الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
يَسْقُطُ عَنْهُ حُضُورُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ ؟ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ ؟ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ حُضُورَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا لِعُذْرِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنَنُ وَالْآثَارُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ رَجُلٍ أَدْرَكَ آخِرَ جَمَاعَةٍ وَبَعْدَ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ جَمَاعَةٌ أُخْرَى فَهَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ مُتَابَعَةُ هَؤُلَاءِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ ؟ أَوْ يَنْتَظِرُ الْجَمَاعَةَ الْأُخْرَى ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا إذَا أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ بِأَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ ؟ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ يَكُونُ مُدْرِكًا وَطَرَدَ قِيَاسَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ فِي الْجُمُعَةِ : يَكُونُ مُدْرِكًا لَهَا بِإِدْرَاكِ الْقَعْدَةِ فَيُتِمُّهَا جُمُعَةً . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ : أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا إلَّا بِإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ وَطَرَدَ الْمَسْأَلَةَ فِي ذَلِكَ حَتَّى فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ الْوَقْتِ ، فَإِنَّ الْمَوَاضِعَ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْوَاعٌ : أَحَدُهَا : الْجُمُعَةُ . وَالثَّانِي : فَضْلُ الْجَمَاعَةِ .
وَالثَّالِثُ : إدْرَاكُ الْمُسَافِرِ مِنْ صَلَاةِ الْمُقِيمِ . وَالرَّابِعُ : إدْرَاكُ بَعْضِ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ كَإِدْرَاكِ بَعْضِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ . وَالْخَامِسُ : إدْرَاكُ آخِرِ الْوَقْتِ كَالْحَائِضِ تَطْهُرُ وَالْمَجْنُونِ يُفِيقُ وَالْكَافِرِ يُسْلِمُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ . وَالسَّادِسُ : إدْرَاكُ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْوُجُوبَ بِذَلِكَ فَإِنَّ فِي هَذَا الْأَصْلِ السَّادِسِ نِزَاعًا . وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَقَالَا فِي الْجُمُعَةِ بِقَوْلِ مَالِكٍ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنْ الْجُمُعَةِ رَكْعَةً يُصَلِّي إلَيْهَا أُخْرَى وَمَنْ أَدْرَكَهُمْ فِي التَّشَهُّدِ صَلَّى أَرْبَعًا . وَأَمَّا سَائِرُ الْمَسَائِلِ فَفِيهَا نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُمَا قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِمَا يُرَجِّحُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالْأَظْهَرُ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ كَمَا ذَكَرَهُ الخرقي فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ
الصَّلَاةَ } فَهَذَا نَصٌّ عَامٌّ فِي جَمِيعِ صُوَرِ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ مِنْ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كَانَ إدْرَاكَ جَمَاعَةٍ أَوْ إدْرَاكَ الْوَقْتِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْفَجْرَ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ } . وَهَذَا نَصٌّ فِي رَكْعَةٍ فِي الْوَقْتِ . وَقَدْ عَارَضَ هَذَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ : { مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً } وَظَنُّوا أَنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ مَا إذَا أَدْرَكَ السَّجْدَةَ الْأُولَى وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّجْدَةِ الرَّكْعَةُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ : { حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَهَا وَسَجْدَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ } إلَى آخِرِهِ . وَفِي اللَّفْظِ الْمَشْهُورِ " رَكْعَتَيْنِ " وَكَمَا رُوِيَ : { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْوِتْرِ سَجْدَتَيْنِ } وَهُمَا رَكْعَتَانِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُفَسَّرًا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَمَنْ سَجَدَ بَعْدَ الْوِتْرِ سَجْدَتَيْنِ مُجَرَّدَتَيْنِ عَمَلًا بِهَذَا فَهُوَ غالط بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَهُمْ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِإِدْرَاكِ سَجْدَةٍ مِنْ السَّجْدَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ يَقُولُوا بِالْحَدِيثِ . فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمُدْرَكُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ وَكَانَ بَعْدَهَا جَمَاعَةٌ أُخْرَى فَصَلَّى مَعَهُمْ فِي جَمَاعَةٍ صَلَاةً تَامَّةً فَهَذَا أَفْضَلُ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ مُصَلِّيًا فِي جَمَاعَةٍ ؛ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْمُدْرَكُ رَكْعَةً أَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ وَقُلْنَا إنَّهُ يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلْجَمَاعَةِ فَهُنَا قَدْ تَعَارَضَ إدْرَاكُهُ
لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ وَإِدْرَاكُهُ لِلثَّانِيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا فَإِنَّ إدْرَاكَ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَوَّلِهَا أَفْضَلُ . كَمَا جَاءَ فِي إدْرَاكِهَا بِحَدِّهَا فَإِنْ كَانَتْ الْجَمَاعَتَانِ سَوَاءً فَالثَّانِيَةُ أَفْضَلُ وَإِنْ تَمَيَّزَتْ الْأُولَى بِكَمَالِ الْفَضِيلَةِ أَوْ كَثْرَةِ الْجَمْعِ أَوْ فَضْلِ الْإِمَامِ أَوْ كَوْنِهَا الرَّاتِبَةَ فَهِيَ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ أَفْضَلُ وَتِلْكَ مِنْ جِهَةِ إدْرَاكِهَا بِحَدِّهَا أَفْضَلُ وَقَدْ يَتَرَجَّحُ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً . وَأَمَّا إنْ قَدَّرَ أَنَّ الثَّانِيَةَ أَكْمَلُ أَفْعَالًا وَإِمَامًا أَوْ جَمَاعَةً فَهُنَا قَدْ تَرَجَّحَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ فِي السَّلَفِ إلَّا إذَا كَانَ مُدْرِكًا لِمَسْجِدِ آخَرَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الْوَاحِدِ إمَامَانِ رَاتِبَانِ وَكَانَتْ الْجَمَاعَةُ تَتَوَفَّرُ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَلَاتَهُ مَعَ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً وَلَوْ رَكْعَةً خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَلَوْ كَانَ جَمَاعَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ صَلَّى فَرْضَهُ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَوَجَدَهُمْ يُصَلُّونَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ الْجَمَاعَةِ مِنْ الْفَائِتِ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا صَلَّى الرَّجُلُ الْفَرِيضَةَ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدًا تُقَامُ فِيهِ تِلْكَ
الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّهَا مَعَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ لِرَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَ النَّاسِ : فَقَالَ : { مَا لَكُمَا لَمْ تُصَلِّيَا ؟ أَلَسْتُمَا مُسْلِمَيْنِ ؟ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَالَ : إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } . وَمَنْ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى قَضَائِهَا عَلَى الْفَوْرِ سَوَاءٌ فَاتَتْهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ . كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ الرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا إذَا فَاتَتْ عَمْدًا كَانَ قَضَاؤُهَا وَاجِبًا عَلَى الْفَوْرِ . وَإِذَا صَلَّى مَعَ الْجَمَاعَةِ نَوَى بِالثَّانِيَةِ مُعَادَةً وَكَانَتْ الْأُولَى فَرْضًا وَالثَّانِيَةُ نَفْلًا عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ . وَقِيلَ : الْفَرْضُ أَكْمَلُهُمَا وَقِيلَ : ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ : { شَهِدْت حَجَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّيْت مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ وَانْحَرَفَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلَيْنِ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ لَمْ يُصَلِّيَا فَقَالَ :
عَلَيَّ بِهِمَا فَإِذَا بِهِمَا تُرْعَدُ فَرَائِصُهُمَا فَقَالَ : مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا ؟ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا قَالَ : فَلَا تَفْعَلَا إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } . وَالثَّانِي : عَنْ سَلْمَانَ بْنِ سَالِمٍ قَالَ : { رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ جَالِسًا عَلَى الْبَلَاطِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ فَقُلْت : يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا لَك لَا تُصَلِّي ؟ فَقَالَ : إنِّي قَدْ صَلَّيْت وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا تُعَادُ صَلَاةٌ مَرَّتَيْنِ } فَمَا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَهُوَ فِي الْإِعَادَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَأَنَّهُ يُكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَقْصِدَ إعَادَةَ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي الْإِعَادَةَ إذْ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لِلصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ كَانَ يُمْكِنُ الْإِنْسَانَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ مَرَّاتٍ وَالْعَصْرَ مَرَّاتٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا لَا رَيْبَ فِي كَرَاهَتِهِ . وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْأَسْوَدِ : فَهُوَ إعَادَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِسَبَبِ اقْتَضَى الْإِعَادَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ : { إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } فَسَبَبُ الْإِعَادَةِ هُنَا حُضُورُ الْجَمَاعَةِ الرَّاتِبَةِ وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ صَلَّى ثُمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً رَاتِبَةً أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُمْ .
لَكِنْ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ الْإِعَادَةَ مُطْلَقًا كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّهَا إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ أَكْمَلَ كَمَالِكِ . فَإِذَا أَعَادَهَا فَالْأُولَى هِيَ الْفَرِيضَةُ عِنْدَ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ؛ لِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : { فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّهُ سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } وَهَذَا أَيْضًا يَتَضَمَّنُ إعَادَتَهَا لِسَبَبِ وَيَتَضَمَّنُ أَنَّ الثَّانِيَةَ نَافِلَةٌ . وَقِيلَ الْفَرِيضَةُ أَكْمَلُهُمَا . وَقِيلَ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ . وَمِمَّا جَاءَ فِي الْإِعَادَةِ لِسَبَبِ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد لَمَّا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا يُصَلِّي مَعَهُ } . فَهُنَا هَذَا الْمُتَصَدِّقُ قَدْ أَعَادَ الصَّلَاةَ لِيَحْصُلَ لِذَلِكَ الْمُصَلِّي فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ ثُمَّ الْإِعَادَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا مَشْرُوعَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَالِكٍ وَقْتَ النَّهْيِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُشْرَعُ وَقْتَ النَّهْيِ . وَأَمَّا الْمَغْرِبُ : فَهَلْ تُعَادُ عَلَى صِفَتِهَا ؟ أَمْ تُشْفَعُ بِرَكْعَةِ ؟ أَمْ لَا تُعَادُ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ لِلْفُقَهَاءِ . وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْإِعَادَةُ لِسَبَبِ مَا ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ صَلَوَاتِ الْخَوْفِ صَلَّى بِهِمْ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ صَلَّى بِطَائِفَةِ رَكْعَتَيْنِ
ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِطَائِفَةِ أُخْرَى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ } وَمِثْلُ هَذَا حَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ لَمَّا كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُنَا إعَادَةٌ أَيْضًا وَصَلَاةٌ مَرَّتَيْنِ . وَالْعُلَمَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي مِثْلِ هَذَا : وَهِيَ مَسْأَلَةُ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ " عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَقِيلَ : لَا يَجُوزُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ . وَقِيلَ : يَجُوزُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي رِوَايَةٍ ثَانِيَةٍ . وَقِيلَ : يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ مِثْلُ حَالِ الْخَوْفِ وَالْحَاجَةِ إلَى الِائْتِمَامِ بِالْمُتَطَوِّعِ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهَا كَرِوَايَةِ ثَالِثَةٍ عَنْ أَحْمَد . وَيُشْبِهُ هَذَا إعَادَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يُشْرَعُ بِغَيْرِ سَبَبٍ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ بَلْ لَوْ صَلَّى عَلَيْهَا مَرَّةً ثَانِيَةً ثُمَّ حَضَرَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ ، فَهَلْ يُصَلِّي عَلَيْهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ . قِيلَ : يُصَلِّي عَلَيْهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَيُصَلِّي عِنْدَهُمَا عَلَى الْقَبْرِ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ بَعْدَ مَا صَلَّى عَلَيْهَا غَيْرُهُمْ . وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ كَمَا يَنْهَيَانِ عَنْ إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ قَالُوا ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ بِالصَّلَاةِ الْأُولَى فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ نَافِلَةً وَالصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا . وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ يُصَلِّي الْفَرِيضَةَ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ
عَلَيْهِ وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد يُجِيبُونَ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الثَّانِيَةَ تَقَعُ فَرْضًا عَمَّنْ فَعَلَهَا وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي سَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ : أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا أَسْقَطَ بِهَا فَرْضَ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ فَعَلَهَا فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِإِسْقَاطِ ذَلِكَ وَبَيْنَ أَنْ يُسْقِطَ الْفَرْضَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ نَافِلَةٌ وَيَمْنَعُونَ قَوْلَ الْقَائِلِ : إنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ لَا يُتَطَوَّعُ بِهَا بَلْ قَدْ يُتَطَوَّعُ بِهَا إذَا كَانَ هُنَاكَ سَبَبٌ يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَيْنِ الْمَأْخَذَيْنِ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْجِنَازَةَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ أَوَّلًا : فَهَلْ لِمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا أَنْ يُصَلِّيَ مَعَهُ تَبَعًا ؟ كَمَا يَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فِي الْمَكْتُوبَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ . قِيلَ : لَا يَجُوزُ هُنَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ هُنَا نَفْلٌ بِلَا نِزَاعٍ ، وَهِيَ لَا يَتَنَفَّلُ بِهَا ، وَقِيلَ : بَلْ لَهُ الْإِعَادَةُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ صَلَّى خَلْفَهُ مَنْ كَانَ قَدْ صَلَّى أَوَّلًا ، وَهَذَا أَقْرَبُ فَإِنَّ هَذِهِ الْإِعَادَةَ بِسَبَبِ اقْتَضَاهُ لَا إعَادَةً مَقْصُودَةً وَهَذَا سَائِغٌ فِي الْمَكْتُوبَةِ وَالْجِنَازَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَمَّنْ يَجِدُ الصَّلَاةَ قَدْ أُقِيمَتْ . فَأَيُّمَا أَفْضَلُ صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ ؟ أَوْ يَأْتِي بِالسُّنَّةِ وَيَلْحَقُ الْإِمَامَ وَلَوْ فِي التَّشَهُّدِ ؟ وَهَلْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ سُنَّةٌ لِلصُّبْحِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَلَا صَلَاةَ إلَّا الَّتِي أُقِيمَتْ } فَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا يَشْتَغِلُ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَلَا بِسُنَّةِ الْفَجْرِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ عَنْهَا بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ . وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ : وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْإِقَامَةَ فَلَا يُصَلِّي السُّنَّةَ لَا فِي بَيْتِهِ وَلَا فِي غَيْرِ بَيْتِهِ . بَلْ يَقْضِيهَا إنْ شَاءَ بَعْدَ الْفَرْضِ . وَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ سُنَّةً وَالْفَرِيضَةُ رَكْعَتَانِ وَلَيْسَ بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْفَرِيضَةِ سُنَّةٌ إلَّا رَكْعَتَانِ وَالْفَرِيضَةُ تُسَمَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ وَصَلَاةَ الْغَدَاةِ وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ تُسَمَّى سُنَّةَ الْفَجْرِ وَسُنَّةَ الصُّبْحِ وَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ " الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ " ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ نِزَاعٌ وَاضْطِرَابٌ مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ . وَأُصُولُ الْأَقْوَالِ ثَلَاثَةٌ : طَرَفَانِ وَوَسَطٌ . فَأَحَدُ الطَّرَفَيْنِ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ بِحَالِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ بِكُلِّ حَالٍ . وَالثَّالِثُ : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ ؛ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ أَنْصَتَ وَلَمْ يَقْرَأْ فَإِنَّ اسْتِمَاعَهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِهِ وَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ قَرَأَ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ خَيْرٌ مِنْ سُكُوتِهِ فَالِاسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِمَا وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : فَهَلْ الْقِرَاءَةُ حَالَ مُخَافَتَةِ الْإِمَامِ بِالْفَاتِحَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِ ؟ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . أَشْهَرُهُمَا أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَالِاسْتِمَاعُ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ وَالْقِرَاءَةُ إذَا سَمِعَ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ هَلْ هِيَ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ ؟ وَهَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ إذَا قَرَأَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ حِينَئِذٍ مُحَرَّمَةٌ وَإِذَا قَرَأَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَهَذَا أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ حَامِدٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ . وَالثَّانِي أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَنَظِيرُ هَذَا إذَا قَرَأَ حَالَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : هَلْ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُقْرَأَ الْقُرْآنُ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا } . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَقْرَأُ حَالَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ إنَّمَا يَأْمُرُونَهُ أَنْ يَقْرَأَ حَالَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ خَاصَّةً وَمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فَإِنَّ الْمَشْرُوعَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُسْتَمِعًا لَا قَارِئًا .
وَهَلْ قِرَاءَتُهُ لِلْفَاتِحَةِ مَعَ الْجَهْرِ وَاجِبَةٌ ، أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ . وَالثَّانِي أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الأوزاعي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَاخْتِيَارُ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا سَبِيلَ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ وَفِي فَسْخِ الْحَجِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ . يَتَعَيَّنُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ النَّظَرُ فِيمَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ صَلَاةُ الْعَصْرِ يَخْرُجُ وَقْتُهَا إذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ كَالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ . وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : حِينَئِذٍ يَدْخُلُ وَقْتُهَا وَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى وَقْتٍ تَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الْعَصْرِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ بَعْدَ مَصِيرِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ سِوَى ظِلِّ الزَّوَالِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَالْمَغْرِبُ أَيْضًا تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّى بَعْدَ الْغُرُوبِ وَالْعِشَاءُ تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّى بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ الْأَبْيَضِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَالْفَجْرُ
تُجْزِئُ بِاتِّفَاقِهِمْ إذَا صَلَّاهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى الْإِسْفَارِ الشَّدِيدِ وَأَمَّا الْعَصْرُ فَهَذَا يَقُولُ : تُصَلَّى إلَى الْمِثْلَيْنِ وَهَذَا يَقُولُ لَا تُصَلَّى إلَّا بَعْدَ الْمِثْلَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُصَلَّى مِنْ حِينِ يَصِيرُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ إلَى اصْفِرَارِ الشَّمْسِ فَوَقْتُهَا أَوْسَعُ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمَدَنِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْمَلَ فِيهَا بِقَوْلِ يُجْمَعُ عَلَيْهِ لَكِنْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ دَلَائِلُ شَرْعِيَّةٌ تُبَيِّنُ الْحَقَّ . وَمِنْ ذَلِكَ فَسْخُ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْحَجَّ الَّذِي اتَّفَقَ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِهِ أَنْ يُهِلَّ مُتَمَتِّعًا يُحْرِمَ بِعُمْرَةِ ابْتِدَاءً وَيُهِلَّ قَارِنًا وَقَدْ سَاقَ الْهَدْيَ فَأَمَّا إنْ أَفْرَدَ أَوْ قَرَنَ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فَفِي حَجِّهِ نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَنَقُولُ : إذَا جَهَرَ الْإِمَامُ اسْتَمَعَ لِقِرَاءَتِهِ فَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ لِبُعْدِهِ فَإِنَّهُ يَقْرَأُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُ لِصَمَمِهِ أَوْ كَانَ يَسْمَعُ
هَمْهَمَةَ الْإِمَامِ وَلَا يَفْقَهُ مَا يَقُولُ : فَفِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَقْرَأُ ؛ لِأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ إمَّا مُسْتَمِعًا وَإِمَّا قَارِئًا وَهَذَا لَيْسَ بِمُسْتَمِعِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ السَّمَاعِ فَقِرَاءَتُهُ أَفْضَلُ مِنْ سُكُوتِهِ فَنَذْكُرُ الدَّلِيلَ عَلَى الْفَصْلَيْنِ . عَلَى أَنَّهُ فِي حَالِ الْجَهْرِ يَسْتَمِعُ وَأَنَّهُ فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ يَقْرَأُ . فَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالِاعْتِبَارُ : أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْخُطْبَةِ وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ وَذَكَرَ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ حَالَ الْجَهْرِ . ثُمَّ يَقُولُ : قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } لَفْظٌ عَامٌّ فَإِمَّا أَنْ يَخْتَصَّ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الْقِرَاءَةِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ يَعُمُّهُمَا . وَالثَّانِي بَاطِلٌ قَطْعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَا يَجِبُ فِي
الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ اسْتِمَاعَ الْمُسْتَمِعِ إلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ الَّذِي يَأْتَمُّ بِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مُتَابَعَتُهُ أَوْلَى مِنْ اسْتِمَاعِهِ إلَى قِرَاءَةِ مَنْ يَقْرَأُ خَارِجَ الصَّلَاةِ دَاخِلَةٌ فِي الْآيَةِ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْخُصُوصِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَمْرِ الْمَأْمُومِ بِالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَسَوَاءٌ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ . فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ . فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ أَوْلَى مِنْ الْقِرَاءَةِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ وَالْمُنَازِعُ يُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ مَأْمُورٌ بِهِ دُونَ الْقِرَاءَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ . وَالْآيَةُ أَمَرَتْ بِالْإِنْصَاتِ إذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ . وَالْفَاتِحَةُ أُمُّ الْقُرْآنِ وَهِيَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَتِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَالْفَاتِحَةُ أَفْضَلُ سُوَرِ الْقُرْآنِ . وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَنْزِلْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلُهَا فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الِاسْتِمَاعَ إلَى غَيْرِهَا دُونَهَا مَعَ إطْلَاقِ لَفْظِ الْآيَةِ وَعُمُومِهَا مَعَ أَنَّ قِرَاءَتَهَا أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا . فَإِنَّ قَوْلَهُ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ } يَتَنَاوَلُهَا كَمَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا وَشُمُولُهُ لَهَا أَظْهَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى . وَالْعَادِلُ عَنْ اسْتِمَاعِهَا إلَى قِرَاءَتِهَا إنَّمَا يَعْدِلُ لِأَنَّ قِرَاءَتَهَا عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ وَهَذَا غَلَطٌ يُخَالِفُ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَمَرَتْ الْمُؤْتَمَّ بِالِاسْتِمَاعِ دُونَ الْقِرَاءَةِ وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ لِمَا زَادَ عَلَيْهَا .
فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ لِمَا يَقْرَأْهُ الْإِمَامُ أَفْضَلَ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَتِهِ لَكَانَ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ أَفْضَلَ مِنْ قِرَاءَتِهِ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ . وَإِنَّمَا نَازَعَ مَنْ نَازَعَ فِي الْفَاتِحَةِ لِظَنِّهِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَأْمُومِ مَعَ الْجَهْرِ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ لَهُ حِينَئِذٍ . وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ لَهُ بِالْقِرَاءَةِ يَحْصُلُ بِالِاسْتِمَاعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِدَلِيلِ اسْتِمَاعِهِ لِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فَلَوْلَا أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِالِاسْتِمَاعِ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَفْعَلَ أَفْضَلَ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِمَاعَ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ عُلِمَ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ يَحْصُلُ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْقَارِئِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا فَالْمُسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ يَحْصُلُ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ بِالْقِرَاءَةِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْأَدْنَى وَيُنْهَى عَنْ الْأَعْلَى . وَثَبَتَ أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ كَمَا قَالَ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } . وَهَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ مُرْسَلًا وَمُسْنَدًا لَكِنْ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ الثقاة رَوَوْهُ مُرْسَلًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسْنَدَهُ بَعْضُهُمْ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مُسْنَدًا وَهَذَا الْمُرْسَلُ قَدْ عَضَّدَهُ
ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَقَالَ بِهِ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمُرْسِلُهُ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ وَمِثْلُ هَذَا الْمُرْسَلِ يُحْتَجُّ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْلِ هَذَا الْمُرْسَلِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِمَاعَ إلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ أَمْرٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دَلَالَةً قَاطِعَةً ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا جَمِيعُ الْأُمَّةِ فَكَانَ بَيَانُهَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْبَيَانِ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ مُوَافِقَةً لِلْقُرْآنِ . فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَنَا فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا فَقَالَ : أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمّكُمْ أَحَدُكُمْ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } . وَهَذَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الطَّوِيلِ الْمَشْهُورِ . لَكِنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ زَادَ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ : { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَهَا وَهِيَ زِيَادَةٌ مِنْ الثِّقَةِ لَا تُخَالِفُ الْمَزِيدَ بَلْ تُوَافِقُ مَعْنَاهُ وَلِهَذَا رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . فَإِنَّ الْإِنْصَاتَ إلَى قِرَاءَةِ الْقَارِئِ مِنْ تَمَامِ الِائْتِمَامِ بِهِ فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْتَمِّينَ بِهِ وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ حِكْمَةَ سُقُوطِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فَإِنَّ مُتَابَعَتَهُ لِإِمَامِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا حَتَّى فِي الْأَفْعَالِ فَإِذَا أَدْرَكَهُ سَاجِدًا سَجَدَ مَعَهُ وَإِذَا أَدْرَكَهُ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ
تَشَهَّدَ عَقِبَ الْوِتْرِ وَهَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُنْفَرِدًا لَمْ يَجُزْ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ لِأَجْلِ الِائْتِمَامِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِائْتِمَامَ يَجِبُ بِهِ مَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ وَيَسْقُطُ بِهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْفَرِدِ . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي وَابْنُ مَاجَه . قِيلَ لِمُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَحِيحٌ يَعْنِي { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } قَالَ هُوَ عِنْدِي صَحِيحٌ . فَقِيلَ لَهُ : لِمَا لَا تَضَعُهُ هَاهُنَا ؟ يَعْنِي فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٍ وَضَعْته هَاهُنَا إنَّمَا وَضَعْت هَاهُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ . وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ ابْنِ أكيمة الليثي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ . { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا فَقَالَ : هَلْ قَرَأَ مَعِي أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : نَعَمْ . يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } . قَالَ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ . قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ يَقُولُ : قَوْلُهُ : " فَانْتَهَى النَّاسُ " مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ .
وَرُوِيَ عَنْ الْبُخَارِيِّ نَحْوُ ذَلِكَ فَقَالَ : فِي الْكُنَى مِنْ التَّارِيخِ وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُوسُفُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ سَمِعْت ابْنَ أكيمة الليثي يُحَدِّثُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : { صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةً جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ ثُمَّ قَالَ : هَلْ قَرَأَ مِنْكُمْ أَحَدٌ مَعِي ؟ قُلْنَا : نَعَمْ قَالَ : إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } قَالَ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِيمَا جَهَرَ الْإِمَامُ قَالَ اللَّيْثُ : حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ يَقُلْ : فَانْتَهَى النَّاسُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ قَوْلُ ابْنِ أكيمة وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ . وَهَذَا إذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ فَهُوَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ فِي الْجَهْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ مِنْ أَعْلَمِ أَهْلِ زَمَانِهِ أَوْ أَعْلَمُ أَهْلِ زَمَانِهِ بِالسُّنَّةِ وَقِرَاءَةُ الصَّحَابَةِ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً تَكُونُ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَعْرِفُهَا عَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ فَيَكُونُ الزُّهْرِيُّ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهَا فَلَوْ لَمْ يُبَيِّنْهَا لَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى انْتِفَائِهَا فَكَيْفَ إذَا قَطَعَ الزُّهْرِيُّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَكُونُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَهْرِ .
[ فَإِنْ قِيلَ : قَالَ البيهقي : ابْنُ أكيمة رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَمْ يُحَدِّثْ إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ وَحْدَهُ وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ .
قِيلَ : لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي فِيهِ : صَحِيحُ الْحَدِيثِ حَدِيثُهُ مَقْبُولٌ . وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ البستي أَنَّهُ قَالَ : رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ وَابْنُ أَبِيهِ عُمَرُ وَسَالِمُ بْنُ عَمَّارٍ ابْنُ أكيمة بْنِ عُمَرَ ] (*) .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ وَهْبِ بْنِ كيسان أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : " مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا لَمْ يُصَلِّ إلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ " وَرَوَى أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا سُئِلَ : هَلْ يُقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ ؟ يَقُولُ : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ خَلْفَ الْإِمَامِ تُجْزِئُهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيَقْرَأْ . قَالَ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَالَ : لَا قِرَاءَةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ . وَرَوَى البيهقي عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَالَ : أَنْصِتْ لِلْقُرْآنِ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا وَسَيَكْفِيك ذَلِكَ الْإِمَامُ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ هُمَا فَقِيهَا أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي كَلَامِهِمَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَانِعَ إنْصَاتُهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ .
وَكَذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ " عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : وَرَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيٍّ يُسَبِّحُ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قَالَ : وَلَمْ يَصِحَّ وَخَالَفَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ إسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ . مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ حَدَّثَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : إذَا لَمْ يَجْهَرْ الْإِمَامُ فِي الصَّلَوَاتِ فَاقْرَأْ بِأُمِّ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ أُخْرَى فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَفِي الْأُخْرَيَيْنِ مِنْ الْعِشَاءِ . وَأَيْضًا فَفِي إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ يُؤْمَرُ بِالِاسْتِمَاعِ دُونَ الْقِرَاءَةِ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْتِمَاعَهُ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قِرَاءَتِهِ مَعَهُ بَلْ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِمَاعِ دُونَ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ . وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ فِي الْجَهْرِ وَاجِبَةً عَلَى الْمَأْمُومِ لَلَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَقْرَأَ مَعَ الْإِمَامِ وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لَهُ حَتَّى يَقْرَأَ وَلَمْ نَعْلَمْ نِزَاعًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا وَقِرَاءَتُهُ مَعَهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ مَعَهُ فِي حَالِ الْجَهْرِ بَلْ نَقُولُ : لَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالِاسْتِمَاعِ مُسْتَحَبَّةً لَاسْتُحِبَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ
السُّكُوتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ . وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُونَ وَلَا نَقَلَ هَذَا أَحَدٌ عَنْهُ بَلْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ سُكُوتُهُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ لِلِاسْتِفْتَاحِ وَفِي السُّنَنِ { أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ : سَكْتَةٌ فِي أَوَّلِ الْقِرَاءَةِ وَسَكْتَةٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِرَاءَةِ } وَهِيَ سَكْتَةٌ لَطِيفَةٌ لِلْفَصْلِ لَا تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ السَّكْتَةَ كَانَتْ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ سَكَتَاتٍ وَلَا أَرْبَعُ سَكَتَاتٍ فَمَنْ نَقَلَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ سَكَتَاتٍ أَوْ أَرْبَعَ فَقَدْ قَالَ قَوْلًا لَمْ يَنْقُلْهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالسَّكْتَةُ الَّتِي عَقِبَ قَوْلِهِ : { وَلَا الضَّالِّينَ } مِنْ جِنْسِ السَّكَتَاتِ الَّتِي عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى سُكُوتًا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ يَقْرَأُ فِي مِثْلِ هَذَا . وَكَانَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَصْحَابِنَا يَقْرَأُ عَقِبَ السُّكُوتِ عِنْدَ رُءُوسِ الْآيِ . فَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي سُكُوتِ الْإِمَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقِيلَ : لَا سُكُوتَ فِي الصَّلَاةِ بِحَالِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ . وَقِيلَ : فِيهَا سَكْتَةٌ وَاحِدَةٌ لِلِاسْتِفْتَاحِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ فِيهَا : سَكْتَتَانِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا لِحَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ : سَكْتَةٌ حِينَ يَفْتَتِحُ الصَّلَاةَ وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ السُّورَةِ الثَّانِيَةِ . قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ } فَذَكَرَ ذَلِكَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فَقَالَ : كَذَبَ سَمُرَةُ . فَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَدِينَةِ إلَى أبي بْنِ كَعْبٍ فَقَالَ : صَدَقَ سَمُرَةُ رَوَاهُ أَحْمَدُ . وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد : { سَكْتَةٌ إذَا كَبَّرَ . وَسَكْتَةٌ إذَا فَرَغَ مِنْ { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } } وَأَحْمَدُ رَجَّحَ الرِّوَايَةَ الْأُولَى وَاسْتَحَبَّ السَّكْتَةَ الثَّانِيَةَ ؛ لِأَجْلِ الْفَصْلِ . وَلَمْ يَسْتَحِبَّ أَحْمَدُ أَنْ يَسْكُتَ الْإِمَامُ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَلَكِنْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ يَسْكُتُ سَكْتَةً تَتَّسِعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ . وَالسَّكْتَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ قَدْ نَفَاهَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَذَلِكَ أَنَّهَا سَكْتَةٌ يَسِيرَةٌ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ مِثْلُهَا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا بَعْدَ
الْفَاتِحَةِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَسْكُتْ إلَّا سَكْتَتَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّ إحْدَاهُمَا طَوِيلَةٌ وَالْأُخْرَى بِكُلِّ حَالٍ لَمْ تَكُنْ طَوِيلَةً مُتَّسِعَةً لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ . وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ خَلْفَهُ إمَّا فِي السَّكْتَةِ الْأُولَى وَإِمَّا فِي الثَّانِيَةِ لَكَانَ هَذَا مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَكَيْفَ وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي السَّكْتَةِ الثَّانِيَةِ خَلْفَهُ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَكَانَ الصَّحَابَةُ أَحَقَّ النَّاسِ بِعِلْمِهِ وَعَمَلِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ . وَأَيْضًا فَالْمَقْصُودُ بِالْجَهْرِ اسْتِمَاعُ الْمَأْمُومِينَ وَلِهَذَا يُؤَمِّنُونَ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِ دُونَ السِّرِّ فَإِذَا كَانُوا مَشْغُولِينَ عَنْهُ بِالْقِرَاءَةِ فَقَدْ أَمَرَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُحَدِّثَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ لِحَدِيثِهِ وَيَخْطُبَ مَنْ لَمْ يَسْتَمِعْ لِخُطْبَتِهِ وَهَذَا سَفَهٌ تُنَزِّهُ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ . وَلِهَذَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : { مَثَلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } فَهَكَذَا إذَا كَانَ يَقْرَأُ وَالْإِمَامُ يَقْرَأُ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ :
وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَأْمُورًا بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ لَمْ يَشْتَغِلْ عَنْ ذَلِكَ بِغَيْرِهَا لَا بِقِرَاءَةِ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا دُعَاءٍ فَفِي حَالِ جَهْرِ الْإِمَامِ لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ . وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ . وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد . قِيلَ : إنَّهُ حَالَ الْجَهْرِ يَسْتَفْتِحُ وَيَتَعَوَّذُ وَلَا يَقْرَأُ ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِمَاعِ يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ ؛ بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُمَا . وَقِيلَ : يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ لِأَنَّ الِاسْتِفْتَاحَ تَابِعٌ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ التَّعَوُّذِ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِلْقِرَاءَةِ فَمَنْ لَمْ يَقْرَأْ لَا يَتَعَوَّذُ . وَقِيلَ : لَا يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ حَالَ الْجَهْرِ وَهَذَا أَصَحُّ فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ عَمَّا أُمِرَ بِهِ بِشَيْءِ مِنْ الْأَشْيَاءِ . ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَحْمَد : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذَا الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي حَالِ سُكُوتِ الْإِمَامِ هَلْ يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِفْتَاحِ أَوْ الِاسْتِعَاذَةِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا
أَوْ لَا يَشْتَغِلُ إلَّا بِالْقِرَاءَةِ لِكَوْنِهَا مُخْتَلِفًا فِي وُجُوبِهَا . وَأَمَّا فِي حَالِ الْجَهْرِ فَلَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِ الْإِنْصَاتِ وَالْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ هُوَ فِي حَالِ الْجَهْرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّعْلِيلِ وَأَمَّا فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ وَاسْتِفْتَاحُهُ حَالَ سُكُوتِ الْإِمَامِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِهِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ يُعْتَاضُ عَنْهَا بِالِاسْتِمَاعِ بِخِلَافِ الِاسْتِفْتَاحِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا فَيُقَالُ : وَكَذَلِكَ الِاسْتِفْتَاحُ هَلْ يَجِبُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ : إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ الْقِرَاءَةُ فِي حَالِ الْجَهْرِ . وَاخْتَارَ ابْنُ بَطَّةَ وُجُوبَ الِاسْتِفْتَاحِ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِهِ كَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ حَالَ الْمُخَافَتَةِ أَفْضَلُ فِي مَذْهَبِهِ مِنْ الِاسْتِفْتَاحِ فَقَدْ غَلِطَ عَلَى مَذْهَبِهِ . وَلَكِنْ هَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ اسْتَحَبَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ حَالَ الْجَهْرِ وَهَذَا مَا عَلِمْت أَحَدًا قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ قَبْلَ جَدِّي أَبِي الْبَرَكَاتِ وَلَيْسَ هُوَ مَذْهَبَ أَحْمَد وَلَا عَامَّةَ أَصْحَابِهِ مَعَ أَنَّ تَعْلِيلَ الْأَحْكَامِ بِالْخِلَافِ عِلَّةٌ بَاطِلَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يُعَلِّقُ الشَّارِعُ بِهَا الْأَحْكَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِنَّ ذَلِكَ وَصْفٌ حَادِثٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ يَسْلُكُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي
نَفْسِ الْأَمْرِ لِطَلَبِ الِاحْتِيَاطِ . وَعَلَى هَذَا فَفِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ مَعَ الِاسْتِفْتَاحِ الِاسْتِعَاذَةُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَالصَّوَابُ : أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ لَا تُشْرَعُ إلَّا لِمَنْ قَرَأَ فَإِنْ اتَّسَعَ الزَّمَانُ لِلْقِرَاءَةِ اسْتَعَاذَ وَقَرَأَ وَإِلَّا أَنْصَتَ.
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْفَصْلُ الثَّانِي " وَهُوَ الْقِرَاءَةُ إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ كَحَالِ مُخَافَتَةِ الْإِمَامِ وَسُكُوتِهِ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْقِرَاءَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا يَتَنَاوَلُ الْمُصَلِّيَ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ فَإِنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَمَا وَرَدَ مِنْ الْفَضْلِ لِقَارِئِ الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ الْمُصَلِّيَ أَعْظَمَ مِمَّا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهُ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ : الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ ثَبَتَ فِي خُصُوصِ الصَّلَاةِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ
صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ ثَلَاثًا } أَيْ : غَيْرُ تَمَامٍ فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ : إنِّي أَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ . فَقَالَ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { قَالَ اللَّهُ : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ . فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قَالَ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } قَالَ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً : فَوَّضَ إلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قَالَ : هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } قَالَ : هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْن حُصَيْنٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ : بسبح اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : أَيّكُمْ قَرَأَ ؟ أَوْ أَيُّكُمْ الْقَارِئُ قَالَ رَجُلٌ : أَنَا قَالَ : قَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خالجنيها } رَوَاهُ مُسْلِمٌ . فَهَذَا قَدْ قَرَأَ خَلْفَهُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَلَمْ يَنْهَهُ وَلَا غَيْرَهُ عَنْ الْقِرَاءَةِ لَكِنْ قَالَ : { قَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خالجنيها } أَيْ نَازَعَنِيهَا . كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } .
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { كَانُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : خَلَطْتُمْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ } فَهَذَا كَرَاهَةٌ مِنْهُ لِمَنْ نَازَعَهُ وَخَالَجَهُ وَخَلَطَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَهَذَا لَا يَكُونُ مِمَّنْ قَرَأَ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ غَيْرُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ أَسْمَعَ غَيْرَهُ وَهَذَا مَكْرُوهٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُنَازَعَةِ لِغَيْرِهِ لَا لِأَجْلِ كَوْنِهِ قَارِئًا خَلْفَ الْإِمَامِ وَأَمَّا مَعَ مُخَافَتَةِ الْإِمَامِ . فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ حَدِيثٌ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَلِهَذَا قَالَ : " أَيُّكُمْ الْقَارِئُ ؟ " . أَيْ الْقَارِئُ الَّذِي نَازَعَنِي لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْقَارِئَ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُنَازِعُ وَلَا يُعْرَفُ أَنَّهُ خَالَجَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَاهَةُ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ إنَّمَا هِيَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْصَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْ إذَا نَازَعَ غَيْرَهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إنْصَاتٌ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَا مُنَازَعَةٌ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ . وَالْقَارِئُ هُنَا لَمْ يَعْتَضْ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِاسْتِمَاعِ فَيَفُوتُهُ الِاسْتِمَاعُ وَالْقِرَاءَةُ جَمِيعًا مَعَ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ فِي وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ بِخِلَافِ وُجُوبِهَا فِي حَالِ الْجَهْرِ فَإِنَّهُ شَاذٌّ حَتَّى نَقَلَ أَحْمَد الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِهِ . وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ : { قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } } أَنَّ ذَلِكَ يَعُمُّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ . وَأَيْضًا فَجَمِيعُ الْأَذْكَارِ الَّتِي يُشْرَعُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَهَا سِرًّا يُشْرَعُ لِلْمَأْمُومِ
أَنْ يَقُولَهَا سِرًّا كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَكَالتَّشَهُّدِ وَالدُّعَاءِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقِرَاءَةَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فَلِأَيِّ مَعْنًى لَا تُشْرَعُ لَهُ الْقِرَاءَةُ فِي السِّرِّ وَهُوَ لَا يَسْمَعُ قِرَاءَةَ السِّرِّ وَلَا يُؤَمِّنُ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي السِّرِّ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا قَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وَقَالَ : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ } وَهَذَا أَمْرٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ فَإِنَّهُ مَا خُوطِبَ بِهِ خُوطِبَتْ بِهِ الْأُمَّةُ مَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِالتَّخْصِيصِ . كَقَوْلِهِ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } وَقَوْلِهِ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } وَقَوْلِهِ : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَهَذَا أَمْرٌ يَتَنَاوَلُ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ وَالْمُنْفَرِدَ بِأَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَيَكُونُ الْمَأْمُومُ مَأْمُورًا بِذِكْرِ رَبِّهِ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ إذَا كَانَ مُسْتَمِعًا كَانَ مَأْمُورًا بِالِاسْتِمَاعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا كَانَ مَأْمُورًا بِذِكْرِ رَبِّهِ فِي نَفْسِهِ . وَالْقُرْآنُ أَفْضَلُ الذِّكْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } وَقَالَ : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } . وَأَيْضًا : فَالسُّكُوتُ بِلَا قِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا دُعَاءٍ لَيْسَ عِبَادَةً
وَلَا مَأْمُورًا بِهِ ؛ بَلْ يَفْتَحُ بَابَ الْوَسْوَسَةِ فَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مِنْ أَفْضَلِ الْخَيْرِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالذِّكْرُ بِالْقُرْآنِ أَفْضَلُ مَنْ غَيْرِهِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي مِنْهُ فَقَالَ : قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِلَّهِ فَمَا لِي قَالَ : قُلْ : اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي وَاهْدِنِي فَلَمَّا قَامَ قَالَ : هَكَذَا بِيَدَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا هَذَا فَقَدَ مَلَأَ يَدَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ } رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِي . وَاَلَّذِينَ أَوْجَبُوا الْقِرَاءَةَ فِي الْجَهْرِ : احْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ عبادة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا كُنْتُمْ وَرَائِي فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا } . وَهَذَا الْحَدِيثُ مُعَلَّلٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ بِأُمُورِ كَثِيرَةٍ ضَعَّفَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ضَعْفِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ إلَّا
بِأُمِّ الْقُرْآنِ } فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عبادة . وَأَمَّا هَذَا الْحَدِيثُ فَغَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الشَّامِيِّينَ وَأَصْلُهُ أَنَّ عبادة كَانَ يَؤُمُّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ هَذَا فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ الْمَرْفُوعُ بِالْمَوْقُوفِ عَلَى عبادة . وَأَيْضًا : فَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ . وَتَارَةً أَفْرَدُوا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مُصَنَّفَاتٍ مُفْرَدَةٍ وَانْتَصَرَ طَائِفَةٌ لِلْإِثْبَاتِ فِي مُصَنَّفَاتٍ مُفْرَدَةٍ : كَالْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ . وَطَائِفَةٌ لِلنَّفْيِ : كَأَبِي مُطِيعٍ البلخي وَكَرَّامٍ وَغَيْرِهِمَا . وَمَنْ تَأَمَّلَ مُصَنَّفَاتِ الطَّوَائِفِ تَبَيَّنَ لَهُ الْقَوْلُ الْوَسَطُ فَإِنَّ عَامَّةَ الْمُصَنَّفَاتِ الْمُفْرَدَةَ تَتَضَمَّنُ صُوَرَ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ قَوْلُ مَنْ يَنْهَى عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى فِي صَلَاةِ السِّرِّ . وَقَوْلُ مَنْ يَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ مَعَ سَمَاعِ جَهْرِ الْإِمَامِ وَالْبُخَارِيُّ مِمَّنْ بَالَغَ فِي الِانْتِصَارِ لِلْإِثْبَاتِ بِالْقِرَاءَةِ حَتَّى مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ ؛ بَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ وَابْنُ حَزْمٍ وَمَعَ هَذَا فَحُجَجُهُ وَمُصَنَّفُهُ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ تَضْعِيفَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَوَابِعِهَا مِثْلَ كَوْنِهِ (1) .
وَقَالَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ بَعْدَ كَلَامٍ : وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } وَهَذَا أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْبُخَارِيُّ فِي مُصَنَّفِهِ . فَقَالَ : ( بَابُ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طُرُقٍ : مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَة وَصَالِحِ بْنِ كيسان وَيُوسُفَ بْنِ يَزَيدٍ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَصَاعِدًا } وَعَامَّةُ الثقاة . لَمْ يُتَابِعْ مَعْمَرًا فِي قَوْلِهِ : " فَصَاعِدًا " مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَقَوْلُهُ : " فَصَاعِدًا " غَيْرُ مَعْرُوفٍ مَا أَرَادَ بِهِ حَرْفَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ : { لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } فَقَدْ تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ وَفِي أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَيُقَالُ : إنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ إسْحَاقَ تَابَعَ مَعْمَرًا وَأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ رُبَّمَا رَوَى عَنْ الزُّهْرِيِّ ثُمَّ أَدْخَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزُّهْرِيِّ غَيْرَهُ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ هَذَا مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ أَمْ لَا . قُلْت : مَعْنَى هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَقَدْ
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ : حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ [ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مَيْمُونٍ ] (*) ثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النهدي { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ فَنَادَى أَنْ لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا زَادَ } وَقَالَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جريج . عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { تُجْزِئُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنْ زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْآخَرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي السُّنَنِ . قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قتادة عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ : { أَمَرَنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ } . قُلْت : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ قِرَاءَةَ الْمَأْمُومِ حَالَ سَمَاعِهِ لِجَهْرِ الْإِمَامِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُ إنَّ زِيَادَتَهُ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَتَرْكَ إنْصَاتِهِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ خَيْرٌ . وَلَا أَنَّ الْمَأْمُومَ مَأْمُورٌ حَالَ الْجَهْرِ بِقِرَاءَةِ زَائِدَةٍ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَكَذَلِكَ عَلَّلَهَا الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثِ عبادة فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ الْمُسْتَمِعَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْحَدِيثِ وَلَكِنْ هَبْ أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي حَدِيثِ عبادة فَهِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَأَيْضًا فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَأْمُرُ بِإِنْصَاتِ الْمَأْمُومِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَبْطَلَ صَلَاتَهُ إذَا لَمْ يُنْصِتْ بَلْ قَرَأَ مَعَهُ . وَحِينَئِذٍ يُقَالُ تَعَارَضَ عُمُومُ قَوْلِهِ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ }
وَعُمُومُ الْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : يُنْصِتُ إلَّا فِي حَالِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : قَوْلَهُ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } يُسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَأْمُورُ بِالْإِنْصَاتِ إنْ سَلَّمُوا شُمُولَ اللَّفْظِ لَهُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ فَإِنَّهُ إنَّمَا قَالَ : { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ } . وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّ إنْصَاتَ الْمَأْمُومِ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْقِرَاءَةِ مَعَهُ وَزِيَادَةً ؛ فَإِنَّ اسْتِمَاعَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ أَوْلَى بِهِ بِالْقِرَاءَةِ بِاتِّفَاقِهِمْ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُومُ الْمُسْتَمِعُ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ أَفْضَلَ مِنْ الْقَارِئِ لَكَانَ قِرَاءَتُهُ أَفْضَلَ لَهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ الْأَمْرُ بِالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْإِنْصَاتِ وَالْقِرَاءَةِ وَلَوْلَا أَنَّ الْإِنْصَاتَ يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ وَزِيَادَةٌ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِتَرْكِ الْأَفْضَلِ لِأَجْلِ الْمَفْضُولِ . وَأَيْضًا فَهَذَا عُمُومٌ قَدْ خَصَّ مِنْهُ الْمَسْبُوقَ بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ وَغَيْرِهِ وَخَصَّ مِنْهُ الصَّلَاةَ بِإِمَامَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى بِالنَّاسِ وَقَدْ سَبَقَهُ أَبُو بَكْرٍ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ قَرَأَ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ لِأَنَّهُ بَنَى عَلَى صَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ فَإِذَا سَقَطَتْ عَنْهُ الْفَاتِحَةُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَعَنْ الْمَأْمُومِ أَوْلَى . وَخَصَّ مِنْهُ حَالَ الْعُذْرِ وَحَالُ اسْتِمَاعِ الْإِمَامِ حَالُ عُذْرٍ فَهُوَ مَخْصُوصٌ وَأَمْرُ الْمَأْمُومِ بِالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ لَمْ يُخَصّ مَعَهُ شَيْءٌ لَا بِنَصِّ
خَاصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَإِذَا تَعَارَضَ عمومان أَحَدُهُمَا مَحْفُوظٌ وَالْآخَرُ مَخْصُوصٌ وَجَبَ تَقْدِيمُ الْمَحْفُوظِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْصَاتِ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى اتِّبَاعِ الْمَأْمُومِ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُنْصِتَ يَحْصُلُ لَهُ بِإِنْصَاتِهِ وَاسْتِمَاعِهِ مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْ قِرَاءَتِهِ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْخُطْبَةِ وَفِي الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ فَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْإِنْصَاتِ يَتَنَاوَلُ الْإِنْصَاتَ عَنْ الْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا . وَأَمَّا وُجُوبُ قِرَاءَتِهَا فِي كُلِّ صَلَاةٍ فَإِذَا أَنْصَتَ إلَى الْإِمَامِ الَّذِي يَقْرَؤُهَا كَانَ خَيْرًا مِمَّا يَقْرَأُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ لَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَكَانَ صَلَاتُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُجْزِئُهُ ؛ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ لَهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ السُّنَّةُ وَهُوَ لَمْ يُوجِبْ عَلَى نَفْسِهِ إلَّا الصَّلَاةَ فِي الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ ؛ لَكِنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْهُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي إيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ جَعَلَ الشَّارِعُ الْأَفْضَلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَنْذُورِ وَإِلْغَاءُ تَعْيِينِهِ هُوَ بِالنَّذْرِ فَكَيْفَ يُوجِبُ الشَّارِعُ شَيْئًا وَلَا يَجْعَلُ أَفْضَلَ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَهُ وَالشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يُعَيِّنُ شَيْئًا قَطُّ وَغَيْرُهُ أَوْلَى بِالْفِعْلِ مِنْهُ ؛ بِخِلَافِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ قَدْ يَخُصُّ بِنَذْرِهِ وَوَقْفِهِ وَوَصِيَّتِهِ مَا غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصَلِّيَ إذَا سَهَى بِسُجُودِ السَّهْوِ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ .
ثُمَّ الْمَأْمُومُ إذَا سَهَى يَتَحَمَّلُ إمَامُهُ عَنْهُ سَهْوَهُ ؛ لِأَجْلِ مُتَابَعَتِهِ لَهُ مَعَ إمْكَانِهِ أَنْ يَسْجُدَ بَعْدَ سَلَامِهِ . وَإِنْصَاتُهُ لِقِرَاءَتِهِ أَدْخَلُ فِي الْمُتَابَعَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يَجْهَرُ لِمَنْ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ فَإِذَا اشْتَغَلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُصَلِّينَ بِالْقِرَاءَةِ لِنَفْسِهِ كَانَ كَالْمُخَاطِبِ لِمَنْ لَا يَسْتَمِعُ إلَيْهِ كَالْخَطِيبِ الَّذِي يَخْطُبُ النَّاسَ وَكُلُّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ وَمَنْ فَعَلَ هَذَا فَهُوَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { كَحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } فَإِنَّهُ لَمْ يَفْقَهْ مَعْنَى الْمُتَابَعَةِ كَاَلَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ كَالْحِمَارِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوَّلَ رَأْسُهُ رَأْسَ حِمَارٍ } فَإِنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْإِمَامِ فَكَيْفَ يُسَابِقُهُ وَلِهَذَا ضَرَبَ عُمَرُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ : لَا وَحْدَك صَلَّيْت وَلَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْت . وَأُمِرَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ سَهْوًا أَنْ يَعُودَ فَيَتَخَلَّفَ بِقَدْرِ مَا سَبَقَ بِهِ الْإِمَامَ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ . فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى صَلَاةً فَلَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ } وَفِي تَمَامِهِ فَقُلْت : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إنِّي أَكُونُ أَحْيَانًا وَرَاءَ الْإِمَامِ قَالَ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك يَا فَارِسِيُّ فَإِنِّي سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { قَالَ اللَّهُ : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ } الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ .
وَالْبُخَارِيُّ احْتَجَّ بِهِ فِي هَذَا الْمُصَنَّفِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْرِجْهُ فِي صَحِيحِهِ عَلَى عَادَتِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَإِسْنَادُهُ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ حَدِيثُ الْعَلَاءِ عَنْ ابْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِذٍ وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرقاشي ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زريع ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ } قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَزَادَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ قَالَ : وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ ثَنَا أَبَانُ ثَنَا عَامِرٌ الْأَحْوَلُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ مخدجة } . وَقَالَ : حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ بِشْرٍ ثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ السلعي ثَنَا حُسَينٌ الْمُعَلَّمُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَهِيَ خِدَاجٌ فَهِيَ خِدَاجٌ }
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ ثنَا مُوسَى ثَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ عَنْ إبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : فِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا أَعْلَنَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَحْنُ نُعْلِنُهُ وَمَا أَسَرَّ فَنَحْنُ نُسِرُّهُ . وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي الزاهرية : ثَنَا كَثِيرُ بْنُ مُرَّةَ سَمِعَ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : وَجَبَتْ هَذِهِ } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } فَإِنَّ الْمُسْتَمِعَ الْمُنْصِتَ قَارِئٌ بَلْ أَفْضَلُ مِنْ الْقَارِئِ لِنَفْسِهِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا زَادَ } وَقَوْلُهُ : { أُمِرْنَا أَنْ نَقْرَأَ بِهَا وَمَا تَيَسَّرَ } فَإِنَّ الْمُسْتَمِعَ الْمُنْصِتَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِقِرَاءَةِ الزِّيَادَةِ . وَأَيْضًا : فَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ : مَا أَسْمَعَنَا أَسْمَعْنَاكُمْ وَمَا أَخْفَى عَلَيْنَا أَخْفَيْنَا عَلَيْكُمْ : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِمَامُ وَإِلَّا فَالْمَأْمُومُ لَا يُسْمِعُ أَحَدًا قِرَاءَتَهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أَفِي كُلِّ صَلَاةٍ قِرَاءَةٌ ؟ } وَقَوْلُهُ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } . فَصَلَاةُ الْمَأْمُومِ الْمُسْتَمِعِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ فِيهَا قِرَاءَةٌ بَلْ الْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ الْإِمَامُ ضَامِنٌ لِصَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ فِي ضِمْنِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَفِيهَا الْقِرَاءَةُ . وَجُمْهُورُهُمْ يَقُولُونَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ أُمِّيًّا لَمْ يَقْتَدِ بِهِ الْقَارِئُ . فَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَا تُغْنِي عَنْ
الْمَأْمُومِ شَيْئًا بَلْ كُلٌّ يَقْرَأُ لِنَفْسِهِ : لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ عَجْزِهِ عَنْ الْقِرَاءَةِ وَعَجْزِهِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِاسْتِمَاعِ مَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَلَيْسَتْ قِرَاءَةً وَاجِبَةً . فَكَيْفَ لَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِمَاعِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ الْفَاتِحَةَ وَهِيَ الْفَرْضُ وَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِاسْتِمَاعِ التَّطَوُّعِ دُونَ اسْتِمَاعِ الْفَرْضِ . وَإِذَا كَانَ الِاسْتِمَاعُ لِلْقِرَاءَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَاجِبًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَالِاسْتِمَاعُ لِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَوْجَبُ . ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَقِيلَ لَهُ : احْتِجَاجُك بِقَوْلِ اللَّهِ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } أَرَأَيْت إذَا لَمْ يَجْهَرْ الْإِمَامُ أَيَقْرَأُ خَلْفَهُ فَإِنْ قَالَ : لَا تَبْطُلُ دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : { فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَإِنَّمَا يَسْتَمِعُ لِمَا يَجْهَرُ مَعَ أَنَّا نَسْتَعْمِلُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { فَاسْتَمِعُوا لَهُ } نَقُولُ : يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ عِنْدَ السَّكَتَتَانِ . قَالَ سَمُرَةُ : { كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَتَانِ : سَكْتَةٌ حِينَ يُكَبِّرُ وَسَكْتَةٌ حِينَ يَفْرَغُ مِنْ قِرَاءَتِهِ } . وَقَالَ ابْنُ خثيم : قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : أَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَإِنْ سَمِعْت قِرَاءَتَهُ . فَإِنَّهُمْ قَدْ أَحْدَثُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَصْنَعُونَهُ إنَّ السَّلَفَ كَانَ إذَا أَمَّ أَحَدُهُمْ النَّاسَ كَبَّرَ ثُمَّ أَنْصَتَ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ مَنْ خَلْفَهُ قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ثُمَّ قَرَأَ وَأَنْصَتَوا . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ سَكَتَ سَكْتَةً قَالَ :
وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَيْمُونُ بْنُ مهران وَغَيْرُهُمْ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ يَرَوْنَ الْقِرَاءَةَ عِنْدَ سُكُوتِ الْإِمَامِ لِيَكُونَ مُقْتَدِيًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } فَتَكُونُ قِرَاءَتُهُ فِي السَّكْتَةِ . فَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ أَنْصَتَ حَتَّى يَكُونَ مُتَّبِعًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } . وَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ حَقِّ الصَّلَاةِ فَحَقٌّ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ أَنْ يُتِمُّوا قَالَ عَلْقَمَةُ : إنْ لَمْ يُتِمَّ الْإِمَامُ أَتْمَمْنَا . وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وحميد بْنُ هِلَالٍ : أَقْرَأُ بِالْحَمْدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . قَالَ : وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ يُجْزِئُهُ أَنْ يَقْرَأَ بِالْفَارِسِيَّةِ وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَقْرَأَ بِآيَةِ : يَنْقُضُ آخِرُهُمْ عَلَى أَوَّلِهِمْ بِغَيْرِ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ . وَقِيلَ لَهُ : مَنْ أَبَاحَ لَك الثَّنَاءَ وَالْإِمَامُ يَقْرَأُ بِخَبَرِ أَوْ قِيَاسٍ وَحَظَرَ عَلَى غَيْرِك الْفَرْضَ وَهِيَ الْقِرَاءَةُ وَلَا خَبَرَ عِنْدَك وَلَا اتِّفَاقَ لِأَنَّ عِدَّةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَرَوْا الثَّنَاءَ لِلْإِمَامِ وَلَا لِغَيْرِهِ : يُكَبِّرُونَ ثُمَّ يَقْرَءُونَ فَتَحَيَّرَ عِنْدَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ مَعَ أَنَّ هَذَا صَنَعَهُ فِي أَشْيَاءَ مِنْ الْفَرْضِ فَجَعَلَ الْوَاجِبَ أَهْوَنَ مِنْ التَّطَوُّعِ .
زَعَمْت (1) أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ أَوْ الْعِشَاءِ يُجْزِئُهُ وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي رَكْعَةٍ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ لَمْ يُجْزِئْهُ . قُلْت : وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي رَكْعَةٍ مِنْ الْمَغْرِبِ أَجْزَأَهُ وَإِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي رَكْعَةٍ مِنْ الْوِتْرِ لَمْ يُجْزِئْهُ فَكَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ مَا فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْت : أَمَّا سَكْتَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يُكَبِّرُ فَقَدْ بَيَّنَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ فِيهَا دُعَاءَ الِاسْتِفْتَاحِ لَمْ يَكُنْ سُكُوتًا مَحْضًا ؛ لِأَجْلِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِينَ . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يُكَبِّرُ وَيَجْهَرُ بِدُعَاءِ الِاسْتِفْتَاحِ يُعَلِّمُهُ النَّاسَ . وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ عَلَى مَنْ اسْتَفْتَحَ حَالَ الْجَهْرِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ هَلْ يَسْتَفْتِحُ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَيَتَعَوَّذُ أَوْ يَسْتَفْتِحُ وَلَا يَتَعَوَّذُ إلَّا إذَا قَرَأَ أَوْ لَا يَسْتَفْتِحُ حَالَ الْجَهْرِ وَلَا يَتَعَوَّذُ فِيهِ ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ هِيَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد . لَكِنَّ الْأَظْهَرَ مَا احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْإِنْصَاتِ يَقْتَضِي الْإِنْصَاتَ عَنْ كُلِّ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِمَاعِ الْقِرَاءَةِ مِنْ ثَنَاءٍ وَقِرَاءَةٍ وَدُعَاءٍ كَمَا يُنْصِتُ لِلْخُطْبَةِ بَلْ الْإِنْصَاتُ لِلْقِرَاءَةِ أَوْكَدُ . وَلَكِنْ إذَا سَكَتَ
الْإِمَامُ السَّكْتَةَ الْأُولَى لِلثَّنَاءِ فَهُنَا عِنْدَ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا اسْتِفْتَاحُ الْمَأْمُومِ أَوْلَى مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فِي هَذِهِ السَّكْتَةِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْقِرَاءَةِ تَحَصَّلَ لَهُ بِاسْتِمَاعِهِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَأَمَّا مَقْصُودُ الِاسْتِفْتَاحِ فَلَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بِاسْتِفْتَاحِهِ لِنَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْكُتُ مُسْتَفْتِحًا وَعُمَرُ كَانَ يَجْهَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ لِيُعَلِّمَهُ الْمَأْمُومِينَ فَعُلِمَ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلْمَأْمُومِ . وَلَوْ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِالْقِرَاءَةِ لَفَاتَهُ الِاسْتِفْتَاحُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ لِيَقْرَأَ الْمَأْمُومُونَ فِي حَالِ سُكُوتِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ لَا يَسْتَحِبُّونَ لِلْإِمَامِ سُكُوتًا لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ . وَمِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد مَنْ اسْتَحَبَّ لَهُ السُّكُوتَ لِقِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّ لَهُ فِي حَالِ سُكُوتِ الْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَ وَلَا يَسْتَفْتِحَ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الدِّينَوَرِيِّ وَأَبِي الْفَرَجِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ . وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَحَبَّ لَهُ الْقِرَاءَةَ بِالْفَاتِحَةِ فِي حَالِ جَهْرِ الْإِمَامِ . كَمَا اخْتَارَهُ جَدِّي أَبُو الْبَرَكَاتِ . وَهُوَ مَذْهَبُ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِي وَغَيْرِهِمَا . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِحَ فِي حَالِ سُكُوتِهِ وَيَقْرَأَ لِيَجْمَعَ بَيْنَهُمَا . وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ لَهُ الْقِرَاءَةَ دُونَ السُّكُوتِ . كَمَا أَنَّ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ قِرَاءَتَهُ حَالَ الْجَهْرِ : مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِبُّ لَهُ
الِاسْتِفْتَاحَ حَالَ الْجَهْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُهُ وَهُوَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد وَمَذْهَبُ أَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ فِي حَالِ سُكُوتِهِ لِلِاسْتِفْتَاحِ يَسْتَفْتِحُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ . وَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ أَنَّ عِدَّةً مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَرَوْا الِاسْتِفْتَاحَ كَمَذْهَبِ مَالِكٍ : هُوَ حُجَّةٌ لِلْجُمْهُورِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْإِمَامُ هُنَا لَا سُكُوتَ لَهُ وَحِينَئِذٍ فَإِنْ قَرَأْنَا مَعَهُ خَالَفْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَكِنْ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَسْتَفْتِحُ حِينَئِذٍ فَيَشْتَغِلُ بِالِاسْتِفْتَاحِ عَنْ اسْتِمَاعِ الْقِرَاءَةِ . وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَحْمِلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ وَلَا يَحْمِلُ عَنْهُ الِاسْتِفْتَاحَ لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ وَالْمَأْمُومُ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ فَلَا يَشْتَغِلُ عَنْ ذَلِكَ بِثَنَاءِ كَمَا لَا يَشْتَغِلُ عَنْهُ بِقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ مِنْ الثَّنَاءِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يَسْكُتُ لِلثَّنَاءِ وَأَدْرَكَهُ الْمَأْمُومُ أَثْنَى مَعَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَسْكُتُ أَوْ أَدْرَكَ الْمَأْمُومُ وَهُوَ يَقْرَأُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ فَلَا يَعْدِلُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ . فَإِنْ قِيلَ فِي وُجُوبِ الثَّنَاءِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد قِيلَ فِي وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَإِذَا نُهِيَ عَنْ الْقِرَاءَةِ لِاسْتِمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فَلِأَنْ يَنْهَى عَنْ الثَّنَاءِ أَوْلَى لِقَوْلِهِ :
{ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَإِلَّا تَنَاقَضُوا . كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك يَا فَارِسِيُّ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { قَالَ اللَّهُ : قَسَمْت الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ } إلَى آخِرِهِ . فَقَدْ يُقَالُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْقِرَاءَةِ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَضِيلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ الْقِسْمَةِ لَا لِقَوْلِهِ : { مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ } فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ خِدَاجًا إذَا لَمْ يَقْرَأْ لَأَمَرَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ . وَلَمْ يُعَلِّلْ الْأَمْرَ بِحَدِيثِ الْقِسْمَةِ . اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : ذَكَرَهُ تَوْكِيدًا أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا قَسَمَ الْقِرَاءَةَ قَسَمَ الصَّلَاةَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الصَّلَاةِ إذْ لَوْ خَلَتْ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ مَوْجُودَةً . وَعَلَى هَذَا يَبْقَى الْحَدِيثَانِ مَدْلُولُهُمَا وَاحِدٌ . وَقَوْلُهُ : اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِك . مُجْمَلٌ فَإِنْ أَرَادَ مَا أَرَادَ غَيْرُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ أَوْ سُكُوتِ الْإِمَامِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا ؛ لِقَوْلِ أُولَئِكَ يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مِمَّنْ رَوَى قَوْلَهُ : { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } وَرَوَى قَوْلَهُ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ . وَمَا زَادَ } وَقَالَ : { تُجْزِئُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَإِذَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَأْمُومَ الْمُسْتَمِعَ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ فَإِنَّ هَذَا لَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْفَاتِحَةِ خَيْرًا لَهُ بَلْ الِاسْتِمَاعُ وَالْإِنْصَاتُ خَيْرًا لَهُ فَلَا يَجْزِمُ حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ أَمَرَهُ
أَنْ يَقْرَأَ حَالَ اسْتِمَاعِهِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ بِلَفْظِ مُجْمَلٍ . قَالَ الْبُخَارِيُّ (*) : وَرَوَى ابْنُ صَالِحٍ عَنْ الْأَصْفَهَانِيِّ عَنْ الْمُخْتَارِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ " مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَخْطَأَ الْفِطْرَةَ " قَالَ : وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْمُخْتَارَ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ ابْنِهِ وَلَا أَبِيهِ مِنْ عَلِيٍّ وَلَا يَحْتَجُّ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِمِثْلِهِ . وَحَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ عَلِيٍّ أَوْلَى وَأَصَحُّ . قُلْت : حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ بَيِّنٌ فِي أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ لَا فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ إنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا قَالَهُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ إذَا سَمِعَ الْإِمَامَ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ . كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَرَوَى دَاوُد بْنُ قَيْسٍ عَنْ ابْنِ نِجَادٍ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ " وَدِدْت أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي فِيهِ جَمْرٌ " . قَالَ : وَهَذَا مُرْسَلٌ وَابْنُ نِجَادٍ لَمْ يُعْرَفُ وَلَا سُمِّيَ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ فِي فِي الْقَارِئِ خَلْفَ الْإِمَامِ جَمْرَةٌ ؛ لِأَنَّ الْجَمْرَةَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَتَوَهَّمَ ذَلِكَ عَلَى سَعْدٍ مَعَ إرْسَالِهِ وَضَعْفِهِ . قَالَ :
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كهيل عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ " وَدِدْت أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ مُلِئَ فُوهُ تِبْنًا " قَالَ : وَهَذَا مُرْسَلٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَخَالَفَهُ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ وَقَالَ : رَضْفًا وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِوُجُوهِ . أَمَّا أَحَدُهَا : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَلَاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا بِالنَّارِ وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَمْلَأَ أَفْوَاهَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَحُذَيْفَةَ وَمَنْ ذَكَرْنَا رَضْفًا وَلَا تِبْنًا وَلَا تُرَابًا . وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ : إذَا ثَبَتَ الْخَبَرُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ فَلَيْسَ فِي قَوْلِ الْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِ حُجَّةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ لَيْسَ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ : " وَدِدْت أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ مُلِئَ فُوهُ سُكْرًا " . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَرَوَى عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ : " مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ " وَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا
الْإِسْنَادِ سَمَاعُ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَلَا يَصِحُّ مِثْلُهُ . قَالَ : وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَعُرْوَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَنَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو الْمُلَيْحِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَأَبُو مجلز وَمَكْحُولٌ وَمَالِكٌ وَابْنُ عَوْنٍ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ يَرَوْنَ الْقِرَاءَةَ . ( وَكَانَ أَنَسٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيُّ يَسْتَحِبَّانِ [ الْقِرَاءَةَ ] خَلْفَ الْإِمَامِ ) (*) . قُلْت : قَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ . فَقَالَ : لَا قِرَاءَةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ . وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْقِرَاءَةَ مَعَهُ فِي الْجَهْرِ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ . وَأَمَّا فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ فَلَا يُقَالُ قَرَأَ مَعَهُ كَمَا لَا يُقَالُ إنَّ أَحَدَ الْمَأْمُومِينَ يَقْرَأُ مَعَ الْآخَرِ وَكَمَا لَا يُقَالُ : إنَّهُ اسْتَفْتَحَ مَعَهُ وَتَشَهَّدَ مَعَهُ وَسَبَّحَ مَعَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ . وَكَذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ تَقَدَّمَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِأَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِإِنْصَاتِ الْمَأْمُومِ لِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَكَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ . وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : إنْ كَانَ قَالَهُ أَوْ قَوْلُ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ نَقَلُوا عَنْهُ كَالْأَسْوَدِ :
وَدِدْت أَنَّ الَّذِي يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ مُلِئَ فُوهُ رَضْفًا أَوْ تِبْنًا أَوْ تُرَابًا " يَتَنَاوَلُ مَنْ قَرَأَ وَهُوَ يَسْمَعُ الْإِمَامَ يَقْرَأُ فَتَرَكَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ الْإِنْصَاتِ وَالِاسْتِمَاعِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ قَوْلُ سَعْدٍ إنْ كَانَ قَالَهُ : " وَدِدْت أَنَّ فِي فِيهِ جَمْرًا " لَا سِيَّمَا إذَا نَازَعَ الْإِمَامَ الْقِرَاءَةَ بِأَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ يَسْمَعُ حِسَّهُ فَيَكُونُ مِمَّنْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : { مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } وَقَالَ فِيهِ : { عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خالجنيها } وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَ فِي السِّرِّ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِحَيْثُ يُخَالِجُ الْإِمَامَ وَيُنَازِعُهُ أَوْ يُخَالِجُ وَيُنَازِعُ غَيْرَهُ مِنْ الْمَأْمُومِينَ لَكَانَ مُسِيئًا فِي ذَلِكَ . وَقَوْلُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ : " وَدِدْت أَنَّهُ مُلِئَ فُوهُ سُكْرًا " إذَا قَرَأَ حَيْثُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْقِرَاءَةُ لِقِرَاءَتِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ السِّرِّ وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ " يَتَنَاوَلُ مَنْ تَرَكَ مَا أُمِرَ بِهِ وَفَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ . فَقَرَأَ وَهُوَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَفِي بُطْلَانِ صَلَاةِ هَذَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَنْ قَالَ هَذَا مِنْ السَّلَفِ مِنْ صَحَابِيٍّ أَوْ تَابِعِيٍّ فَقَدْ يُرِيدُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحًا . كَمَا فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَخْلُصَ إلَى جَلْدِهِ فَتَحْرُقَ ثِيَابَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ } وَتَعْذِيبُ الْإِنْسَانِ بِعَذَابِ فِي الدُّنْيَا أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ رُكُوبِ
مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ . فَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ قِرَاءَتَهُ حَالَ اسْتِمَاعِ إمَامِهِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ تَرَكَ بِهَا مَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَفَعَلَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ جَازَ أَنْ يَقُولَ ؛ لِأَنْ يَحْصُلَ بِفِيهِ شَيْءٌ يُؤْذِيهِ فَيَمْنَعَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ كَمَا قَدْ يُقَالُ : لِمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ مُحَرَّمَةٍ : لَوْ كُنْت أَخْرَسَ لَكَانَ خَيْرًا لَك وَلَا يُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّا نَحْنُ نُعَذِّبُهُ بِذَلِكَ لَكِنْ يُرَادُ لَوْ ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهَذَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِي الذَّنْبِ . وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمتلاعنين : { عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ } وَالْوَاحِدُ مِنْ السَّلَفِ قَدْ يَذْكُرُ مَا فِي الْفِعْلِ مِنْ الْوَعِيدِ وَإِنْ فَعَلَهُ غَيْرُهُ مُتَأَوِّلًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ " أَخْبِرِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَتُوبَ " وَلَيْسَ فِي هَذَا تَلَاعُنٌ بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا بِالنَّارِ وَلَا تَعْذِيبٌ بِعَذَابِ اللَّهِ بَلْ فِيهِ تَمَنَّى أَنْ يُبْتَلَى بِمَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ . وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَذًى لَهُ . وَالْعَالِمُ قَدْ يَذْكُرُ الْوَعِيدَ فِيمَا يَرَاهُ ذَنْبًا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْمُتَأَوِّلَ مَغْفُورٌ لَهُ لَا يَنَالُهُ الْوَعِيدُ . لَكِنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُقْتَضِي لِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ عِنْدَهُ فَكَيْفَ وَهُوَ لَمْ يُذْكَرْ إلَّا مَا يَمْنَعُهُ عَمَّا يَرَاهُ ذَنْبًا .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ : " وَدِدْت أَنَّهُ مُلِئَ فُوهُ سُكْرًا " يَتَنَاوَلُ مَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَمَعَ هَذَا فَمَنْ فَعَلَ الْقِرَاءَةِ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَانَ مُثَابًا عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ يَقُولُ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ مُحَرَّمٌ مَا يُنَاسِبُ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَمَنَّى أَنْ يَمْلَأَ أَفْوَاهَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رَضْفًا وَلَا تِبْنًا ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ عَامَّةُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي السِّرِّ وَذَمِّ الذَّامِّينَ لِمَنْ يَقْرَأُ فِي الْجَهْرِ . فَلَمْ يَتَوَارَدْ الذَّمُّ وَالْفِعْلُ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُمَا تَوَارَدَا مِنْ السَّلَفِ فَهُوَ كَتَوَارُدِهِمَا مِنْ الْخَلَفِ . وَحِينَئِذٍ فَهَذَا يَتَكَلَّمُ بِاجْتِهَادِهِ وَهَذَا بِاجْتِهَادِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ لِبَعْضِ أَكَابِرِهِمْ قُدَّامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِمَّا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ التَّأْوِيلِ فِي الْقِتَالِ فِي الْفِتَنِ وَالدُّعَاءِ فِي الْقُنُوتِ بِاللَّعْنِ وَغَيْرِهِ مَعَ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : { لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ } وَقَوْلِهِ : { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ } فَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ بِالتَّأْوِيلِ
فِي الدِّمَاءِ فَلِأَنْ يَنْدَفِعَ بِالتَّأْوِيلِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ حَرَّقَ بِالنَّارِ الْمُرْتَدِّينَ وَكَذَلِكَ الصِّدِّيقُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حَرَّقَ فَإِذَا جَازَ هَذَا عَلَى الْخِلَافِ مَعَ ثُبُوتِ النَّصِّ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَغْلَطَ بَعْضُهُمْ فِيمَا يَرَاهُ ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الْجَهْرِ مُتَوَاتِرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَمَا أَنَّ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي السِّرِّ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بَلْ وَنَفْيُ وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْمَأْمُومِ مُطْلَقًا مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ عَنْهُمْ . وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي هَذَا الْكِتَابِ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ ثَنَا زِيَادٌ وَهُوَ الْجَصَّاصُ ثَنَا الْحَسَنُ حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ قَالَ : { لَا تُزَكُّوا صَلَاةَ مُسْلِمٍ إلَّا بِطَهُورِ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَرَاءَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ بِفَاتِحَةٍ وَآيَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ } . فَلَمْ يُوجِبْ الْفَاتِحَةَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ إمَامًا كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الطَّهَارَةَ وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ بَلْ أَوْجَبَهَا مَعَ الِانْفِرَادِ .
