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَأْتُونَ الْقَبْرَ وَمَقْصُودُ بَعْضِهِمْ التَّحِيَّةُ .
وَأَيْضًا فَقَدْ اُسْتُحِبَّ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولَ : بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ . اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك . وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ يَقُولُ :
بِسْمِ اللَّهِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِك . فَهَذَا السَّلَامُ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ كُلَّمَا يَدْخُلُ يُغْنِي عَنْ السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْرِ . وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَلَا مَفْسَدَةَ فِيهِ وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ فَيُصَلُّونَ وَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ إذَا سَمِعُوا الْأَذَانَ وَيَطْلُبُونَ لَهُ الْوَسِيلَةَ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ ؛ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ . } وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الَّذِي يُسْتَحَبُّ عِنْدَ قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ مِنْ السَّلَامِ عَلَيْهِ هُوَ سَلَامُ التَّحِيَّةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ كَمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ عِنْدَ قَبْرِ كُلِّ مُسْلِمٍ وَعِنْدَ لِقَائِهِ فَيُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَمَا قَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } وَقَالَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ } . وَكَانَ إذَا أَتَى الْمَقَابِرَ قَالَ : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ . أَنْتُمْ لَنَا فَرْطٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ . أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَة لَنَا وَلَكُمْ } وَكَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا
{ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ } . وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ . وَاَللَّهُ يُسَلِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَاحِدَةً سَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا . وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُمْ وَمَقْصُودُهُ مِنْ السَّلَامِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدِهِ وَغَيْرِ مَسْجِدِهِ فَلَمْ يَبْقَ فِي إتْيَانِ الْقَبْرِ فَائِدَةٌ لَهُمْ وَلَا لَهُ بِخِلَافِ إتْيَانِ مَسْجِدِ قُبَاء فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَهُ كُلَّ سَبْتٍ فَيُصَلُّونَ فِيهِ اتِّبَاعًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ كَعُمْرَةِ . وَيَجْمَعُونَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ إذْ كَانَ أَحَدُ هَذَيْنَ لَا يُغْنِي عَنْ الْآخَرِ بَلْ يَحْصُلُ بِهَذَا أَجْرٌ زَائِدٌ . وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ إلَى الْبَقِيعِ وَأَهْلِ أُحُدٍ كَمَا كَانَ يَخْرُجُ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو لَهُمْ كَانَ حَسَنًا لِأَنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ لَا مَفْسَدَةَ فِيهَا وَهُمْ لَا يَدْعُونَ لَهُمْ فِي كُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يُقَالَ : هَذَا يُغْنِي عَنْ هَذَا . وَمَعَ هَذَا فَقَدَ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ اتِّخَاذِ ذَلِكَ سُنَّةً . وَلَمْ يَأْخُذْ فِي هَذَا بِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا لَمْ يَأْخُذْ بِفِعْلِهِ فِي التَّمَسُّحِ بِمَقْعَدِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَا بِاسْتِحْبَابِ قَصْدِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا لِكَوْنِ الصَّلَاةِ أَدْرَكَتْهُ فِيهَا فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَحِبُّ قَصْدَهَا لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَكَانَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ لَا يَسْتَحِبُّونَ ذَلِكَ ؛ بَلْ يَسْتَحِبُّونَ مَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِبُّهُ
وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ وَكَانَ أَبُوهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْهَى مِنْ يَقْصِدُهَا لِلصَّلَاةِ فِيهَا وَيَقُولُ : إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا فَإِنَّهُمْ اتَّخَذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ فَلْيُصَلِّ وَإِلَّا فَلْيَذْهَبْ . فَأَمَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِمَا سَنَّهُ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الَّذِينَ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِمْ وَلَهُ خُصُوصُ الْأَمْرِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ وَبِأَبِي بَكْرٍ حَيْثُ قَالَ : { اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } . فَالْأَمْرُ بِالِاقْتِدَاءِ أَرْفَعُ مِنْ الْأَمْرِ بِالسُّنَّةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ .
وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةُ الْمَجِيءِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَشْيَةَ أَنْ يُتَّخَذَ السَّفَرُ إلَيْهِ سُنَّةً فَإِنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ لَمَّا جُعِلَ لِهَذَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَوَقْتِ الْحَجِّ الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا لَا فِي قُبَاء وَلَا فِي قُبُورِ الشُّهَدَاءِ وَأَهْلِ الْبَقِيعِ وَلَا غَيْرِهِمْ كَمَا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ وَفِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ . فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ هَذَا . مَعَ أَنَّهُ صَلَّى التَّطَوُّعَ فِي جَمَاعَةٍ مَرَّاتٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَوَقْتَ الضُّحَى وَغَيْرِهِ وَلَكِنْ لَمْ يُجْعَلْ الِاجْتِمَاعُ مِثْلَ تَطَوُّعٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ سُنَّةً كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَكَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْجُمْعَةِ . وَأَمَّا إتْيَانُ الْقَبْرِ لِلسَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَدْ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ وَعِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ وَفِي إتْيَانِهِ بَعْد الصَّلَاةِ مَرَّةً بَعْد مَرَّةٍ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ يُتَّخَذَ عِيدًا وَوَثَنًا
وَقَدْ نُهُوا عَنْ ذَلِكَ . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدْفُونٌ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَكَانَتْ حُجْرَةُ عَائِشَةَ وَسَائِرُ حُجَرِ أَزْوَاجِهِ مِنْ جِهَةِ شَرْقِيِّ الْمَسْجِدِ وَقِبْلَتُهُ لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي مَسْجِدِهِ بَلْ كَانَ يَخْرَجُ مِنْ الْحُجْرَةِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَكِنْ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ وُسِّعَ الْمَسْجِدُ وَكَانَ يُحِبُّ عِمَارَةَ الْمَسَاجِدِ وَعَمَّرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمَسْجِدَ دِمَشْقَ وَغَيْرَهُمَا فَأَمَرَ نَائِبَهُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ مِنْ أَصْحَابِهَا الَّذِينَ وَرِثُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ . فَمِنْ حِينَئِذٍ دَخَلَتْ الْحُجَرُ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الصَّحَابَةِ : بَعْدَ مَوْتِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَبَعْدَ مَوْتِ عَائِشَةَ ؛ بَلْ بَعْدَ مَوْتِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ فِي الْمَدِينَة مِنْهُمْ أَحَدٌ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ كَرِهَ ذَلِكَ . وَقَدْ كَرِهَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ بِالْحِجَارَةِ وَالْقَصَّةِ وَالسَّاجِ وَهَؤُلَاءِ لِمَا فَعَلَهُ الْوَلِيدُ أَكْرَهُ . وَأَمَّا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ وَسَّعَهُ لَكِنْ بَنَاهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْ بِنَائِهِ مِنْ اللَّبِنِ وَعُمُدُهُ جُذُوعُ النَّخْلِ وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ . وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا كَرِهَ مَا فَعَلَ عُمَرُ ؛ وَإِنَّمَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ وَالْوَلِيدُ . وَكَانَ مِنْ أَرَادَ السَّلَامَ عَلَيْهِ عَلَى عَهْدِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَأْتِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَرْبِيِّ الْحُجْرَةِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إمَّا مُسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةِ
وَإِمَّا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ . وَالْآنَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ . فَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْحُجْرَةَ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . فَإِنَّ الْوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ تَوَلَّى بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَمَانِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَكَانَ قَدْ مَاتَ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ وَتُوَفِّي عَامَّةُ الصَّحَابَةِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ . وَلَمْ يَكُنْ بَقِيَ بِالْأَمْصَارِ إلَّا قَلِيلٌ جِدًّا : مِثْلُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِالْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ سَنَةَ بِضْعٍ وَتِسْعِينَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَسَبْعِينَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ آخِرُ مَنْ مَاتَ بِهَا . وَالْوَلِيدُ أَدْخَلَ الْحُجْرَةَ بَعْد ذَلِكَ بِمُدَّةِ طَوِيلَةٍ نَحْوَ عَشْرِ سِنِينَ . وَبِنَاءُ الْمَسْجِدِ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ جَابِرٍ فَلَمْ يَكُنْ قَدْ بَقِيَ بِالْمَدِينَةِ أَحَدٌ . وَأَمَّا عُثْمَانُ بْنُ عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَزَادَ فِي الْمَسْجِدِ وَالصَّحَابَةُ كَثِيرُونَ وَلَمْ يُدْخِلْ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْحُجْرَةِ بَلْ تَرَكَ الْحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ خَارِجَةً عَنْ الْمَسْجِدِ مُتَّصِلَةً بِهِ مِنْ شَرْقِيِّهِ كَمَا كَانَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِيهَا . وَلَمْ تَزَلْ عَائِشَةُ فِيهَا إلَى أَوَاخِرَ خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ وَتُوُفِّيَتْ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ . وَكَانَ الْحَسَنُ قَدْ اسْتَأْذَنَهَا فِي أَنْ يُدْفَنَ فِي الْحُجْرَةِ فَأَذِنَتْ لَهُ لَكِنْ كَرِهَ ذَلِكَ نَاسٌ آخَرُونَ وَرَأَوْا أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا لَمْ يُدْفَنْ فِيهَا فَلَا يُدْفَنُ غَيْرُهُ . وَكَادَتْ تَقُومُ فِتْنَةٌ . وَلَمَّا احْتَضَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْصَتْ أَنْ تُدْفَنَ مَعَ
صَوَاحِبَاتِهَا بِالْبَقِيعِ وَلَا تُدْفَنَ هُنَاكَ . فَعَلَتْ هَذَا تَوَاضُعًا أَنْ تُزَكَّى بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَلِهَذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيمَا فَعَلَهُ الْوَلِيدُ هَلْ هُوَ جَائِزٌ أَوْ مَكْرُوهٌ إلَّا التَّابِعُونَ كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَمْثَالِهِ . وَكَانَ سَعِيدٌ إذْ ذَاكَ مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ قِيلَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : أَيُّ التَّابِعِينَ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ . فَقِيلَ لَهُ : فَعَلْقَمَةُ وَالْأُسُودُ ؟ فَقَالَ : سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ . وَعَلْقَمَةُ وَالْأُسُودُ هَذَانِ كَانَا قَدْ مَاتَا قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةِ . وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ دَخَلَتْ فِي الْمَسْجِدِ . وَكَانَ الْمَسْجِدُ قَبْلَ دُخُولِ الْحُجَرِ فِيهِ فَاضِلًا وَكَانَتْ فَضِيلَةُ الْمَسْجِدِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنَاهُ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يُصَلِّي فِيهِ هُوَ وَالْمُؤْمِنُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَفُضِّلَ بِبِنَائِهِ لَهُ . قُلْت قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الَّذِي أَقَامَ قِبْلَتَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَبِأَنَّهُ كَانَ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ فِيهِ الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ إلَى أَنْ مَاتَ وَمَا صَلَّى جُمْعَةً بِغَيْرِهِ قَطُّ لَا فِي سَفَرِهِ وَلَا فِي مُقَامِهِ . وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَكَانَ يُصَلِّيهَا حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ .
وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِاتِّبَاعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بِأَنْ نُصَدِّقَهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَنُطِيعَهُ فِي كُلِّ مَا أَوْجَبَهُ وَأَمَرَ بِهِ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِهِ إلَّا بِهَذَا وَهَذَا . وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ فِي أَفْعَالِهِ الَّتِي يُشْرَعُ لَنَا أَنْ نَقْتَدِيَ بِهِ فَمَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ أَوْ الْإِبَاحَةِ نَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ أَوْ الِاسْتِحْبَابِ أَوْ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ
إلَّا مَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ . فَإِذَا قَصَدَ عِبَادَةً فِي مَكَانٍ شُرِعَ لَنَا أَنْ نَقْصِدَ تِلْكَ الْعِبَادَةَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ . فَلَمَّا قَصَدَ السَّفَرَ إلَى مَكَّةَ وَقَصَدَ الْعِبَادَةَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ وَالطَّوَافَ بِهِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالصُّعُودَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَبِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَرَمْيَ الْجِمَارِ وَالْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ دُونَ الثَّالِثَةِ الَّتِي هِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَشْرُوعًا لَنَا إمَّا وَاجِبًا وَإِمَّا مُسْتَحَبًّا . وَلَمْ يَذْهَبْ بِمَكَّةَ إلَى غَيْرِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَلَا سَافَرَ إلَى الْغَارِ الَّذِي مَكَثَ فِيهِ لَمَّا سَافَرَ سَفَرَ الْهِجْرَةِ وَلَا صَعِدَ إلَى غَارِ حِرَاءَ الَّذِي كَانَ يَتَحَنَّثُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ وَكَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً لِأَهْلِ مَكَّةَ قِيلَ إنَّهُ سَنَّهَا لَهُمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَصَلَّى عَقِبَ الطَّوَافِ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يُصَلِّ عَقِبَ الطَّوَافِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ شَيْئًا . وَحِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ طَافَ بِالْبَيْتِ وَكَانَ الطَّوَافُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُ تَحِيَّةً كَمَا تُصَلَّى فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ كَمَا أَنَّهُ افْتَتَحَ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ حِينَ أَتَى مِنًى وَتِلْكَ هِيَ الْعِبَادَةُ وَبَعْدَهَا نَحَرَ هَدْيَهُ ثُمَّ حَلَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ . وَلِهَذَا صَارَتْ السُّنَّةُ أَنَّ أَهْلَ مِنًى يَرْمُونَ ثُمَّ يَذْبَحُونَ وَالرَّمْيُ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْعِيدِ لِغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ بِمِنًى صَلَاةُ عِيدٍ وَلَا جُمْعَةٌ لَا بِهَا وَلَا بِعَرَفَةَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ بِهِمَا صَلَاةَ عِيدٍ وَلَا صَلَّى يَوْمَ عَرَفَةَ جُمْعَةً وَلَا كَانَ فِي أَسْفَارِهِ يُصَلِّي جُمْعَةً وَلَا عِيدًا . وَلِهَذَا
كَانَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ لَا تُصَلَّى فِي السَّفَرِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا نِزَاعٌ شَاذٌّ . وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعِيدَ أَيْضًا لَا يَكُونُ إلَّا حَيْثُ تَكُونُ الْجُمْعَةُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . لَمْ يُصَلِّ عِيدًا فِي السَّفَرِ وَلَا كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِهِ إلَّا عِيدًا وَاحِدًا . وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُصَلِّي الْعِيدَ مُنْفَرِدًا . وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . وَلِهَذَا صَارَ الْمُسْلِمُونَ بِمِنًى يَرْمُونَ ثُمَّ يَذْبَحُونَ النُّسُكَ اتِّبَاعًا لِسُنَّتِهِ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ كَانَ عِبَادَةً تُفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ وَمَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً وَلَا مُسْتَحَبًّا . وَمَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ التَّعَبُّدِ بِهِ كَانَ مُبَاحًا . وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ مُشَابَهَتَهُ فِي هَذَا فِي الصُّورَةِ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ : إنَّمَا تَكُونُ الْمُتَابَعَةُ إذَا قَصَدْنَا مَا قَصَدَ وَأَمَّا الْمُشَابَهَةُ فِي الصُّورَةِ مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ فِي الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ فَلَا تَكُونُ مُتَابَعَةً . فَمَا فَعَلَهُ عَلَى غَيْرِ الْعِبَادَةِ فَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَابَعَةِ ؛ بَلْ مُخَالَفَةٌ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ سَأَلَهُ : أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ ؟ فَقَالَ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ثُمَّ حَيْثُ مَا أَدْرَكَتْك الصَّلَاةُ فَصَلِّ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ } . وَرُوِيَ فِي
الصَّحِيحِ : { فَإِنَّ فِيهِ الْفَضْلَ } . فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَانِ فَتَرَكُوا الصَّلَاةَ فِيهِ وَذَهَبُوا إلَى مَكَانٍ آخَرَ لِكَوْنِهِ فِيهِ أَثَرٌ لِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ خَالَفُوا السُّنَّةَ . وَقَدْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْمًا يَنْتَابُونَ مَكَانًا صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا مَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ : وَمَكَانٌ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَتَّخِذُوا آثَارَ أَنْبِيَائِكُمْ مَسَاجِدَ ؟ إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ بِمِثْلِ هَذَا فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِيهِ فَلْيُصَلِّ فِيهِ وَإِلَّا فَلْيَذْهَبْ . فَمَسْجِدُهُ الْمُفَضَّلُ لَمَّا كَانَ يُفَضِّلُ الصَّلَاةَ فِيهِ كَانَ مُسْتَحَبًّا فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ : { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } وَقَالَ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ : الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا } وَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ ثَابِتَةٌ لَهُ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ الْحُجْرَةُ : بَلْ كَانَ حِينَئِذٍ الَّذِينَ يُصَلُّونَ فِيهِ أَفْضَلَ مِمَّنْ صَلَّى فِيهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ بَعْدَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ فِيهِ صَارَ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ فِي حَيَاتِهِ وَحَيَاةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ . بَلْ الْفَضِيلَةُ إنْ اخْتَلَفَتْ الْأَزْمِنَةُ وَالرِّجَالُ فَزَمَنُهُ وَزَمَنُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَفْضَلُ وَرِجَالُهُ أَفْضَلُ . فَالْمَسْجِدُ حِينَئِذٍ قَبْلَ دُخُولِ الْحُجْرَةِ فِيهِ كَانَ أَفْضَلَ إنْ اخْتَلَفَتْ الْأُمُورُ وَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ
فَلَا فَرْقَ . وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ أَنَّهُ صَارَ بِدُخُولِ الْحُجْرَةِ فِيهِ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ . وَهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا دُخُولَ الْحُجْرَةِ فِيهِ وَإِنَّمَا قَصَدُوا تَوْسِيعَهُ بِإِدْخَالِ حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَتْ فِيهِ الْحُجْرَةُ ضَرُورَةً مَعَ كَرَاهَةِ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ السَّلَفِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَا بُنِيَ لِلَّهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ فَضِيلَتُهَا بِعِبَادَةِ اللَّهِ فِيهَا وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِمَنْ عَبَدَ اللَّهَ فِيهَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَبِبِنَائِهَا لِذَلِكَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } . وَالْأَعْمَالُ تُفَضَّلُ بِنِيَّاتِ أَصْحَابِهَا وَطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ } . وَبِذَلِكَ يُثَابُونَ وَعَلَى تَرْكِ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ يُعَاقَبُونَ وَبِذَلِكَ يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ بَلَاءُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَمَا أَصَابَهُمْ مِنْ الْمَصَائِبِ فَبِذُنُوبِهِمْ . قَالَ تَعَالَى : { إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : أَيْ مَا أَصَابَك مِنْ نَصْرٍ وَرِزْقٍ وَعَافِيَةٍ فَهُوَ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْك وَمَا أَصَابَك مِنْ الْمَصَائِبِ فَبِذُنُوبِك . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكُونُ الْعِبَادَةُ إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ وَلَا يَكُونُ التَّوَكُّلُ إلَّا عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَلَا تَكُونُ الْخَشْيَةُ وَالتَّقْوَى إلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حَقٌّ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْأُمَّةِ مِثْلُ وُجُوبِ طَاعَتِهِ فِي كُلِّ مَا يُوجِبُ وَيَأْمُرُ . قَالَ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } . وَلِهَذَا كَانَتْ مُبَايَعَتُهُ مُبَايَعَةً لِلَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } فَإِنَّهُمْ عاقدوه عَلَى أَنْ يُطِيعُوهُ فِي الْجِهَادِ وَلَا يَفِرُّوا وَإِنْ مَاتُوا . وَهَذِهِ الطَّاعَةُ لَهُ هِيَ طَاعَةٌ لِلَّهِ . وَعَلَيْنَا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ أَحَبَّ إلَيْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا وَآبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا وَأَهْلِنَا وَأَمْوَالِنَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمِ : { وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ } . وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : فَإِنَّك الْآنَ وَاَللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ يَا عُمَرُ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ } . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا نَجَاةَ لِأَحَدِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا وُصُولَ لَهُ إلَى رَحْمَةِ اللَّهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ : بِالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَاتِّبَاعِهِ . وَهُوَ الَّذِي يُنْجِيهِ اللَّهُ بِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَهُوَ الَّذِي يُوصِلُهُ إلَى خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . فَأَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَنْفَعُهَا نِعْمَةُ الْإِيمَانِ وَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ أَنْصَحُ وَأَنْفَعُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ . فَإِنَّهُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَّا هُوَ . وَأَمَّا نَفْسُهُ وَأَهْلُهُ فَلَا يُغْنُونَ عَنْهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا . وَهُوَ دَعَا الْخَلْقَ إلَى اللَّهِ بِإِذْنِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَرْسَلْنَاكَ
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } وَالْمُخَالِفُ لَهُ يَدْعُو إلَى غَيْرِ اللَّهِ بِغَيْرِ إذْنِ اللَّهَ . وَمَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدْعُو إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وقَوْله تَعَالَى { بِإِذْنِهِ } أَيْ بِأَمْرِهِ وَمَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } فَمَنْ اتَّبَعَ الرَّسُولَ دَعَا إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَيْ عَلَى بَيِّنَةٍ وَعِلْمٍ يَدْعُو إلَيْهِ بِمَنْزِلِ مِنْ اللَّهِ بِخِلَافِ الَّذِي يَأْمُرُ بِمَا لَا يَعْلَمُ أَوْ بِمَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ وَحْيًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } . وَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَدَبَ إلَيْهِ مِنْ حُقُوقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِحُجْرَتِهِ لَا مِنْ دَاخِلٍ وَلَا مِنْ خَارِجٍ . بَلْ يُفْعَلُ فِي جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي شُرِعَ فِيهَا . فَلَيْسَ فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمُوَالَاتِهِ وَتَبْلِيغِ الْعِلْمِ عَنْهُ وَالْجِهَادِ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ وَمُوَالَاةِ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةِ أَعْدَائِهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيُتَقَرَّبُ إلَيْهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ حُجْرَتِهِ أَفْضَلَ مِنْهُ فِيمَا بَعُدَ عَنْ الْحُجْرَةِ لَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِ ؛ بَلْ قَدْ نَهَى هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجْعَلَ بَيْتُهُ عِيدًا . فَنَهَى أَنْ يُقْصَدَ بَيْتُهُ بِتَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . فَمَنْ قَصَدَ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ
فِعْلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُجْرَةِ أَفْضَلُ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا مِمَّا كَانَ مَشْرُوعًا كَالْإِيمَانِ بِهِ . وَالشَّهَادَةِ لَهُ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ . وَأَمَّا مَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ وَلَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا إلَيْهِ بَلْ نَهَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَدُعَاءِ غَيْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَالْحَجِّ إلَى الْمَخْلُوقِينَ وَإِلَى قُبُورِهِمْ : فَهَذِهِ إنَّمَا يَأْمُرُ بِهَا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ بِذَلِكَ عِلْمٌ وَلَا وَحْيٌ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ فَهُمْ يُضَاهُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونَ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ أَوْ هُمْ نَوْعٌ مِنْهُمْ .
