الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
آلِ مُحَمَّدٍ لَكَانَ إنَّمَا يُصَلِّي عَلَيْهِ فِي الْعُمُومِ . فَقِيلَ : عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِخُصُومِهِ وَبِالصَّلَاةِ عَلَى آلِهِ . ثُمَّ إنْ قِيلَ : إنَّهُ دَاخِلٌ فِي آلِهِ مَعَ الِاقْتِرَانِ كَمَا هُوَ دَاخِلٌ مَعَ الْإِطْلَاقِ فَقَدْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ خُصُوصًا وَعُمُومًا وَهَذَا يَنْشَأُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الْعَامُّ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْخَاصِّ يَتَنَاوَلُ الْخَاصَّ . وَلَوْ ( قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ لَمْ يَضُرَّ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ خُصُوصًا تُغْنِي . وَأَيْضًا فَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى سَائِرِ الْآلِ إنَّمَا طُلِبَتْ تَبَعًا لَهُ وَأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي بِسَبَبِهِ طُلِبَتْ الصَّلَاةُ عَلَى آلِهِ وَهَذَا يَتِمُّ بِجَوَابِ السُّؤَالِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : " كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ " يُشْعِرُ بِفَضِيلَةِ إبْرَاهِيمَ لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ دُونَ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَقَدْ أَجَابَ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ بِأَجْوِبَةِ ضَعِيفَةٍ . فَقِيلَ : التَّشْبِيهُ عَائِدٌ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَطْ فَقَوْلُهُ : " صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ " كَلَامٌ مُنْقَطِعٌ وَقَوْلُهُ : { وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ } كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ وَهَذَا نَقَلَهُ الْعُمْرَانِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَهَذَا بَاطِلٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَطْعًا لَا يَلِيقُ بِعِلْمِهِ وَفَصَاحَتِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا كَلَامٌ رَكِيكٌ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَفِيهِ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيَّةِ بُحُوثٌ لَا تَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ .
الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ مَنَعَ كَوْنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَعْلَى مِنْ الْمُشَبَّهِ وَقَالَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مُتَمَاثِلَيْنِ قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ : وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَضَّلُ عَلَى إبْرَاهِيمَ مِنْ وُجُوهٍ غَيْرِ الصَّلَاةِ وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ أَوْ أَعْلَاهَا وَمُحَمَّدٌ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فِيهَا فَكَيْفَ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ . وَأَيْضًا فَاَللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ الْخَيْرِ وَهُوَ أَفْضَلُ مُعَلِّمِي الْخَيْرِ وَالْأَدِلَّةُ كَثِيرَةٌ لَا يَتَّسِعُ لَهَا هَذَا الْجَوَابُ . الثَّالِثُ : قَوْلُ مَنْ قَالَ : آلُ إبْرَاهِيمَ فِيهِمْ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ مِثْلُهُمْ فِي آلِ مُحَمَّدٍ فَإِذَا طَلَبَ مِنْ الصَّلَاةِ مِثْلَمَا صَلَّى عَلَى هَؤُلَاءِ حَصَلَ لِأَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَصَلَ لَهُ بِذَلِكَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِإِبْرَاهِيمَ وَلَا لِغَيْرِهِ وَهَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنُ مِمَّا تَقَدَّمَ . وَأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ : مُحَمَّدٌ هُوَ مِنْ آلِ إبْرَاهِيمَ كَمَا رَوَى عَلِيُّ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ : مُحَمَّدٌ مِنْ آلِ إبْرَاهِيمَ . وَهَذَا بَيِّنٌ ؛ فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي آلِ إبْرَاهِيمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالدُّخُولِ فِيهِمْ فَيَكُونُ قَوْلُنَا : كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ
إبْرَاهِيمَ مُتَنَاوِلًا لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آلِ إبْرَاهِيمَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } ثُمَّ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ خُصُوصًا بِقَدْرِ مَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ مَعَ سَائِرِ آلِ إبْرَاهِيمَ عُمُومًا ثُمَّ لِأَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا يَلِيقُ بِهِمْ وَالْبَاقِي لَهُ فَيَطْلُبُ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ أَعْظَمُ مِمَّا لِإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ بِالدُّعَاءِ إنَّمَا هُوَ مِثْلُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَلَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنْ الْمُشَبَّهِ وَلَهُ أَكْثَرُ الْمَطْلُوبِ صَارَ لَهُ مِنْ الْمُشَبَّهِ وَحْدَهُ أَكْثَرُ مِمَّا لِإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةُ الْمَطْلُوبِ مِثْلَ الْمُشَبَّهِ وَانْضَافَ إلَى ذَلِكَ مَا لَهُ مِنْ الْمُشَبَّهِ بِهِ فَظَهَرَ بِهَذَا مِنْ فَضْلِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْ النَّبِيِّينَ مَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَجَزَاهُ عَنَّا أَفْضَلَ مَا جَزَى رَسُولًا عَنْ أُمَّتِهِ . اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ الْأَفْضَلُ فِيهَا سِرًّا أَمْ جَهْرًا ؟ وَهَلْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَزْعِجُوا أَعْضَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ } أَمْ لَا ؟ وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْجَهْرِ لِيَسْمَعَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ " ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ كَذِبٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يُرْوَى فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِثْلَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يَرْوِيهَا الْبَاعَةُ لِتَنْفِيقِ السِّلَعِ أَوْ يَرْوِيهَا السؤال مِنْ قُصَّاصٍ وَغَيْرِهِمْ لِجَمْعِ النَّاسِ وَجِبَايَتِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ هِيَ دُعَاءٌ مِنْ الْأَدْعِيَةِ كَمَا عَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ حِينَ قَالُوا : { قَدْ عَلِمْنَا السَّلَامَ عَلَيْك فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك فَقَالَ : قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ . وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَالسُّنَّةُ فِي الدُّعَاءِ كُلِّهِ الْمُخَافَتَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ يُشْرَع لَهُ الْجَهْرُ
قَالَ تَعَالَى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا : { إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } . بَلْ السُّنَّةُ فِي الذِّكْرِ كُلِّهِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مَعَهُ فِي سَفَرٍ فَجَعَلُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا وَإِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ } وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فَكُلُّهُمْ يَأْمُرُونَ الْعَبْدَ إذَا دَعَا أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَدْعُو لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ الدُّعَاءِ سَوَاءٌ كَانَ فِي صَلَاةٍ كَالصَّلَاةِ التَّامَّةِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَوْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ حَتَّى عَقِيبَ التَّلْبِيَةِ فَإِنَّهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ ثُمَّ عَقِيبَ ذَلِكَ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو سِرًّا وَكَذَلِكَ بَيْنَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ إذَا ذَكَرَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ وَإِنْ جَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ لَا يَجْهَرُ بِذَلِكَ . وَكَذَلِكَ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَارِجَ الصَّلَاةِ مِثْلَ أَنْ يَذْكُرَ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَحِبَّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ رَفْعَ
الصَّوْتِ بِذَلِكَ فَقَائِلُ ذَلِكَ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالصَّلَاةِ أَوْ الرِّضَى الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُؤَذِّنِينَ قُدَّامَ بَعْضِ الْخُطَبَاءِ فِي الْجَمْعِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يُصَلِّي عَلَيْهِ سِرًّا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَسْكُتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ صَلَاتِك شَيْءٌ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ بَرَكَاتِك شَيْءٌ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ رَحْمَتِك شَيْءٌ وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ سَلَامِك شَيْءٌ " ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ هَذَا الدُّعَاءُ مَأْثُورًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ صَلَاتِك شَيْءٌ وَرَحْمَتِك شَيْءٌ - إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَنْفَدَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ : فَهَذَا جَاهِلٌ . فَإِنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْخَيْرِ لَا نَفَادَ لَهُ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ بِدُعَائِهِ مُعْطِيهِ جَمِيعَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطَاهُ : فَهَذَا أَيْضًا جَهْلٌ فَإِنَّ دُعَاءَهُ لَيْسَ هُوَ السَّبَبَ الْمُمَكِّنَ مِنْ ذَلِكَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَقْوَامٍ حَصَلَ بَيْنَهُمْ كَلَامٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا فَرْضٌ وَاجِبٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَنْ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ يَأْثَمُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ لِأَنَّهَا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَغَيْرُ فَرْضٍ ؛ لَكِنْ مَوْعُودُ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْهِ بِكُلِّ مَرَّةٍ عَشَرَةٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الصَّلَاةِ وَلَا تَجِبُ فِي غَيْرِهَا وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : تَجِبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَجِبُ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ عَشْرًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ مِائَةً وَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ مِائَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أَلْفَ مَرَّةٍ وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ يَبْقَ فِي قَلْبِهِ حَسَرَاتٌ وَلَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ } . إذَا صَلَّى الْعَبْدُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَبْدِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي مَجْلِسٍ فَلَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا فِيهِ عَلَيَّ إلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَالتِّرَةُ التَّنَغُّصُ وَالْحَسْرَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُقَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى فُلَانٍ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ لِغَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُفْرَدًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْمَنْعُ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَاخْتِيَارُ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَاخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ : كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك . وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَا أَعْلَمُ الصَّلَاةَ تَنْبَغِي مِنْ أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إلَّا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَهُ لَمَّا ظَهَرَتْ الشِّيعَةُ وَصَارَتْ تُظْهِرُ الصَّلَاةَ عَلَى عَلِيٍّ دُونَ غَيْرِهِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ : فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْغُلُوِّ وَجُعِلَ ذَلِكَ شِعَارًا لِغَيْرِ الرَّسُولِ فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الدُّعَاءِ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَمْنَعُ مِنْهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ
فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ } وَفِي حَدِيثِ قَبْضِ الرُّوحِ : { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك وَعَلَى جَسَدٍ كُنْت تُعَمِّرِينَهُ } . وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى } وَأَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى غَيْرِهِ تَبَعًا لَهُ كَقَوْلِهِ : { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
الْمَنْصُوصُ الْمَشْهُورُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّهُ لَا يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ إلَّا بِالْأَدْعِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ الْمَأْثُورَةِ كَمَا قَالَ الْأَثْرَمُ : قُلْت لِأَحْمَدَ بِمَاذَا أَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ ؟ قَالَ : بِمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ قُلْت لَهُ : أَوَلَيْسَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثُمَّ لِيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ مَا شَاءَ } ؟ قَالَ : يَتَخَيَّرُ مِمَّا جَاءَ فِي الْخَبَرِ فَعَاوَدْته فَقَالَ : مَا فِي الْخَبَرِ . هَذَا مَعْنَى كَلَامِ أَحْمَد . قُلْت : وَقَدْ بَيَّنْت بَعْضَ أَصْلِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ : { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَأَنَّ الدُّعَاءَ لَيْسَ كُلُّهُ جَائِزًا بَلْ فِيهِ عُدْوَانٌ مُحَرَّمٌ وَالْمَشْرُوعُ
لَا عُدْوَانَ فِيهِ وَأَنَّ الْعُدْوَانَ يَكُونُ تَارَةً فِي كَثْرَةِ الْأَلْفَاظِ وَتَارَةً فِي الْمَعَانِي كَمَا قَدْ فَسَّرَ [ أَحَدُ ] (1) الصَّحَابَةِ ذَلِكَ إذْ قَالَ هَذَا لِابْنِهِ لَمَّا قَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إذَا دَخَلْتهَا وَقَالَ الْآخَرُ : أَسْأَلُك الْجَنَّةَ وَقُصُورَهَا وَأَنْهَارَهَا وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ وَسَلَاسِلِهَا وَأَغْلَالِهَا . فَقَالَ : أَيْ بُنَيَّ سَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنْ النَّارِ فَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَالطَّهُورِ } وَالِاعْتِدَاءُ يَكُونُ فِي الْعِبَادَةِ وَفِي الزُّهْدِ . وَقَوْلُ أَحْمَد : بِمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ . حَسَنٌ فَإِنَّ اللَّامَ فِي الدُّعَاءِ لِلدُّعَاءِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ لَيْسَ لِجِنْسِ الدُّعَاءِ فَإِنَّ مِنْ الدُّعَاءِ مَا يَحْرُمُ . فَإِنْ قِيلَ : مَا جَازَ مِنْ الدُّعَاءِ خَارِجَ الصَّلَاةِ جَازَ فِي الصَّلَاةِ مِثْلَ سُؤَالِهِ : دَارًا وَجَارِيَةً حَسْنَاءَ . قِيلَ : وَمَنْ قَالَ : إنَّ مِثْلَ هَذَا مَشْرُوعٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَيْسَتْ مِنْ الْعُدْوَانِ ؟ وَحِينَئِذٍ فَيُقَالُ : الدُّعَاءُ الْمُسْتَحَبُّ هُوَ الدُّعَاءُ الْمَشْرُوعُ فَإِنَّ الِاسْتِحْبَابَ إنَّمَا يُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ فَمَا لَمْ يَشْرَعْهُ لَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا بَلْ يَكُونُ شَرَعَ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَعْظَمِ الدِّينِ لَكِنْ إذَا دَعَا بِدُعَاءِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ جَائِزٌ غَيْرَ مُسْتَحَبٍّ : لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِذَلِكَ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا تَبْطُلُ بِكَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَالدُّعَاءَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ ؛ بَلْ هُوَ
كَمَا لَوْ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِثَنَاءِ لَمْ يُشْرَع لَهُ ؛ وَقَدْ وُجِدَ مِثْلُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ كَوْنَهُ أَثْنَى ثَنَاءً لَمْ يُشْرَع لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بَلْ نَفَى مَا لَهُ فِيهِ مِنْ الْأَجْرِ . وَمِنْ الدُّعَاءِ مَا يَكُونُ مَكْرُوهًا وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ وَمِنْهُ مَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ فَالدُّعَاءُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ : الَّذِي يُشْرَع هُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ . وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَلَا يُسْتَحَبُّ وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . وَالْمَكْرُوهُ يُكْرَهُ وَلَا يُبْطِلُهَا كَالِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ وَكَمَا لَوْ تَشَهَّدَ فِي الْقِيَامِ أَوْ قَرَأَ فِي الْقُعُودِ . وَالْمُحَرَّمُ يُبْطِلُهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْكَلَامِ . وَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِ أَحْمَد فَإِنَّهُ لَمْ يُبْطِلْ الصَّلَاةَ بِالدُّعَاءِ غَيْرِ الْمَأْثُورِ ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَحِبَّهُ ؛ إذْ لَا يُسْتَحَبُّ غَيْرُ الْمَشْرُوعِ وَبَيَّنَ أَنَّ التَّخْيِيرَ عَادَ إلَى الْمَشْرُوعِ وَالْمَشْرُوعُ يَكُونُ بِلَفْظِ النَّصِّ وَبِمَعْنَاهُ إذْ لَمْ يُقَيِّدْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءَ بِلَفْظِ وَاحِدٍ كَالْقِرَاءَةِ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَتْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ مَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ لَمْ يُوَقِّتْ فِيهَا وَقْتًا وَلَمَّا كَانَ الذِّكْرُ أَفْضَلَ كَانَ أَقْرَبَ إلَى التَّوْقِيتِ كَالْأَذَانِ وَالتَّلْبِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَأَمَّا قَوْلُ الْجَدِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَّا بِمَا وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ وَبِمَا يَرْجِعُ إلَى أَمْرِ دِينِهِ . فَفِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ أَحْمَد لَمْ يَذْكُرْ إلَّا الْأَخْبَارَ وَأَيْضًا
فَالدُّعَاءُ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا جَائِزٌ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ وَالدُّعَاءُ بِبَعْضِ أُمُورِ الدِّينِ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْعُدْوَانِ كَمَا ذُكِرَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَكَمَا لَوْ سَأَلَ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ . فَالْأَجْوَدُ أَنْ يُقَالَ : إلَّا بِالدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ الْمَسْنُونِ وَهُوَ مَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْنَا التَّعَبُّدَ بِلَفْظِهِ كَالْقُرْآنِ .
وَنَحْنُ مَنَعْنَا مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ مَقْصُودٌ وَكَذَلِكَ التَّكْبِيرُ وَنَحْوُهُ فَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلَمْ يُوَقِّتْ فِيهِ لَفْظٌ ؛ لَكِنْ كَرِهَهُ أَحْمَد بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فَالْمَرَاتِبُ ثَلَاثَةٌ . الْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ بِاللَّفْظِ الْمَنْصُوصِ ثُمَّ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ثُمَّ بِاللَّفْظِ الْعَجَمِيِّ . فَهَذَا كَرِهَهُ أَحْمَد فِي الصَّلَاةِ وَفِي الْبُطْلَانِ بِهِ خِلَافٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْبَدَلِ وَأَهْلُ الرَّأْيِ يُجَوِّزُونَ - مَعَ تَشَدُّدِهِمْ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى كَرِهُوا الدُّعَاءَ الَّذِي لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ لَيْسَ فِي الْخَبَرِ وَأَبْطَلُوا بِهِ الصَّلَاةَ وَيُجَوِّزُونَ - التَّرْجَمَةَ بِالْعَجَمِيَّةِ فَلَمْ يَجْعَلْ بِالْعَرَبِيَّةِ عِبَادَةً وَجَوَّزُوا التَّكْبِيرَ بِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ . فَهُمْ تَوَسَّعُوا فِي إبْدَالِ الْقُرْآنِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَفِي إبْدَالِ الذِّكْرِ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَذْكَارِ وَلَمْ يَتَوَسَّعُوا مِثْلَهُ فِي الدُّعَاءِ . وَأَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ
بِالْعَكْسِ : الدُّعَاءُ عِنْدَهُمْ أَوْسَعُ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ثُمَّ لِيَتَخَيَّر مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ } وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي دُعَاءِ الْجِنَازَةِ شَيْئًا وَلَمْ يُوَقِّتْ لِأَصْحَابِهِ دُعَاءً مُعَيَّنًا كَمَا وَقَّتَ لَهُمْ الذِّكْرَ فَكَيْفَ يُقَيِّدُ مَا أَطْلَقَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّعَاءِ وَيُطْلِقُ مَا قَيَّدَهُ مِنْ الذِّكْرِ مَعَ أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلِهَذَا تُوجِبُ الْأَذْكَارُ الْعِلْمِيَّةُ مَا لَمْ يَجِبْ مِنْ الثُّنَائِيَّةِ . وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ الْكَلِمَاتِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ : " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ " فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِمَنْ عَجَزَ عَنْ الْقُرْآنِ وَقَالَ : " هُنَّ أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ " وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلُ الِاسْتِفْتَاحَاتِ فِي الصَّلَاةِ مَا تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ : " سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك وَتَبَارَكَ اسْمُك وَتَعَالَى جَدُّك وَلَا إلَهَ غَيْرُك " لِمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا ثَنَاءٌ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ وَهُوَ ثَنَاءٌ بِمَعْنَى أَفْضَلِ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ مُقْتَضٍ لِلْإِجَابَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي أمامة قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ مَنْ تَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَدَعَا اُسْتُجِيبَ لَهُ وَإِنْ تَوَضَّأَ قُبِلَتْ صَلَاتُهُ } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْخَمْسَ إذَا افْتَتَحَ بِهَا الْمُسْتَيْقِظُ مِنْ اللَّيْلِ كَلَامَهُ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِجَابَةِ دُعَائِهِ وَلِقَبُولِ صَلَاتِهِ إذَا تَوَضَّأَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ افْتِتَاحُ الصَّلَاةِ بِذَلِكَ سَبَبًا لِقَبُولِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ وَحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ قَبْلَ دُعَائِهِ ؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الْمُسِيءِ فَقَالَ : { كَبِّرْ فَاحْمَدْ اللَّهَ وَأُثَنَّ عَلَيْهِ ثُمَّ اقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } . وَأَيْضًا فَفِي أَحَادِيثَ أُخَرَ مِنْ أَحَادِيثِ الِافْتِتَاحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا } وَهَذَا مَعْنَاهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ بَيْنَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ الزَّوَائِدِ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَتِلْكَ التَّكْبِيرَاتُ هِيَ مِنْ جِنْسِ تَكْبِيرَاتِ الِافْتِتَاحِ . وَأَيْضًا فَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ أَحَادِيثِ الِاسْتِفْتَاحِ أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ عَشْرًا وَيَحْمَدُ عَشْرًا وَيُسَبِّحُ عَشْرًا أَوْ كَمَا قَالَ . فَتَوَافُقُ مَعَانِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ عَلَى مَعْنَى هَذَا الِافْتِتَاحِ كَتَوَافُقِ مَعْنَى تَشَهُّدِ أَبِي
مُوسَى وَغَيْرِهِ عَلَى مَعْنَى تَشَهُّدِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِذَا كَانَ الذِّكْرُ الْوَاحِدُ قَدْ جَاءَتْ عَامَّةُ الْأَذْكَارِ بِمَعْنَاهُ كَانَ أَرْجَحَ مِمَّا لَمْ يَجِئْ فِيهِ إلَّا حَدِيثٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ قَصْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتِلْكَ الْمَعَانِي وَمَا كَثُرَ قَصْدُهُ وَاخْتِيَارُهُ لَهُ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا لَمْ يَكْثُرْ . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَشْرُوعَةٌ فِي دُبُرِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ أَيْضًا كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فَتَكُونُ هِيَ مِنْ الْفَوَاتِحِ وَالْخَوَاتِمِ الَّتِي أُوتِيَهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ أُوتِيَ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَجَوَامِعَهُ وَخَوَاتِمَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ الدُّعَاءُ عَقِيبَ الْفَرَائِضِ أَمْ السُّنَنِ أَمْ بَعْدَ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ ؟
فَأَجَابَ :
السُّنَّةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهَا وَيَأْمُرُ بِهَا أَنْ يَدْعُوَ فِي التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } .
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ أَمَرَ بِهَذَا الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ السَّلَامِ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي . فَقَالَ : { قُلْ اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَحَادِيثُ غَيْرُ هَذِهِ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بَعْدَ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ السَّلَامِ وَكَانَ يَدْعُو فِي سُجُودِهِ وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ يَدْعُو إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَكَانَ يَدْعُو فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَالْمَأْمُومُونَ يَدْعُونَ بَعْدَ السَّلَامِ بَلْ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ إلَّا بِالتِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ اسْمًا وَلَا يَقُولُ : يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ وَلَا يَقُولُ : يَا دَلِيلَ الْحَائِرِينَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ وَعَلَى ذَلِكَ مَضَى سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَهُوَ الصَّوَابُ لِوُجُوهِ .