ثُمَّ رَوَى الْبُخَارِيُّ قَوْلَهُ : { لَا تَقْرَءُوا خَلْفِي إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } وَذَكَرَ طُرُقَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فَقَالَ حَدَّثَنَا شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَنَا النَّضْرُ ثَنَا عِكْرِمَةُ ثَنَا عَمْرُو بْنُ سَعْدٍ . عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ (1) .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
النَّاسُ فِي الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ مُتَنَازِعُونَ فِي الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ : فَقِيلَ تُكْرَهُ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ . وَقِيلَ : بَلْ تَجِبُ بِالْفَاتِحَةِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَغَيْرِهِ . وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَزَادَ لَا تُشْرَعُ بِغَيْرِ ذَلِكَ بِحَالِ . وَقِيلَ : بَلْ تَجِبُ بِهَا فِي صَلَاةِ السِّرِّ فَقَطْ كَقَوْلِهِ الْقَدِيمِ . وَالْإِمَامُ أَحْمَد ذَكَرَ إجْمَاعَ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ . وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ وَلَا تُكْرَهُ مُطْلَقًا بَلْ تُسْتَحَبُّ الْقِرَاءَةُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ وَفِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ سَكَتَاتٌ فَقَرَأَ فِيهَا . فَهَلْ تُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ أَمْ تُسْتَحَبُّ بِالْفَاتِحَةِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ . فَمَذْهَبُ أَحْمَد وَجُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّهَا تُكْرَهُ بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا وَاخْتَارَ طَائِفَةٌ أَنَّهَا تُسْتَحَبُّ
حِينَئِذٍ بِالْفَاتِحَةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّي وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِي . وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي قِرَاءَتِهَا خُرُوجًا مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهَا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَقْرَأْ فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ خِلَافٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ فَإِنَّمَا يَفُوتُهُ الِاسْتِمَاعُ حِينَ قِرَاءَتِهَا فَقَطْ . الثَّانِي : الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ حَدِيثُ عبادة : " { إذَا كُنْتُمْ وَرَائِي أَوْ وَرَاءَ الْإِمَامِ فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا } وَهُوَ حُجَّةُ الْمُوجِبِينَ . وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : النَّهْيُ إنَّمَا هُوَ حَالُ اسْتِمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فَقَطْ فَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَالْقِرَاءَةُ مَشْرُوعَةٌ . فَعُلِمَ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى الْفَاتِحَةُ حَالَ النَّهْيِ عَنْ غَيْرِهَا وَهَذَا يُفِيدُ قِرَاءَتَهَا حَالَ اسْتِمَاعِ الْجَهْرِ . ثُمَّ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قِيلَ : إنَّهَا وَاجِبَةٌ وَأَنَّهُ لَا يَقْرَأُ بِغَيْرِهَا بِحَالِ . كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ . وَقِيلَ : بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ وَالنَّهْيُ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِهَا حَالَ الْجَهْرِ فَلَا يُفِيدُ النَّهْيَ مُطْلَقًا . وَقِيلَ : بَلْ يُفِيدُ اسْتِثْنَاءَ قِرَاءَتِهَا مِنْ النَّهْيِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّهْيِ
لَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ . وَقَوْلُهُ : " { فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا } تَعْلِيلٌ بِوُجُوبِ قِرَاءَتِهَا فِي الصَّلَاةِ . فَإِنَّ كَوْنَهَا رُكْنًا اقْتَضَى أَنْ تُسْتَثْنَى فِي هَذِهِ الْحَالِ لِلْمَأْمُومِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَفْرُوضَةً عَلَيْهِ كَفَرَائِضِ الْكِفَايَاتِ إذَا قَامَ بِهَا طَائِفَةٌ سَقَطَ بِهَا الْفَرْضُ ثُمَّ قَامَ بِهَا آخَرُونَ فَإِنَّهُ يُقَالُ : هِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ إسْقَاطُهَا بِفِعْلِ الْغَيْرِ ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ : الْجِنَازَةُ تُفْعَلُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ لِأَنَّهَا فَرْضٌ وَإِنْ فُعِلَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا تُفْعَلُ فَرْضًا فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ لَهُمْ إسْقَاطُهَا بِفِعْلِ الْغَيْرِ . وَقِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ هِيَ رُكْنٌ وَلِلْمَأْمُومِ أَنْ يَجْتَزِئَ بِقِرَاءَةِ إمَامِهِ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهَا بِنَفْسِهِ . وَهَذَا كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الَّتِي يَتَحَمَّلُهَا الْإِنْسَانُ عَنْ غَيْرِهِ كَصَدَقَةِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهَا هَلْ تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ ابْتِدَاءً أَوْ تَحَمُّلًا ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَصَحُّهُمَا : أَنَّهَا تُحْمَلُ فَلَوْ أَخْرَجَتْهَا الزَّوْجَةُ لَجَازَ فَتَكُونُ الزَّوْجَةُ مُخَيَّرَةً بَيْنَ أَنْ تُخْرِجَهَا وَبَيْنَ أَنْ تُلْزِمَ الزَّوْجَ بِإِخْرَاجِهَا فَلَوْ أَخْرَجَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ أَخْرَجَتْهَا هِيَ وَلَمْ تَعْتَدَّ بِذَلِكَ الْإِخْرَاجِ لَكَانَ ، لَكِنَّ الْإِمَامَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ قِرَاءَةٍ وَهُوَ يَتَحَمَّلُ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ . فَالْقِرَاءَةُ الْوَاحِدَةُ تُجْزِي عَنْ إمَامِهِ وَعَنْهُ وَإِنْ قَرَأَ هُوَ عَنْ نَفْسِهِ فَحَسَنٌ كَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَكِنَّ هَذَا فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْأَئِمَّةِ .
وَأَمَّا الَّذِينَ كَرِهُوا الْقِرَاءَةَ فِي حَالِ اسْتِمَاعِ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ مُطْلَقًا وَهُمْ الْجُمْهُورُ . فَحُجَّتُهُمْ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَأَمَرَ بِالْإِنْصَاتِ مُطْلَقًا وَمَنْ قَرَأَ وَهُوَ يَسْتَمِعُ فَلَمْ يُنْصِتْ .
وَمَنْ أَجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِغَيْرِ حَالِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد مِنْ إجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ وَفِي الْخُطْبَةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : " { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } " . وَأَيْضًا : فَالْمُسْتَمِعُ لِلْفَاتِحَةِ هُوَ كَالْقَارِئِ ؛ وَلِهَذَا يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهَا . وَقَالَ : " { إذَا أَمَّنَ الْقَارِئُ فَأَمِّنُوا فَمَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } . وَأَمَّا الْإِنْصَاتُ الْمَأْمُورُ بِهِ حَالَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ ؛ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُتَابَعَةِ لِلْإِمَامِ فَهُوَ فَاعِلٌ لِلِاتِّبَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَيْ بِمَقْصُودِ الْقِرَاءَةِ وَإِذَا قَرَأَ الْفَاتِحَةَ تَرَكَ الْمُتَابَعَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا بِالْإِنْصَاتِ وَتَرَكَ الْإِنْصَاتَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَعْتَضْ عَنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ إلَّا بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ الَّتِي حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا بِاسْتِمَاعِهِ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ وَتَأْمِينِهِ عَلَيْهَا . وَكَانَ قَدْ تَرَكَ الْإِنْصَاتَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ فَفَاتَهُ هَذَا الْوَاجِبُ وَلَمْ يَعْتَضْ عَنْهُ إلَّا مَا حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِدُونِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا دَارَ
الْأَمْرُ بَيْنَ تَفْوِيتِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ تَحْصِيلَ أَحَدِهِمَا كَانَ تَحْصِيلُ مَا يَفُوتُ إلَى غَيْرِ بَدَلٍ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ مَا يَقُومُ بَدَلُهُ مَقَامَهُ . وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُسْتَمِعُ كَالْقَارِئِ لَكَانَ الْمُسْتَحَبُّ حَالَ جَهْرِهِ بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ أَنْ يَقْرَأَ الْمَأْمُومُ فَلَمَّا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ لِلْمَأْمُومِ حَالَ سَمَاعِ الْقِرَاءَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ أَنْ يَسْتَمِعَ وَلَا يَقْرَأَ : عُلِمَ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ بِالِاسْتِمَاعِ وَإِلَّا كَانَ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِ التِّلَاوَةَ بَلْ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْإِنْصَاتَ حَالَ الْقِرَاءَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ فَالْإِنْصَاتُ حَالَ الْقِرَاءَةِ الْوَاجِبَةِ أَوْلَى . وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ طَعَنَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَوْلٌ مُطْلَقٌ . وَأَيْضًا فَإِنْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى الْإِمَامِ الَّذِي لَهُ سَكَتَاتٌ يُقَرِّرُ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَهُ لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : " { إذَا كُنْتُمْ وَرَائِي فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِأُمِّ الْكِتَابِ } وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ النَّهْيِ لَهُمْ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ سَكْتَتَانِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ سَمُرَةُ وأبي بْنُ كَعْبٍ . كَمَا ثَبَتَ سُكُوتُهُ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالدُّعَاءِ الَّذِي رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي هَذَا السُّكُوتِ يُمْكِنُ فِيهِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَكَيْفَ إذَا قَرَأَ بَعْضَهَا فِي سَكْتَةٍ وَبَعْضَهَا فِي سَكْتَةٍ أُخْرَى . فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِي قَوْلِهِ : " { إذَا كُنْتُمْ وَرَائِي فَلَا تَقْرَءُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَقْرَأُ بِهَا فِي حَالِ الْجَهْرِ
فَإِنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ النَّهْيِ فَلَا يُفِيدُ إلَّا الْإِذْنَ الْمُطْلَقَ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا مَنْهِيِّينَ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِهَا لَا يُمْكِنُ قِرَاءَتُهَا فِي حَالِ سَكَتَاتِهِ . يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ جُمْهُورَ الْمُنَازِعِينَ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ يَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا وَيُسَلِّمُونَ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يَقْرَأَ بِمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ فِي سَكَتَاتِ الْإِمَامِ قَرَأَ وَأَنَّ الْبَعِيدَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ يَقْرَأُ بِالْفَاتِحَةِ وَبِمَا زَادَ . فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا النَّهْيُ خَاصًّا فِيمَنْ صَلَّى خَلْفَهُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ . وَاسْتِثْنَاءُ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ لِإِمْكَانِ قِرَاءَتِهَا فِي سَكَتَاتِهِ . يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ لَفْظَ الْحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ } وَفِي رِوَايَةٍ { بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَرَوَاهَا (1) عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : { كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إمَامِكُمْ قُلْنَا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ وَالدَّارَقُطْنِي وَقَالَ إسْنَادَهُ حَسَنٌ .
وَرَوَاهَا (1) عَنْ عبادة بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : { صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ الَّتِي يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَقَالَ : هَلْ تَقْرَءُونَ إذَا جَهَرْت بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ بَعْضُنَا : إنَّا لَنَصْنَعُ ذَلِكَ قَالَ : فَلَا وَأَنَا أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ فَلَا تَقْرَءُوا بِشَيْءِ مِنْ الْقُرْآنِ إذَا جَهَرْت بِالْقِرَاءَةِ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَالنَّسَائِي وَالدَّارَقُطْنِي . وَلَهُ أَيْضًا " { لَا يَجُوزُ صَلَاةٌ لَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِيهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ } وَقَالَ إسْنَادٌ حَسَنٌ وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ : هَلْ يَقْرَءُونَ وَرَاءَهُ بِشَيْءِ أَمْ لَا ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمَأْمُومِ لَكَانَ قَدْ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَأَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ لَفَعَلَهُ عَامَّتُهُمْ لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِفْهَامِهِ . فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِمْ قِرَاءَةً خَلْفَهُ حَالَ الْجَهْرِ ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ نَهَاهُمْ عَنْ الْقِرَاءَةِ بِغَيْرِ أُمِّ الْكِتَابِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْتِبَاسِ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ تَكُونُ بِالْقِرَاءَةِ مَعَهُ حَالَ الْجَهْرِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَالْعِلَّةُ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْأَمْرَيْنِ فَإِنَّ مَا يُوجِبُ ثِقَلَ الْقِرَاءَةِ وَالْتِبَاسَهَا عَلَى الْإِمَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَهَذَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْتَمِّينَ الَّذِينَ يَرَوْنَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ وَاجِبَةً أَوْ مُسْتَحَبَّةً فَيُثْقِلُونَ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْإِمَامِ وَيُلْبِسُونَهَا عَلَيْهِ وَيُلْبِسُونَ عَلَى مَنْ يُقَارِبُهُمْ الْإِصْغَاءَ وَالِاسْتِمَاعَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ فَيُفَوِّتُونَ مَقْصُودَ جَهْرِ الْإِمَامِ وَمَقْصُودَ اسْتِمَاعِ الْمَأْمُومِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَكُونُ مَكْرُوهًا ثُمَّ إذَا فُرِضَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَأْمُومِينَ يَقْرَءُونَ خَلْفَهُ فَنَفْسُ جَهْرِهِ لَا لِمَنْ يَسْتَمِعُ فَلَا يَكُونُ فِيهِ فَائِدَةٌ لِقَوْلِهِ " { إذَا أَمَّنَ فَأَمِّنُوا } وَيَكُونُونَ قَدْ أَمَّنُوا عَلَى قُرْآنٍ لَمْ يَسْتَمِعُوهُ وَلَا اسْتَمَعَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ السُّكُوتَ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ بِقَدْرِ مَا يَقْرَءُونَ وَهُمْ لَا يُوجِبُونَ السُّكُوتَ الَّذِي يَسَعُ قَدْرَ الْقِرَاءَةِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِبُّونَهُ ، فَعُلِمَ أَنَّ اسْتِحْبَابَ السُّكُوتِ يُنَاسِبُ اسْتِحْبَابَ الْقِرَاءَةِ فِيهِ وَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ وَاجِبَةً لَوَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ بِقَدْرِهَا سُكُوتًا فِيهِ ذِكْرٌ أَوْ سُكُوتًا مَحْضًا وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ السُّكُوتَ لِأَجْلِ قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ . يُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ أَوْجَبَ الْإِنْصَاتَ حَالَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَنَا فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّتَنَا وَعَلَّمَنَا صَلَاتَنَا فَقَالَ : أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ ثُمَّ لِيَؤُمّكُمْ أَحَدُكُمْ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي . قِيلَ لِمُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هُوَ صَحِيحٌ يَعْنِي : " { إذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } قَالَ : عِنْدِي صَحِيحٌ . قِيلَ لَهُ : لِمَ لَا تَضَعُهُ هَاهُنَا ؟ يَعْنِي فِي كِتَابِهِ قَالَ : لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدِي صَحِيحٍ وَضَعْته هَاهُنَا . إنَّمَا وَضَعْت هَاهُنَا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ يَعْنِي مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمْ يَجْمَعْ عَلَيْهَا وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى وَرَوَاهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى مُسْلِمٌ . وَلَمْ يَرْوِهَا مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَعَنْ ابْنِ أكيمة الليثي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ : هَلْ قَرَأَ ؟ يَعْنِي أَحَدًا مِنَّا آنِفًا قَالَ رَجُلٌ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهَ قَالَ : إنِّي أَقُولُ : مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ الصَّلَاةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . رَوَاهُ أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَه وَالنَّسَائِي وَالتِّرْمِذِي وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ . قَالَ أَبُو دَاوُد سَمِعْت مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ قَالَ قَوْلُهُ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ إلَى آخِرِهِ . مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ البيهقي : ابْنُ أكيمة رَجُلٌ مَجْهُولٌ لَمْ يُحَدِّثْ إلَّا بِهَذَا الْحَدِيثِ
وَحْدَهُ وَلَمْ يُحَدِّثْ عَنْهُ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ وَجَوَابُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَدْ قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِي : صَحِيحُ الْحَدِيثِ حَدِيثُهُ مَقْبُولٌ وَتَزْكِيَةُ أَبِي حَاتِمٍ هُوَ فِي الْغَايَةِ . [ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ البستي أَنَّهُ قَالَ : رَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ وَابْنُ ابْنِهِ عَمْرُو بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أكيمة بْنِ عُمَرَ ] (*) . الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أكيمة إلَّا مَا فِي حَدِيثِ عبادة الَّذِي اعْتَمَدَهُ البيهقي وَنَحْوُهُ . مِنْ أَنَّهُمْ قَرَءُوا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَنَّهُ قَالَ : " { مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ } . الثَّالِثُ : أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ أكيمة رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مُسَلَّمَ صِحَّةِ مَتْنِهِ وَأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ وَاَلَّذِي احْتَجَّ بِهِ مُنَازِعُوهُ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ كَانَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مَعْمُولًا بِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَمَا فِي حَدِيثِهِ مِنْ الزِّيَادَةِ قَدْ انْفَرَدَ بِهَا مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَرْوِهَا إلَّا بَعْضُ أَهْلِ السُّنَنِ وَطَعَنَ فِيهَا الْأَئِمَّةُ وَكَانَتْ الزِّيَادَةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا أَحَقَّ بِالْقَدْحِ فِي الْأَصْلِ الْمُتَّفَقِ عَلَى رِوَايَتِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَانْتَهَى النَّاسُ . فَهَذَا إذَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ كَانَ تَابِعًا فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ فِي زَمَنِهِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي وَالْهِمَمُ عَلَى نَقْلِ مَا كَانَ يُفْعَلُ فِيهَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفَرِدُ بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ فَجَزْمُ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ خَلْفَهُ حَالَ الْجَهْرِ بَعْدَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَيُوَافِقُ قَوْلَهُ : { وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَاتِحَةً وَلَا غَيْرَهَا . وَتَحَقَّقَ أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ إمَّا ضَعِيفَةُ الْأَصْلِ أَوْ لَمْ يَحْفَظْ رَاوِيهَا لَفْظَهَا وَأَنَّ مَعْنَاهَا كَانَ مِمَّا يُوَافِقُ سَائِرَ الرِّوَايَاتِ وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْمُحْتَمَلِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَتَمَامُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ يَتَّضِحُ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : " { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الظُّهْرَ فَجَعَلَ رَجُلٌ يَقْرَأُ خَلْفَهُ بسبح اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : أَيُّكُمْ قَرَأَ ؟ أَوْ أَيُّكُمْ الْقَارِئُ ؟ قَالَ رَجُلٌ : أَنَا فَقَالَ : قَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خالجنيها } فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ خَلْفَهُ فِي صَلَاةِ السِّرِّ بِزِيَادَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى الْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ السِّرِّ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَهُ بِحَالِ أَوْ لَا يَقْرَأُ بِزِيَادَةِ عَلَى الْفَاتِحَةِ . وَقَوْلُهُ : " { قَدْ ظَنَنْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجْنِيهَا } لَيْسَ فِيهِ نَهْيٌ عَنْ أَصْلِ
الْقِرَاءَةِ وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَرْفَعَ حِسَّهُ بِحَيْثُ يُخَالِجُ الْإِمَامَ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمَأْمُومِينَ وَكَمَا قَدْ يَفْعَلُ الْإِمَامُ . كَمَا قَالَ أَبُو قتادة : كَانَ يُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا . وَفِيهِ أَيْضًا : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ فِي السِّرِّ لَا بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا . إذْ لَوْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يُنْكِرْ الْقِرَاءَةَ خَلْفَهُ وَهُوَ لَمْ يُنْكِرْ قِرَاءَةَ سُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ بَلْ قَالَ : " { أَيُّكُمْ قَرَأَ أَوْ أَيُّكُمْ الْقَارِئُ ؟ } بَلْ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي الْعَادَةِ أَنَّ الْقَارِئَ خَلْفَهُ لَمْ يَقْرَأْ بسبح إلَّا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي السِّرِّ لَا بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا . كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا اسْتَخْلَفَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ حِينَ ذَهَبَ يُصْلِحُ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ثُمَّ رَجَعَ يَقْرَأُ مِنْ حَيْثُ انْتَهَى أَبُو بَكْرٍ وَكَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لَمَّا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ } وَلَوْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فَرْضًا عَلَى الْمَأْمُومِ مُطْلَقًا لَمْ تَسْقُطْ بِسَبْقِ وَلَا جَهْلٍ . كَمَا أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ قَالَ لَهُ : " { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } وَأَمَرَ الَّذِي صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ .
وَأَيْضًا فَتَحَمُّلُ الْإِمَامِ الْقِرَاءَةَ عَنْ الْمَأْمُومِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقْرَأَ فَيَأْتِي هُوَ بِالْكَمَالِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ الَّذِي لَا اسْتِمَاعَ مَعَهُ وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ مُتَيَقَّنٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْقَارِئَ لِلْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ السَّاكِتِ الَّذِي لَا يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ غَيْرِهِ وَهُوَ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ : " { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ أَمَا إنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ } فَكَرَاهَةُ هَذَا الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا وَجْهَ لَهُ أَصْلًا وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَمِعِ فَإِنَّ اسْتِمَاعَهُ يَقُومُ مَقَامَ قِرَاءَتِهِ . وَدَلِيلُ ذَلِكَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ حَالَ الْقِرَاءَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ بِالْإِنْصَاتِ إمَّا أَمْرَ إيجَابٍ وَإِمَّا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ لَهُمْ الْقِرَاءَةُ حَالَ الِاسْتِمَاعِ فَلَوْلَا أَنَّ الِاسْتِمَاعَ كَالْقِرَاءَةِ بَلْ وَأَفْضَلَ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْإِنْصَاتِ مَنْهِيًّا عَنْ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْأَدْنَى وَيَنْهَى عَنْ الْأَفْضَلِ . وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عبادة " { فَلَا تَقْرَءُوا بِشَيْءِ مِنْ الْقُرْآنِ إذَا جَهَرْت بِالْقِرَاءَةِ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ } فَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ الْقِرَاءَةِ إذَا جَهَرَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذَا الْمُفَسَّرُ يُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ . قَالَ : " { تَقْرَءُونَ خَلْفَ إمَامِكُمْ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ قَالَ : فَلَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } يَعْنِي فِي الْجَهْرِ . وَيُبَيِّنُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { كَانُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : خَلَطْتُمْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ } فَهَذَا يَكُونُ فِي صَلَاةِ جَهْرٍ أَوْ فِي صَلَاةِ سِرٍّ رَفَعَ الْمَأْمُومُ فِيهَا صَوْتَهُ حَتَّى سَمِعَهُ الْإِمَامُ وَإِلَّا فَالْمَأْمُومُ الَّذِي يَقْرَأُ سِرًّا فِي نَفْسِهِ لَا يَخْلِطُ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا يَخْلِطُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ ؛ بِخِلَافِ الْمَأْمُومِ الَّذِي يَقْرَأُ حَالَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ فَإِنَّ الْإِمَامَ قَطْعًا يُخْلَطُ عَلَيْهِ حَتَّى إنَّ مِنْ الْمَأْمُومِينَ مَنْ يُعِيدُ الْفَاتِحَةَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ صَوْتَ الْإِمَامِ يَشْغَلُهُ قَطْعًا . بَلْ إذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَعَلَ الْمَأْمُومَ يُخْلَطُ عَلَيْهِ وَيَلْبَسُ وَيُخَالِجُ الْإِمَامَ فَكَيْفَ بِالْإِمَامِ فِي حَالِ جَهْرِهِ مَعَ الْمَأْمُومِ وَالْمَأْمُومُ يَلْبِسُ عَلَى الْمَأْمُومِ حَالَ الْجَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَهَرَ وَحْدَهُ كَانَ أَدْنَى حِسٍّ يَلْبِسُ عَلَيْهِ وَيُثْقِلُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْأَصْوَاتُ هَادِئَةً هُدُوءًا تَامًّا وَإِلَّا ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ وَلَبِسَ عَلَيْهِ وَهَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ . وَلِهَذَا تَجِدُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ سَمَاعَ الْقَصَائِدِ سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ يُشَوِّشُونَ بِأَدْنَى حِسٍّ وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يُشَوِّشُ . وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يُشَوِّشُ عَلَيْهِ بِأَدْنَى حِسٍّ فَكَيْفَ مَنْ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ قَرَأَ قَارِئٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ عَلَى جَمَاعَةٍ وَهُمْ لَا يُنْصِتُونَ لَهُ بَلْ
يَقْرَءُونَ لِأَنْفُسِهِمْ لَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْقِيَاسِيَّةِ الْقَوْلُ الْمُعْتَدِلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذَا الْبَابِ تُبَيِّنُ الصَّوَابَ فَعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ الْإِمَامِ . فَقَالَ : " لَا قِرَاءَةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَمَعْلُومُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ مِنْ أَعْلَمِ الصَّحَابَةِ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ عَالِمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِالْفَاتِحَةِ أَوْ غَيْرِهَا حَالَ الْجَهْرِ مَشْرُوعَةً لَمْ يَقُلْ لَا قِرَاءَةَ مَعَ الْإِمَامِ فِي شَيْءٍ . وَقَوْلُهُ : " مَعَ الْإِمَامِ " إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ قَرَأَ مَعَهُ حَالَ الْجَهْرِ . فَأَمَّا حَالَ الْمُخَافَتَةِ فَلَا هَذَا يَقْرَأُ مَعَ هَذَا وَلَا هَذَا مَعَ هَذَا وَكَلَامُ زَيْدٍ هَذَا يَنْفِي الْإِيجَابَ وَالِاسْتِحْبَابَ وَيُثْبِتُ النَّهْيَ وَالْكَرَاهَةَ . وَعَنْ وَهْبِ بْنِ كيسان أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : مَنْ صَلَّى رَكْعَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَلَمْ يُصَلِّ ؛ إلَّا وَرَاءَ الْإِمَامِ . رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ . وَجَابِرٌ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ تِلْكَ الطَّبَقَةِ وَرَوَى مَالِكٌ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كَانَ إذَا سُئِلَ : هَلْ يَقْرَأُ أَحَدٌ خَلْفَ الْإِمَامِ ؟ يَقُولُ : إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ
خَلْفَ الْإِمَامِ فَحَسْبُهُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ وَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فَلْيَقْرَأْ . قَالَ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ وَابْنُ عُمَرَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالسُّنَّةِ وأتبعهم لَهَا . وَلَوْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمَأْمُومِ لَكَانَ هَذَا مِنْ الْعِلْمِ الْعَامِّ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا عَامًّا وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَهُمْ لَكَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ عَمَلًا عَامًّا وَلَكَانَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابَةِ لَمْ يَخْفَ مِثْلُ هَذَا الْوَاجِبِ عَلَى ابْنِ عُمَرَ حَتَّى يَتْرُكَهُ مَعَ كَوْنِهِ وَاجِبًا عَامَّ الْوُجُوبِ عَلَى عَامَّةِ الْمُصَلِّينَ قَدْ بَيَّنَ بَيَانًا عَامًّا بِخِلَافِ مَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا فَإِنَّ هَذَا قَدْ يَخْفَى . وَرَوَى البيهقي عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فَقَالَ : أَنْصِتْ لِلْقُرْآنِ فَإِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا وَسَيَكْفِيك ذَاكَ الْإِمَامُ . فَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنَّمَا نَهَاهُ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ ؛ لِأَجْلِ الْإِنْصَاتِ . وَالِاشْتِغَالُ بِهِ لَمْ يَنْهَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَمِعًا كَمَا فِي صَلَاةِ السِّرِّ وَحَالِ السَّكَتَاتِ . فَإِنَّ الْمَأْمُومَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُنْصِتًا وَلَا مُشْتَغِلًا بِشَيْءِ . وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ابْنَ مَسْعُودٍ مِنْ الْكُوفِيِّينَ وَمُبَيِّنٌ لِمَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَحَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي تَقَدَّمَ قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمُسْنَدًا وَمُرْسَلًا فَأَمَّا الْمَوْقُوفُ عَلَى جَابِرٍ فَثَابِتٌ بِلَا نِزَاعٍ وَكَذَلِكَ الْمُرْسَلُ ثَابِتٌ بِلَا نِزَاعٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } وَأَمَّا الْمُسْنَدُ فَتُكُلِّمَ فِيهِ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الجعفي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . وَجَابِرٌ الجعفي كَذَّبَهُ أَيُّوبُ وَزَائِدَةُ وَوَثَّقَهُ الثَّوْرِيُّ وَسَعِيدٌ وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : لَا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا كَرَامَةَ لَيْسَ بِشَيْءِ . وَقَالَ النَّسَائِي مَتْرُوكٌ . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يُتَكَلَّمْ فِي جَابِرٍ لِحَدِيثِهِ إنَّمَا تُكُلِّمَ فِيهِ لِرَأْيِهِ . قَالَ أَبُو دَاوُد لَيْسَ عِنْدِي بِالْقَوِيِّ مِنْ حَدِيثِهِ وَقَوْلُهُ " { فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ الْقِرَاءَةُ كَمَا احْتَجَّ بِذَلِكَ مَنْ احْتَجَّ بِهِ مِنْ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّ قَوْلَهُ : " { قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَجْتَزِئَ بِذَلِكَ وَأَنَّ الْوَاجِبَ يَسْقُطُ عَنْهُ بِذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ كَمَا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ الْوَاجِبَ بِفِعْلِ غَيْرِهِ وَلَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ . وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَبُّ . وَأَقْصَى مَا يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ كَأَنَّهُ قَدْ قَرَأَ . ثُمَّ إنَّ أَذْكَارَ الصَّلَاةِ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا إذَا فَعَلَهَا الْعَبْدُ مَرَّةً
لَمْ يُكْرَهْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهَا فِي مَحَلِّهَا مَرَّةً ثَانِيَةً لِغَرَضِ صَحِيحٍ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " { اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَدِّدُ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ كَمَا رَدَّدَ قَوْلَهُ : { إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } آخِرُ مَا وُجِدَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ أَيْضًا :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ : فَالنَّاسُ فِيهَا طَرَفَانِ وَوَسَطٌ . مِنْهُمْ : مَنْ يَكْرَهُ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى يَبْلُغَ بِهَا بَعْضُهُمْ إلَى التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ صَلَاةُ السِّرِّ وَالْجَهْرِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْل الْكُوفَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ : كَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤَكِّدُ الْقِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ حَتَّى يُوجِبَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ وَإِنْ سَمِعَ الْإِمَامَ يَقْرَأُ وَهَذَا هُوَ الْجَدِيدُ مِنْ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مَعَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ السِّرِّ وَفِي حَالِ سَكَتَاتِ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ وَالْبَعِيدِ الَّذِي لَا يَسْمَعُ الْإِمَامَ . وَأَمَّا الْقَرِيبُ الَّذِي يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَيَأْمُرُونَهُ بِالْإِنْصَاتِ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ ؛ إقَامَةً لِلِاسْتِمَاعِ مَقَامَ التِّلَاوَةِ . وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ : كَمَالِكِ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ
مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَفُقَهَاءِ الْآثَارِ . وَعَلَيْهِ يَدُلُّ عَمَلُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَتَتَّفِقُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ . وَهَذَا الِاخْتِلَافُ شَبِيهٌ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِ : هَلْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ ؟ أَمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُصَلِّي لِنَفْسِهِ ؟ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ . فَأَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِيهَا وَمَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا مُطْلَقًا حَتَّى أَنَّهُ يُوجِبُ الْإِعَادَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ حَيْثُ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ عَلَى الْإِمَامِ . وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ لَا يَقُومُ مَقَامَهُ لَا فِي فَرْضٍ وَلَا سُنَّةٍ ؛ وَلِهَذَا أُمِرَ الْمَأْمُومُ بِالتَّسْمِيعِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ وَلَمْ يُبْطِلْ صَلَاتَهُ بِنَقْصِ صَلَاةِ الْإِمَامِ إلَّا فِي مَوَاضِعَ مُسْتَثْنَاةٍ كَتَحَمُّلِ الْإِمَامِ عَنْ الْمَأْمُومِ سُجُودَ السَّهْوِ وَتَحَمُّلِ الْقِرَاءَةِ إذَا كَانَ الْمَأْمُومُ مَسْبُوقًا وَإِبْطَالِ صَلَاةِ الْقَارِئِ خَلْفَ الْأُمِّيِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَحْمَد : فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ . كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِلْقِرَاءَةِ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي حَالِ الْمُخَافَتَةِ وَلَا يَقُولُ الْمَأْمُومُ عِنْدَهُمَا سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ بَلْ يَحْمَدُ جَوَابًا لِتَسْمِيعِ الْإِمَامِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا . فِيمَا يُعْذَرَانِ فِيهِ دُونَ مَا لَا يُعْذَرَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِمَامَةِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ قِرَاءَةِ الْمُؤْتَمِّ خَلْفَ الْإِمَامِ : جَائِزَةٌ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ : هَلْ عَلَيْهِ إثْمٌ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْقِرَاءَةُ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ لَا تَبْطُلُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَكِنْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ أَيُّمَا أَفْضَلُ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ ؟ فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي حَالِ سُكُوتِ الْإِمَامِ : كَصَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَكَذَلِكَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ إذَا لَمْ يَسْمَعْ قِرَاءَتَهُ . وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ لَا يَقْرَأَ خَلْفَهُ بِحَالِ وَالسَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقْرَأُ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ . وَأَمَّا إذَا سَمِعَ الْمَأْمُومُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَمِعُ وَلَا يَقْرَأُ بِحَالِ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَقْرَأُ حَالَ الْجَهْرِ بِالْفَاتِحَةِ خَاصَّةً وَمَذْهَبُ
طَائِفَةٍ كالأوزاعي وَغَيْرِهِ مِنْ الشَّامِيِّينَ يَقْرَؤُهَا اسْتِحْبَابًا وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّنَا . وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الْجَهْرِ وَحَالِ الْمُخَافَتَةِ فَيَقْرَأُ فِي حَالِ السِّرِّ وَلَا يَقْرَأُ فِي حَالِ الْجَهْرِ وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فَإِذَا قَرَأَ الْإِمَامُ فَلْيَسْتَمِعْ وَإِذَا سَكَتَ فَلْيَقْرَأْ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ الَّذِي لَا اسْتِمَاعَ مَعَهُ . وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَفُوتُ هَذَا الْأَجْرُ بِلَا فَائِدَةٍ بَلْ يَكُونُ إمَّا مُسْتَمِعًا وَإِمَّا قَارِئًا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ ؟ .
فَأَجَابَ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا تُدْرَكُ بِهِ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : ( أَحَدُهَا : أَنَّهُمَا لَا يُدْرَكَانِ إلَّا بِرَكْعَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ
وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ اخْتَارَهَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَيْضًا كَأَبِي الْمَحَاسِنِ الرياني وَغَيْرِهِ . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهُمَا يُدْرَكَانِ بِتَكْبِيرَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . ( وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِرَكْعَةِ وَالْجَمَاعَةَ تُدْرَكُ بِتَكْبِيرَةٍ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ؛ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا أَنَّ قَدْرَ التَّكْبِيرَةِ لَمْ يُعَلِّقْ بِهِ الشَّارِعُ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ لَا فِي الْوَقْتِ وَلَا فِي الْجُمُعَةِ وَلَا الْجَمَاعَةِ وَلَا غَيْرِهَا . فَهُوَ وَصْفٌ مُلْغًى فِي نَظَرِ الشَّارِعِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ . الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ فَتَعْلِيقُهَا بِالتَّكْبِيرَةِ إلْغَاءٌ لِمَا اعْتَبَرَهُ وَاعْتِبَارٌ لِمَا أَلْغَاهُ وَكُلُّ ذَلِكَ فَاسِدٌ فِيمَا اعْتَبَرَ فِيهِ الرَّكْعَةَ وَعَلَّقَ الْإِدْرَاكَ بِهَا فِي الْوَقْتِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ
الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ وَإِذَا أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُتِمَّ صَلَاتَهُ } . وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ طُرُقِهِ : " { إذَا أَدْرَكَ أَحَدُكُمْ سَجْدَةً } فَالْمُرَادُ بِهَا الرَّكْعَةُ التَّامَّةُ كَمَا فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ ؛ وَلِأَنَّ الرَّكْعَةَ التَّامَّةَ تُسَمَّى بَاسِمِ الرُّكُوعِ فَيُقَالُ : رَكْعَةٌ وَبِاسْمِ السُّجُودِ فَيُقَالُ سَجْدَةٌ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ . الثَّالِثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ الْإِدْرَاكَ مَعَ الْإِمَامِ بِرَكْعَةِ وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ } وَهَذَا نَصٌّ رَافِعٌ لِلنِّزَاعِ . الرَّابِعُ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُدْرَكُ إلَّا بِرَكْعَةِ كَمَا أَفْتَى بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَسٌ وَغَيْرُهُمْ . وَلَا يُعْلَمُ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ . وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ وَلِهَذَا أَبُو حَنِيفَةَ طَرَدَ أَصْلَهُ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ وَآثَارَ الصَّحَابَةِ تُبْطِلُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ . الْخَامِسُ : أَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُهَا
جَمِيعَهَا مُنْفَرِدًا فَلَا يَكُونُ قَدْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ شَيْئًا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ فَلَا يَكُونُ قَدْ اجْتَمَعَ هُوَ وَالْإِمَامُ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ فَتَكُونُ صَلَاتُهُ جَمِيعًا صَلَاةَ مُنْفَرِدٍ . يُوَضِّحُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ إلَّا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ وَإِذَا أَدْرَكَهُ بَعْدَ الرُّكُوعِ لَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِمَا فَعَلَهُ مَعَهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ مَعَهُ الْقِيَامَ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَجِلْسَةَ الْفَصْلِ وَلَكِنْ لَمَّا فَاتَهُ مُعْظَمُ الرَّكْعَةِ وَهُوَ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ فَاتَتْهُ الرَّكْعَةُ فَكَيْفَ يُقَالُ مَعَ هَذَا أَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُمْ مَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ فَإِدْرَاكُ الصَّلَاةِ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ نَظِيرُ إدْرَاكِ الرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ الرُّكُوعِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ أَدْرَكَ مَا يُعْتَدُّ لَهُ بِهِ وَإِذَا لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الصَّلَاةِ رَكْعَةً كَانَ كَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ الرُّكُوعَ مَعَ الْإِمَامِ فِي فَوْتِ الرَّكْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يُدْرِكْ مَا يُحْتَسَبُ لَهُ بِهِ وَهَذَا مِنْ أَصَحِّ الْقِيَاسِ . ( السَّادِسُ : أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا : أَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا ائْتَمَّ بِمُقِيمِ وَأَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فَمَا فَوْقَهَا فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ وَإِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ صَلَّاهَا مَقْصُورَةً نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ بِإِدْرَاكِ الرَّكْعَةِ قَدْ ائْتَمَّ بِمُقِيمِ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ فَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ وَإِذَا لَمْ يُدْرِكْ مَعَهُ رَكْعَةً فَصَلَاتُهُ صَلَاةُ مُنْفَرِدٍ فَيُصَلِّيهَا مَقْصُورَةً .
وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ لَزِمَهَا الْعَصْرُ وَإِنْ طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ بِقَدْرِ رَكْعَةٍ لَزِمَهَا الْعِشَاءُ وَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ بِأَقَلَّ مِنْ مِقْدَارِ رَكْعَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ . وَأَمَّا الظُّهْرُ وَالْمَغْرِبُ : فَهَلْ يَلْزَمُهَا بِذَلِكَ ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ ؟ فَقِيلَ : لَا يَلْزَمُهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : يَلْزَمُهَا وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ . ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيمَا تَلْزَمُ بِهِ الصَّلَاةُ الْأُولَى عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ بِمَا تَجِبُ بِهِ الثَّانِيَةُ وَهَلْ هُوَ رَكْعَةٌ ؟ أَوْ تَكْبِيرَةٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : وَالثَّانِي لَا تَجِبُ إلَّا بِأَنْ تُدْرَكَ زَمَنًا يَتَّسِعُ لِفِعْلِهَا وَهُوَ أَصَحُّ . وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا الْوَقْتُ وَهِيَ طَاهِرَةٌ ثُمَّ حَاضَتْ هَلْ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ الصَّلَاةِ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهَا كَمَا يَقُولُهُ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي يَلْزَمُهَا كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُوجِبُونَ عَلَيْهَا الصَّلَاةَ فِيمَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الْوُجُوبُ عَلَى قَوْلَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا قَدْرُ تَكْبِيرَةٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَالثَّانِي : أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا زَمَنٌ تَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَفِعْلِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ : هَلْ يَلْزَمُهَا فِعْلُ الثَّانِيَةِ مِنْ الْمَجْمُوعَتَيْنِ مَعَ الْأُولَى ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد . وَالْأَظْهَرُ فِي الدَّلِيلِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ أَنَّهَا لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرِ جَدِيدٍ وَلَا أَمْرَ هُنَا يَلْزَمُهَا بِالْقَضَاءِ وَلِأَنَّهَا أَخَّرَتْ تَأْخِيرًا جَائِزًا فَهِيَ غَيْرُ مُفْرِطَةٍ . وَأَمَّا النَّائِمُ أَوْ النَّاسِي وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُفْرِطٍ أَيْضًا فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ لَيْسَ قَضَاءً بَلْ ذَلِكَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ حِينَ يَسْتَيْقِظُ وَيَذْكُرُ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا } وَلَيْسَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ بَعْدَ وَقْتِهَا وَإِنَّمَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ لِمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ كَأَمْرِهِ لِلْمُسِيءِ فِي صَلَاتِهِ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا تَرَكَ الطُّمَأْنِينَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَكَأَمْرِهِ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا بِالْإِعَادَةِ لَمَّا تَرَكَ الْمُصَافَّةَ الْوَاجِبَةَ وَكَأَمْرِهِ
لِمَنْ تَرَكَ لُمْعَةً مِنْ قَدَمِهِ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ بِالْإِعَادَةِ لَمَّا تَرَكَ الْوُضُوءَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَأَمَرَ النَّائِمَ وَالنَّاسِيَ بِأَنْ يُصَلِّيَا إذَا ذَكَرَا وَذَلِكَ هُوَ الْوَقْتُ فِي حَقِّهِمَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَرْفَعُ قَبْلَ الْإِمَامِ وَيَخْفِضُ وَنُهِيَ فَلَمْ يَنْتَهِ فَمَا حُكْمُ صَلَاتِهِ ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا مُسَابَقَةُ الْإِمَامِ فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَرْكَعَ قَبْلَ إمَامِهِ وَلَا يَرْفَعَ قَبْلَهُ وَلَا يَسْجُدَ قَبْلَهُ . وَقَدْ اسْتَفَاضَتْ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { لَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ فَإِنِّي مَهْمَا أَسْبِقْكُمْ بِهِ إذَا رَكَعْت تُدْرِكُونِي بِهِ إذَا رَفَعْت إنِّي قَدْ بدنت } وَقَوْلِهِ " { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ } { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتِلْكَ بِتِلْكَ وَإِذَا قَالَ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ يَسْمَعُ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا كَبَّرَ وَسَجَدَ فَكَبِّرُوا وَاسْجُدُوا فَإِنَّ الْإِمَامَ يَسْجُدُ قَبْلَكُمْ وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ فَتِلْكَ بِتِلْكَ } .
وَكَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ } وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤْتَمَّ مُتَّبِعٌ لِلْإِمَامِ مُقْتَدٍ بِهِ وَالتَّابِعُ الْمُقْتَدِي لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى مَتْبُوعِهِ وَقُدْوَتِهِ فَإِذَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ كَانَ كَالْحِمَارِ الَّذِي لَا يَفْقَهُ مَا يُرَادُ بِعَمَلِهِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ : " { مَثَلُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ وَالْخَطِيبُ يَخْطُبُ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } . وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ وَالتَّعْزِيرَ الَّذِي يُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُسَابِقُ الْإِمَامَ فَضَرَبَهُ . وَقَالَ : لَا وَحْدَك صَلَّيْت وَلَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْت . وَإِذَا سَبَقَ الْإِمَامَ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ لَكِنْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بِقَدْرِ مَا سَبَقَ بِهِ الْإِمَامَ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُقَدَّرَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَمَا فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ سَهْوًا لَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي الصَّلَاةِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا سَهْوًا فَكَانَ كَمَا لَوْ زَادَ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا سَهْوًا وَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنْ مَا يَفْعَلُهُ قَبْلَ الْإِمَامِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ فِعْلِ الْإِمَامِ لَيْسَ وَقْتًا لِفِعْلِ الْمَأْمُومِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَبَّرَ قَبْلَ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ فَإِنَّ هَذَا لَا يُجْزِئُهُ عَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُحْرِمَ إذَا حَلَّ الْوَقْتُ لَا قَبْلَهُ وَأَنْ يُحْرِمَ الْمَأْمُومُ إذَا أَحْرَمَ الْإِمَامُ لَا قَبْلَهُ . فَكَذَلِكَ الْمَأْمُومُ
لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رُكُوعُهُ وَسُجُودُهُ إذَا رَكَعَ الْإِمَامُ وَسَجَدَ لَا قَبْلَ ذَلِكَ فَمَا فَعَلَهُ سَابِقًا وَهُوَ سَاهٍ عُفِيَ لَهُ عَنْهُ وَلَمْ يُعْتَدَّ لَهُ بِهِ فَلِهَذَا أَمَرَهُ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ أَنْ يَتَخَلَّفَ بِمِقْدَارِهِ لَيَكُونَ فِعْلُهُ بِقَدْرِ فِعْلِ الْإِمَامِ . وَأَمَّا إذَا سَبَقَ الْإِمَامَ عَمْدًا فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَمَنْ أَبْطَلَهَا قَالَ : إنَّ هَذَا زَادَ فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا فَتَبْطُلُ كَمَا لَوْ فَعَلَ قَبْلَهُ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا عَمْدًا فَإِنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِلَا رَيْبٍ وَكَمَا لَوْ زَادَ فِي الصَّلَاةِ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا عَمْدًا . وَقَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ لِلْمُسَابِقِ : لَا وَحْدَك صَلَّيْت وَلَا بِإِمَامِك اقْتَدَيْت وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ وَحْدَهُ وَلَا مُؤْتَمًّا فَلَا صَلَاةَ لَهُ وَعَلَى هَذَا فَعَلَى الْمُصَلِّي أَنْ يَتُوبَ مِنْ الْمُسَابَقَةِ وَيَتُوبَ مِنْ نَقْرِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ الطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ فَعَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ أَنْ يَأْمُرُوهُ بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَيَنْهَوْهُ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ . فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَإِلَّا أَثِمُوا كُلُّهُمْ . وَمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَعْزِيرِهِ وَتَأْدِيبِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا هَجْرَهُ وَكَانَ ذَلِكَ مُؤَثِّرًا فِيهِ هَجَرَهُ حَتَّى يَتُوبَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَسُئِلَ :
عَنْ الْمُصَافَحَةِ عَقِيبَ الصَّلَاةِ : هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ الصَّلَاةِ لَيْسَتْ مَسْنُونَةً بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِمَامَةِ
سُئِلَ :
رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْإِمَامَةِ هَلْ فِعْلُهَا أَفْضَلُ أَمْ تَرْكُهَا ؟ .
فَأَجَابَ :
بَلْ يُصَلِّي بِهِمْ وَلَهُ أَجْرٌ بِذَلِكَ . كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . " { ثَلَاثَةٌ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَة : رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ رَاضُونَ } . الْحَدِيثَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلَيْنِ : أَحَدُهُمَا حَافِظٌ الْقُرْآنَ وَهُوَ وَاعِظٌ يَحْضُرُ الدُّفَّ وَالشَّبَّابَةَ وَالْآخَرُ عَالِمٌ مُتَوَرِّعٌ . فَأَيُّهُمَا أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ ؟ .
فَأَجَابَ :
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَأُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا
فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا } . فَإِذَا كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَةِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَعْلَمَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْآخَرِ مُتَعَيِّنًا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَاجِرًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُسُوقِ وَالْآخَرُ مُؤْمِنًا مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى فَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِهَا وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَقْرَأَ وَأَعْلَمَ فَإِنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْفَاسِقِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَنَهْيَ تَنْزِيهٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { لَا يَؤُمَّن فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسَوْطِ أَوْ عَصًا } . وَلَا يَجُوزُ تَوْلِيَةُ الْفَاسِقِ مَعَ إمْكَانِ تَوْلِيَةِ الْبَرِّ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الصَّلَاةُ خَلْفَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَخَلْفَ أَهْلِ الْفُجُورِ فَفِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ : لَكِنْ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ فِي هَؤُلَاءِ أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَيْرِهِ . فَإِنَّ مَنْ كَانَ مُظْهِرًا لِلْفُجُورِ أَوْ الْبِدَعِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَنَهْيُهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ هَجْرُهُ لِيَنْتَهِيَ عَنْ فُجُورِهِ وَبِدْعَتِهِ ؛ وَلِهَذَا فَرَّقَ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ الدَّاعِيَةِ وَغَيْرِ الدَّاعِيَةِ فَإِنَّ الدَّاعِيَةَ أَظْهَرَ الْمُنْكَرَ فَاسْتَحَقَّ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ السَّاكِتِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَسَرَّ بِالذَّنْبِ فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا وَلَكِنْ إذَا أُعْلِنَتْ فَلَمْ تُنْكَرْ ضَرَّتْ الْعَامَّةَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُنَافِقُونَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَتُوكَلُ سَرَائِرُهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ .
فَإِذَا كَانَ دَاعِيَةً مُنِعَ مِنْ وِلَايَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَشَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا لِأَجْلِ فَسَادِ الصَّلَاةِ أَوْ اتِّهَامِهِ فِي شَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ فَإِذَا أَمْكَنَ لِإِنْسَانِ أَلَّا يُقَدِّمَ مُظْهِرًا لِلْمُنْكَرِ فِي الْإِمَامَةِ وَجَبَ ذَلِكَ . لَكِنْ إذَا وَلَّاهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يُمْكِنْهُ صَرْفُهُ عَنْ الْإِمَامَةِ أَوْ كَانَ هُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ صَرْفِهِ إلَّا بِشَرِّ أَعْظَمَ ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ مَا أَظْهَرَهُ مِنْ الْمُنْكَرِ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْفَسَادِ الْقَلِيلِ بِالْفَسَادِ الْكَثِيرِ وَلَا دَفْعُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ بِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . وَمَطْلُوبُهَا تَرْجِيحُ خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَجْتَمِعَا جَمِيعًا وَدَفْعُ شَرِّ الشَّرَّيْنِ إذَا لَمْ يَنْدَفِعَا جَمِيعًا . فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ مَنْعُ الْمُظْهِرِ لِلْبِدْعَةِ وَالْفُجُورِ إلَّا بِضَرَرِ زَائِدٍ عَلَى ضَرَرِ إمَامَتِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بَلْ يُصَلِّي خَلْفَهُ مَا لَا يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا إلَّا خَلْفَهُ كَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَالْجَمَاعَةِ . إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إمَامٌ غَيْرُهُ وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْحَجَّاجِ وَالْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيِّ وَغَيْرِهِمَا الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ فَإِنَّ تَفْوِيتَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ الِاقْتِدَاءِ فِيهِمَا بِإِمَامِ فَاجِرٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ عَنْهُمَا لَا يَدْفَعُ فُجُورَهُ فَيَبْقَى تَرْكُ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ بِدُونِ دَفْعِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ . وَلِهَذَا كَانَ التَّارِكُونَ لِلْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ مُطْلَقًا مَعْدُودِينَ عِنْدَ
السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ . وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ فِعْلُ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْبَرِّ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهَا خَلْفَ الْفَاجِرِ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا صَلَّى خَلْفَ الْفَاجِرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ لِلْعُلَمَاءِ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : أَنَّهُ يُعِيدُ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا لَا يُشْرَعُ بِحَيْثُ تَرَكَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِنْكَارِ بِصَلَاتِهِ خَلْفَ هَذَا فَكَانَتْ صَلَاتُهُ خَلْفَهُ مَنْهِيًّا عَنْهَا فَيُعِيدُهَا . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُعِيدُ . قَالَ : لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي نَفْسِهَا صَحِيحَةٌ وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَرْكِ الْإِنْكَارِ هُوَ أَمْرٌ مُنْفَصِلٌ عَنْ الصَّلَاةِ وَهُوَ يُشْبِهُ الْبَيْعَ بَعْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَهُ كَالْجُمُعَةِ فَهُنَا لَا تُعَادُ الصَّلَاةُ وَإِعَادَتُهَا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا قِيلَ : إنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْفَاسِقِ لَا تَصِحُّ أُعِيدَتْ الْجُمُعَةُ خَلْفَهُ وَإِلَّا لَمْ تُعَدْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ النِّزَاعُ فِي الْإِعَادَةِ حَيْثُ يُنْهَى الرَّجُلُ عَنْ الصَّلَاةِ . فَأَمَّا إذَا أُمِرَ بِالصَّلَاةِ خَلْفَهُ فَالصَّحِيحُ هُنَا أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالصَّلَاةِ مَرَّتَيْنِ .
وَأَمَّا الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ يَكْفُرُ بِبِدْعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَهُنَاكَ قَدْ تَنَازَعُوا فِي نَفْسِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَلْفَهُ . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ يَكْفُرُ أُمِرَ بِالْإِعَادَةِ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ خَلْفَ كَافِرٍ لَكِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَكْفِيرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالنَّاسُ مُضْطَرِبُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ مَالِكٍ فِيهَا رِوَايَتَانِ وَعَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهَا قَوْلَانِ . وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد أَيْضًا فِيهَا رِوَايَتَانِ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكَلَامِ فَذَكَرُوا لِلْأَشْعَرِيِّ فِيهَا قَوْلَيْنِ . وَغَالِبُ مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ فِيهَا تَفْصِيلٌ . وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا فَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ صَاحِبِهِ وَيُقَالُ مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي قَالَهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا . وَهَذَا كَمَا فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ نُصُوصِ الْوَعِيدِ حَقٌّ لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ لَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ فَلَا يُشْهَدُ لِمُعَيَّنِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِالنَّارِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ ثُبُوتِ مَانِعٍ فَقَدْ لَا يَكُونُ التَّحْرِيمُ بَلَغَهُ وَقَدْ يَتُوبُ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ تَكُونُ لَهُ حَسَنَاتٌ عَظِيمَةٌ تَمْحُو عُقُوبَةَ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ وَقَدْ يُبْتَلَى بِمَصَائِبَ تُكَفِّرُ عَنْهُ وَقَدْ يَشْفَعُ فِيهِ شَفِيعٌ مُطَاعٌ .
وَهَكَذَا الْأَقْوَالُ الَّتِي يَكْفُرُ قَائِلُهَا قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ لَمْ تَبْلُغْهُ النُّصُوصُ الْمُوجِبَةُ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَقَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ وَلَمْ تَثْبُتْ عِنْدَهُ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فَهْمِهَا وَقَدْ يَكُونُ قَدْ عَرَضَتْ لَهُ شُبُهَاتٌ يَعْذُرُهُ اللَّهُ بِهَا فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مُجْتَهِدًا فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَأَخْطَأَ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُ خَطَأَهُ كَائِنًا مَا كَانَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَسَائِلِ النَّظَرِيَّةِ أَوْ الْعَمَلِيَّةِ هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَجَمَاهِيرُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَمَا قَسَّمُوا الْمَسَائِلَ إلَى مَسَائِلِ أُصُولٍ يَكْفُرُ بِإِنْكَارِهَا وَمَسَائِلِ فُرُوعٍ لَا يَكْفُرُ بِإِنْكَارِهَا . فَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ نَوْعٍ وَتَسْمِيَتِهِ مَسَائِلَ الْأُصُولِ وَبَيْنَ نَوْعٍ آخَرَ وَتَسْمِيَتِهِ مَسَائِلَ الْفُرُوعِ فَهَذَا الْفَرْقُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ لَا عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا هُوَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَعَنْهُمْ تَلَقَّاهُ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ وَهُوَ تَفْرِيقٌ مُتَنَاقِضٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ : مَا حَدُّ مَسَائِلِ الْأُصُولِ الَّتِي يَكْفُرُ الْمُخْطِئُ فِيهَا ؟ وَمَا الْفَاصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ ؟ فَإِنْ قَالَ : مَسَائِلُ الْأُصُولِ هِيَ مَسَائِلُ الِاعْتِقَادِ وَمَسَائِلُ الْفُرُوعِ هِيَ مَسَائِلُ الْعَمَلِ . قِيلَ لَهُ : فَتَنَازَعَ النَّاسُ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ رَأَى رَبَّهُ أَمْ لَا ؟ وَفِي أَنَّ عُثْمَانَ أَفْضَلُ مِنْ عَلِيٍّ أَمْ عَلِيٌّ أَفْضَلُ ؟ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَتَصْحِيحِ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ هِيَ مِنْ الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَلَا كُفْرَ فِيهَا بِالِاتِّفَاقِ
وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ هِيَ مَسَائِلُ عَمَلِيَّةٌ وَالْمُنْكِرُ لَهَا يَكْفُرُ بِالِاتِّفَاقِ . وَإِنْ قَالَ الْأُصُولُ : هِيَ الْمَسَائِلُ الْقَطْعِيَّةُ قِيل لَا : كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعَمَلِ قَطْعِيَّةٌ وَكَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً وَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ وَقَدْ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ رَجُلٍ قَطْعِيَّةً لِظُهُورِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ لَهُ كَمَنْ سَمِعَ النَّصَّ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَيَقَّنَ مُرَادَهُ مِنْهُ . وَعِنْدَ رَجُلٍ لَا تَكُونُ ظَنِّيَّةً فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً لِعَدَمِ بُلُوغِ النَّصِّ إيَّاهُ أَوْ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ أَوْ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِدَلَالَتِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ الَّذِي قَالَ لِأَهْلِهِ : " { إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذروني فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ . فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْهُ وَالْبَحْرَ بِرَدِّ مَا أَخَذَ مِنْهُ وَقَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت ؟ قَالَ خَشْيَتَك يَا رَبِّ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ } فَهَذَا شَكَّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ . وَفِي الْمَعَادِ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَعُودُ وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ اللَّهُ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ مَذَاهِبَ الْأَئِمَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْعَيْنِ وَلِهَذَا حَكَى طَائِفَةٌ عَنْهُمْ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَفْهَمُوا غَوْرَ قَوْلِهِمْ فَطَائِفَةٌ تَحْكِي عَنْ أَحْمَد فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ رِوَايَتَيْنِ مُطْلَقًا حَتَّى تَجْعَلَ الْخِلَافَ فِي تَكْفِيرِ الْمُرْجِئَةِ وَالشِّيعَةِ الْمُفَضِّلَةِ لِعَلِيِّ وَرُبَّمَا رَجَّحَتْ التَّكْفِيرَ وَالتَّخْلِيدَ فِي النَّارِ وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبَ أَحْمَد وَلَا غَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ بَلْ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ الْمُرْجِئَةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ بِلَا عَمَلٍ وَلَا يُكَفِّرُ مَنْ يُفَضِّلُ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ بَلْ نُصُوصُهُ صَرِيحَةٌ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ تَكْفِيرِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَإِنَّمَا كَانَ يُكَفِّرُ الْجَهْمِيَّة الْمُنْكِرِينَ لِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ ؛ لِأَنَّ مُنَاقَضَةَ أَقْوَالِهِمْ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ : وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلُ الْخَالِقِ وَكَانَ قَدْ اُبْتُلِيَ بِهِمْ حَتَّى عَرَفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ وَأَنَّهُ يَدُورُ عَلَى التَّعْطِيلِ وَتَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة مَشْهُورٌ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . لَكِنْ مَا كَانَ يَكْفُرُ أَعْيَانُهُمْ فَإِنَّ الَّذِي يَدْعُو إلَى الْقَوْلِ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي يَقُولُ بِهِ وَاَلَّذِي يُعَاقِبُ مُخَالِفَهُ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي يَدْعُو فَقَطْ وَاَلَّذِي يُكَفِّرُ مُخَالِفَهُ أَعْظَمُ مِنْ الَّذِي يُعَاقِبُهُ وَمَعَ هَذَا فَاَلَّذِينَ كَانُوا مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ يَقُولُونَ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَيَدْعُونَ النَّاسَ إلَى ذَلِكَ
ويمتحنونهم وَيُعَاقِبُونَهُمْ إذَا لَمْ يُجِيبُوهُمْ وَيُكَفِّرُونَ مَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ . حَتَّى أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا أَمْسَكُوا الْأَسِيرَ لَمْ يُطْلِقُوهُ حَتَّى يُقِرَّ بِقَوْلِ الْجَهْمِيَّة : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَلَا يُوَلُّونَ مُتَوَلِّيًا وَلَا يُعْطُونَ رِزْقًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إلَّا لِمَنْ يَقُولُ ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَالْإِمَامُ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ لِمَنْ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ لِلرَّسُولِ وَلَا جَاحِدُونَ لِمَا جَاءَ بِهِ وَلَكِنْ تَأَوَّلُوا فَأَخْطَئُوا وَقَلَّدُوا مَنْ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ لَمَّا قَالَ لِحَفْصِ الْفَرْدِ حِينَ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ : كَفَرْت بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ . بَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ وَلَمْ يَحْكُمْ بِرِدَّةِ حَفْصٍ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ بِهَا وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ لَسَعَى فِي قَتْلِهِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي كُتُبِهِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ . وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَد فِي الْقَدَرِيِّ : إنْ جَحَدَ عِلْمَ اللَّهِ كَفَرَ وَلَفْظُ بَعْضِهِمْ نَاظَرُوا الْقَدَرِيَّةَ بِالْعِلْمِ فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ خَصَمُوا وَإِنْ جَحَدُوهُ كَفَرُوا . وَسُئِلَ أَحْمَد عَنْ الْقَدَرِيِّ : هَلْ يَكْفُرُ ؟ فَقَالَ : إنْ جَحَدَ الْعِلْمَ كَفَرَ وَحِينَئِذٍ فَجَاحِدُ الْعِلْمِ هُوَ مِنْ جِنْسِ الْجَهْمِيَّة . وَأَمَّا قَتْلُ الدَّاعِيَةِ إلَى
الْبِدَعِ فَقَدْ يُقْتَلُ لِكَفِّ ضَرَرِهِ عَنْ النَّاسِ كَمَا يُقْتَلُ الْمُحَارِبُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كُفْرًا فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِقَتْلِهِ يَكُونُ قَتْلُهُ لِرِدَّتِهِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ غَيْلَانُ الْقَدَرِيُّ وَغَيْرُهُ قَدْ يَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهَا تَنْبِيهًا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا مَنْ لَا يُقِيمُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فَلَا يُصَلِّي خَلْفَهُ إلَّا مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فَلَا يُصَلِّي خَلْفَ الْأَلْثَغِ الَّذِي يُبَدِّلُ حَرْفًا بِحَرْفِ إلَّا حَرْفَ الضَّادِ إذَا أَخْرَجَهُ مِنْ طَرَفِ الْفَمِ كَمَا هُوَ عَادَةُ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ : مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ وَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ أَبْدَلَ حَرْفًا بِحَرْفِ ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَ الضَّادِ الشِّدْقُ وَمَخْرَجَ الظَّاءِ طَرَفُ الْأَسْنَانِ . فَإِذَا قَالَ ( وَلَا الظَّالِّينَ ) كَانَ مَعْنَاهُ ظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا . وَالْوَجْهُ الثَّانِي : تَصِحُّ وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ الْحَرْفَيْنِ فِي السَّمْعِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَحِسُّ أَحَدِهِمَا مِنْ جِنْسِ حِسِّ الْآخَرِ لِتَشَابُهِ الْمَخْرَجَيْنِ . وَالْقَارِئُ إنَّمَا يَقْصِدُ الضَّلَالَ الْمُخَالِفَ لِلْهُدَى وَهُوَ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْمُسْتَمِعُ فَأَمَّا الْمَعْنَى الْمَأْخُوذُ مِنْ ظَلَّ فَلَا يَخْطِرُ بِبَالِ أَحَدٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْحَرْفَيْنِ
الْمُخْتَلِفَيْنِ صَوْتًا وَمَخْرَجًا وَسَمْعًا كَإِبْدَالِ الرَّاءِ بِالْغَيْنِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ المرازقة وَعَنْ بِدْعَتِهِمْ .
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالْجُمُعَةَ وَغَيْرَ ذَلِكَ خَلْفَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ بِدْعَةً وَلَا فِسْقًا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الِائْتِمَامِ أَنْ يَعْلَمَ الْمَأْمُومُ اعْتِقَادَ إمَامِهِ وَلَا أَنْ يَمْتَحِنَهُ فَيَقُولُ : مَاذَا تَعْتَقِدُ ؟ بَلْ يُصَلِّي خَلْفَ مَسْتُورِ الْحَالِ . وَلَوْ صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ فَاسِقٌ أَوْ مُبْتَدِعٌ فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ الصِّحَّةُ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ لَا أُسَلِّمُ مَالِي إلَّا لِمَنْ أَعْرِفُ . وَمُرَادُهُ لَا أُصَلِّي خَلْفَ مَنْ لَا أَعْرِفُهُ كَمَا لَا أُسَلِّمُ مَالِي إلَّا لِمَنْ أَعْرِفُهُ كَلَامُ جَاهِلٍ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ . فَإِنَّ الْمَالَ إذَا أَوْدَعَهُ الرَّجُلَ الْمَجْهُولَ فَقَدْ يَخُونُهُ
فِيهِ وَقَدْ يُضَيِّعُهُ . وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَوْ أَخْطَأَ أَوْ نَسِيَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِذَلِكَ الْمَأْمُومُ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { أَئِمَّتُكُمْ يُصَلُّونَ لَكُمْ وَلَهُمْ . فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } . فَجُعِلَ خَطَأُ الْإِمَامِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَهُمْ وَقَدْ صَلَّى عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُوَ جُنُبٌ نَاسِيًا لِلْجَنَابَةِ فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرْ الْمَأْمُومِينَ بِالْإِعَادَةِ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ الْإِمَامُ مَا يَسُوغُ عِنْدَهُ وَهُوَ عِنْدَ الْمَأْمُومِ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ مِثْلَ أَنْ يَعْتَقِدَ وَيُصَلِّيَ وَلَا يَتَوَضَّأَ أَوْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ يَتْرُكَ الْبَسْمَلَةَ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ صَلَاتَهُ تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ بَلْ فِي أَنَصِّهِمَا عَنْهُ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ اخْتَارَهُ الْقَفَّالُ وَغَيْرُهُ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْإِمَامَ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ مُتَعَمِّدًا وَالْمَأْمُومُ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى مَاتَ الْمَأْمُومُ لَمْ يُطَالِبْ اللَّهُ الْمَأْمُومَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي بِلَا وُضُوءٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَهُ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُصَلٍّ ؛ بَلْ لَاعِبٌ وَلَوْ عَلِمَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ صَلَّى بِلَا وُضُوءٍ فَفِي الْإِعَادَةِ نِزَاعٌ . وَلَوْ عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ
مُبْتَدِعٌ يَدْعُو إلَى بِدْعَتِهِ أَوْ فَاسِقٌ ظَاهِرُ الْفِسْقِ وَهُوَ الْإِمَامُ الرَّاتِبُ الَّذِي لَا تُمْكِنُ الصَّلَاةُ إلَّا خَلْفَهُ كَإِمَامِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْحَجِّ بِعَرَفَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يُصَلِّي خَلْفَهُ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ . وَلِهَذَا قَالُوا فِي الْعَقَائِدِ : إنَّهُ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَ خَلْفَ كُلِّ إمَامٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ إلَّا إمَامٌ وَاحِدٌ فَإِنَّهَا تُصَلَّى خَلْفَهُ الْجَمَاعَاتُ فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فَاسِقًا . هَذَا مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ : أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا بَلْ الْجَمَاعَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَمَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ الْفَاجِرِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَد . وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ . كَمَا ذَكَرَهُ فِي رِسَالَةِ عبدوس . وَابْنِ مَالِكٍ وَالْعَطَّارِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا وَلَا يُعِيدُهَا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ الْفُجَّارِ وَلَا يُعِيدُونَ كَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي خَلْفَ الْحَجَّاجِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ يُصَلُّونَ خَلْفَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حَتَّى أَنَّهُ صَلَّى بِهِمْ مَرَّةً الصُّبْحَ أَرْبَعًا ثُمَّ قَالَ : أَزِيدُكُمْ ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا زِلْنَا مَعَك مُنْذُ الْيَوْمَ فِي زِيَادَةٍ وَلِهَذَا رَفَعُوهُ إلَى عُثْمَانَ . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لَمَّا حُصِرَ صَلَّى بِالنَّاسِ شَخْصٌ فَسَأَلَ سَائِلٌ عُثْمَانَ . فَقَالَ : إنَّك إمَامُ عَامَّةٍ وَهَذَا الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ إمَامُ فِتْنَةٍ . فَقَالَ : يَا ابْنَ أَخِي إنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَحْسَنِ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ . وَالْفَاسِقُ وَالْمُبْتَدِعُ صَلَاتُهُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحَةٌ فَإِذَا صَلَّى الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ لَكِنْ إنَّمَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ بِدْعَةً أَوْ فُجُورًا لَا يُرَتَّبُ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْزِيرَ حَتَّى يَتُوبَ فَإِذَا أَمْكَنَ هَجْرُهُ حَتَّى يَتُوبَ كَانَ حَسَنًا وَإِذَا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ وَصَلَّى خَلْفَ غَيْرِهِ أُثِرَ ذَلِكَ حَتَّى يَتُوبَ أَوْ يُعْزَلَ أَوْ يَنْتَهِيَ النَّاسُ عَنْ مِثْلِ ذَنْبِهِ . فَمِثْلُ هَذَا إذَا تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَلَمْ يَفُتْ الْمَأْمُومَ جُمُعَةٌ وَلَا جَمَاعَةٌ . وَأَمَّا إذَا كَانَ تَرَكَ الصَّلَاةَ يَفُوتُ الْمَأْمُومَ الْجُمُعَةُ وَالْجَمَاعَةُ فَهُنَا لَا يَتْرُكُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ إلَّا مُبْتَدِعٌ مُخَالِفٌ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ رَتَّبَهُ وُلَاةُ الْأُمُورِ وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ مَصْلَحَةٌ فَهُنَا لَيْسَ عَلَيْهِ تَرْكُ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ بَلْ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْإِمَامِ الْأَفْضَلِ أَفْضَلُ وَهَذَا كُلُّهُ يَكُونُ فِيمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ فِسْقٌ أَوْ بِدْعَةٌ تَظْهَرُ مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَبِدْعَةِ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة
وَنَحْوِهِمْ . وَمَنْ أَنْكَرَ مَذْهَبَ الرَّوَافِضِ وَهُوَ لَا يُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ بَلْ يُكَفِّرُ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ وَقَعَ فِي مِثْلِ مَذْهَبِ الرَّوَافِضِ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْكَرَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَيْهِمْ تَرْكُهُمْ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَتَكْفِيرَ الْجُمْهُورِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الصَّلَاةُ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ " فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ . فَإِذَا لَمْ تَجِدْ إمَامًا غَيْرَهُ كَالْجُمُعَةِ الَّتِي لَا تُقَامُ إلَّا بِمَكَانِ وَاحِدٍ وَكَالْعِيدَيْنِ وَكَصَلَوَاتِ الْحَجِّ خَلْفَ إمَامِ الْمَوْسِمِ فَهَذِهِ تُفْعَلُ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا تَدَعُ مِثْلَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَا يَرَى الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْقَرْيَةِ إلَّا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ فَصَلَاتُهُ فِي الْجَمَاعَةِ خَلْفَ الْفَاجِرِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ مُنْفَرِدًا ؛ لِئَلَّا يُفْضِي إلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ مُطْلَقًا . وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ غَيْرِ الْمُبْتَدِعِ فَهُوَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ بِلَا رَيْبٍ لَكِنْ إنْ صَلَّى خَلْفَهُ فَفِي صَلَاتِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ تَصِحُّ صَلَاتُهُ . وَأَمَّا مَالِكٌ وَأَحْمَد فَفِي مَذْهَبِهِمَا النِّزَاعُ وَتَفْصِيلٌ .
وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي الْبِدْعَةِ الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِثْلَ بِدَعِ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ . فَأَمَّا مَسَائِلُ الدِّينِ الَّتِي يَتَنَازَعُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ مِثْلَ " مَسْأَلَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ " وَنَحْوِهَا فَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ مُبْتَدِعًا وَكِلَاهُمَا جَاهِلٌ مُتَأَوِّلٌ فَلَيْسَ امْتِنَاعُ هَذَا مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ هَذَا بِأَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ فَأَمَّا إذَا ظَهَرَتْ السُّنَّةُ وَعُلِمَتْ فَخَالَفَهَا وَاحِدٌ فَهَذَا هُوَ الَّذِي فِيهِ النِّزَاعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ اسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ وَهُوَ إمَامٌ فَقَالَ رَجُلٌ : لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَقَالَ : تَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ } فَهَذَا الَّذِي أَنْكَرَ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِآكِلِ الْحَشِيشَةِ أَنْ يَؤُمَّ بِالنَّاسِ ؟ وَإِذَا كَانَ الْمُنْكِرُ مُصِيبًا فَمَا يَجِبُ عَلَى الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ ؟ وَهَلْ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ فِي الْمَكَانِ أَنْ يَعْزِلَهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى فِي الْإِمَامَةِ بِالنَّاسِ مَنْ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ أَوْ يَفْعَلُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُحَرَّمَةِ مَعَ إمْكَانِ تَوْلِيَةِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ .
كَيْفَ وَفِي الْحَدِيثِ : { مَنْ قَلَّدَ رَجُلًا عَمَلًا عَلَى عِصَابَةٍ وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَخَانَ رَسُولَهُ وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { اجْعَلُوا أَئِمَّتَكُمْ خِيَارَكُمْ فَإِنَّهُمْ وَفْدُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ } . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { إذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْقَوْمَ ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ لَمْ يَزَالُوا فِي سَفَالٍ } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ . فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا } فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيمِ الْأَفْضَلِ بِالْعِلْمِ بِالْكِتَابِ ثُمَّ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ الْأَسْبَقِ إلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِنَفْسِهِ ثُمَّ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ : { أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَ يُصَلِّي بِقَوْمِ إمَامًا فَبَصَقَ فِي الْقِبْلَةِ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْزِلُوهُ عَنْ الْإِمَامَةِ وَلَا يُصَلُّوا خَلْفَهُ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ هَلْ أَمَرَهُمْ بِعَزْلِهِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ إنَّك آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ يُعْزَلُ لِأَجْلِ إسَاءَتِهِ فِي الصَّلَاةِ وَبُصَاقِهِ فِي الْقِبْلَةِ فَكَيْفَ الْمُصِرُّ عَلَى أَكْلِ الْحَشِيشَةِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا لِلْمُسْكِرِ مِنْهَا كَمَا عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ إذْ السُّكْرُ مِنْهَا حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ وَاسْتِحْلَالُ ذَلِكَ كُفْرٌ بِلَا نِزَاعٍ .
وَأَمَّا احْتِجَاجُ الْمُعَارِضِ بِقَوْلِهِ : { تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ } فَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُ لِوُجُوهِ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه عَنْهُ { لَا يَؤُمَّنَّ فَاجِرٌ مُؤْمِنًا إلَّا أَنْ يَقْهَرَهُ بِسَوْطِ أَوْ عَصًا } . وَفِي إسْنَادِ الْآخَرِ مَقَالٌ أَيْضًا . الثَّانِي : أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مَنْ وُلِّيَ وَإِنْ كَانَ تَوْلِيَةُ ذَلِكَ الْمُولَى لَا تَجُوزُ فَلَيْسَ لِلنَّاسِ أَنْ يُوَلُّوا عَلَيْهِمْ الْفُسَّاقَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْفُذُ حُكْمُهُ أَوْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ . الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْفَاسِقِ لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّتِهَا : فَقِيلَ لَا تَصِحُّ . كَقَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا . وَقِيلَ : بَلْ تَصِحُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْهُمَا وَلَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي تَوْلِيَتُهُ . الرَّابِعُ : أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي وُجُوبِ الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفُسَّاقِ الَّذِينَ يَسْكَرُونَ مِنْ الْحَشِيشَةِ ؛ بَلْ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا حَرَامٌ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ آكِلَهَا يُحَدُّ وَأَنَّهَا نَجِسَةٌ فَإِذَا كَانَ آكِلُهَا لَمْ يَغْسِلْ مِنْهَا فَمَهُ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً وَلَوْ غَسَلَ فَمَهُ
مِنْهَا أَيْضًا فَهِيَ خَمْرٌ . وَفِي الْحَدِيثِ { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَادَ فَشَرِبَهَا فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ : قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟ قَالَ : عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ } . وَإِذَا كَانَتْ صَلَاتُهُ تَارَةً بَاطِلَةً وَتَارَةً غَيْرَ مَقْبُولَةٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ كَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ . وَمَنْ مَنَعَ الْمُنْكَرَ عَلَيْهِ فَقَدْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدَ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ ؛ وَمَنْ قَالَ : فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ } فَالْمُخَاصِمُونَ عَنْهُ مُخَاصِمُونَ فِي بَاطِلٍ وَهُمْ فِي سَخَطِ اللَّهِ . وَالْحَائِلُونَ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ مُضَادُّونَ لِلَّهِ فِي أَمْرِهِ وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ حَالَهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ خَطِيبٍ قَدْ حَضَرَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ فَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ ؛ لِأَجْلِ بِدْعَةٍ فِيهِ فَمَا هِيَ الْبِدْعَةُ الَّتِي تَمْنَعُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَحَدًا مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ فَاسِقًا . وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ تَرْكُ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا لِأَجْلِ فِسْقِ الْإِمَامِ بَلْ عَلَيْهِمْ فِعْلُ ذَلِكَ خَلْفَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا وَإِنْ عَطَّلُوهَا لِأَجْلِ فِسْقِ الْإِمَامِ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَإِنَّمَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِمَامِ إذَا كَانَ فَاسِقًا أَوْ مُبْتَدِعًا وَأَمْكَنَ أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ عَدْلٍ . فَقِيلَ : تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا . وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَقِيلَ : لَا تَصِحُّ خَلْفَ الْفَاسِقِ إذَا أَمْكَنَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْعَدْلِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ وَأَحْمَد . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إمَامٍ يَقُولُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي خُطْبَتِهِ : إنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ أَزَلِيٍّ قَدِيمٍ لَيْسَ بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ فَهَلْ تَسْقُطُ الْجُمُعَةُ خَلْفَهُ أَمْ لَا ؟ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَأهُ النَّاسُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ يَقْرَؤُهُ النَّاسُ بِأَصْوَاتِهِمْ . فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ وَالْقُرْآنُ جَمِيعُهُ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ . وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُبْتَدِعًا فَإِنَّهُ يُصَلَّى خَلْفَهُ الْجُمُعَةَ ؛ وَتَسْقُطُ بِذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إمَامٍ قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ : فَهَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ . أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ قَتَلَ مُسْلِمًا مُتَعَمِّدًا بِغَيْرِ حَقٍّ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْزَلَ عَنْ الْإِمَامَةِ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ إلَّا لِضَرُورَةِ مِثْلَ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ إمَامٌ غَيْرَهُ ؛ لَكِنْ إذَا تَابَ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ . فَإِذَا تَابَ التَّوْبَةَ الشَّرْعِيَّةَ جَازَ أَنْ يُقَرَّ عَلَى إمَامَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ أَيْضًا :
عَنْ إمَامِ مَسْجِدٍ قَتَلَ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى خَلْفَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ قَدْ قَتَلَ الْقَاتِلُ أَوَّلًا ثُمَّ عَمَدُوا أَقَارِبُ الْمَقْتُولِ إلَى أَقَارِبِ الْقَاتِلِ فَقَتَلُوهُمْ . فَهَؤُلَاءِ عُدَاةٌ مِنْ أَظْلَمِ النَّاسِ وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . وَلِهَذَا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ هَؤُلَاءِ الْقَاتِلِينَ يَقْتُلُهُمْ السُّلْطَانُ حَدًّا وَلَا يُعْفَى عَنْهُمْ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَجْعَلُونَ أَمْرَهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَمَنْ كَانَ مِنْ الْخُطَبَاءِ يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدِّمَاءِ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ عَزْلُهُمْ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ إمَامًا لِلْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ يَكُونُ إمَامًا لِلظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
عَنْ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى فَارَقَتْهُ وَصَارَ يَخْلُو بِهَا . فَهَلْ يُصَلَّى خَلْفَهُ ؟ وَمَا حُكْمُهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى مَوَالِيهِ } فَسَعْيُ الرَّجُلِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا مِنْ الذُّنُوبِ الشَّدِيدَةِ وَهُوَ مِنْ فِعْلِ السَّحَرَةِ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ فِعْلِ الشَّيَاطِينِ . لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ يُخَبِّبُهَا عَلَى زَوْجِهَا لِيَتَزَوَّجَهَا هُوَ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْخَلْوَةِ بِهَا وَلَا سِيَّمَا إذَا دَلَّتْ الْقَرَائِنُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ . وَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَلَّى إمَامَةَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ يَتُوبُ فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِذَا أَمْكَنَ الصَّلَاةُ خَلْفَ عَدْلٍ مُسْتَقِيمِ السِّيرَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى خَلْفَهُ فَلَا يُصَلَّى خَلْفَ مَنْ ظَهَرَ فُجُورُهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إمَامٍ يَقْرَأُ عَلَى الْجَنَائِزِ ، هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي صَلَاةً كَامِلَةً وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوَرَعِ فَالصَّلَاةُ خَلْفَهُ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ مَنْ يَقْرَأُ عَلَى الْجَنَائِزِ فَإِنَّ هَذَا مَكْرُوهٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : مِنْ وَجْهٍ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْجَنَائِزِ مَكْرُوهَةٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ . وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا أَعْظَمُ كَرَاهَةً فَإِنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى التِّلَاوَةِ لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إمَامٍ يَبْصُقُ فِي الْمِحْرَابِ هَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ عَزَلَ إمَامًا لِأَجْلِ بُصَاقِهِ فِي الْقِبْلَةِ وَقَالَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ : لَا تُصَلُّوا خَلْفَهُ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْتَ نَهَيْتهمْ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفِي قَالَ : نَعَمْ إنَّك قَدْ آذَيْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . فَإِنْ عُزِلَ عَنْ الْإِمَامَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَوْ انْتَهَى الْجَمَاعَةُ أَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ ؛ لِأَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رِجْلٍ فَقِيهٍ عَالِمٍ خَاتِمٍ لِلْقُرْآنِ وَبِهِ عُذْرٌ : يَدُهُ الشِّمَالُ خَلْفَهُ مِنْ حَدِّ الْكَتِفِ وَلَهُ أَصَابِعُ لَحْمٍ وَقَدْ قَالُوا : إنَّ الصَّلَاةَ غَيْرُ جَائِزَةٍ خَلْفَهُ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَتْ يَدَاهُ يَصِلَانِ إلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ فَإِنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ بِلَا نِزَاعٍ . وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا أَمْكَنَهُ السُّجُودُ عَلَى الْأَعْضَاءِ السَّبْعَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ : الْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ } . فَإِنَّ السُّجُودَ تَامٌّ وَصَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُ تَامَّةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْخَصِيِّ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، تَصِحُّ خَلْفَهُ . كَمَا تَصِحُّ خَلْفَ الْفَحْلِ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فَإِذَا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي الْإِمَامَةِ وَإِنْ كَانَ الْمَفْضُولُ فَحْلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مَا عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ وَهُوَ يُصَلِّي بِالْأُجْرَةِ . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْإِمَامَةِ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد . وَقِيلَ : يَجُوزُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . وَالْخِلَافُ فِي الْأَذَانِ أَيْضًا .
لَكِنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ يَجُوزُ عَلَى الْأَذَانِ وَعَلَى الْإِمَامَةِ مَعَهُ وَمُنْفَرِدَةٌ وَفِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى هَذَا وَنَحْوِهِ كَالتَّعْلِيمِ عَلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : إنَّهُ يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ بِدُونِ حَاجَةٍ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ مُعَرَّفٍ عَلَى الْمَرَاكِبِ وَبَنَى مَسْجِدًا وَجَعَلَ لِلْإِمَامِ فِي كُلِّ شَهْرٍ أُجْرَةً مِنْ عِنْدِهِ فَهَلْ هُوَ حَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ ؟ وَهَلْ تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانَ يُعْطِي هَذِهِ الدَّرَاهِمَ مِنْ أُجْرَةِ الْمَرَاكِبِ الَّتِي لَهُ جَازَ أَخْذُهَا وَإِنْ كَانَ يُعْطِيهَا مِمَّا يَأْخُذُ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ إمَامِ بَلَدٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ ، وَفِي الْبَلَدِ رَجُلٌ آخَرُ يَكْرَهُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ . فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ خَلْفَهُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا لَمْ يُصَلِّ
خَلْفَهُ وَتَرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْجَمَاعَةِ . هَلْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ ؟ وَاَلَّذِي يَكْرَهُ الصَّلَاةَ خَلْفَهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يُصَحِّحُ الْفَاتِحَةَ وَفِي الْبَلَدِ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ وَأَفْقَهُ .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ . أَمَّا كَوْنُهُ لَا يُصَحِّحُ الْفَاتِحَةَ فَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا فَإِنَّ عَامَّةَ الْخَلْقِ مِنْ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ يَقْرَءُونَ الْفَاتِحَةَ قِرَاءَةً تُجْزِئُ بِهَا الصَّلَاةَ فَإِنَّ اللَّحْنَ الْخَفِيَّ وَاللَّحْنَ الَّذِي لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَفِي الْفَاتِحَةِ قِرَاءَاتٌ كَثِيرَةٌ قَدْ قُرِئَ بِهَا . فَلَوْ قَرَأَ ( عَلَيْهِمْ وَ ( عَلَيْهُمْ ) ( عَلَيْهُمُ ). أَوْ قَرَأَ : ( الصِّرَاطَ ) وَ ( السِّرَاطَ ) وَ ( الزراط ) . فَهَذِهِ قِرَاءَاتٌ مَشْهُورَةٌ . وَلَوْ قَرَأَ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) وَ ( الْحَمْدُ لُلَّهِ ) أَوْ قَرَأَ ( رَبُّ الْعَالَمِينَ ) أَوْ ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . أَوْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . لَكَانَتْ قِرَاءَاتٍ قَدْ قُرِئَ بِهَا . وَتَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ قَرَأَ بِهَا . وَلَوْ قَرَأَ : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالضَّمِّ أَوْ قَرَأَ ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) بِالْفَتْحِ لَكَانَ هَذَا لَحْنًا لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى وَلَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . وَإِنْ كَانَ إمَامًا رَاتِبًا وَفِي الْبَلَدِ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ مِنْهُ صَلَّى خَلْفَهُ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ } وَإِنْ كَانَ مُتَظَاهِرًا بِالْفِسْقِ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُقِيمُ الْجَمَاعَةَ غَيْرُهُ صُلِّيَ
خَلْفَهُ أَيْضًا وَلَمْ يَتْرُكْ الْجَمَاعَةَ وَإِنْ تَرَكَهَا فَهُوَ آثِمٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ صَلَّى بِغَيْرِ وُضُوءٍ إمَامًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَوْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا : فَهَلْ صَلَاتُهُ جَائِزَةٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً : فَهَلْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِينَ خَلْفَهُ تَصِحُّ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْمَأْمُومُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَدَثِ الْإِمَامِ أَوْ النَّجَاسَةِ الَّتِي عَلَيْهِ حَتَّى قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَد إذَا كَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ عَالِمٍ وَيُعِيدُ وَحْدَهُ إذَا كَانَ مُحْدِثًا . وَبِذَلِكَ مَضَتْ سُنَّةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّهُمْ صَلَّوْا بِالنَّاسِ ثُمَّ رَأَوْا الْجَنَابَةَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَأَعَادُوا وَلَمْ يَأْمُرُوا النَّاسَ بِالْإِعَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
فَصْلٌ :
فِي انْعِقَادِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ . النَّاسُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ وَفَائِدَةُ الِائْتِمَامِ فِي تَكْثِيرِ الثَّوَابِ بِالْجَمَاعَةِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ لَكِنْ قَدْ عُورِضَ بِمَنْعِهِ اقْتِدَاءُ الْقَارِئِ بِالْأُمِّيِّ وَالرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ وَإِبْطَالُ صَلَاةِ الْمُؤْتَمِّ بِمَنْ لَا صَلَاةَ لَهُ : كَالْكَافِرِ وَالْمُحْدِثِ . وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَلَامٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَمِنْ الْحُجَّةِ فِيهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَئِمَّةِ : { إنْ أَحْسَنُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } . وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ وَفُرِّعَ عَلَيْهَا مُطْلَقًا فَكُلُّ خَلَلٍ حَصَلَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ يَسْرِي إلَى صَلَاةِ الْمَأْمُومِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِمَامُ ضَامِنٌ } . وَعَلَى هَذَا فَالْمُؤْتَمُّ بِالْمُحْدِثِ
النَّاسِي لِحَدَثِهِ يُعِيدُ كَمَا يُعِيدُ إمَامُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابِ . حَتَّى اخْتَارَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ كَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنْ لَا يَأْتَمَّ الْمُتَوَضِّئُ بِالْمُتَيَمِّمِ لِنَقْصِ طَهَارَتِهِ عَنْهُ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّهَا مُنْعَقِدَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ لَكِنْ إنَّمَا يَسْرِي النَّقْصُ إلَى صَلَاةِ الْمَأْمُومِ مَعَ عَدَمِ الْعُذْرِ مِنْهُمَا فَأَمَّا مَعَ الْعُذْرِ فَلَا يَسْرِي النَّقْصُ فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ طَهَارَتَهُ فَهُوَ مَعْذُورٌ فِي الْإِمَامَةِ وَالْمَأْمُومُ مَعْذُورٌ فِي الِائْتِمَامِ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَعَلَيْهِ يَتَنَزَّلُ مَا يُؤْثَرُ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَوْسَطُ الْأَقْوَالِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي نَفْسِ صِفَةِ الْإِمَامِ النَّاقِصِ ؛ أَنَّ حُكْمَهُ مَعَ الْحَاجَةِ يُخَالِفُ حُكْمَهُ مَعَ عَدَمِ الْحَاجَةِ . فَحُكْمُ صَلَاتِهِ كَحُكْمِ نَفْسِهِ . وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي اقْتِدَاءُ الْمُؤْتَمِّ بِإِمَامِ قَدْ تَرَكَ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمَأْمُومُ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا يَسُوغُ كَأَنْ لَا يَتَوَضَّأَ مِنْ خُرُوجِ النَّجَاسَاتِ وَلَا مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ اعْتِقَادَ الْإِمَامِ هُنَا صِحَّةُ صَلَاتِهِ كَاعْتِقَادِهِ صِحَّتَهَا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحَدَثِ وَأَوْلَى . فَإِنَّهُ هُنَاكَ تَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَهَذَا أَصْلٌ نَافِعٌ أَيْضًا . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يُصَلُّونَ
لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَخْطَأَ كَانَ دَرْكُ خَطَئِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَأْمُومِينَ . فَمَنْ صَلَّى مُعْتَقِدًا طَهَارَتَهُ وَكَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ وَقُلْنَا عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِلنَّجَاسَةِ كَمَا يُعِيدُ مِنْ الْحَدَثِ : فَهَذَا الْإِمَامُ مُخْطِئٌ فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ فَيَكُونُ خَطَؤُهُ عَلَيْهِ فَيُعِيدُ صَلَاتَهُ . وَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَلَهُمْ هَذِهِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ خَطَئِهِ شَيْءٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا نَصٌّ فِي إجْزَاءِ صَلَاتِهِمْ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ بَعْضَ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ بِتَأْوِيلِ أَخْطَأَ فِيهِ عِنْدَ الْمَأْمُومِ : مِثْلَ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ وَيُصَلِّيَ أَوْ يَحْتَجِمَ وَيُصَلِّيَ أَوْ يَتْرُكَ قِرَاءَةَ الْبَسْمَلَةِ أَوْ يُصَلِّيَ وَعَلَيْهِ نَجَاسَةٌ لَا يُعْفَى عَنْهَا عِنْدَ الْمَأْمُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذَا الْإِمَامُ أَسْوَأُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا إنْ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا . فَتَكُونُ هَذِهِ الصَّلَاةُ لِلْمَأْمُومِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ خَطَإِ إمَامِهِ شَيْءٌ . وَكَذَلِكَ رَوَى أَحْمَد وَأَبُو دَاوُد عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ أَمَّ النَّاسَ فَأَصَابَ الْوَقْتَ وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ فَلَهُ وَلَهُمْ وَمَنْ انْتَقَصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ } لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَبُو دَاوُد " وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ " فَهَذَا الِانْتِقَاصُ يُفَسِّرُهُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ الْخَطَأُ وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ : { وَإِنْ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمْ } أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَلِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ يَتْرُكُ الْأَرْكَانَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا لَا تَنْبَغِي الصَّلَاةُ خَلْفَهُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يَؤُمُّ قَوْمًا وَأَكْثَرُهُمْ لَهُ كَارِهُونَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ كَانُوا يَكْرَهُونَ هَذَا الْإِمَامَ لِأَمْرِ فِي دِينِهِ : مِثْلَ كَذِبِهِ أَوْ ظُلْمِهِ أَوْ جَهْلِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَيُحِبُّونَ الْآخَرَ لِأَنَّهُ أَصْلَحُ فِي دِينِهِ مِنْهُ . مِثْلَ أَنْ يَكُونَ أَصْدَقَ وَأَعْلَمَ وأدين فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَلَّى عَلَيْهِمْ هَذَا الْإِمَامُ الَّذِي يُحِبُّونَهُ وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْإِمَامِ الَّذِي يَكْرَهُونَهُ أَنْ يَؤُمَّهُمْ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ : رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ وَرَجُلٌ لَا يَأْتِي الصَّلَاةَ إلَّا دِبَارًا وَرَجُلٌ اعْتَبَدَ مُحَرَّرًا } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ : هَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ بَعْضِهِمْ خَلْفَ بَعْضٍ ؟ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ لَا يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ ؟ وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ فَهَلْ هُوَ مُبْتَدِعٌ ؟ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا فَعَلَ الْإِمَامُ مَا يَعْتَقِدُ
أَنَّ صَلَاتَهُ مَعَهُ صَحِيحَةٌ وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ خِلَافَ ذَلِكَ . مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ تَقِيًّا أَوْ رَعَفَ أَوْ احْتَجَمَ أَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ مَسَّ النِّسَاءَ بِشَهْوَةِ أَوْ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَوْ قَهْقَهَ فِي صَلَاتِهِ أَوْ أَكَلَ لَحْمَ الْإِبِلِ وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ الْإِمَامُ لَا يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ أَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ التَّشَهُّدَ الْآخَرَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَ ذَلِكَ فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ وَالْحَالُ هَذِهِ ؟ وَإِذَا شُرِطَ فِي إمَامِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ فَكَانَ غَيْرُهُ أَعْلَمَ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْهُ وَوُلِّيَ . فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَجُوزُ صَلَاةُ بَعْضِهِمْ خَلْفَ بَعْضٍ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ مَعَ تَنَازُعِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ لَا يُصَلِّي بَعْضُهُمْ خَلْفَ بَعْضٍ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ : مِنْهُمْ مَنْ يَقْرَأُ الْبَسْمَلَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْرَؤُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْهَرُ بِهَا وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَجْهَرُ بِهَا وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْنُتُ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ وَالْقَيْءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَمَسِّ النِّسَاءِ بِشَهْوَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ الْقَهْقَهَةِ فِي صَلَاتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَضَّأُ مِنْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ ذَلِكَ وَمَعَ هَذَا فَكَانَ بَعْضُهُمْ يُصَلِّي خَلْفَ بَعْضٍ : مِثْلَ مَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ يُصَلُّونَ خَلْفَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ لَا سِرًّا وَلَا جَهْرًا وَصَلَّى أَبُو يُوسُفَ خَلْفَ الرَّشِيدِ وَقَدْ احْتَجَمَ وَأَفْتَاهُ مَالِكٌ بِأَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ فَصَلَّى خَلْفَهُ أَبُو يُوسُفَ وَلَمْ يُعِدْ . وَكَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يَرَى الْوُضُوءَ مِنْ الْحِجَامَةِ وَالرُّعَافِ فَقِيلَ لَهُ : فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ . تُصَلِّي خَلْفَهُ ؟ فَقَالَ : كَيْفَ لَا أُصَلِّي خَلْفَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٍ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ لَهَا صُورَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنْ لَا يَعْرِفَ الْمَأْمُومُ أَنَّ إمَامَهُ فَعَلَ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَهُنَا يُصَلِّي الْمَأْمُومُ خَلْفَهُ بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ مُتَقَدِّمٌ وَإِنَّمَا خَالَفَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : فَزَعَمَ
أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْحَنَفِيِّ لَا تَصِحُّ وَإِنْ أَتَى بِالْوَاجِبَاتِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا وَقَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَنْ يُسْتَتَابَ كَمَا يُسْتَتَابُ أَهْلُ الْبِدَعِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ يُصَلِّي بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ وَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْمَفْرُوضِ وَالْمَسْنُونِ بَلْ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهَذَا وَاجِبًا لَبَطَلَتْ صَلَوَاتُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِيَاطُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ فِيهِ نِزَاعٌ وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ خَفِيَّةٌ وَأَكْثَرُ مَا يُمْكِنُ الْمُتَدَيِّنُ أَنْ يَحْتَاطَ مِنْ الْخِلَافِ وَهُوَ لَا يَجْزِمُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . فَإِنْ كَانَ الْجَزْمُ بِأَحَدِهِمَا وَاجِبًا فَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَا يُمْكِنُهُمْ الْجَزْمُ بِذَلِكَ وَهَذَا الْقَائِلُ نَفْسُهُ لَيْسَ مَعَهُ إلَّا تَقْلِيدُ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَلَوْ طُولِبَ بِأَدِلَّةِ شَرْعِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ إمَامِهِ دُونَ غَيْرِهِ لَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ مِثْلِ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ . الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَتَيَقَّنَ الْمَأْمُومُ أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ مَا لَا يَسُوغُ عِنْدَهُ : مِثْلَ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ النِّسَاءَ لِشَهْوَةِ أَوْ يَحْتَجِمَ أَوْ يَفْتَصِدَ أَوْ يَتَقَيَّأَ . ثُمَّ يُصَلِّيَ بِلَا وُضُوءٍ فَهَذِهِ الصُّورَةُ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ . فَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ إمَامِهِ . كَمَا قَالَ ذَلِكَ مَنْ قَالَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد ؛ بَلْ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَد عَلَى هَذَا . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } . فَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْمَأْمُومِ وَلِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ سَائِغٌ لَهُ وَأَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا فَعَلَ فَإِنَّهُ مُجْتَهِدٌ أَوْ مُقَلِّدٌ مُجْتَهِدٌ . وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ خَطَأَهُ فَهُوَ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ صَلَاتِهِ وَأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ إذَا لَمْ يُعِدْهَا بَلْ لَوْ حَكَمَ بِمِثْلِ هَذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ نَقْضُ حُكْمِهِ بَلْ كَانَ يُنْفِذُهُ . وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَدْ فَعَلَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَالْمَأْمُومُ قَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ كَانَتْ صَلَاةُ كُلٍّ مِنْهُمَا صَحِيحَةً وَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ أَدَّى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَقَدْ حَصَلَتْ مُوَافَقَةُ الْإِمَامِ فِي الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ خَطَأً مِنْهُ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِمَامَ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ مَا أَخْطَأَ فِيهِ وَأَنْ لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ . وَلَوْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ فَسَلَّمَ الْإِمَامُ خَطَأً وَاعْتَقَدَ الْمَأْمُومُ جَوَازَ
مُتَابَعَتِهِ فَسَلَّمَ كَمَا سَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ سَهْوًا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ إنَّمَا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَكَمَا لَوْ صَلَّى خَمْسًا سَهْوًا فَصَلَّوْا خَلْفَهُ خَمْسًا كَمَا صَلَّى الصَّحَابَةُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ خَمْسًا فَتَابَعُوهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ صَلَّى خَمْسًا ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ جَوَازَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْمُخْطِئُ هُوَ الْإِمَامَ وَحْدَهُ . وَقَدْ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ سَلَّمَ خَطَأً لَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ إذَا لَمْ يُتَابِعْهُ وَلَوْ صَلَّى خَمْسًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ إذَا لَمْ يُتَابِعْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ خَطَأً لَا يَلْزَمُ فِيهِ بُطْلَانُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ مَنْ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ ؟ .
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا صَلَاةُ الرَّجُلِ خَلْفَ مَنْ يُخَالِفُ مَذْهَبَهُ فَهَذِهِ تَصِحُّ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي صُورَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا : خِلَافُهَا شَاذٌّ وَهُوَ مَا إذَا أَتَى الْإِمَامُ بِالْوَاجِبَاتِ كَمَا يَعْتَقِدُهُ
الْمَأْمُومُ لَكِنْ لَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا مِثْلَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ إذَا فَعَلَهُ مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ وُجُوبَهُ وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ فَهَذَا فِيهِ خِلَافٌ شَاذٌّ . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْخَلَفِ صِحَّةُ الصَّلَاةِ . وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ إذَا تَرَكَ الْإِمَامُ مَا يَعْتَقِدُ الْمَأْمُومُ وُجُوبَهُ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ قِرَاءَةَ الْبَسْمَلَةِ سِرًّا وَجَهْرًا وَالْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ وُجُوبَهَا . أَوْ مِثْلَ أَنْ يَتْرُكَ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ أَوْ لَمْسِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْلِ لَحْمِ الْإِبِلِ . أَوْ الْقَهْقَهَةِ أَوْ خُرُوجِ النَّجَاسَاتِ أَوْ النَّجَاسَةِ النَّادِرَةِ وَالْمَأْمُومُ يَرَى وُجُوبَ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا فِيهِ قَوْلَانِ . أَصَحُّهُمَا صِحَّةُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْرَحُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بَلْ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ لَا يَقْرَءُونَ الْبَسْمَلَةَ وَمَذْهَبُهُ وُجُوبُ قِرَاءَتِهَا . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَلَهُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ } فَجَعَلَ خَطَأَ الْإِمَامِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَأْمُومِ . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ إنْ كَانَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ فِيهَا هُوَ الصَّوَابَ فَلَا نِزَاعَ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فَخَطَؤُهُ مُخْتَصٌّ بِهِ وَالْمُنَازِعُ يَقُولُ : الْمَأْمُومُ يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ صَلَاةِ إمَامِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِمَامَ يُصَلِّي
بِاجْتِهَادِ أَوْ تَقْلِيدٍ إنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَهُوَ يُنَفِّذُ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ اقْتِدَائِهِ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ حُكْمُهُ بَاطِلًا لَمْ يَجُزْ إنْفَاذُ الْبَاطِلِ وَلَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ الطَّهَارَةَ نَاسِيًا لَمْ يُعِدْ الْمَأْمُومُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ . كَمَا ثَبَتَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مَعَ أَنَّ النَّاسِيَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ وَالْمُتَأَوِّلُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ . فَإِذَا صَحَّتْ الصَّلَاةُ خَلْفَ مَنْ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فَلِأَنْ تَصِحَّ خَلْفَ مَنْ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَوْلَى وَالْإِمَامُ يُعِيدُ إذَا ذَكَرَ دُونَ الْمَأْمُومِ وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْإِمَامِ وَلَا مِنْ الْمَأْمُومِ تَفْرِيطٌ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَرْجِعُ عَنْ اعْتِقَادِهِ بِقَوْلِهِ . بِخِلَافِ مَا إذَا رَأَى عَلَى الْإِمَامِ نَجَاسَةً وَلَمْ يُحَذِّرْهُ مِنْهَا فَإِنَّ الْمَأْمُومَ هُنَا مُفَرِّطٌ فَإِذَا صَلَّى يُعِيدُ لِأَنَّ ذَلِكَ لِتَفْرِيطِهِ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَلَا يُعِيدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَأَحْمَد فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَعِلْمُ الْمَأْمُومِ بِحَالِ الْإِمَامِ فِي صُورَةِ التَّأْوِيلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ مَغْفُورٌ لَهُ خَطَؤُهُ فَلَا تَكُونُ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ يُقَلِّدُ الشَّافِعِيُّ حَنَفِيًّا وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ الوترية وَفِي جَمْعِ الْمَطَرِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَجُوزُ لِلْحَنَفِيِّ وَغَيْرِهِ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يُجَوِّزُ الْجَمْعَ مِنْ الْمَطَرِ لَا سِيَّمَا وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَجْمَعُ مَعَ وُلَاةِ الْأُمُورِ بِالْمَدِينَةِ إذَا جَمَعُوا فِي الْمَطَرِ . وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُقَلِّدَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ فِي كُلِّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ وَيَسْتَحِبُّهُ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَفْتُونَ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ فَيُقَلِّدُونَ تَارَةً هَذَا وَتَارَةً هَذَا . فَإِذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ يُقَلِّدُ فِي مَسْأَلَةٍ يَرَاهَا أَصْلَحَ فِي دِينِهِ أَوْ الْقَوْلُ بِهَا أَرْجَحُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ جَازَ هَذَا بِاتِّفَاقِ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ لَا أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٌ وَلَا الشَّافِعِيُّ وَلَا أَحْمَد . وَكَذَلِكَ الْوِتْرُ وَغَيْرُهُ يَنْبَغِي لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَتْبَعَ فِيهِ إمَامَهُ فَإِنْ
قَنَتَ قَنَتَ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَقْنُتْ لَمْ يَقْنُتْ وَإِنْ صَلَّى بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مَوْصُولَةٍ فَعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ فَصَلَ فَصَلَ أَيْضًا . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَخْتَارُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَصِلَ إذَا فَصَلَ إمَامُهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّا إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْضَ الصَّلَاةِ وَقَامَ لِيَأْتِيَ بِمَا فَاتَهُ فَائْتَمَّ بِهِ آخَرُونَ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ بَعْضًا وَقَامَ يَأْتِي بِمَا فَاتَهُ فَائْتَمَّ بِهِ آخَرُونَ . جَازَ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إمَامٍ يُصَلِّي صَلَاةَ الْفَرْضِ بِالنَّاسِ ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا صَلَاةً أُخْرَى وَيَقُولُ : هَذِهِ عَنْ صَلَاةٍ فَاتَتْكُمْ هَلْ يَسُوغُ هَذَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ لِلْإِمَامِ الرَّاتِبِ أَنْ يَعْتَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الْفَرِيضَةَ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَسُنَّةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَلَمْ يَسْتَحِبَّ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ . لَا أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا مَالِكٍ وَلَا الشَّافِعِيِّ . وَلَا أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ . بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَعَادَ بِأُولَئِكَ الْمَأْمُومِينَ الصَّلَاةَ مَرَّتَيْنِ دَائِمًا أَنَّ هَذَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ كَانَ ضَالًّا . وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْإِمَامِ إذَا صَلَّى مَرَّةً ثَانِيَةً بِقَوْمِ آخَرِينَ غَيْرَ الْأَوَّلِينَ . مِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَرِّمُ ذَلِكَ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ . وَمَنْ عَلَيْهِ فَوَائِتُ فَإِنَّهُ يَقْضِيهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ أَمَّا كَوْنُ الْإِمَامِ يُعِيدُ الصَّلَاةَ دَائِمًا مَعَ الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ وَأَنْ يُصَلُّوا خَلْفَهُ فَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ . وَإِنْ قَالَ : إنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْفَوَائِتِ . وَأَقَلُّ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِ الْأَئِمَّةُ فَتَبْقَى بِهِ سُنَّةٌ يَرْبُو عَلَيْهَا الصَّغِيرُ وَتُغَيَّرُ بِسَبَبِهَا شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْبَوَادِي وَمَوَاضِعِ الْجَهْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا مَنْ أَدَّى فَرْضَهُ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا أَوْ مُنْفَرِدًا ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَؤُمَّ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ لِمَنْ يُؤَدِّي فَرْضَهُ ؟ مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ مَرَّتَيْنِ هَذِهِ فِيهَا نِزَاعٌ مَشْهُورٌ وَفِيهَا ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ أَحْمَد : إحْدَاهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَهِيَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ . وَالثَّانِيَةُ : يَجُوزُ مُطْلَقًا وَهِيَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِهِ : كَالشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِيَةُ : يَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَصَلَاةِ الْخَوْفِ . قَالَ الشَّيْخُ : وَهُوَ اخْتِيَارُ جَدِّنَا أَبِي الْبَرَكَاتِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ صَلَاةَ الْخَوْفِ مَرَّتَيْنِ وَصَلَّى بِطَائِفَةِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَلَّى بِطَائِفَةِ أُخْرَى وَسَلَّمَ .
وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مُطْلَقًا احْتَجَّ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمَعْرُوفِ : { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْطَلِقُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ } . وَفِي رِوَايَةٍ : { فَكَانَتْ الْأُولَى فَرْضًا لَهُ وَالثَّانِيَةُ نَفْلًا . } وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ مُسْتَقِيمَةٌ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِلَفْظِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ . كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ } . وَ { بِأَنَّ الْإِمَامَ ضَامِنٌ } فَلَا تَكُونُ صَلَاتُهُ أَنْقَصَ مِنْ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ وَلَيْسَ فِي هَذَيْنِ مَا يَدْفَعُ تِلْكَ الْحُجَجَ . وَالِاخْتِلَافُ الْمُرَادُ بِهِ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَفْعَالِ كَمَا جَاءَ مُفَسَّرًا وَإِلَّا فَيَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا خَلْفَ مُفْتَرِضٍ . كَمَا هُوَ قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ . وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { يَكُونُ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ { صَلَّى بِمَسْجِدِ الْخَيْفِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا فَقَالَ : مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُصَلِّيَا مَعَنَا ؟ قَالَا : قَدْ صَلَّيْنَا فِي رِحَالِنَا فَقَالَ : إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمَّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيَا مَعَهُمْ فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ } . وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ { رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي وَحْدَهُ فَقَالَ : أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ } فَقَدْ ثَبَتَ صَلَاةُ الْمُتَنَفِّلِ خَلْفَ الْمُفْتَرَضِ . فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ وَثَبَتَ أَيْضًا بِالْعَكْسِ . فَعُلِمَ أَنَّ مُوَافَقَةَ الْإِمَامِ فِي نِيَّةِ الْفَرْضِ أَوْ
النَّفْلِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَالْإِمَامُ ضَامِنٌ . وَإِنْ كَانَ مُتَنَفِّلًا .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي قِيَامَ رَمَضَانَ يُصَلِّي خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُتِمُّ رَكْعَتَيْنِ فَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ جَوَازُ هَذَا كُلِّهِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِهِمْ ثَانِيًا إلَّا لِحَاجَةِ أَوْ مَصْلَحَةٍ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ غَيْرُهُ أَوْ هُوَ أَحَقُّ الْحَاضِرِينَ بِالْإِمَامَةِ ؛ لِكَوْنِهِ أَعْلَمَهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ كَانُوا مُسْتَوِينَ فِي الْعِلْمِ وَهُوَ أَسْبَقُهُمْ إلَى هِجْرَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ أَقْدَمُهُمْ سِنًّا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا } فَقُدِّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَضِيلَةِ فِي الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْعِلْمِ قُدِّمَ بِالسَّبْقِ إلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَقُدِّمَ السَّابِقُ بِاخْتِيَارِهِ وَهُوَ الْمُهَاجِرُ عَلَى مَنْ سَبَقَ بِخَلْقِ اللَّهِ لَهُ وَهُوَ الْكَبِيرُ السِّنِّ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ } فَمَنْ سَبَقَ إلَى هَجْرِ السَّيِّئَاتِ بِالتَّوْبَةِ مِنْهَا فَهُوَ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَيُقَدَّمُ فِي الْإِمَامَةِ فَإِذَا حَضَرَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ وَكَانَ قَدْ صَلَّى
فَرْضَهُ فَإِنَّهُ يَؤُمُّهُمْ كَمَا أَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَائِفَةِ بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَرَّتَيْنِ وَكَمَا كَانَ مُعَاذٌ يُصَلِّي ثُمَّ يَؤُمُّ قَوْمَهُ أَهْلَ قُبَاء لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ وَقَدْ ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يَأْتُوا عَلَى ذَلِكَ بِحُجَّةِ صَحِيحَةٍ وَمَا ثَبَتَ مِنْ الْأَحْكَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ دَعْوَى نَسْخِهِ بِأُمُورِ مُحْتَمِلَةٍ لِلنَّسْخِ وَعَدَمِ النَّسْخِ . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ قَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ إذَا صَلَّى عَلَيْهَا الرَّجُلُ إمَامًا ثُمَّ قُدِّمَ آخَرُونَ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ إذَا كَانَ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ وَلَهُ إذَا صَلَّى غَيْرُهُ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّةً ثَانِيَةً أَنْ يُعِيدَهَا مَعَهُمْ تَبَعًا كَمَا يُعِيدُ الْفَرِيضَةَ تَبَعًا مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدًا فِيهِ إمَامٌ رَاتِبٌ فَيُصَلِّي مَعَهُمْ فَإِنَّ هَذَا مَشْرُوعٌ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد بِلَا نِزَاعٍ وَكَذَلِكَ مَذْهَبُهُ فِيمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْجِنَازَةِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهَا بَعْدَ غَيْرِهِ وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ إذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ . هَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ وَمَالِكٍ لَا يُرَى الْإِعَادَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَاهَا إلَّا لِلْوَلِيِّ . وَأَمَّا إذَا صَلَّى هُوَ عَلَى الْجِنَازَةِ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا غَيْرُهُ : فَهَلْ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا مَعَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . قِيلَ :
لَا يُعِيدُهَا . قَالُوا : لِأَنَّ الثَّانِيَةَ نَفْلٌ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ لَا يُتَنَفَّلُ بِهَا . وَقِيلَ : بَلْ لَهُ أَنْ يُعِيدَهَا وَهُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ صَلَّى مَعَهُ مَنْ كَانَ صَلَّى عَلَيْهَا أَوَّلًا . وَإِعَادَةُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ مِنْ جِنْسِ إعَادَةِ الْفَرِيضَةِ فَتُشْرَعُ حَيْثُ شَرَعَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَعَلَى هَذَا : فَهَلْ يُؤَمُّ عَلَى الْجِنَازَةِ مَرَّتَيْنِ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ حَضَرَ جَمَاعَةً أُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ إمَامًا فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ " مَسْأَلَةُ اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ " فَإِنَّ الْإِمَامَ كَانَ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ فَإِذَا صَلَّى بِغَيْرِهِ إمَامًا : فَهَذَا جَائِزٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَفِيهَا قَوْلٌ ثَالِثٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ . فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِمَامُ هُوَ الْقَارِئَ وَهُوَ الْمُسْتَحِقَّ لِلْإِمَامَةِ دُونَهُمْ فَفِعْلُ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ حَسَنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ إمَامِ مَسْجِدَيْنِ . هَلْ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُرَتَّبَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ إمَامٌ رَاتِبٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يُرَتَّبَ إمَامٌ فِي مَسْجِدَيْنِ فَإِذَا صَلَّى إمَامًا فِي مَوْضِعَيْنِ فَفِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ لِمَنْ يُؤَدِّي فَرِيضَتَهُ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ . فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ . أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَسْقُطُ عَنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ الثَّانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يُصَلِّي الْفَرْضَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي نَفْلًا ؟ .
فَأَجَابَ :
يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ شَاكًّا فِي وُجُوبِهِ عَلَى طَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ . هَلْ يَأْتَمُّ بِهِ الْمُفْتَرِضُ ؟ .
فَأَجَابَ :
قِيَاسُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الشَّاكَّ يُؤَدِّيهَا بِنِيَّةِ الْوُجُوبِ إذًا كَمَا قُلْنَا فِي نِيَّةِ الْإِغْمَاءِ وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ . كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ شَكَّ فِي انْتِقَاضِ وُضُوئِهِ يَتَوَضَّأُ . وَكَذَلِكَ صُوَرُ الشَّكِّ فِي وُجُوبِ طَهَارَةٍ أَوْ صِيَامٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ نُسُكٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُهُ فَإِنَّ هَذِهِ خَرَجَ فِيهَا خِلَافٌ ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ نَفْلٌ لَكِنَّهَا فِي اعْتِقَادِهِ وَاجِبَةٌ وَالْمَشْكُوكُ فِيهَا هِيَ فِي قَصْدِهِ وَاجِبَةٌ وَالِاعْتِقَادُ مُتَرَدِّدٌ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ وَجَدَ جَمَاعَةً يُصَلُّونَ الظُّهْرَ . فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ مَعَهُمْ الصُّبْحَ فَلَمَّا قَامَ الْإِمَامُ لِلرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ فَارَقَهُ بِالسَّلَامِ فَهَلْ تَصِحُّ هَذِهِ الصَّلَاةُ ؟ وَعَلَى أَيِّ مَذْهَبٍ تَصِحُّ ؟ .
فَأَجَابَ :
هَذِهِ الصَّلَاةُ لَا تَصِحُّ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ . وَتَصِحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ وَجَدَ الصَّلَاةَ قَائِمَةً فَنَوَى الِائْتِمَامَ وَظَنَّ أَنَّ إمَامَهُ زَيْدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو . هَلْ يَضُرُّهُ ذَلِكَ ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ ظَنَّ الْإِمَامُ فِي الْمَأْمُومِ مِثْلَ ذَلِكَ ؟ .
فَأَجَابَ :
إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ إمَامِ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ كَائِنًا
مَنْ كَانَ وَظَنَّ أَنَّهُ زَيْدٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَمْرٌو صَحَّتْ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ أَبْيَضُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَسْوَدُ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ عَلَيْهِ كِسَاءً فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبَاءَةٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ خَطَأِ الظَّنِّ الَّذِي لَا يَقْدَحُ فِي الِائْتِمَامِ . وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ زَيْدٍ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ عَمْرٌو لَمْ يُصَلِّ خَلْفَهُ وَكَانَ عَمْرٌو فَهَذَا لَمْ يَأْتَمَّ بِهِ . وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ . وَهَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى بِلَا ائْتِمَامٍ ؟ أَوْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ ؟ فِيهِ نِزَاعٌ كَمَا لَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ بَاطِلَةً وَالْمَأْمُومُ لَا يَعْلَمُ . فَلَا يَضُرُّ الْمُؤْتَمَّ الْجَهْلُ بِعَيْنِ الْإِمَامِ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي يُصَلِّي بِتِلْكَ الْجَمَاعَةِ وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ لَمْ يَضُرَّهُ الْجَهْلُ بِعَيْنِ الْمَأْمُومِينَ بَلْ إذَا نَوَى الصَّلَاةَ بِمَنْ خَلْفَهُ جَازَ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ إذَا عُيِّنَ فَأَخْطَأَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ مُطْلَقًا . وَالصَّوَابُ : الْفَرْقُ بَيْنَ تَعْيِينِهِ بِالْقَصْدِ بِحَيْثُ يَكُونُ قَصْدُهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ إلَّا خَلْفَهُ وَبَيْنَ تَعْيِينِ الظَّنِّ بِحَيْثُ يَكُونُ قَصْدُهُ الصَّلَاةَ خَلْفَ الْإِمَامِ مُطْلَقًا . لَكِنْ ظَنَّ أَنَّهُ زَيْدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ مُنْفَرِدًا . هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ أَمْ لَا ؟ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَمْ لَا ؟ وَالْأَئِمَّةُ الْقَائِلُونَ بِهَذَا مِنْ غَيْرِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ كَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي قَدْ قَالَ عَنْهُمْ رَجُلٌ أَعْنِي عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْمَذْكُورِينَ هَؤُلَاءِ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِمْ فَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ مَا حُكْمُهُ ؟ وَهَلْ يَسُوغُ تَقْلِيدُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ لِمَنْ يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ ؟ كَمَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ خَلْفَ الصَّفِّ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَدِيثَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُصَلِّيَ خَلْفَ الصَّفِّ بِالْإِعَادَةِ وَقَالَ : { لَا صَلَاةَ لِفَذِّ خَلْفَ الصَّفِّ } وَقَدْ صَحَّحَ الْحَدِيثَيْنِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَأَسَانِيدُهُمَا مِمَّا تَقُومُ بِهِمَا الْحُجَّةُ ؛ بَلْ الْمُخَالِفُونَ لَهُمَا يَعْتَمِدُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ عَلَى مَا هُوَ أَضْعَفُ إسْنَادًا مِنْهُمَا وَلَيْسَ فِيهِمَا مَا يُخَالِفُ الْأُصُولَ بَلْ مَا فِيهِمَا هُوَ مُقْتَضَى النُّصُوصِ الْمَشْهُورَةِ وَالْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ فَإِنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ سُمِّيَتْ جَمَاعَةً
لِاجْتِمَاعِ الْمُصَلِّينَ فِي الْفِعْلِ مَكَانًا وَزَمَانًا فَإِذَا أَخَلُّوا بِالِاجْتِمَاعِ الْمَكَانِيِّ أَوْ الزَّمَانِيِّ مِثْلَ أَنْ يَتَقَدَّمُوا أَوْ بَعْضُهُمْ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ يَتَخَلَّفُوا عَنْهُ تَخَلُّفًا كَثِيرًا لِغَيْرِ عُذْرٍ كَانَ ذَلِكَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا مُفْتَرِقِينَ غَيْرَ مُنْتَظِمِينَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا خَلْفَ هَذَا وَهَذَا خَلْفَ هَذَا كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ الْمُنْكَرَةِ بَلْ قَدْ أُمِرُوا بِالِاصْطِفَافِ بَلْ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْوِيمِ الصُّفُوفِ وَتَعْدِيلِهَا وَتَرَاصِّ الصُّفُوفِ وَسَدِّ الْخَلَلِ وَسَدِّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ كُلُّ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيقِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الِاصْطِفَافُ وَاجِبًا لَجَازَ أَنْ يَقِفَ وَاحِدٌ خَلْفَ وَاحِدٍ وَهَلُمَّ جَرَّا . وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ عِلْمًا عَامًّا أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَجُوزُ لَفَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَوْ مَرَّةً بَلْ وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلُوا الصَّفَّ غَيْرَ مُنْتَظِمٍ : مِثْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ هَذَا عَلَى هَذَا وَيَتَأَخَّرَ هَذَا عَنْ هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ شَيْئًا قَدْ عُلِمَ نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ بَلْ إذَا صَلَّوْا قُدَّامَ الْإِمَامِ كَانَ أَحْسَنَ مِنْ مِثْلِ هَذَا . فَإِذَا كَانَ الْجُمْهُورُ لَا يُصَحِّحُونَ الصَّلَاةَ قُدَّامَ الْإِمَامِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَكَيْفَ تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِدُونِ الِاصْطِفَافِ . فَقِيَاسُ الْأُصُولِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الِاصْطِفَافِ وَأَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ لَا تَصِحُّ كَمَا جَاءَ بِهِ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ لَمْ تَبْلُغْهُ هَذِهِ السُّنَّةُ
مِنْ وَجْهٍ يَثِقُ بِهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ لَمْ يَسْمَعْهَا وَقَدْ يَكُونُ ظَنَّ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ . وَاَلَّذِينَ عَارَضُوهُ احْتَجُّوا بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمَرْأَةِ مُنْفَرِدَةً كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ أَنَسًا وَالْيَتِيمَ صُفَّا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصُفَّتْ الْعَجُوزُ خَلْفَهُمَا } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى صِحَّةِ وُقُوفِهَا مُنْفَرِدَةً إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجَمَاعَةِ امْرَأَةٌ غَيْرَهَا كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِوُقُوفِ الْإِمَامِ مُنْفَرِدًا . وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ لَمَّا رَكَعَ دُونَ الصَّفِّ ثُمَّ دَخَلَ فِي الصَّفِّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَادَك اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ } . وَهَذِهِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَا تُقَاوِمُ حُجَّةَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ وُقُوفَ الْمَرْأَةِ خَلْفَ صَفِّ الرِّجَالِ سُنَّةٌ مَأْمُورٌ بِهَا وَلَوْ وَقَفَتْ فِي صَفِّ الرِّجَالِ لَكَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا . وَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ يُحَاذِيهَا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . أَحَدُهُمَا تَبْطُلُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي حَفْصٍ . مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَالثَّانِي لَا تَبْطُلُ . كَقَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مَعَ تَنَازُعِهِمْ فِي الرَّجُلِ الْوَاقِفِ مَعَهَا : هَلْ يَكُونُ فَذًّا أَمْ لَا ؟ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد بُطْلَانُ صَلَاةِ مَنْ يَلِيهَا فِي الْمَوْقِفِ . وَأَمَّا وُقُوفُ الرَّجُلِ وَحْدَهُ خَلْفَ الصَّفِّ فَمَكْرُوهٌ وَتَرْكٌ لِلسُّنَّةِ بِاتِّفَاقِهِمْ فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمَنْهِيُّ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَكَذَلِكَ وُقُوفُ الْإِمَامِ أَمَامَ الصَّفِّ هُوَ السُّنَّةُ . فَكَيْفَ يُقَاسُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ إنَّمَا هُوَ قِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عَلَى الْمَنْصُوصِ أَمَّا قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى مَنْصُوصٍ يُخَالِفُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ كَقِيَاسِ الرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا . ( وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرْأَةَ وَقَفَتْ خَلْفَ الصَّفِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْ تُصَافُّهُ وَلَمْ يُمْكِنْهَا مُصَافَّةَ الرِّجَالِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَعَهَا فِي الصَّلَاةِ امْرَأَةٌ لَكَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تَقُومَ مَعَهَا وَكَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الرَّجُلِ الْمُنْفَرِدِ عَنْ صَفِّ الرِّجَالِ . وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَجِدَ الرَّجُلُ مَوْقِفًا إلَّا خَلْفَ الصَّفِّ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُبْطِلِينَ لِصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ وَإِلَّا ظَهَرَ صِحَّةُ صَلَاتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ جَمِيعَ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعَجْزِ . وَطَرْدُ هَذَا صِحَّةُ صَلَاةِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْإِمَامِ لِلْحَاجَةِ كَقَوْلِ طَائِفَةٍ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .
وَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَإِتْمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ فَكَذَلِكَ الِاصْطِفَافُ وَتَرْكُ التَّقَدُّمِ . وَطَرَدَ هَذَا بَقِيَّةَ مَسَائِلِ الصُّفُوفِ كَمَسْأَلَةِ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَرَ الْإِمَامَ وَلَا مَنْ وَرَاءَهُ مَعَ سَمَاعِهِ لِلتَّكْبِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَمَّا الْإِمَامُ فَإِنَّمَا قُدِّمَ لِيَرَاهُ الْمَأْمُومُونَ فَيَأْتَمُّونَ بِهِ وَهَذَا مُنْتَفٍ فِي الْمَأْمُومِ . وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ صَلَّى مُنْفَرِدًا خَلْفَ الصَّفِّ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ مِنْ الِاصْطِفَافِ الْمَأْمُورَ بِهِ مَا يَكُونُ بِهِ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقِفَ وَحْدَهُ ثُمَّ يَجِيءُ آخَرُ فَيُصَافُّهُ فِي الْقِيَامِ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ فِيهِ النَّهْيُ بِقَوْلِهِ : " وَلَا تَعُدْ " وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الرَّكْعَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْفَذِّ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَهَذَا مُبَيَّنٌ مُفَسَّرٌ وَذَلِكَ مُجْمَلٌ حَتَّى لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ بِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّفِّ بَعْدَ اعْتِدَالِ الْإِمَامِ كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ لَكَانَ سَائِغًا فِي مِثْلِ هَذَا دُونَ مَا أَمَرَ فِيهِ بِالْإِعَادَةِ فَهَذَا لَهُ وَجْهٌ وَهَذَا لَهُ وَجْهٌ . وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْجَاهِلِ كَقَوْلِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد فَلَا يَسُوغُ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ الْمُنْفَرِدَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالنَّهْيِ وَقَدْ أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ كَمَا أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ الْمُسِيءَ فِي صَلَاتِهِ بِالْإِعَادَةِ .
وَأَمَّا الْأَئِمَّةُ الْمَذْكُورُونَ : فَمِنْ سَادَاتِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَهُوَ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَجَلُّ مِنْ أَقْرَانِهِ : كَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ بْنِ حَيٍّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ (*) وَلَهُ مَذْهَبٌ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ بِأَرْضِ خُرَاسَانَ . وَالْأَوْزَاعِي إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَمَا زَالُوا عَلَى مَذْهَبِهِ إلَى الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ بَلْ أَهْلُ الْمَغْرِبِ كَانُوا عَلَى مَذْهَبِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ إلَيْهِمْ مَذْهَبُ مَالِكٍ . وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ : هُوَ شَيْخُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَعَ هَذَا فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ قَوْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَغَيْرِهِمَا وَمَذْهَبُهُ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَأَصْحَابِهِ وَمَذْهَبُهُمْ بَاقٍ إلَى الْيَوْمِ فَلَمْ يَجْمَعْ النَّاسُ الْيَوْمَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ ؛ بَلْ الْقَائِلُونَ بِهِ كَثِيرٌ فِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ . وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرْقٌ فِي الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بَيْنَ شَخْصٍ وَشَخْصٍ فَمَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيُّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةٌ فِي زَمَانِهِمْ وَتَقْلِيدُ كُلٍّ مِنْهُمْ كَتَقْلِيدِ الْآخَرِ لَا يَقُولُ مُسْلِمٌ إنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ هَذَا دُونَ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَقْلِيدِ أَحَدِ هَؤُلَاءِ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّمَا نَمْنَعُهُ لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَعْرِفُ مَذَاهِبَهُمْ وَتَقْلِيدُ الْمَيِّتِ فِيهِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ : هَؤُلَاءِ مَوْتَى وَمَنْ سَوَّغَهُ قَالَ : لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَحْيَاءِ مَنْ يَعْرِفُ قَوْلَ الْمَيِّتِ .