وَقَدْ مَيَّزَ اللَّهُ بَيْنَ حَقِّهِ وَحَقِّ الرَّسُولِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ } فَالطَّاعَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَالْخَشْيَةُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا يُخْشَى مَخْلُوقٌ وَلَا يُتَّقَى مَخْلُوقٌ لَا مَلَكٌ وَلَا نَبِيٌّ وَلَا غَيْرُهُمَا . قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } { وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } . وَكَذَلِكَ مَيَّزَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا
آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَفِي الْإِيتَاءِ قَالَ : { آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } لِأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللَّهِ فِي تَبْلِيغِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَتَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ . فَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وَلَمْ يَقُلْ هُنَا : " وَرَسُولُهُ " ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ حَسْبُ جَمِيعِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ هُوَ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } ذَكَرَ هَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } - إلَى قَوْلِهِ - { قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ } { إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } . عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : هُمْ الَّذِينَ لَا يَعْدِلُونَ بِاَللَّهِ فَيَتَوَلَّاهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ وَلَا تَضُرُّهُمْ عَدَاوَةُ مَنْ عَادَاهُمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مِمَّا يَأْمُرُهُمْ : { سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَجْعَلُوا الرَّغْبَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وَهَذَا لِأَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَمْلِكُ لِلْمَخْلُوقِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا . وَهَذَا عَامٌّ فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } . قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : هَذِهِ الْآيَةُ فِي الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ كَالْمَسِيحِ وَعُزَيْرَ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : كَانَ قَوْمٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعْبُدُونَ قَوْمًا مِنْ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَبَقِيَ أُولَئِكَ عَلَى عِبَادَتِهِمْ . فَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ دَعَا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ هُوَ صَالِحٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ قَالَ تَعَالَى : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَعَوْتُمُوهُمْ { فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ : أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ يَطْلُبُونَ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ وَالتَّزَلُّفَ إلَيْهِ وَأَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةُ حَالِهِمْ . وَالضَّمِيرُ فِي ( رَبِّهِمْ لِلْمُبْتَغِينَ أَوْ لِلْجَمِيعِ . و ( الْوَسِيلَةُ هِيَ الْقُرْبَةُ وَسَبَبُ الْوُصُولِ إلَى الْبُغْيَةِ وَتَوَسَّلَ الرَّجُلُ إذَا طَلَبَ الدُّنُوَّ وَالنَّيْلَ لِأَمْرِ مَا وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ } الْحَدِيثُ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ذَكَرَ سَائِرَ الْمُفَسِّرِينَ نَحْوَهُ إلَّا أَنَّهُ بَرَزَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَقَالَ : و { أَيُّهُمْ } ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ { أَقْرَبُ } و { أُولَئِكَ } يُرَادُ بِهِمْ الْمَعْبُودُونَ وَهُوَ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ { يَبْتَغُونَ } . وَالضَّمِيرُ فِي { يَدْعُونَ } لِلْكُفَّارِ وَفِي { يَبْتَغُونَ } لِلْمَعْبُودِينَ . وَالتَّقْدِيرُ نَظَرُهُمْ وَذِكْرُهُمْ { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } . وَهَذَا كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ الرَّايَةِ بِخَيْبَرِ : فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا أَيْ يَتَبَارَوْنَ فِي طَلَبِ الْقُرْبِ . قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَطَفَّفَ الزَّجَّاجُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَتَأَمَّلْهُ . وَلَقَدْ صَدَقَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الزَّجَّاجَ ذَكَرَ فِي قَوْلِهِ : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } وَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُ وَتَابَعَهُ المهدوي والبغوي وَغَيْرُهُمَا . وَلَكِنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ كَانَ أَقْعَدَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْمَعَانِي مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَخْبَرَ بِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْبَصْرِيِّينَ فَعَرَفَ تَطْفِيفَ الزَّجَّاجِ مَعَ عِلْمِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَسَبْقِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِمَا يَعْرِفُهُ مِنْ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ . وَأُولَئِكَ لَهُمْ بَرَاعَةٌ وَفَضِيلَةٌ فِي أُمُورٍ يَبْرُزُونَ فِيهَا عَلَى ابْنِ عَطِيَّةَ . لَكِنَّ دِلَالَةَ الْأَلْفَاظِ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ هُوَ بِهَا أَخْبَرُ وَإِنْ كَانُوا هُمْ أَخْبَرَ بِشَيْءِ آخَرَ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ أَوْ غَيْرِهَا . وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمَسِيحَ وَإِنْ كَانَ رَسُولًا كَرِيمًا فَإِنَّهُ عَبَدَ اللَّهَ فَمَنْ عَبَدَهُ فَقَدْ عَبَدَ مَا لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ
كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } { أَفَلَا يَتُوبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . وَقَدْ أَمَرَ تَعَالَى أَفْضَلَ الْخَلْقِ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُ لِغَيْرِهِ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ : { قُلْ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } { قُلْ إنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } { إلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ } يَقُولُ : لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ إنْ عَصَيْته كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنِّي أَخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } { وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } أَيْ مَلْجَأً أَلْجَأُ إلَيْهِ . { إلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ } أَيْ لَا يُجِيرُنِي مِنْهُ أَحَدٌ إلَّا طَاعَتُهُ أَنْ أُبَلِّغَ مَا أُرْسِلْت بِهِ إلَيْكُمْ فَبِذَلِكَ تَحْصُلُ الْإِجَارَةُ وَالْأَمْنُ . وَقِيلَ أَيْضًا : { لَا
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } لَا أَمْلِكُ إلَّا تَبْلِيغَ مَا أُرْسِلْت بِهِ مِنْهُ . وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَحُصُولَ السَّعَادَةِ إنَّمَا هُوَ بِطَاعَتِهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ : { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } أَيْ لَوْ لَمْ تَدْعُوهُ كَمَا أَمَرَ فَتُطِيعُوهُ فَتَعْبُدُوهُ وَتُطِيعُوا رُسُلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِكُمْ شَيْئًا . وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُبْتَغَى إلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَالْفَرَّاءِ : الْوَسِيلَةُ الْقُرْبَةُ . قَالَ قتادة : تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِمَا يُرْضِيهِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : تَوَسَّلْت إلَيْهِ أَيْ تَقَرَّبْت . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : تَحَبَّبُوا إلَى اللَّهِ . وَالتَّحَبُّبُ وَالتَّقَرُّبُ إلَيْهِ إنَّمَا هُوَ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ . فَالْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ وَطَاعَتُهُ هُوَ وَسِيلَةُ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ لَيْسَ لَهُمْ وَسِيلَةٌ يَتَوَسَّلُونَ بِهَا أَلْبَتَّةَ إلَّا الْإِيمَانُ بِرَسُولِهِ وَطَاعَتُهُ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ وَسِيلَةٌ إلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلَّا بِوَسِيلَةِ الْإِيمَانِ بِهَذَا الرَّسُولِ الْكَرِيمِ وَطَاعَتِهِ . وَهَذِهِ يُؤْمَرُ بِهَا الْإِنْسَانُ حَيْثُ كَانَ مِنْ الْأَمْكِنَةِ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ . وَمَا خُصَّ مِنْ الْعِبَادَاتِ بِمَكَانِ كَالْحَجِّ أَوْ زَمَانٍ كَالصَّوْمِ وَالْجُمْعَةِ فَكُلٌّ فِي مَكَانِهِ وَزَمَانِهِ . وَلَيْسَ لِنَفْسِ الْحُجْرَةِ مِنْ دَاخِلٍ - فَضْلًا عَنْ جِدَارِهَا مِنْ خَارِجٍ - اخْتِصَاصٌ بِشَيْءِ فِي شَرْعِ
الْعِبَادَاتِ وَلَا فِعْلِ شَيْءٍ مِنْهَا . فَالْقُرْبُ مِنْ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْهُ بِالْبُعْدِ مِنْهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْمَسْجِدُ خُصَّ بِالْفَضِيلَةِ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وُجُودِ الْقَبْرِ فَلَمْ تَكُنْ فَضِيلَةُ مَسْجِدِهِ لِذَلِكَ وَلَا اسْتَحَبَّ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ أَنْ يُجَاوِرَ أَحَدٌ عِنْدَ قَبْرٍ وَلَا يَعْكُفَ عَلَيْهِ لَا قَبْرِهِ الْمُكَرَّمِ وَلَا قَبْرِ غَيْرِهِ وَلَا أَنْ يَقْصِدَ السُّكْنَى قَرِيبًا مِنْ قَبْرٍ أَيَّ قَبْرٍ كَانَ . وَسُكْنَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ هُوَ أَفْضَلُ فِي حَقِّ مَنْ تَتَكَرَّرُ طَاعَتُهُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهَا أَكْثَرُ . كَمَا كَانَ الْأَمْرُ لَمَّا كَانَ النَّاس مَأْمُورِينَ بِالْهِجْرَةِ إلَيْهَا . فَكَانَتْ الْهِجْرَةُ إلَيْهَا وَالْمُقَامُ بِهَا أَفْضَلَ مِنْ جَمِيعِ الْبِقَاعِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا . بَلْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ . فَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ } وَكَانَ مَنْ أَتَى مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ لِيُهَاجِرَ وَيَسْكُنَ الْمَدِينَةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَدِينَتِهِ وَلَا يَأْمُرُهُ بِسُكْنَاهَا . كَمَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْمُرُ النَّاسَ عَقِبَ الْحَجِّ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى بِلَادِهِمْ لِئَلَّا يُضَيِّقُوا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ . وَكَانَ يَأْمُرُ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَقْتَ الْهِجْرَةِ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى أَمَاكِنَ أُخَرَ لِوِلَايَةِ مَكَانٍ وَغَيْرِهِ وَكَانَتْ طَاعَةُ الرَّسُولِ بِالسَّفَرِ إلَى غَيْرِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلَ مِنْ الْمُقَامِ عِنْدَهُ بِالْمَدِينَةِ حِينَ كَانَتْ دَارَ الْهِجْرَةِ فَكَيْفَ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ؟