أَحَدُهَا أَنَّ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ اسْمًا لَمْ يَرِدْ فِي تَعْيِينِهَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَشْهَرُ مَا عِنْدَ النَّاسِ فِيهَا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ وَحُفَّاظُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِمَّا جَمَعَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ شُيُوخِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَفِيهَا حَدِيثٌ ثَانٍ أَضْعَفُ مِنْ هَذَا . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه . وَقَدْ رُوِيَ فِي عَدَدِهَا غَيْرُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنْ جَمْعِ بَعْضِ السَّلَفِ . وَهَذَا الْقَائِلُ الَّذِي حَصَرَ أَسْمَاءَ اللَّهِ فِي تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتِخْرَاجُهَا مِنْ الْقُرْآنِ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ عَلَى تَعْيِينِهَا دَلِيلٌ يَجِبُ الْقَوْلُ بِهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ هِيَ الَّتِي يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَمْيِيزِ الْمَأْمُورِ مِنْ الْمَحْظُورِ فَكُلُّ اسْمٍ يُجْهَلُ حَالُهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَأْمُورِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَحْظُورِ وَإِنْ قِيلَ : لَا تَدْعُوا إلَّا بِاسْمِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . قِيلَ : هَذَا أَكْثَرُ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا قِيلَ تَعْيِينُهَا عَلَى مَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ مَثَلًا فَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِثْلَ اسْمِ
" الرَّبِّ " فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَأَكْثَرُ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ إنَّمَا هُوَ بِهَذَا الِاسْمِ كَقَوْلِ آدَمَ : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } . وَقَوْلِ نُوحٍ : { رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } وَقَوْلِ إبْرَاهِيمَ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } وَقَوْلِ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي } وَقَوْلِ الْمَسِيحِ : { اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . حَتَّى أَنَّهُ يُذْكَرُ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يُقَالَ يَا سَيِّدِي بَلْ يُقَالُ : يَا رَبِّ لِأَنَّهُ دُعَاءُ النَّبِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ . وَكَذَلِكَ اسْمُ " الْمَنَّانِ " فَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ دَاعِيًا يَدْعُو : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِأَنَّ لَك الْمُلْكُ أَنْتَ اللَّهُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى } وَهَذَا رَدٌّ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِي أَسْمَائِهِ الْمَنَّانُ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِرَجُلِ وَدَّعَهُ قُلْ : يَا دَلِيلَ الْحَائِرِينَ دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ . وَقَدْ أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ : كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْوَفَاءِ ابْنِ عَقِيلٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْمَائِهِ الدَّلِيلُ ؛ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الدَّلِيلَ
هُوَ الدَّلَالَةُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْمُعَرِّفُ لِلْمَدْلُولِ وَلَوْ كَانَ الدَّلِيلُ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ فَالْعَبْدُ يُسْتَدَلُّ بِهِ أَيْضًا فَهُوَ دَلِيلٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ } . وَلَيْسَ هَذَا الِاسْمُ فِي هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ " قَالَ : { إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ } وَلَيْسَ هُوَ فِيهَا وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ } وَلَيْسَ هَذَا فِيهَا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا } وَلَيْسَ هَذَا فِيهَا . وَتَتَبُّعُ هَذَا يَطُولُ . وَلَفْظُ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ النَّاسِ فِي التِّرْمِذِيِّ : اللَّهُ . الرَّحْمَنُ . الرَّحِيمُ . الْمَلِكُ . الْقُدُّوسُ . السَّلَامُ . الْمُؤْمِنُ . الْمُهَيْمِنُ . الْعَزِيزُ . الْحَبَّارُ . الْمُتَكَبِّرُ . الْخَالِقُ . الْبَارِئُ . الْمُصَوِّرُ . الْغَفَّارُ . الْقَهَّارُ . الْوَهَّابُ . الرَّزَّاقُ . الْفَتَّاحُ . الْعَلِيمُ . الْقَابِضُ . الْبَاسِطُ . الْخَافِضُ . الرَّافِعُ . الْمُعِزُّ . الْمُذِلُّ . السَّمِيعُ . الْبَصِيرُ . الْحَكَمُ . الْعَدْلُ . اللَّطِيفُ . الْخَبِيرُ . الْحَلِيمُ . الْعَظِيمُ . الْغَفُورُ . الشَّكُورُ . الْعَلِيُّ . الْكَبِيرُ . الْحَفِيظُ . الْمُقِيتُ . الْحَسِيبُ . الْجَلِيلُ . الْكَرِيمُ . الرَّقِيبُ . الْمُجِيبُ . الْوَاسِعُ . الْحَكِيمُ . الْوَدُودُ . الْمَجِيدُ . الْبَاعِثُ . الشَّهِيدُ . الْحَقُّ . الْوَكِيلُ . الْقَوِيُّ
الْمَتِينُ . الْوَلِيُّ . الْحَمِيدُ . الْمُحْصِي . الْمُبْدِئُ . الْمُعِيدُ . الْمُحْيِي . الْمُمِيتُ . الْحَيُّ الْقَيُّومُ . الْوَاجِدُ . الْمَاجِدُ . الْأَحَدُ - وَيُرْوَى الْوَاحِدُ - الصَّمَدُ الْقَادِرُ . الْمُقْتَدِرُ . الْمُقَدِّمُ . الْمُؤَخِّرُ . الْأَوَّلُ . الْآخِرُ . الظَّاهِرُ . الْبَاطِنُ . الْوَالِي . الْمُتَعَالِي . الْبَرُّ . التَّوَّابُ . الْمُنْتَقِمُ . الْعَفُوُّ . الرَّءُوفُ . مَالِكُ الْمُلْكِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ . الْمُقْسِطُ . الْجَامِعُ . الْغَنِيُّ . الْمُغْنِي . الْمُعْطِي . الْمَانِعُ . الضَّارُّ . النَّافِعُ . النُّورُ . الْهَادِي . الْبَدِيعُ . الْبَاقِي . الْوَارِثُ . الرَّشِيدُ . الصَّبُورُ . الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " . وَمِنْ أَسْمَائِهِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ اسْمُهُ : السُّبُّوحُ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ } وَاسْمُهُ " الشَّافِي " كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إلَّا أَنْتَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا } وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ الْمُضَافَةُ مِثْلَ : أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَخَيْرُ الْغَافِرِينَ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ وَمَالِكُ يَوْمِ الدِّينِ وَأَحْسَنُ الْخَالِقِينَ وَجَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمُقَلِّبُ الْقُلُوبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَثَبَتَ فِي الدُّعَاءِ بِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَا احْتَجَّ بِهِ الخطابي وَغَيْرُهُ وَهُوَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَصَابَ عَبْدًا قَطُّ
هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِيَّ حُكْمُك عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك . أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرَتْ بِهِ فِي عِلْمِ فِي الْغَيْبِ عِنْدَك أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَشِفَاءَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ غَمِّي وَهَمِّي إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ ؟ قَالَ : بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَأَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ . قَالَ الخطابي وَغَيْرُهُ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : { إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ } أَنَّ فِي أَسْمَائِهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : إنَّ لِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَعْدَدْتهَا لِلصَّدَقَةِ وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ فِي الْقُرْآنِ قَالَ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } فَأَمَرَ أَنْ يُدْعَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُطْلَقًا وَلَمْ يَقُلْ : لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُ الْحُسْنَى إلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا وَالْحَدِيثُ قَدْ سَلِمَ مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ قَالَ : إذَا دَعَا الْعَبْدُ لَا يَقُولُ : يَا اللَّهُ يَا رَحْمَانُ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا دَعَا رَبَّهُ يَقُولُ : يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : { يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ } فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : مُحَمَّدٌ يَنْهَانَا أَنْ نَدْعُوَ إلَهَيْنِ وَهُوَ يَدْعُو إلَهَيْنِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أَيْ الْمَدْعُوُّ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } . وَمَنْ أَنْكَرَ أَنْ يُقَالَ : يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ امْرَأَةٍ سَمِعَتْ فِي الْحَدِيثِ " اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك نَاصِيَتِي بِيَدِك " إلَى آخِرِهِ فَدَاوَمَتْ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ فَقِيلَ لَهَا : قُولِي : اللَّهُمَّ إنِّي أَمَتُك بِنْتُ أَمَتِك إلَى آخِرِهِ . فَأَبَتْ إلَّا الْمُدَاوَمَةَ عَلَى اللَّفْظِ فَهَلْ هِيَ مُصِيبَةٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
بَلْ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَمَتُك بِنْتُ عَبْدِك ابْنِ أَمَتِك فَهُوَ أَوْلَى وَأَحْسَنُ . وَإِنْ كَانَ قَوْلُهَا : عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك لَهُ مَخْرَجٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ كَلَفْظِ الزَّوْجِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ دَعَا دُعَاءً مَلْحُونًا فَقَالَ : لَهُ رَجُلٌ مَا يَقْبَلُ اللَّهُ دُعَاءً مَلْحُونًا ؟
فَأَجَابَ :
مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فَهُوَ آثِمٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَأَمَّا مَنْ دَعَا اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ بِدُعَاءِ جَائِزٍ سَمِعَهُ
اللَّهُ وَأَجَابَ دُعَاءَهُ سَوَاءٌ كَانَ مُعْرَبًا أَوْ مَلْحُونًا وَالْكَلَامُ الْمَذْكُورُ لَا أَصْلُ لَهُ ؛ بَلْ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَادَتُهُ الْإِعْرَابَ أَنْ لَا يَتَكَلَّفَ الْإِعْرَابَ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إذَا جَاءَ الْإِعْرَابُ ذَهَبَ الْخُشُوعُ وَهَذَا كَمَا يُكْرَهُ تَكَلُّفُ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ فَإِذَا وَقَعَ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ فَإِنَّ أَصْلَ الدُّعَاءِ مِنْ الْقَلْبِ وَاللِّسَانُ تَابِعٌ لِلْقَلْبِ . وَمَنْ جَعَلَ هِمَّتَهُ فِي الدُّعَاءِ تَقْوِيمَ لِسَانِهِ أَضْعَفَ تَوَجُّهَ قَلْبِهِ وَلِهَذَا يَدْعُو الْمُضْطَرُّ بِقَلْبِهِ دُعَاءً يَفْتَحُ عَلَيْهِ لَا يَحْضُرُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ فِي قَلْبِهِ . وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَبِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ قَصْدَ الدَّاعِي وَمُرَادَهُ وَإِنْ لَمْ يُقَوِّمْ لِسَانَهُ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ضَجِيجَ الْأَصْوَاتِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ عَلَى تَنَوُّعِ الْحَاجَاتِ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا السَّلَامُ مِنْ الصَّلَاةِ : فَالْمُخْتَارُ عِنْدَ مَالِكٍ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْأَرْكَانِ الْفِعْلِيَّةِ أَوْ عَلَى رُكْنٍ وَاحِدٍ .
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ : تَسْلِيمَتَانِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَوَافَقَهُمْ الشَّافِعِيُّ وَالْمُخْتَارُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَحْمَد : أَنَّ الصَّلَاةَ الْكَامِلَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى قِيَامٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ يُسَلَّمُ مِنْهَا تَسْلِيمَتَانِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ بِرُكْنِ وَاحِدٍ كَصَلَاةِ الْجَنَائِزِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَسُجُودِ الشُّكْرِ : فَالْمُخْتَارُ فِيهَا تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا جَاءَتْ أَكْثَرُ الْآثَارِ بِذَلِكَ . فَالْخُرُوجُ مِنْ الْأَرْكَانِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِالتَّسْلِيمِ الْمُتَعَدِّدِ وَمِنْ الرُّكْنِ الْفِعْلِيِّ الْمُفْرَدِ بِالتَّسْلِيمِ الْمُفْرَدِ ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مُعْتَدِلَةً فَمَا طَوَّلَهَا أَعْطَى كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا حَظَّهُ مِنْ الطُّولِ وَمَا خَفَّفَهَا أَدْخَلَ التَّخْفِيفَ عَلَى عَامَّةِ أَجْزَائِهَا .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ : إذَا سَلَّمَ عَنْ يَمِينِهِ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ أَسْأَلُك الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ . وَعَنْ شِمَالِهِ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَسْأَلُك النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ فَهَلْ هَذَا مَكْرُوهٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَتِهِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يُكْرَهُ هَذَا ؛ لِأَنَّ هَذَا بِدْعَةً فَإِنَّ هَذَا
لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا اسْتَحَبَّهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَاثُ دُعَاءٍ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ يَفْصِلُ بِأَحَدِهِمَا بَيْنَ التَّسْلِيمَتَيْنِ وَيَصِلُ التَّسْلِيمَةَ بِالْآخَرِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ فَصْلُ الصِّفَةِ الْمَشْرُوعَةِ بِمِثْلِ هَذَا كَمَا لَوْ قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَسْأَلُك الْفَوْزَ بِالْجَنَّةِ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ أَسْأَلُك النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ { حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ اقْرَأْ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ } { وَعَنْ أَبِي أمامة قَالَ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ : جَوْفُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ } { وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ : يَا مُعَاذُ وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبّكَ فَلَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك } فَهَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ سُنَّةٌ . أَفْتُونَا وَابْسُطُوا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَأْجُورِينَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْأَحَادِيثُ الْمَعْرُوفَةُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْهَا وَكَانَ يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا صَلَّى بِالنَّاسِ يَدْعُو بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ هُوَ وَالْمَأْمُومُونَ جَمِيعًا لَا فِي الْفَجْرِ وَلَا فِي الْعَصْرِ وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الصَّلَوَاتِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ
يَسْتَقْبِلُ أَصْحَابَهُ وَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيُعَلِّمُهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ عَقِيبَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ . فَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } . وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُهَلِّلُ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رَفْعَ النَّاسِ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَفِي لَفْظٍ كُنَّا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاتِهِ بِالتَّكْبِيرِ . وَالْأَذْكَارُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُهَا الْمُسْلِمِينَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ أَنْوَاعٌ :
أَحَدُهَا : { أَنَّهُ يُسَبِّحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيَحْمَدُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ . فَتِلْكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ وَيَقُولُ تَمَامَ الْمِائَةِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ . لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَالثَّانِي : يَقُولُهَا خَمْسًا وَعِشْرِينَ وَيَضُمُّ إلَيْهَا " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَالثَّالِثُ : يَقُولُ الثَّلَاثَةَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولَ كُلَّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ . وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ كُلَّ وَاحِدَةٍ إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً وَالثَّلَاثُ وَالثَّلَاثُونَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَالْخَامِسُ : يُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ لِيُتِمَّ مِائَةً . وَالسَّادِسُ : يَقُولُ : الثَّلَاثَةَ عَشْرًا عَشْرًا . فَهَذَا هُوَ الَّذِي مَضَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ . فَدُعَاؤُهُ لَهُ وَمَسْأَلَتُهُ إيَّاهُ وَهُوَ يُنَاجِيهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ وَدُعَائِهِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ عَنْهُ .
وَأَمَّا الذِّكْرُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ فَكَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هُوَ مِثْلَ مَسْحِ الْمِرْآةِ بَعْدَ صِقَالِهَا فَإِنَّ الصَّلَاةَ نُورٌ فَهِيَ تَصْقُلُ الْقَلْبَ كَمَا تُصْقَلُ الْمِرْآةُ ثُمَّ الذِّكْرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَسْحِ الْمِرْآةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } قِيلَ : إذَا فَرَغْت مِنْ أَشْغَالِ الدُّنْيَا فَانْصَبْ فِي الْعِبَادَةِ وَإِلَى رَبِّك فَارْغَبْ . وَهَذَا أَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ . وَخَرَجَ شريح الْقَاضِي عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْحَاكَّةِ يَوْمَ عِيدٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فَقَالَ : مَا لَكُمْ تَلْعَبُونَ ؟ قَالُوا : إنَّا تَفَرَّغْنَا قَالَ : أَوَبِهَذَا أُمِرَ الْفَارِغُ ؟ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } . وَيُنَاسِبُ هَذَا قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } { قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا } { إنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا } أَيْ ذَهَابًا وَمَجِيئًا وَبِاللَّيْلِ تَكُونُ فَارِغًا . وَنَاشِئَةُ اللَّيْلِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ : إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ النَّوْمِ يُقَالُ نَشَأَ إذَا قَامَ بَعْدَ النَّوْمِ ؛ فَإِذَا قَامَ بَعْدَ النَّوْمِ كَانَتْ مُوَاطَأَةُ قَلْبِهِ لِلِسَانِهِ أَشَدَّ لِعَدَمِ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ وَزَوَالِ أَثَرِ حَرَكَةِ النَّهَارِ بِالنَّوْمِ وَكَانَ قَوْلُهُ ( أَقْوَمُ . وَقَدْ قِيلَ : { فَإِذَا فَرَغْتَ } مِنْ الصَّلَاةِ { فَانْصَبْ } فِي الدُّعَاءِ { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } . وَهَذَا الْقَوْلُ سَوَاءٌ كَانَ صَحِيحًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الدُّعَاءَ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ لَا سِيَّمَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ .
وَدُعَاؤُهُ فِي الصَّلَاةِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَدْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ . يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الصَّحِيحِ لَمَّا ذَكَرَ التَّشَهُّدَ قَالَ : { ثُمَّ لِيَتَخَيَّر مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ } وَقَدْ رَوَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا دُعَاءَهُ فِي صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ . وَأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ . فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ فِي الدُّعَاءِ يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا ذَكَرَ التَّشَهُّدَ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ قَضَيْت صَلَاتَك فَإِنْ شِئْت أَنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْت أَنْ تَقْعُدَ فَاقْعُدْ . وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ كَلَامِ مَنْ أَدْرَجَهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ . فَفِيهَا أَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ جَعَلَ ذَلِكَ قَضَاءً لِلصَّلَاةِ فَهَكَذَا جَعَلَهُ هَذَا الْمُفَسِّرُ فَرَاغًا مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } أَيْ فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ : إذَا فَرَغْت مُطْلَقٌ وَلِأَنَّ الْفَارِغَ إنْ أُرِيدَ بِهِ الْفَارِغُ مِنْ الْعِبَادَةِ فَالدُّعَاءُ أَيْضًا عِبَادَةٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْفَرَاغُ مِنْ
أَشْغَالِ الدُّنْيَا بِالصَّلَاةِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الصَّلَاةَ يُدْعَى فِيهَا كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو فِيهَا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ : { اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْت بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ } وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ . أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُك ظَلَمْت نَفْسِي وَاعْتَرَفْت بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ فَإِنَّهُ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا فَإِنَّهُ لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَثَبَتَ عَنْهُ الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ سَوَاءٌ كَانَ فِي النَّفْلِ أَوْ فِي الْفَرْضِ وَتَوَاتَرَ عَنْهُ الدُّعَاءُ آخِرَ الصَّلَاةِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي فَقَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك وَارْحَمْنِي إنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ مَشْرُوعًا فِي الصَّلَاةِ لَا سِيَّمَا فِي آخِرِهَا فَكَيْفَ يَقُولُ :
إذَا فَرَغْت مِنْ الصَّلَاةِ فَانْصَبْ فِي الدُّعَاءِ وَاَلَّذِي فَرَغَ مِنْهُ هُوَ نَظِيرُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ كَانَ نَاصِبًا فِي الدُّعَاءِ لَا فَارِغًا . ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ إنَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ يَكُونُ أَوْكَدَ وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ : ( فَانْصَبْ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يُحْتَجْ إلَى قَوْلِهِ : { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا يَكُونُ لِلَّهِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِشَيْئَيْنِ : أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْعِبَادَةِ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَشْغَالِهِ وَأَنْ تَكُونَ رَغْبَتُهُ إلَى رَبِّهِ لَا إلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فَقَوْلُهُ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ } مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فَانْصَبْ . وَقَوْلُهُ : { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ : { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ : { هُوَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } وَقَوْلُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَمِنْهُ الَّذِي يُرْوَى عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ : { اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَوْجَهِ مَنْ تَوَجَّهَ إلَيْك وَأَقْرَبِ مَنْ تَقَرَّبَ إلَيْك وَأَفْضَلِ مَنْ سَأَلَك وَرَغِبَ إلَيْك } وَالْأَثَرُ الْآخَرُ وَإِلَيْك الرغباء وَالْعَمَلُ وَذَلِكَ أَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ نَوْعَانِ : دُعَاءُ عِبَادَةٍ وَدُعَاءُ مَسْأَلَةٍ وَرَغْبَةٍ فَقَوْلُهُ : { فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } يَجْمَعُ نَوْعَيْ دُعَاءِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } الْآيَةَ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ .
وَأَمَّا لَفْظُ " دُبُرَ الصَّلَاةِ " فَقَدْ يُرَادُ بِهِ آخِرَ جُزْءٍ مِنْهُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَلِي آخِرَ جُزْءٍ مِنْهُ . كَمَا فِي دُبُرِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ آخِرُ جُزْءٍ مِنْهُ وَمِثْلُهُ لَفْظُ " الْعَقِبِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْجُزْءَ الْمُؤَخَّرَ مِنْ الشَّيْءِ كَعَقِبِ الْإِنْسَانِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَلِي ذَلِكَ . فَالدُّعَاءُ الْمَذْكُورُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ آخِرَ جُزْءٍ مِنْهَا لِيُوَافَقَ بَقِيَّةَ الْأَحَادِيثِ أَوْ يُرَادَ بِهِ مَا يَلِي آخِرَهَا وَيَكُونُ ذَلِكَ مَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ كَمَا سُمِّيَ ذَلِكَ قَضَاءً لِلصَّلَاةِ وَفَرَاغًا مِنْهَا حَيْثُ لَمْ يَبْقَ إلَّا السَّلَامُ الْمُنَافِي لِلصَّلَاةِ ؛ بِحَيْثُ لَوْ فَعَلَهُ عَمْدًا فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَا تَبْطُلُ سَائِرُ الْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ يَكُونُ مُطْلَقًا أَوْ مُجْمَلًا . وَبِكُلِّ حَالٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ مَا بَعْدَ السَّلَامِ ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ الْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَرِّعَ سُنَّةً بِلَفْظِ مُجْمَلٍ يُخَالِفُ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ بِالْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ . وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي هَذِهِ فِيمَا بَعْدَ السَّلَامِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى قُعُودَ الْإِمَامِ مُسْتَقْبِلَ الْمَأْمُومِ لَا بِذِكْرِ وَلَا دُعَاءٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَحُجَّتُهُمْ مَا يُرْوَى عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَدِيمَ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بَعْدَ السَّلَامِ فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ قِيَامَهُ مِنْ مَكَانِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ انْصِرَافَهُ مُسْتَقْبِلَ الْمَأْمُومِينَ بِوَجْهِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ يُحَصِّلُ هَذَا الْمَقْصُودَ
وَهَذَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى دُعَاءَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بَعْدَ السَّلَامِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى ذَلِكَ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ مَعَ هَؤُلَاءِ بِذَلِكَ سُنَّةٌ وَإِنَّمَا غَايَتُهُمْ التَّمَسُّكُ بِلَفْظِ مُجْمَلٍ أَوْ بِقِيَاسِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ لَيْسَ بِوَقْتِ صَلَاةٍ فَيُسْتَحَبُّ فِيهِ الدُّعَاءُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَا تَقَدَّمَتْ بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةُ الصَّحِيحَةُ بَلْ الْمُتَوَاتِرَةُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُجْمَلٍ وَلَا إلَى قِيَاسٍ . وَأَمَّا قَوْلُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ اقْرَأْ بِالْمُعَوِّذَاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ فَهَذَا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا . وَأَمَّا { حَدِيثُ أَبِي أمامة قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ ؟ قَالَ : جَوْفَ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ } فَهَذَا يَجِبُ أَنْ لَا يَخُصَّ مَا بَعْدَ السَّلَامِ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَا قَبْلَ السَّلَامِ . وَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يَعُمُّ مَا قَبْلَ السَّلَامِ وَمَا بَعْدَهُ لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ جَمِيعًا بَعْدَ السَّلَامِ سُنَّةً كَمَا لَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ قَبْلَ السَّلَامِ بَلْ إذَا دَعَا كُلُّ وَاحِدٍ وَحْدَهُ بَعْدَ السَّلَامِ فَهَذَا لَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ :
{ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ : اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك } يَتَنَاوَلُ مَا قَبْلَ السَّلَامِ . وَيَتَنَاوَلُ مَا بَعْدَهُ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ مُعَاذًا كَانَ يُصَلِّي إمَامًا بِقَوْمِهِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إمَامًا وَقَدْ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ مُعَلِّمًا لَهُمْ فَلَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ مُجْتَمِعَيْنِ عَلَى ذَلِكَ كَدُعَاءِ الْقُنُوتِ لَكَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك فَلَمَّا ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُشْرَع لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ ذَلِكَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ . وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : { كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ قَالَ : فَسَمِعْته يَقُولُ : رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك أَوْ يَوْمَ تَجْمَعُ عِبَادَك } فَهَذَا فِيهِ دُعَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ كَمَا فِي حَدِيثِ مَعَاذٍ وَكِلَاهُمَا إمَامٌ . وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْمَأْمُومِينَ وَأَنَّهُ لَا يَدْعُو بِصِيغَةِ الْجَمْعِ وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَ مُعَاذٍ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ الْأَحْكَامَ : فِي الْأَدْعِيَةِ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّلَامِ مُوَافِقَةً لِسَائِرِ الْأَحَادِيثِ كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَالسُّنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنْ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ : مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ }
وَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } . وَفِي السُّنَنِ { أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلِ : مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ ؟ قَالَ : أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ أَمَا وَاَللَّهِ مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ دَنْدَنَتَهُمَا أَيْضًا بَعْدَ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ لِيَكُونَ نَطِيرَ مَا قَالَهُ . وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ وَأَسْأَلُك شُكْرَ نِعْمَتِك وَحُسْنَ عِبَادَتِك وَأَسْأَلُك قَلْبًا سَلِيمًا وَلِسَانًا صَادِقًا وَأَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا تَعْلَمُ } رَوَاهُ النَّسَائِي . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ { : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْمَغْرَمِ وَالْمَأْثَمِ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ : مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ الْمَغْرَمِ قَالَ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ } . قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْأَحْكَامِ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ التَّشَهُّدِ . يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَأَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } . وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَّهُ يُقَالُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ : وَقَدْ رَوَى فِي لَفْظِ الدُّبُرِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَةَ وَيَقُولُ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِك أَنْ أُرَدّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِك مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ } . وَفِي النَّسَائِي عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ } . وَفِي النَّسَائِي أَيْضًا { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : دَخَلَتْ عَلَيَّ
امْرَأَةٌ مِنْ الْيَهُودِ . فَقَالَتْ : إنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ مِنْ الْبَوْلِ فَقُلْت كَذَبْت فَقَالَتْ : بَلَى إنَّا لَنَقْرِضُ مِنْهُ الْجُلُودَ وَالثَّوْبَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصَّلَاةِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا فَقَالَ : مَا هَذَا فَأَخْبَرْته بِمَا قَالَتْ قَالَ : صَدَقَتْ فَمَا صَلَّى بَعْدُ يَوْمَئِذٍ إلَّا قَالَ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ : اللَّهُمَّ رَبَّ جبرائيل وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ أَجِرْنِي مِنْ حَرِّ النَّارِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ } . قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي " الْأَحْكَامِ " : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِدُبُرِ الصَّلَاةِ فِي الْأَحَادِيثِ الثَّلَاثَةِ قَبْلَ السَّلَامِ تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ . قُلْت : وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ فَقَالَتْ لَهَا : أَعَاذَك اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ : { نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ } . قَالَتْ عَائِشَةُ : فَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إلَّا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ . وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ يُوَافِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَتُبَيِّنُ مَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَمَاعَةٍ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَيَحْمَدُونَهُ وَيُكَبِّرُونَهُ هَلْ ذَلِكَ سُنَّةٌ أَمْ مَكْرُوهٌ ؟ وَرُبَّمَا فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ يُثْقِلُ بِالتَّطْوِيلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ؟
فَأَجَابَ :
التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ عَقِبَ الصَّلَاةِ مُسْتَحَبٌّ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِمَنْ أَرَادَ فِعْلَ الْمُسْتَحَبِّ أَنْ يَتْرُكَهُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَنْصَرِفَ الْإِمَامُ أَيْ يَنْتَقِلَ عَنْ الْقِبْلَةِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْعُدَ بَعْدَ السَّلَامِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا وَيَقُولُ : { اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } . وَإِذَا انْتَقَلَ الْإِمَامُ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ قَامَ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْعُدَ يَذْكُرُ اللَّهَ فَعَلَ ذَلِكَ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَعَدُّ التَّسْبِيحِ بِالْأَصَابِعِ سُنَّةٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ : { سَبِّحْنَ وَاعْقِدْنَ بِالْأَصَابِعِ فَإِنَّهُنَّ مَسْئُولَاتٌ مُسْتَنْطَقَاتٌ } . وَأَمَّا عَدُّهُ بِالنَّوَى وَالْحَصَى وَنَحْوُ ذَلِكَ فَحَسَنٌ وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تُسَبِّحُ بِالْحَصَى وَأَقَرَّهَا عَلَى ذَلِكَ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُسَبِّحُ بِهِ .
وَأَمَّا التَّسْبِيحُ بِمَا يُجْعَلُ فِي نِظَامٍ مِنْ الْخَرَزِ وَنَحْوِهِ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْرَهْهُ وَإِذَا أُحْسِنَتْ فِيهِ النِّيَّةُ فَهُوَ حَسَنٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ وَأَمَّا اتِّخَاذُهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ أَوْ إظْهَارُهُ لِلنَّاسِ مِثْلُ تَعْلِيقِهِ فِي الْعُنُقِ أَوْ جَعْلِهِ كَالسُّوَارِ فِي الْيَدِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا إمَّا رِيَاءٌ لِلنَّاسِ أَوْ مَظِنَّةُ الْمُرَاءَاةِ وَمُشَابَهَةِ الْمُرَائِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ : الْأَوَّلُ مُحَرَّمٌ وَالثَّانِي أَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ فَإِنَّ مُرَاءَاةَ النَّاسِ فِي الْعِبَادَاتِ الْمُخْتَصَّةِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } { الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } . فَأَمَّا الْمُرَائِي بِالْفَرَائِضِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ قُبْحَ حَالِهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْبُدْهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } فَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَأَمَّا الْمُرَائِي بِنَوَافِلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ : فَلَا يَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِحُبُوطِ عَمَلِهِ فَقَطْ بِحَيْثُ يَكُونُ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ بَلْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَلَى قَصْدِهِ شُهْرَةَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ إذْ هِيَ عِبَادَاتٌ مُخْتَصَّةٌ وَلَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ مُسْلِمٍ وَلَا يَجُوزُ إيقَاعُهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّقَرُّبِ بِخِلَافِ مَا فِيهِ نَفْعُ الْعَبْدِ كَالتَّعْلِيمِ وَالْإِمَامَةِ فَهَذَا فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ فِي جَمَاعَةٍ هَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ أَمْ لَا ؟ وَمَا كَانَ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ ؟ وَقَوْلُهُ : " دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ " ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ رُوِيَ فِي قِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ عَقِيبَ الصَّلَاةِ حَدِيثٌ لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ وَلِهَذَا لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ يَجْهَرُونَ بَعْدَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَجَهْرُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ بِذَلِكَ وَالْمُدَاوِمَةُ عَلَيْهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ ذَلِكَ إحْدَاثُ شِعَارٍ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُحْدِثَ آخَرُ جَهْرَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ دَائِمًا أَوْ خَوَاتِيمِ الْبَقَرَةِ أَوْ أَوَّلَ الْحَدِيدِ أَوْ آخِرَ الْحَشْرِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ اجْتِمَاعِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ دَائِمًا عَلَى صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ عَقِيبَ الْفَرِيضَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ . وَأَمَّا إذَا قَرَأَ الْإِمَامُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ فِي نَفْسِهِ أَوْ قَرَأَهَا أَحَدُ الْمَأْمُومِينَ فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ إذْ قِرَاءَتُهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِشَعَائِرِ
الْإِسْلَامِ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ وِرْدٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ . وَأَمَّا الَّذِي ثَبَتَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الذِّكْرِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ } . وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ يَقُولُ : كُلَّ وَاحِدٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ وَيَزِيدُ فِيهَا التَّهْلِيلَ وَرُوِيَ أَنَّهُ يَقُولُ كُلَّ وَاحِدٍ عَشَرَةً وَيُرْوَى إحْدَى عَشْرَةَ مَرَّةً وَرُوِيَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ . { وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَفْعَ
الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُنْت أَعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْته وَفِي لَفْظٍ { : مَا كُنْت أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا بِالتَّكْبِيرِ } . فَهَذِهِ هِيَ الْأَذْكَارُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا السُّنَّةُ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَقُولُ : أَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا مِنْ الْأَذْكَارِ غَيْرَ مَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ وَأَخْطَأَ إذْ لَوْ ارْتَضَى أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيَّهُ وَإِمَامَهُ وَدَلِيلَهُ لَاكْتَفَى بِمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ الْأَذْكَارِ فَعُدُولُهُ إلَى رَأْيِهِ وَاخْتِرَاعِهِ جَهْلٌ وَتَزْيِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ وَخِلَافٌ لِلسُّنَّةِ إذْ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْ خَيْرًا إلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ وَشَرَعَهُ لَنَا وَلَمْ يَدَّخِرْ اللَّهُ عَنْهُ خَيْرًا ؛ بِدَلِيلِ إعْطَائِهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ إذْ هُوَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ فَهَلْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَا رَيْبَ أَنَّ الْأَذْكَارَ وَالدَّعَوَاتِ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوْقِيفِ وَالِاتِّبَاعِ لَا عَلَى الْهَوَى
وَالِابْتِدَاعِ فَالْأَدْعِيَةُ وَالْأَذْكَارُ النَّبَوِيَّةُ هِيَ أَفْضَلُ مَا يَتَحَرَّاهُ الْمُتَحَرِّي مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَسَالِكُهَا عَلَى سَبِيلِ أَمَانٍ وَسَلَامَةٍ وَالْفَوَائِدُ وَالنَّتَائِجُ الَّتِي تَحْصُلُ لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ لِسَانٌ وَلَا يُحِيطُ بِهِ إنْسَانٌ وَمَا سِوَاهَا مِنْ الْأَذْكَارِ قَدْ يَكُونُ مُحَرَّمًا وَقَدْ يَكُونُ مَكْرُوهًا وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ شِرْكٌ مِمَّا لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ وَهِيَ جُمْلَةٌ يَطُولُ تَفْصِيلُهَا . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَسُنَّ لِلنَّاسِ نَوْعًا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ غَيْرِ الْمَسْنُونِ وَيَجْعَلَهَا عِبَادَةً رَاتِبَةً يُوَاظِبُ النَّاسُ عَلَيْهَا كَمَا يُوَاظِبُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ؛ بَلْ هَذَا ابْتِدَاعُ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ ؛ بِخِلَافِ مَا يَدْعُو بِهِ الْمَرْءُ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلنَّاسِ سُنَّةً فَهَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى مُحَرَّمًا لَمْ يَجُزْ الْجَزْمُ بِتَحْرِيمِهِ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ وَالْإِنْسَانُ لَا يَشْعُرُ بِهِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَدْعُو بِأَدْعِيَةِ تُفْتَحُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ قَرِيبٌ . وَأَمَّا اتِّخَاذُ وِرْدٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ وَاسْتِنَانُ ذِكْرٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ : فَهَذَا مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ وَمَعَ هَذَا فَفِي الْأَدْعِيَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ غَايَةُ الْمَطَالِبِ الصَّحِيحَةِ وَنِهَايَةُ الْمَقَاصِدِ الْعَلِيَّةِ وَلَا يَعْدِلُ عَنْهَا إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَذْكَارِ الْمُحْدَثَةِ الْمُبْتَدَعَةِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُفَرِّطٌ أَوْ مُتَعَدٍّ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الدُّعَاءِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ هَلْ هُوَ سُنَّةٌ أَمْ لَا ؟ وَمَنْ أَنْكَرَ عَلَى إمَامٍ لَمْ يَدْعُ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ هَلْ هُوَ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو هُوَ وَالْمَأْمُومُونَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَقِيبَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ ؛ وَلَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ وَلَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَمَنْ نَقَلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ وَلَفْظُهُ الْمَوْجُودُ فِي كُتُبِهِ يُنَافِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يَسْتَحِبُّوا ذَلِكَ . وَلَكِنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا اسْتَحَبُّوا الدُّعَاءَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ . قَالُوا : لِأَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لَا صَلَاةَ بَعْدَهُمَا فَتُعَوَّضُ بِالدُّعَاءِ عَنْ الصَّلَاةِ . وَاسْتَحَبَّ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الدُّعَاءَ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ
وَمَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَالْمُنْكِرُ عَلَى التَّارِكِ أَحَقُّ بِالْإِنْكَارِ مِنْهُ ؛ بَلْ الْفَاعِلُ أَحَقُّ بِالْإِنْكَارِ فَإِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَاوِمُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَيْسَ مَشْرُوعًا ؛ بَلْ مَكْرُوهٌ كَمَا لَوْ دَاوَمَ عَلَى الدُّعَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَوَاتِ أَوْ دَاوَمَ عَلَى الْقُنُوتِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ دَاوَمَ عَلَى الْجَهْرِ بِالِاسْتِفْتَاحِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانَ الْقُنُوتُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ قَدْ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْيَانًا وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَجْهَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ أَحْيَانًا وَجَهَرَ رَجُلٌ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُشْرَع فِعْلُهُ أَحْيَانًا تُشْرَعُ الْمُدَاوِمَةُ عَلَيْهِ . وَلَوْ دَعَا الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ أَحْيَانًا عَقِيبَ الصَّلَاةِ لِأَمْرِ عَارِضٍ لَمْ يُعَدَّ هَذَا مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ كَاَلَّذِي يُدَاوِمُ عَلَى ذَلِكَ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو دُبُرَ الصَّلَاةِ قَبْلَ السَّلَامِ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ . كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ وَذَكَرْنَا مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَمَا يُظَنُّ أَنَّ فِيهِ حُجَّةً لِلْمُنَازِعِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ فَإِذَا سَلَّمَ انْصَرَفَ عَنْ مُنَاجَاتِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُؤَالَ السَّائِلِ لِرَبِّهِ حَالَ مُنَاجَاتِهِ هُوَ الَّذِي يُنَاسِبُ دُونَ سُؤَالِهِ
بَعْدَ انْصِرَافِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ يُخَاطِبُ مَلِكًا أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّ سُؤَالَهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى مُخَاطَبَتِهِ أَوْلَى مِنْ سُؤَالِهِ لَهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ هَذَا الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الدُّعَاءِ : هَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ ؟ وَهَلْ وَرَدَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ فِعْلُ ذَلِكَ ؟ وَيَتْرُكُونَ أَيْضًا الذِّكْرَ الَّذِي صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُهُ وَيَشْتَغِلُونَ بِالدُّعَاءِ ؟ فَهَلْ الْأَفْضَلُ الِاشْتِغَالُ بِالذِّكْرِ الْوَارِدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ هَذَا الدُّعَاءِ ؟ وَهَلْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَمْسَحُ وَجْهَهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الَّذِي نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ إنَّمَا هُوَ الذِّكْرُ الْمَعْرُوفُ . كَالْأَذْكَارِ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ وَكُتُبِ السُّنَنِ وَالْمَسَانِدِ وَغَيْرِهَا مِثْلَ مَا فِي الصَّحِيحِ : أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ الصَّلَاةِ يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثًا ثُمَّ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ تَبَارَكْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } . وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يُهَلِّلُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فِي دُبُرِ الْمَكْتُوبَةِ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } . وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ انْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْرِفُونَ انْقِضَاءَ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَتِلْكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ : غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ } وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ يَقُولُ : { سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ } . وَفِي السُّنَنِ أَنْوَاعٌ أُخَرُ . وَالْمَأْثُورُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَشْرًا عَشْرًا عَشْرًا : فَالْمَجْمُوعُ ثَلَاثُونَ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ كُلَّ وَاحِدَةٍ إحْدَى عَشْرَ فَالْمَجْمُوعُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ كُلَّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَالْمَجْمُوعُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ .
وَالرَّابِعُ : أَنْ يَخْتِمَ ذَلِكَ بِالتَّوْحِيدِ التَّامِّ فَالْمَجْمُوعُ مِائَةٌ .
وَالسَّادِسُ (1) : أَنْ يَقُولَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلِمَاتِ الْأَرْبَعِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَالْمَجْمُوعُ مِائَةٌ . وَأَمَّا قِرَاءَةُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ فَقَدْ رُوِيَتْ بِإِسْنَادِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ سُنَّةٌ . وَأَمَّا دُعَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ جَمِيعًا عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ مُعَاذًا أَنْ يَقُولَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ : { اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلَفْظُ دُبُرِ الصَّلَاةِ قَدْ يُرَادُ بِهِ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ . كَمَا يُرَادُ بِدُبُرِ الشَّيْءِ مُؤَخَّرُهُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا بَعْدَ انْقِضَائِهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ وَبَعْضُ الْأَحَادِيثِ
يُفَسِّرُ بَعْضًا لِمَنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ وَتَدَبَّرَهُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهُنَا شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا دُعَاءُ الْمُصَلِّي الْمُنْفَرِدِ كَدُعَاءِ الْمُصَلِّي صَلَاةَ الِاسْتِخَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ وَدُعَاءِ الْمُصَلِّي وَحْدَهُ إمَامًا كَانَ أَوْ مَأْمُومًا . وَالثَّانِي دُعَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ جَمِيعًا فَهَذَا الثَّانِي لَا رَيْبَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي أَعْقَابِ الْمَكْتُوبَاتِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْأَذْكَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْهُ إذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَنَقَلَهُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ ثُمَّ التَّابِعُونَ ثُمَّ الْعُلَمَاءُ كَمَا نَقَلُوا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ عَلَى أَقْوَالٍ : مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ عَقِيبَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا وَإِنَّمَا احْتَجُّوا بِكَوْنِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ لَا صَلَاةَ بَعْدَهُمَا . وَمِنْهُمْ : مَنْ اسْتَحَبَّهُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا وَقَالَ : لَا يَجْهَرُ بِهِ إلَّا إذَا قَصَدَ التَّعْلِيمَ . كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ إلَّا مُجَرَّدَ كَوْنِ الدُّعَاءِ مَشْرُوعًا وَهُوَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ قَدْ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ فَالدُّعَاءُ فِي آخِرِهَا قَبْلَ الْخُرُوجِ مَشْرُوعٌ مَسْنُونٌ
بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَبِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ قَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الدُّعَاءَ فِي آخِرِهَا وَاجِبٌ وَأَوْجَبُوا الدُّعَاءَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ : { إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ : مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَغَيْرُهُ وَكَانَ طَاوُوسٌ يَأْمُرُ مَنْ لَمْ يَدْعُ بِهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ أَحْمَد وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ : { ثُمَّ لِيَتَخَيَّر مِنْ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إلَيْهِ } وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَالْمُنَاسَبَةُ الِاعْتِبَارِيَّةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ فَمَا دَامَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَنْصَرِفْ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ فَالدُّعَاءُ حِينَئِذٍ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ أَمَّا إذَا انْصَرَفَ إلَى النَّاسِ مِنْ مُنَاجَاةِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مَوْطِنَ مُنَاجَاةٍ لَهُ وَدُعَاءٍ . وَإِنَّمَا هُوَ مَوْطِنُ ذِكْرٍ لَهُ وَثَنَاءٍ عَلَيْهِ فَالْمُنَاجَاةُ وَالدُّعَاءُ حِينَ الْإِقْبَالِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ . أَمَّا حَالُ الِانْصِرَافِ مِنْ ذَلِكَ فَالثَّنَاءُ وَالذِّكْرُ أَوْلَى . وَكَمَا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ اسْتَحَبَّ عَقِبَ الصَّلَاةِ مِنْ الدُّعَاءِ مَا لَمْ تَرِدْ بِهِ السُّنَّةُ : فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ تُقَابِلُ هَذِهِ لَا يَسْتَحِبُّونَ الْقُعُودَ الْمَشْرُوعَ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَلَا يَسْتَعْمِلُونَ الذِّكْرَ الْمَأْثُورَ بَلْ قَدْ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَنْهَوْنَ
عَنْهُ فَهَؤُلَاءِ مُفَرِّطُونَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمَشْرُوعِ وَأُولَئِكَ مُجَاوِزُونَ الْأَمْرَ بِغَيْرِ الْمَشْرُوعِ وَالدِّينُ إنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَشْرُوعِ دُونَ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ . وَأَمَّا رَفْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ : فَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ صَحِيحَةٌ وَأَمَّا مَسْحُهُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ فَلَيْسَ عَنْهُ فِيهِ إلَّا حَدِيثٌ أَوْ حَدِيثَانِ لَا يَقُومُ بِهِمَا حُجَّةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ دُعَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ عَقِيبَ صَلَاةِ الْفَرْضِ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا دُعَاءُ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِينَ جَمِيعًا عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَهُوَ بِدْعَةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ إنَّمَا كَانَ دُعَاؤُهُ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ فَإِذَا دَعَا حَالَ مُنَاجَاتِهِ لَهُ كَانَ مُنَاسِبًا . وَأَمَّا الدُّعَاءُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ مُنَاجَاتِهِ وَخِطَابِهِ فَغَيْرُ مُنَاسِبٍ وَإِنَّمَا الْمَسْنُونُ عَقِبَ الصَّلَاةِ هُوَ الذِّكْرُ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَقِبَ الصَّلَاةِ : { لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ الصَّلَاةِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ وَقَالَ تَمَامَ الْمِائَةِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ : حُطَّتْ خَطَايَاهُ } - أَوْ كَمَا قَالَ - فَهَذَا وَنَحْوُهُ هُوَ الْمَسْنُونُ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يُنْكِرُ عَلَى أَهْلِ الذِّكْرِ يَقُولُ لَهُمْ : هَذَا الذِّكْرُ بِدْعَةٌ وَجَهْرُكُمْ فِي الذِّكْرِ بِدْعَةٌ وَهُمْ يَفْتَتِحُونَ بِالْقُرْآنِ وَيَخْتَتِمُونَ ثُمَّ يَدْعُونَ لِلْمُسْلِمِينَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ وَيَجْمَعُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّكْبِيرَ وَالْحَوْقَلَةَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُنْكِرُ يُعْمِلُ السَّمَاعَ مَرَّاتٍ بِالتَّصْفِيقِ وَيُبْطِلُ الذِّكْرَ فِي وَقْتِ عَمَلِ السَّمَاعِ "
فَأَجَابَ :
الِاجْتِمَاعُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَاسْتِمَاعِ كِتَابِهِ وَالدُّعَاءِ عَمَلٌ صَالِحٌ وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا مَرُّوا بِقَوْمِ يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إلَى حَاجَتِكُمْ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ { وَجَدْنَاهُمْ يُسَبِّحُونَك وَيَحْمَدُونَك } لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا أَحْيَانًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ فَلَا يُجْعَلُ سُنَّةً رَاتِبَةً يُحَافَظُ عَلَيْهَا إلَّا مَا سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ فِي الْجَمَاعَاتِ ؟ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَاتِ وَمِنْ الْجُمُعَاتِ وَالْأَعْيَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا مُحَافَظَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَوْرَادٍ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ أَوْ الْقِرَاءَةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ الدُّعَاءِ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ : فَهَذَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فَمَا سُنَّ عَمَلُهُ عَلَى وَجْهِ الِاجْتِمَاعِ كَالْمَكْتُوبَاتِ : فُعِلَ كَذَلِكَ وَمَا سُنَّ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِانْفِرَادِ مِنْ الْأَوْرَادِ عُمِلَ كَذَلِكَ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَجْتَمِعُونَ أَحْيَانًا : يَأْمُرُونَ أَحَدَهُمْ يَقْرَأُ وَالْبَاقُونَ يَسْتَمِعُونَ . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ : يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا فَيَقْرَأُ وَهُمْ يَسْتَمِعُونَ وَكَانَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ يَقُولُ : اجْلِسُوا بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً . وَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ التَّطَوُّعَ فِي جَمَاعَةٍ مَرَّاتٍ وَخَرَجَ عَلَى الصَّحَابَةِ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَفِيهِمْ قَارِئٌ يَقْرَأُ فَجَلَسَ مَعَهُمْ يَسْتَمِعُ .
وَمَا يَحْصُلُ عِنْدَ السَّمَاعِ وَالذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجَلِ الْقَلْبِ وَدَمْعِ الْعَيْنِ وَاقْشِعْرَارِ الْجُسُومِ فَهَذَا أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَأَمَّا الِاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ وَالْغَشْيُ وَالْمَوْتُ وَالصَّيْحَاتُ فَهَذَا إنْ كَانَ صَاحِبُهُ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُلَمْ عَلَيْهِ كَمَا قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَإِنَّ مَنْشَأَهُ قُوَّةُ الْوَارِدِ عَلَى الْقَلْبِ مَعَ ضَعْفِ الْقَلْبِ وَالْقُوَّةُ وَالتَّمَكُّنُ أَفْضَلُ كَمَا هُوَ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَأَمَّا السُّكُونُ قَسْوَةً وَجَفَاءً فَهَذَا مَذْمُومٌ لَا خَيْرَ فِيهِ . وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ السَّمَاعِ : فَالْمَشْرُوعُ الَّذِي تَصْلُحُ بِهِ الْقُلُوبُ وَيَكُونُ وَسِيلَتَهَا إلَى رَبِّهَا بِصِلَةِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا : هُوَ سَمَاعُ كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ سَمَاعُ خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } وَقَالَ : { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } وَهُوَ السَّمَاعُ الْمَمْدُوحُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . لَكِنْ لَمَّا نَسِيَ بَعْضُ الْأُمَّةِ حَظًّا مِنْ هَذَا السَّمَاعِ الَّذِي ذُكِّرُوا بِهِ أَلْقَى بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فَأَحْدَثَ قَوْمٌ سَمَاعَ الْقَصَائِدِ وَالتَّصْفِيقَ وَالْغِنَاءَ مُضَاهَاةً لِمَا ذَمَّهُ اللَّهُ مِنْ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَالْمُشَابَهَةِ لِمَا ابْتَدَعَهُ النَّصَارَى وَقَابَلَهُمْ قَوْمٌ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً : مُضَاهَاةً لِمَا عَابَهُ اللَّهُ عَلَى الْيَهُودِ . وَالدِّينُ الْوَسَطُ هُوَ مَا عَلَيْهِ خِيَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ عَوَامَّ فُقَرَاءَ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدٍ يَذْكُرُونَ وَيَقْرَءُونَ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَدْعُونَ وَيَكْشِفُونَ رُءُوسَهُمْ وَيَبْكُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ وَلَيْسَ قَصْدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً بَلْ يَفْعَلُونَهُ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ حَسَنٌ مُسْتَحَبٌّ إذَا لَمْ يُتَّخَذْ ذَلِكَ عَادَةً رَاتِبَةً - كَالِاجْتِمَاعَاتِ الْمَشْرُوعَةِ - وَلَا اقْتَرَنَ بِهِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ وَأَمَّا كَشْفُ الرَّأْسِ مَعَ ذَلِكَ فَمَكْرُوهٌ لَا سِيَّمَا إذَا اُتُّخِذَ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُنْكَرًا وَلَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ إذَا صَلَّى ذَكَرَ فِي جَوْفِهِ : ( بِسْمِ اللَّهِ بَابُنَا ) ( تَبَارَكَ حِيطَانُنَا ) ( يس سَقْفُنَا ) . فَقَالَ رَجُلٌ : هَذَا كُفْرٌ أَعُوذُ بِاَللَّهِ
مِنْ هَذَا الْقَوْلِ . فَهَلْ يَجِبُ عَلَى مَا قَالَ هَذَا الْمُنْكِرُ رَدٌّ ؟ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فَمَا حُكْمُ هَذَا الْقَوْلِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَيْسَ هَذَا كُفْرٌ فَإِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ وَأَمْثَالَهُ يُقْصَدُ بِهِ التَّحَصُّنُ وَالتَّحَرُّزُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَيَتَّقِي بِهَا مِنْ الشَّرِّ كَمَا يَتَّقِي سَاكِنُ الْبَيْتِ بِالْبَيْتِ مِنْ الشَّرِّ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْعَدُوِّ . وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَلِمَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي قَامَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ قَالَ : " أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ فَدَخَلَ حِصْنًا فَامْتَنَعَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ فَكَذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ هُوَ حِصْنُ ابْنِ آدَمَ مِنْ الشَّيْطَانِ " أَوْ كَمَا قَالَ . فَشَبَّهَ ذِكْرَ اللَّهِ فِي امْتِنَاعِ الْإِنْسَانِ بِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ بِالْحِصْنِ الَّذِي يَمْتَنِعُ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ . وَالْحِصْنُ لَهُ بَابٌ وَسَقْفٌ وَحِيطَانٌ . وَنَحْوُ هَذَا : أَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ تُسَمَّى جُنَّةً وَلِبَاسًا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ . وَكَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ : { خُذُوا جُنَّتَكُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ عَدُوٍّ حَضَرَ قَالَ : لَا وَلَكِنْ جُنَّتُكُمْ مِنْ النَّارِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَطِيبِ : فَتَدَرَّعُوا جُنَنَ التَّقْوَى قَبْلَ جُنَنِ
السابري . وَفُوقُوا سِهَامَ الدُّعَاءِ قَبْلَ سِهَامِ الْقِسِيِّ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ يُسَمَّى سُورًا وَحِيطَانًا وَدِرْعًا وَجُنَّةً وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَلَكِنَّ هَذَا الدُّعَاءَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ لَيْسَ بِمَأْثُورِ وَالْمَشْرُوعُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ بِالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ ؛ فَإِنَّ الدُّعَاءَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ وَقَدْ نَهَانَا اللَّهُ عَنْ الِاعْتِدَاءِ فِيهِ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّبِعَ فِيهِ مَا شُرِعَ وَسُنَّ كَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَاَلَّذِي يَعْدِلُ عَنْ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ إلَى غَيْرِهِ - وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحْزَابِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ - الْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ لَا يَفُوتَهُ الْأَكْمَلُ الْأَفْضَلُ وَهِيَ الْأَدْعِيَةُ النَّبَوِيَّةُ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَإِنْ قَالَهَا بَعْضُ الشُّيُوخِ فَكَيْفَ [ وَقَدْ ] (1) يَكُونُ فِي عَيْنِ الْأَدْعِيَةِ مَا هُوَ خَطَأٌ أَوْ إثْمٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ . وَمِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَيْبًا مَنْ يَتَّخِذُ حِزْبًا لَيْسَ بِمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ حِزْبًا لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ وَيَدَعُ الْأَحْزَابَ النَّبَوِيَّةَ الَّتِي كَانَ يَقُولُهَا سَيِّدُ بَنِي آدَمَ وَإِمَامُ الْخَلْقِ وَحُجَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ مَا يُكْرَهُ فِي الصَّلَاةِ
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فِي بَيَانِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ مِنْ إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِتْمَامِهَا وَالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } { إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } { إلَّا الْمُصَلِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } وَقَالَ تَعَالَى { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } وَقَالَ تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى
وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } وَسَيَأْتِي بَيَانُ الدَّلَالَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَأَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ - أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه - وَأَصْحَابُ الْمَسَانِيدِ : كَمُسْنَدِ أَحْمَد وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْإِسْلَامِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ السَّلَامَ . وَقَالَ : ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ . فَرَجَعَ الرَّجُلُ فَصَلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى ثُمَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْك السَّلَامُ ثُمَّ قَالَ : ارْجِعْ فَصَلِّ . فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ . فَقَالَ الرَّجُلُ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَ هَذَا فَعَلِّمْنِي . قَالَ : إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنّ جَالِسًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : { إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغْ الْوُضُوءَ ثُمَّ اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ فَكَبِّرْ وَاقْرَأْ بِمَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَك حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ وَتَطْمَئِنَّ جَالِسًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا
ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِك كُلِّهَا } وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : { ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا } وَبَاقِيهِ مِثْلُهُ . وَفِي رِوَايَةٍ : { وَإِذَا فَعَلْت هَذَا فَقَدَ تَمَّتْ صَلَاتُك . وَمَا انْتَقَصْت مِنْ هَذَا فَإِنَّمَا انْتَقَصْته مِنْ صَلَاتِك } . وَعَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ - : فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهُ لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لِأَحَدِ مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ بِمَا شَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَرْكَعُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ رَاكِعًا ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا ثُمَّ يَسْجُدُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ سَاجِدًا ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ . ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَسْجُدُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ فَيُكَبِّرُ . فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُهُ } وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّهَا لَا تَتِمُّ صَلَاةُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُسْبِغَ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ . ثُمَّ يُكَبِّرَ اللَّهَ وَيَحْمَدَهُ ثُمَّ يَقْرَأَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا أُذِنَ لَهُ وَتَيَسَّرَ - وَذَكَرَ نَحْوَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ وَقَالَ - : ثُمَّ يُكَبِّرُ . فَيَسْجُدُ فَيُمَكِّنُ وَجْهَهُ وَرُبَّمَا قَالَ : جَبْهَتَهُ - مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ وَتَسْتَرْخِيَ
ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَسْتَوِيَ قَاعِدًا عَلَى مَقْعَدَتِهِ وَيُقِيمَ صُلْبَهُ - فَوَصَفَ الصَّلَاةَ هَكَذَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ حَتَّى فَرَغَ ثُمَّ قَالَ - : لَا تَتِمُّ صَلَاةٌ لِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ : أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيُّ . وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَالرِّوَايَتَانِ : لَفْظُ أَبِي دَاوُد . وَفِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ لَهُ : { قَالَ : إذَا قُمْت فَتَوَجَّهْت إلَى الْقِبْلَةِ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَقْرَأَ . فَإِذَا رَكَعْت فَضَعْ رَاحَتَك عَلَى رُكْبَتَيْك وَامْدُدْ ظَهْرَك . وَقَالَ : إذَا سَجَدْت فَمَكِّنْ لِسُجُودِك . فَإِذَا رَفَعْت فَاقْعُدْ عَلَى فَخِذِك الْيُسْرَى } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : قَالَ : { إذَا أَنْتَ قُمْت فِي صَلَاتِك فَكَبِّرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْك مِنْ الْقُرْآنِ } وَقَالَ فِيهِ : { فَإِذَا جَلَسْت فِي وَسَطِ الصَّلَاةِ فَاطْمَئِنَّ وَافْتَرِشْ فَخِذَك الْيُسْرَى ثُمَّ تَشَهَّدْ ثُمَّ إذَا قُمْت فَمِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى تَفْرَغَ مِنْ صَلَاتِك } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : { قَالَ : فَتَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَك اللَّهُ ثُمَّ تَشَهَّدْ فَأَتِمَّ ثُمَّ كَبِّرْ . فَإِنْ كَانَ مَعَك قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بِهِ . وَإِلَّا فَاحْمَدْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبِّرْهُ وهلله } . وَقَالَ فِيهِ { وَإِنْ انْتَقَصْت مِنْهُ شَيْئًا انْتَقَصْت مِنْ صَلَاتِك } . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ذَلِكَ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ بِأَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ . وَأَمْرُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إذَا أُطْلِقَ كَانَ مُقْتَضَاهُ الْوُجُوبَ وَأَمَرَهُ
إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ بِالطُّمَأْنِينَةِ كَمَا أَمَرَهُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَأَمْرُهُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْإِيجَابِ . وَأَيْضًا قَالَ لَهُ " فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ " فَنَفَى أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ الْأَوَّلُ صَلَاةً وَالْعَمَلُ لَا يَكُونُ مَنْفِيًّا إلَّا إذَا انْتَفَى شَيْءٌ مِنْ وَاجِبَاتِهِ . فَأَمَّا إذَا فُعِلَ كَمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ لِانْتِفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ . وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ هَذَا نَفْيٌ لِلْكَمَالِ . كَقَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } فَيُقَالُ لَهُ : نَعَمْ هُوَ لِنَفْيِ الْكَمَالِ لَكِنْ لِنَفْيِ كَمَالِ الْوَاجِبَاتِ أَوْ لِنَفْيِ كَمَالِ الْمُسْتَحَبَّاتِ ؟ فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَحَقٌّ . وَأَمَّا الثَّانِي : فَبَاطِلٌ لَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا فِي كَلَامِ رَسُولِهِ قَطُّ وَلَيْسَ بِحَقِّ . فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا كَمُلَتْ وَاجِبَاتُهُ فَكَيْفَ يَصِحُّ نَفْيُهُ ؟ ؟ وَأَيْضًا فَلَوْ جَازَ لَجَازَ نَفْيُ صَلَاةِ عَامَّةِ الْأَوَّلِينَ والآخرين لِأَنَّ كَمَالَ الْمُسْتَحَبَّاتِ مِنْ أَنْدَرِ الْأُمُورِ . وَعَلَى هَذَا : فَمَا جَاءَ مِنْ نَفْيِ الْأَعْمَالِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّمَا هُوَ لِانْتِفَاءِ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وقَوْله تَعَالَى { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا } - الْآيَةَ وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } - الْآيَةَ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَمِنْ ذَلِكَ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } و { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } و { لَا صَلَاةَ إلَّا بِوُضُوءِ } . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ } فَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ قِيلَ : إنَّهُ لَا يُحْفَظُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَكَرَ عَبْدُ الْحَقِّ الإشبيلي : أَنَّهُ رَوَاهُ بِإِسْنَادِ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ وَبِكُلِّ حَالٍ : فَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَكِنَّ نَظِيرَهُ فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَا صَلَاةَ لَهُ } . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ إجَابَةَ الْمُؤَذِّنِ الْمُنَادِيَ وَالصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ : مِنْ الْوَاجِبَاتِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ قَالَ :
{ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ وَلِي قَائِدٌ لَا يُلَائِمُنِي . فَهَلْ تَجِدُ لِي رُخْصَةً أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِي ؟ قَالَ : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : مَا أَجِدُ لَك رُخْصَةً } لَكِنْ إذَا تَرَكَ هَذَا الْوَاجِبَ فَهَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَيُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الصَّلَاةِ أَمْ يُقَالُ . إنَّ الصَّلَاةَ بَاطِلَةٌ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا كَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا ؟ . هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا فَعَلْت هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُك وَمَا انْتَقَصْت مِنْ هَذَا فَإِنَّمَا انْتَقَصْت مِنْ صَلَاتِك } . فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ الْكَمَالَ الَّذِي نُفِيَ هُوَ هَذَا التَّمَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ التَّارِكَ لِبَعْضِ ذَلِكَ قَدْ انْتَقَصَ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْضَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ فِيهَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { فَإِذَا فَعَلَ هَذَا فَقَدَ تَمَّتْ صَلَاتُهُ } . وَيُؤَيِّدُ هَذَا : أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ . وَلَوْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مُسْتَحَبًّا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ . وَلِهَذَا يُؤْمَرُ مِثْلُ هَذَا الْمُسِيءِ بِالْإِعَادَةِ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا لَكِنْ لَوْ لَمْ يَعُدْ وَفَعَلَهَا نَاقِصَةً فَهَلْ يُقَالُ : إنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا بِحَيْثُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا ؟ أَوْ يُقَالُ إنَّهُ يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ بِحَيْثُ يَجْبُرُ مَا تَرَكَهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ بِمَا فَعَلَهُ مِنْ التَّطَوُّعِ ؟ . هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ . وَالثَّانِي : أَظْهَرُ . لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه عَنْ أَنَسِ بْنِ حَكِيمٍ الضبي قَالَ : { خَافَ
رَجُلٌ مِنْ زِيَادٍ - أَوْ ابْنِ زِيَادٍ - فَأَتَى الْمَدِينَةَ فَلَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : فَنَسَبَنِي فَانْتَسَبْت لَهُ فَقَالَ : يَا فَتَى . أَلَا أُحَدِّثُك حَدِيثًا قَالَ : قُلْت : بَلَى يَرْحَمُك اللَّهُ - قَالَ يُونُسُ : فَأَحْسَبُهُ ذَكَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ : الصَّلَاةُ . قَالَ : يَقُولُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ : اُنْظُرُوا فِي صَلَاةِ عَبْدِي أَتَمَّهَا أَمْ نَقَصَهَا ؟ فَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً . وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا قَالَ : اُنْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ ؟ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ قَالَ : أَتِمُّوهَا مِنْ تَطَوُّعِهِ ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى ذَلِكُمْ } وَفِي لَفْظٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ : صَلَاتُهُ . فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ . فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْئًا قَالَ الرَّبُّ : اُنْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مَنْ تَطَوُّعٍ ؟ فَكَمُلَ بِهِ مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ . ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ أَعْمَالِهِ عَلَى هَذَا } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَرَوَى أَيْضًا أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه عَنْ تَمِيمٍ الداري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ : { ثُمَّ الزَّكَاةُ مِثْلُ ذَلِكَ ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ } .
وَأَيْضًا فَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُجْزِئُ صَلَاةُ الرَّجُلِ حَتَّى يُقِيمَ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ } رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ حَتَّى يَعْتَدِلَ الرَّجُلُ مِنْ الرُّكُوعِ وَيَنْتَصِبَ مِنْ السُّجُودِ . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ الِاعْتِدَالِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ - وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هِيَ مَسْأَلَةَ الطُّمَأْنِينَةِ - : فَهِيَ تُنَاسِبُهَا وَتُلَازِمُهَا . وَذَلِكَ : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ الِاعْتِدَالِ . فَإِذَا وَجَبَ الِاعْتِدَالُ لِإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . فَالطُّمَأْنِينَةُ فِيهِمَا أَوْجَبُ . وَذَلِكَ : أَنَّ قَوْلَهُ { يُقِيمَ ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ } أَيْ عِنْدَ رَفْعِهِ رَأْسَهُ مِنْهُمَا . فَإِنَّ إقَامَةَ الظَّهْرِ تَكُونُ مِنْ تَمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . لِأَنَّهُ إذَا رَكَعَ كَانَ الرُّكُوعُ مِنْ حِينِ يَنْحَنِي إلَى أَنْ يَعُودَ فَيَعْتَدِلَ وَيَكُونُ السُّجُودُ مِنْ حِينِ الْخُرُورِ مِنْ الْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ إلَى حِينِ يَعُودُ فَيَعْتَدِلُ . فَالْخَفْضُ وَالرَّفْعُ : هُمَا طَرَفَا الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَمَامُهُمَا . فَلِهَذَا قَالَ : { يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ } . وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ هَذَا مِنْ الِاعْتِدَالَيْنِ كَوُجُوبِ إتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : { ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَسْجُدُ
فَيُمَكِّنُ وَجْهَهُ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ وَتَسْتَرْخِيَ ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَسْتَوِيَ قَاعِدًا عَلَى مَقْعَدَتِهِ وَيُقِيمَ صُلْبَهُ } . فَأَخْبَرَ أَنَّ إقَامَةَ الصُّلْبِ فِي الرَّفْعِ مِنْ السُّجُودِ لَا فِي حَالِ الْخَفْضِ . وَالْحَدِيثَانِ الْمُتَقَدِّمَانِ بَيَّنَ فِيهِمَا وُجُوبَ هَذَيْنِ الِاعْتِدَالَيْنِ وَوُجُوبَ الطُّمَأْنِينَةِ ؛ لَكِنْ قَالَ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْقُعُودِ { حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا وَحَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا وَحَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا } . وَقَالَ فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ { حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا وَحَتَّى تَسْتَوِيَ قَائِمًا } لِأَنَّ الْقَائِمَ يَعْتَدِلُ وَيَسْتَوِي . وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلطُّمَأْنِينَةِ . وَأَمَّا الرَّاكِعُ وَالسَّاجِدُ فَلَيْسَا مُنْتَصِبَيْنِ . وَذَلِكَ الْجَالِسُ لَا يُوصَفُ بِتَمَامِ الِاعْتِدَالِ وَالِاسْتِوَاءِ . فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ انْحِنَاءٌ إمَّا إلَى أَحَدِ الشِّقَّيْنِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ التَّوَرُّكِ وَإِمَّا إلَى أَمَامِهِ . لِأَنَّ أَعْضَاءَهُ الَّتِي يَجْلِسُ عَلَيْهَا مُنْحَنِيَةٌ غَيْرُ مُسْتَوِيَةٍ وَمُعْتَدِلَةٌ . مَعَ أَنَّهُ قَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَه : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ { حَتَّى تَطْمَئِنَّ قَائِمًا } . وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ شيبان الْحَنَفِيِّ قَالَ { خَرَجْنَا حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ وَصَلَّيْنَا خَلْفَهُ فَلَمَحَ بِمُؤَخَّرِ عَيْنِهِ رَجُلًا لَا يُقِيمُ صَلَاتَهُ - يَعْنِي صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ - فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ لَا صَلَاةَ
لِمَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه وَفِي رِوَايَةٍ لِلْإِمَامِ أَحْمَد : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ } . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ إقَامَةَ الصُّلْبِ : هِيَ الِاعْتِدَالُ فِي الرُّكُوعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ فَسَّرُوا ذَلِكَ بِنَفْسِ الطُّمَأْنِينَةِ . وَاحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا عَلَى الِاعْتِدَالَيْنِ وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ : فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِمَا . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ أَبِي قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ ؟ قَالَ : لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا } أَوْ قَالَ { لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ } وَهَذَا التَّرَدُّدُ فِي اللَّفْظِ ظَاهِرُهُ : أَنَّ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ مِنْ اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا شَكَّ فِي اللَّفْظِ . كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ . وَأَيْضًا : فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِبْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَقْرِ الْغُرَابِ وَافْتِرَاشِ السَّبُعِ وَأَنْ يُوَطِّنَ الرَّجُلُ الْمَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا يُوَطِّنُ الْبَعِيرُ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه . وَإِنَّمَا
جَمَعَ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ - وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةَ الْأَجْنَاسِ - لِأَنَّهُ يَجْمَعُهَا مُشَابَهَةُ الْبَهَائِمِ فِي الصَّلَاةِ فَنَهَى عَنْ مُشَابَهَةِ فِعْلِ الْغُرَابِ وَعَمَّا يُشْبِهُ فِعْلَ السَّبُعِ وَعَمَّا يُشْبِهُ فِعْلَ الْبَعِيرِ وَإِنْ كَانَ نَقْرُ الْغُرَابِ أَشَدَّ مِنْ ذَيْنِك الْأَمْرَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قتادة عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اعْتَدِلُوا فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَا يَبْسُطَنَّ أَحَدُكُمْ ذِرَاعَيْهِ انْبِسَاطَ الْكَلْبِ } لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : { أَنَّهُ مِنْ صَلَاةِ الْمُنَافِقِينَ } وَاَللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ لَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ الْمُنَافِقِينَ . فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ . يُمْهِلُ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشَّمْسُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُنَافِقَ يُضَيِّعُ وَقْتَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَيُضَيِّعُ فِعْلَهَا وَيَنْقُرُهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ذَمِّ هَذَا وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا تَارِكًا لِلْوَاجِبِ . وَذَلِكَ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ فِي أَنَّ نَقْرَ الصَّلَاةِ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنَّهُ مَنْ فِعْلِ مَنْ فِيهِ نِفَاقٌ . وَالنِّفَاقُ كُلُّهُ حَرَامٌ . وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا . وَهُوَ مُفَسِّرٌ لِحَدِيثِ قَبْلَهُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ يَنْقُرُ فِي صَلَاتِهِ
فَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ بِالِاعْتِدَالِ وَالطُّمَأْنِينَةِ . وَالْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ الْأَمْثَالِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ قُوتُ الْقُلُوبِ كَمَا أَنَّ الْغِذَاءَ قُوتُ الْجَسَدِ . فَإِذَا كَانَ الْجَسَدُ لَا يَتَغَذَّى بِالْيَسِيرِ مِنْ الْأَكْلِ فَالْقَلْبُ لَا يَقْتَاتُ بِالنَّقْرِ فِي الصَّلَاةِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ صَلَاةٍ تَامَّةٍ تُقِيتُ الْقُلُوبَ . وَأَمَّا مَا يَرْوِيهِ طَوَائِفُ مِنْ الْعَامَّةِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " رَأَى رَجُلًا يَنْقُرُ فِي صَلَاتِهِ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ . فَقَالَ : لَوْ نَقَرَ الْخَطَّابُ مِنْ هَذِهِ نَقْرَةً لَمْ يَدْخُلْ النَّارَ . فَسَكَتَ عَنْهُ عُمَرُ " فَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيمَا بَلَغَنِي لَا فِي الصَّحِيحِ وَلَا فِي الضَّعِيفِ . وَالْكَذِبُ ظَاهِرٌ عَلَيْهِ . فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ قَدْ نَقَرُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ . وَأَيْضًا : فَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيِّ الشَّامِيِّ قَالَ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ ثُمَّ جَلَسَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَدَخَلَ رَجُلٌ فَقَامَ يُصَلِّي فَجَعَلَ يَرْكَعُ وَيَنْقُرُ فِي سُجُودِهِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ . فَقَالَ : تَرَوْنَ هَذَا ؟ لَوْ مَاتَ مَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ يَنْقُرُ صَلَاتَهُ كَمَا يَنْقُرُ الْغُرَابُ الرِّمَّةَ . إنَّمَا مَثَلُ الَّذِي يُصَلِّي وَلَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَيَنْقُرُ فِي سُجُودِهِ كَالْجَائِعِ لَا يَأْكُلُ إلَّا تَمْرَةً أَوْ تَمْرَتَيْنِ
لَا تُغْنِيَانِ عَنْهُ شَيْئًا فَأَسْبِغُوا الْوُضُوءَ . وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ وَأَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ } قَالَ أَبُو صَالِحٍ : فَقُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْأَشْعَرِيِّ : مَنْ حَدَّثَك بِهَذَا الْحَدِيثِ ؟ قَالَ : أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ : خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمْرُو بْنُ العاص ؛ وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ . كُلُّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ بِكَمَالِهِ . وَرَوَى ابْنُ مَاجَه بَعْضَهُ . وَأَيْضًا : فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ : " أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ . فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ دَعَاهُ وَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ : مَا صَلَّيْت وَلَوْ مُتّ مُتّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَفْظُ أَبِي وَائِلٍ { مَا صَلَّيْت - وَأَحْسَبُهُ قَالَ : لَوْ مُتّ مُتّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا الَّذِي لَمْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ إنَّمَا تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ أَوْ تَرَكَ الِاعْتِدَالَ أَوْ تَرَكَ كِلَاهُمَا . فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ بَعْضَ ذَلِكَ إذْ نَقْرُ الْغُرَابِ وَالْفَصْلُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ بِحَدِّ السَّيْفِ وَالْهُبُوطِ مِنْ الرُّكُوعِ إلَى السُّجُودِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ مَعَ الْإِتْيَانِ بِمَا قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ رُكُوعٌ أَوْ سُجُودٌ . وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ يَأْتِي بِمَا قَدْ يُقَالُ لَهُ رُكُوعٌ وَسُجُودٌ لَكِنَّهُ لَمْ يُتِمَّهُ . وَمَعَ هَذَا قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ : مَا صَلَّيْت فَنَفَى عَنْهُ الصَّلَاةَ ثُمَّ قَالَ : لَوْ
مُتّ مُتّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ و عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ } وَكِلَاهُمَا الْمُرَادُ بِهِ هُنَا : الدِّينُ وَالشَّرِيعَةُ ؛ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ فِعْلَ الْمُسْتَحَبَّاتِ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ هَذَا الذَّمَّ وَالتَّهْدِيدَ . فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَمُوتُ عَلَى كُلِّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ .
وَلِأَنَّ لَفْظَ " الْفِطْرَةِ وَالسُّنَّةِ " فِي كَلَامِهِمْ : هُوَ الدِّينُ وَالشَّرِيعَةُ . وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَ " السُّنَّةِ " يُرَادُ بِهِ مَا لَيْسَ بِفَرْضِ إذْ قَدْ يُرَادُ بِهَا ذَلِكَ . كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صِيَامَ رَمَضَانَ وَسَنَنْت لَكُمْ قِيَامَهُ } فَهِيَ تَتَنَاوَلُ مَا سَنَّهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ أَعْظَمَ مِمَّا سَنَّهُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " إنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَنَ الْهُدَى . وَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى وَإِنَّكُمْ لَوْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ . وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ . وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ " وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ } . وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَذَمَّ الْمُصَلِّينَ السَّاهِينَ عَنْهَا الْمُضَيِّعِينَ لَهَا فَقَالَ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ : { وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ } وَإِقَامَتُهَا : تَتَضَمَّنُ إتْمَامَهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي } وَفِي رِوَايَةٍ . { أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ } وَسَيَأْتِي تَقْرِيرُ دَلَالَةِ ذَلِكَ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْقُرْآنِ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَأَبَاحَ اللَّهُ الْقَصْرَ مِنْ عَدَدِهَا وَالْقَصْرَ مِنْ صِفَتِهَا ؛ وَلِهَذَا عَلَّقَهُ بِشَرْطَيْنِ السَّفَرِ وَالْخَوْفِ . فَالسَّفَرُ : يُبِيحُ قَصْرَ الْعَدَدِ فَقَطْ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } وَلِهَذَا كَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُ الَّتِي اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى نَقْلِهَا عَنْهُ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ } وَلَمْ يُصَلِّهَا فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا قَطُّ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا فِي الْحَجِّ وَلَا فِي الْعُمْرَةِ وَلَا فِي الْجِهَادِ . وَالْخَوْفُ يُبِيحُ قَصْرَ صِفَتِهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي تَمَامِ الْكَلَامِ : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } فَذَكَرَ صَلَاةَ الْخَوْفِ وَهِيَ صَلَاةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ إذْ كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ . وَكَانَ فِيهَا
{ أَنَّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ . فَإِذَا قَامَ إلَى الثَّانِيَةِ فَارَقُوهُ وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ ذَهَبُوا إلَى مَصَافِّ أَصْحَابِهِمْ } كَمَا قَالَ : { فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ } فَجَعَلَ السُّجُودَ لَهُمْ خَاصَّةً . فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ مُنْفَرِدِينَ ثُمَّ قَالَ : { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ } فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ . وَفِي هَذِهِ الصَّلَاةِ تَفْرِيقُ الْمَأْمُومِينَ وَمُفَارَقَةُ الْأَوَّلِينَ لِلْإِمَامِ . وَقِيَامُ الآخرين قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَيُتِمُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } فَأَمَرَهُمْ بَعْدَ الْأَمْنِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ . وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِتْمَامَ وَتَرْكَ الْقَصْرِ مِنْهَا الَّذِي أَبَاحَهُ الْخَوْفُ وَالسَّفَرُ . فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِقَامَةِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِإِتْمَامِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ : { فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ } فَتِلْكَ إقَامَةٌ وَإِتْمَامٌ فِي حَالِ الْخَوْفِ . كَمَا أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ إقَامَةٌ وَإِتْمَامٌ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَهَذَا يُبَيِّنُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : قُلْت لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { إقْصَارُ النَّاسِ الصَّلَاةَ الْيَوْمَ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
{ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ ؟ فَقَالَ : عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } فَإِنَّ الْمُتَعَجِّبَ ظَنَّ أَنَّ الْقَصْرَ مُطْلَقًا مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ الْأَمْنِ فَبَيَّنَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْقَصْرَ نَوْعَانِ كُلُّ نَوْعٍ لَهُ شَرْطٌ . وَثَبَتَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الصَّلَاةَ مَشْرُوعَةٌ فِي السَّفَرِ تَامَّةٌ . لِأَنَّهُ بِذَلِكَ أَمَرَ النَّاسَ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ . وَإِنْ كَانَتْ مَقْصُورَةً فِي الصِّفَةِ وَالْعَمَلِ إذْ الْمُصَلِّي يُؤْمَرُ بِالْإِطَالَةِ تَارَةً وَيُؤْمَرُ بِالِاقْتِصَارِ تَارَةً . وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } وَالْمَوْقُوتُ : قَدْ فَسَّرَهُ السَّلَفُ بِالْمَفْرُوضِ وَفَسَّرُوهُ بِمَا لَهُ وَقْتٌ . وَالْمَفْرُوضُ : هُوَ الْمُقَدَّرُ الْمُحَدَّدُ . فَإِنَّ التَّوْقِيتَ وَالتَّقْدِيرَ وَالتَّحْدِيدَ وَالْفَرْضَ : أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ . وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنَّ الصَّلَاةَ مُقَدَّرَةٌ مُحَدَّدَةٌ مَفْرُوضَةٌ مَوْقُوتَةٌ . وَذَلِكَ فِي زَمَانِهَا وَأَفْعَالِهَا وَكَمَا أَنَّ زَمَانَهَا مَحْدُودٌ : فَأَفْعَالُهَا أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مَحْدُودَةً مَوْقُوتَةً . وَهُوَ يَتَنَاوَلُ تَقْدِيرَ عَدَدِهَا : بِأَنْ جَعَلَهُ خَمْسًا وَجَعَلَ بَعْضَهَا أَرْبَعًا فِي الْحَضَرِ وَاثْنَتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَبَعْضَهَا ثَلَاثًا وَبَعْضَهَا اثْنَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ . وَتَقْدِيرُ عَمَلِهَا أَيْضًا . وَلِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَ الْعُذْرِ الْجَمْعُ الْمُتَضَمِّنُ لِنَوْعِ مِنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الزَّمَانِ كَمَا يَجُوزُ أَيْضًا الْقَصْرُ مِنْ عَدَدِهَا
وَمِنْ صِفَتِهَا بِحَسَبِ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ . وَذَلِكَ أَيْضًا مُقَدَّرٌ عِنْدَ الْعُذْرِ كَمَا هُوَ مُقَدَّرٌ عِنْدَ غَيْرِ الْعُذْرِ . وَلِهَذَا فَلَيْسَ لِلْجَامِعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ النَّهَارِ إلَى اللَّيْلِ أَوْ صَلَاةَ اللَّيْلِ إلَى النَّهَارِ وَصَلَاتَا النَّهَارِ : الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَصَلَاتَا اللَّيْلِ : الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ . وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ يُنْقِصُونَ مِنْ عَدَدِهَا وَصِفَتِهَا وَهُوَ مَوْقُوتٌ مَحْدُودٌ . وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْأَفْعَالُ مَحْدُودَةَ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ . فَالْقِيَامُ مَحْدُودٌ بِالِانْتِصَابِ بِحَيْثُ لَوْ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْمُنْتَصِبِ إلَى حَدِّ الْمُنْحَنِي الرَّاكِعِ بِاخْتِيَارِهِ : لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى بِحَدِّ الْقِيَامِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ ذِكْرَ الْقِيَامِ - الَّذِي هُوَ الْقِرَاءَةُ - أَفْضَلُ مَنْ ذِكْرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ؛ وَلَكِنْ نَفْسُ عَمَلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ الْقِيَامِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عِبَادَةً بِنَفْسِهِ . وَلَمْ يَصِحَّ فِي شَرْعِنَا إلَّا لِلَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مُقَدَّرَةٌ مَحْدُودَةٌ بِقَدْرِ التَّمَكُّنِ مِنْهَا . فَالسَّاجِدُ : عَلَيْهِ أَنْ يَصِلَ إلَى الْأَرْضِ وَهُوَ غَايَةُ التَّمَكُّنِ لَيْسَ لَهُ غَايَةٌ دُونَ ذَلِكَ إلَّا لِعُذْرِ وَهُوَ مِنْ حِينِ انْحِنَائِهِ أَخَذَ فِي السُّجُودِ سَوَاءٌ سَجَدَ مِنْ قِيَامٍ أَوْ مِنْ قُعُودٍ . فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ السُّجُودِ مُقَدَّرًا بِذَلِكَ بِحَيْثُ يَسْجُدُ مِنْ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ لَا
يَكُونُ سُجُودُهُ مِنْ انْحِنَاءٍ . فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مُقَدَّرًا مَحْدُودًا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَمَتَى وَجَبَ ذَلِكَ وَجَبَ الِاعْتِدَالُ فِي الرُّكُوعِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ . وَأَيْضًا : فَفِي ذَلِكَ إتْمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَأَيْضًا : فَأَفْعَالُ الصَّلَاةِ إذَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهَا قَدْرٌ . وَذَلِكَ هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ . فَإِنَّ مَنْ نَقَرَ نَقْرَ الْغُرَابِ لَمْ يَكُنْ لِفِعْلِهِ قَدْرٌ أَصْلًا . فَإِنَّ قَدْرَ الشَّيْءِ وَمِقْدَارَهُ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى أَصْلِ وُجُودِهِ . وَلِهَذَا يُقَالُ لِلشَّيْءِ الدَّائِمِ : لَيْسَ لَهُ قَدْرٌ فَإِنَّ الْقَدْرَ لَا يَكُونُ لِأَدْنَى حَرَكَةٍ بَلْ لِحَرَكَةِ ذَاتِ امْتِدَادٍ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنَا بِإِقَامَتِهَا وَالْإِقَامَةُ : أَنْ تُجْعَلَ قَائِمَةً وَالشَّيْءُ الْقَائِمُ : هُوَ الْمُسْتَقِيمُ الْمُعْتَدِلُ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُ الصَّلَاةِ مُسْتَقِرَّةً مُعْتَدِلَةً . وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِثُبُوتِ أَبْعَاضِهَا وَاسْتِقْرَارِهَا . وَهَذَا يَتَضَمَّنُ الطُّمَأْنِينَةَ . فَإِنَّ مَنْ نَقَرَ نَقْرَ الْغُرَابِ لَمْ يُقِمْ السُّجُودَ وَلَا يُتِمُّ سُجُودَهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ . وَكَذَلِكَ الرَّاكِعُ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ : مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قتادة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ } وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صهيب عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتِمُّوا الصُّفُوفَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِي } وَفِي لَفْظٍ { أَقِيمُوا الصُّفُوفَ } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ حميد عَنْ أَنَسٍ قَالَ { : أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي . وَكَانَ أَحَدُنَا يُلْصِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَبَدَنَهُ بِبَدَنِهِ } . فَإِذَا كَانَ تَقْوِيمُ الصَّفِّ وَتَعْدِيلُهُ مِنْ تَمَامِهَا وَإِقَامَتِهَا بِحَيْثُ لَوْ خَرَجُوا عَنْ الِاسْتِوَاءِ وَالِاعْتِدَالِ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ هَذَا عِنْدَ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِنْ هَذَا لَمْ يَكُونُوا مُصْطَفِّينَ وَلَكَانُوا يُؤْمَرُونَ بِالْإِعَادَةِ وَهُمْ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الَّذِي صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتَهُ فَكَيْفَ بِتَقْوِيمِ أَفْعَالِهَا وَتَعْدِيلِهَا بِحَيْثُ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ - وَهُوَ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ - مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قتادة عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِي - وَفِي رِوَايَةٍ : مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي - إذَا رَكَعْتُمْ وَسَجَدْتُمْ } وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قتادة عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { أَتِمُّوا الرُّكُوعَ
وَالسُّجُودَ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ بَعْدِ ظَهْرِي إذَا مَا رَكَعْتُمْ وَإِذَا مَا سَجَدْتُمْ } وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ الدستوائي وَابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَتِمُّوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ - وَلَفْظُ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ : أَقِيمُوا الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَإِنِّي أَرَاكُمْ - وَذَكَرَهُ } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ إقَامَةَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ تُوجِبُ إتْمَامَهُمَا كَمَا فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ . وَأَيْضًا : فَأَمْرُهُ لَهُمْ بِإِقَامَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يَتَضَمَّنُ السُّكُونَ فِيهِمَا إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ بِالِانْحِنَاءِ فِي الْجُمْلَةِ ؛ بَلْ الْأَمْرُ بِالْإِقَامَةِ يَقْتَضِي أَيْضًا الِاعْتِدَالَ فِيهِمَا وَإِتْمَامَ طَرَفَيْهِمَا وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الرَّفْعُ فِيهِمَا وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لِلْمَأْمُومِينَ خَلْفَهُ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمْ الِانْصِرَافُ قَبْلَهُ . وَأَيْضًا : فَقَوْلُهُ تَعَالَى { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } أَمْرٌ بِالْقُنُوتِ فِي الْقِيَامِ لِلَّهِ وَالْقُنُوتُ : دَوَامُ الطَّاعَةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَوَاءٌ كَانَ فِي حَالِ الِانْتِصَابِ أَوْ فِي حَالِ السُّجُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } وَقَالَ تَعَالَى { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا
حَفِظَ اللَّهُ } وَقَالَ { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } وَقَالَ : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ } . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } إمَّا أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ مُطْلَقًا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } فَيَعُمُّ أَفْعَالَهَا وَيَقْتَضِي الدَّوَامَ فِي أَفْعَالِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ : الْقِيَامَ الْمُخَالِفَ لِلْقُعُودِ فَهَذَا يَعُمُّ مَا قَبْلَ الرُّكُوعِ وَمَا بَعْدَهُ وَيَقْتَضِي الطُّولَ وَهُوَ الْقُنُوتُ الْمُتَضَمِّنُ لِلدُّعَاءِ كَقُنُوتِ النَّوَازِلِ وَقُنُوتِ الْفَجْرِ عِنْدَ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ . وَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ هَذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الطُّمَأْنِينَةِ فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ . بِطَرِيقِ الْأَوْلَى . وَيُقَوِّي الْوَجْهَ الْأَوَّلَ : حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَم الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ أَحَدُنَا يُكَلِّمُ الرَّجُلَ إلَى جَنْبِهِ إلَى الصَّلَاةِ فَنَزَلَتْ { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } قَالَ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ } حَيْثُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ خِطَابِ الْآدَمِيِّينَ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْقُنُوتِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ وَدَلَّ الْأَمْرُ بِالْقُنُوتِ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ لِأَنَّ الْقُنُوتَ هُوَ دَوَامُ الطَّاعَةِ فَالْمُشْتَغِلُ بِمُخَاطَبَةِ الْعِبَادِ تَارِكٌ لِلِاشْتِغَالِ
بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ فَلَا يَكُونُ مُدَاوِمًا عَلَى طَاعَتِهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَرُدُّ { إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا } فَأَخْبَرَ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ مَا يَشْغَلُ الْمُصَلِّي عَنْ مُخَاطَبَةِ النَّاسِ وَهَذَا هُوَ الْقُنُوتُ فِيهَا وَهُوَ دَوَامُ الطَّاعَةِ . وَلِهَذَا جَازَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ تَنْبِيهُ النَّاسِي بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِيهَا مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالتَّسْبِيحِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَشْغَلُهُ عَنْهَا . وَلَا يُنَافِي الْقُنُوتَ فِيهَا . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا مَنْ سَجَدَ إذَا ذُكِّرَ بِالْآيَاتِ وَسَبَّحَ بِحَمْدِ رَبِّهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ هِيَ تَذْكِيرٌ بِالْآيَاتِ وَلِذَلِكَ وَجَبَ السُّجُودُ مَعَ ذَلِكَ . وَقَدْ أَوْجَبَ خَرُورَهُمْ سُجَّدًا وَأَوْجَبَ تَسْبِيحَهُمْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّسْبِيحِ فِي السُّجُودِ وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الطُّمَأْنِينَةِ . وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ : إنَّ مِقْدَارَ الطُّمَأْنِينَةِ الْوَاجِبَةِ مِقْدَارُ التَّسْبِيحِ الْوَاجِبِ عِنْدَهُمْ . وَالثَّانِي : أَنَّ الْخُرُورَ هُوَ السُّقُوطُ وَالْوُقُوعُ وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ فِيمَا يَثْبُتُ وَيَسْكُنُ لَا فِيمَا لَا يُوجَدُ مِنْهُ سُكُونٌ عَلَى الْأَرْضِ وَلِهَذَا قَالَ
اللَّهُ : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } وَالْوُجُوبُ فِي الْأَصْلِ : هُوَ الثُّبُوتُ وَالِاسْتِقْرَارُ . وَأَيْضًا : فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ وَلَمَّا نَزَلَتْ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } قَالَ : اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه . فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَعْلِ هَذَيْنِ التَّسْبِيحَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَأَمْرُهُ عَلَى الْوُجُوبِ . وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ تَبَعًا لِهَذَا التَّسْبِيحِ . وَذَلِكَ هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ . ثُمَّ إنَّ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ قَدْ يَقُولُ : التَّسْبِيحُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَهَذَا الْقَوْلُ يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَإِنَّ ظَاهِرَهُمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ جَمِيعًا فَإِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقَوْلِ : لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الْفِعْلِ . وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ التَّسْبِيحِ : فَيَسْتَدِلُّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } . وَهَذَا أَمْرٌ بِالصَّلَاةِ كُلِّهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البجلي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ نَظَرَ
إلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ . فَقَالَ : إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ . فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا . ثُمَّ قَرَأَ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } } . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمَّى الصَّلَاةَ تَسْبِيحًا فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ التَّسْبِيحِ . كَمَا أَنَّهُ لَمَّا سَمَّاهَا قِيَامًا فِي قَوْله تَعَالَى { قُمِ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ . وَكَذَلِكَ لَمَّا سَمَّاهَا قُرْآنًا فِي قَوْله تَعَالَى { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقُرْآنِ فِيهَا وَلَمَّا سَمَّاهَا رُكُوعًا وَسُجُودًا فِي مَوَاضِعَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِيهَا . وَذَلِكَ : أَنَّ تَسْمِيَتَهَا بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَازِمَةٌ لَهَا . فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ . فَتَكُونُ مِنْ الْأَبْعَاضِ اللَّازِمَةِ كَمَا أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْإِنْسَانَ بِأَبْعَاضِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ . فَيُسَمُّونَهُ رَقَبَةً وَرَأْسًا وَوَجْهًا وَنَحْوَ ذَلِكَ . كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وَلَوْ جَازَ وُجُودُ الصَّلَاةِ بِدُونِ التَّسْبِيحِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالتَّسْبِيحِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا بِالصَّلَاةِ . فَإِنَّ اللَّفْظَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى مَعْنَاهُ . وَلَا عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُ مَعْنَاهُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَمَّ عُمُومَ الْإِنْسَانِ وَاسْتَثْنَى الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا }
{ إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } { إلَّا الْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } وَالسَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ قَدْ فَسَّرُوا الدَّائِمَ عَلَى الصَّلَاةِ بِالْمُحَافَظِ عَلَى أَوْقَاتِهَا وَبِالدَّائِمِ عَلَى أَفْعَالِهَا بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا . وَالْآيَةُ تَعُمُّ هَذَا وَهَذَا . فَإِنَّهُ قَالَ : { عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } وَالدَّائِمُ عَلَى الْفِعْلِ هُوَ الْمُدِيمُ لَهُ الَّذِي يَفْعَلُهُ دَائِمًا . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَا يُفْعَلُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ : وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَهُ كُلَّ يَوْمٍ بِحَيْثُ لَا يَفْعَلُهُ تَارَةً وَيَتْرُكُهُ أُخْرَى وَسَمَّى ذَلِكَ دَوَامًا عَلَيْهِ . فَالدَّوَامُ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ الْمُتَّصِلِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ دَوَامًا وَأَنْ تَتَنَاوَلَ الْآيَةُ ذَلِكَ . وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إدَامَةِ أَفْعَالِهَا لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَمَّ عُمُومَ الْإِنْسَانِ وَاسْتَثْنَى الْمُدَاوِمَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ . فَتَارِكُ إدَامَةِ أَفْعَالِهَا يَكُونُ مَذْمُومًا مِنْ الشَّارِعِ وَالشَّارِعُ لَا يَذُمُّ إلَّا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ . وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : { إلَّا الْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ قَدْ يَكُونُ دَائِمًا عَلَى صَلَاتِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ دَائِمًا عَلَيْهَا وَأَنَّ الْمُصَلِّيَ الَّذِي لَيْسَ بِدَائِمِ مَذْمُومٌ . وَهَذَا يُوجِبُ ذَمَّ مَنْ لَا يُدِيمُ أَفْعَالَهَا الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْفَصِلَةَ . وَإِذَا وَجَبَ دَوَامُ أَفْعَالِهَا فَذَلِكَ هُوَ نَفْسُ الطُّمَأْنِينَةِ . فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إدَامَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَغَيْرِهِمَا وَلَوْ كَانَ الْمُجْزِئُ أَقَلَّ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ الْخَفْضِ - وَهُوَ نَقْرُ الْغُرَابِ - لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَوَامًا وَلَمْ يَجِبْ الدَّوَامُ عَلَى الرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ وَهُمَا أَصْلُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ كَمَا تَجِبُ الصَّلَاةُ يَجِبُ الدَّوَامُ عَلَيْهَا الْمُتَضَمِّنُ لِلطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ فِي أَفْعَالِهَا .
وَأَيْضًا : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } . وَهَذَا يَقْتَضِي ذَمَّ غَيْرِ الْخَاشِعِينَ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ } . فَقَدْ دَلَّ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ كَبُرَ عَلَيْهِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ . وَأَنَّهُ مَذْمُومٌ بِذَلِكَ فِي الدِّينِ مَسْخُوطٌ مِنْهُ ذَلِكَ وَالذَّمُّ أَوْ السُّخْطُ لَا يَكُونُ إلَّا لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ وَإِذَا كَانَ غَيْرُ الْخَاشِعِينَ مَذْمُومِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْخُشُوعِ . فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْخُشُوعَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } لَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ الْخُشُوعَ فِي الصَّلَاةِ . فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْخُشُوعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَفَسَدَ الْمَعْنَى إذْ لَوْ قِيلَ : إنَّ الصَّلَاةَ
لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى مَنْ خَشَعَ خَارِجَهَا وَلَمْ يَخْشَعْ فِيهَا : كَانَ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَا تَكْبُرُ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْشَعْ فِيهَا وَتَكْبُرُ عَلَى مَنْ خَشَعَ فِيهَا . وَقَدْ انْتَقَى مَدْلُولَ الْآيَةِ . فَثَبَتَ أَنَّ الْخُشُوعَ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ . وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْخُشُوعِ فِيهَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَرِثُونَ فِرْدَوْسَ الْجَنَّةِ . وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَرِثُهَا غَيْرُهُمْ . وَقَدْ دَلَّ هَذَا عَلَى وُجُوبِ هَذِهِ الْخِصَالِ . إذْ لَوْ كَانَ فِيهَا مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَكَانَتْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ تُورَثُ بِدُونِهَا لَأَنَّ الْجَنَّةَ تُنَالُ بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ دُونَ الْمُسْتَحَبَّاتِ . وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ إلَّا مَا هُوَ وَاجِبٌ . وَإِذَا كَانَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبًا فَالْخُشُوعُ يَتَضَمَّنُ السَّكِينَةَ وَالتَّوَاضُعَ جَمِيعًا . وَمِنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ فِي صَلَاتِهِ . فَقَالَ { لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ } أَيْ لَسَكَنَتْ
وَخَضَعَتْ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } فَأَخْبَرَ أَنَّهَا بَعْدَ الْخُشُوعِ تَهْتَزُّ وَالِاهْتِزَازُ حَرَكَةٌ وَتَرْبُو وَالرَّبْوُ : الِارْتِفَاعُ . فَعُلِمَ أَنَّ الْخُشُوعَ فِيهِ سُكُونٌ وَانْخِفَاضٌ . وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي حَالِ رُكُوعِهِ { اللَّهُمَّ لَك رَكَعْت وَبِك آمَنْت وَلَك أَسْلَمْت . خَشَعَ لَك سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَقْلِي وَعَصَبِي } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْخُشُوعِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ لِأَنَّ الرَّاكِعَ سَاكِنٌ مُتَوَاضِعٌ . وَبِذَلِكَ فُسِّرَتْ الْآيَةُ . فَفِي التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ تَفْسِيرُ الوالبي عَنْ عَلِيِّ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَدْ رَوَاهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي التَّفْسِيرِ كَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - قَوْله تَعَالَى { فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } يَقُولُ : " خَائِفُونَ سَاكِنُونَ " وَرَوَوْا فِي التَّفَاسِيرِ الْمُسْنَدَةِ كَتَفْسِيرِ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ : " خَاشِعُونَ " قَالَ " السُّكُونُ فِيهَا " قَالَ : وَكَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي . قَالَ : الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَقَالَ : سَاكِنُونَ . قَالَ الضَّحَّاكُ : الْخُشُوعُ الرَّهْبَةُ لِلَّهِ . وَرَوَى
عَنْ الْحَسَنِ : خَائِفُونَ وَرَوَى ابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ المقبري . حَدَّثَنَا الْمَسْعُودِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو سِنَانٍ : أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ . الْآيَةِ . { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } قَالَ الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَأَنْ يَلِينَ كَنَفُهُ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ وَأَنْ لَا تَلْتَفِتَ فِي صَلَاتِك . وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْمُنْذِرِ أَيْضًا مَا فِي تَفْسِيرِ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه عَنْ رَوْحٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قتادة : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } قَالَ : الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَالْخَوْفُ وَغَضُّ الْبَصَرِ فِي الصَّلَاةِ . وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرِ بْنِ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ " مَجَازِ الْقُرْآنِ " { فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } أَيْ لَا تَطْمَحُ أَبْصَارُهُمْ وَلَا يَلْتَفِتُونَ . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ سِيرِين وَرَوَاهُ إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه فِي التَّفْسِيرِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ أَيْضًا فِي التَّفْسِيرِ الَّذِي لَهُ رَوَاهُ . مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ حَدَّثَنِي خَالِدٌ عَنْ ابْنِ سِيرِين قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ إلَى السَّمَاءِ فَأُمِرَ بِالْخُشُوعِ فَرَمَى بِبَصَرِهِ نَحْوَ مَسْجِدِهِ } أَيْ مَحَلِّ سُجُودِهِ . قَالَ سُفْيَانُ : وَحَدَّثَنِي غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ سِيرِين " أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ : نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } قَالَ : هُوَ سُكُونُ الْمَرْءِ فِي صَلَاتِهِ " قَالَ مَعْمَرٌ : وَقَالَ الْحَسَنُ " خَائِفُونَ " وَقَالَ قتادة : " الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ " وَمِنْهُ خُشُوعُ الْبَصَرِ وَخَفْضُهُ وَسُكُونُهُ ضِدُّ تَقْلِيبِهِ فِي الْجِهَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ
يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي إلَى شَيْءٍ نُكُرٍ } { خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ } { مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } وقَوْله تَعَالَى { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } وَفِي الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى { خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ } وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَصَفَ أَجْسَادَهُمْ بِالْحَرَكَةِ السَّرِيعَةِ حَيْثُ لَمْ يَصِفْ بِالْخُشُوعِ إلَّا أَبْصَارَهُمْ ؛ بِخِلَافِ آيَةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ وَصَفَ بِالْخُشُوعِ جُمْلَةَ الْمُصَلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } وَقَالَ تَعَالَى " { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } . وَمِنْ ذَلِكَ : خُشُوعُ الْأَصْوَاتِ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } وَهُوَ انْخِفَاضُهَا وَسُكُوتُهَا . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ } { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } وَقَالَ تَعَالَى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } { عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ } { تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } وَهَذَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ بِلَا رَيْبٍ
كَمَا قَالَ فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ } { لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى { وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ } { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } . وَإِذَا كَانَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبًا وَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِلسُّكُونِ وَالْخُشُوعِ . فَمَنْ نَقَرَ نَقْرَ الْغُرَابِ لَمْ يَخْشَعْ فِي سُجُودِهِ . وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ . مِنْ الرُّكُوعِ وَيَسْتَقِرَّ قَبْلَ أَنْ يَنْخَفِضَ لَمْ يَسْكُنْ لِأَنَّ السُّكُونَ هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ بِعَيْنِهَا . فَمَنْ لَمْ يَطْمَئِنَّ لَمْ يَسْكُنْ وَمَنْ لَمْ يَسْكُنْ لَمْ يَخْشَعْ فِي رُكُوعِهِ وَلَا فِي سُجُودِهِ . وَمَنْ لَمْ يَخْشَعْ كَانَ آثِمًا عَاصِيًا وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَّاهُ . وَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَعَّدَ تَارِكِيهِ كَاَلَّذِي يَرْفَعُ بَصَرَهُ إلَى السَّمَاءِ فَإِنَّهُ حَرَكَتُهُ وَرَفْعُهُ وَهُوَ ضِدُّ حَالِ الْخَاشِعِ . فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ فِي صَلَاتِهِمْ ؟ فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ } وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : { دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ وَفِيهِ نَاسٌ يُصَلُّونَ رَافِعِي أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ . فَقَالَ : لَيَنْتَهِيَنَّ رِجَالٌ يَشْخَصُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَى السَّمَاءِ أَوْ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِمْ أَبْصَارُهُمْ }
الْأَوَّلُ : فِي الْبُخَارِيِّ وَالثَّانِي : فِي مُسْلِمٍ . وَكِلَاهُمَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنِ مَاجَه . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِين : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ فِي الصَّلَاةِ . فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } لَمْ يَكُنْ يُجَاوِزُ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ } . رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي " كِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ " . فَلَمَّا كَانَ رَفْعُ الْبَصَرِ إلَى السَّمَاءِ يُنَافِي الْخُشُوعَ حَرَّمَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوَعَّدَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الِالْتِفَاتُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَهُوَ يَنْقُصُ الْخُشُوعَ وَلَا يُنَافِيهِ . فَلِهَذَا كَانَ يَنْقُصُ الصَّلَاةَ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْتِفَاتِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ ؟ فَقَالَ : هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ الْعَبْدِ } . وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ . فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ } . وَأَمَّا لِحَاجَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ سَهْلِ بْنِ الحنظلية قَالَ : { ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ - يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ - فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ يَلْتَفِتُ إلَى الشِّعْبِ قَالَ أَبُو دَاوُد وَكَانَ أَرْسَلَ فَارِسًا إلَى الشِّعْبِ مِنْ اللَّيْلِ يَحْرُسُ } . وَهَذَا كَحَمْلِهِ أمامة بِنْتِ أَبِي العاص بْنِ الرَّبِيعِ مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ . وَفَتْحِهِ الْبَابَ لِعَائِشَةَ وَنُزُولِهِ مِنْ الْمِنْبَرِ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ يُعَلِّمُهُمْ وَتَأَخُّرِهِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَإِمْسَاكِهِ الشَّيْطَانَ وَخَنْقِهِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ صَلَاتَهُ وَأَمْرِهِ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ وَأَمْرِهِ بِرَدِّ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي وَمُقَاتَلَتِهِ وَأَمْرِهِ النِّسَاءَ بِالتَّصْفِيقِ وَإِشَارَتِهِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُفْعَلُ لِحَاجَةِ وَلَوْ كَانَتْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ كَانَتْ مِنْ الْعَبَثِ الْمُنَافِي لِلْخُشُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : مَا رَوَاهُ تَمِيمٌ الطَّائِيُّ عَنْ { جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ رَافِعُوا أَيْدِيهِمْ - قَالَ الرَّاوِي - وَهُوَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ - وَأُرَاهُ قَالَ فِي الصَّلَاةِ - فَقَالَ : مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شمس اُسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَرَوَوْا أَيْضًا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْقِبْطِيَّةِ عَنْ { جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا إذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ أَحَدُنَا أَشَارَ بِيَدِهِ مِنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمِنْ عَنْ يَسَارِهِ . فَلَمَّا صَلَّى قَالَ : مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يُومِئُ بِيَدِهِ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شمس ؟ إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ - أَوْ أَلَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ -
أَنْ يَقُولَ : هَكَذَا - وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ - يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمِنْ عَنْ شِمَالِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : { أَمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ أَوْ أَحَدَهُمْ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ مِنْ عَنْ يَمِينِهِ وَمِنْ عَنْ شِمَالِهِ } . وَلَفْظُ مُسْلِمٍ : { صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُنَّا إذَا سَلَّمْنَا قُلْنَا بِأَيْدِينَا : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَنَظَرَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ تُشِيرُونَ بِأَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شمس ؟ إذَا سَلَّمَ أَحَدُكُمْ فَلْيَلْتَفِتْ إلَى صَاحِبِهِ وَلَا يُومِئْ بِيَدِهِ } . فَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّكُونِ فِي الصَّلَاةِ . وَهَذَا يَقْتَضِي السُّكُونَ فِيهَا كُلِّهَا . وَالسُّكُونُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالطُّمَأْنِينَةِ . فَمَنْ لَمْ يَطْمَئِنَّ لَمْ يَسْكُنْ فِيهَا وَأَمْرُهُ بِالسُّكُونِ فِيهَا مُوَافِقٌ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْخُشُوعِ فِيهَا وَأَحَقُّ النَّاسِ بِاتِّبَاعِ هَذَا : هُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ . وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ نَهْيَهُ عَنْ رَفْعِ الْأَيْدِي هُوَ النَّهْيُ عَنْ رَفْعِهَا إلَى مَنْكِبِهِ حِينَ الرُّكُوعِ وَحِينَ الرَّفْعِ مِنْهُ وَحَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ غَلِطَ . فَإِنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ مُفَسَّرًا بِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَلَّمُوا فِي الصَّلَاةِ سَلَامَ التَّحْلِيلِ أَشَارُوا بِأَيْدِيهِمْ إلَى الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ مِنْ عَنْ الْيَمِينِ وَمِنْ عَنْ الشِّمَالِ . وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَالِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيَكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ
شمس ؟ } " والشمس " جَمْعُ شَمُوسٍ . وَهُوَ الَّذِي تَقُولُ لَهُ الْعَامَّةُ الشَّمُوصُ . وَهُوَ الَّذِي يُحَرِّكُ ذَنَبَهُ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ . وَهِيَ حَرَكَةٌ لَا سُكُونَ فِيهَا . وَأَمَّا رَفْعُ الْأَيْدِي عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ بِمِثْلِ رَفْعِهَا عِنْدَ الِاسْتِفْتَاحِ فَذَلِكَ مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . فَكَيْفَ يَكُونُ الْحَدِيثُ نَهْيًا عَنْهُ ؟ . وَقَوْلُهُ : " اُسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ " يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ وَلِهَذَا صَلَّى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ هَذَا الرَّفْعَ إلَى جَنْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ فَرَفَعَ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ : " أَتُرِيدُ أَنْ تَطِيرَ ؟ " فَقَالَ : " إنْ كُنْت أَطِيرُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ فَأَنَا أَطِيرُ فِي الثَّانِيَةِ وَإِلَّا فَلَا " وَهَذَا نَقْضٌ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى . وَأَيْضًا : فَقَدْ تَوَاتَرَتْ السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِهَذَا الرَّفْعِ فَلَا يَكُونُ نَهْيًا عَنْهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ مُعَارِضًا . بَلْ لَوْ قَدْ تَعَارَضَا فَأَحَادِيثُ هَذَا الرَّفْعِ كَثِيرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْخَبَرِ الْوَاحِدِ لَوْ عَارَضَهَا وَهَذَا الرَّفْعُ فِيهِ سُكُونٌ . فَقَوْلُهُ " اُسْكُنُوا فِي الصَّلَاةِ " لَا يُنَافِي هَذَا الرَّفْعَ كَرَفْعِ الِاسْتِفْتَاحِ وَكَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ بَلْ قَوْلُهُ " اُسْكُنُوا " يَقْتَضِي السُّكُونَ فِي كُلِّ
بَعْضٍ مِنْ أَبْعَاضِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ السُّكُونِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ والاعتدالين . فَبَيَّنَ هَذَا أَنْ السُّكُونَ مَشْرُوعٌ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَلِهَذَا يَسْكُنُ فِيهَا فِي الِانْتِقَالَاتِ الَّتِي مُنْتَهَاهَا إلَى الْحَرَكَةِ ؛ فَإِنَّ السُّكُونَ فِيهَا يَكُونُ بِحَرَكَةِ مُعْتَدِلَةٍ لَا سَرِيعَةٍ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَشْيِ إلَيْهَا . وَهِيَ حَرَكَةٌ إلَيْهَا فَكَيْفَ بِالْحَرَكَةِ فِيهَا ؟ فَقَالَ : { إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ . فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وائتوها وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ . فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا } . وَهَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ . فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ وائتوها تَمْشُونَ . وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ . فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه . قَالَ أَبُو دَاوُد - وَكَذَلِكَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ - وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَمَعْمَرٌ وَشُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ { وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا } وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَة عَنْ الزُّهْرِيِّ : " فَاقْضُوا " . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { فَأَتِمُّوا } وَابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَأَتِمُّوا } . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { ائْتُوا الصَّلَاةَ وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ . فَصَلُّوا مَا أَدْرَكْتُمْ وَاقْضُوا مَا سَبَقَكُمْ } قَالَ أَبُو دَاوُد : وَكَذَا قَالَ ابْنُ سِيرِين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلْيَقْضِ } . وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى عَنْهُ { فَأَتِمُّوا وَاقْضُوا } اخْتَلَفَ عَنْهُ . فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِالسَّكِينَةِ حَالَ الذَّهَابِ إلَى الصَّلَاةِ وَنَهَى عَنْ السَّعْيِ الَّذِي هُوَ إسْرَاعٌ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلصَّلَاةِ . فَالصَّلَاةُ أَحَقُّ أَنْ يُؤْمَرَ فِيهَا بِالسَّكِينَةِ وَيُنْهَى فِيهَا عَنْ الِاسْتِعْجَالِ فَعُلِمَ أَنَّ الرَّاكِعَ وَالسَّاجِدَ مَأْمُورٌ بِالسَّكِينَةِ مَنْهِيٌّ عَنْ الِاسْتِعْجَالِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَمَرَهُ بِالسَّكِينَةِ بَعْدَ سَمَاعِ الْإِقَامَةِ الَّذِي يُوجِبُ عَلَيْهِ الذَّهَابَ إلَيْهَا وَنَهَاهُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَنْهَا بِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى فَوَاتِ بَعْضِ الصَّلَاةِ فَأَمَرَهُ بِالسَّكِينَةِ وَأَنْ يُصَلِّيَ مَا فَاتَهُ مُنْفَرِدًا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِسْرَاعِ إلَيْهَا . وَهَذَا يَقْتَضِي شِدَّةَ النَّهْيِ عَنْ الِاسْتِعْجَالِ إلَيْهَا فَكَيْفَ فِيهَا ؟ ؟ يُبَيِّنُ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي ثُمَامَةَ الْحَنَّاطِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يُشَبِّكَن يَدَيْهِ . فَإِنَّهُ فِي صَلَاةٍ } فَقَدْ نَهَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْيِهِ إلَى الصَّلَاةِ عَمَّا
نَهَاهُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْعَمَلِ لَهُ مُنْفَرِدًا فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ الْمُصَلِّي نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْمَشْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؟ فَإِذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ السُّرْعَةِ وَالْعَجَلَةِ فِي الْمَشْيِ مَأْمُورًا بِالسَّكِينَةِ وَإِنْ فَاتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يُصَلِّيَ قَاضِيًا لَهُ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِالسَّكِينَةِ فِيهَا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِالسَّكِينَةِ وَالْقَصْدِ فِي الْحَرَكَةِ وَالْمَشْيِ مُطْلَقًا فَقَالَ : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } . قَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ : " بِسَكِينَةِ وَوَقَارٍ " فَأَخْبَرَ أَنَّ عِبَادَ الرَّحْمَنِ هُمْ هَؤُلَاءِ . فَإِذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ فِي الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الْحَرَكَةِ فَكَيْفَ الْأَفْعَالُ الْعِبَادِيَّةُ ؟ ثُمَّ كَيْفَ بِمَا هُوَ فِيهَا مَنْ جِنْسِ السُّكُونِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ؟ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ تَقْتَضِي السِّكِّينَةَ فِي الِانْتِقَالِ ؛ كَالرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَالنُّهُوضِ وَالِانْحِطَاطِ . وَأَمَّا نَفْسُ الْأَفْعَالِ الَّتِي هِيَ الْمَقْصُودُ بِالِانْتِقَالِ كَالرُّكُوعِ نَفْسِهِ وَالسُّجُودِ نَفْسِهِ وَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ أَنْفُسِهِمَا - وَهَذِهِ هِيَ مِنْ نَفْسِهَا سُكُونٌ - فَمَنْ لَمْ يَسْكُنْ فِيهَا لَمْ يَأْتِ بِهَا وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَهْوَى إلَى الْقُعُودِ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ كَمَنْ مَدَّ يَدَهُ إلَى الطَّعَامِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ أَوْ وَضَعَهُ عَلَى فِيهِ وَلَمْ يَطْعَمْهُ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِي الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } وقَوْله تَعَالَى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } وقَوْله تَعَالَى { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } وقَوْله تَعَالَى { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } وقَوْله تَعَالَى { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ النَّاسِ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَقَوْلِهِ : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا } وقَوْله تَعَالَى { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } . وَإِذَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَرَضَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لِلَّهِ فِي كِتَابِهِ كَمَا فَرَضَ أَصْلَ الصَّلَاةِ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَسُنَّتُهُ تُفَسِّرُ الْكِتَابَ وَتُبَيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ
وَفِعْلُهُ إذَا خَرَجَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ أَوْ تَفْسِيرًا لِمُجْمَلِ : كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ مَا امْتَثَلَهُ وَفَسَّرَهُ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ يَأْتِي فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِرُكُوعِ وَاحِدٍ وَسُجُودَيْنِ كَانَ كِلَاهُمَا وَاجِبًا . وَكَانَ هَذَا امْتِثَالًا مِنْهُ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَتَفْسِيرًا لِمَا أُجْمِلَ ذِكْرُهُ فِي الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الْمَرْجِعُ إلَى سُنَّتِهِ فِي كَيْفِيَّةِ السُّجُودِ . وَقَدْ كَانَ يُصَلِّي الْفَرِيضَةَ وَالنَّافِلَةَ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَى عَهْدِهِ وَلَمْ يُصَلِّ قَطُّ إلَّا بِالِاعْتِدَالِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وبالطمأنينة فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ كُلِّهَا . قَدْ نَقَلَ ذَلِكَ كُلُّ مَنْ نَقَلَ صَلَاةَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ . وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَى عَهْدِهِ وَلَمْ يُصَلِّ قَطُّ إلَّا بِالِاعْتِدَالِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وبالطمأنينة . وَكَذَلِكَ كَانَتْ صَلَاةُ أَصْحَابِهِ عَلَى عَهْدِهِ . وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ كَمَا يَقْتَضِي وُجُوبَ عَدَدِهَا . وَهُوَ سُجُودَانِ مَعَ كُلِّ رُكُوعٍ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ مُدَاوَمَتَهُ عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ كُلَّ يَوْمٍ مَعَ كَثْرَةِ الصَّلَوَاتِ مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ . إذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ لَتَرَكَهُ وَلَوْ مَرَّةً لِيُبَيِّنَ الْجَوَازَ . أَوْ لِيُبَيِّنَ جَوَازَ تَرْكِهِ بِقَوْلِهِ . فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ - لَا بِقَوْلِهِ وَلَا بِفِعْلِهِ - جَوَازَ تَرْكِ ذَلِكَ مَعَ مُدَاوَمَتِهِ عَلَيْهِ . كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِهِ . وَأَيْضًا : فَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ :
أَنَّهُ قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الحويرث وَصَاحِبِهِ { إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأَذِّنَا وَأُقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا . وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا كَمَا رَأَوْهُ يُصَلِّي . وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لَهُمْ وَلَا مُعَارِضَ لِذَلِكَ وَلَا مُخَصِّصَ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ وَالْمُنْفَرِدِ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { سَهْلِ ابْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ مَعَهُ وَرَاءَهُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ رَجَعَ فَنَزَلَ الْقَهْقَرَى حَتَّى سَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ ثُمَّ عَادَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ صَلَاتِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ . فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا صَنَعْت هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ سَالِمٍ الْبَرَّادِ قَالَ : { أَتَيْنَا عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيَّ أَبَا مَسْعُودٍ فَقُلْنَا لَهُ : حَدِّثْنَا عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَامَ بَيْنَ أَيْدِينَا فِي الْمَسْجِدِ فَكَبَّرَ فَلَمَّا رَكَعَ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَجَعَلَ أَصَابِعَهُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ وَجَافَى بَيْنَ مَرْفِقَيْهِ حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَامَ حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ جَافَى بَيْنَ مَرْفِقَيْهِ حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ .
مِنْهُ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَجَلَسَ حَتَّى اسْتَقَرَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَيْضًا ثُمَّ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِثْلَ هَذِهِ الرَّكْعَةِ فَصَلَّى صَلَاتَهُ . ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي } . وَهَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . فَإِنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ إلَّا مُطْمَئِنِّينَ . وَإِذَا رَأَى بَعْضُهُمْ مَنْ لَا يَطْمَئِنُّ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَنَهَاهُ . وَلَا يُنْكِرُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى الْمُنْكَرِ لِذَلِكَ . وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى وُجُوبِ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الصَّلَاةِ قَوْلًا وَفِعْلًا . وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَاجِبٍ لَكَانُوا يَتْرُكُونَهُ أَحْيَانًا كَمَا كَانُوا يَتْرُكُونَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبِ . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا يَكُونُ إلَّا إذَا سَكَنَ حِينَ انْحِنَائِهِ وَحِينَ وَضْعِ وَجْهِهِ عَلَى الْأَرْضِ . فَأَمَّا مُجَرَّدُ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ عَنْهُ : فَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ رُكُوعًا وَلَا سُجُودًا . وَمَنْ سَمَّاهُ رُكُوعًا وَسُجُودًا فَقَدْ غَلِطَ عَلَى اللُّغَةِ . فَهُوَ مُطَالَبٌ بِدَلِيلِ مِنْ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا يُسَمَّى رَاكِعًا وَسَاجِدًا حَتَّى يَكُونَ فَاعِلُهُ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ وَحَتَّى يُقَالَ : إنَّ هَذَا الْأَمْرَ الْمُطَالَبَ بِهِ يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ فِيهِ بِفِعْلِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ . فَإِنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مُجَرَّدَ هَذَا يُسَمَّى فِي اللُّغَةِ رُكُوعًا وَسُجُودًا وَهَذَا مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ . فَقَائِلُ ذَلِكَ قَائِلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَفِي لُغَةِ الْعَرَبِ وَإِذَا حَصَلَ الشَّكُّ : هَلْ هَذَا سَاجِدٌ أَوْ لَيْسَ بِسَاجِدِ ؟ لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا بِالِاتِّفَاقِ . لِأَنَّ الْوُجُوبَ مَعْلُومٌ . وَفِعْلُ
الْوَاجِبِ لَيْسَ بِمَعْلُومِ . كَمَنْ يَتَيَقَّنُ وُجُوبَ صَلَاةٍ أَوْ زَكَاةٍ عَلَيْهِ وَيَشُكُّ فِي فِعْلِهَا . وَهَذَا أَصْلٌ يَنْبَغِي مَعْرِفَتُهُ . فَإِنَّهُ يَحْسِمُ مَادَّةَ الْمُنَازِعِ الَّذِي يَقُولُ : إنَّ هَذَا يُسَمَّى سَاجِدًا وَرَاكِعًا فِي اللُّغَةِ . فَإِنَّهُ قَالَ بِلَا عِلْمٍ وَلَا حُجَّةٍ . وَإِذَا طُولِبَ بِالدَّلِيلِ انْقَطَعَ . وَكَانَتْ الْحُجَّةُ لِمَنْ يَقُولُ : مَا نَعْلَمُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ إلَّا بِالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ الْمَعْرُوفِينَ . ثُمَّ يُقَالُ : لَوْ وُجِدَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ " الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ الْوَجْهِ لِلْأَرْضِ بِلَا طُمَأْنِينَةٍ لَكَانَ الْمُعَفِّرُ خَدَّهُ سَاجِدًا وَلَكَانَ الرَّاغِمُ أَنْفَهُ - وَهُوَ الَّذِي لَصِقَ أَنْفَهُ بالرغام وَهُوَ التُّرَابُ - سَاجِدًا لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمُنَازِعِ الَّذِي يَقُولُ : يَحْصُلُ السُّجُودُ بِوَضْعِ الْأَنْفِ دُونَ الْجَبْهَةِ مِنْ غَيْرِ طُمَأْنِينَةٍ . فَيَكُونُ نَقْرُ الْأَرْضِ بِالْأَنْفِ سُجُودًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْقَوْمِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ لُغَتِهِمْ تَسْمِيَةُ نَقْرَةِ الْغُرَابِ وَنَحْوِهَا سُجُودًا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ يُقَالُ لِلَّذِي يَضَعُ وَجْهَهُ عَلَى الْأَرْضِ لِيَمُصَّ شَيْئًا عَلَى الْأَرْضِ أَوْ يَعَضَّهُ أَوْ يَنْقُلَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ : سَاجِدًا . وَأَيْضًا : فَإِنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الْمُحَافَظَةَ وَالْإِدَامَةَ عَلَى الصَّلَاةِ وَذَمَّ إضَاعَتَهَا وَالسَّهْوَ عَنْهَا . فَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ }
{ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَالَ وَاجِبَةٌ . وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ سَأَلَ سَائِلٌ قَالَ : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } { إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } { إلَّا الْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } { لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } { وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ } { وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } { إنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } { إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } فَذَمَّ الْإِنْسَانَ كُلَّهُ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ . فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِمَا اسْتَثْنَاهُ كَانَ مَذْمُومًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالْعَصْرِ } { إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } .
وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَقْتَضِي ذَمَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مُصَلِّيًا مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ الْوَقْتَ الْوَاجِبَ أَوْ يَتْرُكَ تَكْمِيلَ الشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَبِذَلِكَ فَسَّرَهَا السَّلَفُ . فَفِي تَفْسِيرِ عَبْدِ بْنِ حميد - وَذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدٍ - حَدَّثَنَا رَوْحٌ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } عَلَى وُضُوئِهَا وَمَوَاقِيتِهَا وَرُكُوعِهَا . وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ : إنَّ اللَّهَ أَكْثَرَ ذِكْرَ الصَّلَاةِ فِي الْقُرْآنِ { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : ذَلِكَ عَلَى مَوَاقِيتِهَا فَقَالُوا : مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَّا التَّرْكَ . قَالَ : تَرْكُهَا كُفْرٌ . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } قَالَ : عَلَى مَوَاقِيتِهَا فَقَالُوا : مَا كُنَّا نَرَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إلَّا التَّرْكَ . قَالَ : تَرْكُهَا كُفْرٌ . وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ : { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ } بِتَضْيِيعِ مِيقَاتِهَا . وَرَوَى عَنْ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ جريج فِي قَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } الْمَكْتُوبَةُ وَاَلَّتِي فِي سَأَلَ سَائِلٌ : التَّطَوُّعُ . وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمَشْرُوعُ لِلْإِمَامِ : فَهِيَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ مَالِكِ بْنِ الحويرث أَنَّهُ قَالَ : { إذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ثُمَّ صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } . وَأَمَّا " الْقِيَامُ " : فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بـ { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } وَنَحْوِهَا وَكَانَتْ صَلَاتُهُ بَعْدُ إلَى تَخْفِيفٍ " أَيْ يَجْعَلُ صَلَاتَهُ بَعْدَ الْفَجْرِ خَفِيفَةً كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَفِي الْعَصْرِ نَحْوَ ذَلِكَ وَفِي الصُّبْحِ أَطْوَلُ مِنْ ذَلِكَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي الْهَجِيرَ - الَّتِي تَدْعُونَهَا الْأُولَى - لِحِينِ تَدْحَضُ الشَّمْسُ وَيُصَلِّي الْعَصْرَ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُنَا إلَى رَحْلِهِ فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ - قَالَ الرَّاوِي : وَنَسِيت مَا قَالَ فِي الْمَغْرِبِ - وَكَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يُؤَخِّرَ الْعِشَاءَ الَّتِي تَدْعُونَهَا الْعَتَمَةَ .
وَكَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا وَكَانَ يَنْفَتِلُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حِينَ يَعْرِفُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ وَكَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِالسِّتِّينَ إلَى الْمِائَةِ } . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { حَزَرْنَا قِيَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ . فَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ : قَدْرَ ثَلَاثِينَ آيَةٍ قَدْرَ الم السَّجْدَةِ . وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى قَدْرِ الْآخِرَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ . وَحَزَرْنَا قِيَامَهُ فِي الْآخِرَتَيْنِ مِنْ الْعَصْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ عُمَرُ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ : " لَقَدْ شَكَاك النَّاسُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي الصَّلَاةِ ؛ قَالَ أَمَّا أَنَا فَأَمُدُّ فِي الْأُولَيَيْنِ وَأَحْذِفُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ . وَلَا آلُو مَا اقْتَدَيْت بِهِ مِنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ذَاكَ الظَّنُّ بِك يَا أَبَا إسْحَاقَ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَقَدْ كَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ فَيَذْهَبُ الذَّاهِبُ إلَى الْبَقِيعِ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَأْتِي وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِمَّا يُطِيلُهَا } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : خَطَبَنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ يَوْمًا فَأَوْجَزَ وَأَبْلَعَ فَقُلْنَا : يَا أَبَا الْيَقْظَانِ : لَقَدْ أَبْلَغْت وَأَوْجَزْت فَلَوْ كُنْت تَنَفَّسْت . فَقَالَ : إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ
خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ . فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ { جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنْت أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَوَاتِ . فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا } أَيْ وَسَطًا . وَفِعْلُهُ الَّذِي سَنَّهُ لِأُمَّتِهِ هُوَ مِنْ التَّخْفِيفِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ الْأَئِمَّةُ ؛ إذْ التَّخْفِيفُ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ . فَالْمَرْجِعُ فِي مِقْدَارِهِ إلَى السُّنَّةِ . وَذَلِكَ كَمَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا - وَقَالَ مَرَّةً : ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي بِقَوْمِهِ - فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ مَرَّةً : الْعِشَاءَ ؛ فَصَلَّى مُعَاذٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ جَاءَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ - فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ . فَاعْتَزَلَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَصَلَّى . فَقِيلَ : نَافَقْت . فَقَالَ : مَا نَافَقْت . فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ مُعَاذًا يُصَلِّي مَعَك ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا نَحْنُ أَصْحَابُ نَوَاضِحَ وَنَعْمَلُ بِأَيْدِينَا وَإِنَّهُ جَاءَ يَؤُمُّنَا فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَقَالَ : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ اقْرَأْ بِكَذَا اقْرَأْ بِكَذَا قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } { وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى } } . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ فَوَافَقَ مُعَاذًا
يُصَلِّي - وَذَكَرَهُ نَحْوَهُ فَقَالَ فِي آخِرِهِ : فَلَوْلَا صَلَّيْت بسبح اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى . فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَك الضَّعِيفُ وَالْكَبِيرُ وَذُو الْحَاجَةِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ . قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ . فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ . فَإِنَّ وَرَاءَهُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ . وَفِي رِوَايَةٍ : فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ } . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قتادة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنِّي لَأَقُوم إلَى الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ } . وَأَمَّا " مِقْدَارُ بَقِيَّةِ الْأَرْكَانِ مَعَ الْقِيَامِ " : فَقَدْ أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { مَا صَلَّيْت وَرَاءَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ شَرِيكٍ عَنْهُ { وَإِنْ كَانَ لَيَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَيُخَفِّفَ مَخَافَةَ أَنْ تَفْتَتِنَ أُمُّهُ } . وَأَخْرَجَا فِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْب عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوجِزُ الصَّلَاةَ وَيُكَمِّلُهَا وَفِي لَفْظٍ يُوجِزُ الصَّلَاةَ وَيُتِمُّ } . وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنِّي لَأَدْخُلُ فِي الصَّلَاةِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ مِنْ صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مَعَ أُمِّهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ الْخَفِيفَةِ أَوْ بِالسُّورَةِ الْقَصِيرَةِ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { مَا صَلَّيْت خَلْفَ أَحَدٍ أَوْجَزَ صَلَاةً وَلَا أَتَمَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَكَانَتْ صَلَاتُهُ مُتَقَارِبَةً وَصَلَاةُ أَبِي بَكْرٍ مُتَقَارِبَةً . فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَدَّ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ " . وَعَنْ قتادة عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَخَفِّ النَّاسِ صَلَاةً فِي تَمَامٍ } . فَقَوْلُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { مَا صَلَّيْت وَرَاءَ إمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ وَلَا أَتَمَّ صَلَاةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ } يُرِيدُ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَخَفَّ
الْأَئِمَّةِ صَلَاةً وَأَتَمَّ الْأَئِمَّةِ صَلَاةً . وَهَذَا لِاعْتِدَالِ صَلَاتِهِ وَتَنَاسُبِهَا . كَمَا فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ { وَكَانَتْ صَلَاتُهُ مُعْتَدِلَةً وَفِي اللَّفْظِ الْآخَرِ وَكَانَتْ صَلَاتُهُ مُتَقَارِبَةً } لِتَخْفِيفِ قِيَامِهَا وَقُعُودِهَا وَتَكُونُ أَتَمَّ صَلَاةً لِإِطَالَةِ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ - كَالْقِيَامِ - هُوَ أَخَفَّ وَهُوَ أَتَمَّ لَنَاقَضَ ذَلِكَ . وَلِهَذَا بَيَّنَ التَّخْفِيفَ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ إذَا بَكَى الصَّبِيُّ . وَهُوَ قِرَاءَةُ سُورَةٍ قَصِيرَةٍ . وَبَيَّنَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَدَّ فِي صَلَاتِهِ الصُّبْحَ وَإِنَّمَا مَدَّ فِي الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْفَجْرِ بِسُورَةِ يُونُسَ وَسُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ يُوسُفَ . وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ : مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { مَا صَلَّيْت خَلْفَ رَجُلٍ أَوْجَزَ صَلَاةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَامٍ . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ قَامَ حَتَّى نَقُولَ : قَدْ أَوْهَمَ ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَسْجُدُ . وَكَانَ يَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نَقُولَ : قَدْ أَوْهَمَ } كَمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ { عَنْ أَنَسٍ قَالَ : إنِّي لَا آلُو أَنْ أُصَلِّيَ بِكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا } قَالَ ثَابِتٌ " فَكَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ شَيْئًا لَا أَرَاكُمْ تَصْنَعُونَهُ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ انْتَصَبَ قَائِمًا حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ قَدْ نَسِيَ " . وَلِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ
شُعْبَةَ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ : قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَنْعَتُ لَنَا صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { وَكَانَ يُصَلِّي فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَامَ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ : قَدْ نَسِيَ } . فَهَذِهِ أَحَادِيثُ أَنَسٍ الصَّحِيحَةُ تُصَرِّحُ أَنَّ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يُوجِزُهَا وَيُكَمِّلُهَا وَاَلَّتِي كَانَتْ أَخَفَّ الصَّلَاةِ وَأَتَمَّهَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ فِيهَا مِنْ الرُّكُوعِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ : إنَّهُ قَدْ نَسِيَ وَيَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ : قَدْ نَسِيَ . وَإِذَا كَانَ فِي هَذَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ : أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ لَا يَنْقُصَانِ عَنْ هَذَيْنِ الِاعْتِدَالَيْنِ . بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : لَا يُشْرَعُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَيْنِ الِاعْتِدَالَيْنِ بِقَدْرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بَلْ يَنْقُصَانِ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ " غَلَبَ عَلَى الْكُوفَةِ رَجُلٌ - قَدْ سَمَّاهُ زَمَنَ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَسَمَّاهُ غُنْدَرٌ فِي رِوَايَةٍ . مَطَرَ بْنَ نَاجِيَةَ - فَأَمَرَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَكَانَ يُصَلِّي فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَامَ قَدْرَ مَا أَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ " . قَالَ الْحَكَمُ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
لَيْلَى قَالَ : سَمِعْت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ { كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَسُجُودُهُ وَمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ : قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ } . قَالَ شُعْبَةُ : فَذَكَرْته لِعَمْرِو بْنِ مُرَّةَ . فَقَالَ " قَدْ رَأَيْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فَلَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُ هَكَذَا " وَلَفْظُ مَطَرٍ عَنْ شُعْبَةَ { كَانَ رُكُوعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُجُودُهُ . وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ - مَا خَلَا الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ - قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ } وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أَبِي حميد عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ { الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ رَمَقْت الصَّلَاةَ مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَوَجَدْت قِيَامَهُ فَرُكُوعَهُ فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ فَسَجْدَتَهُ فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَسَجْدَتَهُ فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالِانْصِرَافِ : قَرِيبًا مِنْ السَّوَاءِ } وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا رَوَاهُ . مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي مِنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ : لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } . وَقَوْلُهُ : { أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ } هَكَذَا هُوَ فِي الْحَدِيثِ . وَهُوَ
خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ : { حَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ } فَهُوَ تَحْرِيفٌ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْأَثَرِ . وَمَعْنَاهُ أَيْضًا فَاسِدٌ . فَإِنَّ الْعَبْدَ يَقُولُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ وَأَمَّا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهُوَ يَقُولُ الْحَقَّ وَيَهْدِي السَّبِيلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } وَأَيْضًا : فَلَيْسَتْ الصَّلَاةُ مَبْنِيَّةً إلَّا عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ : اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ . أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَك عَبْدٌ : لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت . وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ يَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِمُسْلِمِ زَادَ بَعْدَ هَذَا : أَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ } . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى نَقْلِهَا عَنْهُ . وَقَدْ نَقَلَهَا أَهْلُ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ . وَغَيْرِهَا وَالصَّلَاةُ عَمُودُ الدِّينِ فَكَيْفَ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهِمْ حَتَّى لَمْ يَجْعَلُوا الِاعْتِدَالَ مِنْ الرُّكُوعِ وَالْقُعُودَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُقَارِبَةِ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَا اسْتَحَبُّوا فِي ذَلِكَ ذِكْرًا أَكْثَرَ مِنْ التَّحْمِيدِ بِقَوْلِ { رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ } حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْمُتَفَقِّهَةِ قَالَ : إذَا طَالَ ذَلِكَ طُولًا كَثِيرًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ قِيلَ : سَبَبُ ذَلِكَ وَغَيْرِهِ : أَنَّ الَّذِي مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ أَنَّ الصَّلَاةَ يُصَلِّيهَا بِالْمُسْلِمِينَ الْأُمَرَاءُ وَوُلَاةُ الْحَرْبِ . فَوَالِي الْجِهَادِ : كَانَ هُوَ أَمِيرَ الصَّلَاةِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى أَثْنَاءِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ . وَالْخَلِيفَةُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةَ لَا يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ غَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَيَكُونُ بَعْدَهُ مِنْ تَغَيُّرِ الْأُمَرَاءِ حَتَّى قَالَ : { سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } فَكَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤَخِّرُهَا
عَنْ وَقْتِهَا حَتَّى يَضِيعَ الْوَقْتُ الْمَشْرُوعُ فِيهَا كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ لَا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ أَيْ لَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ فِي انْتِقَالَاتِ الرُّكُوعِ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُتِمُّ الِاعْتِدَالَيْنِ . وَكَانَ هَذَا يَشِيعُ فِي النَّاسِ فَيَرْبُو فِي ذَلِكَ الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ فِيهِ الْكَبِيرُ حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِنْ خَاصَّةِ النَّاسِ لَا يَظُنُّ السُّنَّةَ إلَّا ذَلِكَ . فَإِذَا جَاءَ أُمَرَاءُ أَحْيَوْا السُّنَّةَ عُرِفَ ذَلِكَ . كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ قتادة عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ : " صَلَّيْت خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ فَكَبَّرَ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً . فَقُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : إنَّهُ لَأَحْمَقُ . فَقَالَ : ثَكِلَتْك أُمُّك . سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بِشْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ " رَأَيْت رَجُلًا عِنْدَ الْمَقَامِ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ وَإِذَا قَامَ وَإِذَا وَضَعَ فَأَخْبَرْت ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : أَوَلَيْسَ تِلْكَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ لَا أُمَّ لَك " وَهَذَا يَعْنِي بِهِ : أَنَّ ذَلِكَ الْإِمَامَ كَانَ يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ . فَكَانَ الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ يُصَلِّي خَلْفَهُمْ عِكْرِمَةُ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ إمَامًا حَتَّى يُعْرَفَ ذَلِكَ مِنْهُ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عِكْرِمَةُ حَتَّى أَخْبَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَمَّا نَفْسُ التَّكْبِيرِ فَلَمْ يَكُنْ يَشْتَبِهُ أَمْرُهُ عَلَى أَحَدٍ وَهَذَا كَمَا أَنَّ عَامَّةَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُؤَذِّنُ وَنَحْوُهُ فَيَظُنُّ أَكْثَرُ النَّاسِ أَنَّ هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ . وَلَا خِلَافَ
بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ هِيَ السُّنَّةَ بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْمَأْمُومِينَ لَا يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ دَائِمًا . كَمَا أَنَّ بِلَالًا لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِذَلِكَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ لِضَعْفِ صَوْتِ الْإِمَامِ أَوْ بُعْدِ الْمَكَانِ : فَهَذَا قَدْ احْتَجُّوا لِجَوَازِهِ . بِأَنَّ { أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ } حَتَّى تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي جَهْرِ الْمَأْمُومِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ هَلْ يُبْطِلُ صَلَاتَهُ أَمْ لَا ؟ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَاهُ . فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشخير قَالَ " صَلَّيْت خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ كَانَ إذَا سَجَدَ كَبَّرَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ كَبَّرَ وَإِذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ . فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَخَذَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بِيَدِي . فَقَالَ : قَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ : لَقَدْ صَلَّى بِنَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا لَمَّا جَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ سَمِعَهُ عِمْرَانُ وَمُطَرِّفُ كَمَا سَمِعَهُ غَيْرُهُمَا . وَمِثْلُ هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا : يُكَبِّرُ
حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنْ الْجُلُوسِ مِنْ الثِّنْتَيْنِ : يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ ثُمَّ يَقُولُ حِينَ يَنْصَرِفُ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَقْرَبُكُمْ شَبَهًا بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ كَانَتْ هَذِهِ لَصَلَاتُهُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا " . وَهَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ يُعَاقِبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ فِي إمَارَةِ الْمَدِينَةِ فَيُوَلِّي هَذَا تَارَةً وَيُوَلِّي هَذَا تَارَةً . وَكَانَ مَرْوَانُ يَسْتَخْلِفُ وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُصَلِّي بِهِمْ بِمَا هُوَ أَشْبَهُ بِصَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاةِ مَرْوَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ أُمَرَاءِ الْمَدِينَةِ . وَقَوْلُهُ " فِي الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا " يَعْنِي : مَا كَانَ مِنْ النَّوَافِلِ مِثْلَ قِيَامِ رَمَضَانَ . كَمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ وَأَبِي سَلَمَةَ " أَنْ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ فَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ وَيُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ يَقُولُ : رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ " وَذَكَرَ نَحْوَهُ . وَكَانَ النَّاسُ قَدْ اعْتَادُوا مَا يَفْعَلُهُ غَيْرُهُ فَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ حَتَّى سَأَلُوهُ . كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ :
" أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الصَّلَاةِ كُلَّمَا رَفَعَ وَوَضَعَ . فَقُلْت : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ مَا هَذَا التَّكْبِيرُ ؟ قَالَ : إنَّهَا لَصَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَهَذَا كُلُّهُ مَعْنَاهُ جَهْرُ الْإِمَامِ بِالتَّكْبِيرِ . وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ إتْمَامَ التَّكْبِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْمَامِهِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَفِعْلِهِ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ فِي ( بَابِ التَّكْبِيرِ عِنْدَ النُّهُوضِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ قَالَ : وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُكَبِّرُ فِي نَهْضَتِهِ ثُمَّ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ فليح بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ . قَالَ : " صَلَّى لَنَا أَبُو سَعِيدٍ فَجَهَرَ بِالتَّكْبِيرِ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ وَحِينَ سَجَدَ وَحِينَ رَفَعَ وَحِينَ قَامَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ . وَقَالَ : هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ . اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثُمَّ أَرْدَفَهُ الْبُخَارِيُّ بِحَدِيثِ مُطَرِّفٍ : قَالَ : " صَلَّيْت أَنَا وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَكَانَ إذَا سَجَدَ كَبَّرَ وَإِذَا رَفَعَ كَبَّرَ وَإِذَا نَهَضَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ كَبَّرَ فَلَمَّا سَلَّمَ . أَخَذَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ بِيَدِي . فَقَالَ : لَقَدْ صَلَّى بِنَا هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ : لَقَدْ ذَكَّرَنِي هَذَا صَلَاةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ فِي الْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ . وَأَمَّا أَصْلُ التَّكْبِيرِ : فَلَمْ يَكُنْ مِمَّا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ . وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يُجْهَلُ
هَلْ يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ أَمْ لَا يَفْعَلُهُ ؟ فَلَا يَصِحُّ لَهُمْ نَفْيُهُ عَنْ الْأَئِمَّةِ . كَمَا لَا يَصِحُّ نَفْيُ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ وَنَفْيُ التَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنَفْيُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَنْ كَانَ لَا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ وَلَا يَجْهَرُ بِهِ . بِمَا رُوِيَ عَنْ { سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ : أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لَا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ الْكَبِيرِ . وَقَدْ حَكَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِى أَنَّهُ قَالَ : هَذَا عِنْدَنَا بَاطِلٌ . وَهَذَا إنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَلَعَلَّ ابْنَ أَبْزَى صَلَّى خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتُهُ ضَعِيفًا فَلَمْ يَسْمَعْ تَكْبِيرَهُ . فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لَمْ يُتِمَّ التَّكْبِيرَ وَإِلَّا فَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ . فَلَوْ خَالَفَهَا كَانَ شَاذًّا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ إتْمَامَ التَّكْبِيرِ هُوَ نَفْسُ فِعْلِهِ وَلَوْ سِرًّا و أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَبَا هُرَيْرَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّمَا أَفَادُوا النَّاسَ نَفْسَ فِعْلِ التَّكْبِيرِ فِي الِانْتِقَالَاتِ . وَلَازَمَ هَذَا : أَنَّ عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يُكَبَّرُ فِي خَفْضِهَا وَلَا رَفْعِهَا . وَهَذَا غَلَطٌ بِلَا رَيْبٍ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُ كَيْفَ كَانَتْ الْأَحْوَالُ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّكْبِيرَ سِرًّا : لَمْ يَصِحَّ نَفْيُ ذَلِكَ وَلَا إثْبَاتُهُ . فَإِنَّ الْمَأْمُومَ
لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ إمَامِهِ وَلَا يُسَمَّى تَرْكُ التَّكْبِيرِ بِالْكُلِّيَّةِ تَرْكًا لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ كَانُوا يُكَبِّرُونَ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ دُونَ الِانْتِقَالَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ السُّنَّةُ . بَلْ الْأَحَادِيثُ الْمَرْوِيَّةُ تُبَيِّنُ أَنَّ رَفْعَ الْإِمَامِ وَخَفْضَهُ كَانَ فِي جَمِيعِهَا التَّكْبِيرُ . وَقَدْ قَالَ إسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ : قُلْت : لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : مَا الَّذِي نَقَصُوا مِنْ التَّكْبِيرِ ؟ قَالَ : إذَا انْحَطَّ إلَى السُّجُودِ مِنْ الرُّكُوعِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ السَّجْدَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ . فَقَدْ بَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَنَّ الْأَئِمَّةَ لَمْ يَكُونُوا يُتِمُّونَ التَّكْبِيرَ . بَلْ نَقَصُوا التَّكْبِيرَ فِي الْخَفْضِ مِنْ الْقِيَامِ وَمِنْ الْقُعُودِ وَهُوَ كَذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْخَفْضَ يُشَاهَدُ بِالْأَبْصَارِ فَظَنُّوا لِذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْمَعَ تَكْبِيرَةَ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ يَرَى رُكُوعَهُ وَيَرَى سُجُودَهُ ؛ بِخِلَافِ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . فَإِنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَرَى الْإِمَامَ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْلَمَ رَفْعَهُ بِتَكْبِيرِهِ . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ أَحْمَد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبْزَى : أَنَّهُ صَلَّى خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُتِمَّ التَّكْبِيرَ . وَكَانَ لَا يُكَبِّرُ إذَا خَفَضَ . هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عِمْرَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ . وَقَدْ ظَنَّ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ - كَمَا ظَنَّ غَيْرُهُ - أَنَّ هَؤُلَاءِ
السَّلَفَ مَا كَانُوا يُكَبِّرُونَ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ . وَجُعِلَ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ الْأُمَّةَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ حَتَّى إنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ فِي الْفَرْضِ وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلَا " قَالَ أَبُو عُمَرَ : لَا يَحْكِي أَحْمَد عَنْ ابْنِ عُمَرَ إلَّا مَا صَحَّ عِنْدَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ . قَالَ : وَأَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الصَّلَاةِ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ فَيَدُلُّ ظَاهِرُهَا : عَلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ إمَامًا وَغَيْرَ إمَامٍ . قُلْت : مَا رَوَى مَالِكٌ لَا رَيْبَ فِيهِ . وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد لَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَلَكِنْ غَلِطَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيمَا فَهِمَ مِنْ كَلَامٍ أَحْمَد . فَإِنَّ كَلَامَهُ إنَّمَا كَانَ فِي التَّكْبِيرِ دُبُرَ الصَّلَاةِ أَيَّامَ الْعِيدِ الْأَكْبَرِ لَمْ يَكُنْ التَّكْبِيرُ فِي الصَّلَاةِ وَلِهَذَا فَرَّقَ أَحْمَد بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ فَقَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُكَبِّرَ فِي الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ . وَلَمْ يَكُنْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ يُفَرِّقُونَ فِي تَكْبِيرِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ : بَلْ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ : أَنَّ تَكْبِيرَ الصَّلَاةِ وَاجِبٌ فِي النَّفْلِ كَمَا أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْفَرْضِ . وَإِنْ قِيلَ : هُوَ سُنَّةٌ فِي الْفَرْضِ قِيلَ : هُوَ سُنَّةٌ فِي النَّفْلِ . فَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ قَوْلًا لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ . وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي تَكْبِيرِهِ دُبُرَ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا :
فَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ . وَهِيَ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مَشْهُورَةٌ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَلَمَةَ : " أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فَيُكَبِّرُ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَشْبَهُكُمْ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَمْعَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُنَّ وَتَرَكَهُنَّ النَّاسُ : كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ مَدًّا وَكَانَ يَقِفُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ هُنَيْهَةً يَسْأَلُ اللَّهَ مَنْ فَضْلِهِ وَكَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَفَعَ وَخَفَضَ } قُلْت : هَذِهِ الثَّلَاثَةُ تَرَكَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ مِمَّنْ لَا يَرْفَعُ الْيَدَيْنِ وَلَا يُوجِبُ التَّكْبِيرَ وَمَنْ لَا يَسْتَحِبُّ الِاسْتِفْتَاحَ وَالِاسْتِعَاذَةَ وَمَنْ لَا يَجْهَرُ مِنْ الْأَئِمَّةِ بِتَكْبِيرِ الِانْتِقَالِ . قَالَ : وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّ التَّكْبِيرَ إنَّمَا هُوَ إيذَانٌ بِحَرَكَاتِ الْإِمَامِ وَشِعَارٌ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَ بِسُنَّةِ إلَّا فِي الْجَمَاعَةِ . أَمَّا مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُكَبِّرَ . وَلِهَذَا ذَكَرَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ وَحَدِيثَ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي الصَّلَاةِ كُلَّمَا خَفَضَ وَرَفَعَ فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ صَلَاتَهُ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ } . وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
" أَنَّهُمَا كَانَا يُكَبِّرَانِ كُلَّمَا خَفَضَا وَرَفَعَا فِي الصَّلَاةِ فَكَانَ جَابِرٌ يُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ " قَالَ : فَذَكَرَ مَالِكٌ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كُلَّهَا لِيُبَيِّنَ لَك أَنَّ التَّكْبِيرَ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ . قُلْت : مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ : فَكَمَا ذَكَرَهُ وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ الْخِلَافِ : فَلَمْ أَجِدْهُ ذَكَرَ لِذَلِكَ أَصْلًا إلَّا مَا ذَكَرَ . أَحْمَد عَنْ عُلَمَاءِ " الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ فِي الصَّلَوَاتِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَجْلِ مَا كَرِهَ مِنْ فِعْلِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ كَانُوا لَا يُتِمُّونَ التَّكْبِيرَ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الفهري أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ : " لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةٌ وَزِينَةُ الصَّلَاةِ التَّكْبِيرُ وَرَفْعُ الْأَيْدِي فِيهَا " وَإِذَا . كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ ؟ هَذَا لَا يَظُنُّهُ عَاقِلٌ بِابْنِ عُمَرَ . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وقتادة وَغَيْرِهِمْ : " أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُتِمُّونَ التَّكْبِيرَ " وَذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْهُ الْقَاسِمُ وَسَالِمٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ هَذَا التَّكْبِيرَ . وَيَقُولُ : إنَّهَا لَصَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . قَالَ : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ : كَانَ النَّاسُ قَدْ تَرَكُوهُ وَفِي تَرْكِ النَّاسِ
لَهُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ مَحْمُولٌ عِنْدَهُمْ عَلَى الْإِبَاحَةِ . قُلْت : لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْلَمَ إلَّا تَرْكُ الْجَهْرِ بِهِ . فَأَمَّا تَرْكُ الْإِمَامِ التَّكْبِيرَ سِرًّا : فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ تَرْكَهُ إنْ لَمْ يَصِلْ الْإِمَامُ إلَى فِعْلِهِ فَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتْرُكُونَ فِي كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ بَلْ قَالُوا : كَانُوا لَا يُتِمُّونَهُ . وَمَعْنَى " لَا يُتِمُّونَهُ " يُنْقِصُونَهُ وَنَقْصُهُ : عَدَمُ فِعْلِهِ فِي حَالِ الْخَفْضِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِ . وَهُوَ نَقْصٌ بِتَرْكِ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ أَوْ نَقْصٌ لَهُ بِتَرْكِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ . وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ { أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : صَلَّيْت خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكُلُّهُمْ كَانَ يُكَبِّرُ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ وَإِذَا خَفَضَ } قَالَ : وَهَذَا مُعَارِضٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ : " أَنَّهُ كَانَ لَا يُتِمُّ التَّكْبِيرَ " . وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : قُلْت : لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ " مَا مَنَعَك أَنْ تُتِمَّ التَّكْبِيرَ - وَهَذَا عَامِلُك عَبْدُ الْعَزِيزِ يُتِمُّهُ - ؟ فَقَالَ : تِلْكَ صَلَاةُ الْأُوَلِ وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنِّي " . قُلْت : وَإِنَّمَا خَفِيَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَلَى هَؤُلَاءِ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى طَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا وَقَبْلَهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ
أَبِي شَيْبَةَ أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ . قَالَ : " أَوَّلُ مَنْ قَصَّ التَّكْبِيرَ زِيَادٌ " . قُلْت : زِيَادٌ كَانَ أَمِيرًا فِي زَمَنِ عُمَرَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صَحِيحًا . وَيَكُونُ زِيَادٌ قَدْ سَنَّ ذَلِكَ حِينَ تَرَكَهُ غَيْرُهُ . وَرُوِيَ عَنْ الْأَسْوَدِ ابْنِ يَزِيدَ عَنْ { أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : لَقَدْ ذَكَّرَنَا عَلِيٌّ صَلَاةً كُنَّا نُصَلِّيهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا نَسِينَاهَا وَإِمَّا تَرَكْنَاهَا عَمْدًا وَكَانَ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَفَعَ وَكُلَّمَا وَضَعَ وَكُلَّمَا سَجَدَ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُمَرَاءَ بِالْعِرَاقِ الَّذِينَ شَاهَدُوا مَا عَلَيْهِ أُمَرَاءُ الْبَلَدِ وَهُمْ أَئِمَّةٌ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَوْا مَنْ شَاهَدُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَ ذَلِكَ فَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مِنْ أَصْلِ السُّنَّةِ . وَحَصَلَ بِذَلِكَ نُقْصَانٌ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَفِعْلِهَا . فَاعْتَقَدُوا أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ تَقْدِيمِهَا ؛ كَمَا كَانَ الْأَئِمَّةُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ عَدَمُ إتْمَامِ التَّكْبِيرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ النَّاقِصَةِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَتَأَوَّلُ فِي بَعْضِ الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ : أَنَّهُمْ مِنْ الْخَلْفِ الَّذِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } فَكَانَ يَقُولُ : " كَيْفَ بِكُمْ إذَا لَبَسَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ إذَا تُرِكَ فِيهَا
شَيْءٌ قِيلَ : تَرَكْت السُّنَّةَ . فَقِيلَ : مَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؟ فَقَالَ : ذَلِكَ إذَا ذَهَبَ عُلَمَاؤُكُمْ وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ وَالْتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ " وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ أَيْضًا : " أَنَا مِنْ غَيْرِ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ مِنْ الدَّجَّالِ : أُمُورٌ تَكُونُ مِنْ كُبَرَائِكُمْ فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ فَالسَّمْتَ الْأَوَّلَ فَالسَّمْتَ الْأَوَّلَ " .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا تَوَلَّى إمَارَةَ الْمَدِينَةِ فِي خِلَافَةِ الْوَلِيدِ بْنِ عَمِّهِ - وَعُمَرُ هَذَا هُوَ الَّذِي بَنَى الْحُجْرَةَ النَّبَوِيَّةَ إذْ ذَاكَ - صَلَّى خَلْفَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . فَقَالَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " مَا صَلَّيْت وَرَاءَ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ صَلَاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَتَى - يَعْنِي عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ " قَالَ " فَحَزَرْنَا فِي رُكُوعِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ وَفِي سُجُودِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ " وَهَذَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّ أُمَرَاءَهَا كَانُوا أَكْثَرَ مُحَافَظَةً عَلَى السُّنَّةِ مِنْ أُمَرَاءِ بَقِيَّةِ الْأَمْصَارِ . فَإِنَّ الْأَمْصَارَ كَانَتْ تُسَاسُ بِرَأْيِ الْمُلُوكِ وَالْمَدِينَةُ إنَّمَا كَانَتْ تُسَاسُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَحْوِ هَذَا وَلَكِنْ كَانُوا قَدْ غَيَّرُوا أَيْضًا بَعْضَ السُّنَّةِ . وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَدْ غَلِطَ فَإِنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُدْرِكْ خِلَافَةَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَلْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ . وَهَذَا يُوَافِقُ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَه عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمَ - وَذَلِكَ أَدْنَاهُ - وَإِذَا سَجَدَ فَلْيَقُلْ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ثَلَاثًا - وَذَلِكَ أَدْنَاهُ } قَالَ أَبُو دَاوُد : هَذَا مُرْسَلٌ عَوْنٌ لَمْ يُدْرِكْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ . وَكَذَلِكَ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَيْسَ إسْنَادُهُ بِمُتَّصِلِ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ لَمْ يُدْرِكْ ابْنَ مَسْعُودٍ عَوْنٌ هُوَ مِنْ عُلَمَاءِ الْكُوفَةِ الْمَشْهُورِينَ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ عَبْدِ اللَّهِ وَقِيلَ : إنَّمَا تَلَقَّاهُ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ بَيْتِهِ . فَلِهَذَا تَمَسَّكَ الْفُقَهَاءُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي التَّسْبِيحَاتِ لِمَا لَهُ مِنْ الشَّوَاهِدِ حَتَّى صَارُوا يَقُولُونَ فِي الثَّلَاثِ : إنَّهَا أَدْنَى الْكَمَالِ أَوْ أَدْنَى الرُّكُوعِ . وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَعْلَاهُ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا . فَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ السُّنَّةَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ مِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِمْ : هُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُطِيلُ الِاعْتِدَالَ بَعْدَ الرُّكُوعِ أَوْ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . فَإِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا هَذَا لَيْسَ مَعَهُمْ أَصْلٌ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ مِنْ السُّنَّةِ أَصْلًا بَلْ الْأَحَادِيثُ الْمُسْتَفِيضَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةُ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ وَغَيْرِهَا : تُبَيِّنُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَبِّحُ فِي أَغْلَبِ صَلَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ دَلَالَةُ الْأَحَادِيثِ عَلَيْهِ . وَلَكِنَّ هَذَا قَالُوهُ لَمَّا سَمِعُوا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَمَّ أَحَدُكُمْ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ } وَلَمْ يَعْرِفُوا مِقْدَارَ التَّطْوِيلِ وَلَا عَلِمُوا التَّطْوِيلَ الَّذِي نَهَى عَنْهُ لَمَّا { قَالَ لِمُعَاذِ : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ ؟ } فَجَعَلُوا هَذَا بِرَأْيِهِمْ قَدْرًا لِلْمُسْتَحَبِّ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مِقْدَارَ الصَّلَاةِ - وَاجِبِهَا وَمُسْتَحَبِّهَا - لَا يُرْجَعُ فِيهِ إلَى غَيْرِ السُّنَّةِ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَكِلْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَى آرَاءِ الْعِبَادِ . إذْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ الَّذِينَ أُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَمَّا سَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوضَعَ فِيهِ حُكْمٌ بِالرَّأْيِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِيمَا لَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، [ و ] (1) لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْمَدَ إلَى شَيْءٍ مَضَتْ بِهِ سُنَّةٌ فَيُرَدَّ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا : أَنَّ التَّخْفِيفَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ ؛ إذْ قَدْ يَسْتَطِيلُ هَؤُلَاءِ مَا يَسْتَخِفُّهُ هَؤُلَاءِ وَيَسْتَخِفُّ
هَؤُلَاءِ مَا يَسْتَطِيلُهُ هَؤُلَاءِ فَهُوَ أَمْرٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عَادَاتِ النَّاسِ وَمَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ وَلَا فِي كُلٍّ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ شَرْعِيَّةً . فَعُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِ : أَنْ يَرْجِعَ فِي مِقْدَارِ التَّخْفِيفِ وَالتَّطْوِيلِ إلَى السُّنَّةِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَمْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّخْفِيفِ لَا يُنَافِي أَمْرَهُ بِالتَّطْوِيلِ أَيْضًا . فِي حَدِيثِ عَمَّارٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ لَمَّا قَالَ { إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقَصِرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ } وَهُنَاكَ أَمَرَهُمْ بِالتَّخْفِيفِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا . فَإِنَّ الْإِطَالَةَ هُنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْخُطْبَةِ وَالتَّخْفِيفَ هُنَاكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا فَعَلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي زَمَانِهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ . وَلِهَذَا قَالَ { فَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ } . فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ لَيْسَ لِطُولِ صَلَاتِهِ حَدٌّ تَكُونُ بِهِ الصَّلَاةُ خَفِيفَةً بِخِلَافِ الْإِمَامِ ؛ لِأَجْلِ مُرَاعَاةِ الْمَأْمُومِينَ . فَإِنَّ خَلْفَهُ السَّقِيمُ وَالْكَبِيرُ وَذُو الْحَاجَةِ ؛ وَلِهَذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِتَخْفِيفِهَا عَنْ الْإِطَالَةِ إذَا عَرَضَ لِلْمَأْمُومِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ عَارِضٌ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي لَأَدْخُلُ الصَّلَاةَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأُخَفِّفَ لِمَا أَعْلَمُ مِنْ وَجْدِ أُمِّهِ } . وَبِذَلِكَ عَلَّلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ .