الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
الْمُخَاطَبِ فَمَنْ الْمُخَاطِبُ لَهُ ؟ فَالْفُرْقَانُ هُنَا . فَإِنَّمَا ذَلِكَ الْمُخَاطَبُ مِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ . وَقَدْ يُخَاطَبُونَ بِأَشْيَاءَ حَسَنَةٍ رَشْوَةً مِنْهُ لَهُمْ وَلَا يُخَاطَبُونَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُ بَاطِلٌ لِئَلَّا يُنَفَّرُونَ مِنْهُ بَلْ الشَّيْطَانُ يُخَاطِبُ أَحَدَهُمْ بِمَا يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ وَالرَّاهِبُ إذَا رَاضَ نَفْسَهُ فَمَرَّةً يَرَى فِي نَفْسِهِ صُورَةَ التَّثْلِيثِ وَرُبَّمَا خُوطِبَ مِنْهَا لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ يَتَمَثَّلُهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا انصقلت نَفْسُهُ بِالرِّيَاضَةِ ظَهَرَتْ لَهُ وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَرَى الرَّسُولَ فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ وَكَذَلِكَ يَرَى اللَّهَ تَعَالَى فِي مَنَامِهِ بِحَسَبِ إيمَانِهِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ يَكُونُ مِنْ أَعْوَانِ الْكُفَّارِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ وَيُخَاطَبُ بِهِ وَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْآمِرُ لَهُ بِذَلِكَ النَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ وَمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الشِّرْكِ إذْ لَوْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ الدِّينَ لَمَا عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا لِمَنْ فِيهِ شِرْكٌ فِي عِبَادَتِهِ أَوْ عِنْدَهُ بِدْعَةٌ وَلَا يَقَعُ هَذَا لِمُخْلِصِ مُتَمَسِّكٍ بِالسُّنَّةِ أَلْبَتَّةَ .
وَإِذَا كَانَتْ " الرُّؤْيَا " عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ " :
رُؤْيَا مِنْ اللَّهِ .
وَرُؤْيَا مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ . وَرُؤْيَا مِنْ الشَّيْطَانِ فَكَذَلِكَ مَا يُلْقَى فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ فِي حَالِ يَقَظَتِهِ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَحْوَالُ " ثَلَاثَةً " رَحْمَانِيٌّ وَنَفْسَانِيٌّ وَشَيْطَانِيٌّ . وَمَا يَحْصُلُ مِنْ نَوْعِ الْمُكَاشَفَةِ وَالتَّصَرُّفِ " ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ " مَلَكِيٌّ وَنَفْسِيٌّ وَشَيْطَانِيٌّ فَإِنَّ الْمَلَكَ لَهُ قُوَّةٌ وَالنَّفْسَ لَهَا قُوَّةٌ وَالشَّيْطَانَ لَهُ قُوَّةٌ وَقَلْبَ الْمُؤْمِنِ لَهُ قُوَّةٌ . فَمَا كَانَ مِنْ الْمَلَكِ وَمِنْ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَهُوَ حَقٌّ وَمَا كَانَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَةِ النَّفْسِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَدْ اشْتَبَهَ هَذَا بِهَذَا عَلَى طَوَائِفَ كَثِيرَةٍ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ اللَّهِ بَلْ صَارُوا يَظُنُّونَ فِي مَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ - أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ - أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ . وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَلِهَذَا فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَرَى جَوَازَ قِتَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ إلَى أَنْوَاعٍ أُخَرَ . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْأَنْوَاعِ الشَّيْطَانِيَّةِ والنفسانية مَا ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مِنْهُمْ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّهُمْ تَعَبَّدُوا بِمَا تُحِبُّهُ النَّفْسُ ؛ وَأَمَّا الْعِبَادَةُ بِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ فَلَا يُحِبُّونَهُ وَلَا يُرِيدُونَهُ وَحْدَهُ وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ إذَا عَبَدُوا اللَّهَ بِمَا أَمَرَ بِهِ وَرُسُلُهُ حَطَّ لَهُمْ عَنْ مَنْصِبِ الْوِلَايَةِ فَيُحْدِثُونَ مَحَبَّةً قَوِيَّةً وَتَأَلُّهًا وَعِبَادَةً وَشَوْقًا وَزُهْدًا ؛ وَلَكِنْ فِيهِ شِرْكٌ وَبِدْعَةٌ . وَمَحَبَّةُ " التَّوْحِيدِ " إنَّمَا تَكُونُ لِلَّهِ وَحْدَهُ عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِهِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } فَلِهَذَا يَكُونُ أَهْلُ الِاتِّبَاعِ فِيهِمْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ فِي مَحَبَّتِهِمْ ؛ يُحِبُّونَ لِلَّهِ وَيَبْغَضُونَ لَهُ . وَهُمْ عَلَى مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ . وَاَلَّذِينَ مَعَهُ { إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } وَأُولَئِكَ مَحَبَّتُهُمْ فِيهَا شِرْكٌ وَلَيْسُوا مُتَابِعِينَ لِلرَّسُولِ وَلَا مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَيْسَتْ هِيَ الْمَحَبَّةُ الإخلاصية . فَإِنَّهَا مَقْرُونَةٌ بِالتَّوْحِيدِ . وَلِهَذَا سَمَّى أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ كِتَابَهُ " قُوتَ الْقُلُوبِ فِي مُعَامَلَةِ الْمَحْبُوبِ وَوَصْفِ طَرِيقِ الْمُرِيدِ إلَى مَقَامِ التَّوْحِيدِ " وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْضاً :
فَصْل قَدْ كَتَبْت فِي كُرَّاسَةِ الْحَوَادِثِ فَصْلًا فِي " جِمَاعِ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ " : وَأَنَّ " الزُّهْدَ " هُوَ عَمَّا لَا يَنْفَعُ إمَّا لِانْتِفَاءِ نَفْعِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مَرْجُوحًا ؛ لِأَنَّهُ مُفَوِّتٌ لِمَا هُوَ أَنْفَعُ مِنْهُ أَوْ مُحَصِّلٌ لِمَا يَرْبُو ضَرَرُهُ عَلَى نَفْعِهِ . وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْخَالِصَةُ أَوْ الرَّاجِحَةُ : فَالزُّهْدُ فِيهَا حُمْقٌ . وَأَمَّا " الْوَرَعُ " فَإِنَّهُ الْإِمْسَاكُ عَمَّا قَدْ يَضُرُّ فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمُحَرَّمَاتُ وَالشُّبُهَاتُ لِأَنَّهَا قَدْ تَضُرُّ . فَإِنَّهُ مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَات اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ . وَأَمَّا " الْوَرَعُ " عَمَّا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ أَوْ فِيهِ مَضَرَّةٌ مَرْجُوحَةٌ - لِمَا
تَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ رَاجِحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ أُخْرَى رَاجِحَةٍ - فَجَهْلٌ وَظُلْمٌ . وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ " ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ " لَا يَتَوَرَّعُ عَنْهَا : الْمَنَافِعُ الْمُكَافِئَةُ وَالرَّاجِحَةُ وَالْخَالِصَةُ : كَالْمُبَاحِ الْمَحْضِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ أَوْ الْوَاجِبِ فَإِنَّ الْوَرَعَ عَنْهَا ضَلَالَةٌ . وَأَنَا أَذْكُرُ هُنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ فَأَقُولُ : " الزُّهْدُ " خِلَافُ الرَّغْبَةِ . يُقَالُ : فُلَانٌ زَاهِدٌ فِي كَذَا . وَفُلَانٌ رَاغِبٌ فِيهِ . وَ " الرَّغْبَةُ " هِيَ مِنْ جِنْسِ الْإِرَادَةِ . فَالزُّهْدُ فِي الشَّيْءِ انْتِفَاءُ الْإِرَادَةِ لَهُ إمَّا مَعَ وُجُودِ كَرَاهَتِهِ وَإِمَّا مَعَ عَدَمِ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَا مُرِيدًا لَهُ وَلَا كَارِهًا لَهُ وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الشَّيْءِ وَيُرِيدُهُ فَهُوَ زَاهِدٌ فِيهِ . وَكَمَا أَنَّ سَبِيلَ اللَّهِ يُحْمَدُ فِيهِ الزُّهْدُ فِيمَا زَهِدَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ فُضُولِ الدُّنْيَا فَتُحْمَدُ فِيهِ الرَّغْبَةُ وَالْإِرَادَةُ لَمَّا حَمِدَ اللَّهُ إرَادَتَهُ وَالرَّغْبَةَ فِيهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَسَاسُ الطَّرِيقِ الْإِرَادَةَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ .
كَمَا رَغِبَ فِي " الزُّهْدِ " وَذَمَّ ضِدَّهُ فِي قَوْلِهِ : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلَّا النَّارُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } السُّورَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا } { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } وَقَالَ : { إنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } الْآيَةَ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا تَمَيُّزُ " الزُّهْدِ الشَّرْعِيِّ " مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ الزُّهْدُ الْمَحْمُودُ وَتَمَيُّزُ " الرَّغْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ " مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ الرَّغْبَةُ الْمَحْمُودَةُ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ الزُّهْدُ بِالْكَسَلِ وَالْعَجْزِ وَالْبِطَالَةِ عَنْ الْأَوَامِرِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَثِيرًا مَا تَشْتَبِهُ الرَّغْبَةُ الشَّرْعِيَّةُ بِالْحِرْصِ وَالطَّمَعِ وَالْعَمَلِ الَّذِي ضَلَّ سَعْيُ صَاحِبِهِ . وَأَمَّا " الْوَرَعُ " فَهُوَ اجْتِنَابُ الْفِعْلِ وَاتِّقَاؤُهُ وَالْكَفُّ وَالْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَالْحَذَرُ مِنْهُ وَهُوَ يَعُودُ إلَى كَرَاهَةِ الْأَمْرِ وَالنُّفْرَةِ مِنْهُ وَالْبُغْضِ لَهُ وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَيْضًا - وَإِنْ كَانَ قَدْ اخْتَلَفَ فِي الْمَطْلُوبِ بِالنَّهْيِ . هَلْ هُوَ عَدَمُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ فِعْلُ ضِدِّهِ ؟ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ عَلَى الثَّانِي - فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى وَرِعًا وَمُتَوَرِّعًا وَمُتَّقِيًا إلَّا إذَا وُجِدَ مِنْهُ الِامْتِنَاعُ وَالْإِمْسَاكُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
وَ" التَّحْقِيقُ " أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَحْصُلُ لَهُ عَدَمُ مَضَرَّةِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ ذَمُّهُ وَعِقَابُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمَعَ وُجُودِ الِامْتِنَاعِ وَالِاتِّقَاءِ وَالِاجْتِنَابِ يَكُونُ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ عَمَلٌ صَالِحٌ وَطَاعَةٌ وَتَقْوَى فَيَحْصُلُ لَهُ مَنْفَعَةُ هَذَا الْعَمَلِ مِنْ حَمْدِهِ وَثَوَابِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَعَدَمُ الْمَضَرَّةِ لِعَدَمِ السَّيِّئَاتِ وَوُجُودُ الْمَنْفَعَةِ لِوُجُودِ الْحَسَنَاتِ . فَتَلَخَّصَ أَنَّ " الزُّهْدَ " مِنْ بَابِ عَدَمِ الرَّغْبَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي الْمَزْهُودِ فِيهِ . وَ " الْوَرَعُ " مِنْ بَابِ وُجُودِ النُّفْرَةِ وَالْكَرَاهَةِ لِلْمُتَوَرَّعِ عَنْهُ وَانْتِفَاءُ الْإِرَادَةِ إنَّمَا يَصْلُحُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ خَالِصَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ " . وَأَمَّا وُجُودُ الْكَرَاهَةِ فَإِنَّمَا يَصْلُحُ فِيمَا فِيهِ مَضَرَّةٌ خَالِصَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ فَأَمَّا إذَا فُرِضَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا مَضَرَّةَ أَوْ مَنْفَعَتُهُ وَمَضَرَّتُهُ سَوَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَادَ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُكْرَهَ فَيَصْلُحُ فِيهِ الزُّهْدُ وَلَا يَصْلُحُ فِيهِ الْوَرَعُ فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ فِيهِ الْوَرَعُ يَصْلُحُ فِيهِ الزُّهْدُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ وَهَذَا بَيِّنٌ . فَإِنَّ مَا صَلَحَ أَنْ يُكْرَهَ وَيُنَفَّرَ عَنْهُ صَلُحَ أَلَّا يُرَادَ وَلَا يُرْغَبَ فِيهِ فَإِنَّ عَدَمَ الْإِرَادَةِ أَوْلَى مِنْ وُجُودِ الْكَرَاهَةِ ؛ وَوُجُودَ الْكَرَاهَةِ مُسْتَلْزِمٌ عَدَمَ الْإِرَادَةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ . وَلَيْسَ كُلُّ مَا صَلُحَ أَلَّا يُرَادَ يَصْلُحُ أَنْ يُكْرَهَ ؛ بَلْ قَدْ يَعْرِضُ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا تَصْلُحُ إرَادَتُهُ وَلَا كَرَاهَتُهُ وَلَا حُبُّهُ وَلَا بُغْضُهُ وَلَا الْأَمْرُ بِهِ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ .
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ : أَنَّ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات لَا يَصْلُحُ فِيهَا زُهْدٌ وَلَا وَرَعٌ ؛ وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ وَالْمَكْرُوهَاتُ فَيَصْلُحُ فِيهَا الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ . وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَيَصْلُحُ فِيهَا الزُّهْدُ دُونَ الْوَرَعِ وَهَذَا الْقَدْرُ ظَاهِرٌ تَعْرِفُهُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ . وَإِنَّمَا الشَّأْنُ فِيمَا إذَا تَعَارَضَ فِي الْفِعْلِ . هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ ؟ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؟ أَوْ مُبَاحٌ ؟ وَفِيمَا إذَا اقْتَرَنَ بِمَا جِنْسُهُ مُبَاحٌ مَا يَجْعَلُهُ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ اقْتَرَنَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مَا يَجْعَلُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَبِالْعَكْسِ . فَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَالْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَتَعَارُضِهَا ؛ يُحْتَاجُ إلَى الْفُرْقَانِ .
وَقَالَ :
فَصْل :
قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ : الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ طَوَائِفُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ " الرَّهْبَانِيّاتِ وَالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ " الَّتِي لَمْ يَشْرَعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ جِنْسِ تَحْرِيمَاتِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَمِثْلُ التَّعَمُّقِ وَالتَّنَطُّعِ الَّذِي ذَمَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ } وَقَالَ : { لَوْ مُدَّ لِي الشَّهْرُ لَوَاصَلْت وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ } - مِثْلُ الْجُوعِ أَوْ الْعَطَشِ الْمُفْرِطِ الَّذِي يَضُرُّ الْعَقْلَ وَالْجِسْمَ وَيَمْنَعُ أَدَاءَ وَاجِبَاتٍ أَوْ مُسْتَحَبَّاتٍ أَنْفَع مِنْهُ وَكَذَلِكَ الِاحْتِفَاءُ وَالتَّعَرِّي وَالْمَشْيُ الَّذِي يَضُرُّ الْإِنْسَانَ بِلَا فَائِدَةٍ : مِثْلُ { حَدِيثِ أَبِي إسْرَائِيلَ الَّذِي نَذَرَ أَنْ يَصُومَ وَأَنْ يَقُومَ قَائِمًا وَلَا يَجْلِسُ وَلَا يَسْتَظِلُّ وَلَا يَتَكَلَّمُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوهُ فَلْيَجْلِسْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيُتِمَّ
صَوْمَهُ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَأَمَّا الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الطَّاعَةِ فَقَدْ تَكُونُ الطَّاعَةُ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي عَمَلٍ مُيَسَّرٍ كَمَا يَسَّرَ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ " الْكَلِمَتَيْنِ " وَهُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَلَوْ قِيلَ : الْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْعَمَلِ وَفَائِدَتِهِ لَكَانَ صَحِيحًا اتِّصَافُ " الْأَوَّلِ " بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِالْأَمْرِ . وَ " الثَّانِي " بِاعْتِبَارِ صِفَتِهِ فِي نَفْسِهِ . وَالْعَمَلُ تَكُونُ مَنْفَعَتُهُ وَفَائِدَتُهُ تَارَةً مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ فَقَطْ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ صِفَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَتَارَةً مِنْ كِلَا الْأَمْرَيْنِ . فَبِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ يَنْقَسِمُ إلَى طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ وَبِالثَّانِي يَنْقَسِمُ إلَى حَسَنَةٍ وَسَيِّئَةٍ ، وَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ اسْمٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ وَالْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ اسْمٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ . . . (1) وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يُثْبِتُ إلَّا " الْأَوَّلَ " كَمَا تَقُولُهُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُثْبِتُ إلَّا " الثَّانِيَ " كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَطَائِفَةٌ
مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ وَالصَّوَابُ إثْبَاتُ الِاعْتِبَارَيْنِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْأَئِمَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ . فَأَمَّا كَوْنُهُ مشقا فَلَيْسَ هُوَ سَبَبًا لِفَضْلِ الْعَمَلِ وَرُجْحَانِهِ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ الْفَاضِلُ مشقا فَفَضْلُهُ لِمَعْنَى غَيْرِ مَشَقَّتِهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَشَقَّةِ يَزِيدُ ثَوَابَهُ وَأَجْرَهُ فَيَزْدَادُ الثَّوَابُ بِالْمَشَقَّةِ كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ بُعْدُهُ عَنْ الْبَيْتِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَكْثَرَ : يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ مِنْ الْقَرِيبِ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ فِي الْعُمْرَةِ : أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك } لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَى قَدْرِ الْعَمَلِ فِي بُعْدِ الْمَسَافَةِ وَبِالْبُعْدِ يَكْثُرُ النَّصَبُ فَيَكْثُرُ الْأَجْرُ وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَاَلَّذِي يَقْرَؤُهُ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ } فَكَثِيرًا مَا يَكْثُرُ الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ لَا لِأَنَّ التَّعَبَ وَالْمَشَقَّةَ مَقْصُودٌ مِنْ الْعَمَلِ ؛ وَلَكِنْ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ هَذَا فِي شَرْعِنَا الَّذِي رُفِعَتْ عَنَّا فِيهِ الْآصَارُ وَالْأَغْلَالُ وَلَمْ يُجْعَلْ عَلَيْنَا فِيهِ حَرَجٌ وَلَا أُرِيدَ بِنَا فِيهِ الْعُسْرُ ؛ وَأَمَّا فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا فَقَدْ تَكُونُ الْمَشَقَّةُ مَطْلُوبَةً مِنْهُمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْعِبَادِ يَرَى جِنْسَ الْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ وَالتَّعَبِ مَطْلُوبًا مُقَرِّبًا إلَى اللَّهِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ نُفْرَةِ النَّفْسِ عَنْ اللَّذَّاتِ وَالرُّكُونِ
إلَى الدُّنْيَا وَانْقِطَاعِ الْقَلْبِ عَنْ عَلَاقَةِ الْجَسَدِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ زُهْدِ الصَّابِئَةِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا تَجِدُ هَؤُلَاءِ مَعَ مَنْ شَابَهَهُمْ مِنْ الرُّهْبَانِ يُعَالِجُونَ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ الشَّدِيدَةَ الْمُتْعِبَةَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ والزهادات مَعَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهَا وَلَا ثَمَرَةَ لَهَا وَلَا مَنْفَعَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُقَاوِمُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ الَّذِي يَجِدُونَهُ . وَنَظِيرُ هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ مَدْحُ بَعْضِ الْجُهَّالِ بِأَنْ يَقُولَ : فُلَانٌ مَا نَكَحَ وَلَا ذَبَحَ . وَهَذَا مَدْحُ الرُّهْبَانِ الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ وَلَا يَذْبَحُونَ وَأَمَّا الْحُنَفَاءُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } . وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ هِيَ مِنْ الدِّينِ الْفَاسِدِ وَهُوَ مَذْمُومٌ كَمَا أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ إلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَذْمُومٌ . وَالنَّاسُ أَقْسَامٌ . أَصْحَابُ " دُنْيَا مَحْضَةٍ " وَهُمْ الْمُعْرِضُونَ عَنْ الْآخِرَةِ . وَأَصْحَابُ " دِينٍ فَاسِدٍ " وَهُمْ الْكُفَّارُ وَالْمُبْتَدِعَةُ الَّذِينَ يَتَدَيَّنُونَ بِمَا لَمْ
يُشَرِّعْهُ اللَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ والزهادات . وَ " الْقِسْمُ الثَّالِثُ " وَهُمْ أَهْلُ الدِّينِ الصَّحِيحِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الْمُسْتَمْسِكُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
فَصْلٌ : فِي " تَزْكِيَةِ النَّفْسِ " وَكَيْفَ تَزْكُو بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ .
قَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } و { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } . قَالَ قتادة وَابْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُمَا : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ : قَدْ أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ وَقَدْ خَابَتْ نَفْسٌ دَسَّاهَا اللَّهُ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الوالبي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ . وَ لَيْسَ هُوَ مُرَادُ الْآيَةِ (1) ؛ بَلْ الْمُرَادُ بِهَا الْأَوَّلُ قَطْعًا لَفْظًا وَمَعْنًى . أَمَّا " اللَّفْظُ " فَقَوْلُهُ : مَنْ زَكَّاهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَائِدٍ
عَلَى مَنْ فَإِذَا قِيلَ : قَدْ أَفْلَحَ الشَّخْصُ الَّذِي زَكَّاهَا كَانَ ضَمِيرُ الشَّخْصِ فِي زَكَّاهَا يَعُودُ عَلَى ( مَنْ ) هَذَا وَجْهُ الْكَلَامِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهِ كَمَا يُقَالُ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ اتَّقَى اللَّهَ وَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَطَاعَ رَبَّهُ . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَعْنَى : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهُ اللَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْجُمْلَةِ ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى ( مَنْ فَإِنَّ الضَّمِيرَ عَلَى هَذَا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ وَلَيْسَ هُوَ ( مَنْ ) وَضَمِيرُ الْمَفْعُولِ يَعُودُ عَلَى النَّفْسِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَلَا يَعُودُ عَلَى ( مَنْ ) لَا ضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَلَا الْمَفْعُولِ . فَتَخْلُو الصِّلَةُ مِنْ عَائِدٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ . نَعَمْ لَوْ قِيلَ : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ أَوْ مَنْ زَكَّاهَا اللَّهُ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ صَحَّ الْكَلَامُ وَخَفَاءُ هَذَا عَلَى مَنْ قَالَ بِهِ مِنْ النُّحَاةِ عَجَبٌ . وَهُوَ لَمْ يَقُلْ : قَدْ أَفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا . فَإِنَّهُ هنا كانت تَكُونُ زَكَّاهَا صِفَةً لِنَفْسِ لَا صِلَةً ؛ بَلْ قَالَ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } فَالْجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ ( مَنْ ) لَا صِفَةَ لَهَا . وَلَا قَالَ أَيْضًا : قَدْ أَفْلَحَتْ النَّفْسُ الَّتِي زَكَّاهَا ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ وَجُعِلَ فِي زَكَّاهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ صَحَّ فَإِذَا تَكَلَّفُوا وَقَالُوا : التَّقْدِيرُ { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } هِيَ النَّفْسُ الَّتِي زَكَّاهَا . وَقَالُوا : فِي زَكَّى ضَمِيرُ الْمَفْعُولِ يَعُودُ عَلَى ( مَنْ وَهِيَ تَصْلُحُ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ
وَالْوَاحِدُ وَالْعَدَدُ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَعْنَاهَا الْمُؤَنَّثِ وَتَأْنِيثُهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَلِهَذَا قِيلَ : { قَدْ أَفْلَحَ } وَلَمْ يَقُلْ قَدْ أَفْلَحَتْ قِيلَ لَهُمْ : هَذَا مَعَ أَنَّهُ خُرُوجٌ مِنْ اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ فَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا دَلَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ وَمَنْ . . . (1) عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَنَا وَكَذَا قَوْلُهُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَأَمَّا هُنَا فَلَيْسَ فِي لَفْظِ ( مَنْ ) وَمَا بَعْدَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّفْسُ الْمُؤَنَّثَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْكَلَامِ مَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَتِهِ ؛ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِمَّا يُصَانُ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ فَلَوْ قُدِّرَ احْتِمَالُ عَوْدِ ضَمِيرِ ( زَكَّاهَا ) إلَى نَفْسٍ وَإِلَى ( مَنْ ) مَعَ أَنَّ لَفْظَ ( مَنْ ) لَا دَلِيلَ يُوجِبُ عَوْدَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ إعَادَتُهُ إلَى الْمُؤَنَّثِ أَوْلَى مِنْ إعَادَتِهِ إلَى مَا يَحْتَمِلُ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَهُوَ فِي التَّذْكِيرِ أَظْهَرَ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى التَّأْنِيثِ فَإِنَّ الْكَلَامَ إذَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَظْهَرِهِمَا وَمَنْ تَكَلَّفَ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفِ وَالْقُرْآنُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَالْعُدُولُ عَمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْكَلَامِ إلَى مَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِلَا دَلِيلٍ لَا يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ نَصًّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُلْهِمُ التَّقْوَى وَالْفُجُورَ . وَلِبَسْطِ هَذَا مَوْضِعٌ آخَرُ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَمْرُ النَّاسِ بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَالتَّحْذِيرُ مِنْ تَدْسِيَتِهَا كَقَوْلِهِ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْمَعْنَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى اللَّهُ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَمْرٌ لَهُمْ وَلَا نَهْيٌ ؛ وَلَا تَرْغِيبٌ وَلَا تَرْهِيبٌ . وَالْقُرْآنُ إذَا أَمَرَ أَوْ نَهَى لَا يَذْكُرُ مُجَرَّدَ " الْقَدَرِ " فَلَا يَقُولُ : مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ مُؤْمِنًا . بَلْ يَقُولُ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } إذْ ذِكْرُ مُجَرَّدِ الْقَدَرِ فِي هَذَا يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ وَلَا يَلِيقُ هَذَا بِأَضْعَفِ النَّاسِ عَقْلًا فَكَيْفَ بِكَلَامِ اللَّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ يَذْكُرُ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَإِنَّمَا يَذْكُرُ الْقَدْرَ عِنْدَ بَيَانِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ : إمَّا بِمَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِمَّا بِإِنْعَامِهِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَيَذْكُرُهُ فِي سِيَاقِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَمَّا فِي مَعْرِضِ الْأَمْرِ فَلَا يَذْكُرُهُ إلَّا عِنْدَ النِّعَمِ . كَقَوْلِهِ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا } الْآيَةَ فَهَذَا مُنَاسِبٌ . وَقَوْلُهُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جِنْسِ الثَّانِيَةِ لَا الْأُولَى . وَالْمَقْصُودُ " ذِكْرُ التَّزْكِيَةِ " قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الْآيَةَ . وَقَالَ : { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } وَقَالَ : { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } وَقَالَ : { وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى } وَأَصْلُ " الزَّكَاةِ " الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ . وَمِنْهُ يُقَالُ : زَكَا الزَّرْعُ وَزَكَا
الْمَالُ إذَا نَمَا . وَلَنْ يَنْمُوَ الْخَيْرُ إلَّا بِتَرْكِ الشَّرِّ وَالزَّرْعُ لَا يَزْكُو حَتَّى يُزَالَ عَنْهُ الدَّغَلُ فَكَذَلِكَ النَّفْسُ وَالْأَعْمَالُ لَا تَزْكُوَا حَتَّى يُزَالَ عَنْهَا مَا يُنَاقِضُهَا وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُتَزَكِّيًا إلَّا مَعَ تَرْكِ الشَّرِّ ؛ فَإِنَّهُ يُدَنِّسُ النَّفْسَ وَيُدَسِّيهَا . قَالَ الزَّجَّاجُ : ( دَسَّاهَا جَعَلَهَا ذَلِيلَةً حَقِيرَةً خَسِيسَةً وَقَالَ الْفَرَّاءُ : دَسَّاهَا ؛ لِأَنَّ الْبَخِيلَ يُخْفِي نَفْسَهُ وَمَنْزِلَهُ وَمَالَهُ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : أَيْ أَخْفَاهَا بِالْفُجُورِ وَالْمَعْصِيَةِ فَالْفَاجِرُ دَسَّ نَفْسَهُ ؛ أَيْ قَمَعَهَا وَخَبَّاهَا وَصَانِعُ الْمَعْرُوفِ شَهَرَ نَفْسَهُ وَرَفَعَهَا وَكَانَتْ أَجْوَادُ الْعَرَبِ تَنْزِلُ الرُّبَى لِتُشْهِرَ أَنْفُسَهَا وَاللِّئَامُ تَنْزِلُ الْأَطْرَافَ وَالْوُدْيَانَ فَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى يَبْسُطُ النَّفْسَ وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ بِحَيْثُ يَجِدُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ اتِّسَاعًا وَبَسْطًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اتَّسَعَ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ بَسَطَهُ اللَّهُ وَشَرَحَ صَدْرَهُ . وَالْفُجُورُ وَالْبُخْلُ يَقْمَعُ النَّفْسَ وَيَضَعُهَا وَيُهِينُهَا بِحَيْثُ يَجِدُ الْبَخِيلُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ ضَيِّقٌ . وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَقَالَ : { مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ قَدْ اُضْطُرَّتْ أَيْدِيهمَا إلَى تَرَاقِيهِمَا . فَجَعَلَ الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةِ اتَّسَعَتْ وَانْبَسَطَتْ عَنْهُ حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ . وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ بِصَدَقَةِ قلصت وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ بِمَكَانِهَا وَأَنَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ فِي جَيْبِهِ فَلَوْ رَأَيْتهَا يُوَسِّعُهَا فَلَا تَتَّسِعُ } أَخْرَجَاهُ .
وَإِخْفَاءُ الْمَنْزِلِ وَإِظْهَارُهُ تَبَعًا لِذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى : { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } الْآيَةَ . فَهَكَذَا النَّفْسُ الْبَخِيلَةُ الْفَاجِرَةُ قَدْ دَسَّهَا صَاحِبُهَا فِي بَدَنِهِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَلِهَذَا وَقْتَ الْمَوْتِ تُنْزَعُ مِنْ بَدَنِهِ كَمَا يُنْزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ وَالنَّفْسُ الْبَرَّةُ التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ الَّتِي قَدْ زَكَّاهَا صَاحِبُهَا فَارْتَفَعَتْ وَاتَّسَعَتْ وَمَجَّدَتْ وَنَبُلَتْ فَوَقْتَ الْمَوْتِ تَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ تَسِيلُ كَالْقَطْرَةِ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَكَالشَّعْرَةِ مِنْ الْعَجِينِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " إنَّ لِلْحَسَنَةِ لَنُورًا فِي الْقَلْبِ وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ وَإِنَّ لِلسَّيِّئَةِ لَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَسَوَادًا فِي الْوَجْهِ وَوَهَنًا فِي الْبَدَنِ وَضِيقًا فِي الرِّزْقِ وبغضة فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ " قَالَ تَعَالَى : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } الْآيَةَ . وَهَذَا مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ . قَالَ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ } الْآيَةَ . وَقَالَ : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } الْآيَةَ . وَقَالَ لَهُ فِي سِيَاقِ الرَّمْيِ بِالْفَاحِشَةِ وَذَمِّ مَنْ أَحَبّ إظْهَارَهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَكَلِّمِ بِمَا لَا يَعْلَمُ : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } الْآيَةَ . فَبَيَّنَ أَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِتَرْكِ الْفَاحِشَةِ وَلِهَذَا قَالَ : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } الْآيَةَ . وَذَلِكَ أَنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ هُوَ مِنْ أَعْمَالِ النَّفْسِ فَإِنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ السَّيِّئَاتِ مَذْمُومَةٌ وَمَكْرُوهٌ فِعْلُهَا وَيُجَاهِدُ نَفْسَهُ إذَا دَعَتْهُ إلَيْهَا إنْ كَانَ مُصَدِّقًا لِكِتَابِ
رَبِّهِ مُؤْمِنًا بِمَا جَاءَ عَنْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ وَالْكَرَاهَةِ وَجِهَادِ النَّفْسِ أَعْمَالٌ تَعْمَلُهَا النَّفْسُ الْمُزَكَّاةُ فَتَزْكُو بِذَلِكَ أَيْضًا ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا عَمِلَتْ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّهَا تَتَدَنَّسُ وَتَنْدَسُّ وَتَنْقَمِعُ كَالزَّرْعِ إذَا نَبَتَ مَعَهُ الدَّغَلُ . وَالثَّوَابُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَمَلٍ مَوْجُودٍ وَكَذَلِكَ الْعِقَابُ . فَأَمَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ فَلَا ثَوَابَ فِيهِ وَلَا عِقَابَ لَكِنْ فِيهِ عَدَمُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالْخَيْرِ وَنَهَى عَنْ الشَّرِّ وَاتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْأَمْرِ فِعْلٌ مَوْجُودٌ وَاخْتَلَفُوا فِي النَّهْيِ هَلْ الْمَطْلُوبُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَمْ عَدَمِيٌّ فَقِيلَ : وُجُودِيٌّ وَهُوَ التَّرْكُ وَهَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ . وَقِيلَ : الْمَطْلُوبُ عَدَمُ الشَّرِّ وَهُوَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا نَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَلَا بُدَّ أَلَّا يَقْرَبَهُ وَيَعْزِمَ عَلَى تَرْكِهِ وَيُكْرَهَ فِعْلُهُ وَهَذَا أَمْرٌ وُجُودِيٌّ بِلَا رَيْبٍ ؛ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ . . . (1) وُجُودِيٌّ لَكِنْ قَدْ لَا يَكُونُ مُرِيدًا لَهُ كَمَا يُكْرَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ طَبْعًا وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ وَالْعَزْمِ عَلَى تَرْكِهِ لِطَاعَةِ الشَّارِعِ وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى كَرَاهَةِ الطَّبْعِ وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ كَثَوَابِ مَنْ كَفَّ نَفْسَهُ وَجَاهَدَهَا عَنْ طَلَبِ
الْمُحَرَّمِ وَمَنْ كَانَتْ كَرَاهَتُهُ لِلْمُحَرَّمَاتِ كَرَاهَةَ إيمَانٍ وَقَدْ غَمَرَ إيمَانُهُ حُكْمَ طَبْعِهِ فَهَذَا أَعْلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ وَهَذَا صَاحِبُ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ وَهُوَ أَرْفَعُ مِنْ صَاحِبِ اللَّوَّامَةِ الَّتِي تَفْعَلُ الذَّنْبَ وَتَلُومُ صَاحِبَهَا عَلَيْهِ وَتَتَلَوَّمُ وَتَتَرَدَّدُ هَلْ تَفْعَلُهُ أَمْ لَا وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُ وَلَا هُوَ مُرِيدٌ لَهُ ؛ بَلْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَهَذَا لَا يُعَاقَبُ . وَلَا يُثَابُ إذْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ يُثَابُ عَلَيْهِ أَوْ يُعَاقَبُ فَمَنْ قَالَ : الْمَطْلُوبُ أَلَّا يَفْعَلَ إنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ يَكْفِي فِي عَدَمِ الْعِقَابِ فَقَدْ صَدَقَ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى هَذَا الْعَدَمِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَالْكَافِرُ إذَا لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَلَا بُدَّ لِنَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالٍ يَشْتَغِلُ بِهَا عَنْ الْإِيمَانِ وَتَرْكُ الْأَعْمَالِ كُفْرٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهَا . وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ عُقُوبَةَ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ ذَكَرَ أُمُورًا وُجُودِيَّةً وَتِلْكَ تَدُسُّ النَّفْسَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ أَعْظَمَ مَا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ وَكَانَ الشِّرْكُ أَعْظَمَ مَا يُدَسِّيهَا وَتَتَزَكَّى بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالصَّدَقَةِ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا ذَكَرَهُ السَّلَفُ . قَالُوا : فِي { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } تَطَهَّرَ مِنْ الشِّرْكِ وَمِنْ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَطَاءٍ وقتادة : صَدَقَةُ الْفِطْرِ . وَلَمْ يُرِيدُوا أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ إلَّا هِيَ بَلْ مَقْصُودُهُمْ : أَنَّ مَنْ أَعْطَى صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَصَلَّى صَلَاةَ الْعِيدِ فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ وَمَا بَعْدَهَا وَلِهَذَا
كَانَ يَزِيدُ بْنُ حَبِيبٍ كُلَّمَا خَرَجَ إلَى الصَّلَاةِ خَرَجَ بِصَدَقَةِ وَيَتَصَدَّقُ بِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا بَصَلًا . قَالَ الْحَسَنُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } مَنْ كَانَ عَمَلُهُ زَاكِيًا وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ : زَكَاةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ : تَزَكَّى بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْنَى الزَّاكِي النَّامِي الْكَثِيرُ . وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ } { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ : لَا يُزَكُّونَ أَعْمَالَهُمْ أَيْ لَيْسَتْ زَاكِيَةً وَقِيلَ لَا يُطَهِّرُونَهَا بِالْإِخْلَاصِ كَأَنَّهُ أَرَادَ - وَاَللَّهُ أَعْلَم - أَهْلَ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ شِرْكٌ . وَعَنْ الْحَسَنِ : لَا يُؤْمِنُونَ بِالزَّكَاةِ وَلَا يُقِرُّونَ بِهَا . وَعَنْ الضَّحَّاكِ : لَا يَتَصَدَّقُونَ وَلَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ وَعَنْ ابْنِ السَّائِبِ : لَا يُعْطُونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ . قَالَ : كَانُوا يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ وَلَا يُزَكُّونَ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ الْآيَةَ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يَتَزَكَّى بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ التَّوْحِيدِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . كَقَوْلِهِ : { هَلْ لَكَ إلَى أَنْ تَزَكَّى } وَقَوْلُهُ : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } وَالصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ لَمْ تَكُنْ فُرِضَتْ عِنْدَ نُزُولِهَا . فَإِنْ قِيلَ : ( يُؤْتَى فِعْلٌ مُتَعَدٍّ . قِيلَ : هَذَا كَقَوْلِهِ : { ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا } وَتَقَدَّمَ قَبْلَهَا أَنَّ
الرَّسُولَ دَعَاهُمْ وَهُوَ طَلَبٌ مِنْهُ فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ مُتَضَمِّنًا قِيَامَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِالرُّسُلِ وَالرُّسُلُ إنَّمَا يَدْعُونَهُمْ لِمَا تَزْكُو بِهِ أَنْفُسُهُمْ . وَمِمَّا يَلِيقُ : أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْتَلْزِمُ الطَّهَارَةَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَعْنَى الطَّهَارَةِ . قَوْلُهُ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } مِنْ الشَّرِّ { وَتُزَكِّيهِمْ } بِالْخَيْرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالْمَاءِ وَالْبَرَدِ وَالثَّلْجِ } كَانَ يَدْعُو بِهِ فِي الِاسْتِفْتَاحِ وَفِي الِاعْتِدَالِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالْغُسْلِ . فَهَذِهِ الْأُمُورُ تُوجِبُ تَبْرِيدَ الْمَغْسُولِ بِهَا وَ " الْبَرَدُ " يُعْطِي قُوَّةً وَصَلَابَةً وَمَا يَسُرُّ يُوصَفُ بِالْبَرَدِ وَقُرَّةِ الْعَيْنِ وَلِهَذَا كَانَ دَمْعُ السُّرُورِ بَارِدًا وَدَمْعُ الْحُزْنِ حَارًّا ؛ لِأَنَّ مَا يَسُوءُ النَّفْسَ يُوجِبُ حُزْنَهَا وَغَمَّهَا وَمَا يَسُرُّهَا يُوجِبُ فَرَحَهَا وَسُرُورَهَا وَذَلِكَ مِمَّا يُبَرِّدُ الْبَاطِنَ . فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَغْسِلَ الذُّنُوبَ عَلَى وَجْهٍ يُبَرِّدُ الْقُلُوبَ أَعْظَمَ بَرْدٍ يَكُونُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ الَّذِي أَزَالَ عَنْهُ مَا يَسُوءُ النَّفْسَ مِنْ الذُّنُوبِ . وَقَوْلُهُ : " بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ " تَمْثِيلٌ بِمَا فِيهِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَإِلَّا فَنَفْسُ الذُّنُوبِ لَا تُغْسَلُ بِذَلِكَ كَمَا يُقَالُ : أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِك وَحَلَاوَةَ مَغْفِرَتِكَ . { وَلَمَّا قَضَى أَبُو قتادة دَيْنَ الْمَدِينِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ
بَرَّدْت جِلْدَتَهُ } وَيُقَالُ : بَرْدُ الْيَقِينِ وَحَرَارَةُ الشَّكِّ . وَيُقَالُ : هَذَا الْأَمْرُ يُثْلَجُ لَهُ الصَّدْرُ إذَا كَانَ حَقًّا يَعْرِفُهُ الْقَلْبُ وَيَفْرَحُ بِهِ حَتَّى يَصِيرَ فِي مِثْلِ بَرْدِ الثَّلْجِ . وَمَرَضُ النَّفْسِ : إمَّا شُبْهَةٌ وَإِمَّا شَهْوَةٌ أَوْ غَضَبٌ وَالثَّلَاثَةُ تُوجِبُ السُّخُونَةَ . وَيُقَالُ لِمَنْ نَالَ مَطْلُوبَهُ : بَرَدَ قَلْبُهُ . فَإِنَّ الطَّالِبَ فِيهِ حَرَارَةُ الطَّلَبِ . وَقَوْلُهُ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الْحَسَنَاتِ يُطَهِّرُ النَّفْسَ وَيُزَكِّيهَا مِنْ الذُّنُوبِ السَّالِفَةِ فَإِنَّهُ قَالَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا } الْآيَةَ . فَالتَّوْبَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَحْصُلُ بِهِمَا التَّطْهِيرُ وَالتَّزْكِيَةُ وَلِهَذَا قَالَ فِي سِيَاقِ قَوْلِهِ . { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } الْآيَاتِ . { وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ } الْآيَةَ . فَأَمَرَهُمْ جَمِيعًا بِالتَّوْبَةِ فِي سِيَاقِ مَا ذَكَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ . كَمَا فِي الصَّحِيحِ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا } الْحَدِيثَ . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ إنَّ قَوْلَهُ : { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } نَزَلَتْ بِسَبَبِ رَجُلٍ نَالَ مِنْ امْرَأَةٍ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الْجِمَاعَ ثُمَّ نَدِمَ فَنَزَلَتْ } وَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ يَخَافَ اللَّهَ وَيَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى وَنَفْسُ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ تَهْوَى وَهُوَ يَنْهَاهَا كَانَ نَهْيُهُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَعَمَلًا صَالِحًا . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ } فَيُؤْمَرُ بِجِهَادِهَا
كَمَا يُؤْمَرُ بِجِهَادِ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعَاصِي وَيَدْعُو إلَيْهَا وَهُوَ إلَى جِهَادِ نَفْسِهِ أَحْوَجُ فَإِنَّ هَذَا فَرْضُ عَيْنٍ وَذَاكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَالصَّبْرُ فِي هَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّ هَذَا الْجِهَادَ حَقِيقَةُ ذَلِكَ الْجِهَادِ فَمَنْ صَبَرَ عَلَيْهِ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ الْجِهَادِ . كَمَا قَالَ : { وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ } . ثُمَّ هَذَا لَا يَكُونُ مَحْمُودًا فِيهِ إلَّا إذَا غَلَبَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مَنْ يُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ } إلَخْ " وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْإِنْسَانَ أَنْ يَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى وَأَنْ يَخَافَ مَقَامَ رَبِّهِ فَحَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يُعِينُهُ عَلَى الْجِهَادِ فَإِذَا غَلَبَ كَانَ لِضَعْفِ إيمَانِهِ فَيَكُونُ مُفَرِّطًا بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ ؛ بِخِلَافِ الْعَدُوِّ الْكَافِرِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بَدَنُهُ أَقْوَى فَالذُّنُوبُ إنَّمَا تَقَعُ إذَا كَانَتْ النَّفْسُ غَيْرَ مُمْتَثِلَةٍ لِمَا أُمِرَتْ بِهِ وَمَعَ امْتِثَالِ الْمَأْمُورِ لَا تَفْعَلُ الْمَحْظُورَ فَإِنَّهُمَا ضِدَّانِ . قَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ } الْآيَةَ . وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } فَعِبَادُ اللَّهِ الْمُخْلِصُونَ لَا يُغْوِيهِمْ الشَّيْطَانُ وَ " الْغَيُّ " خِلَافُ الرُّشْدِ وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى . فَمَنْ مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى مُحَرَّمٍ فَلْيَأْتِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ فَإِنَّ ذَلِكَ يَصْرِفُ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ . . . (1) خَشْيَةً وَمَحَبَّةً وَالْعِبَادَةُ لَهُ
وَحْدَهُ وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ السَّيِّئَاتِ . فَإِذَا كَانَ تَائِبًا فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا فَوَقَعَتْ السَّيِّئَاتُ مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ مَاحِيًا لَهَا بَعْدَ الْوُقُوعِ فَهُوَ كَالتِّرْيَاقِ الَّذِي يَدْفَعُ أَثَرَ السُّمِّ وَيَرْفَعُهُ بَعْدَ حُصُولِهِ وَكَالْغِذَاءِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وكالاستمتاع بِالْحَلَالِ الَّذِي يَمْنَعُ النَّفْسَ عَنْ طَلَبِ الْحَرَامِ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ طَلَبَ إزَالَتَهُ وَكَالْعِلْمِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ الشَّكِّ وَيَرْفَعُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَكَالطِّبِّ الَّذِي يَحْفَظُ الصِّحَّةَ وَيَدْفَعُ الْمَرَضَ وَكَذَلِكَ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ يَحْفَظُ بِأَشْبَاهِهِ مِمَّا يَقُومُ بِهِ . وَإِذَا حَصَلَ مِنْهُ مَرَضٌ مِنْ الشُّبُهَات وَالشَّهَوَاتِ أُزِيلَ بِهَذِهِ وَلَا يَحْصُلُ الْمَرَضُ إلَّا لِنَقْصِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ كَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَمْرَضُ إلَّا لِنَقْصِ إيمَانِهِ . وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرَانُ مُتَضَادَّانِ فَكُلُّ ضِدَّيْنِ : فَأَحَدُهُمَا يَمْنَعُ الْآخَرَ تَارَةً ؟ وَيَرْفَعُهُ أُخْرَى كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ . . . (1) حَصَلَ مَوْضِعُهُ وَيَرْفَعُهُ إذَا كَانَ حَاصِلًا كَذَلِكَ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ وَالْإِحْبَاطُ . . . (2) وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ حَتَّى الْإِيمَانَ وَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ . . . (3) الْجُبَّائِيَّ وَابْنُهُ بِالْمُوَازَنَةِ . لَكِنْ قَالُوا : مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ خُلِّدَ فِي النَّارِ وَالْمُوَازَنَةُ بِلَا تَخْلِيدٍ قَوْلُ الْإِحْبَاط مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ وَهُوَ حُبُوطُ الْحَسَنَاتِ كُلِّهَا بِالْكُفْرِ كَمَا قَالَ : { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ
فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } الْآيَةَ وَقَالَ : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . وَقَالَ : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الْآيَةَ . وَمَا ادَّعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُخَالِفٌ لِأَقْوَالِ السَّلَفِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ حَدَّ الزَّانِي وَغَيْرِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كُفَّارًا حَابِطِي الْأَعْمَالِ وَلَا أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ كَمَا أَمَرَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ وَالْمُنَافِقُونَ لَمْ يَكُونُوا يُظْهِرُونَ كُفْرَهُمْ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْغَالِّ وَعَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا وَمُنَافِقِينَ لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ . فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُحْبَطْ إيمَانُهُمْ كُلُّهُ . { وَقَالَ عَمَّنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَذَلِكَ الْحُبُّ مِنْ أَعْظَمِ شُعَبِ الْإِيمَانِ . فَعُلِمَ أَنَّ إدْمَانَهُ لَا يُذْهِبُ الشُّعَبَ كُلَّهَا . وَثَبَتَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ : { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } وَلَوْ حَبِطَ لَمْ يَكُنْ فِي قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ مِنْهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ } الْآيَةَ . فَجُعِلَ مِنْ الْمُصْطَفَيْنَ . فَإِذَا كَانَتْ السَّيِّئَاتُ لَا تُحْبِطُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ فَهَلْ تُحْبَطُ بِقَدْرِهَا وَهَلْ يُحْبَطُ بَعْضُ الْحَسَنَاتِ بِذَنْبِ دُونَ الْكُفْرِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ . مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ . مِثْلُ قَوْلِهِ : { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } الْآيَةَ . دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ السَّيِّئَةَ تُبْطِلُ الصَّدَقَةَ وَضَرَبَ مَثَلَهُ بِالْمُرَائِي وَقَالَتْ عَائِشَةُ " أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّ جِهَادَهُ بَطَلَ " الْحَدِيثَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } وَحَدِيثُ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } قَالَ الْحَسَنُ : بِالْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ وَعَنْ عَطَاءٍ : بِالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَعَنْ ابْنِ السَّائِبِ : بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَعَنْ مُقَاتِلٍ : بِالْمَنِّ . وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا مَنُّوا بِإِسْلَامِهِمْ فَمَا ذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالْكَبَائِرَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ . فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يُرِدْ إلَّا إبْطَالَهَا بِالْكُفْرِ . قِيلَ : ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي نَفْسِهِ وَمُوجِبٌ لِلْخُلُودِ الدَّائِمِ فَالنَّهْيُ عَنْهُ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِهَذَا بَلْ يَذْكُرُهُ عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ . كَقَوْلِهِ : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } وَنَحْوِهَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ وَفِي آيَةِ الْمَنِّ سَمَّاهَا إبْطَالًا وَلَمْ يُسَمِّهِ إحْبَاطًا ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْدَهَا الْكُفْرَ بِقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ } الْآيَةَ . فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ إذَا دَخَلْتُمْ فِيهَا فَأَتِمُّوهَا وَبِهَا احْتَجَّ مَنْ قَالَ : يَلْزَمُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ . قِيلَ : لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ إبْطَالِ بَعْضِ الْعَمَلِ فَإِبْطَالُهُ كُلُّهُ أَوْلَى بِدُخُولِهِ فِيهَا فَكَيْفَ وَذَلِكَ قَبْلَ فَرَاغِهِ لَا يُسَمَّى صَلَاةً وَلَا صَوْمًا
ثُمَّ يُقَالُ : الْإِبْطَالُ يُوجَدُ قَبْلَ الْفَرَاغِ أَوْ بَعْدَهُ وَمَا ذَكَرُوهُ أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ وَالْإِبْطَالِ هُوَ إبْطَالُ الثَّوَابِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُتِمّ الْعِبَادَةَ يَبْطُلُ جَمِيعُ ثَوَابِهِ بَلْ يُقَالُ : إنَّهُ يُثَابُ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ . وَفِي الصَّحِيحِ حَدِيثُ الْمُفْلِسِ " الَّذِي يَأْتِي بِحَسَنَاتِ أَمْثَالِ الْجِبَالِ " .
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ رَجُلٍ تَفَقَّهَ وَعَلِمَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَمَا نَهَى عَنْهُ ثُمَّ تَزَهَّدَ وَتَرَكَ الدُّنْيَا وَالْمَالَ وَالْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ خَائِفًا مِنْ كَسْبِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ وَبَعْثِ الْآخِرَةِ وَطَلَبَ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَاحَ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَالْبُلْدَانِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَطِّعَ الرَّحِمَ وَيَسِيحَ كَمَا ذَكَرَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، " الزُّهْدُ الْمَشْرُوعُ " هُوَ تَرْكُ كُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَثِقَةُ الْقَلْبِ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ { لَيْسَ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إضَاعَةِ الْمَالِ وَلَكِنَّ الزُّهْدَ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ بِمَا فِي يَدِك وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إذَا أَصَبْت أَرْغَبَ مِنْك فِيهَا لَوْ أَنَّهَا بَقِيَتْ لَك } لَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } . فَهَذَا صِفَةُ " الْقَلْبِ " .
وَأَمَّا فِي " الظَّاهِرِ " فَتَرْكُ الْفُضُولِ الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مِنْ مَطْعَمٍ وَمَلْبَسٍ وَمَالٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : إنَّمَا هُوَ طَعَامٌ دُونَ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ دُونَ لِبَاسٍ وَصَبْرِ أَيَّامٍ قَلَائِلَ . وَجِمَاعُ ذَلِكَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَكَانَ عَادَتُهُ فِي الْمَطْعَمِ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ مَوْجُودًا وَلَا يَتَكَلَّفُ مَفْقُودًا وَيَلْبَسُ مِنْ اللِّبَاسِ مَا تَيَسَّرَ مِنْ قُطْنٍ وَصُوفٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ الْقُطْنُ أَحَبّ إلَيْهِ { وَكَانَ إذَا بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ يُرِيدُ أَنْ يَعْتَدِيَ فَيَزِيدُ فِي الزُّهْدِ أَوْ الْعِبَادَةِ عَلَى الْمَشْرُوعِ وَيَقُولُ : أَيُّنَا مِثْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْضَبُ لِذَلِكَ وَيَقُولُ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى } { وَبَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَأَصُومُ فَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ الْآخَرُ أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ فَلَا أَنَامُ وَقَالَ آخَرُ أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ آخَرُ أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَقُومُ وَأَنَامُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } . فَأَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ فَلَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا هُوَ مِنْ دِينِ الْأَنْبِيَاءِ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ
قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْعِيَالِ وَالْكَسْبُ لَهُمْ يَكُونُ وَاجِبًا تَارَةً وَمُسْتَحَبًّا أُخْرَى فَكَيْفَ يَكُونُ تَرْكُ الْوَاجِبِ أَوْ الْمُسْتَحَبِّ مِنْ الدِّينِ وَكَذَلِكَ السِّيَاحَةُ فِي الْبِلَادِ لِغَيْرِ مَقْصُودٍ مَشْرُوعٍ كَمَا يُعَانِيه بَعْضُ النُّسَّاكِ أَمْرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : لَيْسَتْ السِّيَاحَةُ مِنْ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ وَلَا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّينَ وَلَا الصَّالِحِينَ . [ وَأَمَّا السِّيَاحَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ : { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ } وَمِنْ قَوْلِهِ : { مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا هَذِهِ السِّيَاحَةَ الْمُبْتَدَعَةَ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَصَفَ النِّسَاءَ اللَّاتِي يَتَزَوَّجُهُنَّ رَسُولُهُ بِذَلِكَ وَالْمَرْأَةُ الْمُزَوَّجَةُ لَا يُشْرَعُ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ فِي الْبَرَارِي سَائِحَةً ؛ بَلْ الْمُرَادُ بِالسِّيَاحَةِ شَيْئَانِ . أَحَدُهُمَا الصِّيَامُ . كَمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَات فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ
مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ] (*) .
لَكِنْ إذَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْحَرَامَ أَوْ الشُّبْهَةَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَكَانَ الْإِثْمُ أَوْ النَّقْصُ الَّذِي عَلَيْهِ فِي التَّرْكِ أَعْظَمَ مِنْ الْإِثْمِ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْفِعْلِ لَمْ يُشْرَعْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ تَرَكَ مَالًا شُبْهَةً فِيهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ . فَسَأَلَهُ وَلَدُهُ أَتَرَكَ هَذَا الْمَالَ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ فَلَا أَقْضِيهِ ؟ فَقَالَ : لَهُ أَتَدَعُ . . . (1) .
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { حَقُّ الْيَقِينِ } وَ { عَيْنَ الْيَقِينِ } وَ { عِلْمَ الْيَقِينِ } فَمَا مَعْنَى كُلِّ مَقَامٍ مِنْهَا ؟ وَأَيُّ مَقَامٍ أَعْلَى ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَقَالَاتٌ مَعْرُوفَةٌ . ( مِنْهَا : أَنْ يُقَالَ : { عِلْمَ الْيَقِينِ } مَا عَلِمَهُ بِالسَّمَاعِ وَالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ وَ { عَيْنَ الْيَقِينِ } مَا شَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ بِالْبَصَرِ وَ { حَقُّ الْيَقِينِ } مَا بَاشَرَهُ وَوَجَدَهُ وَذَاقَهُ وَعَرَفَهُ بِالِاعْتِبَارِ . " فَالْأُولَى " مِثْلُ مَنْ أَخْبَرَ أَنَّ هُنَاكَ عَسَلًا وَصَدَّقَ الْمُخْبِرَ . أَوْ رَأَى آثَارَ الْعَسَلِ فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُودِهِ . وَ " الثَّانِي " مِثْلُ مَنْ رَأَى الْعَسَلَ وَشَاهَدَهُ وَعَايَنَهُ وَهَذَا أَعْلَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ الْمُخْبِرُ كَالْمُعَايِنِ } .
وَ " الثَّالِثُ " مِثْلُ مَنْ ذَاقَ الْعَسَلَ وَوَجَدَ طَعْمَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ ؛ وَلِهَذَا يُشِيرُ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ إلَى مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ : مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ رَسُولًا } فَالنَّاسُ فِيمَا يَجِدُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَيَذُوقُونَهُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَطَعْمُهُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ : " الْأُولَى " مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يُخْبِرُهُ بِهِ شَيْخٌ لَهُ يُصَدِّقُهُ أَوْ يُبَلِّغُهُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْعَارِفُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَوْ يَجِدُ مِنْ آثَارِ أَحْوَالِهِمْ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . وَ " الثَّانِيَةُ " مَنْ شَاهَدَ ذَلِكَ وَعَايَنَهُ مِثْلُ أَنْ يُعَايِنَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَوَاجِيدَهُمْ وَأَذْوَاقَهُمْ وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُشَاهِدْ مَا ذَاقُوهُ وَوَجَدُوهُ وَلَكِنْ شَاهَدَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَكِنْ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ الْمُخْبِرِ وَالْمُسْتَدِلِّ بِآثَارِهِمْ . وَ " الثَّالِثَةُ " أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ فِي نَفْسِهِ مَا كَانَ
سَمِعَهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ : لَقَدْ كُنْت فِي حَالٍ أَقُولُ فِيهَا إنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ إنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ . وَقَالَ آخَرُ : إنَّهُ لَيَمُرُّ عَلَى الْقَلْبِ أَوْقَاتٌ يَرْقُصُ مِنْهَا طَرَبًا . وَقَالَ الْآخَرُ : لَأَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِمْ أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ . وَالنَّاسُ فِيمَا أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ :
إحْدَاهَا الْعِلْمُ بِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَتْهُمْ الرُّسُلُ وَمَا قَامَ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ . " الثَّانِيَةُ " : إذَا عَايَنُوا مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ . وَ " الثَّالِثَةُ " إذَا بَاشَرُوا ذَلِكَ ؛ فَدَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ؛ وَذَاقُوا مَا كَانُوا يُوعَدُونَ وَدَخَلَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ وَذَاقُوا مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَالنَّاسُ فِيمَا يُوجَدُ فِي الْقُلُوبِ وَفِيمَا يُوجَدُ خَارِجَ الْقُلُوبِ عَلَى هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثِ . وَكَذَلِكَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا : فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِالْعِشْقِ أَوْ النِّكَاحِ وَلَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَذُقْهُ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِهِ فَإِنْ شَاهَدَهُ وَلَمْ يَذُقْهُ كَانَ لَهُ مُعَايَنَةٌ لَهُ فَإِنْ ذَاقَهُ بِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ وَخِبْرَةٌ بِهِ وَمَنْ لَمْ يَذُقْ الشَّيْءَ لَمْ يَعْرِفْ حَقِيقَتَهُ فَإِنَّ
الْعِبَارَةَ إنَّمَا تُفِيدُ التَّمْثِيلَ وَالتَّقْرِيبَ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْحَقِيقَةِ فَلَا تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعِبَارَةِ إلَّا لِمَنْ يَكُونُ قَدْ ذَاقَ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ وَعَرَفَهُ وَخَبَرَهُ ؛ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّهُمْ عُرِفُوا بِالْخِبْرَةِ وَالذَّوْقِ مَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ بِالْخَبَرِ وَالنَّظَرِ وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنَّ هِرَقْلَ مَلِكَ الرُّومِ سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِيمَا سَأَلَهُ عَنْهُ مِنْ أُمُورِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَهَلْ يَرْجِعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ سخطة لَهُ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ ؟ قَالَ : لَا قَالَ : وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إذَا خَالَطَتْ بَشَاشَتُهُ الْقَلْبَ لَا يُسْخِطُهُ أَحَدٌ } . فَالْإِيمَانُ إذَا بَاشَرَ الْقَلْبَ وَخَالَطَتْهُ بَشَاشَتُهُ لَا يُسْخِطُهُ الْقَلْبُ بَلْ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فَإِنَّ لَهُ مِنْ الْحَلَاوَةِ فِي الْقَلْبِ وَاللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالْبَهْجَةِ مَا لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ لِمَنْ لَمْ يَذُقْهُ وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي ذَوْقِهِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ لَهُ مِنْ الْبَشَاشَةِ مَا هُوَ بِحَسَبِهِ وَإِذَا خَالَطَتْ الْقَلْبَ لَمْ يُسْخِطْهُ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بِمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِبْشَارُ هُوَ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَجِدُونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْحَلَاوَةِ وَاللَّذَّةِ وَالْبَهْجَةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ .
وَ " اللَّذَّةُ " أَبَدًا تَتْبَعُ الْمَحَبَّةَ فَمَنْ أَحَبّ شَيْئًا وَنَالَ مَا أَحَبَّهُ وَجَدَ اللَّذَّةَ بِهِ ؛ فَالذَّوْقُ هُوَ إدْرَاكُ الْمَحْبُوبِ اللَّذَّةَ الظَّاهِرَةَ كَالْأَكْلِ مَثَلًا : حَالُ الْإِنْسَانِ فِيهَا أَنَّهُ يَشْتَهِي الطَّعَامَ وَيُحِبُّهُ ثُمَّ يَذُوقُهُ وَيَتَنَاوَلُهُ فَيَجِدُ حِينَئِذٍ لَذَّتَهُ وَحَلَاوَتَهُ وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ مَحَبَّةٌ أَعْظَمُ وَلَا أَكْمَلُ وَلَا أَتَمُّ مِنْ مَحَبَّةِ الْمُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ وَلَيْسَ فِي الْوُجُودِ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى . وَكُلُّ مَا يُحِبُّ سِوَاهُ فَمَحَبَّتُهُ تَبَعٌ لِحُبِّهِ فَإِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يُحِبُّ لِأَجْلِ اللَّهِ وَيُطَاعُ لِأَجْلِ اللَّهِ وَيُتَّبَعُ لِأَجْلِ اللَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } وَفِي الْحَدِيثِ { أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي لِحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبّ إلَيْهِ مَنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } . وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ { مَنْ أَحَبّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } فَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ كُلِّ مُحِبٍّ لِمَحْبُوبِهِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ .
وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَجِدُونَ بِسَبَبِ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ مَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ وَلِهَذَا عَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَجِدُونَهُ بِالْمَحَبَّةِ فَقَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ } . وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ ثَمَرَةِ التَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ . وَالتَّوَكُّلُ وَالدُّعَاءُ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَإِنَّ النَّاسَ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ :
" مِنْهُمْ " مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ سَمَاعًا وَاسْتِدْلَالًا .
" وَمِنْهُمْ " مَنْ شَاهَدَ وَعَايَنَ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ .
وَ " مِنْهُمْ " مَنْ وَجَدَ حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ الِالْتِجَاءَ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةَ بِهِ ، وَقَطَعَ التَّعَلُّقَ بِمَا سِوَاهُ وَجَرَّبَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ بِالْمَخْلُوقِينَ وَرَجَاهُمْ وَطَمِعَ فِيهِمْ أَنْ يَجْلِبُوا لَهُ مَنْفَعَةً أَوْ يَدْفَعُوا عَنْهُ مَضَرَّةً فَإِنَّهُ يُخْذَلُ مِنْ جِهَتِهِمْ ؛ وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بَلْ قَدْ يَبْذُلُ لَهُمْ مِنْ الْخِدْمَةِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَرْجُو أَنْ يَنْفَعُوهُ وَقْتَ حَاجَتِهِ إلَيْهِمْ فَلَا يَنْفَعُونَهُ : إمَّا لِعَجْزِهِمْ وَإِمَّا لِانْصِرَافِ قُلُوبِهِمْ عَنْهُ وَإِذَا
تَوَجَّهَ إلَى اللَّهِ بِصِدْقِ الِافْتِقَارِ إلَيْهِ وَاسْتَغَاثَ بِهِ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ؛ أَجَابَ دُعَاءَهُ ؛ وَأَزَالَ ضَرَرَهُ وَفَتَحَ لَهُ أَبْوَابَ الرَّحْمَةِ . فَمِثْلُ هَذَا قَدْ ذَاقَ مِنْ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ وَالدُّعَاءِ لِلَّهِ مَا لَمْ يَذُقْ غَيْرُهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ ذَاقَ طَعْمَ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ ؛ يَجِدُ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالنَّتَائِجِ وَالْفَوَائِدِ مَا لَا يَجِدُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ . بَلْ مَنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ فِي مِثْلِ طَلَبِ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ ؛ وَتَعَلُّقِهِ بِالصُّوَرِ الْجَمِيلَةِ أَوْ جَمْعِهِ لِلْمَالِ يَجِدُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مِنْ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْآلَامِ وَضِيقِ الصَّدْرِ مَا لَا يُعَبِّرُ عَنْهُ . وَرُبَّمَا لَا يُطَاوِعُهُ قَلْبُهُ عَلَى تَرْكِ الْهَوَى وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَا يَسُرُّهُ ؛ بَلْ هُوَ فِي خَوْفٍ وَحُزْنٍ دَائِمًا : إنْ كَانَ طَالِبًا لِمَا يَهْوَاهُ فَهُوَ قَبْلَ إدْرَاكِهِ حَزِينٌ مُتَأَلِّمٌ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ . فَإِذَا أَدْرَكَهُ كَانَ خَائِفًا مِنْ زَوَالِهِ وَفِرَاقِهِ . وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ؛ فَإِذَا ذَاقَ هَذَا أَوْ غَيْرُهُ حَلَاوَةَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ . وَالْعِبَادَةُ لَهُ . وَحَلَاوَةُ ذِكْرِهِ وَمُنَاجَاتِهِ . وَفَهِمَ كِتَابَهُ . وَأَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ بِحَيْثُ يَكُونُ عَمَلُهُ صَالِحًا . وَيَكُونُ لِوَجْهِ اللَّهِ خَالِصًا ؛ فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ السُّرُورِ وَاللَّذَّةِ وَالْفَرَحِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا يَجِدُهُ الدَّاعِي الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي نَالَ بِدُعَائِهِ وَتَوَكُّلِهِ مَا يَنْفَعُهُ مِنْ الدُّنْيَا . أَوْ انْدَفَعَ عَنْهُ مَا يَضُرُّهُ ؛ فَإِنَّ حَلَاوَةَ ذَلِكَ هِيَ بِحَسَبِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ
الْمَنْفَعَةِ أَوْ انْدَفَعَ عَنْهُ مِنْ الْمَضَرَّةِ وَلَا أَنْفَع لِلْقَلْبِ مِنْ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَلَا أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ الْإِشْرَاكِ . فَإِذَا وَجَدَ حَقِيقَةَ الْإِخْلَاصِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ { إيَّاكَ نَعْبُدُ } مَعَ حَقِيقَةِ التَّوَكُّلِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } كَانَ هَذَا فَوْقَ مَا يَجِدُهُ كُلُّ أَحَدٍ لَمْ يَجِدْ مِثْلَ هَذَا . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُؤَالُ أَبِي الْقَاسِمِ الْمَغْرِبِيِّ
يَتَفَضَّلُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ بَقِيَّةُ السَّلَفِ وَقُدْوَةُ الْخَلَفِ أَعْلَمُ مَنْ لَقِيت بِبِلَادِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ؛ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة " بِأَنْ يُوصِيَنِي بِمَا يَكُونُ فِيهِ صَلَاحُ دِينِي وَدُنْيَايَ ؟ وَيُرْشِدُنِي إلَى كِتَابٍ يَكُونُ عَلَيْهِ اعْتِمَادِي فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُنَبِّهُنِي عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ الْوَاجِبَاتِ وَيُبَيِّنُ لِي أَرْجَحَ الْمَكَاسِبِ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ الْإِيمَاءِ وَالِاخْتِصَارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُهُ . وَالسَّلَامُ الْكَرِيمُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَّا " الْوَصِيَّةُ " فَمَا أَعْلَمُ وَصِيَّةً أَنْفَعُ مِنْ وَصِيَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِمَنْ عَقَلَهَا
وَاتَّبَعَهَا . قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } . { وَوَصَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ فَقَالَ : يَا مُعَاذُ : اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ } . وَكَانَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ عَلِيَّةٍ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ : " { يَا مُعَاذُ وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبّكَ وَكَانَ يُرْدِفُهُ وَرَاءَهُ } . وَرُوِيَ فِيهِ : " أَنَّهُ أَعْلَم الْأُمَّةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَأَنَّهُ يُحْشَرُ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةِ - أَيْ بِخُطْوَةِ - " . وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّهُ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغًا عَنْهُ دَاعِيًا وَمُفَقِّهًا وَمُفْتِيًا وَحَاكِمًا إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ . وَكَانَ يُشَبِّهُهُ بِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِبْرَاهِيمُ إمَامُ النَّاسِ . وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : إنَّ مُعَاذًا كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ تَشْبِيهًا لَهُ بِإِبْرَاهِيمَ . ثُمَّ إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَّاهُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ فَعُلِمَ أَنَّهَا جَامِعَةٌ . وَهِيَ كَذَلِكَ لِمَنْ عَقَلَهَا مَعَ أَنَّهَا تَفْسِيرُ الْوَصِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ .
أَمَا بَيَانُ جَمْعِهَا فَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ حَقَّانِ :
حَقٌّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَحَقٌّ لِعِبَادِهِ . ثُمَّ الْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ لَا بُدَّ أَنْ يُخِلَّ بِبَعْضِهِ أَحْيَانًا : إمَّا بِتَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ أَوْ فِعْلِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْت } وَهَذِهِ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ وَفِي قَوْلِهِ " حَيْثُمَا كُنْت " تَحْقِيقٌ لِحَاجَتِهِ إلَى التَّقْوَى فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ . ثُمَّ قَالَ : { وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا } فَإِنَّ الطَّبِيبَ متى تَنَاوَلَ الْمَرِيضُ شَيْئًا مُضِرًّا أَمَرَهُ بِمَا يُصْلِحُهُ . وَالذَّنْبُ لِلْعَبْدِ كَأَنَّهُ أَمْرٌ حَتْمٌ . فَالْكَيِّسُ هُوَ الَّذِي لَا يَزَالُ يَأْتِي مِنْ الْحَسَنَاتِ بِمَا يَمْحُو السَّيِّئَاتِ . وَإِنَّمَا قَدَّمَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ " السَّيِّئَةَ " وَإِنْ كَانَتْ مَفْعُولَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا مَحْوُهَا لَا فِعْلُ الْحَسَنَةِ فَصَارَ { كَقَوْلِهِ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ : صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } . وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْحَسَنَاتُ مِنْ جِنْسِ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَحْوِ وَالذُّنُوبُ يَزُولُ مُوجِبُهَا بِأَشْيَاءَ : ( أَحَدُهَا ) التَّوْبَةُ . وَ ( الثَّانِي ) الِاسْتِغْفَارُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَغْفِرُ لَهُ إجَابَةً لِدُعَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَإِذَا اجْتَمَعَتْ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ فَهُوَ الْكَمَالُ . ( الثَّالِثُ ) الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الْمُكَفِّرَةُ : أَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُقَدَّرَةُ "
كَمَا يُكَفِّرُ الْمُجَامِعُ فِي رَمَضَانَ وَالْمُظَاهِرُ وَالْمُرْتَكِبُ لِبَعْضِ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ أَوْ تَارِكُ بَعْضِ وَاجِبَاتِهِ أَوْ قَاتِلُ الصَّيْدِ بِالْكَفَّارَاتِ الْمُقَدَّرَةِ وَهِيَ " أَرْبَعَةُ أَجْنَاسٍ " هَدْيٍ وَعِتْقٍ وَصَدَقَةٍ وَصِيَامٍ . وَأَمَّا " الْكَفَّارَاتُ الْمُطْلَقَةُ " كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ لِعُمَرِ : فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ ؛ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ فِي التَّكْفِيرِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمْعَةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَسَائِر الْأَعْمَالِ الَّتِي يُقَالُ فِيهَا : مَنْ قَالَ كَذَا وَعَمِلَ كَذَا غُفِرَ لَهُ أَوْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ لِمَنْ تَلَقَّاهَا مِنْ السُّنَنِ خُصُوصًا مَا صُنِّفَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِنَايَةَ بِهَذَا مِنْ أَشَدِّ مَا بِالْإِنْسَانِ الْحَاجَةُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مِنْ حِينِ يَبْلُغُ ؛ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَزْمِنَةِ الْفَتَرَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْجَاهِلِيَّةَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَنْشَأُ بَيْنَ أَهْلِ عِلْمٍ وَدِينٍ قَدْ يَتَلَطَّخُ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ بِعِدَّةِ أَشْيَاءَ فَكَيْفَ بِغَيْرِ هَذَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ
حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟ } هَذَا خَبَرٌ تَصْدِيقُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } وَلِهَذَا شَوَاهِدُ فِي الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ . وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ يَسْرِي فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الدِّينِ مِنْ الْخَاصَّةِ ؛ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مِنْهُمْ ابْنُ عُيَيْنَة ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ الْيَهُودِ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَكَثِيرًا مِنْ أَحْوَالِ النَّصَارَى قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الدِّينِ كَمَا يُبْصِرُ ذَلِكَ مَنْ فَهِمَ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَزَّلَهُ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ وَكَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَاهُ اللَّهُ وَجَعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ لَا بُدَّ أَنْ يُلَاحِظَ أَحْوَالَ الْجَاهِلِيَّةِ وَطَرِيقَ الْأُمَّتَيْنِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَرَى أَنْ قَدْ اُبْتُلِيَ بِبَعْضِ ذَلِكَ . فَأَنْفَعُ مَا لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ الْعِلْمُ بِمَا يُخَلِّصُ النُّفُوسَ مِنْ هَذِهِ الْوَرَطَاتِ وَهُوَ إتْبَاعُ السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ . وَالْحَسَنَاتُ مَا نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ .
وَمِمَّا يُزِيلُ مُوجِبَ الذُّنُوبِ " الْمَصَائِبُ الْمُكَفِّرَةُ " وَهِيَ كُلُّ مَا يُؤْلِمُ مِنْ هَمٍّ أَوْ حُزْنٍ أَوْ أَذًى فِي مَالٍ أَوْ عِرْضٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ . فَلَمَّا قَضَى بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ حَقَّ اللَّهِ : مِنْ عَمَلِ الصَّالِحِ وَإِصْلَاحِ الْفَاسِدِ قَالَ : " وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقِ حَسَنٍ " وَهُوَ حَقُّ النَّاسِ . وَجِمَاعُ الْخُلُقِ الْحَسَنِ مَعَ النَّاسِ : أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك بِالسَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ وَالدُّعَاءِ لَهُ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالزِّيَارَةِ لَهُ وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك مِنْ التَّعْلِيمِ وَالْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِ وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك فِي دَمٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ . وَبَعْضُ هَذَا وَاجِبٌ وَبَعْضُهُ مُسْتَحَبٌّ . وَأَمَّا الْخُلُقُ الْعَظِيمُ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ الدِّينُ الْجَامِعُ لِجَمِيعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُطْلَقًا هَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ كَمَا { قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ } وَحَقِيقَتُهُ الْمُبَادَرَةُ إلَى امْتِثَالِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِطِيبِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ . وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي وَصِيَّةِ اللَّهِ فَهُوَ أَنَّ اسْمَ تَقْوَى اللَّهِ يَجْمَعُ فِعْلَ كُلِّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ إيجَابًا وَاسْتِحْبَابًا وَمَا نَهَى عَنْهُ تَحْرِيمًا
وَتَنْزِيهًا وَهَذَا يَجْمَعُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُقُوقَ الْعِبَادِ . لَكِنْ لَمَّا كَانَ تَارَةً يَعْنِي بِالتَّقْوَى خَشْيَةَ الْعَذَابِ الْمُقْتَضِيَةَ لِلِانْكِفَافِ عَنْ الْمَحَارِمِ جَاءَ مُفَسَّرًا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ : { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ . قِيلَ : وَمَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ؟ قَالَ : الْأَجْوَفَانِ : الْفَمُ وَالْفَرْجُ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } فَجَعَلَ كَمَالَ الْإِيمَانِ فِي كَمَالِ حُسْنِ الْخُلُقِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ كُلَّهُ تَقْوَى اللَّهِ . وَتَفْصِيلُ أُصُولِ التَّقْوَى وَفُرُوعِهَا لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَوْضِعُ فَإِنَّهَا الدِّينُ كُلُّهُ ؛ لَكِنَّ يَنْبُوعَ الْخَيْرِ وَأَصْلَهُ : إخْلَاصُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عِبَادَةً وَاسْتِعَانَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَفِي قَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَفِي قَوْلِهِ : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } بِحَيْثُ يَقْطَعُ الْعَبْدُ تَعَلُّقَ قَلْبِهِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ انْتِفَاعًا بِهِمْ أَوْ عَمَلًا لِأَجْلِهِمْ وَيَجْعَلُ هِمَّتَهُ رَبَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ بِمُلَازَمَةِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ مِنْ فَاقَةٍ وَحَاجَةٍ وَمَخَافَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ
وَالْعَمَلِ لَهُ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ . وَمَنْ أَحَكَمَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ مَا يُعْقِبُهُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَا سَأَلْت عَنْهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَمَا يُنَاسِبُ أَوْقَاتَهُمْ فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ جَوَابٌ جَامِعٌ مُفَصَّلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ لَكِنْ مِمَّا هُوَ كَالْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ وَأَمْرِهِ : أَنَّ مُلَازَمَةَ ذِكْرِ اللَّهِ دَائِمًا هُوَ أَفْضَلُ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ بِهِ نَفْسَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ : { سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْمُفَرِّدُونَ ؟ قَالَ : الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ } وَفِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعُهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : ذِكْرُ اللَّهِ } . وَالدَّلَائِلُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْإِيمَانِيَّةُ بَصَرًا وَخَبَرًا وَنَظَرًا عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ . وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنْ يُلَازِمَ الْعَبْدُ الْأَذْكَارَ الْمَأْثُورَةَ عَنْ مُعَلِّمِ الْخَيْرِ وَإِمَامِ الْمُتَّقِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْأَذْكَارِ الْمُؤَقَّتَةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ
وَعِنْدَ أَخْذِ الْمَضْجَعِ وَعِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ الْمَنَامِ وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ الْمُقَيَّدَةِ مِثْلُ مَا يُقَالُ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالْجِمَاعِ وَدُخُولِ الْمَنْزِلِ وَالْمَسْجِدِ وَالْخَلَاءِ وَالْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ وَعِنْدَ الْمَطَرِ وَالرَّعْدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ صُنِّفَتْ لَهُ الْكُتُبُ الْمُسَمَّاةُ بِعَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ . ثُمَّ مُلَازَمَةُ الذِّكْرِ مُطْلَقًا وَأَفْضَلُهُ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " . وَقَدْ تَعْرِضُ أَحْوَالٌ يَكُونُ بَقِيَّةُ الذِّكْرِ مِثْلُ : " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " أَفْضَلُ مِنْهُ . ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ اللِّسَانُ وَتَصَوَّرَهُ الْقَلْبُ مِمَّا يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمٍ وَتَعْلِيمِهِ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ . وَلِهَذَا مَنْ اشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ النَّافِعِ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَوْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَتَفَقَّهُ أَوْ يُفَقِّهُ فِيهِ الْفِقْهَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِقْهًا فَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَفْضَلِ ذِكْرِ اللَّهِ . وَعَلَى ذَلِكَ إذَا تَدَبَّرْت لَمْ تَجِدْ بَيْنَ الْأَوَّلِينَ فِي كَلِمَاتِهِمْ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَبِيرَ اخْتِلَافٍ . وَمَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ عَلَى الْعَبْدِ فَعَلَيْهِ بِالِاسْتِخَارَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَمَا نَدِمَ مَنْ اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى . وَلْيُكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْ الدُّعَاءِ فَإِنَّهُ مِفْتَاحُ كُلِّ خَيْرٍ وَلَا يُعَجِّلُ فَيَقُولُ : قَدْ دَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي وَلْيَتَحَرَّ الْأَوْقَاتَ
الْفَاضِلَةَ : كَآخِرِ اللَّيْلِ وَأَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ الْأَذَانِ وَوَقْتَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَأَمَّا أَرْجَحُ الْمَكَاسِبِ : فَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ وَالثِّقَةُ بِكِفَايَتِهِ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ . وَذَلِكَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُهْتَمِّ بِأَمْرِ الرِّزْقِ أَنْ يَلْجَأَ فِيهِ إلَى اللَّهِ وَيَدْعُوَهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَأْثُرُ عَنْهُ نَبِيُّهُ : { كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمْته فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ . يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْته فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ } وَفِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى شِسْعَ نَعْلِهِ إذَا انْقَطَعَ فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ } . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ . { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي الْجُمْعَةِ فَمَعْنَاهُ قَائِمٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ . وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَم { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَإِذَا خَرَجَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك } وَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ وَهَذَا أَمْرٌ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ فَالِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ وَاللَّجَأُ إلَيْهِ فِي أَمْرِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ أَصْلٌ عَظِيمٌ .
ثُمَّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ لِيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ وَلَا يَأْخُذُهُ بِإِشْرَافِ وَهَلَعٍ ؛ بَلْ يَكُونُ الْمَالُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلَاءِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْقَلْبِ مَكَانَةٌ وَالسَّعْيُ فِيهِ إذَا سَعَى كَإِصْلَاحِ الْخَلَاءِ . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ : { مَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ شَتَّتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ . وَمَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ؟ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ } . وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ إلَى نَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ أَحْوَجُ فَإِنْ بَدَأْت بِنَصِيبِك مِنْ الْآخِرَةِ مَرَّ عَلَى نَصِيبِك مِنْ الدُّنْيَا فَانْتَظَمَهُ انْتِظَامًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } . فَأَمَّا تَعْيِينُ مَكْسَبٍ عَلَى مَكْسَبٍ مِنْ صِنَاعَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ بِنَايَةٍ أَوْ حِرَاثَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَلَا أَعْلَم فِي ذَلِكَ شَيْئًا عَامًّا لَكِنْ إذَا عَنَّ لِلْإِنْسَانِ جِهَةٌ فَلْيَسْتَخِرْ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا الِاسْتِخَارَةَ الْمُتَلَقَّاةَ عَنْ مُعَلِّمِ الْخَيْرِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْبَرَكَةِ مَا لَا يُحَاطُ بِهِ . ثُمَّ مَا تَيَسَّرَ لَهُ فَلَا يَتَكَلَّفُ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَرَاهَةٌ شَرْعِيَّةٌ .
وَأَمَّا مَا تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ فِي الْعُلُومِ فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَهُوَ أَيْضًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ نَشْءِ الْإِنْسَانِ فِي الْبِلَادِ فَقَدْ يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ مِنْ طَرِيقِهِ وَمَذْهَبِهِ فِيهِ مَا لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ لَكِنَّ جِمَاعَ الْخَيْرِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي تَلَقِّي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى عِلْمًا وَمَا سِوَاهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِلْمًا فَلَا يَكُونُ نَافِعًا ؟ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ عِلْمًا وَإِنْ سُمِّيَ بِهِ . وَلَئِنْ كَانَ عِلْمًا نَافِعًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي مِيرَاثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِثْلُهُ وَخَيْرٌ مِنْهُ . وَلْتَكُنْ هِمَّتُهُ فَهْمَ مَقَاصِدِ الرَّسُولِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَسَائِر كَلَامِهِ . فَإِذَا اطْمَأَنَّ قَلْبُهُ أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُ الرَّسُولِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مَعَ النَّاسِ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ . وَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَعْتَصِمَ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ بِأَصْلِ مَأْثُورٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِمَّا قَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ فَلْيَدْعُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إذَا قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ : اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَدْ قَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ : { يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَيْته فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ } . وَأَمَّا وَصْفُ " الْكُتُبِ وَالْمُصَنِّفِينَ " فَقَدْ سُمِعَ مِنَّا فِي أَثْنَاءِ الْمُذَاكَرَةِ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ . وَمَا فِي الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ الْمُبَوَّبَةِ كِتَابٌ أَنْفَع مِنْ " صَحِيحِ مُحَمَّدِ بْنِ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ " لَكِنْ هُوَ وَحْدَهُ لَا يَقُومُ بِأُصُولِ الْعِلْمِ . وَلَا يَقُومُ بِتَمَامِ الْمَقْصُودِ لِلْمُتَبَحِّرِ فِي أَبْوَابِ الْعِلْمِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحَادِيثَ أُخَرَ وَكَلَامُ أَهْلِ الْفِقْهِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ أَوْعَبَتْ الْأُمَّةُ فِي كُلِّ فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ إيعَابًا فَمَنْ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ هَدَاهُ بِمَا يَبْلُغُهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ أَعْمَاهُ لَمْ تَزِدْهُ كَثْرَةُ الْكُتُبِ إلَّا حَيْرَةً وَضَلَالًا ؛ كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ : أَوَلَيْسَتْ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؟ فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ ؟ } . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْهُدَى وَالسَّدَادَ وَيُلْهِمَنَا رُشْدَنَا وَيَقِيَنَا شَرَّ أَنْفُسِنَا وَأَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا ؟ وَيَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَوَاتُهُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ .
وَسُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَامِلُ الْحَبْرُ الْكَامِلُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَمُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَّة - أَيَّدَهُ اللَّهُ وَزَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ - :
عَنْ ( الصَّبْرِ الْجَمِيلِ وَ ( الصَّفْحِ الْجَمِيلِ ) وَ ( الْهَجْرِ الْجَمِيلِ ) وَمَا أَقْسَامُ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِالْهَجْرِ الْجَمِيلِ وَالصَّفْحِ الْجَمِيلِ وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ (*)
" فَالْهَجْرُ الْجَمِيلُ " هَجْرٌ بِلَا أَذًى وَ " الصَّفْحُ الْجَمِيلُ " صَفْحٌ بِلَا عِتَابٍ وَ " الصَّبْرُ الْجَمِيلُ " صَبْرٌ بِلَا شَكْوَى قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ } مَعَ قَوْلِهِ : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } فَالشَّكْوَى إلَى اللَّهِ لَا تُنَافِي الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَيُرْوَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ وَإِلَيْك الْمُشْتَكَى وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَبِك
الْمُسْتَغَاثُ وَعَلَيْك التكلان " وَمِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي اللَّهُمَّ إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي . أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي سَخَطُك أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ غَضَبُك لَك الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى } . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ : { إنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ } وَيَبْكِي حَتَّى يُسْمَعَ نَشِيجُهُ مِنْ آخِرِ الصُّفُوفِ ؛ بِخِلَافِ الشَّكْوَى إلَى الْمَخْلُوقِ . قُرِئَ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَنَّ طاوسا كَرِهَ أَنِينَ الْمَرِيضِ . وَقَالَ : إنَّهُ شَكْوَى . فَمَا أَنَّ حَتَّى مَاتَ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَكِيَ طَالَبَ بِلِسَانِ الْحَالِ إمَّا إزَالَةُ مَا يَضُرُّهُ أَوْ حُصُولُ مَا يَنْفَعُهُ وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ دُونَ خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : إذَا سَأَلْت فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْت فَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ } . وَلَا بُدَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ شَيْئَيْنِ : طَاعَتِهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَصَبْرِهِ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْقَضَاءِ الْمَقْدُورِ . فَالْأَوَّلُ هُوَ التَّقْوَى وَالثَّانِي هُوَ الصَّبْرُ . قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ
دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَدْ قَالَ يُوسُفُ : { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَلِهَذَا كَانَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَنَحْوُهُ مِنْ الْمَشَايِخِ الْمُسْتَقِيمِينَ يُوصُونَ فِي عَامَّةِ كَلَامِهِمْ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ : الْمُسَارَعَةُ إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالتَّقَاعُدِ عَنْ فِعْلِ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرُ وَالرِّضَا بِالْأَمْرِ الْمَقْدُورِ . وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ غَلِطَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعَامَّةِ ؛ بَلْ وَمِنْ السَّالِكِينَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْهَدُ الْقَدَرَ فَقَطْ وَيَشْهَدُ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ دُونَ الدِّينِيَّةِ فَيَرَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَبَيْنَ مَا يُسْخِطُهُ وَيُبْغِضُهُ وَإِنْ قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَبَيْنَ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَشْهَدُ الْجَمْعَ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ - سَعِيدُهَا وَشَقِيُّهَا - مَشْهَدَ الْجَمْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالنَّبِيُّ الصَّادِقُ وَالْمُتَنَبِّئُ الْكَاذِبُ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ وَأَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَالْمَرَدَةُ الشَّيَاطِينُ .
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الْجَمْعِ وَهَذِهِ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ وَمَلِيكُهُمْ لَا رَبَّ لَهُمْ غَيْرُهُ . وَلَا يَشْهَدُ الْفَرْقَ الَّذِي فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَفِعْلُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ؟ وَهُوَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَمُوَالَاةُ أَوْلِيَائِهِ وَمُعَادَاةُ أَعْدَائِهِ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَجِهَادُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْقَلْبِ وَالْيَدِ وَاللِّسَانِ . فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ هَذِهِ " الْحَقِيقَةَ الدِّينِيَّةَ " الْفَارِقَةَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَيَكُونُ مَعَ أَهْلِ " الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ " وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يُقِرُّونَ بِالْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ . إذْ هُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ
بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : تَسْأَلُهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَيَقُولُونَ اللَّهُ وَهُمْ مَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ . فَمَنْ أَقَرَّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ فَهُوَ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّ أُولَئِكَ يُقِرُّونَ بِالْمَلَائِكَةِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ لَكِنْ آمَنُوا بِبَعْضٍ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } . وَأَمَّا الَّذِي يَشْهَدُ " الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ " وَتَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ الشَّامِلَ لِلْخَلِيقَةِ وَيُقِرُّ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ تَحْتَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَيَسْلُكُ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَطَاعُوا أَمْرَ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ فَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ لَمَحُوا الْفَرْقَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ بِحَيْثُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ بَعْضِ الْأَبْرَارِ وَبَيْنَ بَعْضِ الْفُجَّارِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ آخَرِينَ اتِّبَاعًا لِظَنِّهِ وَمَا يَهْوَاهُ . فَيَكُونُ نَاقِصَ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا سَوَّى بَيْنَ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَيَكُونُ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِدِينِ اللَّهِ تَعَالَى الْفَارِقَ بِحَسَبِ مَا فَرَّقَ بِهِ بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ .
وَمَنْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الدِّينِيَّيْنِ دُونَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ كَانَ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ وَأُولَئِكَ يُشْبِهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْمَجُوسِ . وَمَنْ أَقَرَّ بِهِمَا وَجَعَلَ الرَّبَّ مُتَنَاقِضًا فَهُوَ مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ الَّذِي اعْتَرَضَ عَلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَخَاصَمَهُ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ . فَهَذَا التَّقْسِيمُ فِي الْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ . وَكَذَلِكَ هُمْ فِي " الْأَحْوَالِ وَالْأَفْعَالِ " . فَالصَّوَابُ مِنْهَا حَالَةُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَتَّقِي اللَّهَ فَيَفْعَلُ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكُ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَقْدُورِ فَهُوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ وَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } . وَإِذَا أَذْنَبَ اسْتَغْفَرَ وَتَابَ : لَا يَحْتَجُّ بِالْقَدَرِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَلَا يَرَى لِلْمَخْلُوقِ حُجَّةً عَلَى رَبِّ الْكَائِنَاتِ بَلْ يُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ وَلَا يَحْتَجُّ بِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِيهِ : { سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ } فَيُقِرُّ بِنِعْمَةِ
اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْحَسَنَاتِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ هَدَاهُ وَيَسَّرَهُ لِلْيُسْرَى وَيُقِرُّ بِذُنُوبِهِ مِنْ السَّيِّئَاتِ وَيَتُوبُ مِنْهَا كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : أَطَعْتُك بِفَضْلِك وَالْمِنَّةُ لَك وَعَصَيْتُك بِعِلْمِك وَالْحُجَّةُ لَك فَأَسْأَلُك بِوُجُوبِ حُجَّتِك عَلَيَّ وَانْقِطَاعِ حُجَّتِي إلَّا غَفَرْت لِي . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ : { يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا ؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } . وَهَذَا لَهُ تَحْقِيقٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَآخَرُونَ قَدْ يَشْهَدُونَ الْأَمْرَ فَقَطْ : فَتَجِدُهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي الطَّاعَةِ حَسَبَ الِاسْتِطَاعَةِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْقَدَرِ مَا يُوجِبُ لَهُمْ حَقِيقَةَ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ . وَآخَرُونَ يَشْهَدُونَ الْقَدَرَ فَقَطْ فَيَكُونُ عِنْدَهُمْ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ مَا لَيْسَ عِنْدَ أُولَئِكَ ؛ لَكِنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتِّبَاعَ شَرِيعَتِهِ وَمُلَازَمَةَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ الدِّينِ فَهَؤُلَاءِ يَسْتَعِينُونَ اللَّهَ وَلَا يَعْبُدُونَهُ وَاَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يَسْتَعِينُوهُ ؛ وَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَ " الْقِسْمُ الرَّابِعُ " شَرُّ الْأَقْسَامِ وَهُوَ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَسْتَعِينُهُ فَلَا هُوَ مَعَ الشَّرِيعَةِ الْأَمْرِيَّةِ . وَلَا مَعَ الْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ . وَانْقِسَامُهُمْ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ هُوَ فِيمَا يَكُونُ قَبْلَ وُقُوعِ الْمَقْدُورِ مِنْ تَوَكُّلٍ وَاسْتِعَانَةٍ وَنَحْوِ
ذَلِكَ ؛ وَمَا يَكُونُ بَعْدَهُ مِنْ صَبْرٍ وَرِضًا وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهُمْ فِي التَّقْوَى وَهِيَ طَاعَةُ الْأَمْرِ الدِّينِيِّ وَالصَّبْرُ عَلَى مَا يُقَدَّرُ عَلَيْهِ مِنْ الْقَدَرِ الْكَوْنِيِّ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ .
أَحَدُهَا أَهْلُ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ وَهُمْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَالثَّانِي الَّذِينَ لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ التَّقْوَى بِلَا صَبْرٍ مِثْلُ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَيَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ : لَكِنْ إذَا أُصِيبَ أَحَدُهُمْ فِي بَدَنِهِ بِمَرَضِ وَنَحْوِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي عِرْضِهِ أَوْ اُبْتُلِيَ بِعَدُوِّ يُخِيفُهُ عَظُمَ جَزَعُهُ وَظَهَرَ هَلَعُهُ . وَالثَّالِثُ قَوْمٌ لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الصَّبْرِ بِلَا تَقْوَى مِثْلُ الْفُجَّارِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى مَا يُصِيبُهُمْ فِي مِثْلِ أَهْوَائِهِمْ كَاللُّصُوصِ وَالْقُطَّاعِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى الْآلَامِ فِي مِثْلِ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ الْغَصْبِ وَأَخْذِ الْحَرَامِ ؛ وَالْكُتَّابِ وَأَهْلِ الدِّيوَانِ الَّذِينَ يَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فِي طَلَبِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ بِالْخِيَانَةِ وَغَيْرِهَا . وَكَذَلِكَ طُلَّابُ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى غَيْرِهِمْ يَصْبِرُونَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَذَى الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْمَحَبَّةِ لِلصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْ أَهْلِ الْعِشْقِ وَغَيْرِهِمْ يَصْبِرُونَ فِي مِثْلِ مَا يَهْوُونَهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَذَى وَالْآلَامِ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ
أَوْ فَسَادًا مِنْ طُلَّابِ الرِّئَاسَةِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ وَمِنْ طُلَّابِ الْأَمْوَالِ بِالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ نَظَرًا أَوْ مُبَاشَرَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ يَصْبِرُونَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ تَقْوَى فِيمَا تَرَكُوهُ مِنْ الْمَأْمُورِ وَفَعَلُوهُ مِنْ الْمَحْظُورِ وَكَذَلِكَ قَدْ يَصْبِرُ الرَّجُلُ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَصَائِبِ : كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ فِيهِ تَقْوَى إذَا قُدِّرَ . ( وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فَهُوَ شَرُّ الْأَقْسَامِ : لَا يَتَّقُونَ إذَا قَدَرُوا وَلَا يَصْبِرُونَ إذَا اُبْتُلُوا ؛ بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } { إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } فَهَؤُلَاءِ تَجِدُهُمْ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وأجبرهم إذَا قَدَرُوا وَمِنْ أَذَلِّ النَّاسِ وَأَجْزَعِهِمْ إذَا قُهِرُوا . إنْ قَهَرْتهمْ ذَلُّوا لَك وَنَافَقُوك وَحَابَوْك وَاسْتَرْحَمُوك وَدَخَلُوا فِيمَا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالذُّلِّ وَتَعْظِيمِ الْمَسْئُولِ وَإِنْ قَهَرُوك كَانُوا مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وَأَقْسَاهُمْ قَلْبًا وَأَقَلِّهِمْ رَحْمَةً وَإِحْسَانًا وَعَفْوًا كَمَا قَدْ جَرَّبَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ عَنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ أَبْعَدَ : مِثْلُ التَّتَارِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَمَنْ يُشْبِهُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِمْ . وَإِنْ كَانَ مُتَظَاهِرًا بِلِبَاسِ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ وَتُجَّارِهِمْ وَصُنَّاعِهِمْ فَالِاعْتِبَارُ بِالْحَقَائِقِ : { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ }
فَمَنْ كَانَ قَلْبُهُ وَعَمَلُهُ مِنْ جِنْسِ قُلُوبِ التَّتَارِ وَأَعْمَالِهِمْ كَانَ شَبِيهًا لَهُمْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَكَانَ مَا مَعَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ مَا يُظْهِرُهُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا مَعَهُمْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَمَا يُظْهِرُونَهُ مِنْهُ بَلْ يُوجَدُ فِي غَيْرِ التَّتَارِ الْمُقَاتِلِينَ مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ رِدَّةً وَأَوْلَى بِالْأَخْلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ التَّتَارِ . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَإِذَا كَانَ خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامَ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيَ مُحَمَّدٍ فَكُلُّ مَنْ كَانَ إلَى ذَلِكَ أَقْرَبَ وَهُوَ بِهِ أَشْبَهَ كَانَ إلَى الْكَمَالِ أَقْرَبَ وَهُوَ بِهِ أَحَقّ . وَمَنْ كَانَ عَنْ ذَلِكَ أَبْعَدَ وَشَبَهُهُ بِهِ أَضْعَفَ كَانَ عَنْ الْكَمَالِ أَبْعَدَ وَبِالْبَاطِلِ أَحَقّ . وَالْكَامِلُ هُوَ مَنْ كَانَ لِلَّهِ أَطْوَع وَعَلَى مَا يُصِيبُهُ أَصْبَر فَكُلَّمَا كَانَ أَتْبَعَ لِمَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَعْظَمَ مُوَافَقَةً لِلَّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَصَبْرًا عَلَى مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ كَانَ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ . وَكُلُّ مَنْ نَقَصَ عَنْ هَذَيْنِ كَانَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ بِحَسَبِ ذَلِكَ .
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى " الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى " جَمِيعًا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْتَصِرُ الْعَبْدُ عَلَى عَدُوِّهِ مِنْ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَعَلَى مَنْ ظَلَمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِصَاحِبِهِ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } { هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } وَقَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ لَهُ : { أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَقَدْ قُرِنَ الصَّبْرُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَقَالَ تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } . وَفِي اتِّبَاعِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ التَّقْوَى كُلُّهَا تَصْدِيقًا لِخَبَرِ اللَّهِ وَطَاعَةً لِأَمْرِهِ وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } { وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } فَهَذِهِ مَوَاضِعُ قُرِنَ فِيهَا الصَّلَاةُ وَالصَّبْرُ . وَقُرِنَ بَيْنَ " الرَّحْمَةِ وَالصَّبْرِ " فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } . وَفِي الرَّحْمَةِ الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ بِالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا ؛ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ أَيْضًا رُبَاعِيَّةٌ إذْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَصْبِرُ وَلَا يَرْحَمُ كَأَهْلِ الْقُوَّةِ وَالْقَسْوَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْحَمُ وَلَا يَصْبِرُ كَأَهْلِ الضَّعْفِ وَاللِّينِ : مِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ وَمَنْ يُشْبِهُهُنَّ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَصْبِرُ وَلَا يَرْحَمُ كَأَهْلِ الْقَسْوَةِ وَالْهَلَعِ . وَالْمَحْمُودُ هُوَ الَّذِي يَصْبِرُ وَيَرْحَمُ كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي الْمُتَوَلِّي : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ فَبِصَبْرِهِ يَقْوَى وَبِلِينِهِ يَرْحَمُ وَبِالصَّبْرِ يُنْصَرُ الْعَبْدُ ؛ فَإِنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَبِالرَّحْمَةِ يَرْحَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ } وَقَالَ : { مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ } وَقَالَ : " { لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ } وَقَالَ { الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ انْتَهَى .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ القشيري فِي بَابِ الرِّضَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ : الرِّضَا أَلَّا يَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا يَسْتَعِيذَ مِنْ النَّارِ ، فَهَلْ هَذَا الْكَلَامُ صَحِيحٌ ؟ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ (*) :
أَحَدِهِمَا : مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِهِ عَنْ الشَّيْخِ .
وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ وَفَسَادِهِ .
أَمَّا " الْمَقَامُ الْأَوَّلُ " فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْأُسْتَاذَ أَبَا الْقَاسِمِ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِإِسْنَادِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ مُرْسَلًا عَنْهُ وَمَا يَذْكُرُهُ أَبُو الْقَاسِمِ فِي رِسَالَتِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ . تَارَةً يَذْكُرُهُ بِإِسْنَادِ وَتَارَةً يَذْكُرُهُ مُرْسَلًا وَكَثِيرًا مَا يَقُولُ : وَقِيلَ كَذَا - ثُمَّ الَّذِي يَذْكُرُهُ بِإِسْنَادِ تَارَةً يَكُونُ إسْنَادُهُ
صَحِيحًا وَتَارَةً يَكُونُ ضَعِيفًا ؛ بَلْ مَوْضُوعًا . وَمَا يَذْكُرُهُ مُرْسَلًا وَمَحْذُوفُ الْقَائِلِ أَوْلَى وَهَذَا كَمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي مُصَنَّفَاتِ الْفُقَهَاءِ . فَإِنَّ فِيهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ مَا هُوَ صَحِيحٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْضُوعٌ . فَالْمَوْجُودُ فِي كُتُبِ الرَّقَائِقِ وَالتَّصَوُّفِ مِنْ الْآثَارِ الْمَنْقُولَةِ فِيهَا الصَّحِيحُ وَفِيهَا الضَّعِيفُ وَفِيهَا الْمَوْضُوعُ . وَهَذَا الْأَمْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَنَازَعُونَ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ فِيهَا هَذَا وَفِيهَا هَذَا ؛ بَلْ نَفْسُ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي " التَّفْسِيرِ " فِيهَا هَذَا وَهَذَا مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ أَقْرَبُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولَاتِ وَفِي كُتُبِهِمْ هَذَا وَهَذَا فَكَيْفَ غَيْرُهُمْ . وَالْمُصَنِّفُونَ قَدْ يَكُونُونَ أَئِمَّةً فِي الْفِقْهِ أَوْ التَّصَوُّفِ أَوْ الْحَدِيثِ وَيَرْوُونَ هَذَا تَارَةً لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الدِّينِ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يَحْتَجُّونَ بِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ كَذِبٌ وَتَارَةً - يَذْكُرُونَهُ وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ : إذْ قَصْدُهُمْ رِوَايَةُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ الْبَابِ وَرِوَايَةُ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ مَعَ بَيَانِ كَوْنِهَا كَذِبًا جَائِزٌ . وَأَمَّا رِوَايَتُهَا مَعَ الْإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ رِوَايَةُ عَمَلٍ فَإِنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَدَّثَ عَنِّي حَدِيثًا وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ } . وَقَدْ فَعَلَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ
مُتَأَوِّلِينَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا وَإِنَّمَا نَقَلُوا مَا رَوَاهُ غَيْرُهُمْ وَهَذَا يَسْهُلُ إذْ رَوَوْهُ لِتَعْرِيفِ أَنَّهُ رُوِيَ لَا لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا يُوجَدُ فِي " الرِّسَالَةِ " وَأَمْثَالِهَا : مِنْ كُتُبِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ فِيهِ : الصَّحِيحُ وَالضَّعِيفُ وَالْمَوْضُوعُ . فَالصَّحِيحُ الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى صِدْقِهِ وَالْمَوْضُوعُ الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى كَذِبِهِ وَالضَّعِيفُ الَّذِي رَوَاهُ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ صِدْقُهُ إمَّا لِسُوءِ حِفْظِهِ وَإِمَّا لِاتِّهَامِهِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِيهِ ؛ فَإِنَّ الْفَاسِقَ قَدْ يَصْدُقُ والغالط قَدْ يَحْفَظُ . وَغَالِبُ أَبْوَابِ " الرِّسَالَةِ " فِيهَا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ . وَمِنْ ذَلِكَ ( بَابُ الرِّضَا فَإِنَّهُ ذُكِرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا } . وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَإِنْ كَانَ الْأُسْتَاذُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ لَكِنَّهُ رَوَاهُ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ . وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ حَدِيثًا ضَعِيفًا - بَلْ مَوْضُوعًا - وَهُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الَّذِي رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى الرقاشي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ أَوَّلَ حَدِيثٍ ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ
فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى مِنْ أَوْهَى الْأَحَادِيثِ وأسقطها وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا وَلَا يُحْتَجُّ بِهَا ؛ فَإِنَّ الضَّعْفَ ظَاهِرٌ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِمْ لِسُوءِ الْحِفْظِ لَا لِاعْتِمَادِ الْكَذِبِ وَهَذَا الرقاشي اتَّفَقُوا عَلَى ضَعْفِهِ كَمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ ؛ حَتَّى قَالَ أَيُّوبُ السختياني : لَوْ وُلِدَ أَخْرَسَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة : لَا شَيْءَ وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي : هُوَ ضَعِيفٌ . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : رَجُلُ سُوءٍ . وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْآثَارِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ آثَارًا حَسَنَةً بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ مِثْلُ مَا رَوَاهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ الداراني أَنَّهُ قَالَ : " إذَا سَلَا الْعَبْدُ عَنْ الشَّهَوَاتِ فَهُوَ رَاضٍ " فَإِنَّ هَذَا رَوَاهُ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي بِإِسْنَادِهِ وَالشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِجَمْعِ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَحِكَايَاتِهِمْ وَصَنَّفَ فِي الْأَسْمَاءِ كِتَابَ طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ وَ كِتَابَ زُهَّادِ السَّلَفِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَصَنَّفَ فِي الْأَبْوَابِ كِتَابَ مَقَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَمُصَنَّفَاتُهُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ .
وَذُكِرَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت النَّصْرَ آبَادِي يَقُولُ . مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ مَحَلَّ الرِّضَا فَلْيَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَإِنَّهُ مَنْ لَزِمَ مَا يُرْضِي اللَّهَ مِنْ امْتِثَالِ
أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ لَا سِيَّمَا إذَا قَامَ بِوَاجِبِهَا وَمُسْتَحَبِّهَا فَإِنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنْهُ كَمَا أَنَّ مَنْ لَزِمَ مَحْبُوبَاتِ الْحَقِّ أَحَبَّهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ : { مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْته } الْحَدِيثَ . وَذَلِكَ أَنَّ الرِّضَا نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا الرِّضَا بِفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرْكِ مَا نُهِيَ عَنْهُ . وَيَتَنَاوَلُ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ إلَى الْمَحْظُورِ كَمَا قَالَ : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } وَهَذَا الرِّضَا وَاجِبٌ ؛ وَلِهَذَا ذَمَّ مَنْ تَرَكَهُ بِقَوْلِهِ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } . ( وَالنَّوْعُ الثَّانِي الرِّضَا بِالْمَصَائِبِ : كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ وَالذُّلِّ فَهَذَا الرِّضَا مُسْتَحَبٌّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَلَيْسَ بِوَاجِبِ وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ وَاجِبٌ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الصَّبْرُ . كَمَا قَالَ الْحَسَنُ : الرِّضَا غَرِيزَةٌ وَلَكِنَّ الصَّبْرَ مُعَوَّلُ الْمُؤْمِنِ . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَعْمَلَ بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِينِ فَافْعَلْ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإِنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا } .
وَأَمَّا الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ : فَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الدِّينِ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَاهُ كَمَا قَالَ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَقَالَ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } وَقَالَ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } فَإِذَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَرْضَى لَهُمْ مَا عَمِلُوهُ بَلْ يُسْخِطُهُ ذَلِكَ وَهُوَ يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ وَيَغْضَبُ عَلَيْهِمْ فَكَيْفَ يُشْرَعُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَرْضَى ذَلِكَ أَلَّا يَسْخَطَ وَيَغْضَبَ لِمَا يُسْخِطُ اللَّهَ وَيُغْضِبُهُ . وَإِنَّمَا ضَلَّ هُنَا " فَرِيقَانِ " مِنْ النَّاسِ : " قَوْمٌ " مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ فِي مُنَاظَرَةِ الْقَدَرِيَّةِ ظَنُّوا أَنَّ مَحَبَّةَ الْحَقِّ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ وَسَخَطَهُ يَرْجِعُ إلَى إرَادَتِهِ وَقَدْ
عَلِمُوا أَنَّهُ مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ . وَقَالُوا : هُوَ أَيْضًا مُحِبٌّ لَهَا مُرِيدٌ لَهَا ثُمَّ أَخَذُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلَامَ عَنْ مَوَاضِعِهِ . فَقَالُوا : لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ بِمَعْنَى لَا يُرِيدُ الْفَسَادَ : أَيْ لَا يُرِيدُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ . أَيْ لَا يُرِيدُهُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ : لَا يُحِبُّ الْإِيمَانَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْإِيمَانَ : أَيْ لَا يُرِيدُهُ لِلْكَافِرِينَ وَلَا يَرْضَاهُ لِلْكَافِرِينَ وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا يُحِبُّهُ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَعَ ذَلِكَ وَاجِبًا وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لَيْسَ بِوَاجِبِ سَوَاءٌ فَعَلَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ . وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . ( وَالْفَرِيقُ الثَّانِي ) مِنْ غَالِطِي الْمُتَصَوِّفَةِ شَرِبُوا مِنْ هَذِهِ الْعَيْنِ : فَشَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ رَبُّ الْكَائِنَاتِ جَمِيعِهَا وَعَلِمُوا أَنَّهُ قَدَّرَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَشَاءَهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ رَاضِينَ حَتَّى يَرْضَوْا بِكُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيه مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : الْمَحَبَّةُ نَارٌ تُحْرِقُ مِنْ الْقَلْبِ كُلَّ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ . قَالُوا : وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُ الْمَحْبُوبِ . وَضَلَّ هَؤُلَاءِ ضَلَالًا عَظِيمًا حَيْثُ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ وَالْإِذْنِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ وَالْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ وَالْبَعْثِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ . وَالْإِرْسَالِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ . كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَهَؤُلَاءِ يَئُولُ الْأَمْرُ بِهِمْ إلَى أَلَّا يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُتَّقِينَ . وَيَجْعَلُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُونَ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وَيَجْعَلُونَ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ وَيُعَطِّلُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالشَّرَائِعَ وَرُبَّمَا سَمَّوْا هَذَا " حَقِيقَةً " وَلَعَمْرِي إنَّهُ حَقِيقَةٌ كَوْنِيَّةٌ لَكِنَّ هَذِهِ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ قَدْ عَرَفَهَا عُبَّادُ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } الْآيَاتِ . فَالْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ فَمَنْ كَانَ هَذَا مُنْتَهَى تَحْقِيقِهِ كَانَ أَقْرَبَ أَنْ يَكُونَ كَعُبَّادِ الْأَصْنَامِ . وَ " الْمُؤْمِنُ " إنَّمَا فَارَقَ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ وَبِتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا أَخْبَرُوا وَطَاعَتِهِمْ فِيمَا أَمَرُوا وَاتِّبَاعِ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ . وَيُحِبُّهُ دُونَ مَا يُقَدِّرُهُ وَيَقْضِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَلَكِنْ يَرْضَى بِمَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَصَائِبِ لَا بِمَا فَعَلَهُ مِنْ المعائب . فَهُوَ مِنْ الذُّنُوبِ يَسْتَغْفِرُ . وَعَلَى الْمَصَائِبِ يَصْبِرُ . فَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } فَيَجْمَعُ بَيْنَ طَاعَةِ الْأَمْرِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ . كَمَا
قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } وَقَالَ يُوسُفُ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } . وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " : أَنَّ مَا ذَكَرَهُ القشيري عَنْ النَّصْرِ آبَادِي مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ حَيْثُ قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ مَحَلَّ الرِّضَا فَلْيَلْزَمْ مَا جَعَلَ اللَّهُ رِضَاهُ فِيهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ : إذَا سَلَا الْعَبْدُ عَنْ الشَّهَوَاتِ فَهُوَ رَاضٍ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرِّضَا وَالْقَنَاعَةِ طَلَبُ نَفْسِهِ لِفُضُولِ شَهَوَاتِهَا فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ سَخَطٌ فَإِذَا سَلَا عَنْ شَهَوَاتِ نَفْسِهِ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ لِبِشْرِ الْحَافِي : الرِّضَا أَفْضَلُ مِنْ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ الرَّاضِيَ لَا يَتَمَنَّى فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ كَلَامٌ حَسَنٌ . لَكِنْ أَشُكُّ فِي سَمَاعِ بِشْرٍ الْحَافِي مِنْ الْفُضَيْل . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا قَالَ : قَالَ الشِّبْلِيُّ بَيْنَ يَدَيْ الْجُنَيْد : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . فَقَالَ الْجُنَيْد : قَوْلُك ذَا ضِيقِ صَدْرٍ وَضِيقُ الصَّدْرِ لِتَرْكِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ . فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ . وَكَانَ الْجُنَيْد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَيِّدَ الطَّائِفَةِ وَمِنْ أَحْسَنِهِمْ تَعْلِيمًا وَتَأْدِيبًا وَتَقْوِيمًا - وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَلِمَةُ اسْتِعَانَةٍ ؛ لَا كَلِمَةُ اسْتِرْجَاعٍ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُهَا عِنْدَ الْمَصَائِبِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ وَيَقُولُهَا جَزَعًا لَا صَبْرًا . فالْجُنَيْد
أَنْكَرَ عَلَى الشِّبْلِيِّ حَالَهُ فِي سَبَبِ قَوْلِهِ لَهَا إذْ كَانَتْ حَالًا يُنَافِي الرِّضَا وَلَوْ قَالَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ . وَفِيمَا ذَكَرَهُ آثَارٌ ضَعِيفَةٌ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا . ( قَالَ وَقِيلَ : قَالَ مُوسَى : " إلَهِي دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْته رَضِيت عَنِّي . فَقَالَ : إنَّك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَخَرَّ مُوسَى سَاجِدًا مُتَضَرِّعًا فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : يَا ابْنَ عِمْرَانَ رِضَائِي فِي رِضَاك عَنِّي " فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ الإسرائيلية فِيهَا نَظَرٌ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ : لَا يَصْلُحُ أَنْ يُحْكَى مِثْلُهَا عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الإسرائيليات لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ وَلَا يَقُومُ بِهَا حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ إلَّا إذَا كَانَتْ مَنْقُولَةً لَنَا نَقْلًا صَحِيحًا مِثْلُ مَا ثَبَتَ عَنْ نَبِيِّنَا أَنَّهُ حَدَّثَنَا بِهِ عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَكِنَّ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ مِثْلُ هَذِهِ ؛ فَإِنَّ مُوسَى مِنْ أَعْظَمِ أُولِي الْعَزْمِ وَأَكَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يُطِيقُ أَنْ يَعْمَلَ مَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ عَنْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى رَاضٍ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ . أَفَلَا يَرْضَى عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ كَلِيمِ الرَّحْمَنِ وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } { جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَفْضَلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .
ثُمَّ إنَّ اللَّهَ خَصَّ مُوسَى بِمَزِيَّةِ فَوْقَ الرِّضَا . حَيْثُ قَالَ : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } . ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ لَهُ فِي الْخِطَابِ : يَا ابْنَ عِمْرَانَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ خِطَابِهِ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ : يَا مُوسَى وَذَلِكَ الْخِطَابُ فِيهِ نَوْعُ غَضٍّ مِنْهُ كَمَا يَظْهَرُ . وَمِثْلُ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ قِيلَ : كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الرِّضَا فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَرْضَى وَإِلَّا فَاصْبِرْ . فَهَذَا الْكَلَامُ كَلَامٌ حَسَنٌ . وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ إسْنَادُهُ . وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا وَمُعَلَّقًا مَا هُوَ صَحِيحٌ وَغَيْرُهُ . فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ إلَّا مُرْسَلَةً . وَبِمِثْلِ ذَلِكَ لَا تَثْبُتُ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ فَهَذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمُرْسَلَ هُوَ مِثْلُ الضَّعِيفِ وَغَيْرِ الضَّعِيفِ . فَأَمَّا إذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَارَةً يَحْفَظُ الْإِسْنَادَ وَتَارَةً يَغْلَطُ فِيهِ . وَالْكُتُبُ الْمُسْنَدَةُ فِي أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَكَلَامِهِمْ مِثْلِ كِتَابِ ( حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ لِأَبِي نُعَيْمٍ وَ ( طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَ ( صَفْوَةِ الصَّفْوَةِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ . أَلَا تَرَى الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ مُسْنَدًا حَيْثُ قَالَ : قَالَ لِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَوَارِيِّ : يَا أَحْمَد لَقَدْ أُوتِيت مِنْ الرِّضَا
نَصِيبًا لَوْ أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا . فَهَذَا الْكَلَامُ مَأْثُورٌ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِالْإِسْنَادِ ؛ وَلِهَذَا أَسْنَدَهُ عَنْهُ القشيري مِنْ طَرِيقِ شَيْخِهِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ؛ بِخِلَافِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُسْنَدْ عَنْهُ . فَلَا أَصْلَ لَهَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ . ثُمَّ إنَّ القشيري قَرَنَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ الثَّانِيَةَ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ بِكَلِمَةِ أَحْسَنَ مِنْهَا فَإِنَّهُ قَبِلَ أَنْ يَرْوِيَهَا قَالَ : وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ الحيري النَّيْسَابُورِيّ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ } فَقَالَ : لِأَنَّ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ هُوَ الرِّضَا . فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو عُثْمَانَ كَلَامٌ حَسَنٌ سَدِيدٌ . ثُمَّ أُسْنِدَ بَعْدَ هَذَا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ : أَرْجُو أَنْ أَكُونَ قَدْ عَرَفْت طَرَفًا مِنْ الرِّضَا . لَوْ أَنَّهُ أَدْخَلَنِي النَّارَ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا . فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ لَيْسَ هُوَ رِضًا . وَإِنَّمَا هُوَ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا وَإِنَّمَا الرِّضَا مَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَضَاءِ وَإِنْ كَانَ هَذَا عَزْمًا فَالْعَزْمُ قَدْ يَدُومُ وَقَدْ يَنْفَسِخُ وَمَا أَكْثَرُ انْفِسَاخِ الْعَزَائِمِ خُصُوصًا عَزَائِمَ الصُّوفِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ : بِمَاذَا عَرَفْت رَبَّك ؟ قَالَ : بِفَسْخِ الْعَزَائِمِ وَنَقْضِ الْهِمَمِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا
تَفْعَلُونَ } { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ { أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ عَلِمْنَا أَيَّ الْعَمَلِ أَحَبّ إلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } الْآيَةَ . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى الْجِهَادِ وَأَحَبُّوهُ لَمَّا اُبْتُلُوا بِهِ كَرِهُوهُ وَفَرُّوا مِنْهُ وَأَيْنَ أَلَمُ الْجِهَادِ مِنْ أَلَمِ النَّارِ ؟ وَعَذَابُ اللَّهِ الَّذِي لَا طَاقَةَ لِأَحَدِ بِهِ وَمِثْلُ هَذَا مَا يَذْكُرُونَهُ عَنْ سمنون الْمُحِبِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ :
وَلَيْسَ لِي فِي سِوَاك حَظٌّ * * * فَكَيْفَمَا شِئْت فَاخْتَبِرْنِي
فَأَخَذَهُ الْعُسْرُ مِنْ سَاعَتِهِ : أَيْ حَصَرَهُ بَوْلُهُ ؛ فَكَانَ يَدُورُ عَلَى الْمَكَاتِبِ وَيُفَرِّقُ الْجَوْزَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَيَقُولُ : اُدْعُوا لِعَمِّكُمْ الْكَذَّابِ . وَحَكَى أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني عَنْ أَبِي بَكْرٍ الواسطي أَنَّهُ قَالَ سمنون : يَا رَبِّ قَدْ رَضِيت بِكُلِّ مَا تَقْضِيه عَلَيَّ فَاحْتُبِسَ بَوْلُهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا ؛ فَكَانَ يَتَلَوَّى كَمَا تَتَلَوَّى الْحَيَّةُ يَتَلَوَّى يَمِينًا وَشِمَالًا ؛ فَلَمَّا
أُطْلِقَ بَوْلُهُ ؛ قَالَ : رَبِّ قَدْ تُبْت إلَيْك . قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ : فَهَذَا الرِّضَا الَّذِي ادَّعَى سمنون ظَهَرَ غَلَطُهُ فِيهِ بِأَدْنَى بَلْوَى مَعَ أَنَّ سمنونا هَذَا كَانَ يَضْرِبُ بِهِ الْمَثَلَ وَلَهُ فِي الْمَحَبَّةِ مَقَامٌ مَشْهُورٌ حَتَّى رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ ابْنِ فاتك أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت سمنونا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَجَاءَ طَائِرٌ صَغِيرٌ فَلَمْ يَزَلْ يَدْنُو مِنْهُ حَتَّى جَلَسَ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ بِمِنْقَارِهِ الْأَرْضَ حَتَّى سَقَطَ مِنْهُ دَمٌ ؛ وَمَاتَ الطَّائِرُ . وَقَالَ رَأَيْته يَوْمًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَحَبَّةِ فَاصْطَفَقَتْ قَنَادِيلُ الْمَسْجِدِ وَكَسَرَ بَعْضُهَا بَعْضًا . وَقَدْ ذَكَرَ القشيري فِي ( بَابِ الرِّضَا عَنْ رويم الْمُقْرِي رَفِيقُ سمنون حِكَايَةً تُنَاسِبُ هَذَا حَيْثُ قَالَ : قَالَ رويم : إنَّ الرَّاضِيَ لَوْ جَعَلَ جَهَنَّمَ عَنْ يَمِينِهِ مَا سَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُحَوِّلَهَا عَنْ يَسَارِهِ ؛ فَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَ سمنون : فَكَيْفَ مَا شِئْت فَامْتَحِنِّي . وَإِذَا لَمْ يُطِقْ الصَّبْرَ عَلَى عُسْرِ الْبَوْلِ ؛ أَفَيُطِيقُ أَنْ تَكُونَ النَّارُ عَنْ يَمِينِهِ . والْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ كَانَ أَعْلَى طَبَقَةً مِنْ هَؤُلَاءِ وَابْتُلِيَ بِعُسْرِ الْبَوْلِ فَغَلَبَهُ الْأَلَمُ حَتَّى قَالَ : بِحُبِّي لَك إلَّا فَرَّجْت عَنِّي ؛ فَفُرِّجَ عَنْهُ . ورويم وَإِنْ كَانَ مِنْ رُفَقَاءِ الْجُنَيْد فَلَيْسَ هُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ ؛ بَلْ الصُّوفِيَّةُ يَقُولُونَ : إنَّهُ رَجَعَ إلَى الدُّنْيَا وَتَرَكَ التَّصَوُّفَ ؛ حَتَّى رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ الخلدي صَاحِبِ الْجُنَيْد أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَكْتِمَ سِرًّا
فَلْيَفْعَلْ . كَمَا فَعَلَ رويم . كَتَمَ حُبّ الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ سَنَةً فَقِيلَ : وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : وُلِّيَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ الْقَاضِي قَضَاءَ بَغْدَادَ وَكَانَ بَيْنَهُمَا مَوَدَّةٌ أَكِيدَةٌ ؛ فَجَذَبَهُ إلَيْهِ وَجَعَلَهُ وَكِيلًا عَلَى بَابِهِ فَتَرَكَ لُبْسَ التَّصَوُّفِ وَلُبْسَ الْخَزِّ وَالْقَصَبِ والديبقي وَأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَبَنْيِ الدُّورِ وَإِذَا هُوَ كَانَ يَكْتُمُ حُبّ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَجِدْهَا فَلَمَّا وَجَدَهَا أَظْهَرَ مَا كَانَ يَكْتُمُ مِنْ حُبِّهَا . هَذَا مَعَ أَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ لَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَكَانَ عَلَى مَذْهَبِ دَاوُد . وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَصْدُرُ عَنْ صَاحِبِ حَالٍ لَمْ يُفَكِّرْ فِي لَوَازِمِ أَقْوَالِهِ وَعَوَاقِبِهَا لَا تُجْعَلُ طَرِيقَةً وَلَا تُتَّخَذُ سَبِيلًا ؛ وَلَكِنْ قَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا لِصَاحِبِهَا مِنْ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَا مَعَهُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ حُقُوقِ الطَّرِيقِ وَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ وَمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ ، وَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَعْلَم بِطَرِيقِ سَبِيلِ اللَّهِ وَأَهْدَى وَأَنْصَحُ فَمَنْ خَرَجَ عَنْ سُنَّتِهِمْ وَسَبِيلِهِمْ كَانَ مَنْقُوصًا مُخْطِئًا مَحْرُومًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ كَافِرًا . وَيُشْبِهُ هَذَا : { الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهُوَ مَرِيضٌ كَالْفَرْخِ فَقَالَ : هَلْ كُنْت تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءِ قَالَ : كُنْت أَقُولُ : اللَّهُمَّ مَا كُنْت معذبني بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَاجْعَلْهُ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تَسْتَطِيعُهُ وَلَا تُطِيقُهُ هَلَّا قُلْت : رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } فَهَذَا أَيْضًا حَمَلَهُ خَوْفُهُ مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَمَحَبَّتُهُ لِسَلَامَةِ عَاقِبَتِهِ عَلَى أَنْ يَطْلُبَ تَعْجِيلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَكَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ غالطا . وَالْخَطَأُ وَالْغَلَطُ مَعَ حُسْنِ الْقَصْدِ وَسَلَامَتِهِ وَصَلَاحِ الرَّجُلِ وَفَضْلِهِ وَدِينِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَكَرَامَاتِهِ كَثِيرٌ جِدًّا فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ وَلِيِّ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا مِنْ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ ؛ بَلْ وَلَا مِنْ الذُّنُوبِ وَأَفْضَلُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بَعْدَ الرُّسُلِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَهُ لَمَّا عَبَرَ الرُّؤْيَا { أَصَبْت بَعْضًا وَأَخْطَأْت بَعْضًا } . وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَم - أَنَّ أَبَا سُلَيْمَانَ لَمَّا قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ : - لَوْ أَلْقَانِي فِي النَّارِ لَكُنْت بِذَلِكَ رَاضِيًا - أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النَّاسِ حَكَاهُ بِمَا فَهِمَهُ مِنْ الْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ : الرِّضَا أَنْ لَا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ . وَتِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا أَبُو سُلَيْمَانَ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِذَلِكَ وَلَكِنْ تَدُلُّ عَلَى عَزْمِهِ بِالرِّضَا بِذَلِكَ فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْعَزْمَ لَا يَسْتَمِرُّ بَلْ يَنْفَسِخُ وَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَانَ تَرْكُهَا أَحْسَنَ مِنْ قَوْلِهَا ؛ وَأَنَّهَا مُسْتَدْرَكَةٌ ؛ كَمَا اُسْتُدْرِكَتْ دَعْوَى سمنون ورويم وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ بَيْنَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَتِلْكَ فَرْقًا عَظِيمًا . فَإِنَّ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مَضْمُونُهَا : أَنَّ مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ . وَاسْتَعَاذَ مِنْ النَّارِ . لَا يَكُونُ رَاضِيًا . وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ : أَنَا إذَا فَعَلَ كَذَا كُنْت رَاضِيًا وَبَيْنَ
مَنْ يَقُولُ : لَا يَكُونُ رَاضِيًا إلَّا مَنْ لَا يَطْلُبُ خَيْرًا وَلَا يَهْرُبُ مِنْ شَرٍّ ؛ وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا سُلَيْمَانَ كَانَ أَجَلَّ مَنْ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ فَإِنَّ الشَّيْخَ أَبَا سُلَيْمَانَ مِنْ أَجِلَّاءِ الْمَشَايِخِ وَسَادَاتِهِمْ وَمِنْ أتبعهم لِلشَّرِيعَةِ حَتَّى إنَّهُ قَالَ : إنَّهُ لَيَمُرُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ فَلَا أَقْبَلُهَا إلَّا بِشَاهِدَيْنِ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَمَنْ لَا يَقْبَلُ نُكَتَ قَلْبِهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ يَقُولُ هَذَا مِثْلُ الْكَلَامِ . وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو سُلَيْمَانَ أَيْضًا : لَيْسَ لِمَنْ أُلْهِمَ شَيْئًا مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ حَتَّى يَسْمَعَ فِيهِ بِأَثَرِ فَإِذَا سَمِعَ فِيهِ بِأَثَرِ كَانَ نُورًا عَلَى نُورٍ ؛ بَلْ صَاحِبُهُ أَحْمَد بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ كَانَ مِنْ أَتْبَعْ الْمَشَايِخِ لِلسُّنَّةِ فَكَيْفَ أَبُو سُلَيْمَانَ وَتَمَامُ تَزْكِيَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَظْهَرُ بِالْكَلَامِ فِي " الْمَقَامِ الثَّانِي " وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ كَائِنًا مَنْ كَانَ : الرِّضَا أَلَّا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ . وَنُقَدِّمُ قَبْلَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً يَتَبَيَّنُ بِهَا أَصْلُ مَا وَقَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالِاضْطِرَابِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ : مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ وَغَيْرِهِمْ ظَنُّوا أَنَّ الْجَنَّةَ التَّنَعُّمُ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَنِكَاحٍ وَلِبَاسٍ وَسَمَاعِ أَصْوَاتٍ طَيِّبَةٍ وَشَمِّ رَوَائِحَ طَيِّبَةٍ وَلَمْ يُدْخِلُوا فِي مُسَمَّى الْجَنَّةِ نَعِيمًا غَيْرَ ذَلِكَ . ثُمَّ صَارُوا ضَرْبَيْنِ :
" ضَرْبٌ " أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ . كَمَا ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ . " وَمِنْهُمْ " مَنْ أَقَرَّ بِالرُّؤْيَةِ إمَّا الرُّؤْيَةُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِمَّا بِرُؤْيَةِ فَسَّرُوهَا بِزِيَادَةِ كَشْفٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ جَعْلِهَا بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَهَبَ إلَيْهَا ضِرَارُ بْنُ عَمْرٍو وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى نَصْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ كَانَ مَا يُثْبِتُونَهُ مِنْ جِنْسِ مَا تَنْفِيه الْمُعْتَزِلَةُ والضرارية . وَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ لَفْظِيٌّ وَنِزَاعُهُمْ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَعْنَوِيٌّ ؛ وَلِهَذَا كَانَ بِشْرٌ وَأَمْثَالُهُ يُفَسِّرُونَ الرُّؤْيَةَ بِنَحْوِ مِنْ تَفْسِيرِ هَؤُلَاءِ . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مُثْبِتَةَ ( الرُّؤْيَةِ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ يَنْعَمُ بِنَفْسِ رُؤْيَتِهِ رَبَّهُ قَالُوا : لِأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْمُحْدَثِ وَالْقَدِيمِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمَعَالِي الجُوَيْنِي فِي " الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ " وَكَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَنَقَلُوا عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : أَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك . فَقَالَ : يَا هَذَا هَبْ أَنَّ لَهُ وَجْهًا أَلَهُ وَجْهٌ يُتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَذَكَرَ أَبُو الْمَعَالِي : أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لَهُمْ نَعِيمًا بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ مُقَارِنًا لِلرُّؤْيَةِ فَأَمَّا النَّعِيمُ بِنَفْسِ الرُّؤْيَةِ فَأَنْكَرَهُ وَجَعَلَ هَذَا مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ .
وَأَكْثَرُ مُثْبِتِي الرُّؤْيَةِ يُثْبِتُونَ تَنَعُّمَ الْمُؤْمِنِينَ بِرُؤْيَةِ رَبِّهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَشَايِخِ الطَّرِيقِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي النَّسَائِي وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ بِعِلْمِك الْغَيْبَ وَقُدْرَتِك عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي إذَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَشْيَتَك فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَأَسْأَلُك كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا وَأَسْأَلُك الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَأَسْأَلُك نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ وَأَسْأَلُك الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَسْأَلُك لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِك وَأَسْأَلُك الشَّوْقَ إلَى لِقَائِك مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ . اللَّهُمَّ زينا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه فَيَقُولُونَ : مَا هُوَ ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا ؟ وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا ؟ وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ ؟ قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ ؛ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ } . وَكُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَحَبّ كَانَتْ اللَّذَّةُ بِنَيْلِهِ أَعْظَمَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَمَشَايِخِ الطَّرِيقِ كَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ عَلِمَ الْعَابِدُونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ لَذَابَتْ نُفُوسُهُمْ فِي
الدُّنْيَا شَوْقًا إلَيْهِ وَكَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ وَالْمَشَايِخَ عَلَى التَّنَعُّمِ بِالنَّظَرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَنَازَعُوا فِي " مَسْأَلَةِ الْمَحَبَّةِ " الَّتِي هِيَ أَصْلُ ذَلِكَ ؛ فَذَهَبَ طَوَائِفُ مِنْ . . . (1) وَالْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُحَبُّ نَفْسُهُ وَإِنَّمَا الْمَحَبَّةُ مَحَبَّةُ طَاعَتِهِ وَعِبَادَتِهِ ؛ وَقَالُوا : هُوَ أَيْضًا لَا يُحِبُّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ ؛ وَإِنَّمَا مَحَبَّتُهُ إرَادَتُهُ لِلْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَوِلَايَتُهُمْ . وَدَخَلَ فِي هَذَا الْقَوْلِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى نَصْرِ السُّنَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ حَتَّى وَقَعَ فِيهِ طَوَائِفُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِك وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْمَعَالِي الجُوَيْنِي وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ . وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ شُعْبَةٌ مِنْ التَّجَهُّمِ وَالِاعْتِزَالِ ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَنْكَرَ " الْمَحَبَّةَ " فِي الْإِسْلَامِ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ أُسْتَاذُ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ ؛ فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ . وَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ؛ وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَاَلَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَمَشَايِخُ الطَّرِيقِ : أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ وَيُحَبُّ . وَلِهَذَا وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَنْ تَصَوَّفَ مِنْ
أَهْلِ الْكَلَامِ : كَأَبِي الْقَاسِمِ القشيري ؛ وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا . وَنَصَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فِي " الْإِحْيَاءِ " وَغَيْرِهِ . وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِمِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الرِّسَالَةِ " عَلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ كَمَا فِي كِتَابِ أَبِي طَالِبٍ الْمُسَمَّى بِ " قُوتِ الْقُلُوبِ " وَأَبُو حَامِدٍ مَعَ كَوْنِهِ تَابَعَ فِي ذَلِكَ الصُّوفِيَّةَ اسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ لِمَا وَجَدَهُ مِنْ كُتُبِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ إثْبَاتِ نَحْوِ ذَلِكَ حَيْثُ قَالُوا : يَعْشَقُ وَيُعْشَقُ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْعَظِيمَةِ فِي الْقَوَاعِدِ الْكِبَارِ بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَقَالَ تَعَالَى { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ : { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَجَهِّمَةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ حَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ يَلْزَمُهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا التَّلَذُّذَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَهُمْ إلَّا التَّنَعُّمَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَمَشَايِخِهَا فَهَذَا أَحَدُ الْحِزْبَيْنِ الغالطين . وَالضَّرْبُ الثَّانِي : طَوَائِفُ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ وَالْمُتَبَتِّلَةِ :
وَافَقُوا هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَتْ إلَّا هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي يَتَنَعَّمُ بِهَا الْمَخْلُوقُ ؛ وَلَكِنْ وَافَقُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ عَلَى إثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ وَالتَّنَعُّمِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَأَصَابُوا فِي ذَلِكَ وَجَعَلُوا يَطْلُبُونَ هَذَا النَّعِيمَ وَتَسْمُو إلَيْهِ هِمَّتُهُمْ وَيَخَافُونَ فَوْتَهُ وَصَارَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ : مَا عَبَدْتُك شَوْقًا إلَى جَنَّتِك أَوْ خَوْفًا مِنْ نَارِك وَلَكِنْ لِأَنْظُرَ إلَيْك وَإِجْلَالًا لَك . وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ . مَقْصُودُهُمْ بِذَلِكَ : هُوَ أَعْلَى مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالتَّمَتُّعِ بِالْمَخْلُوقِ لَكِنْ غَلِطُوا فِي إخْرَاجِ ذَلِكَ مِنْ الْجَنَّةِ . وَقَدْ يَغْلَطُونَ أَيْضًا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِلَا حَظٍّ وَلَا إرَادَةٍ وَأَنَّ كُلَّ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ فَهُوَ حَظُّ النَّفْسِ . وَتَوَهَّمُوا أَنَّ الْبَشَرَ يَعْمَلُ بِلَا إرَادَةٍ وَلَا مَطْلُوبٍ وَلَا مَحْبُوبٍ وَهُوَ سُوءُ مَعْرِفَةٍ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْآخِرَةِ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ هِمَّةَ أَحَدِهِمْ الْمُتَعَلِّقَةَ بِمَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ وَمَعْبُودِهِ تُفْنِيهِ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَشْعُرَ بِنَفْسِهِ وَإِرَادَتِهَا فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَفْعَلُ لِغَيْرِ مُرَادِهِ وَاَلَّذِي طُلِبَ وَعَلِقَ بِهِ هِمَّتُهُ غَايَةُ مُرَادِهِ وَمَطْلُوبِهِ وَمَحْبُوبِهِ وَهَذَا كَحَالِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّالِحِينَ وَالصَّادِقِينَ وَأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ يَكُونُ لِأَحَدِهِمْ وَجْدٌ صَحِيحٌ وَذَوْقٌ سَلِيمٌ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ عِبَارَةٌ تُبَيِّنُ كَلَامَهُ فَيَقَعُ فِي كَلَامِهِ غَلَطٌ وَسُوءُ أَدَبٍ مَعَ صِحَّةِ مَقْصُودِهِ ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ فِي مُرَادِهِ وَاعْتِقَادِهِ . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ : إذَا عَنَوْا بِهِ طَلَبَ رُؤْيَةِ اللَّهِ
تَعَالَى أَصَابُوا فِي ذَلِكَ ؛ لَكِنْ أَخْطَئُوا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ خَارِجًا عَنْ الْجَنَّةِ فَأَسْقَطُوا حُرْمَةَ اسْمِ الْجَنَّةِ وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أُمُورٌ مُنْكَرَةٌ ؛ نَظِيرُ مَا ذُكِرَ عَنْ الشِّبْلِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } . فَصَرَخَ وَقَالَ أَيْنَ مُرِيدُ اللَّهِ ؟ . فَيُحْمَدُ مِنْهُ كَوْنُهُ أَرَادَ اللَّهَ ؛ وَلَكِنْ غَلِطَ فِي ظَنِّهِ أَنْ الَّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ مَا أَرَادُوا اللَّهَ ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِأُحُدٍ وَهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ فَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا اللَّهَ أَفَيُرِيدُ اللَّهُ مَنْ هُوَ دُونَهُمْ ؟ كَالشِّبْلِيِّ ؟ وَأَمْثَالِهِ . وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا أَعْرِفُهُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ سَأَلَ مَرَّةً عَنْ قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } قَالَ : فَإِذَا كَانَتْ الْأَنْفُسُ وَالْأَمْوَالُ فِي ثَمَنِ الْجَنَّةِ فَالرُّؤْيَةُ بِمَ تُنَالُ ؟ فَأَجَابَهُ مُجِيبٌ بِمَا يُشْبِهُ هَذَا السُّؤَالَ . وَالْوَاجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْأَوْلِيَاءِ مِنْ نَعِيمٍ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ هُوَ فِي الْجَنَّةِ كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا وَعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ هُوَ فِي النَّارِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ اللَّهُ : أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ بَلْ لَهُ مَا أَطْلَعْتهمْ عَلَيْهِ } وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ
جَمِيعَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْجَنَّةِ فَالنَّاسُ فِي الْجَنَّةِ عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ كَمَا قَالَ : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا } وَكُلٌّ مَطْلُوبٌ لِلْعَبْدِ بِعِبَادَةِ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَطَالِبِ الْآخِرَةِ هُوَ فِي الْجَنَّةِ . وَطَلَبُ الْجَنَّةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ النَّارِ طَرِيقُ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَجَمِيعِ أَوْلِيَائِهِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ وَأَصْحَابِ الْيَمِينِ . كَمَا فِي السُّنَنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ : كَيْفَ تَقُولُ : فِي دُعَائِك ؟ قَالَ : أَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ ؛ أَمَا إنِّي لَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَك وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ . فَقَالَ : حَوْلَهُمَا نُدَنْدِنُ } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذٌ - وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَئِمَّةِ الرَّاتِبِينَ بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يُدَنْدِنُونَ حَوْلَ الْجَنَّةِ أَفَيَكُونُ قَوْلُ أَحَدٍ فَوْقَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَاذٍ وَمَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُمَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَلَوْ طَلَبَ هَذَا الْعَبْدُ مَا طَلَبَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ . وَأَهْلُ الْجَنَّةِ نَوْعَانِ : سَابِقُونَ مُقَرَّبُونَ وَأَبْرَارٌ أَصْحَابُ يَمِينٍ . قَالَ تَعَالَى : { كَلَّا إنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } { كِتَابٌ مَرْقُومٌ } { يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } { إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } { يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ }
{ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } { وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ } { عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُمْزَجُ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ مَزْجًا وَيَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مَرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْعَبْدَ فَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ - الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِعَبْدِ وَاحِدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ الْعَبْدَ - هِيَ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ فَهَلْ بَقِيَ بَعْدَ الْوَسِيلَةِ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ الْجَنَّةِ يَصْلُحُ لِلْمَخْلُوقِينَ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ النَّاسَ فِي مَجَالِسِ الذِّكْرِ قَالَ : { فَيَقُولُونَ لِلرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : وَجَدْنَاهُمْ يُسَبِّحُونَك وَيَحْمَدُونَك وَيُكَبِّرُونَك . قَالَ : فَيَقُولُ : وَمَا يَطْلُبُونَ ؟ قَالُوا : يَطْلُبُونَ الْجَنَّةَ . قَالَ : فَيَقُولُ : وَهَلْ رَأَوْهَا ؟ قَالَ : فَيَقُولُونَ : لَا قَالَ : فَيَقُولُ : فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا قَالَ : فَيَقُولُونَ : لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ لَهَا طَلَبًا . قَالَ : وَمِمَّ يَسْتَعِيذُونَ قَالُوا : يَسْتَعِيذُونَ مِنْ النَّارِ . قَالَ : فَيَقُولُ : وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ : فَيَقُولُونَ : لَا . قَالَ : فَيَقُولُ :
فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا ؟ قَالُوا : لَوْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا اسْتِعَاذَةً . قَالَ : فَيَقُولُ : أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَعْطَيْتهمْ مَا يَطْلُبُونَ وَأَعَذْتهمْ مِمَّا يَسْتَعِيذُونَ - أَوْ كَمَا قَالَ - قَالَ : فَيَقُولُونَ : فِيهِمْ فُلَانٌ الْخَطَّاءُ جَاءَ لِحَاجَةِ فَجَلَسَ مَعَهُمْ قَالَ : فَيَقُولُ : هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ } . - فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَفْضَلِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ كَانَ مَطْلُوبُهُمْ الْجَنَّةَ وَمَهْرَبُهُمْ مِنْ النَّارِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَ الْأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ وَكَانَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ مِنْ أَفْضَلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ كُلِّهِمْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرِطْ لِرَبِّك وَلِنَفْسِك وَلِأَصْحَابِك قَالَ : { أَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَنْصُرُونِي مِمَّا تَنْصُرُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ وَأَشْتَرِطُ لِأَصْحَابِي أَنْ تُوَاسُوهُمْ . قَالُوا : فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا ؟ قَالَ : لَكُمْ الْجَنَّةُ . قَالُوا : مُدَّ يَدَك فَوَاَللَّهِ لَا نُقِيلُك وَلَا نَسْتَقِيلُك } . وَقَدْ قَالُوا لَهُ فِي أَثْنَاءِ الْبَيْعَةِ { إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ حِبَالًا وَعُهُودًا وَإِنَّا نَاقِضُوهَا } . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ مِنْ أَعْظَمِ خَلْقِ اللَّهِ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَبَذْلًا لِنُفُوسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ كَانَ غَايَةُ مَا طَلَبُوهُ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ فَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَطْلُوبٌ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ لَطَلَبُوهُ وَلَكِنْ عَلِمُوا أَنَّ فِي الْجَنَّةِ كُلَّ مَحْبُوبٍ وَمَطْلُوبٍ ؛ بَلْ وَفِي الْجَنَّةِ مَا لَا تَشْعُرُ بِهِ النُّفُوسُ لِتَطْلُبَهُ فَإِنَّ
الطَّلَبَ وَالْحُبَّ وَالْإِرَادَةَ فَرْعٌ عَنْ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَاسِ وَالتَّصَوُّرِ فَمَا لَا يَتَصَوَّرُهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُحِسُّهُ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَطْلُبَهُ وَيُحِبَّهُ وَيُرِيدَهُ فَالْجَنَّةُ فِيهَا هَذَا وَهَذَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } وَقَالَ : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } فَفِيهَا مَا يَشْتَهُونَ وَفِيهَا مَزِيدٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُهُمْ لِيَشْتَهُوهُ . كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ } وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . فَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ " الْمُقَدِّمَةَ " فَقَوْلُ الْقَائِلِ : الرِّضَا أَلَّا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ إنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَلَّا تَسْأَلَ اللَّهَ مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْجَنَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا تَسْأَلْهُ النَّظَرَ إلَيْهِ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبُ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَإِنَّك لَا تَسْتَعِيذُ بِهِ مِنْ احْتِجَاجِهِ عَنْك وَلَا مِنْ تَعْذِيبِك فِي النَّارِ . فَهَذَا الْكَلَامُ مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَائِر الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ فَاسِدٌ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ . وَذَلِكَ أَنَّ الرِّضَا الَّذِي لَا يُسْأَلُ إنَّمَا لَا يَسْأَلُهُ لِرِضَاهُ عَنْ اللَّهِ . وَرِضَاهُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ . وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مَعَهُ رِضًا عَنْ اللَّهِ وَلَا مَحَبَّةٌ لِلَّهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : يَرْضَى أَلَّا يَرْضَى وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ كَلَامُ مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَا يَقُولُ وَلَا عَقَلَهُ . يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاضِيَ إنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ وَالْآلَامِ
مَا يَجِدُهُ مِنْ لَذَّةِ الرِّضَا وَحَلَاوَتِهِ . فَإِذَا فَقَدَ تِلْكَ الْحَلَاوَةَ وَاللَّذَّةَ امْتَنَعَ أَنْ يَتَحَمَّلَ أَلَمًا وَمَرَارَةً فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا وَلَيْسَ مَعَهُ مِنْ حَلَاوَةِ الرِّضَا مَا يَحْمِلُ بِهِ مَرَارَةَ الْمَكَارِهِ ؟ وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ السَّكْرَانِ وَالْفَانِي الَّذِي وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَلَاوَةَ الرِّضَا فَظَنَّ أَنَّ هَذَا يَبْقَى مَعَهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ وَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ مِنْهُ : كَغَلَطِ سمنون كَمَا تَقَدَّمَ . وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ لَا يَسْأَلَ التَّمَتُّعَ بِالْمَخْلُوقِ بَلْ يَسْأَلُ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ ؛ فَقَدْ غَلِطَ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ أَعْلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَيْضًا أَثْبَتَ أَنَّهُ طَالِبٌ مَعَ كَوْنِهِ رَاضِيًا فَإِذَا كَانَ الرِّضَا لَا يُنَافِي هَذَا الطَّلَبَ فَلَا يُنَافِي طَلَبًا آخَرَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَطْلُوبِهِ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَمَتُّعَهُ بِالنَّظَرِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِسَلَامَتِهِ مِنْ النَّارِ وَبِتَنَعُّمِهِ مِنْ الْجَنَّةِ بِمَا هُوَ دُونَ النَّظَرِ . وَمَا لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ ؛ فَيَكُونُ طَلَبُهُ لِلنَّظَرِ طَلَبًا لِلَوَازِمِهِ الَّتِي مِنْهَا النَّجَاةُ مِنْ النَّارِ فَيَكُونُ رِضَاهُ لَا يُنَافِي طَلَبَ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ وَلَا طَلَبَ حُصُولِ الْجَنَّةِ وَدَفْعِ النَّارِ وَلَا غَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ النَّظَرِ فَتَبَيَّنَ تَنَاقُضُ قَوْلِهِ .
وَأَيْضًا فَإِذَا لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَسْتَعِذْ بِهِ مِنْ النَّارِ فَإِمَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ طَلَبِ مَنْفَعَةٍ وَدَفْعِ مَضَرَّةٍ . وَإِمَّا أَلَّا يَطْلُبَهُ فَإِنْ طَلَبَ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ وَاسْتَعَاذَ مِمَّا هُوَ دُونَ ذَلِكَ فَطَلَبُهُ لِلْجَنَّةِ أَوْلَى وَاسْتِعَاذَتُهُ مِنْ النَّارِ أَوْلَى . وَإِنْ كَانَ الرِّضَا أَنْ لَا يَطْلُبَ شَيْئًا قَطُّ وَلَوْ كَانَ مُضْطَرًّا إلَيْهِ وَلَا يَسْتَعِيذَ مِنْ شَيْءٍ قَطُّ وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا فَلَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ مُلْتَفِتًا بِقَلْبِهِ إلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ الْتَفَتَ بِقَلْبِهِ إلَى اللَّهِ فَهُوَ طَالِبٌ مُسْتَعِيذٌ بِحَالِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّلَبِ بِالْحَالِ وَالْقَالِ . وَهُوَ بِهِمَا أَكْمَلُ وَأَتَمُّ فَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ . وَإِنْ كَانَ مُعْرِضًا عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَحْيَا وَيَبْقَى إلَّا بِمَا يُقِيمُ حَيَاتَهُ وَيَدْفَعُ مَضَارَّهُ بِذَلِكَ . وَاَلَّذِي بِهِ يَحْيَا مِنْ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ إمَّا أَنْ يُحِبَّهُ وَيَطْلُبَهُ وَيُرِيدَهُ مِنْ أَحَدٍ أَوْ لَا يُحِبَّهُ وَلَا يَطْلُبَهُ وَلَا يُرِيدَهُ . فَإِنْ أَحَبَّهُ وَطَلَبَهُ وَأَرَادَهُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ كَانَ مُشْرِكًا مَذْمُومًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا . وَإِنْ قَالَ لَا أُحِبُّهُ وَأَطْلُبُهُ وَأُرِيدُهُ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ خَلْقِهِ . قِيلَ : هَذَا مُمْتَنِعٌ فِي الْحَيِّ فَإِنَّ الْحَيَّ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ أَلَّا يُحِبَّ مَا بِهِ يَبْقَى وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْحِسِّ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ امْتَنَعَ أَنْ يُوصَفَ بِالرِّضَا فَإِنَّ الرَّاضِيَ مَوْصُوفٌ بِحُبِّ وَإِرَادَةٍ خَاصَّةٍ إذْ الرِّضَا مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ . فَكَيْفَ يُسْلَبُ عَنْهُ ذَلِكَ كُلُّهُ
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الْكَلَامِ .
وَأَمَّا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَطَرِيقِهِ وَدِينِهِ فَمِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يُقَالَ الرَّاضِي لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَكُونُ رَاضِيًا عَنْ اللَّهِ مَنْ لَا يَفْعَلُ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ ؟ وَكَيْفَ يَسُوغُ رِضَا مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ وَيَذُمُّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ . وَبَيَانُ هَذَا : أَنَّ الرِّضَا الْمَحْمُودَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَإِمَّا أَلَّا يُحِبَّهُ وَيَرْضَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الرِّضَا مَأْمُورًا بِهِ لَا أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ ؛ فَإِنَّ مِنْ الرِّضَا مَا هُوَ كُفْرٌ كَرِضَا الْكُفَّارِ بِالشِّرْكِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ وَتَكْذِيبِهِمْ وَرِضَاهُمْ بِمَا يَسْخَطُهُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ . قَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } فَمَنْ اتَّبَعَ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ بِرِضَاهُ وَعَمَلِهِ فَقَدْ أَسْخَطَ اللَّهَ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا عُمِلَتْ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ غَابَ عَنْهَا وَرَضِيَهَا كَمَنْ حَضَرَهَا وَمَنْ شَهِدَهَا وَسَخِطَهَا كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَأَنْكَرَهَا } . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَيَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ هَلَكَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ
لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } فَرِضَانَا عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ وَهُوَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إلَّا قَلِيلٌ } فَهَذَا رِضًا قَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ . وَقَالَ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا } فَهَذَا أَيْضًا رِضًا مَذْمُومٌ وَسِوَى هَذَا وَهَذَا كَثِيرٌ . فَمَنْ رَضِيَ بِكُفْرِهِ وَكُفْرِ غَيْرِهِ وَفِسْقِهِ وَفِسْقِ غَيْرِهِ وَمَعَاصِيهِ وَمَعَاصِي غَيْرِهِ فَلَيْسَ هُوَ مُتَّبِعًا لِرِضَا اللَّهِ وَلَا هُوَ مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ . بَلْ هُوَ مُسْخِطٌ لِرَبِّهِ وَرَبُّهُ غَضْبَانُ عَلَيْهِ لَاعِنٌ لَهُ ذَامٌّ لَهُ مُتَوَعِّدٌ لَهُ بِالْعِقَابِ . وَطَرِيقُ اللَّهِ الَّتِي يَأْمُرُ بِهَا الْمَشَايِخُ الْمُهْتَدُونَ : إنَّمَا هِيَ الْأَمْرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالنَّهْيُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ . فَمَنْ أَمَرَ أَوْ اسْتَحَبَّ أَوْ مَدَحَ الرِّضَا الَّذِي يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَذُمُّهُ وَيَنْهَى عَنْهُ وَيُعَاقِبُ أَصْحَابَهُ فَهُوَ عَدُوٌّ لِلَّهِ لَا وَلِيٌّ لِلَّهِ وَهُوَ يَصُدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَطَرِيقُهُ لَيْسَ بِسَالِكِ لِطَرِيقِهِ وَسَبِيلِهِ . وَإِذَا كَانَ الرِّضَا الْمَوْجُودُ فِي بَنِي آدَمَ مِنْهُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَمِنْهُ مَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا كَسَائِرِ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ مِنْ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : كُلُّهَا تَنْقَسِمُ إلَى مَحْبُوبٍ لِلَّهِ وَمَكْرُوهٍ لِلَّهِ مُبَاحٍ .
فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالرَّاضِي الَّذِي لَا يَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا يَسْتَعِيذُهُ مِنْ النَّارِ يُقَالُ لَهُ : سُؤَالُ اللَّهِ الْجَنَّةَ وَاسْتِعَاذَتُهُ مِنْ النَّارِ إمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَحَبَّةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَكْرُوهَةً وَلَا يَقُولُ مُسْلِمٌ : إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ وَلَا مَكْرُوهَةٌ وَلَيْسَتْ أَيْضًا مُبَاحَةً مُسْتَوِيَةَ الطَّرَفَيْنِ . وَلَوْ قِيلَ : إنَّهَا كَذَلِكَ فَفِعْلُ الْمُبَاحِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ لَا يُنَافِي الرِّضَا ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الرَّاضِي أَلَّا يَأْكُلَ وَلَا يَشْرَبَ وَلَا يَلْبَسَ وَلَا يَفْعَلَ أَمْثَالَ هَذِهِ الْأُمُورِ . فَإِذَا كَانَ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يُنَافِي رِضَاهُ أَيُنَافِي رِضَاهُ دُعَاءٌ وَسُؤَالٌ هُوَ مُبَاحٌ . وَإِذَا كَانَ السُّؤَالُ وَالدُّعَاءُ كَذَلِكَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّات فَكَيْفَ يَكُونُ الرَّاضِي الَّذِي مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ لَا يَفْعَلُ مَا يَرْضَاهُ وَيُحِبُّهُ ؛ بَلْ يَفْعَلُ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ وَهَذِهِ صِفَةُ أَعْدَاءِ اللَّهِ لَا أَوْلِيَاءِ اللَّهِ . والقشيري قَدْ ذَكَرَهُ فِي أَوَائِلِ ( بَابِ الرِّضَا فَقَالَ : اعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْضَى بِقَضَاءِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِالرِّضَا بِهِ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَا هُوَ بِقَضَائِهِ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَوْ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الرِّضَا بِهِ . كَالْمَعَاصِي وَفُنُونِ مِحَنِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ قَالَهُ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَمَعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ : كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِهِمَا لَمَّا احْتَجَّ عَلَيْهِمْ الْقَدَرِيَّةُ بِأَنَّ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ مَأْمُورٌ بِهِ فَلَوْ كَانَتْ الْمَعَاصِي
بِقَضَاءِ اللَّهِ لَكُنَّا مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِهَا وَالرِّضَا بِمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ فَأَجَابَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ عَنْ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ : ( أَحَدُهَا - وَهُوَ جَوَابُ هَؤُلَاءِ وَجَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ - أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ لَيْسَ بِصَحِيحِ فَلَسْنَا مَأْمُورِينَ أَنْ نَرْضَى بِكُلِّ مَا قَضَى وَقَدَّرَ وَلَمْ يَجِئْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمْرٌ بِذَلِكَ وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ نَرْضَى بِمَا أَمَرَنَا أَنْ نَرْضَى بِهِ كَطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْقَاسِمِ . ( وَالْجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّا نَرْضَى بِالْقَضَاءِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ اللَّهِ أَوْ فِعْلُهُ لَا بِالْمَقْضِيِّ الَّذِي هُوَ مَفْعُولُهُ . وَفِي هَذَا الْجَوَابِ ضَعْفٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . ( الثَّالِثُ أَنَّهُمْ قَالُوا : هَذِهِ الْمَعَاصِي لَهَا وَجْهَانِ : وَجْهٌ إلَى الْعَبْدِ مِنْ حَيْثُ هِيَ فِعْلُهُ وَصُنْعُهُ وَكَسْبُهُ وَوَجْهٌ إلَى الرَّبِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَلَقَهَا وَقَضَاهَا وَقَدَّرَهَا فَيَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُضَافُ بِهِ إلَى اللَّهِ وَلَا يَرْضَى مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُضَافُ بِهِ إلَى الْعَبْدِ إذْ كَوْنُهَا شَرًّا وَقَبِيحَةً وَمُحَرَّمًا وَسَبَبًا لِلْعَذَابِ وَالذَّمِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُضَافَةً إلَى الْعَبْدِ . وَهَذَا مَقَامٌ فِيهِ مِنْ كَشْفِ الْحَقَائِقِ وَالْأَسْرَارِ مَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْهُ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَلَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْمَكَانُ . فَإِنَّ
هَذَا مُتَعَلِّقٌ بِمَسَائِلِ " الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ " وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ مَطَالِبِ الدِّينِ وَأَشْرَفِ عُلُومِ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَأَدَقِّهَا عَلَى عُقُولِ أَكْثَرِ الْعَالَمِينَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَشَايِخَ الصُّوفِيَّةِ وَالْعُلَمَاءِ وَغَيْرَهُمْ قَدْ بَيَّنُوا أَنَّ مِنْ الرِّضَا مَا يَكُونُ جَائِزًا وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ جَائِزًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْمُقَرَّبِينَ وَأَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الرِّسَالَةِ " أَيْضًا . ( فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ أَمْرٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ فَمِنْ أَيْنَ غَلِطَ مَنْ قَالَ : الرِّضَا أَلَّا تَسْأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَلَا تَسْتَعِيذَهُ مِنْ النَّارِ ؟ وَغَلِطَ مَنْ يَسْتَحْسِنُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ كَائِنًا مَنْ كَانَ ؟ . ( قِيلَ : غَلِطُوا فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الرَّاضِيَ بِأَمْرِ لَا يَطْلُبُ غَيْرَ ذَلِكَ الْأَمْرِ فَالْعَبْدُ إذَا كَانَ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ فَمِنْ رِضَاهُ أَلَّا يَطْلُبَ غَيْرَ تِلْكَ الْحَالِ ثُمَّ إنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ أَقْصَى الْمَطَالِبِ الْجَنَّةُ وَأَقْصَى الْمَكَارِه النَّارُ . فَقَالُوا : يَنْبَغِي أَلَّا يَطْلُبَ شَيْئًا وَلَوْ أَنَّهُ الْجَنَّةُ وَلَا يَكْرَهَ مَا يَنَالُهُ وَلَوْ أَنَّهُ النَّارُ وَهَذَا وَجْهُ غَلَطِهِمْ . وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ الضَّلَالُ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا : ظَنُّهُمْ أَنَّ الرِّضَا بِكُلِّ مَا يَكُونُ أَمْرٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ
وَأَنَّ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ طُرُقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ فَجَعَلُوا الرِّضَا بِكُلِّ حَادِثٍ وَكَائِنٍ أَوْ بِكُلِّ حَالٍ يَكُونُ فِيهَا لِلْعَبْدِ طَرِيقًا إلَى اللَّهِ فَضَلُّوا ضَلَالًا مُبِينًا . وَالطَّرِيقُ إلَى اللَّهِ إنَّمَا هِيَ أَنْ تُرْضِيَهُ بِأَنْ تَفْعَلَ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ لَيْسَ أَنْ تَرْضَى بِكُلِّ مَا يَحْدُثُ وَيَكُونُ فَإِنَّهُ هُوَ لَمْ يَأْمُرْك بِذَلِكَ وَلَا رَضِيَهُ لَك وَلَا أَحَبَّهُ ؛ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَكْرَهُ وَيَسْخَطُ وَيُبْغِضُ عَلَى أَعْيَانِ أَفْعَالٍ مَوْجُودَةٍ لَا يُحْصِيهَا إلَّا هُوَ . وَوِلَايَةُ اللَّهِ مُوَافَقَتُهُ بِأَنْ تُحِبَّ مَا يُحِبُّ وَتُبْغِضَ مَا يُبْغِضُ وَتَكْرَهَ مَا يَكْرَهُ وَتَسْخَطَ مَا يَسْخَطُ وَتُوَالِيَ مَنْ يُوَالِي وَتُعَادِي مَنْ يُعَادِي . فَإِذَا كُنْت تُحِبُّ وَتَرْضَى مَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخَطُهُ كُنْت عَدُوَّهُ لَا وَلِيَّهُ وَكَانَ كُلُّ ذَمٍّ نَالَ مَنْ رَضِيَ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ قَدْ نَالَك . فَتَدَبَّرْ هَذَا ؛ فَإِنَّهُ يُنَبِّهُ عَلَى أَصْلٍ عَظِيمٍ ضَلَّ فِيهِ مِنْ طَوَائِفِ النُّسَّاكِ وَالصُّوفِيَّةِ وَالْعُبَّادِ وَالْعَامَّةِ مَنْ لَا يُحْصِيهِمْ إلَّا اللَّهُ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الدُّعَاءِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ وَأَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَبَيْنَ الدُّعَاءِ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ أَوْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ وَلَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ فَإِنَّ دُعَاءَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَمَسْأَلَتَهُ إيَّاهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : " نَوْعٌ " أَمْرُ الْعَبْدِ بِهِ إمَّا أَمْرُ إيجَابٍ وَإِمَّا أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ : مِثْلَ
قَوْلِهِ { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وَمِثْلَ دُعَائِهِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ كَالدُّعَاءِ الَّذِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِهِ أَصْحَابَهُ فَقَالَ : { إذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ : مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ } . فَهَذَا دُعَاءٌ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوا بِهِ فِي آخِرِ صَلَاتِهِمْ . وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرْضَاهُ وَتَنَازَعُوا فِي وُجُوبِهِ . فَأَوْجَبَهُ طَاوُوسٌ وَطَائِفَةٌ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا : هَذَا مُسْتَحَبٌّ وَالْأَدْعِيَةُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهَا : لَا تَخْرُجُ عَنْ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ . وَمَنْ فَعَلَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ فَهَلْ يَكُونُ مِنْ الرِّضَا تَرْكُ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ . وَ " نَوْعٌ مِنْ الدُّعَاءِ " يَنْهَى عَنْهُ : كَالِاعْتِدَاءِ مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْ خَصَائِصِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِيِّ وَرُبَّمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . مِثْلَ أَنْ يَسْأَلَ لِنَفْسِهِ الْوَسِيلَةَ الَّتِي لَا تَصْلُحُ إلَّا لِعَبْدِ مِنْ عِبَادِهِ أَوْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا أَوْ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا وَأَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ كُلَّ حِجَابٍ يَمْنَعُهُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْغُيُوبِ . وَأَمْثَالِ ذَلِكَ أَوْ مِثْلَ مَنْ يَدْعُوهُ ظَانًّا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى عِبَادِهِ ؛ وَأَنَّهُمْ يَبْلُغُونَ ضَرَّهُ وَنَفْعَهُ فَيَطْلُبُ مِنْهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ . وَيَذْكُرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ
حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخَلْقِ ضَيْرٌ . وَهَذَا وَنَحْوُهُ جَهْلٌ بِاَللَّهِ وَاعْتِدَاءٌ فِي الدُّعَاءِ وَإِنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الشُّيُوخِ . وَمِثْلَ أَنْ يَقُولُوا : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت فَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ قَدْ يَفْعَلُ الشَّيْءَ مُكْرَهًا وَقَدْ يَفْعَلُ مُخْتَارًا . كَالْمُلُوكِ فَيَقُولُ : اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ : { لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إنْ شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إنْ شِئْت وَلَكِنْ لِيَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مُكْرِهَ لَهُ } وَمِثْلَ أَنْ يَقْصِدَ السَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ ويتشهق وَيَتَشَدَّقَ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَدْعِيَةُ وَنَحْوُهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا . وَمِنْ الدُّعَاءِ مَا هُوَ مُبَاحٌ كَطَلَبِ الْفُضُولِ الَّتِي لَا مَعْصِيَةَ فِيهَا . وَ ( الْمَقْصُودُ أَنَّ الرِّضَا الَّذِي هُوَ مِنْ طَرِيقِ اللَّهِ لَا يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَاجِبٍ وَلَا تَرْكَ مُسْتَحَبٍّ فَالدُّعَاءُ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَا يَكُونُ تَرْكُهُ مِنْ الرِّضَا ؛ كَمَا أَنَّ تَرْكَ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ لَا يَكُونُ مِنْ الرِّضَا الْمَشْرُوعِ وَلَا فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الْمَشْرُوعِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ غَلَطُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ ظَنِّهِمْ أَنَّ الرِّضَا مَشْرُوعٌ بِكُلِّ مَقْدُورٍ وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ لَمْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الدُّعَاءِ الْمَشْرُوعِ إيجَابًا وَاسْتِحْبَابًا وَالدُّعَاءِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ . وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ طَلَبَ الْجَنَّةِ مِنْ اللَّهِ وَالِاسْتِعَاذَةَ بِهِ مِنْ النَّارِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ لِجَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ
وَالنَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَطَرِيقُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الَّتِي يَسْلُكُونَهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ فِعْلِ وَاجِبَاتٍ وَمُسْتَحَبَّاتٍ إذْ مَا سِوَى ذَلِكَ مُحَرَّمٌ أَوْ مَكْرُوهٌ أَوْ مُبَاحٌ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ فِي الدِّينِ . ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا أَوْقَعَ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْغَلَطِ أَنَّهُمْ وَجَدُوا كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَا يَسْأَلُونَ اللَّهَ جَلْبَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعَ الْمَضَارِّ حَتَّى طَلَبِ الْجَنَّةِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ النَّارِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ ذَلِكَ عِبَادَةً وَطَاعَةً وَخَيْرًا ؛ بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ النَّفْسِ تَطْلُبُ ذَلِكَ فَرَأَوْا أَنَّ مِنْ الطَّرِيقِ تَرْكَ مَا تَخْتَارُهُ النَّفْسُ وَتُرِيدُهُ وَأَلَّا يَكُونَ لِأَحَدِهِمْ إرَادَةٌ أَصْلًا ؛ بَلْ يَكُونُ مَطْلُوبُهُ الْجَرَيَانَ تَحْتَ الْقَدَرِ - كَائِنًا مَنْ كَانَ - وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَدْخَلَ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الشَّرِيعَةِ حَتَّى تَرَكُوا مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَالنِّكَاحِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَمَا لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ دِينِهِمْ إلَّا بِهِ ؛ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا الْعَامَّةَ تَعُدُّ هَذِهِ الْأُمُورَ بِحُكْمِ الطَّبْعِ وَالْهَوَى وَالْعَادَةِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا تَكُونُ عِبَادَةً وَلَا طَاعَةً وَلَا قُرْبَةً فَرَأَى أُولَئِكَ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ تَرْكَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ الطَّبْعِيَّاتِ فَلَازَمُوا مِنْ الْجُوعِ وَالسَّهَرِ وَالْخَلْوَةِ وَالصَّمْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَرْكُ الْحُظُوظِ وَاحْتِمَالُ الْمَشَاقِّ مَا أَوْقَعَهُمْ فِي تَرْكِ وَاجِبَاتٍ وَمُسْتَحَبَّاتٍ وَفِعْلِ مَكْرُوهَاتٍ وَمُحَرَّمَاتٍ .
وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مَحْمُودٍ وَلَا مَأْمُورٌ بِهِ وَلَا طَرِيقٌ إلَى اللَّهِ : طَرِيقُ الْمُفَرِّطِينَ الَّذِينَ فَعَلُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ وَطَرِيقُ الْمُعْتَدِينَ الَّذِينَ تَرَكُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ ؛ بَلْ الْمَشْرُوعُ أَنْ تَفْعَلَ بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ وَأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } وَقَالَ تَعَالَى : { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ } فَأَمَرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَمَنْ أَكَلَ وَلَمْ يَشْكُرْ كَانَ مَذْمُومًا وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْكُرْ كَانَ مَذْمُومًا وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا وَيَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا } . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ : { إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةَ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك } وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا صَدَقَةً } . فَكَذَلِكَ الْأَدْعِيَةُ هُنَا مِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْأَلُ اللَّهَ جَلْبَ الْمَنْفَعَةِ لَهُ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ طَبْعًا وَعَادَةً لَا شَرْعًا وَعِبَادَةً فَلَيْسَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ أَدَعَ الدُّعَاءَ مُطْلَقًا لِتَقْصِيرِ هَذَا وَتَفْرِيطِهِ ؛ بَلْ أَفْعَلُهُ أَنَا شَرْعًا وَعِبَادَةً . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَفْعَلُهُ شَرْعًا وَعِبَادَةً إنَّمَا يَسْعَى فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ وَطَلَبِ حُظُوظِهِ الْمَحْمُودَةِ فَهُوَ يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ ؛ بِخِلَافِ
الَّذِي يَفْعَلُهُ طَبْعًا فَإِنَّهُ إنَّمَا يَطْلُبُ مَصْلَحَةَ دُنْيَاهُ فَقَطْ كَمَا قَالَ تَعَالَى { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } وَحِينَئِذٍ فَطَالِبُ الْجَنَّةِ وَالْمُسْتَعِيذُ مِنْ النَّارِ إنَّمَا يَطْلُبُ حَسَنَةَ الْآخِرَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَرُدَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ مَأْمُورًا وَلَا يَتْرُكُ مَحْظُورًا فَلَا يُصَلِّي وَلَا يَصُومُ وَلَا يَتَصَدَّقُ وَلَا يَحُجُّ وَلَا يُجَاهِدُ وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ الْقُرُبَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا فَائِدَتُهُ حُصُولُ الثَّوَابِ وَدَفْعُ الْعِقَابِ . فَإِذَا كَانَ هُوَ لَا يَطْلُبُ حُصُولَ الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ الْجَنَّةُ وَلَا دَفْعَ الْعِقَابِ الَّذِي هُوَ النَّارُ فَلَا يَفْعَلُ مَأْمُورًا وَلَا يَتْرُكُ مَحْظُورًا وَيَقُولُ أَنَا رَاضٍ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُهُ بِي وَإِنْ كَفَرْت وَفَسَقْت وَعَصَيْت ؛ بَلْ يَقُولُ : أَنَا أَكْفُرُ وَأَفْسُقُ وَأَعْصِي حَتَّى يُعَاقِبَنِي وَأَرْضَى بِعِقَابِهِ فَأَنَالُ دَرَجَةَ الرِّضَا بِقَضَائِهِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ هُوَ مِنْ أَجْهَلْ الْخَلْقِ وَأَحْمَقِهِمْ وَأَضَلِّهِمْ وَأَكْفَرِهِمْ . أَمَّا جَهْلُهُ وَحُمْقُهُ فَلِأَنَّ الرِّضَى بِذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ .
وَأَمَّا كُفْرُهُ فَلِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِتَعْطِيلِ دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ مُلَاحَظَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَوْقَعَتْ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ فِي أَنْ تَرَكُوا مِنْ الْمَأْمُورِ وَفَعَلُوا مِنْ الْمَحْظُورِ مَا صَارُوا بِهِ إمَّا نَاقِصِينَ مَحْرُومِينَ وَإِمَّا عَاصِينَ فَاسِقِينَ وَإِمَّا كَافِرِينَ وَقَدْ رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ أَلْوَانًا . { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } . وَهَؤُلَاءِ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ طَرَفَا نَقِيضٍ - هَؤُلَاءِ يُلَاحِظُونَ الْقَدَرَ وَيُعْرِضُونَ عَنْ الْأَمْرِ . وَأُولَئِكَ يُلَاحِظُونَ الْأَمْرَ وَيُعْرِضُونَ عَنْ الْقَدَرِ - وَالطَّائِفَتَانِ تَظُنُّ أَنَّ مُلَاحَظَةَ الْأَمْرِ وَالْقَدَرِ مُتَعَذِّرٌ كَمَا أَنَّ طَائِفَة تَجْعَلُ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ . وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ هِيَ : الْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ المشركية ؛ وَالْقَدَرِيَّةُ الإبليسية ؛ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَصْلُ مَا يُبْتَلَى بِهِ السَّالِكُونَ أَهْلُ الْإِرَادَةِ وَالْعَامَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ هِيَ " الْقَدَرِيَّةُ المشركية " فَيَشْهَدُونَ الْقَدَرَ وَيُعْرِضُونَ عَنْ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ فِيهِمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ الْمَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاك تَمَذْهَبْت بِهِ . وَإِنَّمَا الْمَشْرُوعُ الْعَكْسُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الطَّاعَةِ يَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْفِعْلِ وَيَشْكُرُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْفِعْلِ .
وَيَجْتَهِدُ أَنْ لَا يَعْصِيَ فَإِذَا أَذْنَبَ وَعَصَى بَادَرَ إلَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا فِي حَدِيثِ سَيِّدِ الِاسْتِغْفَارِ : { أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي } وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ { يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْإِرَادَةِ فِي تَرْكِ الدُّعَاءِ وَآخَرُونَ جَعَلُوا التَّوَكُّلَ وَالْمَحَبَّةَ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْأَغَالِيطِ الَّتِي تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الْوَصِيَّةُ بِاتِّبَاعِ الْعِلْمِ وَالشَّرِيعَةِ حَتَّى قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التستري : كُلُّ وَجْدٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَقَالَ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ : عِلْمُنَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ الْقُرْآنَ وَيَكْتُبْ الْحَدِيثَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي عِلْمِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ :
فِي مَنْ عَزَمَ عَلَى " فِعْلِ مُحَرَّمٍ " كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَزْمًا جَازِمًا - فَعَجَزَ عَنْ فِعْلِهِ : إمَّا بِمَوْتِ أَوْ غَيْرِهِ . هَلْ يَأْثَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ قُلْتُمْ : يَأْثَمُ فَمَا جَوَابُ مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى عَدَمِ الْإِثْمِ بِقَوْلِهِ : { إذَا هَمَّ عَبْدِي بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ } وَبِقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ } وَاحْتَجَّ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ . ( أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ بِالْعَفْوِ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَالْعَزْمُ دَاخِلٌ فِي الْعُمُومِ وَالْعَزْمُ وَالْهَمُّ وَاحِدٌ . قَالَهُ ابْنُ سيده . ( الثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ التَّجَاوُزَ مُمْتَدًّا إلَى أَنْ يُوجَدَ كَلَامٌ أَوْ عَمَلٌ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ التَّجَاوُزِ وَيَزْعُمُ أَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذْ الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ } لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِدُخُولِ الْمَقْتُولِ فِي النَّارِ مُوَاجَهَتُهُ أَخَاهُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ لَا مُجَرَّدُ قَصْدٍ وَأَنْ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي قَالَ : { لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَفَعَلْت وَفَعَلْت أَنَّهُمَا فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ وَفِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ } لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ ،
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ } وَهَذَا قَدْ تَكَلَّمَ وَقَدْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ كَثِيرٌ وَاحْتِيجَ إلَى بَيَانِهَا مُطَوَّلًا مَكْشُوفًا مُسْتَوْفًى .
فَأَجَابَ : شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ .
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَنَحْوُهَا تَحْتَاجُ قَبْلَ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهَا إلَى حُسْنِ التَّصَوُّرِ لَهَا فَإِنَّ اضْطِرَابَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَقَعَ عَامَّتُهُ مِنْ أَمْرَيْنِ .
أَحَدُهُمَا عَدَمُ تَحْقِيقِ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَصِفَاتِهَا الَّتِي هِيَ مَوْرِدُ الْكَلَامِ .
وَالثَّانِي عَدَمُ إعْطَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ حَقَّهَا ؛ وَلِهَذَا كَثُرَ اضْطِرَابُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى يَجِدَ النَّاظِرُ فِي كَلَامِهِمْ أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ إجماعات مُتَنَاقِضَةً فِي الظَّاهِرِ . فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَنَحْوُهَا لَهُ مِنْ الْمَرَاتِبِ مَا بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ مَا لَا يَضْبُطُهُ الْعِبَادُ : كَالشَّكِّ ثُمَّ الظَّنِّ ثُمَّ الْعِلْمِ ثُمَّ الْيَقِينِ وَمَرَاتِبِهِ ؛ وَكَذَلِكَ الْهَمُّ وَالْإِرَادَةُ وَالْعَزْمُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ - وَهُوَ
ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ - أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ وَنَحْوَهُمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ بَلْ وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الَّتِي تَقُومُ بِغَيْرِ الْحَيِّ : كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْأَرْوَاحِ . فَنَقُولُ أَوَّلًا الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ هِيَ الَّتِي يَجِبُ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَهَا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً فَإِنَّهُ مَتَى وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَجَبَ وُجُودُ الْفِعْلِ لِكَمَالِ وُجُودِ الْمُقْتَضِي السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ الْمُقَاوِمِ وَمَتَى وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ وَلَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ جَازِمَةً وَهُوَ إرَادَاتُ الْخَلْقِ لِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْإِرَادَاتُ مُتَفَاوِتَةً فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ تَفَاوُتًا كَثِيرًا ؛ لَكِنْ حَيْثُ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ الْمُرَادُ مَعَ وُجُودِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ فَلَيْسَتْ الْإِرَادَةُ جَازِمَةً جَزْمًا تَامًّا . وَهَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " إنَّمَا كَثُرَ فِيهَا النِّزَاعُ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدَّرُوا إرَادَةً جَازِمَةً لِلْفِعْلِ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْفِعْلِ وَهَذَا لَا يَكُونُ . وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْعَزْمِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فَقَدْ يَعْزِمُ عَلَى الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَنْ لَا يَفْعَلُ مِنْهُ شَيْئًا فِي الْحَالِ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَكْفِي فِي وُجُودِ الْفِعْلِ بَلْ لَا بُدَّ عِنْدَ وُجُودِهِ مِنْ حُدُوثِ تَمَامِ الْإِرَادَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْفِعْلِ وَهَذِهِ هِيَ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ . وَ " الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ " إذَا فَعَلَ مَعَهَا الْإِنْسَانُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَانَ فِي الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ التَّامِّ : لَهُ ثَوَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ وَعِقَابُ الْفَاعِلِ التَّامِّ
الَّذِي فَعَلَ جَمِيعَ الْفِعْلِ الْمُرَادِ حَتَّى يُثَابَ وَيُعَاقَبَ عَلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ قُدْرَتِهِ مِثْلَ الْمُشْتَرِكِينَ والمتعاونين عَلَى أَفْعَالِ الْبِرِّ وَمِنْهَا مَا يَتَوَلَّدُ عَنْ فِعْلِ الْإِنْسَانِ كَالدَّاعِي إلَى هُدًى أَوْ إلَى ضَلَالَةٍ وَالسَّانِّ سُنَّةً حَسَنَةً وَسُنَّةً سَيِّئَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ دَعَا إلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ } . فَالدَّاعِي إلَى الْهُدَى وَإِلَى الضَّلَالَةِ هُوَ طَالِبٌ مُرِيدٌ كَامِلُ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ لِمَا دَعَا إلَيْهِ ؛ لَكِنَّ قُدْرَتَهُ بِالدُّعَاءِ وَالْأَمْرِ وَقُدْرَةَ الْفَاعِلِ بِالِاتِّبَاعِ وَالْقَبُولِ ؛ وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الْمُبَاشِرَةِ وَالْمُتَوَلِّدَةِ فَقَالَ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } { وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . فَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مَا يَحْدُثُ عَنْ أَفْعَالِهِمْ بِغَيْرِ قُدْرَتِهِمْ الْمُنْفَرِدَةِ :
وَهُوَ مَا يُصِيبُهُمْ مِنْ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ وَالتَّعَبِ وَمَا يَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ بِهِمْ مِنْ الْغَيْظِ وَمَا يَنَالُونَهُ مِنْ الْعَدُوِّ . وَقَالَ : { كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي تَحْدُثُ وَتَتَوَلَّدُ مِنْ فِعْلِهِمْ وَفِعْلٍ آخَرَ مُنْفَصِلٍ عَنْهُمْ يُكْتَبُ لَهُمْ بِهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَذَكَرَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ نَفْسَ أَعْمَالِهِمْ الْمُبَاشِرَةِ الَّتِي بَاشَرُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ : وَهِيَ الْإِنْفَاقُ وَقَطْعُ الْمَسَافَةِ فَلِهَذَا قَالَ فِيهَا : { إلَّا كُتِبَ لَهُمْ } فَإِنَّ هَذِهِ نَفْسَهَا عَمَلٌ صَالِحٌ وَإِرَادَتُهُمْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَازِمَةٌ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ الَّذِي هُوَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَمَا حَدَثَ مَعَ هَذِهِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُعِينُ فِيهَا قُدْرَتَهُمْ بَعْضُ الْإِعَانَةِ هِيَ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ . وَكَذَلِكَ " الدَّاعِي إلَى الْهُدَى وَالضَّلَالَةِ " لَمَّا كَانَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً كَامِلَةً فِي هُدَى الْأَتْبَاعِ وَضَلَالِهِمْ وَأَتَى مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ فَلَهُ مِنْ الْجَزَاءِ مِثْلُ جَزَاءِ كُلِّ مَنْ اتَّبَعَهُ : لِلْهَادِي مِثْلَ أُجُورِ الْمُهْتَدِينَ وَلِلْمُضِلِّ مِثْلَ أَوْزَارِ الضَّالِّينَ وَكَذَلِكَ السَّانُّ سُنَّةً حَسَنَةً وَسُنَّةً سَيِّئَةً ؛ فَإِنَّ السُّنَّةَ هِيَ مَا رُسِمَ لِلتَّحَرِّي فَإِنَّ السَّانَّ كَامِلُ الْإِرَادَةِ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ وَفِعْلُهُ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ . وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ؛ } لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ " فَالْكِفْلُ
النَّصِيبُ مِثْلَ نَصِيبِ الْقَاتِلِ كَمَا فَسَّرَهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ وَهُوَ كَمَا اسْتَبَاحَ جِنْسَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ فَصَارَ شَرِيكًا فِي قَتْلِ كُلِّ نَفْسٍ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } . وَيُشْبِهُ هَذَا أَنَّهُ مَنْ كَذَّبَ رَسُولًا مُعَيَّنًا كَانَ كَتَكْذِيبِ جِنْسِ الرُّسُلِ كَمَا قِيلَ فِيهِ : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ أَئِمَّةَ الضَّلَالِ لَا يَحْمِلُونَ مِنْ خَطَايَا الْأَتْبَاعِ شَيْئًا وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَثْقَالَهُمْ وَهِيَ أَوْزَارُ الْأَتْبَاعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ إرَادَتَهُمْ كَانَتْ جَازِمَةً بِذَلِكَ وَفَعَلُوا مَقْدُورَهُمْ فَصَارَ لَهُمْ جَزَاءُ كُلِّ عَامِلٍ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْعَمَلِ يُسْتَحَقُّ مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَفِعْلِ الْمَقْدُورِ مِنْهُ . وَهُوَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ :
أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى هِرَقْلَ : فَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّ عَلَيْك إثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هِرَقْلَ لَمَّا كَانَ إمَامَهُمْ الْمَتْبُوعَ فِي دِينِهِمْ أَنَّ عَلَيْهِ إثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَهُمْ الْأَتْبَاعُ وَإِنْ كَانَ قَدْ قِيلَ : إنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْفَلَّاحِينَ وَالْأَكَرَةِ كَلَفْظِ الطَّاءِ بِالتُّرْكِيِّ فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تُقْلَبُ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا تَوَلَّى عَنْ أَتْبَاعِ الرَّسُولِ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْءٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سَائِرُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } { لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } . فَقَوْلُهُ : { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ } هِيَ الْأَوْزَارُ الْحَاصِلَةُ لِضَلَالِ الْأَتْبَاعِ وَهِيَ حَاصِلَةٌ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَأْمُورِ الْمُمْتَثِلِ فَالْقُدْرَتَانِ مُشْتَرِكَتَانِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الضَّلَالِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى هَذَا بَعْضُهُ وَعَلَى هَذَا بَعْضُهُ إلَّا أَنَّ كُلَّ بَعْضٍ مِنْ هَذَيْنِ الْبَعْضَيْنِ هُوَ مِثْلُ وِزْرِ عَامِلٍ كَامِلٍ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ سَائِرُ النُّصُوصِ مِثْلُ قَوْلِهِ :
{ مَنْ دَعَا إلَى الضَّلَالَةِ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى { قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ } . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْأَتْبَاعَ دَعَوْا عَلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالِ بِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } . وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ لِكُلِّ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ وَالْأَتْبَاعِ تَضْعِيفًا مِنْ الْعَذَابِ . وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ الْأَتْبَاعُ التَّضْعِيفَ . وَلِهَذَا وَقَعَ عَظِيمُ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ لِأَئِمَّةِ الْهُدَى وَعَظِيمُ الذَّمِّ وَاللَّعْنَةِ لِأَئِمَّةِ الضَّلَالِ حَتَّى رُوِيَ فِي أَثَرٍ - لَا يَحْضُرُنِي إسْنَادُهُ - إنَّهُ مَا مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ إلَّا يُبْدَأُ فِيهِ بإبليس ثُمَّ يَصْعَدُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ وَمَا مِنْ نَعِيمٍ فِي الْجَنَّةِ إلَّا يُبْدَأُ فِيهِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ } فَإِنَّهُ هُوَ الْإِمَامُ الْمُطْلَقُ فِي الْهُدَى لِأَوَّلِ بَنِي آدَمَ وَآخِرِهِمْ . كَمَا قَالَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ آدَمَ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَلَا فَخْرَ } وَهُوَ شَفِيعُ الْأَوَّلِينَ والآخرين فِي الْحِسَابِ بَيْنَهُمْ ؛ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ . وَذَلِكَ أَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِيثَاقَ الْإِيمَانِ بِهِ كَمَا أَخَذَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَيُصَدِّقَ بِمَنْ بَعْدَهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ } الْآيَةَ . فَافْتَتَحَ الْكَلَامَ بِاللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا إذَا اشْتَمَلَ الْكَلَامُ عَلَى قَسَمٍ وَشَرْطٍ ؛ وَأَدْخَلَ اللَّامَ عَلَى مَا الشَّرْطِيَّةِ لِيُبَيِّنَ الْعُمُومَ وَيَكُونَ الْمَعْنَى : مَهْمَا آتِيكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ فَعَلَيْكُمْ إذَا جَاءَكُمْ ذَلِكَ النَّبِيُّ الْمُصَدِّقُ الْإِيمَانُ بِهِ وَنَصْرُهُ . كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَوَّهَ بِذِكْرِهِ وَأَعْلَنَهُ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى مَا بَيْنَ خَلْقِ جَسَدِ آدَمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ ؛ كَمَا فِي { حَدِيثِ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ متى كُنْت نَبِيًّا ؟ - وَفِي رِوَايَةٍ - مَتَى كُتِبْت نَبِيًّا ؟ فَقَالَ : وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } رَوَاهُ أَحْمَد . وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ : إنِّي عِنْدَ اللَّهِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ . وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ } الْحَدِيثَ .
فَكَتَبَ اللَّهُ وَقَدَّرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفِي تِلْكَ الْحَالِ أَمْرَ إمَامِ الذُّرِّيَّةِ كَمَا كَتَبَ وَقَدَّرَ حَالَ الْمَوْلُودِ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بَيْنَ خَلْقِ جَسَدِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ . فَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين أُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ ثَوَابُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَأَطَاعَهُ فِي الشَّرَائِعِ الْمُفَصَّلَةِ أَعْظَمَ مِنْ ثَوَابِ مَنْ لَمْ يَأْتِ إلَّا بِالْإِيمَانِ الْمُجْمَلِ ؛ عَلَى أَنَّهُ إمَامٌ مُطْلَقٌ لِجَمِيعِ الذُّرِّيَّةِ وَأَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِنْ إيمَانِ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين ؛ كَمَا أَنَّ كُلَّ ضَلَالٍ وغواية فِي الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لإبليس مِنْهُ نَصِيبٌ ؛ فَهَذَا يُحَقِّقُ الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ وَيُؤَيِّدُ مَا فِي نُسْخَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْسَلًا - إمَّا مِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ . وَإِمَّا مِنْ مَرَاسِيلِ مَنْ فَوْقَهُ مِنْ التَّابِعِينَ - قَالَ : { بُعِثْت دَاعِيًا وَلَيْسَ إلَيَّ مِنْ الْهِدَايَةِ شَيْءٌ وَبُعِثَ إبْلِيسُ مُزَيِّنًا وَمُغْوِيًا وَلَيْسَ إلَيْهِ مِنْ الضَّلَالَةِ شَيْءٌ } . وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ : { وُزِنْت بِالْأُمَّةِ فَرَجَحْت ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ } فَأَمَّا كَوْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِحًا بِالْأُمَّةِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ مُضَافًا إلَى أَجْرِهِ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلِأَنَّ لَهُمَا
مُعَاوَنَةً مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ فِي إيمَانِ الْأُمَّةِ كُلِّهَا وَأَبُو بَكْرٍ كَانَ فِي ذَلِكَ سَابِقًا لِعُمَرِ وَأَقْوَى إرَادَةً مِنْهُ ؛ فَإِنَّهُمَا هُمَا اللَّذَانِ كَانَا يُعَاوِنَانِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إيمَانِ الْأُمَّةِ فِي دَقِيقِ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا ؛ فِي مَحْيَاهُ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ . وَلِهَذَا { سَأَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ : أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ؟ أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُجِيبُوهُ . فَقَالَ : أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهُمْ . فَلَمْ يَمْلِكْ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ : كَذَبْت يَا عَدُوَّ اللَّهِ إنَّ الَّذِي ذَكَرْت لَأَحْيَاءٌ وَقَدْ بَقِيَ لَك مَا يَسُوءُك } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ . فَأَبُو سُفْيَانَ - رَأْسُ الْكُفْرِ حِينَئِذٍ - لَمْ يَسْأَلْ إلَّا عَنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ { عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا وُضِعَتْ جِنَازَةُ عُمَرَ قَالَ : وَاَللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ أَحَبّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِعَمَلِهِ مِنْ هَذَا الْمُسَجَّى وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْشُرَك اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْك ؛ فَإِنِّي كَثِيرًا مَا كُنْت أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : دَخَلْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَخَرَجْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَذَهَبْت أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ } وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمَا إنْ كَانَ لَهُمَا مِثْلُ أَعْمَالِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ ؛ لِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقُدْرَةِ
عَلَى ذَلِكَ ؛ كُلِّهِ بِخِلَافِ مَنْ أَعَانَ عَلَى بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ وَوُجِدَتْ مِنْهُ إرَادَةٌ فِي بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ . وَ " أَيْضًا " فَالْمُرِيدُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إمَامًا وَدَاعِيًا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فَاَللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَالْقَاعِدِ الَّذِي لَيْسَ بِعَاجِزِ ؛ وَلَمْ يَنْفِ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُجَاهِدِ وَبَيْنَ الْقَاعِدِ الْعَاجِزِ ؛ بَلْ يُقَالُ : دَلِيلُ الْخِطَابِ يَقْتَضِي مُسَاوَاتَهُ إيَّاهُ . وَلَفْظُ الْآيَةِ صَرِيحٌ . اسْتَثْنَى أُولُو الضَّرَرِ مِنْ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ فَالِاسْتِثْنَاءُ هُنَا هُوَ مِنْ النَّفْيِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أُولِي الضَّرَرِ قَدْ يُسَاوُونَ الْقَاعِدِينَ وَإِنْ لَمْ يُسَاوُوهُمْ فِي الْجَمِيعِ وَيُوَافِقُهُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ : { إنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ . قَالُوا : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ . قَالَ : وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَاعِدَ بِالْمَدِينَةِ الَّذِي لَمْ يَحْبِسْهُ إلَّا الْعُذْرُ هُوَ مِثْلُ مَنْ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِي مَعَهُ فِي الْغَزْوَةِ يُثَابُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَوَابَ غَازٍ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ
فَكَذَلِكَ الْقَاعِدُونَ الَّذِينَ لَمْ يَحْبِسْهُمْ إلَّا الْعُذْرُ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ عَمَلًا ثُمَّ لَمْ يَتْرُكْهُ إلَّا لِمَرَضِ أَوْ سَفَرٍ ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ لِوُجُودِ الْعَجْزِ وَالْمَشَقَّةِ لَا لِضَعْفِ النِّيَّةِ وَفُتُورِهَا فَكَانَ لَهُ مِنْ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهَا الْفِعْلُ إلَّا لِضَعْفِ الْقُدْرَةِ مَا لِلْعَامِلِ وَالْمُسَافِرِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا مَعَ مَشَقَّةٍ كَذَلِكَ بَعْضُ الْمَرَضِ إلَّا أَنَّ الْقُدْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَقَوْلِهِ : { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَنَحْوُ ذَلِكَ لَيْسَ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ الْقُدْرَةَ الَّتِي يُمْكِنُ وُجُودُ الْفِعْلِ بِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْمُكْنَةُ خَالِيَةً عَنْ مَضَرَّةٍ رَاجِحَةٍ بَلْ أَوْ مُكَافِئَةٍ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَقَدْ غَزَا } وَقَوْلُهُ : { مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ } فَإِنَّ الْغَزْوَ يَحْتَاجُ إلَى جِهَادٍ بِالنَّفْسِ وَجِهَادٍ بِالْمَالِ فَإِذَا بَذَلَ هَذَا بَدَنَهُ وَهَذَا مَالَهُ مَعَ وُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُجَاهِدًا
بِإِرَادَتِهِ الْجَازِمَةِ وَمَبْلَغِ قُدْرَتِهِ وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ لِلْغَازِي مِنْ خَلِيفَةٍ فِي الْأَهْلِ فَإِذَا خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرِ فَهُوَ أَيْضًا غَازٍ وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إمْسَاكٍ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعَشَاءِ الَّذِي بِهِ يَتِمُّ الصَّوْمُ وَإِلَّا فَالصَّائِمُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَشَاءَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّوْمِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ وَلِزَوْجِهَا مِثْلُ ذَلِكَ لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ مِنْ أُجُورِ بَعْضٍ شَيْئًا } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى : { الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفِّرًا طَيِّبَةٌ بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ } أَخْرَجَاهُ . وَذَلِكَ أَنَّ إعْطَاءَ الْخَازِنِ الْأَمِينِ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ مُوَفِّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الْمُوَافِقَةِ لِإِرَادَةِ الْآمِرِ وَقَدْ فَعَلَ مَقْدُورَهُ وَهُوَ الِامْتِثَالُ فَكَانَ أَحَدَ الْمُتَصَدِّقِينَ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ الأنماري الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةٍ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَمَالًا فَهُوَ يَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَقَالَ رَجُلٌ : لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ فُلَانٍ لَعَمِلْت بِعَمَلِهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ } وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُطَوَّلًا وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ فَهَذَا التَّسَاوِي مَعَ " الْأَجْرِ وَالْوِزْرِ " هُوَ فِي حِكَايَةِ حَالِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ
وَكَانَ صَادِقًا فِيهِ وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ إرَادَةً جَازِمَةً لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا الْفِعْلُ إلَّا لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ ؛ فَلِهَذَا اسْتَوَيَا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَلَيْسَ هَذِهِ الْحَالُ تَحْصُلُ لِكُلِّ مَنْ قَالَ : " لَوْ أَنَّ لِي مَا لِفُلَانِ لَفَعَلْت مِثْلَ مَا يَفْعَلُ " إلَّا إذَا كَانَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ مَعَهَا إذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ حَاصِلَةً وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَقُولُ ذَلِكَ عَنْ عَزْمٍ لَوْ اقْتَرَنَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ لَانْفَسَخَتْ عَزِيمَتُهُ كَعَامَّةِ الْخَلْقِ يُعَاهِدُونَ وَيَنْقُضُونَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَزَمَ عَلَى شَيْءٍ عَزْمًا جَازِمًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَعَدِمَ الصوارف عَنْ الْفِعْلِ تَبْقَى تِلْكَ الْإِرَادَةُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ للصوارف كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } وَكَمَا قَالَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ } { فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } وَحَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ فِي النِّيَّاتِ مِثْلُ حَدِيثِ الْبِطَاقَةِ فِي الْكَلِمَاتِ . وَهُوَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْشُرُ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِنْهَا مَدَى الْبَصَرِ وَيُقَالُ لَهُ هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا ؟ هَلْ ظَلَمْتُك ؟ فَيَقُولُ :
لَا يَا رَبِّ . فَيُقَالُ لَهُ : لَا ظُلْمَ عَلَيْك الْيَوْمَ فَيُؤْتَى بِبِطَاقَةِ فِيهَا التَّوْحِيدُ ؛ فَتُوضَعُ فِي كِفَّةٍ وَالسِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ } فَهَذَا لِمَا اقْتَرَنَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ وَالصَّفَاءِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ ؛ إذْ الْكَلِمَاتُ وَالْعِبَادَاتُ وَإِنْ اشْتَرَكَتْ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهَا تَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا . وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي حَدِيثِ : الْمَرْأَةِ الْبَغِيِّ الَّتِي سَقَتْ كَلْبًا فَغَفَرَ اللَّهُ لَهَا ؛ فَهَذَا لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهَا مِنْ حُسْنِ النِّيَّةِ وَالرَّحْمَةِ إذْ ذَاكَ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ . يَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سُخْطَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }
فَصْلٌ :
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ : أَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي بِهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْهَامِّ وَالْعَامِلِ وَأَمْثَالِهَا إنَّمَا هِيَ فِيمَا دُونَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا الْفِعْلُ . كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ العطاردي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ :
{ إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ؛ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ : فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً . فَإِنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا لَهُ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً . فَإِنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ نَحْوُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . فَهَذَا التَّقْسِيمُ هُوَ فِي رَجُلٍ يُمْكِنُهُ الْفِعْلُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : " فَعَمِلَهَا " " فَلَمْ يَعْمَلْهَا " وَمَنْ أَمْكَنَهُ الْفِعْلُ فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَكُنْ إرَادَتُهُ جَازِمَةٍ ؛ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي وُجُودِ الْفِعْلِ وَمُوجِبٌ لَهُ ؛ إذْ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ تَكُنْ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ تَامَّةً كَافِيَةً فِي وُجُودِ الْفِعْلِ وَمِنْ الْمَعْلُومِ الْمَحْسُوسِ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ " الْهَمَّ " و " الْعَزْمَ " و " الْإِرَادَةَ " وَنَحْوَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ جَازِمًا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْفِعْلُ إلَّا لِلْعَجْزِ وَقَدْ لَا يَكُونُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْجَزْمِ . فَهَذَا " الْقِسْمُ الثَّانِي " يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الْمُرِيدِ وَالْفَاعِلِ ؛ بَلْ يُفَرَّقُ بَيْنَ إرَادَةٍ وَإِرَادَةٍ إذْ الْإِرَادَةُ هِيَ عَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَلِكُ الْجَسَدِ . كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } فَإِذَا هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَانَ قَدْ أَتَى بِحَسَنَةٍ وَهِيَ الْهَمُّ بِالْحَسَنَةِ فَتُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً فَإِنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ وَخَيْرٌ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي عُرْفِ النَّاسِ كَمَا قِيلَ :
لَأَشْكُرَنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْت بِهِ * * * إنَّ اهْتِمَامَك بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفُ
وَلَا أَلُومُك إنْ لَمْ يُمْضِهِ قَدْرٌ * * * فَالشَّيْءُ بِالْقَدَرِ الْمَحْتُومِ مَصْرُوفُ
فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ لِمَا مَضَى رَحْمَتَهُ أَنَّ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ } وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِمَنْ جَاءَ بِنَاقَةِ { لَك بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ مَزْمُومَةٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ } . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا { أَنَّهُ يُعْطَى بِهِ أَلْفَ أَلْفَ حَسَنَةٍ } . وَأَمَا الْهَامُّ بِالسَّيِّئَةِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَكْتُبُهَا عَلَيْهِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَسَوَاءٌ سُمِّيَ هَمُّهُ إرَادَةً أَوْ عَزْمًا أَوْ لَمْ يُسَمَّ مَتَى كَانَ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ وَهَمَّ بِهِ وَعَزَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ فَلَيْسَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلَ بِهِ } فَإِنَّ مَا هَمَّ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا مِنْ الْكَلَامِ وَالْعَمَلِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تَكُنْ إرَادَتُهُ لَهَا جَازِمَةً فَتِلْكَ مِمَّا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِ كَمَا شَهِدَ بِهِ قَوْلُهُ : { مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا } وَمَنْ حَكَى الْإِجْمَاعَ كَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِ . فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ صَحِيحٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ . وَهَذَا الْهَامُّ بِالسَّيِّئَةِ : فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهَا لِخَشْيَةِ اللَّهِ وَخَوْفِهِ أَوْ يَتْرُكَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنْ تَرَكَهَا لِخَشْيَةِ اللَّهِ كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً كَمَا قَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ وَكَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { اُكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي أَوْ قَالَ : مِنْ جَرَّائِي } وَأَمَّا إنْ تَرَكَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ سَيِّئَةً كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ } . وَبِهَذَا تَتَّفِقُ مَعَانِي الْأَحَادِيثِ . وَإِنْ عَمِلَهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ إلَّا سَيِّئَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُضَعِّفُ السَّيِّئَاتِ بِغَيْرِ عَمَلِ صَاحِبِهَا وَلَا يَجْزِي الْإِنْسَانَ فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِمَا عَمِلَتْ نَفْسُهُ وَلَا تَمْتَلِئُ جَهَنَّمُ إلَّا مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسٍ { أَنَّ الْجَنَّةَ يَبْقَى فِيهَا فَضْلٌ فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا أَقْوَامًا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا النَّارُ فَإِنَّهُ يَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى
بَعْضٍ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئَ بِمَنْ دَخَلَهَا مِنْ أَتْبَاعِ إبْلِيسَ } . وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ الْوَقْفَ فِي أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ ؛ وَأَنَّهُ لَا يُجْزَمُ لِمُعَيَّنِ مِنْهُمْ بِجَنَّةِ وَلَا نَارٍ بَلْ يُقَالُ فِيهِمْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ : حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ : { اللَّهُ أَعْلَم بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ } . فَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَفِي حَدِيثِ سُمْرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ { أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ } وَثَبَتَ { أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ } كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ فِي قِصَّةِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ وَهَذَا يُحَقِّقُ مَا رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ : أَنَّهُمْ يُمْتَحَنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَظْهَرُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ فِيهِمْ فَيَجْزِيهِمْ حِينَئِذٍ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَكَاهُ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَاخْتَارَهُ . وَأَمَّا أَئِمَّةُ الضَّلَالِ - الَّذِينَ عَلَيْهِمْ أَوْزَارُ مَنْ أَضَلُّوهُ - وَنَحْوَهُمْ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ إنَّمَا عُوقِبُوا لِوُجُودِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ ؛ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ " فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ " وَقَوْلُهُ : { مَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْوِزْرِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ تَبِعَهُ } فَإِذَا وُجِدَتْ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الْفِعْلِ صَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْفَاعِلِ التَّامِّ ، وَالْهَامُّ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي لَمْ يَعْمَلْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا لَمْ تُوجَدْ مِنْهُ إرَادَةٌ جَازِمَةٌ وَفَاعِلُ
السَّيِّئَةِ الَّتِي تَمْضِي لَا يُجْزَى بِهَا إلَّا سَيِّئَةً وَاحِدَةً كَمَا شَهِدَ بِهِ النَّصُّ وَبِهَذَا يَظْهَرُ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد : " الْهَمُّ " هَمَّانِ : هَمُّ خَطِرَاتٍ وَهَمُّ إصْرَارٍ . فَهَمُّ الْخَطِرَاتِ يَكُونُ مِنْ الْقَادِرِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هَمُّهُ إصْرَارًا جَازِمًا وَهُوَ قَادِرٌ لَوَقَعَ الْفِعْلُ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ هَمُّ " يُوسُفَ " حَيْثُ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } الْآيَةُ . وَأَمَّا هَمُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي رَاوَدَتْهُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ كَانَ هَمَّ إصْرَارٍ لِأَنَّهَا فَعَلَتْ مَقْدُورَهَا وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } فَهَذَا الْهَمُّ الْمَذْكُورُ عَنْهُمْ هَمٌّ مَذْمُومٌ كَمَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمِثْلُهُ يَذُمُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازِمًا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي آخِرِ الْجَوَابِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُنَافِي الْإِيمَانَ وَبَيْنَ مَا لَا يُنَافِيهِ وَكَذَلِكَ الْحَرِيصُ عَلَى السَّيِّئَاتِ الْجَازِمُ بِإِرَادَةِ فِعْلِهَا إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ إلَّا مُجَرَّدُ الْعَجْزِ فَهَذَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ عُقُوبَةَ الْفَاعِلِ لِحَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ وَلِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ قِيلَ : هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ } وَفِي لَفْظٍ : { إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ } . فَهَذِهِ " الْإِرَادَةُ " هِيَ الْحِرْصُ وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ وَقَدْ وُجِدَ مَعَهَا الْمَقْدُورُ وَهُوَ الْقِتَالُ لَكِنْ عَجَزَ عَنْ الْقَتْلِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْهَمِّ الَّذِي لَا يُكْتَبُ وَلَا يُقَالُ إنَّهُ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ : لَوْ أَنَّ لِي مَا لِفُلَانِ
لَعَمِلْت مِثْلَ مَا عَمِلَ فَإِنَّ تَمَنِّي الْكَبَائِرِ لَيْسَ عُقُوبَتُهُ كَعُقُوبَةِ فَاعِلِهَا بِمُجَرَّدِ التَّكَلُّمِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ آخَرَ وَهُوَ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى كَلَامِهِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ } لَا يُنَافِي الْعُقُوبَةَ عَلَى الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي لَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا الْفِعْلُ فَإِنَّ " الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ " هِيَ الَّتِي يَقْتَرِنُ بِهَا الْمَقْدُورُ مِنْ الْفِعْلِ وَإِلَّا فَمَتَى لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الْمَقْدُورُ مِنْ الْفِعْلِ لَمْ تَكُنْ جَازِمَةً فَالْمُرِيدُ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ الْعَازِمُ عَلَى ذَلِكَ مَتَى كَانَتْ إرَادَتُهُ جَازِمَةً عَازِمَةً فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا مِنْ الْفِعْلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إلَى جِهَةِ الْمَعْصِيَةِ : مِثْلَ تَقَرُّبِ السَّارِقِ إلَى مَكَانِ الْمَالِ الْمَسْرُوقِ وَمِثْلَ نَظَرِ الزَّانِي وَاسْتِمَاعِهِ إلَى الْمَزْنِيِّ بِهِ وَتَكَلُّمِهِ مَعَهُ وَمِثْلَ طَلَبِ الْخَمْرِ وَالْتِمَاسِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ مِنْ شَيْءٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفِعْلِ الْمَقْدُورِ بَلْ مُقَدِّمَاتُ الْفِعْلِ تُوجَدُ بِدُونِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَاللِّسَانُ يَزْنِي وَزِنَاهُ النُّطْقُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ : { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟
قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ { إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ } . فَإِنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ إرَادَةً جَازِمَةً فَعَلَ مَعَهَا مَقْدُورَهُ مَنَعَهُ مِنْهَا مِنْ قَتْلِ صَاحِبِهِ الْعَجْزُ وَلَيْسَتْ مُجَرَّدَ هَمٍّ وَلَا مُجَرَّدَ عَزْمٍ عَلَى فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ فَاسْتَحَقَّ حِينَئِذٍ النَّارَ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ الَّتِي أَتَى مَعَهَا بِالْمُمْكِنِ يَجْرِي صَاحِبُهَا مَجْرَى الْفَاعِلِ التَّامِّ . و " الْإِرَادَةُ التَّامَّةُ " قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ مَعَهَا بِالْمَقْدُورِ أَوْ بَعْضِهِ وَحَيْثُ تَرَكَ الْفِعْلَ الْمَقْدُورَ فَلَيْسَتْ جَازِمَةً بَلْ قَدْ تَكُونُ جَازِمَةً فِيمَا فَعَلَ دُونَ مَا تَرَكَ مَعَ الْقُدْرَةِ مِثْلَ الَّذِي يَأْتِي بِمُقَدِّمَاتِ الزِّنَا : مِنْ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ وَالْقُبْلَةِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى ؛ وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحِ { الْعَيْنُ تَزْنِي وَالْأُذُنُ تَزْنِي وَاللِّسَانُ يَزْنِي - إلَى أَنْ قَالَ - وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي } أَيْ يَتَمَنَّى الْوَطْءَ وَيَشْتَهِيهِ وَلَمْ يَقُلْ " يُرِيدُ " وَمُجَرَّدُ الشَّهْوَةِ وَالتَّمَنِّي لَيْسَ إرَادَةً جَازِمَةً وَلَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْفِعْلِ فَلَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ إذَا أَرَادَ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ الَّتِي يُصَدِّقُهَا الْفَرْجُ . وَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ { أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً : فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ
لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } الْآيَةُ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَلِي هَذِهِ ؟ فَقَالَ : لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي } فَمِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ وَأَمْثَالُهُ لَا بُدَّ فِي الْغَالِبِ أَنْ يَهُمَّ بِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ : { وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } لَكِنَّ إرَادَتَهُ الْقَلْبِيَّةَ لِلْقُبْلَةِ كَانَتْ إرَادَةً جَازِمَةً فَاقْتَرَنَ بِهَا فِعْلُ الْقُبْلَةِ بِالْقُدْرَةِ وَأَمَّا إرَادَتُهُ لِلْجِمَاعِ فَقَدْ تَكُونُ غَيْرَ جَازِمَةٍ وَقَدْ تَكُونُ جَازِمَةً لَكِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا . وَالْأَشْبَهُ فِي الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ .
فَتَفْرِيقُ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : بَيْنَ هَمِّ الْخَطِرَاتِ وَهَمِّ الْإِصْرَارِ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَوَابُ فَمَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْفِعْلِ إلَّا الْعَجْزُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ وَإِنْ فَعَلَهُ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى الْعَوْدِ مَتَى قَدَرَ فَهُوَ مُصِرٌّ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْمُصِرُّ الَّذِي يَشْرَبُ الْخَمْرَ الْيَوْمَ ثُمَّ لَا يَشْرَبُهَا إلَى شَهْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةٍ وَمَنْ نِيَّتُهُ أَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى شُرْبِهَا " شَرِبَهَا " . وَقَدْ يَكُونُ مُصِرًّا إذَا عَزَمَ عَلَى الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ كَمَنْ يَعْزِمُ عَلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ دُونَ غَيْرِهِ فَلَيْسَ هَذَا بِتَائِبِ مُطْلَقًا . وَلَكِنَّهُ تَارِكٌ لِلْفِعْلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيُثَابُ إذَا كَانَ ذَلِكَ التَّرْكُ لِلَّهِ وَتَعْظِيمِ شَعَائِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ التَّائِبِينَ الَّذِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ مَغْفِرَةً مُطْلَقَةً وَلَا هُوَ مُصِرٌّ مُطْلَقًا . وَأَمَّا الَّذِي