إذْ كَانَ الَّذِي يَنْفَعُ النَّاسَ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ لَا قَرَابَةٌ وَلَا مُجَاوَرَةٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا . يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا لِي بأولياء إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } . وَقَالَ : { إنَّ أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ حَيْثُ كَانُوا وَمَنْ كَانُوا } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُدَافِعُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ حَيْثُ كَانُوا . فَاَللَّهُ هُوَ الدَّافِعُ وَالسَّبَبُ هُوَ الْإِيمَانُ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { مِنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا } قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } . وَأَمَّا مَا يَظُنُّهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ الْبَلَاءَ يَنْدَفِعُ عَنْ أَهْلِ بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ بِمَنْ هُوَ مَدْفُونٌ عِنْدَهُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ عَنْ أَهْلِ بَغْدَادَ الْبَلَاءُ لِقُبُورِ ثَلَاثَةٍ : أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَبِشْرٍ الْحَافِي وَمَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ وَيَظُنُّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ الْبَلَاءُ عَنْ
أَهْلِ الشَّامِ بِمَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ . وَبَعْضُهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَنْدَفِعُ الْبَلَاءُ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ بِنَفِيسَةَ أَوْ غَيْرِهَا . أَوْ يَنْدَفِعُ عَنْ أَهْلِ الْحِجَازِ بِقَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلِ الْبَقِيعِ أَوْ غَيْرِهِمْ . فَكُلُّ هَذَا غُلُوٌّ مُخَالِفٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . فَالْبَيْتُ الْمُقَدَّسُ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَا شَاءَ اللَّهُ فَلَمَّا عَصَوْا الْأَنْبِيَاءَ وَخَالَفُوا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرُسُلُهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ انْتَقَمَ مِنْهُمْ . وَالرُّسُلُ الْمَوْتَى مَا عَلَيْهِمْ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَقَدْ بَلَّغُوا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ . وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّهِ : { إنْ عَلَيْكَ إلَّا الْبَلَاغُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } . وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِكُلِّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ أَنْ يَهْدِيَهُ وَيَنْصُرَهُ . فَمَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا . كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا . يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ وَلَّاهُ مِنْ أَصْحَابِهِ : { لَا ألفين أَحَدَكُمْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي . فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا قَدْ بَلَّغْتُك } وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَصَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ عَلَى أَفْضَلِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِتَمَسُّكِهِمْ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ . ثُمَّ تَغَيَّرُوا بَعْضَ التَّغَيُّرِ بِقَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَخَرَجَتْ الْخِلَافَةُ النَّبَوِيَّةُ مِنْ عِنْدِهِمْ وَصَارُوا رَعِيَّةً لِغَيْرِهِمْ . ثُمَّ تَغَيَّرُوا بَعْضَ التَّغَيُّرِ فَجَرَى عَلَيْهِمْ عَامَ الْحَرَّةِ مِنْ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَائِبِ مَا لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ . وَاَلَّذِي فَعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا فَلَيْسَ هُوَ أَظْلَمَ مِمَّنْ فَعَلَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مَا فَعَلَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مَدْفُونِينَ بِالْمَدِينَةِ . وَكَذَلِكَ الشَّامُ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ فِي سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ ثُمَّ جَرَتْ فِتَنٌ وَخَرَجَ الْمُلْكُ مِنْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ الْمُنَافِقُونَ الْمَلَاحِدَةُ وَالنَّصَارَى بِذُنُوبِهِمْ وَاسْتَوْلَوْا عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَبْرِ الْخَلِيلِ وَفَتَحُوا الْبِنَاءَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَجَعَلُوهُ كَنِيسَةً . ثُمَّ صَلَحَ دِينُهُمْ فَأَعَزَّهُمْ اللَّهُ وَنَصَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ لَمَّا أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاتَّبَعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ . فَطَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ قُطْبُ السَّعَادَةِ وَعَلَيْهَا تَدُورُ { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَلَا يَضُرُّ إلَّا
نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا } . وَمَكَّةُ نَفْسُهَا لَا يُدْفَعُ الْبَلَاءُ عَنْ أَهْلِهَا وَيُجْلَبُ لَهُمْ الرِّزْقُ إلَّا بِطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } . وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ وَيَحُجُّونَ وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَكَانُوا خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . وَاَللَّهُ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ . وَكَانُوا يُكْرَمُونَ مَا لَا يُكْرَمُ غَيْرُهُمْ وَيُؤْتَوْنَ مَا لَا يُؤْتَاهُ غَيْرُهُمْ لِكَوْنِهِمْ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ بِأَعْظَمَ مِمَّا تَمَسَّكَ بِهِ غَيْرُهُمْ . وَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إنْ كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَانَ جَزَاؤُهُمْ بِحَسَبِ فَضْلِهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَسْوَأَ عَمَلًا مِنْ غَيْرِهِمْ كَانَ جَزَاؤُهُمْ بِحَسَبِ سَيِّئَاتِهِمْ . فَالْمَسَاجِدُ وَالْمَشَاعِرُ إنَّمَا يَنْفَعُ فَضْلُهَا لِمَنْ عَمِلَ فِيهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْبِقَاعِ لَا يَحْصُلُ بِهَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ وَإِنَّمَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَالْمَنْهِيِّ عَنْهَا . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِدِمَشْقَ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ بِالْعِرَاقِ فَكَتَبَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إلَى سَلْمَانَ : هَلُمَّ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ . فَكَتَبَ إلَيْهِ سَلْمَانُ : إنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الرَّجُلَ عَمَلُهُ . وَالْمُقَامُ بِالثُّغُورِ لِلْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ سُكْنَى الْحَرَمَينِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَلِهَذَا كَانَ سُكْنَى الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلَ لِلْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى : هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْخَلْقَ . وَهُوَ الَّذِي يَهْدِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ . وَكُلُّ مَنْ سِوَاهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وَقَدْ فَسَّرُوهَا بِأَنَّهُ يُؤْذَنُ لِلشَّافِعِ وَالْمَشْفُوعِ لَهُ جَمِيعًا فَإِنَّ سَيِّدَ الشُّفَعَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ الشَّفَاعَةَ قَالَ : { فَإِذَا رَأَيْت رَبِّي خَرَرْت لَهُ سَاجِدًا وَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْسِنُهَا الْآنَ فَيُقَالُ لِي : ارْفَعْ رَأْسَك وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ . قَالَ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ } . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ . وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ دُونَ اللَّهِ . وَقَوْلُهُ : " إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ " اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ هُمْ أَصْحَابُ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ الشَّافِعُ وَمِنْهُمْ الْمَشْفُوعُ لَهُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سَأَلَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ : مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لَقَدْ ظَنَنْت أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلَ مِنْك
لِمَا رَأَيْت مِنْ حِرْصِك عَلَى الْحَدِيثِ . أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَجَعَلَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ أَكْمَلَهُمْ إخْلَاصًا . وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا . وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لَهُ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . وَلَمْ يَقُلْ كَانَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي بَلْ قَالَ : { أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ } . فَعُلِمَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ مِنْ شَفَاعَةِ الرَّسُولِ وَغَيْرِهَا لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا كَسُؤَالِهِ الْوَسِيلَةَ لِلرَّسُولِ فَكَيْفَ بِمَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ بَلْ نَهَى عَنْهُ ؟ فَذَاكَ لَا يَنَالُ بِهِ خَيْرًا لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ غُلُوِّ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ . وَنَظِيرُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ
بِاَللَّهِ شَيْئًا } . وَكَذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ كُلِّهَا إنَّمَا يَشْفَعُ فِي أَهْلِ التَّوْحِيدِ فَبِحَسَبِ تَوْحِيدِ الْعَبْدِ لِلَّهِ وَإِخْلَاصِهِ دِينَهُ لِلَّهِ يَسْتَحِقُّ كَرَامَةَ الشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا . وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ وَالْحَمْدَ وَالذَّمَّ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَطَاعَتِهِ فَمَنْ كَانَ أَكْمَلَ فِي ذَلِكَ كَانَ أَحَقَّ بِتَوَلِّي اللَّهِ لَهُ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . ثُمَّ جَمِيعُ عِبَادِهِ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ هُوَ الَّذِي يَرْزُقُهُمْ وَهُوَ الَّذِي يَدْفَعُ عَنْهُمْ الْمَكَارِهَ وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُونَهُ فِي النَّوَائِبِ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ } أَيْ بَدَلًا عَنْ الرَّحْمَنِ . هَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ } أَيْ لَجَعَلْنَا بَدَلًا مِنْكُمْ كَمَا قَالَهُ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً * * * مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى الطَّهَيَانِ
أَيْ بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ . فَلَا يَكْلَأُ الْخَلْقَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَحْفَظُهُمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ الْمَكَارِهَ إلَّا اللَّهُ . قَالَ تَعَالَى : { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إنِ الْكَافِرُونَ إلَّا فِي غُرُورٍ } { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } .
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ أَرْضًا مُعَيَّنَةً تَدْفَعُ عَنْ أَهْلِهَا الْبَلَاءَ مُطْلَقًا لِخُصُوصِهَا أَوْ لِكَوْنِهَا فِيهَا قُبُورُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهُوَ غالط . فَأَفْضَلُ الْبِقَاعِ مَكَّةُ وَقَدْ عَذَّبَ اللَّهُ أَهْلَهَا عَذَابًا عَظِيمًا فَقَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } { وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } .
فَصْلٌ :
وَوُلَاةُ الْأَمْرِ أَحَقُّ النَّاسِ بِنَصْرِ دِينِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ و بِإِنْكَارِ مَا نَهَى عَنْهُ وَمَا نُسِبَ إلَيْهِ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبِدَعِ . إمَّا جَهْلًا مِنْ نَاقِلِهِ وَإِمَّا عَمْدًا فَإِنَّ أَصْلَ الدِّينِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَرَأْسُ الْمَعْرُوفِ هُوَ التَّوْحِيدُ وَرَأْسُ الْمُنْكَرِ هُوَ الشِّرْكُ . وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ . بِهِ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَبَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَبَيْنَ الرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَبَيْنَ الْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ . فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ بِمَا نَهَى عَنْهُ وَيَنْهَى عَمَّا أَمَرَ بِهِ وَيُغَيِّرَ شَرِيعَتَهُ وَدِينَهُ إمَّا جَهْلًا وَقِلَّةَ عِلْمٍ وَإِمَّا لِغَرَضِ وَهَوًى كَانَ السُّلْطَانُ أَحَقَّ بِمَنْعِهِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَكَانَ هُوَ أَحَقَّ
بِإِظْهَارِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْصُرَ رَسُولَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ . فَمَنْ كَانَ النَّصْرُ عَلَى يَدَيْهِ كَانَ لَهُ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِلَّا جَعَلَ اللَّهُ النَّصْرَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَجَازَى كُلَّ قَوْمٍ بِعَمَلِهِمْ وَمَا رَبُّك بِظَلَّامِ لِلْعَبِيدِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ وَعَدَ أَنَّهُ لَا يَزَالُ هَذَا الدِّينُ ظَاهِرًا وَلَا يَظْهَرُ إلَّا بِالْحَقِّ وَأَنَّهُ مَنْ نَكَلَ عَنْ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ اسْتَبْدَلَ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ } { إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةً عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } وَقَدْ أَرَى اللَّهُ النَّاسَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَالْآفَاقِ مَا عَلِمُوا بِهِ تَصْدِيقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قُبُورُ الْأَنْبِيَاءِ : فَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ هُوَ " قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَإِنَّ قَبْرَهُ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ وَكَذَلِكَ فِي صَاحِبَيْهِ وَأَمَّا " قَبْرُ الْخَلِيلِ " فَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَكَانَ الْمَعْرُوفَ هُوَ قَبْرُهُ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ وَحُكِيَ الْإِنْكَارُ عَنْ مَالِكٍ وَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا قَبْرُ نَبِيٍّ يُعْرَفُ إلَّا قَبْرُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ عَلَى أَنَّ هَذَا قَبْرُهُ وَدَلَائِلُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ . وَلَكِنْ لَيْسَ فِي مَعْرِفَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ بِأَعْيَانِهَا فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَلَيْسَ حِفْظُ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ وَلَوْ كَانَ مِنْ الدِّينِ لَحَفِظَهُ اللَّهُ كَمَا حَفِظَ سَائِرَ الدِّينِ وَذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ إنَّمَا قَصْدُهُ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا وَالدُّعَاءُ بِهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا . وَمَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْإِيمَانَ بِهِمْ وَإِحْيَاءَ ذِكْرِهِمْ فَذَاكَ مُمْكِنٌ لَهُ وَإِنْ لَمْ
يَعْرِفْ قُبُورَهُمْ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ . وَقَدْ تَقَدَّمَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } وَمَا يُشْبِهُ هَذَا مِنْ الْحَدِيثِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ " قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ " عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَلْ هِيَ هَذِهِ الْقُبُورُ الَّتِي تَزُورُهَا النَّاسُ الْيَوْمَ ؟ مِثْلُ قَبْرِ نُوحٍ وَقَبْرِ الْخَلِيلِ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ وَيُونُسَ وَإِلْيَاسَ وَاَلْيَسَعَ وَشُعَيْبٍ وَمُوسَى وَزَكَرِيَّا وَهُوَ بِمَسْجِدِ دِمَشْقَ . وَأَيْنَ قَبْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ؟ فَهَلْ يَصِحُّ مِنْ تِلْكَ الْقُبُورِ شَيْءٌ أَمْ لَا ؟ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْقَبْرُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ هُوَ قَبْرُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَبْرُ الْخَلِيلِ فِيهِ نِزَاعٌ ؛ لَكِنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ قَبْرُهُ . وَأَمَّا يُونُسُ وَإِلْيَاسُ وَشُعَيْبٌ وَزَكَرِيَّا فَلَا يُعْرَفُ . وَقَبْرُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ الَّذِي بِالْكُوفَةِ وَقَبْرُ مُعَاوِيَةَ هُوَ الْقَبْرُ الَّذِي تَقُولُ الْعَامَّةَ إنَّهُ قَبْرُ هُودٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ الْمَشَاهِدُ الْمُسَمَّاةُ بِاسْمِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَوَلَدِهِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا صَحِيحَةٌ أَمْ لَا ؟ وَأَيْنَ ثَبَتَ قَبْرُ عَلِيٍّ ؟ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا هَذِهِ الْمَشَاهِدُ الْمَشْهُورَةُ فَمِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ قَطْعًا : مِثْلُ الْمَشْهَدِ الَّذِي بِظَاهِرِ دِمَشْقَ الْمُضَافِ إلَى أبي بْنِ كَعْبٍ " . وَالْمَشْهَدِ الَّذِي بِظَاهِرِهَا الْمُضَافِ إلَى أُوَيْسٍ القرني " وَالْمَشْهَدِ الَّذِي بِمِصْرِ الْمُضَافِ إلَى الْحُسَيْنِ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَشَاهِدِ الَّتِي يَطُولُ ذِكْرُهَا بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَسَائِرِ الْأَمْصَارِ حَتَّى قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ : كُلُّ هَذِهِ الْقُبُورِ الْمُضَافَةِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا قَبْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَثْبَتَ غَيْرُهُ أَيْضًا قَبْرَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ . وَأَمَّا " مَشْهَدُ عَلِيٍّ " فَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ قَبْرَهُ ؛ بَلْ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ قَبْرُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا أُظْهِرَ بَعْدَ نَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ مَوْتِ عَلِيٍّ فِي إمَارَةِ بَنِي بويه وَذَكَرُوا أَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ حِكَايَةٌ
بَلَغَتْهُمْ عَنْ الرَّشِيدِ أَنَّهُ أَتَى إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَجَعَلَ يَعْتَذِرُ إلَى مَنْ فِيهِ مِمَّا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذُرِّيَّةِ عَلِيٍّ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ لَا يَقُومُ شَيْءٌ . فَالرَّشِيدُ أَيْضًا لَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ . وَلَعَلَّ هَذِهِ الْحِكَايَةَ إنْ صَحَّتْ عَنْهُ فَقَدْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا قِيلَ لِغَيْرِهِ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ يَقُولُونَ : إنَّ عَلِيًّا إنَّمَا دُفِنَ فِي قَصْرِ الْإِمَارَةِ بِالْكُوفَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ . وَهَكَذَا هُوَ السُّنَّةُ ؛ فَإِنَّ حَمْلَ مَيِّتٍ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ لَيْسَ فِيهِ فَضِيلَةُ أَمْرٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ ؛ فَلَا يُظَنُّ بِآلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُمْ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ وَلَا يَظُنُّهُ أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ خَفِيَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُمِائَةِ سَنَةٍ حَتَّى أَظْهَرَهُ قَوْمٌ مِنْ الْأَعَاجِمِ الْجُهَّالِ ذَوِي الْأَهْوَاءِ . وَكَذَلِكَ " قَبْرُ مُعَاوِيَةَ " الَّذِي بِظَاهِرِ دِمَشْقَ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَيْسَ قَبْرَ مُعَاوِيَةَ وَإِنَّ قَبْرَهُ بِحَائِطِ مَسْجِدِ دِمَشْقَ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ " قَبْرُ هُودٍ " . وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ عَامَّةَ أَمْرِ هَذِهِ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ مُضْطَرِبٌ مُخْتَلَقٌ لَا يَكَادُ يُوقَفُ مِنْهُ عَلَى الْعِلْمِ إلَّا فِي قَلِيلٍ مِنْهَا بَعْد بَحْثٍ شَدِيدٍ . وَهَذَا لِأَنَّ مَعْرِفَتَهَا وَبِنَاءَ الْمَسَاجِدِ عَلَيْهَا لَيْسَ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَلَا ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الذِّكْرِ الَّذِي تَكَفَّلَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ حَيْثُ قَالَ : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } بَلْ قَدْ نَهَى
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَفْعَلُهُ الْمُبْتَدِعُونَ عِنْدَهَا مِثْلُ قَوْلِهِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ : إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } وَقَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } .
وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْرَعُ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ عَلَى الْقُبُورِ وَلَا يُشْرَعُ اتِّخَاذُهَا مَسَاجِدَ وَلَا يُشْرَعُ الصَّلَاةُ عِنْدَهَا وَلَا يُشْرَعُ قَصْدُهَا لِأَجْلِ التَّعَبُّدِ عِنْدَهَا بِصَلَاةِ أَوْ اعْتِكَافٍ أَوْ اسْتِغَاثَةٍ أَوْ ابْتِهَالٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَرِهُوا الصَّلَاةَ عِنْدَهَا ؛ ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَالَ : إنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَهَا بَاطِلَةٌ لِأَجْلِ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا . وَإِنَّمَا السُّنَّةُ لِمَنْ زَارَ قَبْرَ مُسْلِمٍ مَيِّتٍ إمَّا نَبِيٍّ أَوْ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ غَيْرِهِمَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ هَذِهِ حَيْثُ يَقُولُ فِي الْمُنَافِقِينَ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } فَكَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيُقَامُ عَلَى قُبُورِهِمْ وَفِي السُّنَنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا
دَفَنَ الْمَيِّتَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُومُ عَلَى قَبْرِهِ ثُمَّ يَقُولُ : سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ أَنْ يَقُولُوا إذَا زَارُوا الْقُبُورَ : { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ دَارِ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ؛ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ } . وَإِنَّمَا دِينُ اللَّهِ تَعْظِيمُ بُيُوتِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ الَّتِي تُشْرَعُ فِيهَا الصَّلَوَاتُ جَمَاعَةً وَغَيْرَ جَمَاعَةٍ وَالِاعْتِكَافُ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْقَلْبِيَّةِ : مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ لِلَّهِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } { رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . فَهَذَا دِينُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ .
وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْقُبُورِ أَوْثَانًا فَهُوَ دِينُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُصْلِحُ حَالَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ الْمَشْهَدِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَدِينَةِ الْقَاهِرَةِ : هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا ؟ . وَهَلْ حُمِلَ رَأْسُ الْحُسَيْنِ إلَى دِمَشْقَ ثُمَّ إلَى مِصْرَ أَمْ حُمِلَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الْعِرَاقِ ؟ . وَهَلْ لِمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْهَدِ الَّذِي كَانَ بِعَسْقَلَانَ صِحَّةٌ أَمْ لَا ؟ وَمَنْ ذَكَرَ أَمْرَ رَأْسِ الْحُسَيْنِ وَنَقَلَهُ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ دُونَ الشَّامِ وَمِصْرَ ؟ وَمَنْ جَزَمَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين بِأَنَّ مَشْهَدَ عَسْقَلَانَ وَمَشْهَدَ الْقَاهِرَةِ مَكْذُوبٌ وَلَيْسَ بِصَحِيحِ ؟ وَلْيَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ مَسِيسِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ إلَيْهِ
مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ الْمَشْهَدُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمَعْرُوفِينَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ وَصِدْقِهِمْ . وَلَا يُعْرَفُ عَنْ عَالِمٍ مُسَمًّى مَعْرُوفٍ بِعِلْمِ وَصِدْقٍ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ صَحِيحٌ . وَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ قَوْلًا عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ عَلَى عَادَةِ مَنْ يَحْكِي مَقَالَاتِ الرَّافِضَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكَذِبِ . فَإِنَّهُمْ يَنْقُلُونَ أَحَادِيثَ وَحِكَايَاتٍ وَيَذْكُرُونَ مَذَاهِبَ وَمَقَالَاتٍ . وَإِذَا طَالَبْتهمْ بِمَنْ قَالَ ذَلِكَ وَنَقَلَهُ ؟ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِصْمَةٌ يَرْجِعُونَ إلَيْهَا . وَلَمْ يُسَمُّوا أَحَدًا مَعْرُوفًا بِالصِّدْقِ فِي نَقْلِهِ وَلَا بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ ؛ بَلْ غَايَةُ مَا يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ : أَنْ يَقُولُوا : أَجْمَعَتْ الطَّائِفَةُ الْحَقَّةُ . وَهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ الطَّائِفَةُ الْحَقَّةُ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ الْمُؤْمِنُونَ وَسَائِرُ الْأُمَّةِ سِوَاهُمْ كُفَّارٌ . وَيَقُولُونَ : إنَّمَا كَانُوا عَلَى الْحَقِّ لِأَنَّ فِيهِمْ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ وَالْمَعْصُومُ عِنْدَ الرَّافِضَةِ الْإِمَامِيَّةِ الِاثْنَا عَشْرِيَّةِ : هُوَ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ دَخَلَ إلَى
سِرْدَابِ سَامِرَا بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيِّ سَنَةَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ . وَهُوَ إلَى الْآنَ غَائِبٌ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ خَبَرٌ وَلَا وَقَعَ لَهُ أَحَدٌ عَلَى عَيْنٍ وَلَا أَثَرٍ . وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِأَنْسَابِ أَهْلِ الْبَيْتِ يَقُولُونَ : إنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسْلٌ وَلَا عَقِبٌ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعُقَلَاءَ كُلَّهُمْ يَعُدُّونَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ أَسْفَهِ السَّفَهِ وَاعْتِقَادُ الْإِمَامَةِ وَالْعِصْمَةِ فِي مِثْلِ هَذَا : مِمَّا لَا يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ إلَّا مَنْ هُوَ أَسْفَهُ النَّاسِ وَأَضَلُّهُمْ وَأَجْهَلُهُمْ . وَبَسْطُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : بَيَانُ جِنْسِ الْمَقُولَاتِ وَالْمَنْقُولَاتِ عِنْدَ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَاتِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ عِنْدَ الْجُهَّالِ الضُّلَّالِ يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا الْمُنْتَظَرَ كَانَ عُمْرُهُ عِنْدَ مَوْتِ أَبِيهِ : إمَّا سَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنِهِمْ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ عُلِمَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ : أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ وِلَايَةِ غَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ . فَيَكُونُ هُوَ نَفْسُهُ مَحْضُونًا مَكْفُولًا لِآخَرَ يَسْتَحِقُّ كَفَالَتَهُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ تَحْتَ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ وَالْقِيَامَ عَلَيْهِ مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ غَيْرِهِ . وَهُوَ قَبْلَ السَّبْعِ طِفْلٌ لَا يُؤْمَرُ
بِالصَّلَاةِ . فَإِذَا بَلَغَ الْعَشْرَ وَلَمْ يُصَلِّ أُدِّبَ عَلَى فِعْلِهَا . فَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلُ هَذَا إمَامًا مَعْصُومًا يَعْلَمُ جَمِيعَ الدِّينِ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ . ثُمَّ بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِ وَإِمَامَتِهِ وَعِصْمَتِهِ : إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ أَنْ يُطِيعُوا مَنْ يَكُونُ قَائِمًا بَيْنَهُمْ : يَأْمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . فَإِذَا لَمْ يَرَوْهُ وَلَمْ يَسْمَعُوا كَلَامَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَرِيقٌ إلَى الْعِلْمِ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَمَا يَنْهَى عَنْهُ . فَلَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُمْ طَاعَتَهُ إذْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِشَيْءِ سَمِعُوهُ وَعَرَفُوهُ وَطَاعَةُ مَنْ لَا يَأْمُرُ مُمْتَنِعَةٌ لِذَاتِهَا . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ وَلَكِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ أَمْرُهُ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الْعِلْمِ بِذَلِكَ : كَانُوا عَاجِزِينَ غَيْرَ مُطِيقِينَ لِمَعْرِفَةِ مَا أُمِرُوا بِهِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الْعِلْمِ شَرْطٌ فِي طَاعَةِ الْأَمْرِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الشِّيعَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ . فَإِنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مَنْعًا لِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ ؛ لِمُوَافَقَتِهِمْ الْمُعْتَزِلَةَ فِي الْقَدَرِ وَالصِّفَاتِ أَيْضًا . وَإِنْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ . لِأَنَّهُمْ أَخَافُوهُ أَنْ يَظْهَرَ . قِيلَ : هَبْ أَنَّ أَعْدَاءَهُ أَخَافُوهُ فَأَيُّ ذَنْبٍ لِأَوْلِيَائِهِ وَمُحِبِّيهِ ؟ وَأَيُّ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَهُوَ لَا يُعْلِمُهُمْ شَيْئًا وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِشَيْءِ ؟ ثُمَّ كَيْفَ جَازَ لَهُ - مَعَ وُجُوبِ الدَّعْوَةِ عَلَيْهِ - أَنَّ يَغِيبَ هَذِهِ
الْغَيْبَةَ الَّتِي لَهَا الْآنَ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةٍ . وَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَهُ هَذِهِ الْغَيْبَةَ دُونَ آبَائِهِ الَّذِينَ كَانُوا مَوْجُودِينَ قَبْلَ مَوْتِهِمْ : كَعَلِيِّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ وَعَلِيِّ بْنِ مُوسَى وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْعَسْكَرِيِّ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا مَوْجُودِينَ يَجْتَمِعُونَ بِالنَّاسِ . وَقَدْ أُخِذَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ - مِنْ الْعِلْمِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِهِ وَالْبَاقُونَ لَهُمْ سِيَرٌ مَعْرُوفَةٌ وَأَخْبَارٌ مَكْشُوفَةٌ . فَمَا بَالُهُ اسْتَحَلَّ هَذَا الِاخْتِفَاءَ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ . وَهُوَ إمَامُ الْأُمَّةِ بَلْ هُوَ عَلَى زَعْمِهِمْ هَادِيهَا وَدَاعِيهَا وَمَعْصُومُهَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهَا الْإِيمَانُ بِهِ . وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ عِنْدَهُمْ ؟ فَإِنْ قَالُوا : الْخَوْفُ . قِيلَ : الْخَوْفُ عَلَى آبَائِهِ كَانَ أَشَدَّ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ حُبِسَ بَعْضُهُمْ وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ . ثُمَّ الْخَوْفُ إنَّمَا يَكُونُ إذَا حَارَبَ . فَأَمَّا إذَا فَعَلَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ سَلَفُهُ مِنْ الْجُلُوسِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْلِيمِهِمْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَوْفٌ .
وَبَيَانُ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ طَوِيلٌ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بَيَانُهُ هُنَا : أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا أَصْلَ دِينِهِمْ . ثُمَّ يَقُولُونَ : إذَا اخْتَلَفَتْ الطَّائِفَةُ الْحَقَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ . أَحَدُهُمَا : يُعْرَفُ قَائِلُهُ وَالْآخَرُ : لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ هُوَ الْحَقَّ هَكَذَا وَجَدْته فِي كُتُبِ شُيُوخِهِمْ وَعَلَّلُوا ذَلِكَ : بِأَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ قَائِلُهُ يَكُونُ مِنْ قَائِلِيهِ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ . وَهَذَا نِهَايَةُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ . وَهَكَذَا كُلُّ مَا يَنْقُلُونَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ - يَنْقُلُونَ سِيَرًا أَوْ حِكَايَاتٍ وَأَحَادِيثَ إذَا مَا طَالَبْتهمْ بِإِسْنَادِهَا لَمْ يُحِيلُوك عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِالصِّدْقِ بَلْ حَسْبُ أَحَدِهِمْ أَنْ يَكُونَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ آخَرَ مِثْلَهُ أَوْ قَرَأَهُ فِي كِتَابٍ لَيْسَ فِيهِ إسْنَادٌ مَعْرُوفٌ وَإِنْ سَمَّوْا أَحَدًا : كَانَ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ . لَا يُتَصَوَّرُ قَطُّ أَنْ يَنْقُلُوا شَيْئًا مِمَّا لَا يُعْرَفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ إلَّا وَهُوَ عَنْ مَجْهُولٍ لَا يُعْرَفُ أَوْ عَنْ مَعْرُوفٍ بِالْكَذِبِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ نَقْلُ النَّاقِلِ : أَنَّ هَذَا الْقَبْرَ الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ : " مَشْهَدُ الْحُسَيْنِ " رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلْ وَكَذَلِكَ مَشَاهِدُ غَيْرِ هَذَا مُضَافَةٌ إلَى قَبْرِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ : أَنَّ هَذَا الْمَشْهَدَ بُنِيَ عَامَ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَأَنَّهُ نُقِلَ مِنْ مَشْهَدٍ بِعَسْقَلَانَ وَأَنَّ ذَلِكَ
الْمَشْهَدَ بِعَسْقَلَانَ كَانَ قَدْ أُحْدِثَ بَعْدَ التِّسْعِينَ وَالْأَرْبَعمِائَة . فَأَصْلُ هَذَا الْمَشْهَدِ الْقَاهِرِيَّ : هُوَ ذَلِكَ الْمَشْهَدُ الْعَسْقَلَانِيُّ . وَذَلِكَ الْعَسْقَلَانِيُّ مُحْدَثٌ بَعْدَ مَقْتَلِ الْحُسَيْنِ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَهَذَا الْقَاهِرِيُّ مُحْدَثٌ بَعْدَ مَقْتَلِهِ بِقَرِيبِ مِنْ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهِ اثْنَانِ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهِمْ كَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَمُصَنِّفِي أَخْبَارِ الْقَاهِرَةِ وَمُصَنِّفِي التَّوَارِيخِ . وَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ طَبَقَةٌ عَنْ طَبَقَةٍ . فَمِثْلَ هَذَا مُسْتَفِيضٌ عِنْدَهُمْ . وَهَذَا بَيْنَهُمْ مَشْهُورٌ مُتَوَاتِرٌ سَوَاءٌ قِيلَ : إنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْحُسَيْنِ صِدْقٌ أَوْ كَذِبٌ لَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ نُقِلَ مِنْ عَسْقَلَانَ فِي أَوَاخِرَ الدَّوْلَةِ العبيدية . وَإِذَا كَانَ أَصْلُ هَذَا الْمَشْهَدِ الْقَاهِرِيِّ : مَنْقُولٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ الْعَسْقَلَانِيِّ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ وَبِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنَّ ذَلِكَ الَّذِي بِعَسْقَلَانَ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْسِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلٌ بِلَا حُجَّةٍ أَصْلًا . فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ نَقْلُ هَذَا . لَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَلَا مِنْ عُلَمَاءِ الْأَخْبَارِ وَالتَّوَارِيخِ وَلَا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُصَنِّفِينَ فِي النَّسَبِ : نَسَبِ قُرَيْشٍ أَوْ نَسَبِ بَنِي هَاشِمٍ وَنَحْوِهِ .
وَذَلِكَ الْمَشْهَدُ الْعَسْقَلَانِيُّ : أُحْدِثَ فِي آخِرِ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا وَلَا كَانَ هُنَاكَ مَكَانٌ قَبْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ مُضَافٌ إلَى الْحُسَيْنِ وَلَا حَجَرٌ مَنْقُوشٌ وَلَا نَحْوُهُ مِمَّا يُقَالُ : إنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى ذَلِكَ . فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ إضَافَةَ مِثْلِ هَذَا إلَى الْحُسَيْنِ قَوْلٌ بِلَا عِلْمٍ أَصْلًا . وَلَيْسَ مَعَ قَائِلِ ذَلِكَ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَمَدًا لَا نَقْلٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ بَلْ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ إلَى بَعْضِ الْقُبُورِ الَّتِي بِأَحَدِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَيَدَّعِي أَنَّ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا رَأْسَ الْحُسَيْنِ أَوْ يَدَّعِي أَنَّ هَذَا قَبْرُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَذِبِ وَالضَّلَالِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ مَنْقُولٍ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَغَالِبُ مَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ الْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ : أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ رَأَى مَنَامًا أَوْ أَنَّهُ وَجَدَ بِذَلِكَ الْقَبْرِ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى صَلَاحِ سَاكِنِهِ : إمَّا رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ وَإِمَّا تَوَهُّمُ خَرْقِ عَادَةٍ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَإِمَّا حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ : أَنَّهُ كَانَ يُعَظِّمُ ذَلِكَ الْقَبْرَ . فَأَمَّا الْمَنَامَاتُ فَكَثِيرٌ مِنْهَا بَلْ أَكْثَرُهَا كَذِبٌ وَقَدْ عَرَفْنَا فِي زَمَانِنَا بِمِصْرِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ رَأَى مَنَامَاتٍ تَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ الْبِقَاعِ أَنَّهُ قَبْرُ نَبِيٍّ أَوْ أَنَّ فِيهِ أَثَرَ نَبِيٍّ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَيَكُونُ كَاذِبًا
وَهَذَا الشَّيْءُ مُنْتَشِرٌ . فَرَائِي الْمَنَامِ غَالِبًا مَا يَكُونُ كَاذِبًا وَبِتَقْدِيرِ صِدْقِهِ : فَقَدْ يَكُونُ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ شَيْطَانٌ . وَالرُّؤْيَا الْمَحْضَةُ الَّتِي لَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِهَا شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ . فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ : رُؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَرُؤْيَا مِنْ الشَّيْطَانِ } . فَإِذَا كَانَ جِنْسُ الرُّؤْيَا تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ . فَلَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا عَنْ نَوْعٍ . وَمِنْ النَّاسِ - حَتَّى مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِي لَهُمْ ظَاهِرُ عِلْمٍ وَزُهْدٍ - مَنْ يَجْعَلُ مُسْتَنَدَهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ : حِكَايَةً يَحْكِيهَا عَنْ مَجْهُولٍ حَتَّى أَنَّ مِنْهُمْ مِنْ يَقُولُ : حَدَّثَنِي أَخِي الْخَضِرُ أَنَّ قَبْرَ الْخَضِرِ بِمَكَانِ كَذَا وَمِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ كُلَّ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ رَأَى الْخَضِرَ أَوْ رَأَى مَنْ رَأَى الْخَضِرَ أَوْ سَمِعَ شَخْصًا رَأَى الْخَضِرَ أَوْ ظَنَّ الرَّائِي أَنَّهُ الْخَضِرُ : أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى الْجَهَلَةِ الْمُخَرِّفِينَ الَّذِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ عِلْمٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا دِينٍ بَلْ هُمْ مِنْ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ . وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ مِنْ وُجُودِ رَائِحَةٍ طَيِّبَةٍ أَوْ خَرْقِ عَادَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْقَبْرِ : فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِهِ . وَأَنَّهُ فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ بَلْ
غَايَةُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ - إذَا ثَبَتَ - أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى صَلَاحِ الْمَقْبُورِ وَأَنَّهُ قَبْرُ رَجُلٍ صَالِحٍ أَوْ نَبِيٍّ . وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الرَّائِحَةُ مِمَّا صَنَعَهُ بَعْضُ السُّوقَةِ . فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَفْعَلُهُ طَائِفَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ ظَهَرَ بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ رَجُلَانِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا قَدْ اتَّخَذَ قَبْرًا تُجْبَى إلَيْهِ أَمْوَالٌ مِمَّنْ يَزُورُهُ وَيَنْذِرُ لَهُ مِنْ الضُّلَّالِ فَعَمَدَ الْآخَرُ إلَى قَبْرٍ وَزَعَمَ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ قَبْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَجَعَلَ فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ مَا ظَهَرَتْ لَهُ رَائِحَةٌ عَظِيمَةٌ . وَقَدْ حَدَّثَنِي جِيرَانُ الْقَبْرِ الَّذِي بِجَبَلِ لُبْنَانَ بِالْبِقَاعِ الَّذِي يُقَالُ : إنَّهُ قَبْرُ نُوحٍ وَكَانَ قَدْ ظَهَرَ قَرِيبًا فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ السَّابِعَةِ وَأَصْلُهُ : أَنَّهُمْ شَمُّوا مِنْ قَبْرٍ رَائِحَةً طَيِّبَةً وَوَجَدُوا عِظَامًا كَبِيرَةً فَقَالُوا : هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى كَبِيرِ خَلْقِ الْبِنْيَةِ فَقَالُوا - بِطَرِيقِ الظَّنِّ - هَذَا قَبْرُ نُوحٍ وَكَانَ بِالْبُقْعَةِ مَوْتَى كَثِيرُونَ مِنْ جِنْسِ هَؤُلَاءِ . وَكَذَلِكَ هَذَا الْمَشْهَدُ الْعَسْقَلَانِيُّ قَدْ ذَكَرَ طَائِفَةٌ : أَنَّهُ قَبْرُ بَعْضِ الْحَوَارِيِّينَ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . وَقَدْ يُوجَدُ عِنْدَ قُبُورِ الْوَثَنِيِّينَ مِنْ جِنْسِ مَا يُوجَدُ عِنْدَ قُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ بَلْ إنَّ زَعْمَ الزَّاعِمِ أَنَّهُ قَبْرُ الْحُسَيْنِ ظَنٌّ وَتَخَرُّصٌ . وَكَانَ مِنْ الشُّيُوخِ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ وَالدِّينِ
بِالْقَاهِرَةِ مَنْ ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : هُوَ قَبْرُ نَصْرَانِيٍّ . وَكَذَلِكَ بِدِمَشْقَ بِالْجَانِبِ الشَّرْقِيِّ مَشْهَدٌ يُقَالُ : إنَّهُ قَبْرُ أبي بْنِ كَعْبٍ . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ أبيا لَمْ يَقْدَمْ دِمَشْقَ . وَإِنَّمَا مَاتَ بِالْمَدِينَةِ . فَكَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ : إنَّهُ قَبْرُ نَصْرَانِيٍّ . وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ . فَإِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى هُمْ السَّابِقُونَ فِي تَعْظِيمِ الْقُبُورِ وَالْمَشَاهِدِ . وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى : اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا } . وَالنَّصَارَى أَشَدُّ غُلُوًّا فِي ذَلِكَ مِنْ الْيَهُودِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَتْ لَهُ أُمُّ حَبِيبَةَ وَأُمُّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَنِيسَةً بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِيرَ فِيهَا . فَقَالَ : إنَّ أُولَئِكَ إذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ التَّصَاوِيرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَالنَّصَارَى كَثِيرًا مَا يُعَظِّمُونَ آثَارَ الْقِدِّيسِينَ مِنْهُمْ . فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنَّهُمْ أَلْقَوْا إلَى بَعْضِ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ هَذَا قَبْرُ بَعْضِ مَنْ يُعَظِّمُهُ الْمُسْلِمُونَ لِيُوَافِقُوهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهِ . كَيْفَ لَا ؟ وَهُمْ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا مِنْ
جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى صَارُوا يُعَمِّدُونَ أَوْلَادَهُمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ طُولَ الْعُمْرِ لِلْوَلَدِ وَحَتَّى جَعَلُوهُمْ يَزُورُونَ مَا يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْكَنَائِسِ وَالْبِيَعِ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ يَنْذِرُونَ لِلْمَوَاضِعِ الَّتِي يُعَظِّمُهَا النَّصَارَى كَمَا قَدْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ جُهَّالِهِمْ يَزُورُونَ كَنَائِسَ النَّصَارَى وَيَلْتَمِسُونَ الْبَرَكَةَ مِنْ قِسِّيسِيهِمْ وَرَهَابِينِهِمْ وَنَحْوِهِمْ . وَاَلَّذِينَ يُعَظِّمُونَ الْقُبُورَ وَالْمَشَاهِدَ : لَهُمْ شَبَهٌ شَدِيدٌ بِالنَّصَارَى حَتَّى إنِّي لَمَّا قَدِمْت الْقَاهِرَةَ اجْتَمَعَ بِي بَعْضُ مُعَظِّمِيهِمْ مِنْ الرُّهْبَانِ وَنَاظَرَنِي فِي الْمَسِيحِ وَدِينِ النَّصَارَى حَتَّى بَيَّنْت لَهُ فَسَادَ ذَلِكَ وَأَجَبْته عَمَّا يَدَّعِيهِ مِنْ الْحُجَّةِ وَبَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ صَنَّفَ كِتَابًا فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِبْطَالِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْضَرَهُ إلَيَّ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ وَجَعَلَ يَقْرَؤُهُ عَلَيَّ لَأُجِيبَ عَنْ حُجَجِ النَّصَارَى وَأُبَيِّنَ فَسَادَهَا . وَكَانَ مِنْ أَوَاخِرَ مَا خَاطَبْت بِهِ النَّصْرَانِيَّ : أَنْ قُلْت لَهُ : أَنْتُمْ مُشْرِكُونَ وَبَيَّنْت مِنْ شِرْكِهِمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعُكُوفِ عَلَى التَّمَاثِيلِ وَالْقُبُورِ وَعِبَادَتِهَا وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهَا . قَالَ لِي : نَحْنُ مَا نُشْرِكُ بِهِمْ وَلَا نَعْبُدُهُمْ وَإِنَّمَا نَتَوَسَّلُ بِهِمْ كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ إذَا جَاءُوا إلَى قَبْرِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ فَيَتَعَلَّقُونَ بِالشُّبَّاكِ الَّذِي
عَلَيْهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَقُلْت لَهُ : وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الشِّرْكِ لَيْسَ هَذَا مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ فَعَلَهُ الْجُهَّالُ فَأُقِرَّ أَنَّهُ شِرْكٌ حَتَّى إنَّ قِسِّيسًا كَانَ حَاضِرًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . فَلَمَّا سَمِعَهَا قَالَ : نَعَمْ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ نَحْنُ مُشْرِكُونَ . وَكَانَ بَعْضُ النَّصَارَى يَقُولُ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ : لَنَا سَيِّدٌ وَسَيِّدَةٌ وَلَكُمْ سَيِّدٌ وَسَيِّدَةٌ لَنَا السَّيِّدُ الْمَسِيحُ وَالسَّيِّدَةُ مَرْيَمُ وَلَكُمْ السَّيِّدُ الْحُسَيْنُ وَالسَّيِّدَةُ نَفِيسَةُ . فَالنَّصَارَى يَفْرَحُونَ بِمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالْجَهْلُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يُوَافِقُ دِينَهُمْ وَيُشَابِهُونَهُمْ فِيهِ وَيُحِبُّونَ أَنْ يَقْوَى ذَلِكَ وَيَكْثُرَ وَيُحِبُّونَ أَنْ يَجْعَلُوا رُهْبَانَهُمْ مِثْلَ عُبَّادِ الْمُسْلِمِينَ وَقِسِّيسِيهِمْ مِثْلَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . ويضاهئون الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ عُقَلَاءَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ صِحَّةَ دِينِ الْإِسْلَامِ . بَلْ يَقُولُونَ : هَذَا طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ وَهَذَا طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ . وَلِهَذَا يَسْهُلُ إظْهَارُ الْإِسْلَامِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ . فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى كَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَلْ يُسَمُّونَ الْمِلَلَ مَذَاهِبَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَهْلَ الْمَذَاهِبِ كَالْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ دِينُهُمْ وَاحِدٌ . وَكُلُّ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْهُمْ بِحَسَبِ وُسْعِهِ كَانَ مُؤْمِنًا سَعِيدًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
فَإِذَا اعْتَقَدَ النَّصَارَى مِثْلَ هَذَا فِي الْمِلَلِ يَبْقَى انْتِقَالُ أَحَدِهِمْ عَنْ مِلَّتِهِ كَانْتِقَالِ الْإِنْسَانِ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ . وَهَذَا كَثِيرًا مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ لِرَغْبَةِ أَوْ رَهْبَةٍ وَإِذَا بَقِيَ أَقَارِبُهُ وَأَصْدِقَاؤُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ بَلْ يُحِبُّهُمْ وَيَوَدُّهُمْ فِي الْبَاطِنِ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ كَالْوَطَنِ وَالنَّفْسُ تَحِنُّ إلَى الْوَطَنِ إذَا لَمْ تَعْتَقِدْ أَنَّ الْمُقَامَ بِهِ مُحَرَّمٌ أَوْ بِهِ مَضَرَّةٌ وَضَيَاعُ دُنْيَا . فَلِهَذَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مِنْ يَمِيلُ إلَى الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ وَمِنْهُمْ مِنْ يَمِيلُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ . وَمِنْهُمْ مِنْ يَمِيلُ إلَى أُولَئِكَ مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ وَالْعَادَةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْجِنْسِ وَالْقَرَابَةِ وَالْبَلَدِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْمَقَاصِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْفَلَاسِفَةَ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ والاتحادية وَنَحْوِهِمْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَتَدَيَّنَ الرَّجُلُ بِدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ دِينًا سِوَى الْإِسْلَامِ فَلَيْسَ بِمُسْلِمِ .
وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ يَكُونَ مُسْلِمٌ إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَلَيْسَ بِمُسْلِمِ . وَمَنْ لَمْ يُحَرِّمْ التَّدَيُّنَ - بَعْدَ مَبْعَثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَلْ مَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ وَيُبْغِضْهُمْ فَلَيْسَ بِمُسْلِمِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ النَّصَارَى يُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَا يُشَابِهُونَهُمْ بِهِ لِيَقْوَى بِذَلِكَ دِينُهُمْ وَلِئَلَّا يَنْفِرَ الْمُسْلِمُونَ عَنْهُمْ وَعَنْ دِينِهِمْ . وَلِهَذَا جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي كِتَابِنَا " اقْتِضَاءُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمُخَالَفَةِ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ " . وَقَدْ حَصَلَ لِلنَّصَارَى مِنْ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ كَثِيرٌ مِنْ مَطْلُوبِهِمْ لَا سِيَّمَا مِنْ الْغُلَاةِ مِنْ الشِّيعَةِ وَجُهَّالِ النُّسَّاكِ وَالْغُلَاةِ فِي الْمَشَايِخِ . فَإِنَّ فِيهِمْ شَبَهًا قَرِيبًا بِالنَّصَارَى فِي الْغُلُوِّ وَالْبِدَعِ فِي الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَلِهَذَا يُلْبِسُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَقَابِرَ تَكُونُ مِنْ قُبُورِهِمْ حَتَّى يَتَوَهَّمَ الْجُهَّالُ أَنَّهَا مِنْ قُبُورِ صَالِحِي الْمُسْلِمِينَ لِيُعَظِّمُوهَا . وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْمَشْهَدُ الْعَسْقَلَانِيُّ قَدْ قَالَ طَائِفَةٌ : إنَّهُ قَبْرُ بَعْضِ النَّصَارَى أَوْ بَعْضِ الْحَوَارِيِّينَ - وَلَيْسَ مَعَنَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْرُ مُسْلِمٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَبْرًا لِرَأْسِ الْحُسَيْنِ - كَانَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَبْرُ