الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
قِيَاسٍ لَا قِيَاسٌ تَامٌّ ؛ اصْطِلَاحٌ مَحْضٌ لَا يَرْجِعُ إلَى مَعْنًى مَعْقُولٍ كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ اللَّازِمَةِ لِلْمَاهِيَّةِ وَالْوُجُودِ بِمِثْلِ هَذَا التَّحَكُّمِ . وَحِينَئِذٍ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَرْجِعُوا فِيمَا سَمَّوْهُ حَدًّا وَبُرْهَانًا إلَى حَقِيقَةٍ مَوْجُودَةٍ وَلَا أَمْرٍ مَعْقُولٍ بَلْ إلَى اصْطِلَاحٍ مُجَرَّدٍ كَتَنَازُعِ النَّاسِ فِي " الْعِلَّةِ " هَلْ هِيَ اسْمٌ لِمَا يَسْتَلْزِمُ الْمَعْلُولَ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا بِحَالِ فَلَا يَقْبَلُ النَّقِيضَ وَالتَّخْصِيصَ أَوْ هُوَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا لِلْمَعْلُولِ ؛ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الْمَعْلُولُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ وَكَاصْطِلَاحِ بَعْضِ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْجَدَلِ فِي تَسْمِيَةِ أَحَدِهِمْ " الدَّلِيلَ " لِمَا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمَدْلُولِ مُطْلَقًا حَتَّى يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ عَدَمُ الْمُعَارِضِ وَالْآخَرُ يُسَمِّي الدَّلِيلَ لِمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْمَدْلُولَ وَإِنَّمَا يَتَخَلَّفُ اسْتِلْزَامُهُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ .
وَتَنَازَعَ أَهْلُ الْجَدَلِ هَلْ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَتَعَرَّضَ فِي ذِكْرِ الدَّلِيلِ لِتَبْيِينِ الْمُعَارِضِ جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا حَيْثُ يُمْكِنُ التَّفْصِيلُ أَوْ لَا يَتَعَرَّضُ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا أَوْ يَتَعَرَّضُ لِتَبْيِينِهِ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا . وَهَذِهِ أُمُورٌ وَضْعِيَّةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَصْطَلِحُ عَلَيْهَا النَّاسُ لِلتَّعْبِيرِ عَمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ لَيْسَتْ حَقَائِقَ ثَابِتَةً فِي أَنْفُسِهَا لِأُمُورِ مَعْقُولَةٍ تَتَّفِقُ فِيهَا الْأُمَمُ كَمَا يَدَّعِيهِ هَؤُلَاءِ فِي مَنْطِقِهِمْ . بَلْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْعِلَّةَ وَالدَّلِيلَ يُرَادُ بِهِ هَذَا أَوْ هَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ مِنْ جَعْلِ هَؤُلَاءِ الدَّلِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ فَإِنَّ هَذَا تَخْصِيصٌ لِعَدَدِ دُونَ عَدَدٍ بِلَا مُوجِبٍ وَأُولَئِكَ
لَحَظُوا صِفَاتٍ ثَابِتَةً فِي الْعِلَّةِ وَالدَّلِيلِ . وَهُوَ وَصْفُ التَّمَامِ أَوْ مُجَرَّدُ الِاقْتِضَاءِ فَكَانَ مَا اعْتَبَرَهُ أُولَئِكَ أَوْلَى بِالْحَقِّ وَالْعَقْلِ مِمَّا اعْتَبَرَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَرْجِعُوا إلَّا إلَى مُجَرَّدِ التَّحَكُّمِ . وَلِهَذَا كَانَ الْعُقَلَاءُ الْعَارِفُونَ يَصِفُونَ مَنْطِقَهُمْ بِأَنَّهُ أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ وَضَعَهُ رَجُلٌ مِنْ الْيُونَانِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعُقَلَاءُ ؛ وَلَا طَلَبُ الْعُقَلَاءِ لِلْعِلْمِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ كَمَا لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى التَّعْبِيرِ بِلُغَاتِهِمْ مِثْلَ : فيلاسوفيا ؛ وسوفسطيقا وأنولوطيقا وأثولوجيا وقاطيغورياس وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ لُغَاتِهِمْ الَّتِي يُعَبِّرُونَ بِهَا عَنْ مَعَانِيهِمْ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ إنَّ سَائِرَ الْعُقَلَاءِ مُحْتَاجُونَ إلَى هَذِهِ اللُّغَةِ . لَا سِيَّمَا مَنْ كَرَّمَهُ اللَّهُ بِأَشْرَفِ اللُّغَاتِ الْجَامِعَةِ لِأَكْمَلِ مَرَاتِبِ الْبَيَانِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا تَتَصَوَّرُهُ الْأَذْهَانُ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَكْمَلِ تَعْرِيفٍ . وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ السيرافي فِي مُنَاظَرَتِهِ الْمَشْهُورَةِ " لمتى " الْفَيْلَسُوفِ ؛ لَمَّا أَخَذَ " متى " يَمْدَحُ الْمَنْطِقَ وَيَزْعُمُ احْتِيَاجَ الْعُقَلَاءِ إلَيْهِ . وَرَدَّ عَلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ بِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَأَنَّ الْحَاجَةَ إنَّمَا تَدْعُو إلَى تَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ فِطْرِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى اصْطِلَاحٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ اللُّغَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ مِنْ الْمَعَانِي فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّعَلُّمِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ تَعَلُّمُ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ عَلَيْهَا فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ بِخِلَافِ الْمَنْطِقِ .
وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : إنَّ تَعَلُّمَ الْمَنْطِقِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ؛ أَوْ إنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الِاجْتِهَادِ ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ بِالشَّرْعِ وَجَهْلِهِ بِفَائِدَةِ الْمَنْطِقِ . وَفَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . فَإِنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ عَرَفُوا مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَيُكْمِلُ عِلْمَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُعْرَفَ الْمَنْطِقُ الْيُونَانِيُّ . فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ لَا يُوثَقُ بِالْعِلْمِ إنْ لَمْ يُوزَنْ بِهِ أَوْ يُقَالُ إنَّ فِطَرَ بَنِي آدَمَ فِي الْغَالِبِ لَمْ تَسْتَقِمْ إلَّا بِهِ فَإِنْ قَالُوا : نَحْنُ لَا نَقُولُ إنَّ النَّاسَ يَحْتَاجُونَ إلَى اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّينَ بَلْ إلَى الْمَعَانِي الَّتِي تُوزَنُ بِهَا الْعُلُومُ . قِيلَ لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْمَعْلُومَاتِ ؛ وَالنَّاسُ يَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يَزِنُوا مَا جَهِلُوهُ بِمَا عَلِمُوهُ وَهَذَا مِنْ الْمَوَازِينِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ حَيْثُ قَالَ : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } وَقَالَ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ } . وَهَذَا مَوْجُودٌ عِنْدَ أُمَّتِنَا وَغَيْرِ أُمَّتِنَا ؛ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعْ قَطُّ بِمَنْطِقِ الْيُونَانِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْأُمَمَ غَيْرُ مُحْتَاجَةٍ إلَى الْمَعَانِي الْمَنْطِقِيَّةِ الَّتِي عَبَّرُوا عَنْهَا بِلِسَانِهِمْ ؛ وَهُوَ كَلَامُهُمْ فِي الْمَعْقُولَاتِ الثَّانِيَةِ ؛ فَإِنَّ " مَوْضُوعَ الْمَنْطِقِ " هُوَ الْمَعْقُولَاتُ مِنْ حَيْثُ يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى عِلْمِ مَا لَمْ يُعْلَمْ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ - الْمَعْقُولَاتِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ النِّسَبُ الثَّانِيَةُ لِلْمَاهِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مُطْلَقَةٌ عَرَضَ لَهَا إنْ كَانَتْ مُوصِلَةً إلَى تَحْصِيلِ مَا لَيْسَ بِحَاصِلِ أَوْ مُعِينَةً فِي ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهٍ جُزْئِيٍّ بَلْ عَلَى قَانُونٍ كُلِّيٍّ وَيَدَّعُونَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْطِقِ يَنْظُرُ فِي جِنْسِ الدَّلِيلِ ؛ كَمَا
أَنَّ صَاحِبَ أُصُولِ الْفِقْهِ يَنْظُرُ فِي الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَمَرْتَبَتِهِ فَيُمَيِّزُ مَا هُوَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ وَمَا لَيْسَ بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ . وَيَنْظُرُ فِي مَرَاتِبِ الْأَدِلَّةِ حَتَّى يُقَدِّمَ الرَّاجِحَ عَلَى الْمَرْجُوحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ ؛ وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْطِقِ يَنْظُرُ فِي الدَّلِيلِ الْمُطْلَقِ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ الشَّرْعِيِّ ؛ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ مَا هُوَ دَلِيلٌ وَمَا لَيْسَ بِدَلِيلِ ؛ وَيَدَّعُونَ أَنَّ نِسْبَةَ مَنْطِقِهِمْ إلَى الْمَعَانِي ؛ كَنِسْبَةِ الْعَرُوضِ إلَى الشِّعْرِ وَمَوَازِينِ الْأَمْوَالِ إلَى الْأَمْوَالِ ؛ وَمَوَازِينِ الْأَوْقَاتِ إلَى الْأَوْقَاتِ ؛ وَكَنِسْبَةِ الذِّرَاعِ إلَى الْمَذْرُوعَاتِ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُقَلَاءِ إنَّهُ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ مَنْطِقَهُمْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الدَّلِيلِ وَغَيْرِ الدَّلِيلِ ؛ لَا فِي صُورَةِ الدَّلِيلِ وَلَا فِي مَادَّتِهِ ؛ وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ تُوزَنَ بِهِ الْمَعَانِي ؛ بَلْ وَلَا يَصِحُّ وَزْنُ الْمَعَانِي بِهِ ؛ بَلْ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ أَكْذَبِ الدَّعَاوَى . وَالْكَلَامُ مَعَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَعَانِي الَّتِي وَضَعُوهَا فِي الْمَنْطِقِ وَزَعَمُوا أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ الْمَطْلُوبَةَ لَا تُنَالُ إلَّا بِهَا . وَالتَّصْدِيقَاتُ الْمَطْلُوبَةُ لَا تُنَالُ إلَّا بِهَا . فَذَكَرُوا لِمَنْطِقِهِمْ " أَرْبَعَ دَعَاوَى " : دَعْوَتَانِ سَالِبَتَانِ وَدَعْوَتَانِ مُوجَبَتَانِ . ادَّعَوْا أَنَّهُ لَا تُنَالُ التَّصَوُّرَاتُ بِغَيْرِ مَا ذَكَرُوهُ فِيهِ مِنْ الطَّرِيقِ وَأَنَّ التَّصْدِيقَاتِ لَا تُنَالُ بِغَيْرِ مَا ذَكَرُوهُ فِيهِ مِنْ الطَّرِيقِ وَهَاتَانِ الدَّعْوَتَانِ مِنْ أَظْهَرِ الدَّعَاوَى كَذِبًا وَادَّعَوْا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِهِ تَصَوُّرُ الْحَقَائِقِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مُتَصَوِّرَةً وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ . وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذِهِ الدَّعَاوَى الثَّلَاثَةِ وَسَيَأْتِي
الْكَلَامُ عَلَى دَعْوَاهُمْ الرَّابِعَةِ الَّتِي هِيَ أَمْثَلُ مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ بُرْهَانَهُمْ يُفِيدُ الْعِلْمَ التصديقي . وَإِنْ قَالُوا : إنَّ الْعِلْمَ التصديقي أَوْ التصوري أَيْضًا لَا يُنَالُ بِدُونِهِ . فَهُمْ ادَّعَوْا أَنَّ طُرُقَ الْعِلْمِ عَلَى عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مَسْدُودَةٌ إلَّا مِنْ الطَّرِيقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرُوهُمَا مِنْ الْحَدِّ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ . وَادَّعَوْا أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الطَّرِيقَتَيْنِ تُوصِلَانِ إلَى الْعُلُومِ الَّتِي يَنَالُهَا بَنُو آدَمَ بِعُقُولِهِمْ بِمَعْنَى أَنَّ مَا يُوصِلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَمَا ذَكَرُوهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ بِهَا تُوزَنُ الطُّرُقُ الْعِلْمِيَّةُ وَيُمَيَّزُ بِهَا بَيْنَ الطَّرِيقِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ . فَمُرَاعَاةُ هَذَا الْقَانُونِ تَعْصِمُ الذِّهْنَ أَنْ يَزِلَّ فِي الْفِكْرِ الَّذِي يُنَالُ بِهِ تَصَوُّرٌ أَوْ تَصْدِيقٌ . هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالُوهُ . وَكُلُّ هَذِهِ الدَّعَاوَى كَذِبٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ : فَلَا مَا نَفَوْهُ مِنْ طُرُقِ غَيْرِهِمْ كُلُّهَا بَاطِلٌ وَلَا مَا أَثْبَتُوهُ مِنْ طُرُقِهِمْ كُلِّهَا حَقٌّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَوْا فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي طُرُقِهِمْ مَا هُوَ حَقٌّ كَمَا أَنَّ فِي طُرُقِ غَيْرِهِمْ مَا هُوَ بَاطِلٌ فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ يُصَنِّفُ كَلَامًا إلَّا وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ مَا هُوَ حَقٌّ .
فَمَعَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ الْحَقِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجْمُوعِ مَا مَعَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا مَعَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ بَلْ وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ مِنْ الْعَرَبِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْحَقِّ أَكْثَرُ مِمَّا مَعَ
هَؤُلَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا مَعَهُمْ فِي مَجْمُوعِ فَلْسَفَتِهِمْ النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ لِلْأَخْلَاقِ وَالْمَنَازِلِ وَالْمَدَائِنِ . وَلِهَذَا كَانَ الْيُونَانُ مُشْرِكِينَ كُفَّارًا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ شَرًّا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ بِكَثِيرِ وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِدُخُولِ دِينِ الْمَسِيحِ إلَيْهِمْ فَحَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْهُدَى وَالتَّوْحِيدِ مَا اسْتَفَادُوهُ مِنْ دِينِ الْمَسِيحِ مَا دَامُوا مُتَمَسِّكِينَ بِشَرِيعَتِهِ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَكَانُوا مِنْ جِنْسِ أَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ . ثُمَّ لَمَّا غُيِّرَتْ مِلَّةُ الْمَسِيحِ صَارُوا فِي دِينٍ مُرَكَّبٍ مِنْ حَنِيفِيَّةٍ وَشِرْكٍ : بَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَسْلَافُهُمْ . وَكَلَامُنَا هُنَا فِي " بَيَانِ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ " الَّذِينَ يَبْنُونَ ضَلَالَهُمْ بِضَلَالِ غَيْرِهِمْ فَيَتَعَلَّقُونَ بِالْكَذِبِ فِي الْمَنْقُولَاتِ وَبِالْجَهْلِ فِي الْمَعْقُولَاتِ كَقَوْلِهِمْ : إنَّ أَرِسْطُو وَزِيرُ ذِي الْقَرْنَيْنِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَنَّهُ كَانَ وَزِيرَ الْإِسْكَنْدَرِ وَذُو الْقَرْنَيْنِ يُقَالُ لَهُ الْإِسْكَنْدَرُ . وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْإِسْكَنْدَرَ الَّذِي وُزِرَ لَهُ أَرِسْطُو هُوَ ابْنُ فَيَلْبَس الْمَقْدُونِيِّ . الَّذِي يُؤَرَّخُ لَهُ تَارِيخُ الرُّومِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ إنَّمَا ذَهَبَ إلَى أَرْضِ الْقُدْسِ لَمْ يَصِلْ إلَى السَّدِّ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ أَخْبَارَهُ وَكَانَ مُشْرِكًا يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ . وَكَذَلِكَ أَرِسْطُو وَقَوْمُهُ كَانُوا مُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَذُو الْقَرْنَيْنِ كَانَ مُوَحِّدًا مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَكَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى هَذَا وَمَنْ يُسَمِّيهِ الْإِسْكَنْدَرَ يَقُولُ : هُوَ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ دَارًا .
وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ إنَّمَا رَاجُو عَلَى أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ " كَالْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ " الَّذِينَ رَكَّبُوا مَذْهَبَهُمْ مِنْ فَلْسَفَةِ الْيُونَانِ وَدِينِ الْمَجُوس وَأَظْهَرُوا الرَّفْضَ وَكَجُهَّالِ الْمُتَصَوِّفَةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ وَإِنَّمَا ينفقون فِي دَوْلَةٍ جَاهِلِيَّةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ إمَّا كُفَّارًا وَإِمَّا مُنَافِقِينَ كَمَا نَفَّقَ مَنْ نَفَّقَ مِنْهُمْ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْمَلَاحِدَةِ . ثُمَّ نَفَّقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ التُّرْكُ . وَكَذَلِكَ إنَّمَا ينفقون دَائِمًا عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ .
وَكَلَامُنَا الْآنَ فِيمَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الدَّلِيلِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ وَقَدْ عُلِمَ ضَعْفُهُ . ثُمَّ إنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَاتٍ وَقَدْ تَكْفِي فِيهِ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ قَالُوا : إنَّهُ رُبَّمَا أُدْرِجَ فِي الْقِيَاسِ قَوْلٌ زَائِدٌ : أَيْ مُقَدِّمَةٌ ثَالِثَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لِغَرَضِ فَاسِدٍ أَوْ صَحِيحٍ كَبَيَانِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَيُسَمُّونَهُ الْمُرَكَّبَ . قَالُوا : وَمَضْمُونُهُ أَقْيِسَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ - سِيقَتْ لِبَيَانِ أَكْثَرَ مِنْ مَطْلُوبٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهَا - بِالذَّاتِ لَيْسَ إلَّا وَاحِدًا . قَالُوا : وَرُبَّمَا حُذِفَتْ إحْدَى الْمُقَدِّمَاتِ إمَّا لِلْعِلْمِ بِهَا أَوْ لِغَرَضِ فَاسِدٍ وَقَسَّمُوا الْمُرَكَّبَ إلَى مَفْصُولٍ وَمَوْصُولٍ . فَيُقَالُ هَذَا اعْتِرَافٌ مِنْكُمْ بِأَنَّ مِنْ الْمَطَالِبِ مَا يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَاتٍ وَمَا يَكْفِي فِيهِ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ . ثُمَّ قُلْتُمْ إنَّ ذَلِكَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَاتٍ هُوَ فِي مَعْنَى
أَقْيِسَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ . فَيُقَالُ لَكُمْ : إذَا ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ قِيَاسٌ وَاحِدٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ هُوَ فِي مَعْنَى أَقْيِسَةٍ كُلُّ قِيَاسٍ لِبَيَانِ مُقَدِّمَةٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ . فَقُولُوا إنَّ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هُوَ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ . وَإِنَّ مَا زَادَ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ . فَإِنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ . وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْمَعْقُولِ . فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتَ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْخَبَرِ لِلْمُبْتَدَأِ أَوْ الْمَحْمُولِ لِلْمَوْضُوعِ إلَّا بِوَسَطِ بَيْنَهُمَا هُوَ الدَّلِيلُ فَاَلَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ هُوَ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَقَدْ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ . وَأَمَّا دَعْوَى الْحَاجَةِ إلَى الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ الْمُقَدِّمَتَانِ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَطَالِبِ فَهُوَ كَدَعْوَى الِاحْتِيَاجِ فِي بَعْضِهَا إلَى ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ وَأَرْبَعٍ وَخَمْسٍ ؛ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَطَالِبِ وَلَيْسَ تَقْدِيرُ عَدَدٍ بِأَوْلَى مِنْ عَدَدٍ . وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ حَذْفِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِوُضُوحِهَا أَوْ لِتَغْلِيطِ يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَذْفِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ . وَمَنْ احْتَجَّ عَلَى مَسْأَلَةٍ بِمُقَدِّمَةٍ لَا تَكْفِي وَحْدَهَا لِبَيَانِ الْمَطْلُوبِ أَوْ مُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ لَا تَكْفِي . طُولِبَ بِالتَّمَامِ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ كِفَايَةٌ . وَإِذَا ذُكِرَتْ الْمُقَدِّمَاتُ مُنِعَ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ الْمَنْعَ وَعُورِضَ مِنْهَا مَا يَقْبَلُ الْمُعَارَضَةَ حَتَّى يَتِمَّ الِاسْتِدْلَالُ فَمَنْ طَلَبَ مِنْهُ الدَّلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِ شَرَابٍ خَاصٍّ قَالَ : هَذَا حَرَامٌ فَقِيلَ لَهُ لِمَ ؟ قَالَ : لِأَنَّهُ نَبِيذٌ مُسْكِرٌ فَهَذِهِ
الْمُقَدِّمَةُ كَافِيَةٌ إنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ إذَا سَلَّمَ لَهُ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ وَإِنْ مَنْعَهُ إيَّاهَا وَقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مُسْكِرٌ احْتَاجَ إلَى بَيَانِهَا بِخَبَرِ مَنْ يُوثَقُ بِخَبَرِهِ أَوْ بِالتَّجْرِبَةِ فِي نَظِيرِهَا وَهَذَا قِيَاسُ تَمْثِيلٍ . وَهُوَ مُفِيدٌ لِلْيَقِينِ فَإِنَّ الشَّرَابَ الْكَثِيرَ إذَا جَرَّبَ بَعْضَهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ عَلِمَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ مُسْكِرٌ لِأَنَّ حُكْمَ بَعْضِهِ مِثْلُ بَعْضِهِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْقَضَايَا التَّجْرِيبِيَّةِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْخُبْزَ يُشْبِعُ وَالْمَاءَ يَرْوِي وَأَمْثَالِ ذَلِكَ إنَّمَا مَبْنَاهَا عَلَى قِيَاسِ التَّمْثِيلِ : بَلْ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحِسِّيَّاتِ الَّتِي عَلِمَ أَنَّهَا كُلِّيَّةٌ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُنَازِعُهُ فِي أَنَّ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ حَرَامٌ . احْتَاجَ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ . إلَى إثْبَاتِ أَنَّ هَذَا مُسْكِرٌ وَإِلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ فَيُثْبِتُ الثَّانِيَةَ بِأَدِلَّةِ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَ { كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } . وَبِأَنَّهُ { سُئِلَ عَنْ شَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ وَشَرَابٍ يُصْنَعُ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ فَقَالَ : كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَهِيَ وَأَضْعَافُهَا مَعْرُوفَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ شَرَابٍ أَسْكَرَ . فَإِنْ قَالَ : أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ خَمْرٌ لَكِنْ لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ أَوْ لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ حَرَامٌ مُطْلَقًا أَثْبَتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ الثَّالِثَةَ وَهَلُمَّ جَرًّا . وَمَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ تَكْفِي فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ أَنَّ
الدَّلِيلَ هُوَ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ؛ وَلَمَّا كَانَ الْحَدُّ الْأَوَّلُ مُسْتَلْزِمًا لِلْأَوْسَطِ . وَالْأَوْسَطُ لِلثَّالِثِ ثَبَتَ أَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَلْزِمٌ لِلثَّالِثِ . فَإِنَّ مَلْزُومَ الْمَلْزُومِ مَلْزُومٌ وَلَازِمَ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ الدَّلِيلِ لَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ لُزُومُهُ إيَّاهُ إلَّا بِوَسَطِ بَيْنَهُمَا فَالْوَسَطُ مَا يُقْرَنُ بِقَوْلِك : لِأَنَّهُ . وَهَذَا مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ . وَابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ ؛ ذَكَرُوا الصِّفَاتِ اللَّازِمَةَ لِلْمَوْصُوفِ - وَأَنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ بَيِّنَ اللُّزُومِ . وَرَدُّوا بِذَلِكَ عَلَى مَنْ فَرَّقَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَاللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ بِأَنَّ اللَّازِمَ مَا افْتَقَرَ إلَى وَسَطٍ بِخِلَافِ الذَّاتِيِّ فَقَالُوا لَهُ كَثِيرٌ مِنْ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى وَسَطٍ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ اللُّزُومُ وَالْوَسَطُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ هُوَ الدَّلِيلُ .
وَأَمَّا مَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْوَسَطَ هُوَ مَا يَكُونُ مُتَوَسِّطًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ اللَّازِمِ الْقَرِيبِ وَاللَّازِمِ الْبَعِيدِ فَهَذَا خَطَأٌ . وَمَعَ هَذَا يَسْتَبِينُ حُصُولُ الْمُرَادِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَنَقُولُ إذَا كَانَتْ اللَّوَازِمُ مِنْهَا مَا لُزُومُهُ لِلْمَلْزُومِ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا فَهَذَا نَفْسُ تَصَوُّرِهِ وَتَصَوُّرُ الْمَلْزُومِ يَكْفِي فِي الْعِلْمِ بِثُبُوتِهِ لَهُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَسَطٌ فَذَلِكَ الْوَسَطُ إنْ كَانَ لُزُومُهُ لِلْمَلْزُومِ الْأَوَّلِ وَلُزُومُ الثَّانِي لَهُ بَيِّنًا لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى وَسَطٍ ثَانٍ . وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمَلْزُومَيْنِ غَيْرَ بَيِّنٍ بِنَفْسِهِ احْتَاجَ إلَى وَسَطٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بَيِّنًا ؛ احْتَاجَ إلَى وَسَطَيْنِ ؛ وَهَذَا الْوَسَطُ هُوَ حَدٌّ يَكْفِي فِيهِ مُقَدِّمَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا طَلَبَ الدَّلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِ النَّبِيذِ الْمُسْكِرِ ؛ فَقِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } أَوْ { كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } فَهَذَا الْأَوْسَطُ وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَفْتَقِرُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِ لُزُومُ تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ لَهُ إلَى وَسَطٍ وَلَا يَفْتَقِرُ لُزُومُ تَحْرِيمِ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِتَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ إلَى وَسَطٍ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَّمَ النَّبِيذَ الْمُسْكِرَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ وَكُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا حَرَّمَ شَيْئًا حُرِّمَ . وَلَوْ قَالَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَنَّهُ مُسْكِرٌ فَالْمُخَاطَبُ إنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ مُسْكِرٌ وَالْمُسْكِرُ مُحَرَّمٌ سَلِمَ لَهُ التَّحْرِيمُ وَلَكِنَّهُ غَافِلٌ عَنْ كَوْنِهِ مُسْكِرًا أَوْ جَاهِلٌ بِكَوْنِهِ مُسْكِرًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : لِأَنَّهُ خَمْرٌ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ خَمْرٌ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ وَإِذَا أَقَرَّ بَعْدَ إنْكَارِهِ فَقَدْ يَكُونُ جَاهِلًا فَعَلِمَ أَوْ غَافِلًا فَذَكَرَ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا كَانَ ذَاكِرًا لَهُ .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيُّونَ فِي الْعِلْمِ بِالْمُقَدِّمَتَيْن هَلْ هُوَ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِالنَّتِيجَةِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ التَّفَطُّنِ لِأَمْرِ ثَالِثٍ ؟ وَهَذَا الثَّانِي هُوَ قَوْلُ ابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ . قَالُوا : لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِأَنَّ الْبَغْلَةَ لَا تَلِدُ ثُمَّ يَغْفُلُ عَنْ ذَلِكَ . وَيَرَى بَغْلَةً مُنْتَفِخَةَ الْبَطْنِ . فَيَقُولُ : أَهَذِهِ حَامِلٌ أَمْ لَا ؟ فَيُقَالُ لَهُ : أَمَا تَعْلَمُ أَنَّهَا بَغْلَةٌ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى . وَيُقَالُ لَهُ : أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ الْبَغْلَةَ لَا تَلِدُ ؟ فَيَقُولُ : بَلَى . قَالَ فَحِينَئِذٍ يَتَفَطَّنُ لِكَوْنِهَا لَا تَلِدُ . وَنَازَعَهُ الرَّازِيَّ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا : هَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ انْدِرَاجَ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ تَحْتَ الْأُخْرَى إنْ كَانَ مُغَايِرًا للمقدمتين كَانَ ذَلِكَ مُقَدِّمَةً أُخْرَى لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْإِنْتَاجِ وَيَكُونُ الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّةِ الْتِئَامِهَا مَعَ الْأُولَيَيْنِ كَالْكَلَامِ فِي
كَيْفِيَّةِ الْتِئَامِ الْأُولَيَيْنِ وَيُفْضِي ذَلِكَ إلَى اعْتِبَارِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا مُغَايِرًا للمقدمتين ؛ اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الْإِنْتَاجِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُغَايِرٌ لِلْمَشْرُوطِ . وَهُنَا لَا مُغَايَرَةَ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا . وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَغْلَةِ فَذَلِكَ إنَّمَا يُمْكِنُ إذَا كَانَ الْحَاضِرُ فِي الذِّهْنِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَقَطْ إمَّا الصُّغْرَى وَإِمَّا الْكُبْرَى أَمَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الذِّهْنِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الشَّكُّ أَصْلًا فِي النَّتِيجَةِ . قُلْت : وَ " حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ لَزَمَهُمْ فِي ظَنِّهِمْ الْحَاجَةَ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لَا فِي الْإِنْتَاجِ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُغَايِرٌ لِلْمَشْرُوطِ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ مَا بِهِ يُعْلَمُ الْمَطْلُوبُ سَوَاءٌ كَانَ مُقَدِّمَةً أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَالْمَغْفُولُ عَنْهُ لَيْسَ بِمَعْلُومِ حَالَ الْغَفْلَةِ ؛ فَإِذَا تَذَكَّرَ صَارَ مَعْلُومًا بِالْفِعْلِ . وَهُنَا الدَّلِيلُ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الْبَغْلَةَ لَا تَلِدُ وَهَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ كَانَ ذَاهِلًا عَنْهَا فَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا الْعِلْمَ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الدَّلَالَةُ فَإِنَّ الْمَغْفُولَ عَنْهُ لَا يَدُلُّ حِينَمَا يَكُونُ مَغْفُولًا عَنْهُ بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ حَالَ كَوْنِهِ مَذْكُورًا . إذْ هُوَ بِذَلِكَ يَكُونُ مَعْلُومًا عِلْمًا حَاضِرًا . وَالرَّبُّ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ كَمَا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ السِّنَةِ وَالنَّوْمِ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَاقِضُ كَمَالَ الْحَيَاةِ والقيومية فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ لَا يَنَامُونَ كَمَا لَا يَمُوتُونَ . وَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ كَمَا يُلْهَمُ أَحَدُنَا النَّفَسَ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ وَجْهَ الدَّلِيلِ الْعِلْمُ بِلُزُومِ الْمَدْلُولِ لَهُ سَوَاءٌ سُمِّيَ اسْتِحْضَارًا أَوْ تَفَطُّنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ فَمَتَى اسْتَحْضَرَ فِي ذِهْنِهِ لُزُومَ الْمَدْلُولِ لَهُ ؛ عَلِمَ أَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ . وَهَذَا اللُّزُومُ إنْ كَانَ بَيِّنًا لَهُ . وَإِلَّا فَقَدَ يَحْتَاجُ فِي بَيَانِهِ إلَى مُقَدِّمَةٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ أَوْ أَكْثَرَ . وَالْأَوْسَاطُ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ النَّاسِ . فَلَيْسَ مَا كَانَ وَسَطًا مُسْتَلْزِمًا لِلْحُكْمِ فِي حَقِّ هَذَا . هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا فِي حَقِّ الْآخَرِ بَلْ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَسَطٌ آخَرُ فَالْوَسَطُ هُوَ الدَّلِيلُ وَهُوَ الْوَاسِطَةُ فِي الْعِلْمِ بَيْنَ اللَّازِمِ وَالْمَلْزُومِ وَهُمَا الْمَحْكُومُ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَازِمٌ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مَا دَامَ حُكْمًا لَهُ وَالْأَوَاسِطُ - الَّتِي هِيَ الْأَدِلَّةُ - مِمَّا يَتَنَوَّعُ وَيَتَعَدَّدُ بِحَسَبِ مَا يَفْتَحُهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ الْهِدَايَةِ كَمَا إذَا كَانَ الْوَسَطُ خَبَرًا صَادِقًا فَقَدْ يَكُونُ الْخَبَرُ لِهَذَا غَيْرَ الْخَبَرِ لِهَذَا . وَإِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ وَثَبَتَ عِنْدَ دَارِ السُّلْطَانِ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فَأَشَاعُوا ذَلِكَ فِي الْبَلَدِ فَكُلُّ قَوْمٍ يَحْصُلُ لَهُمْ الْعِلْمُ بِخَبَرِ مِنْ غَيْرِ الْمُخْبِرِينَ الَّذِينَ أَخْبَرُوا غَيْرَهُمْ . وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ الَّذِي بُلِّغَهُ النَّاسُ عَنْ الرَّسُولِ بُلِّغَ كُلُّ قَوْمٍ بِوَسَائِطَ غَيْرِ وَسَائِطِ غَيْرِهِمْ لَا سِيَّمَا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ . فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ مُقْرِئُونَ وَمُعَلِّمُونَ وَلِهَؤُلَاءِ مُقْرِئُونَ وَمُعَلِّمُونَ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَسَائِطُ وَهُمْ الْأَوْسَاطُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ وَفَعَلَهُ وَهُمْ الَّذِينَ دَلُّوهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَخْبَارِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ . وَكَذَلِكَ الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي تُنَالُ بِالْعَقْلِ أَوْ الْحِسِّ إذَا نَبَّهَ عَلَيْهَا مُنَبِّهٌ أَوْ أَرْشَدَ إلَيْهَا مُرْشِدٌ وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْوَسَطَ فِي اللَّوَازِمِ هُوَ الْوَسَطَ فِي نَفْسِ ثُبُوتِهَا
لِلْمَوْصُوفِ . فَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ ؛ فَالْوَسَطُ الذِّهْنِيُّ أَعَمُّ مِنْ الْخَارِجِيِّ كَمَا أَنَّ الدَّلِيلَ أَعَمُّ مِنْ الْعِلَّةِ ؛ فَكُلُّ عِلَّةٍ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى الْمَعْلُولِ ؛ وَلَيْسَ كُلُّ دَلِيلٍ يَكُونُ عِلَّةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مُتَوَسِّطًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَمْكَنَ جَعْلُهُ مُتَوَسِّطًا فِي الذِّهْنِ فَيَكُونُ دَلِيلًا وَلَا يَنْعَكِسُ لِأَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْمَدْلُولِ فَالْعِلَّةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِلْمَعْلُولِ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا ؛ وَالْوَسَطُ الَّذِي يَلْزَمُ الْمَلْزُومَ وَيَلْزَمُهُ اللَّازِمُ الْبَعِيدُ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ اللَّازِمِ فَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِمُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى غَيْرِهَا وَقَدْ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمُقَدِّمَاتِ فَيَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِنَّ فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْحَاجَةِ بِمُقَدِّمَتَيْنِ دُونَ مَا زَادَ وَمَا نَقَصَ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ وَلِهَذَا لَا تَجِدُ فِي سَائِرِ طَوَائِفِ الْعُقَلَاءِ وَمُصَنِّفِي الْعُلُومَ مَنْ يَلْتَزِمُ فِي اسْتِدْلَالِهِ الْبَيَانَ بِمُقَدِّمَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ وَلَا أَقَلَّ وَيَجْتَهِدُ فِي رَدِّ الزِّيَادَةِ إلَى اثْنَتَيْنِ . وَفِي تَكْمِيلِ النَّقْصِ بِجَعْلِهِ مُقَدِّمَتَيْنِ إلَّا أَهْلَ مَنْطِقِ الْيُونَانِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ ؛ دُونَ مَنْ كَانَ بَاقِيًا عَلَى فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ أَوْ سَلَكَ مَسْلَكَ غَيْرِهِمْ كَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ . وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَنُظَّارِهِمْ وَسَائِرِ طَوَائِفِ الْمِلَلِ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّحْوِ وَالطِّبِّ وَالْهَنْدَسَةِ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ إلَّا مَنْ اتَّبَعَ فِي ذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيِّينَ كَمَا قَلَّدُوهُمْ فِي الْحُدُودِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ ؛ وَمَا اسْتَفَادُوا بِمَا تَلَقَّوْهُ عَنْهُمْ عِلْمًا إلَّا عَمَّا يُسْتَغْنَى عَنْ بَاطِلِ كَلَامِهِمْ أَوْ مَا
يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ أَوْ التَّطْوِيلِ الْكَثِيرِ . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ تَارَةً يَقِفُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَتَارَةً عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَتَارَةً عَلَى مُقَدِّمَاتٍ ؛ كَانَتْ طَرِيقَةُ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَذْكُرُوا مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ؛ وَلَا يَلْتَزِمُونَ فِي كُلِّ اسْتِدْلَالٍ أَنْ يَذْكُرُوا مُقَدِّمَتَيْنِ ؛ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَسْلُكُ سَبِيلَ الْمَنْطِقِيِّينَ بَلْ كُتُبُ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ وَخُطَبَائِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ فِي نَظَرِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ ؛ وَمُنَاظَرَتِهِمْ لِغَيْرِهِمْ تَعْلِيمًا وَإِرْشَادًا وَمُجَادَلَةً عَلَى مَا ذَكَرْت ؛ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَصْنَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ إلَّا مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ . وَمَا زَالَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ يَعِيبُونَ طَرِيقَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ ؛ وَيُبَيِّنُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْعِيِّ وَاللُّكْنَةِ وَقُصُورِ الْعَقْلِ وَعَجْزِ النُّطْقِ ؛ وَيُبَيِّنُونَ أَنَّهَا إلَى إفْسَادِ الْمَنْطِقِ الْعَقْلِيِّ وَاللِّسَانِيِّ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى تَقْوِيمِ ذَلِكَ . وَلَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَسْلُكُوهَا فِي نَظَرِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ لَا مَعَ مَنْ يُوَالُونَهُ وَلَا مَعَ مَنْ يُعَادُونَهُ . وَإِنَّمَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا مِنْ زَمَنِ " أَبِي حَامِدٍ " . فَإِنَّهُ أَدْخَلَ مُقَدِّمَةً مِنْ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " الْمُسْتَصْفَى " وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا يَثِقُ بِعِلْمِهِ إلَّا مَنْ عَرَفَ هَذَا الْمَنْطِقَ . وَصَنَّفَ فِيهِ " مِعْيَارَ الْعِلْمِ " وَ " مَحَكَّ النَّظَرِ " ؛ وَصَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ " الْقِسْطَاسَ الْمُسْتَقِيمَ " ذَكَرَ فِيهِ خَمْسَ مَوَازِينَ : الثَّلَاثَ الْحَمْلِيَّاتِ ؛ وَالشَّرْطِيَّ الْمُتَّصِلَ وَالشَّرْطِيَّ الْمُنْفَصِلَ . وَغَيَّرَ عِبَارَاتِهَا إلَى أَمْثِلَةٍ أَخَذَهَا مِنْ كَلَامِ الْمُسْلِمِينَ
وَذَكَرَ أَنَّهُ خَاطَبَ بِذَلِكَ بَعْضَ أَهْلِ التَّعْلِيمِ وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي تَهَافُتِهِمْ وَبَيَّنَ كُفْرَهُمْ بِسَبَبِ مَسْأَلَةِ قِدَمِ الْعَالَمِ وَإِنْكَارِ الْعِلْمِ بِالْجُزْئِيَّاتِ وَإِنْكَارِ الْمُعَادِ ؛ وَبَيَّنَ فِي آخِرِ كُتُبِهِ ؛ أَنَّ طَرِيقَهُمْ فَاسِدَةٌ ؛ لَا تُوصِلُ إلَى يَقِينٍ ؛ وَذَمَّهَا أَكْثَرَ مِمَّا ذَمَّ طَرِيقَةَ الْمُتَكَلِّمِينَ . وَكَانَ أَوَّلًا يَذْكُرُ فِي كُتُبِهِ كَثِيرًا مِنْ كَلَامِهِمْ : إمَّا بِعِبَارَتِهِمْ ؛ وَإِمَّا بِعِبَارَةِ أُخْرَى ثُمَّ فِي آخِرِ أَمْرِهِ بَالَغَ فِي ذَمِّهِمْ ؛ وَبَيَّنَ أَنَّ طَرِيقَهُمْ مُتَضَمِّنَةٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ مَا يُوجِبُ ذَمَّهَا وَفَسَادَهَا أَعْظَمَ مِنْ طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ ؛ وَمَاتَ وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ . وَالْمَنْطِقُ الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِيهِ مَا يَقُولُ ؛ مَا حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ ؛ وَلَا أَزَالَ عَنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الشَّكِّ وَالْحِيرَةِ ؛ وَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْمَنْطِقُ شَيْئًا . وَلَكِنْ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ عُمُرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ يُدْخِلُونَ الْمَنْطِقَ الْيُونَانِيَّ فِي عُلُومِهِمْ حَتَّى صَارَ مَنْ يَسْلُكُ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَّا هَذَا وَإِنَّ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ هُوَ أَمْرٌ صَحِيحٌ مُسَلَّمٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَا زَالَ الْعُقَلَاءُ وَالْفُضَلَاءُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ يَعِيبُونَ ذَلِكَ وَيَطْعَنُونَ فِيهِ . وَقَدْ صَنَّفَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَجُمْهُورُ الْمُسْلِمِينَ يَعِيبُونَهُ عَيْبًا مُجْمَلًا لِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ آثَارِهِ وَلَوَازِمِهِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا فِي أَهْلِهِ مِمَّا يُنَاقِضُ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَيُفْضِي بِهِمْ الْحَالُ إلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ تَوَقُّفِ كُلِّ مَطْلُوبٍ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ لَا أَكْثَرَ
لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُمْ يُسَمُّونَ الْقِيَاسَ الَّذِي حُذِفَتْ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ قِيَاسَ الضَّمِيرِ وَيَقُولُونَ إنَّهَا قَدْ تُحْذَفُ إمَّا لِلْعِلْمِ بِهَا وَإِمَّا غَلَطًا أَوْ تَغْلِيطًا . فَيُقَالُ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً كَانَتْ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَعْلُومَةِ وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ إضْمَارُ مُقَدِّمَةٍ بِأَوْلَى مِنْ إضْمَارِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثٍ وَأَرْبَعٍ ؛ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَّا إلَى مُقَدِّمَةٍ أَنَّ الْأُخْرَى تُضْمَرُ مَحْذُوفَةً جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى ثِنْتَيْنِ أَنَّ الثَّالِثَةَ مَحْذُوفَةٌ وَكَذَلِكَ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثٍ وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا وَجَدَ الْأَمْرَ كَذَلِكَ وَلِهَذَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ أَهْلِ الْبَيَانِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْبَرَاهِينَ وَالْحُجَجَ الْيَقِينِيَّةَ بِأَبْيَنِ الْعِبَارَاتِ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ بَلْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَهُمْ كَانَ مِنْ الْمُضَيِّقِينَ فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ عُقُولًا وَأَلْسِنَةً وَمَعَانِيهِمْ مِنْ جِنْسِ أَلْفَاظِهِمْ تَجِدُ فِيهَا مِنْ الرِّكَّةِ وَالْعِيِّ مَا لَا يَرْضَاهُ عَاقِلٌ .
وَكَانَ يَعْقُوبُ بْنُ إسْحَاقَ الْكِنْدِيُّ فَيْلَسُوفَ الْإِسْلَامِ فِي وَقْتِهِ أَعْنِي الْفَيْلَسُوفَ الَّذِي فِي الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَلَيْسَ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالُوا : لِبَعْضِ أَعْيَانِ الْقُضَاةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِنَا : ابْنُ سِينَا مِنْ فَلَاسِفَةِ الْإِسْلَامِ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ لِلْإِسْلَامِ فَلَاسِفَةٌ . كَانَ يَعْقُوبُ يَقُولُ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ الْعَدَمُ فَقْدُ وُجُودِ كَذَا وَأَنْوَاعِ هَذِهِ الْإِضَافَاتِ . وَمَنْ وَجَدَ فِي بَعْضِ كَلَامِهِ فَصَاحَةً أَوْ بَلَاغَةً كَمَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ كَلَامِ ابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ . فَلِمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عُقُولِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَإِلَّا فَلَوْ مَشَى عَلَى طَرِيقَةِ سَلَفِهِ وَأَعْرَضَ عَمَّا تَعَلَّمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
لَكَانَ عَقْلُهُ وَلِسَانُهُ يُشْبِهُ عُقُولَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ وَهُمْ أَكْثَرُ مَا ينفقون عَلَى مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَا يَقُولُونَهُ وَيُعَظِّمُهُمْ بِالْجَهْلِ وَالْوَهْمِ أَوْ يَفْهَمُ بَعْضَ مَا يَقُولُونَهُ أَوْ أَكْثَرَهُ أَوْ كُلَّهُ مَعَ عَدَمِ تَصَوُّرِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِحَقِيقَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُعْرَفُ بِالْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَمَا قَالَهُ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ مُنَاقِضًا لِمَا قَالُوهُ . وَهُوَ إنَّمَا وَصَلَ إلَى مُنْتَهَى أَمْرِهِمْ بَعْدَ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ وَاقْتَرَنَ بِهَا حُسْنُ ظَنٍّ فَتَوَرَّطَ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . ثُمَّ إنْ تَدَارَكَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنْ الْفُضَلَاءِ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِهِمْ الظَّنَّ ابْتِدَاءً ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُمْ مِنْ ضَلَالِهِمْ مَا أَوْجَبَ رُجُوعَهُمْ عَنْهُمْ وَتَبَرُّؤَهُمْ مِنْهُمْ . بَلْ وَرَدَّهُمْ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا بَقِيَ مِنْ الضُّلَّالِ . وَضَلَالُهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ ظَاهِرٌ لِأَكْثَرِ النَّاسِ وَلِهَذَا كَفَّرَهُمْ فِيهَا نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ قَاطِبَةً . وَإِنَّمَا الْمَنْطِقُ الْتَبَسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى طَائِفَةٍ لَمْ يَتَصَوَّرُوا حَقَائِقَهُ وَلَوَازِمَهُ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَا قَالَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ فِي تَنَاقُضِهِمْ فِيهِ وَاتَّفَقَ أَنَّ فِيهِ أُمُورًا ظَاهِرَةً مِثْلَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّ مَا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِمْ فِيهِ بَلْ طَوَّلُوا فِيهِ الطَّرِيقَ وَسَلَكُوا الْوَعْرَ وَالضَّيِّقَ وَلَمْ يَهْتَدُوا فِيهِ إلَى مَا يُفِيدُ التَّحْقِيقَ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَانَ مَا أَخْطَئُوا فِي إثْبَاتِهِ بَلْ مَا أَخْطَئُوا فِي نَفْيِهِ حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِبُرْهَانِهِمْ وَهُوَ مِنْ الْقِيَاسِ .
وَجَعَلُوا أَصْنَافَ الْحُجَجِ " ثَلَاثَةً " : الْقِيَاسَ وَالِاسْتِقْرَاءَ وَالتَّمْثِيلَ وَزَعَمُوا أَنَّ التَّمْثِيلَ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ وَإِنَّمَا يُفِيدُ الْقِيَاسَ الَّذِي تَكُونُ مَادَّتُهُ
مِنْ الْقَضَايَا الَّتِي ذَكَرُوهَا . وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ : أَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسَ الشُّمُولِ مُتَلَازِمَانِ وَأَنَّ مَا حَصَلَ بِأَحَدِهِمَا عَنْ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ حَصَلَ بِالْآخَرِ مِثْلُهُ إذَا كَانَتْ الْمَادَّةُ وَاحِدَةً . وَالِاعْتِبَارُ بِمَادَّةِ الْعِلْمِ لَا بِصُورَةِ الْقَضِيَّةِ بَلْ إذَا كَانَتْ الْمَادَّةُ يَقِينِيَّةً سَوَاءٌ كَانَتْ صُورَتُهَا فِي صُورَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَوْ صُورَةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَسَوَاءٌ كَانَتْ صُورَةُ الْقِيَاسِ اقْتِرَانِيًّا أَوْ اسْتِثْنَائِيًّا - بِعِبَارَتِهِمْ أَوْ بِأَيِّ عِبَارَةٍ شِئْت لَا سِيَّمَا فِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ وَأَبْيَنُ فِي الْعَقْلِ وَأَوْجَزُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ - . وُجِدَ هَذَا فِي أَظْهَرِ الْأَمْثِلَةِ إذَا قُلْت : هَذَا إنْسَانٌ وَكُلُّ إنْسَانٍ مَخْلُوقٌ أَوْ حَيَوَانٌ أَوْ حَسَّاسٌ أَوْ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ أَوْ نَاطِقٌ أَوْ مَا شِئْت مِنْ لَوَازِمِ الْإِنْسَانِ فَإِنْ شِئْت صَوَّرْت الدَّلِيلَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنْ شِئْت قُلْت : هُوَ إنْسَانٌ فَهُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ حَسَّاسٌ أَوْ حَيَوَانٌ أَوْ مُتَحَرِّكٌ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِنْسَانِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِنْ شِئْت قُلْت هَذَا إنْسَانٌ والإنسانية مُسْتَلْزِمَةٌ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ فَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ وَإِنْ شِئْت قُلْت : إنْ كَانَ إنْسَانًا فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ لِلْإِنْسَانِ ؛ وَإِنْ شِئْت قُلْت : إمَّا أَنْ يَتَّصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَّصِفَ وَالثَّانِي بَاطِلٌ ؛ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَازِمَةٌ لِلْإِنْسَانِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِدُونِهَا . وَأَمَّا الِاسْتِقْرَاءُ فَإِنَّمَا يَكُونُ يَقِينِيًّا ؛ إذَا كَانَ اسْتِقْرَاءً تَامًّا . وَحِينَئِذٍ فَتَكُونُ قَدْ حَكَمْت عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بِمَا وَجَدْته فِي جَمِيعِ الْأَفْرَادِ وَهَذَا
لَيْسَ اسْتِدْلَالًا بِجُزْئِيٍّ عَلَى كُلِّيٍّ وَلَا بِخَاصِّ عَلَى عَامٍّ ؛ بَلْ اسْتِدْلَالٌ بِأَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّ وُجُودَ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا لِذَلِكَ الْكُلِّيِّ الْعَامِّ . فَقَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِخَاصِّ جُزْئِيٍّ عَلَى عَامٍّ كُلِّيٍّ لَيْسَ بِحَقِّ ؛ وَكَيْفَ ذَلِكَ . وَالدَّلِيلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَلْزُومًا لِلْمَدْلُولِ ؟ فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ وُجُودُ الدَّلِيلِ مَعَ عَدَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ الْمَدْلُولُ لَازِمًا لَهُ ؛ لَمْ يَكُنْ إذَا عَلِمْنَا ثُبُوتَ ذَلِكَ الدَّلِيلِ ؛ نَعْلَمُ ثُبُوتَ الْمَدْلُولِ مَعَهُ ؛ إذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مَعَهُ ؛ وَتَارَةً لَا يَكُونُ مَعَهُ ؛ فَإِنَّا إذَا عَلِمْنَا ذَلِكَ ؛ ثُمَّ قُلْنَا إنَّهُ مَعَهُ دَائِمًا كُنَّا قَدْ جَمَعْنَا بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . وَهَذَا اللُّزُومُ الَّذِي نَذْكُرُهُ هَهُنَا يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِأَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ اللُّزُومُ . وَكُلَّمَا كَانَ اللُّزُومُ أَقْوَى وَأَتَمَّ وَأَظْهَرَ ؛ كَانَتْ الدَّلَالَةُ أَقْوَى وَأَتَمَّ وَأَظْهَرَ : كَالْمَخْلُوقَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ مَا مِنْهَا مَخْلُوقٌ إلَّا وَهُوَ مَلْزُومٌ لِخَالِقِهِ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِدُونِ وُجُودِ خَالِقِهِ بَلْ وَلَا بِدُونِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكُلُّ مَخْلُوقٍ دَالٌّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ . وَإِذَا كَانَ الْمَدْلُولُ لَازِمًا لِلدَّلِيلِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّازِمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَلْزُومِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْهُ فَالدَّلِيلُ لَا يَكُونُ إلَّا أَعَمَّ مِنْهُ وَإِذَا قَالُوا فِي الْقِيَاسِ يُسْتَدَلُّ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ فَلَيْسَ الْجُزْئِيُّ هُوَ الْحُكْمَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْجُزْئِيُّ هُوَ الْمَوْصُوفُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِمَحَلِّ الْحُكْمِ فَهَذَا قَدْ يَكُونُ أَخَصَّ مِنْ الدَّلِيلِ وَقَدْ يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُ بِخِلَافِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ صِيغَةُ هَذَا وَحُكْمُهُ الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا أَعَمَّ مِنْ الدَّلِيلِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَدْلُولُ اللَّازِمُ لِلدَّلِيلِ وَالدَّلِيلُ هُوَ لَازِمٌ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ الْمَوْصُوفِ .
فَإِذَا قِيلَ : النَّبِيذُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ خَمْرٌ فَكَوْنُهُ خَمْرًا هُوَ الدَّلِيلُ وَهُوَ لَازِمٌ لِلنَّبِيذِ وَالتَّحْرِيمُ لَازِمٌ لِلْخَمْرِ وَالْقِيَاس الْمُؤَلَّفُ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ إذَا قُلْت كُلُّ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مُسْكِرٌ أَوْ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ فَأَنْتَ لَمْ تَسْتَدِلّ بِالْمُسْكِرِ أَوْ الْخَمْرِ الَّذِي هُوَ كُلِّيٌّ عَلَى نَفْسِ مَحَلِّ النِّزَاعِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنْ الْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ فَلَيْسَ هُوَ اسْتِدْلَالًا بِذَلِكَ الْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ بَلْ اسْتَدْلَلْت بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا النَّبِيذِ فَلَمَّا كَانَ تَحْرِيمُ هَذَا النَّبِيذِ مُنْدَرِجًا فِي تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ قَالَ : مَنْ قَالَ إنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِالْكُلِّيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْكُلِّيِّ فَقَدْ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ وَالتَّحْرِيمُ هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْخَمْرِ وَهُوَ ثَابِتٌ لَهَا فَهُوَ ثَابِتٌ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ بِكُلِّيٍّ عَلَى ثُبُوتِ كُلِّيٍّ آخَرَ لِجُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ . وَذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ كَالْجُزْئِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَلِكَ الْكُلِّيِّ وَهُوَ كُلِّيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ وَهَذَا مِمَّا مَا لَا يُنَازِعُونَ فِيهِ ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْأَصْغَرِ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ وَالْأَكْبَرُ أَعَمُّ مِنْهُ أَوْ مُسَاوٍ لَهُ ؛ وَالْأَكْبَرُ هُوَ الْحُكْمُ وَالصِّفَةُ وَالْخَبَرُ . وَهُوَ مَحْمُولُ النَّتِيجَةِ . وَالْأَصْغَرُ هُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْمَوْصُوفُ الْمُبْتَدَأُ . وَهُوَ مَوْضُوعُ النَّتِيجَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي التَّمْثِيلِ : إنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ . فَإِنْ أُطْلِقَ ذَلِكَ وَقِيلَ : إنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمُجَرَّدِ الْجُزْئِيِّ عَلَى الْجُزْئِيِّ . فَهَذَا غَلَطٌ . فَإِنَّ " قِيَاسَ التَّمْثِيلِ " إنَّمَا يَدُلُّ بِحَدِّ أَوْسَطَ : وَهُوَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ أَوْ دَلِيلِ الْحُكْمِ مَعَ الْعِلَّةِ . فَإِنَّهُ قِيَاسُ عِلَّةٍ أَوْ قِيَاسُ دَلَالَةٍ .
وَأَمَّا " قِيَاسُ الشَّبَهِ " : فَإِذَا قِيلَ بِهِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الْجَامِعَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلَّةُ أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلَّةَ وَمَا اسْتَلْزَمَهَا لَمْ يَكُنْ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ مُقْتَضِيًا لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ بَلْ كَانَ الْمُشْتَرِكُ قَدْ تَكُونُ مَعَهُ الْعِلَّةُ وَقَدْ لَا تَكُونُ . فَلَا نَعْلَمُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ بَلْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا إلَّا إذَا اشْتَرَكَا فِيهَا . وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الِاشْتِرَاكَ فِيهَا إلَّا إذَا عَلِمْنَا اشْتِرَاكَهُمَا فِيهَا أَوْ فِي مَلْزُومِهَا فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمَلْزُومِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ اللَّازِمِ فَإِذَا قَدَّرْنَا أَنَّهُمَا لَمْ يَشْتَرِكَا فِي الْمَلْزُومِ وَلَا فِيهَا كَانَ الْقِيَاسُ بَاطِلًا قَطْعًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ الْعِلَّةُ مُخْتَصَّةً بِالْأَصْلِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ لَمْ تُعْلَمْ صِحَّةُ الْقِيَاسِ وَقَدْ يَعْلَمُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ بِانْتِفَاءِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ عَيْنُ الْعِلَّةِ وَلَا دَلِيلُهَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ الْفَارِقِ اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْحُكْمِ وَإِذَا كَانَ قِيَاسُ التَّمْثِيلِ إنَّمَا يَكُونُ تَامًّا بِانْتِفَاءِ الْفَارِقِ . أَوْ بِإِبْدَاءِ جَامِعٍ وَهُوَ كُلِّيٌّ يَجْمَعُهُمَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ لُزُومَ الْحُكْمِ لِلْكُلِّيِّ وَلُزُومَ الْكُلِّيِّ لِجُزْئِيَّاتِهِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قِيَاسِ الشُّمُولِ . لَيْسَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِمُجَرَّدِ ثُبُوتِهِ لِجُزْئِيٍّ عَلَى ثُبُوتِهِ لِجُزْئِيٍّ آخَرَ . فَأَمَّا إذَا قِيلَ : بِمَ يُعْلَمُ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ ؟ قِيلَ : بِمَا تُعْلَمُ بِهِ الْقَضِيَّةُ الْكُبْرَى فِي الْقِيَاسِ فَبَيَانُ الْحَدِّ الْأَوْسَطِ هُوَ الْمُشْتَرَكُ الْجَامِعُ وَلُزُومُ الْحَدِّ الْأَكْبَرِ لَهُ هُوَ لُزُومُ الْحُكْمِ لِلْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِجُزْئِيٍّ عَلَى جُزْئِيٍّ إذَا كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَلْزُومَ
الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَإِنْ كَانَ اللُّزُومُ عَنْ الذَّاتِ كَانَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى الذَّاتِ وَإِنْ كَانَ فِي صِفَةٍ أَوْ حُكْمٍ كانت الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّفَةِ أَوْ الْحُكْمِ فَقَدْ تَبَيَّنَ مَا فِي حَصْرِهِمْ مِنْ الْخَلَلِ . وَأَمَّا تَقْسِيمُهُمْ إلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَكُلُّهَا تَعُودُ إلَى مَا ذَكَرَ فِي اسْتِلْزَامِ الدَّلِيلِ لِلْمَدْلُولِ . وَمَا ذَكَرُوهُ فِي " الِاقْتِرَانِيِّ " يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَةِ " الِاسْتِثْنَائِيِّ " . وَكَذَلِكَ " الِاسْتِثْنَائِيُّ " يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ بِصُورَةِ " الِاقْتِرَانِيِّ " فَيَعُودُ الْأَمْرُ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ مَادَّةُ الدَّلِيلِ وَالْمَادَّةُ لَا تُعْلَمُ مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَلْ مَنْ عَرَفَ الْمَادَّةَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لِهَذَا عَلِمَ الدَّلَالَةَ سَوَاءٌ صُوِّرَتْ بِصُورَةِ قِيَاسٍ أَوْ لَمْ تُصَوَّرْ وَسَوَاءٌ عُبِّرَ عَنْهَا بِعِبَارَاتِهِمْ أَوْ بِغَيْرِهَا . بَلْ الْعِبَارَاتُ الَّتِي صَقَلَتْهَا عُقُولُ الْمُسْلِمِينَ وَأَلْسِنَتُهُمْ خَيْرٌ مِنْ عِبَارَاتِهِمْ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ . وَ " الِاقْتِرَانِيُّ " كُلُّهُ يَعُودُ إلَى لُزُومِ هَذَا لِهَذَا وَهَذَا لِهَذَا كَمَا ذُكِرَ . وَهَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ " الِاسْتِثْنَائِيُّ " الْمُؤَلَّفُ مِنْ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْفَصِلِ ؛ فَإِنَّ الشَّرْطِيَّ الْمُتَّصِلَ اسْتِدْلَالٌ بِاللُّزُومِ بِثُبُوتِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ الْمُقَدَّمُ وَهُوَ الشَّرْطُ عَلَى ثُبُوتِ اللَّازِمِ الَّذِي هُوَ التَّالِي وَهُوَ الْجَزَاءُ أَوْ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ وَهُوَ التَّالِي الَّذِي هُوَ الْجَزَاءُ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ الَّذِي هُوَ الْمُقَدَّمُ وَهُوَ الشَّرْطُ . وَأَمَّا " الشَّرْطِيُّ الْمُنْفَصِلُ " وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْأُصُولِيُّونَ " السَّبْرَ
وَالتَّقْسِيمَ " وَقَدْ يُسَمِّيهِ أَيْضًا الْجَدَلِيُّونَ " التَّقْسِيمَ وَالتَّرْدِيدَ " فَمَضْمُونُهُ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ وَبِانْتِفَائِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ . وَ " أَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ " . وَلِهَذَا كَانَ فِي مَانِعَةِ الْجَمْعِ وَالْخُلُوِّ الِاسْتِثْنَاءَاتُ الْأَرْبَعَةُ وَهُوَ - أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ هَذَا انْتَفَى نَقِيضُهُ وَكَذَا الْآخَرُ وَإِنْ انْتَفَى هَذَا ثَبَتَ نَقِيضُهُ وَكَذَا الْآخَرُ - وَمَانِعَةُ الْجَمْعِ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ وَالْأَمْرَانِ مُتَنَافِيَانِ وَمَانِعَةُ الْخُلُوِّ فِيهَا تَنَاقُضٌ وَلُزُومٌ وَالنَّقِيضَانِ لَا يَرْتَفِعَانِ فَمَنَعَتْ الْخُلُوَّ مِنْهُمَا وَلَكِنَّ جَزَاءَهَا وُجُودُ شَيْءٍ وَعَدَمُ آخَرَ ؛ لَيْسَ هُوَ وُجُودَ الشَّيْءِ وَعَدَمَهُ وَوُجُودَ شَيْءٍ وَعَدَمَ آخَرَ قَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا لَازِمًا لِلْآخَرِ وَإِنْ كَانَا لَا يَرْتَفِعَانِ لِأَنَّ ارْتِفَاعَهُمَا يَقْتَضِي ارْتِفَاعَ وُجُودِ شَيْءٍ وَعَدَمِهِ مَعًا . وَبِالْجُمْلَةِ مَا مِنْ شَيْءٍ إلَّا وَلَهُ لَازِمٌ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ وَلَهُ مُنَافٍ مُضَادٌّ لِوُجُودِهِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِثُبُوتِ مَلْزُومِهِ وَعَلَى انْتِفَائِهِ بِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ وَيُسْتَدَلُّ عَلَى انْتِفَائِهِ بِوُجُودِ مُنَافِيهِ وَيُسْتَدَلُّ بِانْتِفَاءِ مُنَافِيهِ عَلَى وُجُودِهِ إذَا انْحَصَرَ الْأَمْرُ فِيهِمَا فَلَمْ يُمْكِنْ عَدَمُهُمَا جَمِيعًا كَمَا لَمْ يُمْكِنْ وُجُودُهُمَا جَمِيعًا . وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يَحْصُلُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الشَّيْءِ وَمَلْزُومِهَا وَلَازِمِهَا وَإِذَا تَصَوَّرَتْهُ الْفِطْرَةُ عَبَّرَتْ عَنْهُ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْعِبَارَاتِ وَصَوَّرَتْهُ فِي أَنْوَاعِ صُوَرِ الْأَدِلَّةِ لَا يَخْتَصُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي الْقِيَاسِ فَضْلًا عَمَّا سَمَّوْهُ الْبُرْهَانَ ؛ فَإِنَّ الْبُرْهَانَ شَرَطُوا لَهُ مَادَّةً مُعَيَّنَةً وَهِيَ الْقَضَايَا الَّتِي ذَكَرُوهَا وَأَخْرَجُوا مِنْ الْأَوَّلِيَّاتِ مَا سَمَّوْهُ وَهْمِيَّاتٍ وَمَا سَمَّوْهُ مَشْهُورَاتٍ وَحُكْمُ الْفِطْرَةِ بِهِمَا - لَا سِيَّمَا بِمَا سَمَّوْهُ وَهْمِيَّاتٍ - أَعْظَمُ مِنْ حُكْمِهَا بِكَثِيرِ مِنْ الْيَقِينِيَّاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا مَوَادَّ الْبُرْهَانِ .
وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ عَلَى هَذَا وَبَيَّنْت كَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ وَتَنَاقُضَهُمْ وَأَنَّ مَا أَخْرَجُوهُ يَخْرُجُ بِهِ مَا يَنَالُ بِهِ أَشْرَفَ الْعُلُومِ مِنْ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ وَلَا يَبْقَى بِأَيْدِيهِمْ إلَّا أُمُورٌ مُقَدَّرَةٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ . وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ لَا يَتَّسِعُ لِحِكَايَةِ أَلْفَاظِهِمْ فِي هَذَا وَمَا أَوْرَدْته عَلَيْهِمْ لَذَكَرْته فَقَدْ ذَكَرْت ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّهَا هِيَ الْمَطْلُوبَةُ .
وَالْكَلَامُ فِي " الْمَنْطِقِ " إنَّمَا وَقَعَ لَمَّا زَعَمُوا أَنَّهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَزَلَّ فِي فِكْرِهِ فَاحْتَجْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي هَذِهِ الْآلَةِ . هَلْ هِيَ كَمَا قَالُوا ؛ أَوْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؟ وَمِنْ شُيُوخِهِمْ مَنْ إذَا بُيِّنَ لَهُ مِنْ فَسَادِ أَقْوَالِهِمْ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ ضَلَالُهُمْ وَعَجَزَ عَنْ دَفْعِ ذَلِكَ يَقُولُ : هَذِهِ عُلُومٌ قَدْ صَقَلَتْهَا الْأَذْهَانُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ وَقَبِلَهَا الْفُضَلَاءُ . فَيُقَالُ لَهُ عَنْ هَذَا أَجْوِبَةٌ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . فَمَا زَالَ الْعُقَلَاءُ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ وَيُبَيِّنُونَ خَطَأَهُمْ وَضَلَالَهُمْ . فَأَمَّا الْقُدَمَاءُ فَالنِّزَاعُ بَيْنَهُمْ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ وَفِي كُتُبِ أَخْبَارِهِمْ وَمَقَالَاتِهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ . فَأَمَّا أَيَّامُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ كَلَامَ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَيَانِ فَسَادِ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ أُصُولِهِمْ الْمَنْطِقِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ بَلْ وَالطَّبِيعِيَّةِ وَالرِّيَاضِيَّةِ كَثِيرٌ قَدْ صَنَّفَ فِيهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى الرَّافِضَةِ
وَأَمَّا شَهَادَةُ سَائِرِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعُلَمَاءِ بِضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ فَهَذَا الْبَيَانُ عَامٌّ لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مُعَانِدٌ وَالْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا كَانَ أَعْيَانُ الْأَذْكِيَاءِ الْفُضَلَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ وَسَائِرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ مُعْلِنِينَ بِتَخْطِئَتِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ إمَّا جُمْلَةً وَإِمَّا تَفْصِيلًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْعُقَلَاءُ قَاطِبَةً تَلَقَّوْا كَلَامَهُمْ بِالْقَبُولِ . ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِحُجَّةِ فَإِنَّ الْفَلْسَفَةَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ أَرِسْطُو وَتَلَقَّاهَا مَنْ قَبْلَهُ بِالْقَبُولِ طَعَنَ أَرِسْطُو فِي كَثِيرٍ مِنْهَا وَبَيَّنَ خَطَأَهُمْ وَابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ خَالَفُوا الْقُدَمَاءَ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَبَيَّنُوا خَطَأَهُمْ وَرَدُّ الْفَلَاسِفَةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَكْثَرُ مِنْ رَدِّ كُلِّ طَائِفَةٍ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ . وَأَبُو الْبَرَكَاتِ وَأَمْثَالُهُ قَدْ رَدُّوا عَلَى أَرِسْطُو مَا شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا قَصَدْنَا الْحَقَّ لَيْسَ قَصْدُنَا التَّعَصُّبَ لِقَائِلِ مُعَيَّنٍ وَلَا لِقَوْلِ مُعَيَّنٍ . ( وَالثَّالِثُ ) : أَنَّ دِينَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ أَقْدَمُ مِنْ فَلْسَفَتِهِمْ وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ مِنْ الطَّوَائِفِ أَعْظَمُ مِمَّنْ دَخَلَ فِي فَلْسَفَتِهِمْ وَكَذَلِكَ دِينُ الْيَهُودِ الْمُبَدَّلُ أَقْدَمُ مِنْ فَلْسَفَةِ أَرِسْطُو وَدِينُ النَّصَارَى الْمُبَدَّلُ قَرِيبٌ مِنْ زَمَنِ أَرِسْطُو فَإِنَّ أَرِسْطُو كَانَ قَبْلَ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ فَإِنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ فَيَلْبَس الَّذِي يُؤَرَّخُ بِهِ تَارِيخُ الرُّومِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى .
( الرَّابِعُ ) : أَنْ يُقَالَ : فَهَبْ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ . فَهَذِهِ الْعُلُومُ عَقْلِيَّةٌ مَحْضَةٌ لَيْسَ فِيهَا تَقْلِيدٌ لِقَائِلِ وَإِنَّمَا تُعْلَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصَحَّحَ بِالنَّقْلِ ؛ بَلْ وَلَا يُتَكَلَّمَ فِيهَا إلَّا بِالْمَعْقُولِ الْمُجَرَّدِ فَإِذَا دَلَّ الْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ عَلَى بُطْلَانِ الْبَاطِلِ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ رَدُّهُ ؛ فَإِنَّ أَهْلَهَا لَمْ يَدَّعُوا أَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ عَنْ شَيْءٍ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ بَلْ عَنْ عَقْلٍ مَحْضٍ فَيَجِبُ التَّحَاكُمُ فِيهَا إلَى مُوجِبِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ .
فَصْلٌ :
وَقَدْ احْتَجُّوا بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دُونَ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ الشُّمُولِ وَأَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ دُونَ الِاسْتِقْرَاءِ فَقَالُوا : إنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ وَأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا بِخِلَافِ الِاسْتِقْرَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ يُفِيدُ الْيَقِينَ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا كُلِّيًّا . قَالُوا : وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ هُوَ الْحُكْمُ عَلَى كُلِّيٍّ بِمَا تَحَقَّقَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ فَإِنْ كَانَ فِي جَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ كَانَ الِاسْتِقْرَاءُ تَامًّا كَالْحُكْمِ عَلَى الْمُتَحَرِّكِ بِالْجِسْمِيَّةِ لِكَوْنِهَا مَحْكُومًا بِهَا عَلَى جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِ الْمُتَحَرِّكِ مِنْ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالنَّاقِصِ كَالْحُكْمِ عَلَى الْحَيَوَانِ بِأَنَّهُ إذَا أَكَلَ تَحَرَّكَ فَكُّهُ الْأَسْفَلُ عِنْدَ الْمَضْغِ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِ جُزْئِيَّاتِهِ . وَلَعَلَّهُ فِيمَا لَمْ يُسْتَقْرَأْ عَلَى خِلَافِهِ
كَالتِّمْسَاحِ وَالْأَوَّلُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْيَقِينِيَّاتِ بِخِلَافِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي الْجَدَلِيَّاتِ . وَأَمَّا " قِيَاسُ التَّمْثِيلِ " : فَهُوَ الْحُكْمُ عَلَى شَيْءٍ بِمَا حُكِمَ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا كَقَوْلِهِمْ : الْعَالَمُ مَوْجُودٌ فَكَانَ قَدِيمًا كَالْبَارِي . أَوْ هُوَ جِسْمٌ فَكَانَ مُحْدَثًا كَالْإِنْسَانِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فَرْعٍ وَأَصْلٍ وَعِلَّةٍ وَحُكْمٍ فَالْفَرْعُ مَا هُوَ مِثْلُ الْعَالَمِ فِي هَذَا الْمِثَالِ وَالْأَصْلُ مَا هُوَ مِثْلَ الْبَارِي أَوْ الْإِنْسَانِ وَالْعِلَّةِ الْمَوْجُودِ أَوْ الْجِسْمِ وَالْحُكْمِ الْقَدِيمِ أَوْ الْمُحْدَثِ . قَالُوا : وَيُفَارِقُ الِاسْتِقْرَاءَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ فِيهِ قَدْ يَكُونُ جُزْئِيًّا وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي الِاسْتِقْرَاءِ لَا يَكُونُ إلَّا كُلِّيًّا . قَالُوا : وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْيَقِينِ . فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اشْتِرَاكِ أَمْرَيْنِ فِيمَا يَعُمُّهُمَا اشْتِرَاكُهُمَا فِيمَا حُكِمَ بِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا ؛ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ وَكُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَظَنِّيٌّ فَإِنَّ الْمُسَاعِدَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْعَقْلِيَّاتِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ وَالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ . أَمَّا الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ : فَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرُ تَلَازُمِ الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاسْتِقْرَاءِ وَلَا سَبِيلَ إلَى دَعْوَاهُ فِي الْفَرْعِ إذْ هُوَ غَيْرُ
الْمَطْلُوبِ فَيَكُونُ الِاسْتِقْرَاءُ نَاقِصًا لَا سِيَّمَا وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مُرَكَّبَةً مِنْ أَوْصَافِ الْمُشْتَرَكِ وَمِنْ غَيْرِهَا وَيَكُونُ وُجُودُهَا فِي الْأَوْصَافِ مُتَحَقِّقًا فِيهَا فَإِذَا وُجِدَ الْمُشْتَرَكُ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِكَمَالِ عِلَّتِهِ وَعِنْدَ انْتِفَائِهِ فَيَنْتَفِي لِنُقْصَانِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْفَرْعِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِجَوَازِ تَخَلُّفِ بَاقِي الْأَوْصَافِ أَوْ بَعْضِهَا . وَأَمَّا " السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ " : فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى دَعْوَى حَصْرِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ فِي جُمْلَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَإِبْطَالِ كُلِّ مَا عَدَا الْمُسْتَبْقَى . وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ يَقِينِيٍّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ لِذَاتِ الْأَصْلِ لَا لِخَارِجِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ ؛ وَإِنْ ثَبَتَ لِخَارِجِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهَا أَبَدًا ؛ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَعَ الْبَحْثِ عَنْهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْعَادِيَاتِ فَإِنَّا لَا نَشُكُّ مَعَ سَلَامَةِ الْبَصَرِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ فِي عَدَمِ بَحْرِ زِئْبَقٍ وَجَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ بَيْنَ أَيْدِينَا ؛ وَنَحْنُ لَا نُشَاهِدُهُ ؛ وَإِنْ كَانَ مُنْحَصِرًا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِالْمَجْمُوعِ أَوْ بِالْبَعْضِ الَّذِي لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْفَرْعِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ مَعَ الْمُشْتَرَكِ فِي صُورَةٍ مَعَ تَخَلُّفِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ فِي الْأَصْلِ مِمَّا لَا يُوجِبُ اسْتِقْلَالَهُ بِالتَّعْلِيلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي تِلْكَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةِ أُخْرَى وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَا عِلَّةَ لَهُ سِوَاهُ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِخُصُوصِهِ لَا لِعُمُومِهِ وَإِنْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يَلْزَمُ لِعُمُومِ ذَاتِهِ الْحُكْمَ فَمَعَ بُعْدِهِ يُسْتَغْنَى عَنْ التَّمْثِيلِ .
قَالُوا : وَالْفِرَاسَةُ الْبَدَنِيَّةُ هِيَ عَيْنُ التَّمْثِيلِ غَيْرَ أَنَّ الْجَامِعَ فِيهَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ دَلِيلُ الْعِلَّةِ لَا نَفْسُهَا وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّهَا اسْتِدْلَالٌ بِمَعْلُولِ الْعِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِهَا ثُمَّ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِهَا عَلَى مَعْلُولِهَا الْآخَرِ . إذْ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ الْمِزَاجَ عِلَّةٌ لِخُلُقٍ بَاطِنٍ وَخُلُقٍ ظَاهِرٍ . فَيُسْتَدَلُّ بِالْخُلُقِ الظَّاهِرِ عَلَى الْمِزَاجِ ثُمَّ بِالْمِزَاجِ عَلَى الْخُلُقِ الْبَاطِنِ كَالِاسْتِدْلَالِ بِعَرْضِ الْأَعْلَى عَلَى الشَّجَاعَةِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِمَا مَعْلُولَيْ مِزَاجٍ وَاحِدٍ كَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَسَدِ ثُمَّ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الدَّوَرَانِ أَوْ التَّقْسِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمَيْنِ فِي الْأَصْلِ وَاحِدَةٌ فَلَا مَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا فِي الْفَرْعِ بِغَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ الْحُكْمُ الْآخَرُ . هَذَا كَلَامُهُمْ . فَيُقَالُ : تَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ قِيَاسِ الشُّمُولِ وَقِيَاسِ التَّمْثِيلِ ؛ بِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ يُفِيدُ الْيَقِينَ وَالثَّانِيَ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فَرْقٌ بَاطِلٌ . بَلْ حَيْثُ أَفَادَ أَحَدُهُمَا الْيَقِينَ أَفَادَ الْآخَرُ الْيَقِينَ . وَحَيْثُ لَا يُفِيدُ أَحَدُهُمَا إلَّا الظَّنَّ لَا يُفِيدُ الْآخَرُ إلَّا الظَّنَّ . فَإِنَّ إفَادَةَ الدَّلِيلِ لِلْيَقِينِ أَوْ الظَّنِّ لَيْسَ لِكَوْنِهِ عَلَى صُورَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ . بَلْ بِاعْتِبَارِ تَضَمُّنِ أَحَدِهِمَا لِمَا يُفِيدُ الْيَقِينَ . فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا اشْتَمَلَ عَلَى أَمْرٍ مُسْتَلْزِمٍ لِلْحُكْمِ يَقِينًا حَصَلَ بِهِ الْيَقِينُ . وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ إلَّا عَلَى مَا يُفِيدُ الْحُكْمُ ظَنًّا لَمْ يُفِدْ إلَّا الظَّنَّ . وَاَلَّذِي يُسَمَّى فِي أَحَدِهِمَا حَدًّا أَوْسَطَ : هُوَ فِي الْآخَرِ الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ وَالْقَضِيَّةُ الْكُبْرَى الْمُتَضَمِّنَةُ لُزُومَ الْحَدِّ الْأَكْبَرِ لِلْأَوْسَطِ : هُوَ بَيَانُ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ
الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ . فَمَا بِهِ يَتَبَيَّنُ صِدْقُ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى بِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَامِعَ الْمُشْتَرَكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ . فَلُزُومُ الْأَكْبَرِ لِلْأَوْسَطِ هُوَ لُزُومُ الْحُكْمِ لِلْمُشْتَرَكِ . فَإِذَا قُلْت : النَّبِيذُ حَرَامٌ قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ إنَّمَا حُرِّمَتْ لِكَوْنِهَا مُسْكِرَةً وَهَذَا الْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِي النَّبِيذِ ؛ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ . فَالنَّتِيجَةُ : قَوْلُك : النَّبِيذُ حَرَامٌ ؛ وَالنَّبِيذُ هُوَ مَوْضُوعُهَا وَهُوَ الْحَدُّ الْأَصْغَرُ ؛ وَالْحَرَامُ مَحْمُولُهَا وَهُوَ الْحَدُّ الْأَكْبَرُ ؛ وَالْمُسْكِرُ هُوَ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْمَوْضُوعِ وَالْمَحْمُولِ وَهُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ : الْمَحْمُولُ فِي الصُّغْرَى الْمَوْضُوعُ فِي الْكُبْرَى . فَإِذَا قُلْت : النَّبِيذُ حَرَامٌ قِيَاسًا عَلَى خَمْرِ الْعِنَبِ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْإِسْكَارُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْفَرْعِ فَثَبَتَ التَّحْرِيمُ لِوُجُودِ عِلَّتِهِ ؛ فَإِنَّمَا اسْتَدْلَلْت عَلَى تَحْرِيمِ النَّبِيذِ بِالسُّكْرِ وَهُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ لَكِنْ زِدْت فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ ذِكْرَ الْأَصْلِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْفَرْعُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ شُعُورَ النَّفْسِ بِنَظِيرِ الْفَرْعِ أَقْوَى فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ مُجَرَّدِ دُخُولِهِ فِي الْجَامِعِ الْكُلِّيِّ . وَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَأْثِيرِ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْأَصْلِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ . وَالْقِيَاسُ لَا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِبْدَاءِ الْجَامِعِ أَوْ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَ " الْجَامِعُ " إمَّا الْعِلَّةُ وَإِمَّا دَلِيلُهَا وَإِمَّا الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ فَهُنَا إلْغَاءُ الْفَارِقِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ .
فَإِذَا قِيلَ : هَذَا مُسَاوٍ لِهَذَا . وَمُسَاوِي الْمُسَاوِي مُسَاوٍ ؛ كَانَتْ الْمُسَاوَاةُ هِيَ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ ؛ وَإِلْغَاءُ الْفَارِقِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ . فَإِذَا قِيلَ : لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ إلَّا كَذَا وَهُوَ مُتَعَذَّرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك هَذَا مُسَاوٍ لِهَذَا . وَحُكْمُ الْمُسَاوِي حُكْمُ مُسَاوِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ فَظَنِّيٌّ . فَيُقَالُ : لَا نُسَلِّمُ . فَإِنَّ هَذِهِ دَعْوَى كُلِّيَّةٌ وَلَمْ تُقِيمُوا عَلَيْهَا دَلِيلًا . ثُمَّ نَقُولُ : الَّذِي يَدُلُّ بِهِ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكِ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ بِهِ عَلَى صِدْقِ الْقَضِيَّةِ الْكُبْرَى وَكُلُّ مَا يَدُلُّ بِهِ عَلَى صِدْقِ الْكُبْرَى فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ يَدُلُّ بِهِ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكِ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ سَوَاءٌ كَانَ عِلْمِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا . فَإِنَّ الْجَامِعَ الْمُشْتَرَكَ فِي التَّمْثِيلِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ وَلُزُومُ الْحُكْمِ لَهُ هُوَ لُزُومُ الْأَكْبَرِ لِلْأَوْسَطِ وَلُزُومُ الْأَوْسَطِ لِلْأَصْغَرِ هُوَ لُزُومُ الْجَامِعِ الْمُشْتَرَكِ لِلْأَصْغَرِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ . فَإِذَا كَانَ الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ . وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْجَامِعِ وَالْعِلَّةِ أَوْ دَلِيلِ الْعِلَّةِ أَوْ الْمَنَاطِ أَوْ مَا كَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْوَصْفُ ثَابِتًا فِي الْفَرْعِ لَازِمًا لَهُ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِصِدْقِ الْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى . وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا لِلْوَصْفِ لَازِمًا لَهُ ؛ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِصِدْقِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى . وَذِكْرُ الْأَصْلِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إثْبَاتِ
إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْأَصْلِ الْمُعَيَّنِ ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ هُوَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا وَتَمَاثُلُهُمَا وَهُوَ إلْغَاءُ الْفَارِقِ هُوَ الْحَدُّ الْأَوْسَطُ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ بِإِبْدَاءِ الْعِلَّةِ ؛ فَقَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْأَصْلِ إذَا كَانَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ وَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إثْبَاتُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ إلَيْهِ فَيُذْكَرُ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكِ ؛ وَهُوَ الْحَدُّ الْأَكْبَرُ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسِ الشُّمُولِ أَخَذُوا يُظْهِرُونَ كَوْنَ أَحَدِهِمَا ظَنِّيًّا فِي مَوَادَّ مُعَيَّنَةٍ وَتِلْكَ الْمَوَادُّ الَّتِي لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ لَا تُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ . وَإِلَّا فَإِذَا أَخَذُوهُ فِيمَا يُسْتَفَادُ بِهِ الْيَقِينُ مِنْ قِيَاسِ الشُّمُولِ ؛ أَفَادَ الْيَقِينَ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَيْضًا . وَكَانَ ظُهُورُ الْيَقِينِ بِهِ هُنَاكَ أَتَمَّ . فَإِذَا قِيلَ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ : كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ فَكُلُّ إنْسَانٍ جِسْمٌ ؛ كَانَ الْحَيَوَانُ هُوَ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ ، وَهُوَ الْمُشْتَرَكُ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ ؛ بِأَنْ يُقَالَ الْإِنْسَانُ جِسْمٌ قِيَاسًا عَلَى الْفَرَسِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ ؛ فَإِنَّ كَوْنَ تِلْكَ الْحَيَوَانَاتِ حَيَوَانًا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِكَوْنِهَا أَجْسَامًا . وَإِذَا نُوزِعَ فِي عِلِّيَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ ؛ فَقِيلَ لَهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَيَوَانِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ الْجِسْمِيَّةَ كَانَ هَذَا نِزَاعًا فِي قَوْلِهِ كُلُّ حَيَوَانٍ جِسْمٌ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ إذَا سُمِّيَ عِلَّةً ؛ فَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ ؛ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ ؛ أَوْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِذَلِكَ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي الْجَمِيعَ عِلَّةً ؛ لَا سِيَّمَا مَنْ يَقُولُ إنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْمُعَرَّفُ ؛ وَهُوَ الْأَمَارَةُ وَالْعَلَامَةُ وَالدَّلِيلُ ؛ لَا يُرَادُ بِهَا الْبَاعِثُ وَالدَّاعِي وَمَنْ قَالَ إنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهَا الدَّاعِي وَهُوَ الْبَاعِثُ فَإِنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي عِلَلِ الْأَفْعَالِ . وَأَمَّا غَيْرُ الْأَفْعَالِ فَقَدْ تُفَسَّرُ الْعِلَّةُ فِيهَا بِالْوَصْفِ الْمُسْتَلْزِمِ كَاسْتِلْزَامِ الْإِنْسَانِيَّةِ لِلْحَيَوَانِيَّةِ والْحَيَوَانِيَّةِ لِلْجِسْمِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ هُوَ الْمُؤَثِّرَ فِي الْآخَرِ عَلَى أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ أَنَّ مَا بِهِ يُعْلَمُ كَوْنُ الْحَيَوَانِ جِسْمًا ؛ يُعْلَمُ أَنَّ الْإِنْسَانَ جِسْمٌ حَيْثُ بَيَّنَّا أَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ أَوْ عَدِيمُهَا ؛ وَأَنَّ مَا بِهِ يُعْلَمُ صِدْقُ الْكُبْرَى فِي الْعَقْلِيَّاتِ ؛ يُعْلَمُ صِدْقُ أَفْرَادِهَا الَّتِي مِنْهَا الصُّغْرَى . بَلْ وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ صِدْقُ النَّتِيجَةِ . ثُمَّ قَالَ : وَتَنَاقُضُهُمْ وَفَسَادُ قَوْلِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ عَلَى " الْمَنْطِقِ " . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْبُرْهَانِ . وَأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ قِيَاسَ الشُّمُولِ . وَيَسْتَخِفُّونَ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ . وَأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَاكَ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . بَلْ هُمَا فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ . وَقِيَاسُ التَّمْثِيلِ الصَّحِيحِ أَوْلَى بِإِفَادَةِ الْمَطْلُوبِ عِلْمًا كَانَ أَوْ ظَنًّا مِنْ مُجَرَّدِ قِيَاسِ الشُّمُولِ وَلِهَذَا كَانَ سَائِرُ الْعُقَلَاءِ يَسْتَدِلُّونَ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَدِلُّونَ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ بَلْ لَا يَصِحُّ قِيَاسُ الشُّمُولِ فِي الْأَمْرِ الْعَامِّ إلَّا بِتَوَسُّطِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَكُلُّ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَإِنَّهُ يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ فِي تِلْكَ
الصُّورَةِ وَمَثَّلْنَا هَذَا بِقَوْلِهِمْ الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ ؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَشْهَرِ أَقْوَالِهِمْ الْفَاسِدَةِ الْإِلَهِيَّةِ . وَأَمَّا الْأَقْوَالُ الصَّحِيحَةُ فَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ فِيهَا : فَإِنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ فَلَا نِتَاجَ عَنْ سَالِبَتَيْنِ وَلَا عَنْ جُزْئِيَّتَيْنِ بِاتِّفَاقِهِمْ . وَالْكُلِّيُّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ فَإِذَا عُرِفَ تَحَقُّقُ بَعْضِ أَفْرَادِهِ فِي الْخَارِجِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُعِينُ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ كُلِّيًّا مُوجِبًا فَإِنَّهُ إذَا أَحَسَّ الْإِنْسَانُ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ الْخَارِجِيَّةِ انْتَزَعَ مِنْهُ وَصْفًا كُلِّيًّا لَا سِيَّمَا إذَا كَثُرَتْ أَفْرَادُهُ وَالْعِلْمُ بِثُبُوتِ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ لِأَصْلِ فِي الْخَارِجِ هُوَ أَصْلُ الْعِلْمِ بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ . وَحِينَئِذٍ فَالْقِيَاسُ التَّمْثِيلِيُّ أَصْلٌ لِلْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ . إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي حُصُولِهِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ وَحْدُهُ أَقْوَى مِنْهُ . وَهَؤُلَاءِ يُمَثِّلُونَ الْكُلِّيَّاتِ بِمِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ : الْكُلُّ أَعْظَمُ مِنْ الْجُزْءِ وَالنَّقِيضَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمَا مِنْ كُلِّيٍّ مِنْ هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ إلَّا وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَفْرَادِهِ الْخَارِجَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَإِذَا أُرِيدَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ فِي النَّفْسِ ضُرِبَ لَهَا الْمَثَلُ بِفَرْدِ مِنْ أَفْرَادِهَا وَبَيْنَ انْتِفَاءِ الْفَارِقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَوْ ثُبُوتِ الْجَامِعِ . وَحِينَئِذٍ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ الْكُلِّيِّ . وَهَذَا حَقِيقَةُ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ .
وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّمْثِيلِ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعِلْمِ بِمُعَيَّنِ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إذَا عَلِمَ الْكُلِّيَّ مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِ بَعْضِ أَفْرَادِهِ فِي الْخَارِجِ كَانَ أَنْقَصَ مِنْ أَنْ يَعْلَمَهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعَيَّنِ مَا زَادَهُ إلَّا كَمَالًا ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَا نَفَوْهُ مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ أَكْمَلُ مِمَّا أَثْبَتُوهُ . وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ فِي " الْمَنْطِقِ الْإِلَهِيِّ " بَلْ وَ " الطَّبِيعِيِّ " غَيَّرُوا بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ أَرِسْطُو لَكِنْ مَا زَادُوهُ فِي الْإِلَهِيِّ هُوَ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِ أَرِسْطُو فَإِنِّي قَدْ رَأَيْت الْكَلَامَيْنِ . وَأَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ أَجْهَلُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِكَثِيرِ كَثِيرٍ . وَأَمَّا فِي الطَّبِيعِيَّاتِ فَغَالِبُ كَلَامِهِ جَيِّدٌ . وَأَمَّا الْمَنْطِقُ فَكَلَامُهُ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي الْإِلَهِيِّ . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَضْعِيفِ " قِيَاسِ التَّمْثِيلِ " إنَّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ مُتَأَخِّرِيهِمْ لَمَّا رَأَوْا اسْتِعْمَالَ الْفُقَهَاءِ لَهُ غَالِبًا وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَهُ كَثِيرًا فِي الْمَوَادِّ الظَّنِّيَّةِ وَهُنَاكَ الظَّنُّ حَصَلَ مِنْ الْمَادَّةِ لَا مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ فَلَوْ صَوَّرُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ لَمْ يُفِدْ أَيْضًا إلَّا الظَّنَّ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ ظَنُّوا أَنَّ الضَّعْفَ مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ فَجَعَلُوا صُورَةَ قِيَاسِهِمْ يَقِينِيًّا وَصُورَةَ قِيَاسِ الْفُقَهَاءِ ظَنِّيًّا وَمَثَّلُوهُ بِأَمْثِلَةِ كَلَامِيَّةٍ لِيُقَرِّرُوا أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ يَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِالْأَقْيِسَةِ الظَّنِّيَّةِ كَمَا مَثَّلُوهُ مِنْ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ : بِأَنَّ الْفَلَكَ جِسْمٌ مُؤَلَّفٌ فَكَانَ مُحْدَثًا قِيَاسًا عَلَى الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُوَلَّدَاتِ ثُمَّ أَخَذُوا يُضَعِّفُونَ هَذَا الْقِيَاسَ . لَكِنْ إنَّمَا
ضَعَّفُوهُ بِضَعْفِ مَادَّتِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْجَهْمِيَّة وَالْقَدَرِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ أَدِلَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَجْلِ مَادَّتِهَا لَا لِكَوْنِ صُورَتِهَا ظَنِّيَّةً . وَلِهَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصَوِّرُوهَا بِصُورَةِ التَّمْثِيلِ أَوْ الشُّمُولِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا ( الْمَقَامُ الرَّابِعُ ) : وَهُوَ قَوْلُهُمْ : إنَّ الْقِيَاسَ أَوْ الْبُرْهَانَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالتَّصْدِيقَاتِ فَهُوَ أَدَقُّ الْمَقَامَاتِ . [ وَذَلِكَ أَنَّ خَطَأَ الْمَنْطِقِيِّينَ فِي الْمَقَامَاتِ الثَّلَاثَةِ : وَهِيَ مَنْعُ إمْكَانِ التَّصَوُّرِ إلَّا بِالْحَدِّ وَحُصُولُ التَّصَوُّرِ بِالْحَدِّ وَمَنْعُ حُصُولِ التَّصْدِيقِ بِالْحَدِّ وَمَنْعُ حُصُولِ التَّصْدِيقِ بِالْقِيَاسِ وَاضِحٌ بِأَدْنَى تَدَبُّرٍ ومدركه قَرِيبٌ وَالْعِلْمُ بِهِ ظَاهِرٌ ] (*) . وَإِنَّمَا يُلَبِّسُونَ عَلَى النَّاسِ بِالتَّهْوِيلِ وَالتَّطْوِيلِ وَأَظْهَرُهَا خَطَأً دَعْوَاهُمْ أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ الْمَطْلُوبَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَدِّ وَيَلِيهِ قَوْلُهُمْ إنَّ شَيْئًا مِنْ التَّصْدِيقَاتِ الْمَطْلُوبَةِ لَا تُنَالُ إلَّا بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ فَإِنَّ هَذَا النَّفْيَ الْعَامَّ أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إلَى الْعِلْمِ بِهِ وَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَصْلًا مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ الْمَطْلُوبَةِ بِدُونِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْقِيَاسِ كَمَا تَحْصُلُ تَصَوُّرَاتٌ مَطْلُوبَةٌ بِدُونِ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْحَدِّ بِخِلَافِ هَذَا الْمَقَامِ
الرَّابِعِ " فَإِنَّ كَوْنَ الْقِيَاسِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُفِيدُ النَّتِيجَةَ هُوَ أَمْرٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ . لَكِنَّ الَّذِي بَيَّنَهُ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى هَذَا الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ الْمَنْسُوبِ إلَى أَرِسْطُو : أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُوَرِ الْقِيَاسِ وَمَوَادِّهِ مَعَ كَثْرَةِ التَّعَبِ الْعَظِيمِ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ عِلْمِيَّةٌ . بَلْ كُلُّ مَا يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِقِيَاسِهِمْ يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِدُونِ قِيَاسِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ فِي قِيَاسِهِمْ مَا يُحَصِّلُ الْعِلْمَ بِالْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ بِدُونِهِ وَلَا حَاجَةَ إلَى مَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِدُونِهِ . فَصَارَ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ فِي الْعِلْمِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَفِيهِ تَطْوِيلٌ كَثِيرٌ مُتْعِبٌ فَهُوَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي الْعِلْمِ فِيهِ إتْعَابُ الْأَذْهَانِ وَتَضْيِيعُ الزَّمَانِ وَكَثْرَةُ الْهَذَيَانِ وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْبَرَاهِينِ بَيَانُ الْعِلْمِ وَبَيَانُ الطُّرُقِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْعِلْمِ . قَالُوا : وَهَذَا لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْمَطْلُوبَ بَلْ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُعَوِّقَةِ لَهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ تَعَبِ الذِّهْنِ كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ لِيَذْهَبَ إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ فَإِذَا سَلَكَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ الْمَعْرُوفَ وَصَلَ فِي مُدَّةٍ قَرِيبَةٍ بِسَعْيٍ مُعْتَدِلٍ فَإِذَا قُيِّضَ لَهُ مَنْ يَسْلُكُ بِهِ التَّعَاسِيفَ : - وَالْعَسْفُ فِي اللُّغَةِ الْأَخْذُ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ بِحَيْثُ يَدُورُ بِهِ طُرُقًا دَائِرَةً وَيَسْلُكُ بِهِ مَسَالِكَ مُنْحَرِفَةً - فَإِنَّهُ يَتْعَبُ تَعَبًا كَثِيرًا حَتَّى يَصِلَ إلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ إنْ وَصَلَ وَإِلَّا فَقَدْ يَصِلُ إلَى غَيْرِ الْمَطْلُوبِ . فَيَعْتَقِدُ اعْتِقَادَاتٍ فَاسِدَةً وَقَدْ يَعْجِزُ بِسَبَبِ
مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ فَلَا هُوَ نَالَ مَطْلُوبَهُ وَلَا هُوَ اسْتَرَاحَ هَذَا إذَا بَقِيَ فِي الْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَهَكَذَا هَؤُلَاءِ . وَلِهَذَا حَكَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا عِنْدَ مَوْتِ إمَامِ الْمَنْطِقِيِّينَ فِي زَمَانِهِ الخونجي أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ : أَمُوتُ وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا إلَّا عِلْمِي بِأَنَّ الْمُمْكِنَ يَفْتَقِرُ إلَى الْوَاجِبِ . ثُمَّ قَالَ : الِافْتِقَارُ وَصْفٌ سَلْبِيٌّ أَمُوتُ وَمَا عَلِمْت شَيْئًا . فَهَذَا حَالُهُمْ إذَا كَانَ مُنْتَهَى أَحَدِهِمْ الْجَهْلَ الْبَسِيطَ . وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُنْتَهَاهُ الْجَهْلَ الْمُرَكَّبَ فَكَثِيرٌ . وَالْوَاصِلُ مِنْهُمْ إلَى عِلْمٍ يُشَبِّهُونَهُ بِمَنْ قِيلَ لَهُ : أَيْنَ أُذُنُك ؟ فَأَدَارَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَمَدَّهَا إلَى أُذُنِهِ بِكُلْفَةِ . وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوصِلَهَا إلَى أُذُنِهِ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ ؛ وَهُوَ أَقْرَبُ وَأَسْهَلُ . وَالْأُمُورُ الْفِطْرِيَّةُ مَتَى جُعِلَ لَهَا طُرُقٌ غَيْرُ الْفِطْرِيَّةِ كَانَ تَعْذِيبًا لِلنُّفُوسِ بِلَا مَنْفَعَةٍ لَهَا كَمَا لَوْ قِيلَ لِرَجُلِ : اقْسِمْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ بِالسَّوِيَّةِ فَإِنَّ هَذَا مُمْكِنٌ بِلَا كُلْفَةٍ فَلَوْ قَالَ لَهُ قَائِلٌ : اصْبِرْ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُك الْقِسْمَةُ حَتَّى تَعْرِفَ حَدَّهَا وَتُمَيِّزَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الضَّرْبِ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ عَكْسُ الضَّرْبِ فَإِنَّ الضَّرْبَ هُوَ تَضْعِيفُ آحَادِ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ بِآحَادِ الْعَدَدِ الْآخَرِ وَالْقِسْمَةُ تَوْزِيعُ آحَادِ ( أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ عَلَى آحَادِ الْعَدَدِ الْآخَرِ . وَلِهَذَا إذَا ضَرَبَ الْخَارِجَ بِالْقِسْمَةِ فِي الْمَقْسُومِ عَلَيْهِ عَادَ الْمَقْسُومُ . وَإِذَا قَسَمَ الْمُرْتَفِعُ بِالضَّرْبِ عَلَى أَحَدِ الْمَضْرُوبَيْنِ خَرَجَ الْمَضْرُوبُ الْآخَرُ . ثُمَّ يُقَالُ : مَا ذَكَرْته فِي حَدِّ الضَّرْبِ لَا يَصِحُّ فَإِنَّهُ إنَّمَا
يَتَنَاوَلُ ضَرْبَ الْعَدَدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْمَكْسُورِ بَلْ الْحَدُّ الْجَامِعُ لَهُمَا أَنْ يُقَالَ : الضَّرْبُ طَلَبُ جُمْلَةٍ تَكُونُ نِسْبَتُهَا إلَى أَحَدِ الْمَضْرُوبَيْنِ كَنِسْبَةِ الْوَاحِدِ إلَى الْمَضْرُوبِ الْآخَرِ فَإِذَا قِيلَ : اضْرِبْ النِّصْفَ فِي الرُّبُعِ فَالْخَارِجُ هُوَ الثُّمُنُ وَنِسْبَتُهُ إلَى الرُّبُعِ كَنِسْبَةِ النِّصْفِ إلَى الْوَاحِدِ . فَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَلَامًا صَحِيحًا لَكِنْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ مَعَهُ مَالٌ يُرِيدُ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ عَدَدٍ يَعْرِفَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ إذَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَقْسِمَهُ حَتَّى يَتَصَوَّرَ هَذَا كُلَّهُ كَانَ هَذَا تَعْذِيبًا لَهُ بِلَا فَائِدَةٍ وَقَدْ لَا يَفْهَمُ هَذَا الْكَلَامَ وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ فِيهِ إشْكَالَاتٌ . فَكَذَلِكَ الدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ هُوَ الْمُرْشِدُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَالْمُوَصِّلُ إلَى الْمَقْصُودِ وَكُلَّمَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَيْهِ . وَلِهَذَا قِيلَ : الدَّلِيلُ مَا يَكُونُ النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيهِ مُوَصِّلًا إلَى عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ . فَالْمَقْصُودُ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِغَيْرِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَلْزُومًا لَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهِ وَبُرْهَانًا لَهُ - سَوَاءٌ كَانَا وُجُودِيَّيْنِ أَوْ عَدَمِيَّيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا وُجُودِيًّا وَالْآخَرُ عَدَمِيًّا ؛ فَأَبَدًا : الدَّلِيلُ مَلْزُومٌ لِلْمَدْلُولِ عَلَيْهِ ؛ وَالْمَدْلُولُ لَازِمٌ لِلدَّلِيلِ . ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الدَّلِيلُ مُقَدِّمَةً وَاحِدَةً مَتَى عُلِمَتْ عُلِمَ الْمَطْلُوبُ ؛ وَقَدْ يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ ؛ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثِ مُقَدِّمَاتٍ وَأَرْبَعٍ وَخَمْسٍ وَأَكْثَرَ ؛ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ يَتَسَاوَى فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْمَطَالِبِ ؛ بَلْ ذَلِكَ
بِحَسَبِ عِلْمِ الْمُسْتَدِلِّ الطَّالِبِ بِأَحْوَالِ الْمَطْلُوبِ وَالدَّلِيلِ وَلَوَازِمِ ذَلِكَ ؛ وَمَلْزُومَاتِهِ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مَا بِهِ يَعْلَمُ الْمَطْلُوبَ مُقَدِّمَةً وَاحِدَةً ؛ كَانَ دَلِيلُهُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ لَهُ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ كَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمٌ ؛ وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مُسْكِرٌ ؛ لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ هُوَ خَمْرٌ . فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَّا إلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ . فَإِذَا قِيلَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } . حَصَلَ مَطْلُوبُهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ يُقَالَ : كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ . وَكُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ . وَلَا أَنْ يُقَالَ كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ . فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَعْلُومٌ لَهُ لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِ إلَّا أَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِبَعْضِ الْمُسْكِرَاتِ كَمَا ظَنَّهُ طَائِفَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ هُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ أَنَّهُ جَعَلَهُ عَامًّا لَا خَاصًّا حَصَلَ مَطْلُوبُهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَيُرْوَى بِلَفْظَيْنِ : { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } . { وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } . وَلَمْ يَقُلْ : كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ . كَالنَّظْمِ الْيُونَانِيِّ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَلُّ قَدْرًا فِي عِلْمِهِ وَبَيَانِهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَيَانِهِمْ . فَإِنَّهُ إنْ قَصَدَ مُجَرَّدَ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ لَمْ يَحْتَجْ مَعَ قَوْلِهِ إلَى دَلِيلٍ . وَإِنْ قَصَدَ بَيَانَ الدَّلِيلِ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ عَامَّةَ الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُقَرِّرُ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقِّ . وَأَحْسَنُهُمْ بَيَانًا لَهُ . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ جَمِيعُ الْمَطَالِبِ تَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ . وَلَا يَكْفِي فِي جَمِيعِهَا
مُقَدِّمَتَانِ ؛ بَلْ يَذْكُرُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ وَالدَّلَالَةُ سَوَاءٌ كَانَ مُقَدِّمَةً أَوْ مُقَدِّمَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ . وَمَا قَصَدَ بِهِ هُدًى عَامًّا كَالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ بَيَانًا لِلنَّاسِ يَذْكُرُ فِيهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ عَامَّةً . وَهَذَا إنَّمَا يُمْكِنُ بَيَانُ أَنْوَاعِهَا الْعَامَّةِ . وَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلُّ شَخْصٍ فَلَا ضَابِطَ لَهُ حَتَّى يُذْكَرَ فِي كَلَامٍ . بَلْ هَذَا يَزُولُ بِأَسْبَابِ تَخْتَصُّ بِصَاحِبِهِ كَدُعَائِهِ لِنَفْسِهِ وَمُخَاطَبَةِ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَهُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُ . وَنَظَرِهِ فِيمَا يَخُصُّ حَالَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَ " أَيْضًا " فَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ ثُمَّ تِلْكَ الْأُمُورُ الْكُلِّيَّةُ يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ قِيَاسِهِمْ . فَلَا تُعْلَمُ كُلِّيَّةٌ بِقِيَاسِهِمْ إلَّا وَالْعِلْمُ بِجُزْئِيَّاتِهَا مُمْكِنٌ بِدُونِ قِيَاسِهِمْ . وَرُبَّمَا كَانَ أَيْسَرَ . فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالْمُعَيَّنَاتِ قَدْ يَكُونُ أَبْيَنَ مِنْ الْعِلْمِ بِالْكُلِّيَّاتِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْعِلْمُ وَالطَّرِيقُ إلَيْهِ هُوَ الدَّلِيلُ . فَمَنْ عَرَفَ دَلِيلَ مَطْلُوبِهِ عَرَفَ مَطْلُوبَهُ سَوَاءٌ نَظَمَهُ بِقِيَاسِهِمْ أَمْ لَا وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ دَلِيلَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ قِيَاسُهُمْ وَلَا يُقَالُ إنَّ قِيَاسَهُمْ يَعْرِفُ صَحِيحَ الْأَدِلَّةِ مِنْ فَاسِدِهَا فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَقُولُهُ جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ قِيَاسِهِمْ فَإِنَّ حَقِيقَةَ قِيَاسِهِمْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا شَكْلُ الدَّلِيلِ وَصُورَتُهُ . وَأَمَّا كَوْنُ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ مُسْتَلْزِمًا لِمَدْلُولِهِ فَهَذَا لَيْسَ فِي قِيَاسِهِمْ مَا يَتَعَرَّضُ
لَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ وَإِنَّمَا هَذَا بِحَسَبِ عِلْمِهِ بِالْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الدَّلِيلُ . وَلَيْسَ فِي قِيَاسِهِمْ بَيَانُ صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ وَلَا فَسَادِهَا . وَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي هَذَا إذَا تَكَلَّمُوا فِي مَوَادِّ الْقِيَاسِ وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ جِهَةِ مَا يَصْدُقُ بِهَا وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا فِيهِ خَطَأٌ كَثِيرٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي كُلِّ بُرْهَانٍ وَدَلِيلٍ فِي الْعَالَمِ هُوَ اللُّزُومُ فَمَنْ عَرَفَ أَنَّ هَذَا لَازِمٌ لِهَذَا اُسْتُدِلَّ بِالْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ . وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ اللُّزُومِ وَلَا تَصَوَّرَ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ . بَلْ مَنْ عَرَفَ أَنَّ كَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ كَذَا أَوْ أَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَا كَانَ كَذَا وَأَمْثَالُ هَذَا فَقَدْ عَلِمَ اللُّزُومَ . كَمَا يَعْرِفُ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ آيَةٌ لِلَّهِ فَإِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ : لَمَّا سَمِعْت هَذِهِ الْآيَةَ أَحْسَسْت بِفُؤَادِي قَدْ انْصَدَعَ . فَإِنَّ هَذَا تَقْسِيمٌ حَاصِرٌ يَقُولُ : أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ خَالِقٍ خَلَقَهُمْ ؟ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ أَمْ خَلَقُوا أَنْفُسَهُمْ فَهَذَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا فَعُلِمَ أَنَّ لَهُمْ خَالِقًا خَلَقَهُمْ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الدَّلِيلَ بِصِيغَةِ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا فِطْرِيَّةٌ بَدِيهِيَّةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فِي النُّفُوسِ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدِ إنْكَارُهَا ؛ فَلَا يُمْكِنُ صَحِيحَ الْفِطْرَةِ أَنْ يَدَّعِيَ وُجُودَ حَادِثٍ بِدُونِ مُحْدِثٍ أَحْدَثَهُ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ : هَذَا أَحْدَثَ نَفْسَهُ .
وَكَثِيرٌ مِنْ النُّظَّارِ يَسْلُكُ طَرِيقًا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَيَقُولُ : لَا يُوصَلُ إلَى مَطْلُوبٍ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ ؛ وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ فِي النَّفْيِ ؛ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا فِي صِحَّةٍ ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ كُلَّمَا كَانَ النَّاسُ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَحْوَجَ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَى عُقُولِ النَّاسِ مَعْرِفَةَ أَدِلَّتِهِ فَأَدِلَّةُ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّة وَأَدِلَّتِهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ؛ وَطُرُقُ النَّاسِ فِي مَعْرِفَتِهَا كَثِيرَةٌ .
وَكَثِيرٌ مِنْ الطُّرُقِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرَهُ . أَوْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ غَيْرِهِ . وَبَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ كُلَّمَا كَانَ الطَّرِيقُ أَدَقَّ وَأَخْفَى وَأَكْثَرَ مُقَدِّمَاتٍ وَأَطْوَلَ كَانَ أَنْفَعَ لَهُ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ اعْتَادَتْ النَّظَرَ فِي الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ ؛ فَإِذَا كَانَ الدَّلِيلُ قَلِيلَ الْمُقَدِّمَاتِ أَوْ كَانَتْ جَلِيَّةً لَمْ تَفْرَحْ نَفْسُهُ بِهِ ؛ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ مَعَهُ الطُّرُقُ الْكَلَامِيَّةُ الْمَنْطِقِيَّةُ وَغَيْرُهَا لِمُنَاسَبَتِهَا لِعَادَتِهِ ؛ لَا لِكَوْنِ الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهَا مُطْلَقًا . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ إذَا عَرَفَ مَا يَعْرِفُهُ جُمْهُورُ النَّاسِ وَعُمُومُهُمْ أَوْ مَا يُمْكِنُ غَيْرَ الْأَذْكِيَاءِ مَعْرِفَتُهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ نَفْسِهِ قَدْ امْتَازَ عَنْهُمْ بِعِلْمِ . فَيُحِبُّ مَعْرِفَةَ الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ الدَّقِيقَةِ الْكَثِيرَةِ الْمُقَدِّمَاتِ . وَلِهَذَا يَرْغَبُ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي النَّظَرِ فِي الْعُلُومِ الصَّادِقَةِ الدَّقِيقَةِ كَالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ وَعَوِيصِ الْفَرَائِضِ وَالْوَصَايَا وَالدُّورِ وَهُوَ عِلْمٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ . وَ " عِلْمُ الْفَرَائِضِ نَوْعَانِ " : أَحْكَامٌ وَحِسَابٌ . فَالْأَحْكَامُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : عِلْمُ الْأَحْكَامِ عَلَى مَذْهَبِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ وَهَذَا أَوَّلُهَا . وَيَلِيهِ عِلْمُ أَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ فِيمَا
اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْهَا وَيَلِيهِ عِلْمُ أَدِلَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَأَمَّا " حِسَابُ الْفَرَائِضِ " فَمَعْرِفَةُ أُصُولِ الْمَسَائِلِ وَتَصْحِيحُهَا وَالْمُنَاسَخَاتُ وَقِسْمَةُ التَّرِكَاتِ . وَهَذَا الثَّانِي كُلُّهُ عِلْمٌ مَعْقُولٌ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَسَائِرِ حِسَابِ الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَنْوَاعِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا النَّاسُ . ثُمَّ قَدْ ذَكَرُوا حِسَابَ الْمَجْهُولِ الْمُلَقَّبَ بِحِسَابِ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ عِلْمٌ قَدِيمٌ لَكِنَّ إدْخَالَهُ فِي الْوَصَايَا وَالدَّوْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الخوارزمي . وَبَعْضُ النَّاسِ يَذْكُرُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِيهِ وَأَنَّهُ تَعَلَّمَ ذَلِكَ مِنْ يَهُودِيٍّ وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى عَلِيٍّ .
وَلَفْظُ " الدُّورِ " يُقَالُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : " الدُّورُ الْكَوْنِيُّ " الَّذِي يُذْكَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ هَذَا حَتَّى يَكُونَ هَذَا وَلَا يَكُونُ هَذَا حَتَّى يَكُونَ هَذَا وَطَائِفَةٌ مِنْ النُّظَّارِ كَانُوا يَقُولُونَ : هُوَ مُمْتَنِعٌ . وَالصَّوَابُ أَنَّهُ نَوْعَانِ : كَمَا يَقُولُهُ الآمدي وَغَيْرُهُ " دَوْرٌ قبلي " وَ " دَوْرٌ معي " فالقبلي مُمْتَنِعٌ وَهُوَ الَّذِي يُذْكَرُ فِي الْعِلَلِ وَفِي الْفَاعِلِ وَالْمُؤَثِّرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . مِثْلَ أَنْ يُقَالَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الشَّيْئَيْنِ فَاعِلًا لِلْآخَرِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الدَّوْرِ وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ هَذَا قَبْلَ ذَاكَ وَذَاكَ قَبْلَ هَذَا . وَ " المعي " مُمْكِنٌ وَهُوَ دَوْرُ الشَّرْطِ مَعَ الْمَشْرُوطِ . وَأَحَدُ الْمُتَضَايِفَيْنِ مَعَ الْآخَرِ مِثْلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْأُبُوَّةُ إلَّا مَعَ الْبُنُوَّةِ وَلَا يَكُونَ الْبُنُوَّةُ إلَّا مَعَ الْأُبُوَّةِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : الدَّوْرُ الْحُكْمِيُّ الْفِقْهِيُّ الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْأَلَةِ السريجية وَغَيْرِهَا . وَقَدْ أَفْرَدْنَا فِيهِ مُؤَلَّفًا وَبَيَّنَّا أَنَّهُ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا . وَبَيَّنَّا هَلْ فِي الشَّرِيعَةِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الدَّوْرِ أَمْ لَا ؟ . ( الثَّالِثُ : الدَّوْرُ الْحِسَابِيُّ ؛ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا يُعْلَمُ هَذَا حَتَّى يُعْلَمَ هَذَا . فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُطْلَبُ حَلُّهُ بِالْحِسَابِ وَالْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُونِ حِسَابِ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ . وَإِنْ كَانَ حِسَابُ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ صَحِيحًا فَنَحْنُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ وَمَعْرِفَتَهَا لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى شَيْءٍ يُتَعَلَّمُ مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ أَصْلًا وَإِنْ كَانَ طَرِيقًا صَحِيحًا . بَلْ طُرُقُ الْجَبْرِ وَالْمُقَابَلَةِ فِيهَا تَطْوِيلٌ . يُغْنِي اللَّهُ عَنْهُ بِغَيْرِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَنْطِقِ . وَهَكَذَا كُلُّ مَا بُعِثَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الْعِلْمِ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ وَالْعِلْمِ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَالْعِلْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَالْعِلْمِ بِالْهِلَالِ ؛ فَكُلُّ هَذَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ بِالطُّرُقِ الَّتِي كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ يَسْلُكُونَهَا وَلَا يَحْتَاجُونَ مَعَهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ . وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ أَحْدَثُوا طُرُقًا أُخَرَ ؛ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الشَّرِيعَةِ إلَّا بِهَا . وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ كَمَا يَظُنُّ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْقِبْلَةِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَعْرِفَةِ أَطْوَالِ الْبِلَادِ وَعُرُوضِهَا . وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عِلْمًا صَحِيحًا حِسَابِيًّا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُسْلِمِينَ بِقِبْلَتِهِمْ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى هَذَا . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَلِهَذَا كَانَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْقُطْبِ وَلَا بِالْجَدْيِ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . بَلْ إذَا جَعَلَ مَنْ فِي الشَّامِ وَنَحْوِهَا الْمَغْرِبَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْمَشْرِقَ عَنْ شِمَالِهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ . وَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُ وَقْتِ طُلُوعِ الْهِلَالِ بِالْحِسَابِ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ عَرَفُوا أَنَّ نُورَ الْقَمَرِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الشَّمْسِ وَأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْقُرْصَانُ عِنْدَ الِاسْتِسْرَارِ لَا يُرَى لَهُ ضَوْءٌ فَإِذَا فَارَقَ الشَّمْسَ صَارَ فِيهِ النُّورُ فَهُمْ أَكْثَرُ مَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَضْبُطُوا بِالْحِسَابِ كَمْ بُعْدُهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عَنْ الشَّمْسِ . هَذَا إذَا قُدِّرَ صِحَّةُ تَقْوِيمِ الْحِسَابِ وَتَعْدِيلِهِ فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ عِلْمَ التَّقْوِيمِ وَالتَّعْدِيلِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَعْلَى مَسِيرِ الْكَوَاكِبِ وَأَدْنَاهُ فَيَأْخُذُونَ مُعَدَّلَهُ فَيَحْسِبُونَهُ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُمْ حَزَرُوا ارْتِفَاعَهُ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّمْسِ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الرُّؤْيَةِ وَلَا انْتِفَائِهَا ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ أَمْرٌ حِسِّيٌّ لَهَا أَسْبَابٌ مُتَعَدِّدَةٌ مِنْ صَفَاءِ الْهَوَاءِ وَكَدَرِهِ وَارْتِفَاعِ النَّظَرِ وَانْخِفَاضِهِ وَحِدَّةِ الْبَصَرِ وكلاله فَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَرَاهُ . وَيَرَاهُ مَنْ هُوَ أَحَدُّ بَصَرًا مِنْهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَلِهَذَا كَانَ قُدَمَاءُ عُلَمَاءِ " الْهَيْئَةِ " كَبَطْلَيْمُوسَ صَاحِبِ الْمَجِسْطِي وَغَيْرِهِ لَمْ يَتَكَلَّمُوا فِي ذَلِكَ بِحَرْفِ وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ كوشيار الدَّيْلَمِيَّ وَنَحْوِهِ لَمَّا رَأَوْا الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِاعْتِبَارِ الرُّؤْيَةِ . فَأَحَبُّوا أَنْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ بِالْحِسَابِ
فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا . وَمَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يُرَى عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ دَرَجَةٍ أَوْ عَشْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَقَدْ أَخْطَأَ . فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَرَاهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَاهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا الْعَقْلَ اعْتَبَرُوا وَلَا الشَّرْعَ عَرَفُوا . وَلِهَذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حُذَّاقُ صِنَاعَتِهِمْ . ثُمَّ قَالَ : فَصُورَةُ الْقِيَاسِ لَا تَدْفَعُ صِحَّتَهَا لَكِنْ نُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُسْتَفَادُ بِهِ عِلْمٌ بِالْمَوْجُودَاتِ . كَمَا أَنَّ اشْتِرَاطَهُمْ للمقدمتين دُونَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ شَرْطٌ بَاطِلٌ . فَهُوَ وَإِنْ حَصَلَ بِهِ يَقِينٌ فَلَا يُسْتَفَادُ بِخُصُوصِهِ يَقِينٌ مَطْلُوبٌ بِشَيْءِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ . فَنَقُولُ : إنَّ صُورَةَ الْقِيَاسِ إذَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مَعْلُومَةً لَا رَيْبَ أَنَّهُ يُفِيدُ الْيَقِينَ فَإِذَا قِيلَ كُلُّ أ بـ وَكُلُّ بـ ج وَكَانَتْ الْمُقَدِّمَتَانِ مَعْلُومَتَيْنِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِأَنَّ كُلَّ أ ج لَكِنْ يُقَالُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَشْكَالِ وَشَرْطِ نِتَاجِهَا تَطْوِيلٌ قَلِيلُ الْفَائِدَةِ كَثِيرُ التَّعَبِ . فَإِنَّهُ مَتَى كانت الْمَادَّةُ صَحِيحَةً أَمْكَنَ تَصْوِيرُهَا بِالشَّكْلِ الْأَوَّلِ الْفِطْرِيِّ فَبَقِيَّةُ الْأَشْكَالِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَهِيَ إنَّمَا تُفِيدُ بِالرَّدِّ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ إمَّا بِإِبْطَالِ النَّقِيضِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قِيَاسُ الْخَلْفِ وَإِمَّا بِالْعَكْسِ الْمُسْتَوِي أَوْ عَكْسِ النَّقِيضِ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْآخَرِ . إذَا رُدَّ عَلَى التَّنَاقُضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . فَهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِصِحَّةِ الْقَضِيَّةِ عَلَى بُطْلَانِ نَقْضِهَا وَعَلَى ثُبُوتِ عَكْسِهَا الْمُسْتَوِي وَعَكْسِ نَقِيضِهَا بَلْ تَصَوُّرُ الذِّهْنِ
لِصُورَةِ الدَّلِيلِ يُشْبِهُ حِسَابَ الْإِنْسَانِ لِمَا مَعَهُ مِنْ الرَّقِيقِ وَالْعَقَارِ . وَالْفِطْرَةُ تَتَصَوَّرُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمٍ . وَالنَّاسُ بِفِطَرِهِمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ التَّدَاخُلِ وَالتَّلَازُمِ وَالتَّقْسِيمِ كَمَا يَتَكَلَّمُونَ بِالْحِسَابِ وَنَحْوِهِ والمنطقيون قَدْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ . وَالْحَاصِلُ أَنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَحْصُلُ بِهِ عِلْمٌ إذَا كَانَتْ مَوَادُّهُ يَقِينِيَّةً ؛ لَكِنْ نَقُولُ : إنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِهِ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ ؛ بَلْ يَحْصُلُ بِدُونِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ مُتَوَقِّفًا عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ . ثُمَّ الْمَوَادُّ الْيَقِينِيَّةُ الَّتِي ذَكَرُوهَا لَا يَحْصُلُ بِهَا عِلْمٌ بِالْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فَلَا يَحْصُلُ بِهَا مَقْصُودٌ تَزْكُو بِهِ النُّفُوسُ بَلْ وَلَا عِلْمٌ بِالْحَقَائِقِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ . فَلَا يُمْكِنُ قَطُّ أَنْ يَتَحَصَّلَ بِالْقِيَاسِ الشُّمُولِيِّ الْمَنْطِقِيِّ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانِيَّ عِلْمٌ إلَّا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي يَسْتَضْعِفُونَهُ . فَإِنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ .
وَالْعِلْمُ بِكَوْنِ الْكُلِّيَّةِ كُلِّيَّةً لَا يُمْكِنُ الْجَزْمُ بِهِ إلَّا مَعَ الْجَزْمِ بِتَمَاثُلِ أَفْرَادِهِ فِي القدر الْمُشْتَرَكِ وَهَذَا يَحْصُلُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ بِوُجُوهِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمَوَادَّ الْيَقِينِيَّةَ قَدْ حَصَرُوهَا فِي الْأَصْنَافِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ .
أَحَدُهَا : الْحِسِّيَّاتُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحِسَّ لَا يُدْرِكُ أَمْرًا كُلِّيًّا عَامًّا أَصْلًا فَلَيْسَ فِي الْحِسِّيَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُقَدِّمَةً فِي الْبُرْهَانِ الْيَقِينِيِّ . وَإِذَا مَثَّلُوا ذَلِكَ : بِأَنَّ النَّارَ تُحْرِقُ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِعُمُومِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَإِنَّمَا مَعَهُمْ التَّجْرِبَةُ وَالْعَادَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَأَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ اشْتِمَالِ النَّارِ عَلَى قُوَّةٍ مُحْرِقَةٍ فَالْعِلْمُ بِأَنَّ كُلَّ نَارٍ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْقُوَّةِ هُوَ أَيْضًا حُكْمٌ كُلِّيٌّ وَإِنْ قِيلَ : إنَّ الصُّورَةَ النَّارِيَّةَ لَا بُدَّ أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى هَذِهِ الْقُوَّةِ . وَإِنَّ مَا لَا قُوَّةَ فِيهِ لَيْسَ بِنَارِ فَهَذَا الْكَلَامُ إنْ صَحَّ لَا يُفِيدُ الْجَزْمَ بِأَنَّ كُلَّ مَا فِيهِ هَذِهِ الْقُوَّةُ يُحْرِقُ مَا لَاقَاهُ وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْغَالِبَ فَهَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ قِيَاسُ التَّمْثِيلِ وَالشُّمُولِ وَالْعَادَةِ وَالِاسْتِقْرَاءِ النَّاقِصِ - إذَا سَلِمَ لَهُمْ ذَلِكَ - كَيْفَ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهَا لَا تُحْرِقُ السمندل وَالْيَاقُوتَ وَالْأَجْسَامَ الْمَطْلِيَّةَ بِأُمُورِ مَصْنُوعَةٍ وَلَا أَعْلَمُ فِي الْقَضَايَا الْحِسِّيَّةِ كُلِّيَّةً لَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا مَعَ أَنَّ الْقَضِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ لَيْسَتْ حِسِّيَّةً وَإِنَّمَا الْقَضِيَّةُ الْحِسِّيَّةُ : أَنَّ هَذِهِ النَّارَ تُحْرِقُ فَإِنَّ الْحِسَّ لَا يُدْرِكُ إلَّا شَيْئًا خَاصًّا . وَأَمَّا الْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ فَيَقُولُونَ : إنَّ النَّفْسَ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا هَذِهِ الْمُعَيَّنَاتِ مُسْتَعِدَّةٌ لِأَنْ تُفِيضَ عَلَيْهَا قَضِيَّةً كُلِّيَّةً بِالْعُمُومِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَلَا يُوثَقُ بِعُمُومِهِ إنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ الْعَامَّ لَازِمٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ . وَهَذَا إذَا عُلِمَ عُلِمَ فِي جَمِيعِ الْمُعَيَّنَاتِ فَلَمْ يَكُنْ الْعِلْمُ بِالْمُعَيَّنَاتِ مَوْقُوفًا عَلَى هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْقَضَايَا الْعَادِيَّاتِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ لَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ .
الثَّانِي : " الْوِجْدَانِيَّاتُ الْبَاطِنِيَّةُ " . كَإِدْرَاكِ كُلِّ أَحَدٍ جُوعَهُ وَأَلَمَهُ وَلَذَّتَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا جُزْئِيَّاتٌ ؛ بَلْ هَذِهِ لَا يَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي إدْرَاكِ كُلِّ جُزْئِيٍّ مِنْهَا كَمَا قَدْ يَشْتَرِكُونَ فِي إدْرَاكِ بَعْضِ الْحِسِّيَّاتِ الْمُنْفَصِلَةِ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَفِيهَا مِنْ الْخُصُوصِ فِي الْمُدْرِكِ وَالْمُدْرَكِ مَا لَيْسَ فِي الْحِسِّيَّاتِ الْمُنْفَصِلَةِ وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي نَوْعِهَا فَهِيَ تُشْبِهُ الْعَادِيَّاتِ . وَلَمْ يُقِيمُوا حُجَّةً عَلَى وُجُوبِ تَسَاوِي النُّفُوسِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ بَلْ وَلَا عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ . أَنَّهَا مُسْتَوِيَةُ الْأَفْرَادِ .
الثَّالِثُ : " الْمُجَرَّبَاتُ " وَهِيَ كُلُّهَا جُزْئِيَّةٌ . فَإِنَّ التَّجْرِبَةَ إنَّمَا تَقَعُ عَلَى أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ . وَكَذَلِكَ " الْمُتَوَاتِرَاتُ " فَإِنَّ الْمُتَوَاتِرَ إنَّمَا هُوَ مَا عُلِمَ بِالْحِسِّ مِنْ مَسْمُوعٍ أَوْ مَرْئِيٍّ . فَالْمَسْمُوعُ قَوْلٌ مُعَيَّنٌ وَالْمَرْئِيُّ جِسْمٌ مُعَيَّنٌ أَوْ لَوْنٌ مُعَيَّنٌ أَوْ عَمَلٌ مُعَيَّنٌ أَوْ أَمْرٌ مُعَيَّنٌ . وَأَمَّا " الْحَدْسِيَّاتُ " إنْ جُعِلَتْ يَقِينِيَّةً فَهِيَ نَظِيرُ الْمُجَرَّبَاتِ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا يَعُودُ إلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَإِنَّمَا يَعُودُ إلَى أَنَّ " الْمُجَرَّبَاتِ " تَتَعَلَّقُ بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُجَرِّبِينَ وَالْحَدْسِيَّاتُ تَكُونُ عَنْ أَفْعَالِهِمْ وَبَعْضُ النَّاسِ يُسَمِّي الْكُلَّ تَجْرِيبِيَّاتٍ فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُمْ إلَّا الْأَوَّلِيَّاتُ الَّتِي هِيَ الْبَدِيهِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْأَوَّلِيَّاتُ الْكُلِّيَّةُ إنَّمَا هِيَ قَضَايَا مُطْلَقَةٌ فِي الْأَعْدَادِ وَالْمَقَادِيرِ وَنَحْوِهَا مِثْلَ قَوْلِهِمْ : الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالْأَشْيَاءُ الْمُسَاوِيَةُ لِشَيْءِ وَاحِدٍ مُتَسَاوِيَةٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهَذِهِ مُقَدَّرَاتٌ فِي الذِّهْنِ لَيْسَتْ فِي الْخَارِجِ كُلِّيَّةً .
فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ الْبُرْهَانِيَّةَ الَّتِي يَجِبُ الْقَطْعُ بِكُلِّيَّتِهَا الَّتِي يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي قِيَاسِهِمْ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي مُقَدَّرَاتٍ ذِهْنِيَّةٍ فَإِذَنْ لَا يُمْكِنُهُمْ مَعْرِفَةُ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ بِالْقِيَاسِ الْبُرْهَانِيِّ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ . وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ بِحَصْرِ أَقْسَامِ الْمَوْجُودِ . بَلْ أَرِسْطُو لَمَّا حَصَرَ أَجْنَاسَ الْمَوْجُودَاتِ فِي " الْمَقُولَاتِ الْعَشْرِ " : الْجَوْهَرِ وَالْكَمِّ وَالْكَيْفِ وَالْأَيْنِ وَمَتَى وَالْوَضْعِ وَأَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ وَالْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ . اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ صِحَّةِ هَذَا الْحَصْرِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إذَا كَانَ لَا بُدَّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ فَتِلْكَ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى أَنْ تُعْلَمَ بِغَيْرِ قِيَاسٍ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ وَالتَّسَلْسُلُ ؛ فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ مَعْلُومَةٌ بِغَيْرِ قِيَاسٍ . فَنَقُولُ : لَيْسَ فِي الْمَوْجُودَاتِ مَا تَعْلَمُ لَهُ الْفِطْرَةُ قَضِيَّةً كُلِّيَّةً بِغَيْرِ قِيَاسٍ إلَّا وَعِلْمُهَا بِالْمُفْرَدَاتِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ أَقْوَى مِنْ عِلْمِهَا بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ مِثْلَ قَوْلِنَا : الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَالْجِسْمُ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ وَالضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْوَاحِدَ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ فِي الْفِطْرَةِ أَقْوَى مِنْ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفُ كُلِّ اثْنَيْنِ وَهَكَذَا مَا يُفْرَضُ مِنْ الْآحَادِ . فَيُقَالُ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمَ بِالْمَوْجُودِ الْخَارِجِيِّ
أَوْ الْعِلْمَ بِالْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ : أَمَّا الثَّانِي فَفَائِدَتُهُ قَلِيلَةٌ وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا مِنْ مَوْجُودٍ مُعَيَّنٍ إلَّا وَحُكْمُهُ بِعِلْمِ تَعَيُّنِهِ أَظْهَرُ وَأَقْوَى مِنْ الْعِلْمِ بِهِ عَنْ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ يَتَنَاوَلُهُ فَلَا يَتَحَصَّلُ بِالْقِيَاسِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ ؛ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ تَطْوِيلًا . وَإِنَّمَا اُسْتُعْمِلَ الْقِيَاسُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لِأَجْلِ الغالط وَالْمُعَانِدِ فَيُضْرَبُ لَهُ الْمَثَلُ وَتُذْكَرُ الْكُلِّيَّةُ رَدًّا لِغَلَطِهِ وَعِنَادِهِ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ : الضِّدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَأَيُّ شَيْئَيْنِ عُلِمَ تَضَادُّهُمَا فَإِنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ قَبْلَ اسْتِحْضَارِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ بِأَنَّ كُلَّ ضِدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَمَا مِنْ جِسْمٍ مُعَيَّنٍ إلَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ جِسْمٍ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ . فَمَا مِنْ مُعَيَّنٍ مَطْلُوبٍ عِلْمُهُ بِهَذِهِ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ إلَّا وَهُوَ يُعْلَمُ قَبْلَ أَنْ تُعْلَمَ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ وَلَا يُحْتَاجُ فِي الْعِلْمِ بِهِ إلَيْهَا . وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِهَا مَا يُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ مِنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي الْخَارِجِ . وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ الْخَارِجِيَّةُ فَتُعْلَمُ بِدُونِ هَذَا الْقِيَاسِ وَإِذَا قِيلَ إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَعْيَانِ الْخَارِجِيَّةِ بِهَذَا الْقِيَاسِ فَيَكُونُ مَبْنَاهُ عَلَى قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الَّذِي يُنْكِرُونَ أَنَّهُ يَقِينِيٌّ . فَهُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إنْ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ قِيَاسَ التَّمْثِيلِ مِنْ جِنْسِ قِيَاسِ الشُّمُولِ يَنْقَسِمُ إلَى يَقِينِيٍّ وَظَنِّيٍّ بَطَلَ تَفْرِيقُهُمْ وَإِنْ ادَّعَوْا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ يَكُونُ يَقِينِيًّا دُونَ التَّمْثِيلِ مُنِعُوا ذَلِكَ وَبُيِّنَ لَهُمْ أَنَّ الْيَقِينَ لَا يَحْصُلُ
فِي هَذِهِ الْأُمُورِ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ بِالتَّمْثِيلِ . فَيَكُونُ الْعِلْمُ بِمَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ قِيَاسًا عَلَى مَا عُلِمَ مِنْهَا وَهَذَا حَقٌّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ بَلْ هَذَا مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْعَقْلِ الَّتِي فَارَقَ بِهَا الْحِسَّ إذْ الْحِسُّ لَا يُعْلَمُ إلَّا مُعَيَّنًا وَالْعَقْلُ يُدْرِكُهُ كُلِّيًّا مُطْلَقًا لَكِنْ بِوَاسِطَةِ التَّمْثِيلِ ثُمَّ الْعَقْلُ يُدْرِكُهَا كُلَّهَا مَعَ عُزُوبِ الْأَمْثِلَةِ الْمُعَيَّنَةِ عَنْهُ لَكِنْ هِيَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا صَارَتْ فِي ذِهْنِهِ كُلِّيَّةً عَامَّةً بَعْدَ تَصَوُّرِهِ لِأَمْثَالِ مُعَيَّنَةٍ مِنْ أَفْرَادِهَا ؛ وَإِذَا بَعُدَ عَهْدُ الذِّهْنِ بِالْمُفْرَدَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فَقَدْ يَغْلَطُ كَثِيرًا بِأَنْ يَجْعَلَ الْحُكْمَ إمَّا أَعَمَّ وَإِمَّا أَخَصَّ وَهَذَا يَعْرِضُ لِلنَّاسِ كَثِيرًا حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ صَحِيحٌ وَيَكُونُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَهُمْ يَتَصَوَّرُونَ الشَّيْءَ بِعُقُولِهِمْ وَيَكُونُ مَا تَصَوَّرُوهُ مَعْقُولًا بِالْعَقْلِ فَيَتَكَلَّمُونَ عَلَيْهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي مَاهِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ بِنَفْسِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ وَلَا فِي الذِّهْنِ فَيَقُولُونَ : الْإِنْسَانُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالْوُجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَالسَّوَادُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ الَّتِي جَرَّدُوهَا عَنْ جَمِيعِ الْقُيُودِ السَّلْبِيَّةِ وَالثُّبُوتِيَّةِ مُحَقَّقَةٌ فِي الْخَارِجِ عَلَى هَذَا التَّجْرِيدِ وَذَلِكَ غَلَطٌ كَغَلَطِ أَوَّلِيهِمْ فِيمَا جَرَّدُوهُ مِنْ الْعَدَدِ وَالْمُثُلِ الْأَفْلاطونيَّةِ وَغَيْرِهَا بَلْ هَذِهِ الْمُجَرَّدَاتُ لَا تَكُونُ إلَّا مُقَدَّرَةً فِي الذِّهْنِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا فَرَضَهُ الذِّهْنُ أَمْكَنَ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ وَهَذَا الَّذِي يُسَمَّى الْإِمْكَانَ الذِّهْنِيَّ . فَإِنَّ الْإِمْكَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ .
" ذِهْنِيٌّ " وَهُوَ أَنْ يَعْرِضَ الشَّيْءُ عَلَى الذِّهْنِ فَلَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ بَلْ يَقُولُ يُمْكِنُ هَذَا لَا لِعِلْمِهِ بِإِمْكَانِهِ ؛ بَلْ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِامْتِنَاعِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ مُمْتَنِعًا فِي الْخَارِجِ . وَ " خَارِجِيٌّ " وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ إمْكَانُ الشَّيْءِ فِي الْخَارِجِ وَهَذَا يَكُونُ بِأَنْ يُعْلَمَ وُجُودُهُ فِي الْخَارِجِ أَوْ وُجُودُ نَظِيرِهِ أَوْ وُجُودُ مَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْوُجُودِ مِنْهُ . فَإِذَا كَانَ الْأَبْعَدُ عَنْ قَبُولِ الْوُجُودِ مَوْجُودًا مُمْكِنَ الْوُجُودِ فَالْأَقْرَبُ إلَى الْوُجُودِ مِنْهُ أَوْلَى . وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ " إمْكَانِ الْمَعَادِ " . فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَتَارَةً يُخْبِرُ عَمَّنْ أَمَاتَهُمْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ قَوْمِ مُوسَى الَّذِينَ قَالُوا : { أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } قَالَ : { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } { ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ } وَعَنْ { الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } وَعَنْ : { أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } وَعَنْ إبْرَاهِيمَ إذْ قَالَ : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى } الْقِصَّةُ . وَكَمَا أَخْبَرَ عَنْ الْمَسِيحِ أَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ : أَنَّهُمْ بُعِثُوا بَعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ وَتِسْعِ سِنِينَ . وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّشْأَةِ الْأُولَى فَإِنَّ الْإِعَادَةَ أَهْوَنُ مِنْ الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } الْآيَةُ
وَقَوْلِهِ : { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } { قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } . وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَإِنَّ خَلْقَهُمَا أَعْظَمُ مِنْ إعَادَةِ الْإِنْسَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } وَتَارَةً يَسْتَدِلُّ عَلَى إمْكَانِهِ بِخَلْقِ النَّبَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا } إلَى قَوْلِهِ : { كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى } فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا عِنْدَ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ . فَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ بِمَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ وَمَا هُوَ أَبْلَغُ وَأَكْمَلُ مِنْهَا عَلَى أَحْسَنِ وَجْهٍ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ الْأَغَالِيطِ الْكَثِيرَةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ فَإِنَّ خَطَأَهُمْ فِيهَا كَثِيرٌ جِدًّا وَلَعَلَّ ضَلَالَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ هُدَاهُمْ وَجَهْلَهُمْ أَكْثَرُ مَنْ عِلْمِهِمْ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيَّ فِي آخِرِ عُمُرِهِ فِي كِتَابِهِ " أَقْسَامِ الذَّاتِ " لَقَدْ تَأَمَّلْت الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ فَمَا رَأَيْتهَا تَشْفِي عَلِيلًا وَلَا تَرْوِي غَلِيلًا وَرَأَيْت أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ اقْرَأْ فِي الْإِثْبَاتِ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وَاقْرَأْ فِي النَّفْيِ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } وَمَنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ يُعْرَفُ بِالْوُجُودِ لَا بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ كَمَا يَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ الآمدي . وَأَبْعَدُ مِنْ إثْبَاتِهِ الْإِمْكَانُ الْخَارِجِيُّ بِالْإِمْكَانِ الذِّهْنِيِّ مَا يَسْلُكُهُ الْمُتَفَلْسِفَةُ كَابْنِ سِينَا فِي إثْبَاتِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ بِمُجَرَّدِ إمْكَانِ تَصَوُّرِهِ فِي الذِّهْنِ كَمَا أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا إثْبَاتَ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ مَعْقُولٍ لَا يَكُونُ مَحْسُوسًا بِحَالِ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِتَصَوُّرِ الْإِنْسَانِ الْكُلِّيِّ الْمُطْلَقِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْأَفْرَادِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ وَهَذَا إنَّمَا يُفِيدُ إمْكَانَ وُجُودِ هَذِهِ الْمَعْقُولَاتِ فِي الذِّهْنِ فَإِنَّ الْكُلِّيَّ لَا يُوجَدُ كُلِّيًّا إلَّا فِي الذِّهْنِ فَأَيْنَ طُرُقُ هَؤُلَاءِ فِي إثْبَاتِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ مِنْ طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ . ثُمَّ إنَّهُمْ يُمَثِّلُونَ بِهَذِهِ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ يُرِيدُونَ خُرُوجَ النَّاسِ عَمَّا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ وَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَيُرِيدُونَ أَنْ يَجْعَلُوا مِثْلَ هَذِهِ الْقَضَايَا الْكَاذِبَةِ ؛ وَالْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ أُصُولًا عَقْلِيَّةً يُعَارَضُ بِهَا مَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ مِنْ الْآيَاتِ وَمَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ . وَمَا تَقُومُ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا . وَأَفْسَدُوا بِأُصُولِهِمْ الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ وَالسَّمْعِيَّةَ ؛ فَإِنَّ مَبْنَى الْعَقْلِ عَلَى صِحَّةِ الْفِطْرَةِ وَسَلَامَتِهَا وَمَبْنَى السَّمْعِ عَلَى تَصْدِيقِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَمَّلُوا لِلنَّاسِ الْأَمْرَيْنِ فَدَلُّوهُمْ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا تُعْلَمُ الْمَطَالِبُ الَّتِي يُمْكِنُهُمْ عِلْمُهُمْ بِهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ . وَأَخْبَرُوهُمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِ الْغَيْبِ بِمَا يَعْجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمْ وَاسْتِدْلَالِهِمْ .
وَلَيْسَ تَعْلِيمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَقْصُورًا عَلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ ؛ بَلْ هُمْ بَيَّنُوا مِنْ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي بِهَا تُعْلَمُ الْعُلُومُ الْإِلَهِيَّةُ مَا لَا يُوجَدُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ أَلْبَتَّةَ . فَتَعْلِيمُهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ جَامِعٌ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ جَمِيعًا بِخِلَافِ الَّذِينَ خَالَفُوهُمْ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُمْ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ مَعَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْكِبْرِ الَّذِي مَا هُمْ بَالِغِيهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إنْ فِي صُدُورِهِمْ إلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وَقَالَ : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } وَقَالَ : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَقَدْ أَلَّفْت كِتَابَ " دَفْعِ تَعَارُضِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ " ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانُوا يَتَصَوَّرُونَ فِي أَذْهَانِهِمْ مَا يَظُنُّونَ وُجُودَهُ فِي الْخَارِجِ كَانَ أَكْثَرُ عُلُومِهِمْ مَبْنِيًّا عَلَى ذَلِكَ فِي " الْإِلَهِيِّ " وَ " الرِّيَاضِيِّ " . وَإِذَا تَأَمَّلَ الْخَبِيرُ بِالْحَقَائِقِ كَلَامَهُمْ فِي أَنْوَاعِ عُلُومِهِمْ لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ عِلْمًا بِمَعْلُومَاتِ مَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ إلَّا الْقِسْمَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ " الطَّبِيعِيَّ " وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ " الرِّيَاضِيِّ " . وَأَمَّا " الرِّيَاضِيُّ " الْمُجَرَّدُ فِي الذِّهْنِ فَهُوَ الْحُكْمُ بِمَقَادِيرَ ذِهْنِيَّةٍ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْخَارِجِ . وَاَلَّذِي سَمَّوْهُ " عِلْمَ مَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ " إذَا تُدُبِّرَ :
لَمْ يُوجَدْ فِيهِ عِلْمٌ بِمَعْلُومِ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ وَإِنَّمَا تَصَوَّرُوا أُمُورًا مُقَدَّرَةً فِي أَذْهَانِهِمْ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْخَارِجِ وَلِهَذَا مُنْتَهَى نَظَرِهِمْ وَآخِرُ فَلْسَفَتِهِمْ وَحِكْمَتِهِمْ هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ وَالْمَشْرُوطُ بِسَلْبِ جَمِيعِ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَدَّعُونَ فِي الْمَطَالِبِ الْبُرْهَانِيَّةِ وَالْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ مَا يَكُونُونَ قَدَّرُوهُ فِي أَذْهَانِهِمْ . وَيَقُولُونَ : نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّاتِ الْمَحْضَةِ . وَإِذَا ذُكِرَ لَهُمْ شَيْءٌ قَالُوا : نَتَكَلَّمُ فِيمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وَفِي الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ وَنَحْوَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ فَيُطَالِبُونَ بِتَحْقِيقِ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْخَارِجِ وَيُقَالُ : بَيِّنُوا هَذَا أَيُّ شَيْءٍ هُوَ ؟ فَهُنَالِكَ يَظْهَرُ جَهْلُهُمْ وَأَنَّ مَا يَقُولُونَهُ هُوَ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ . مِثْلُ أَنْ يُقَالَ لَهُمْ : اُذْكُرُوا مِثَالَ ذَلِكَ وَالْمِثَالُ أَمْرٌ جُزْئِيٌّ فَإِذَا عَجَزُوا عَنْ التَّمْثِيلِ . وَقَالُوا : نَحْنُ نَتَكَلَّمُ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِلَا عِلْمٍ . وَفِيمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ لَهُ مَعْلُومًا فِي الْخَارِجِ ؛ بَلْ فِيمَا لَيْسَ لَهُ مَعْلُومٌ فِي الْخَارِجِ وَفِيمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْلُومٌ فِي الْخَارِجِ وَإِلَّا فَالْعِلْمُ بِالْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ إذَا كَانَ كُلِّيًّا كَانَتْ مَعْلُومَاتُهُ ثَابِتَةً فِي الْخَارِجِ . وَقَدْ كَانَ الخسرو شَاهِي مِنْ أَعْيَانِهِمْ وَمِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِ الرَّازِيَّ وَكَانَ يَقُولُ : مَا عَثَرْنَا إلَّا عَلَى هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ وَكَانَ قَدْ وَقَعَ فِي حِيرَةٍ وَشَكٍّ حَتَّى كَانَ يَقُولُ : وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ وَاَللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَعْتَقِدُ .
وَ الْمَقْصُودُ أَنَّ الَّذِي يَدَّعُونَهُ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ هُوَ إذَا كَانَ عِلْمًا فَهُوَ مِمَّا يُعْرَفُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ لَا يَقِفُ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ الشُّمُولِيِّ أَصْلًا بَلْ مَا يَدَّعُونَ ثُبُوتَهُ بِهَذَا الْقِيَاسِ تُعْلَمُ أَفْرَادُهُ الَّتِي يُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِدُونِ هَذَا . الْقِيَاسُ وَذَلِكَ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ . وَيَكُونُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهَا بِالْقِيَاسِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانِيَّ اسْتِدْلَالًا عَلَى الْأَجْلَى بِالْأَخْفَى . وَهُمْ يَعِيبُونَ فِي صِنَاعَةِ الْحَدِّ أَنْ يُعْرَفَ الْجَلِيُّ بِالْخَفِيِّ وَهَذَا فِي صِنَاعَةِ الْبُرْهَانِ أَشَدُّ عَيْبًا فَإِنَّ الْبُرْهَانَ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا بَيَانُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ وَتَعْرِيفُهُ وَكَشْفُهُ وَإِيضَاحُهُ فَإِذَا كَانَ هُوَ أَوْضَحَ وَأَظْهَرَ كَانَ بَيَانًا لِلْجَلِيِّ بِالْخَفِيِّ .
قَالَ : ثُمَّ إنَّ الْفَلَاسِفَةَ أَصْحَابَ هَذَا الْمَنْطِقِ الْبُرْهَانِيِّ الَّذِي وَضَعَهُ أَرِسْطُو وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ الطَّبِيعِيِّ وَالْإِلَهِيِّ لَيْسُوا أُمَّةً وَاحِدَةً بَلْ أَصْنَافٌ مُتَفَرِّقُونَ وَبَيْنَهُمْ مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ كُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ كَانَ أَعْظَمَ فِي تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ أَضَلَّ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أمامة عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ . ثُمَّ قَرَأَ قَوْله تَعَالَى { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } } إذْ لَا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ إلَّا كِتَابٌ مُنَزَّلٌ وَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } الْآيَةُ وَقَالَ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } وَقَالَ : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } الْآيَةَ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ وَالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ مَا يُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ وَأَمَرَ اللَّهُ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَى عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ وَأَخْبَرَ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فَقَالَ : { وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } وَلِهَذَا يُوجَدُ أَتْبَعُ النَّاسِ لِلرَّسُولِ أَقَلُّ اخْتِلَافًا مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ لِلسُّنَّةِ وَكُلُّ مَنْ قَرُبَ لِلسُّنَّةِ كَانَ أَقَلَّ اخْتِلَافًا مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهَا كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ فَنَجِدُهُمْ أَكْثَرَ الطَّوَائِفِ اخْتِلَافًا . وَأَمَّا اخْتِلَافُ الْفَلَاسِفَةِ فَلَا يَحْصُرُهُ أَحَدٌ وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ " مَقَالَاتِ غَيْرِ الْإِسْلَامِيِّينَ " فَأَتَى بِالْجَمِّ الْغَفِيرِ سِوَى مَا ذَكَرَهُ الْفَارَابِيُّ وَابْنُ سِينَا وَكَذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ " الدَّقَائِقِ " الَّذِي رَدَّ فِيهِ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَرَجَّحَ فِيهِ مَنْطِقَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْعَرَبِ عَلَى مَنْطِقِ الْيُونَانِ . وَكَذَلِكَ مُتَكَلِّمَةُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشِّيعَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي رَدِّهِمْ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ . وَصَنَّفَ الْغَزَالِيُّ كِتَابَ " التَّهَافُتِ " فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ . وَمَا زَالَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ يُصَنِّفُونَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فِي الْمَنْطِقِ وَيُبَيِّنُونَ خَطَأَهُمْ
فِيمَا ذَكَرُوهُ فِي الْحَدِّ وَالْقِيَاسِ جَمِيعًا كَمَا يُبَيِّنُونَ خَطَأَهُمْ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ نُظَّارِ الْمُسْلِمِينَ يَلْتَفِتُ إلَى طَرِيقِهِمْ ؛ بَلْ الْأَشْعَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ والكَرَّامِيَة وَالشِّيعَةُ وَسَائِرُ الطَّوَائِفِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ كَانُوا يَعِيبُونَهَا وَيُبَيِّنُونَ فَسَادَهَا . وَأَوَّلُ مَنْ خَلَطَ مَنْطِقَهُمْ بِأُصُولِ الْمُسْلِمِينَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا يَطُولُ ذَكَرَهُ . وَهَذَا الرَّدُّ عَلَيْهِمْ مَذْكُورٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْكَلَامِ . وَفِي كِتَابِ " الْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ " لِأَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى النوبختي فَصْلٌ جَيِّدٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ طَرِيقَة أَرِسْطُو فِي الْمَنْطِقِ قَالَ : وَقَدْ اعْتَرَضَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَوْضَاعِ الْمَنْطِقِ هَذِهِ وَقَالُوا : أَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ الْمَنْطِقِ إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُبْنَى مِنْ مُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ فَغَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ إذَا أَرَادَ مَثَلًا أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ فَلَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى نَفْسِ الشَّيْءِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ جَوْهَرٌ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْمُتَضَادَّاتِ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى مُقَدِّمَةٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ : أَنْ يَقُولَ : إنَّ كُلَّ قَابِلٍ لِلْمُتَضَادَّاتِ فِي أَزْمَانٍ مُخْتَلِفَةٍ جَوْهَرٌ لِأَنَّ الْخَاصَّ دَاخِلٌ فِي الْعَامِّ فَعَلَى أَيِّهِمَا دَلَّ اسْتَغْنَى عَنْ الْآخَرِ . وَقَدْ يَسْتَدِلُّ الْإِنْسَانُ إذَا شَاهَدَ الْأَثَرَ أَنَّ لَهُ مُؤَثِّرًا وَالْكِتَابَةَ أَنَّ لَهَا كَاتِبًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ فِي اسْتِدْلَالِهِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ .
قَالُوا : فَنَقُولُ : إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ . فَإِذَا ذُكِرَتْ إحْدَاهُمَا اُسْتُغْنِيَ بِمَعْرِفَةِ الْمُخَاطَبِ عَنْ الْأُخْرَى فَتَرَكَ ذِكْرَهَا لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا . قُلْنَا لَسْنَا نَجِدُ مُقَدِّمَتَيْنِ كُلِّيَّتَيْنِ يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى صِحَّةِ نَتِيجَةٍ ؛ لِأَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : الْجَوْهَرُ لِكُلِّ حَيٍّ وَالْحَيَاةُ لِكُلِّ إنْسَانٍ فَتَكُونُ النَّتِيجَةُ أَنَّ الْجَوْهَرَ لِكُلِّ إنْسَانٍ فَسَوَاءٌ فِي الْعُقُولِ قَوْلُ الْقَائِلِ : الْجَوْهَرُ لِكُلِّ حَيٍّ وَقَوْلُهُ لِكُلِّ إنْسَانٍ . وَلَا يَجِدُونَ مِنْ الْمَطَالِبِ الْعَمَلِيَّةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَقِفُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ بَيِّنَتَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَتْ إحْدَاهُمَا كَافِيَةً . وَنَقُولُ لَهُمْ أَرُونَا مُقَدِّمَتَيْنِ أُولَيَيْنِ لَا تَحْتَاجَانِ إلَى بُرْهَانٍ يَتَقَدَّمُهُمَا يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى شَيْءٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ . وَتَكُونُ الْمُقَدِّمَتَانِ فِي الْعُقُولِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ النَّتِيجَةِ فَإِذَا كُنْتُمْ لَا تَجِدُونَ ذَلِكَ بَطَلَ مَا ادَّعَيْتُمُوهُ .
قَالَ النوبختي : وَقَدْ سَأَلْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ أَنْ يُوجِدَ نِيَّةً فَمَا أَوْجَدَ نِيَّةً فَمَا ذَكَرَهُ أرسطاطاليس غَيْرُ مَوْجُودٍ وَلَا مَعْرُوفٍ . قَالَ : فَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الشَّكْلَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ فَهُمَا غَيْرُ مُسْتَعْمَلَيْنِ عَلَى مَا بَنَاهُمَا عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَا يَصِحَّانِ ؛ بِقَلْبِ مُقَدِّمَتَيْهِمَا حَتَّى يَعُودَا إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ . فَالْكَلَامُ فِي الشَّكْلِ الْأَوَّلِ هُوَ الْكَلَامُ فِيهَا . . انْتَهَى . قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّة : وَمَقْصُودُهُ أَنَّ سَائِرَ الْأَشْكَالِ إنَّمَا تُنْتَجُ بِالرَّدِّ إلَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَسَائِرُ الْأَشْكَالِ وَنِتَاجُهَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ مَعَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا فَإِنَّ الشَّكْلَ الْأَوَّلَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ جَمِيعَ الْمَوَادِّ الثُّبُوتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ
الْكُلِّيَّةَ وَالْجُزْئِيَّةَ . وَقَدْ عُلِمَ انْتِفَاءُ فَائِدَتِهِ فَانْتِفَاءُ فَائِدَةِ فُرُوعِهِ الَّتِي لَا تُفِيدُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَيْهِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - لَمْ يَزَلْ فِيهَا مَنْ يَتَفَطَّنُ لِمَا فِي كَلَامِ أَهْلِ الْبَاطِلِ مِنْ الْبَاطِلِ وَيَرُدُّهُ . وَهُمْ لِمَا هَدَاهُمْ اللَّهُ بِهِ يَتَوَافَقُونَ فِي قَبُولِ الْحَقِّ وَرَدِّ الْبَاطِلِ رَأْيًا وَرِوَايَةً مِنْ غَيْرِ تَشَاعُرٍ وَلَا تَوَاطُؤٍ . وَهَذَا الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ يُوَافِقُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ بَلْ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ تَطْوِيلًا وَتَكْثِيرًا لِلْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَالْكَلَامِ بِلَا فَائِدَةٍ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةَ الْعَامَّةَ لَا تُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كُلِّيَّةً عَامَّةً وَإِنَّمَا تَكُونُ كُلِّيَّةً فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . وَأَمَّا الْمَوْجُودَاتُ فِي الْخَارِجِ فَهِيَ أُمُورٌ مُعَيَّنَةٌ كُلُّ مَوْجُودٍ لَهُ حَقِيقَةٌ تَخُصُّهُ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَمَّا سِوَاهُ لَا يُشْرِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْقِيَاسِ عَلَى خُصُوصِ وُجُودٍ مُعَيَّنٍ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَقَائِلُونَ إنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ مُعَيَّنٍ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى جُزْئِيٍّ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كُلِّيٍّ . فَإِذًا الْقِيَاسُ لَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ أَمْرٍ مَوْجُودٍ بِعَيْنِهِ . وَكُلُّ مَوْجُودٍ فَإِنَّمَا هُوَ مَوْجُودٌ بِعَيْنِهِ فَلَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مِنْ حَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ أُمُورًا كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً مُقَدَّرَةً فِي الْأَذْهَانِ لَا مُحَقَّقَةً فِي الْأَعْيَانِ . فَمَا يَذْكُرُهُ النُّظَّارُ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا بَرَاهِينَ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ لَا يَدُلُّ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى عَيْنِهِ . وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرٍ مُطْلَقٍ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ .
فَإِذَا قَالَ : هَذَا مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ . إنَّمَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى مُحْدَثٍ مُطْلَقٍ كُلِّيٍّ لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ وَإِنَّمَا تُعْلَمُ عَيْنُهُ بِعِلْمِ آخَرَ يَجْعَلُهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ . وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهَذَا ؛ لِأَنَّ النَّتِيجَةَ لَا تَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتُ فِيهَا قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ . وَالْكُلِّيُّ لَا يَدُلُّ عَلَى مُعَيَّنٍ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } الْآيَةَ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْمُعَيَّنِ كَالشَّمْسِ الَّتِي هِيَ آيَةُ النَّهَارِ . وَالدَّلِيلُ أَعَمُّ مِنْ الْقِيَاسِ ؛ فَإِنَّ الدَّلِيلَ قَدْ يَكُونُ بِمُعَيَّنِ عَلَى مُعَيَّنٍ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِالنَّجْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَوَاكِبِ عَلَى الْكَعْبَةِ فَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى نَفْسِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لَا عَلَى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَإِنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ نَفْسُهُ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ عَيْنِ الْخَالِقِ نَفْسِهِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ الْمُكَرَّرَ فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ وَهُوَ الْخَمْرُ مِنْ قَوْلِك : كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَالْقِيَاسَانِ مُتَلَازِمَانِ . كُلُّ مَا عُلِمَ بِهَذَا الْقِيَاسِ يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِهَذَا الْقِيَاسِ . ثُمَّ إنْ كَانَ الدَّلِيلُ قَطْعِيًّا فَهُوَ قَطْعِيٌّ فِي الْقِيَاسَيْنِ أَوْ ظَنِّيًّا فَظَنِّيٌّ فِيهِمَا . وَأَمَّا دَعْوَى مَنْ يَدَّعِي مِنْ الْمَنْطِقِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ : أَنَّ الْيَقِينَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقِيَاسِ الشُّمُولِ دُونَ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . فَهُوَ قَوْلٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ . وَهُوَ قَوْلُ
مَنْ لَمْ يَتَصَوَّرْ حَقِيقَةَ الْقِيَاسَيْنِ . وَقَدْ يُعْلَمُ بِنَصِّ : أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَعَيَّنْ قِيَاسُ الشُّمُولِ لِإِفَادَةِ الْحُكْمِ بَلْ وَلَا قِيَاسٌ مِنْ الْأَقْيِسَةِ . فَإِنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ بِلَا قِيَاسٍ فَبَطَلَ قَوْلُهُمْ لَا عِلْمَ تصديقي إلَّا بِالْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : بَيَانُ قِلَّةِ مَنْفَعَتِهِ أَوْ عَدَمِهَا . فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ إنْ كَانَ ثَمَّ قَضِيَّةٌ عُلِمَتْ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ تُفِيدُ الْعُمُومَ . وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ حَصَلَ مُدَّعَاهُ . فَالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ الْمُتَلَقَّاةُ عَنْ الرَّسُولِ تُفِيدُ الْعِلْمَ فِي الْمَطَالِبِ الْإِلَهِيَّةِ . وَأَمَّا مَا يُسْتَفَادُ مِنْ عُلُومِهِمْ فَالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ فِيهِ إمَّا مُنْتَقِضَةٌ وَإِمَّا أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَإِمَّا أَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْمَوْجُودَاتِ الْمُعَيَّنَةِ بَلْ بِالْمُقَدَّرَاتِ الذِّهْنِيَّةِ كَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مَا وُجِدَ عَلَى ذَلِكَ الْمِقْدَارِ فَدُخُولُ الْمُعَيَّنِ فِيهِ لَا يُعْلَمُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالْحِسِّ فَلَمْ يَكُنْ الْقِيَاسُ مُحَصِّلًا لِلْمَقْصُودِ أَوْ تَكُونُ مِمَّا لَا اخْتِصَاصَ لَهُمْ بِهَا بَلْ يَشْتَرِكُ فِيهَا سَائِرُ الْأُمَمِ بِدُونِ خُطُورِ مَنْطِقِهِمْ بِالْبَالِ مَعَ اسْتِوَاءِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَقِيَاسِ الشُّمُولِ . وَإِثْبَاتُ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ وَالنُّبُوَّاتِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْأَقْيِسَةِ بَلْ يُعْلَمُ بِالْآيَاتِ الدَّالَّة عَلَى مُعَيَّنٍ لَا شَرِكَةَ فِيهِ يَحْصُلُ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ وَمَا يَحْصُلُ مِنْهَا بِالشُّمُولِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا يَحْصُلُ بِالتَّمْثِيلِ أَمْرٌ كُلِّيٌّ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ الرَّبُّ وَمَا يَخْتَصُّ بِهِ الرَّسُولُ إلَّا بِانْضِمَامِ عِلْمٍ آخَرَ إلَيْهِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنْ يُقَالَ : هَذَا الْقِيَاسُ الشُّمُولِيُّ - وَهُوَ الْعِلْمُ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ - فَنَقُولُ قَدْ عُلِمَ وَسَلَّمُوا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِثُبُوتِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لِبَعْضِ الْأَفْرَادِ بَدِيهِيًّا ؛ فَإِنَّ النَّتِيجَةَ إذَا افْتَقَرَتْ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ تُعْلَمَانِ بِدُونِ مُقَدِّمَتَيْنِ وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ الْبَاطِلَانِ وَإِذَا فُرِضَ مُقَدِّمَتَانِ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِمَا وَاحِدٌ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْقِيَاسِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَكُلَّ حَيَوَانٍ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ . فَالْعِلْمُ بِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ أَبْيَنُ وَأَظْهَرُ . فالْمُقَدِّمَتانِ إنْ كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِمَا وَاحِدًا وَقَدْ عُلِمَتَا فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِمَا . وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِمَا مُخْتَلِفًا فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ إحْدَاهُمَا احْتَاجَ إلَى بَيَانِهَا وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيَانِ الْأُخْرَى الَّتِي عَلِمَهَا . وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي كُلِّ مَا يُقَدِّرُهُ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْطِقَهُمْ يُعْطِي تَضْيِيعَ الزَّمَانِ وَكَثْرَةَ الْهَذَيَانِ وَإِتْعَابَ الْأَذْهَانِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : لَا رَيْبَ أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الْكُبْرَى أَعَمُّ مِنْ الصُّغْرَى أَوْ مِثْلُهَا وَلَا تَكُونُ أَخَصَّ مِنْهَا وَالنَّتِيجَةُ أَخَصُّ مِنْ الْكُبْرَى أَوْ مُسَاوِيَةٌ لَهَا وَأَعَمُّ مِنْ الصُّغْرَى أَوْ مِثْلُهَا وَلَا تَكُونُ أَخَصَّ مِنْهَا . وَالْحِسُّ يُدْرِكُ الْمُعَيَّنَاتِ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهَا إلَى الْقَضَايَا الْعَامَّةِ . فَيَرَى هَذَا الْإِنْسَانَ وَهَذَا الْإِنْسَانَ وَكُلٌّ مِمَّا رَآهُ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ . فَنَقُولُ الْعِلْمُ بِالْقَضِيَّةِ الْعَامَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَوَسُّطِ قِيَاسٍ وَالْقِيَاسُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ عَامَّةٍ . فَلَزِمَ أَنْ لَا يُعْلَمَ الْعَامُّ إلَّا بِعَامِّ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الدَّوْرَ أَوْ التَّسَلْسُلَ . فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ عَامَّةٍ
مَعْلُومَةٍ بِالْبَدِيهَةِ . وَهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ . وَإِنْ أَمْكَنَ عِلْمُ الْقَضِيَّةِ الْعَامُّ بِغَيْرِ تَوَسُّطِ قِيَاسٍ أَمْكَنَ عِلْمُ الْأُخْرَى فَإِنَّ كَوْنَ الْقَضِيَّةِ بَدِيهِيَّةً أَوْ نَظَرِيَّةً لَيْسَ وَصْفًا لَازِمًا لَهَا يَجِبُ اسْتِوَاءُ جَمِيعِ النَّاسِ فِيهِ . بَلْ هُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ إضَافِيٌّ بِحَسَبِ حَالِ النَّاسِ فَمَنْ عَلِمَهَا بِلَا دَلِيلٍ كَانَتْ بَدِيهِيَّةً لَهُ وَمَنْ احْتَاجَ إلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ كَانَتْ نَظَرِيَّةً لَهُ وَهَكَذَا سَائِرُ الْأُمُورِ . فَإِذَا كَانَتْ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي نَفْسِ الْقَضَايَا ؛ بَلْ ذَلِكَ بِحَسَبِ أَحْوَالِ بَنِي آدَمَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُقَالَ فِيمَا عَلِمَهُ زَيْدٌ بِالْقِيَاسِ إنَّهُ لَا يُمْكِنُ غَيْرَهُ أَنْ يَعْلَمَهُ بِلَا قِيَاسٍ بَلْ هَذَا نَفْيٌ كَاذِبٌ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : قَدْ تَبَيَّنَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ قِيَاسَ الشُّمُولِ يُمْكِنُ جَعْلُهُ قِيَاسَ تَمْثِيلٍ وَبِالْعَكْسِ .
فَإِنْ قِيلَ : مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ بِأَنَّ الْجَامِعَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ ؟ قِيلَ : مِنْ حَيْثُ نَعْلَمُ الْقَضِيَّةَ الْكُبْرَى فِي قِيَاسِ الشُّمُولِ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : هَذَا فَاعِلٌ مُحْكِمٌ لِفِعْلِهِ وَكُلُّ مُحْكِمٍ لِفِعْلِهِ فَهُوَ عَالِمٌ . فَأَيُّ شَيْءِ ذُكِرَ فِي عِلَّةِ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي قِيَاسِ التَّمْثِيلِ . وَزِيَادَةُ أَنَّ هُنَاكَ أَصْلًا يُمَثَّلُ بِهِ قَدْ وُجِدَ فِيهِ الْحُكْمُ مَعَ الْمُشْتَرَكِ . وَفِي الشُّمُولِ لَمْ يُذْكَرْ شَيْءٌ مِنْ الْأَفْرَادِ الَّتِي ثَبَتَ الْحُكْمُ فِيهَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ الْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ مَعَ بَعْضِ أَفْرَادِهِ أَثْبَتُ فِي الْعَقْلِ مِنْ ذِكْرِهِ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ باتفاق الْعُقَلَاءِ . وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ الْعَقْلَ تَابِعٌ لِلْحِسِّ فَإِذَا أَدْرَكَ الْحِسُّ الْجُزْئِيَّاتِ أَدْرَكَ الْعَقْلُ مِنْهَا قَدْرًا مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا فَالْكُلِّيَّاتُ تَقَعُ فِي النَّفْسِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْجُزْئِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ فَمَعْرِفَةُ الْجُزْئِيَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي مَعْرِفَةِ الْكُلِّيَّاتِ فَكَيْفَ يَكُونُ ذِكْرُهَا مُضْعِفًا لِلْقِيَاسِ وَعَدَمُ ذِكْرِهَا مُوجِبًا لِقُوَّتِهِ وَهَذِهِ خَاصَّةُ الْعَقْلِ ؛ فَإِنَّ خَاصَّةَ الْعَقْلِ مَعْرِفَةُ الْكُلِّيَّاتِ بِتَوَسُّطِ مَعْرِفَةِ الْجُزْئِيَّاتِ . فَمَنْ أَنْكَرَهَا أَنْكَرَ خَاصَّةَ عَقْلِ الْإِنْسَانِ وَمَنْ جَعَلَ ذِكْرَهَا بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ مَحَالِّهَا الْمُعَيَّنَةِ أَقْوَى مِنْ ذِكْرِهَا مَعَ التَّمْثِيلِ بِمَوَاضِعِهَا الْمُعَيَّنَةِ كَانَ مُكَابِرًا . وَقَدْ اتفق الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ ضَرْبَ الْمَثَلِ مِمَّا يُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْكُلِّيَّاتِ وَأَنَّهُ لَيْسَ الْحَالُ إذَا ذُكِرَ مَعَ الْمِثَالِ كَالْحَالِ إذَا ذُكِرَ مُجَرَّدًا عَنْهُ . وَمَنْ تَدَبَّرَ جَمِيعَ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْمَعْلُومَةِ بِالْعَقْلِ فِي الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَجَدَ الْأَمْرَ كَذَلِكَ . وَالْإِنْسَانُ قَدْ يُنْكِرُ أَمْرًا حَتَّى يَرَى وَاحِدًا مِنْ جِنْسِهِ فَيُقِرُّ بِالنَّوْعِ وَيَسْتَفِيدُ بِذَلِكَ حُكْمًا كُلِّيًّا وَلِهَذَا يَقُولُ سُبْحَانَهُ : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ إنَّمَا جَاءَهُ رَسُولٌ وَاحِدٌ . وَلَكِنْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِجِنْسِ الرُّسُلِ لَمْ يَكُنْ تَكْذِيبُهُمْ بِالْوَاحِدِ بِخُصُوصِهِ .
وَمِنْ أَعْظَمِ صِفَاتِ الْعَقْلِ مَعْرِفَةُ التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ . فَإِذَا رَأَى الشَّيْئَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلِمَ أَنَّ هَذَا مِثْلُ هَذَا فَجَعَلَ حُكْمَهُمَا وَاحِدًا كَمَا إذَا رَأَى الْمَاءَ وَالْمَاءَ وَالتُّرَابَ وَالتُّرَابَ وَالْهَوَاءَ وَالْهَوَاءَ ثُمَّ حَكَمَ بِالْحُكْمِ الْكُلِّيِّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ . وَإِذَا حَكَمَ عَلَى بَعْضِ الْأَعْيَانِ وَمِثْلِهِ بِالنَّظِيرِ وَذَكَرَ الْمُشْتَرَكَ كَانَ أَحْسَنَ فِي الْبَيَانِ فَهَذَا قِيَاسُ الطَّرْدِ . وَإِذَا رَأَى الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالْمَاءِ وَالتُّرَابِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ . وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ فِي كِتَابِهِ يَتَنَاوَلُ قِيَاسَ الطَّرْدِ وَقِيَاسَ الْعَكْسِ فَإِنَّهُ لَمَّا أَهْلَكَ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ بِتَكْذِيبِهِمْ كَانَ مِنْ الِاعْتِبَارِ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلُوا أَصَابَهُ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ فَيَتَّقِي تَكْذِيبَ الرُّسُلِ حَذَرًا مِنْ الْعُقُوبَةِ وَهَذَا قِيَاسُ الطَّرْدِ . وَيُعْلَمُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُكَذِّبْ الرُّسُلَ لَا يُصِيبُهُ ذَلِكَ وَهَذَا قِيَاسُ الْعَكْسِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاعْتِبَارِ بِالْمُعَذَّبِينَ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الْفَرْعِ عَكْسُ حُكْمِ الْأَصْلِ لَا نَظِيرُهُ . وَالِاعْتِبَارُ يَكُونُ بِهَذَا وَبِهَذَا . قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } وَقَالَ : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } إلَى قَوْلِهِ { إنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } وَقَالَ : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } . " وَالْمِيزَانَ " فَسَّرَهُ السَّلَفُ بِالْعَدْلِ وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا يُوزَنُ بِهِ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ . وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ ذَلِكَ كَمَا أَنْزَلَ الْكِتَابَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ . فَمَا يُعْرَفُ
بِهِ تَمَاثُلُ الْمُتَمَاثِلَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْمَقَادِيرِ هُوَ مِنْ الْمِيزَانِ . وَكَذَلِكَ مَا يُعْرَفُ بِهِ اخْتِلَافُ الْمُخْتَلِفَاتِ . فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَتُوقِعُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ . ثُمَّ رَأَيْنَا النَّبِيذَ يُمَاثِلُهَا فِي ذَلِكَ كَانَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ هُوَ الْمِيزَانَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِنَا لِنَزِنَ بِهِ هَذَا وَنَجْعَلَهُ مِثْلَ هَذَا . فَلَا نُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ . فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ مِنْ الْعَدْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . وَمَنْ عَلِمَ الْكُلِّيَّاتِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ الْمُعَيَّنِ فَمَعَهُ الْمِيزَانُ فَقَطْ . وَالْمَقْصُودُ بِهَا وَزْنُ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ . وَإِلَّا فَالْكُلِّيَّاتُ لَوْلَا جُزْئِيَّاتُهَا الْمُعَيَّنَةُ لَمْ يَكُنْ بِهَا اعْتِبَارٌ . كَمَا أَنَّهُ لَوْلَا الْمَوْزُونَاتُ لَمْ يَكُنْ إلَى الْمِيزَانِ مِنْ حَاجَةٍ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إذَا حَضَرَ أَحَدُ الْمَوْزُونَيْنِ وَاعْتُبِرَ بِالْآخَرِ بِالْمِيزَانِ كَانَ أَتَمَّ فِي الْوَزْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمِيزَانُ وَهُوَ الْوَصْفَ الْكُلِّيَّ الْمُشْتَرَكَ فِي الْعَقْلِ أَيُّ شَيْءٍ حَضَرَ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمُفْرَدَةِ وُزِنَ بِهَا مَعَ مَغِيبِ الْآخَرِ .
وَلَا يَجُوزُ لِعَاقِلِ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَقْلِيَّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ هُوَ مَنْطِقُ الْيُونَانِ لِوُجُوهِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْمَوَازِينَ مَعَ كُتُبِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْيُونَانَ مِنْ عَهْدِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا الْمَنْطِقُ الْيُونَانِيُّ وَضَعَهُ أَرِسْطُو قَبْلَ الْمَسِيحِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ فَكَيْفَ كَانَتْ الْأُمَمُ الْمُتَقَدِّمَةُ تَزِنُ بِهِ ؟! .
الثَّانِي : أَنَّ أُمَّتَنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ مَا زَالُوا يَزِنُونَ بِالْمَوَازِينِ الْعَقْلِيَّةِ . وَلَمْ يُسْمَعْ سَلَفًا بِذِكْرِ هَذَا الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ . وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ لَمَّا عُرِّبَتْ الْكُتُبُ الرُّومِيَّةُ فِي عَهْدِ دَوْلَةِ الْمَأْمُونِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا . ( الثَّالِثُ ) أَنَّهُ مَا زَالَ نُظَّارُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أَنْ عُرِّبَ وَعَرَفُوهُ يَعِيبُونَهُ وَيَذُمُّونَهُ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ وَلَا إلَى أَهْلِهِ فِي مَوَازِينِهِمْ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ . وَلَا يَقُولُ الْقَائِلُ لَيْسَ فِيهِ مِمَّا انْفَرَدُوا بِهِ إلَّا اصْطِلَاحَاتٌ لَفْظِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْمَعَانِي الْعَقْلِيَّةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأُمَمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ فِيهِ مَعَانِي كَثِيرَةٌ فَاسِدَةٌ . ثُمَّ هَذَا جَعَلُوهُ مِيزَانَ الْمَوَازِينِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْأَقْيِسَةُ الْعَقْلِيَّةُ . وَزَعَمُوا أَنَّهُ آلَةٌ قَانُونِيَّةٌ تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا الذِّهْنَ أَنْ يَزِلَّ فِي فِكْرِهِ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ احْتَاجَ الْمِيزَانُ إلَى مِيزَانٍ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ . وَ أَيْضًا فَالْفِطْرَةُ إنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وُزِنَتْ بِالْمِيزَانِ الْعَقْلِيِّ وَإِنْ كَانَتْ بَلِيدَةً أَوْ فَاسِدَةً لَمْ يَزِدْهَا الْمَنْطِقُ إلَّا بَلَادَةً وَفَسَادًا . وَلِهَذَا يُوجَدُ عَامَّةُ مَنْ يَزِنُ بِهِ عُلُومَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَخَبَّطَ وَلَا يَأْتِيَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْمُودِ وَمَتَى أَتَى بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْمُودِ أَعْرَضَ عَنْ اعْتِبَارِهَا بِالْمَنْطِقِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعَجْزِ وَالتَّطْوِيلِ وَتَبْعِيدِ الطَّرِيقِ وَجَعْلِ الْوَاضِحَاتِ خَفِيَّاتٍ وَكَثْرَةِ الْغَلَطِ وَالتَّغْلِيطِ . فَإِنَّهُمْ إذَا عَدَلُوا عَنْ الْمَعْرِفَةِ الْفِطْرِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لِلْمُعَيَّنَاتِ إلَى أَقْيِسَةٍ كُلِّيَّةٍ ، وَضَعُوا
أَلْفَاظَهَا وَصَارَتْ مُجْمَلَةً تَتَنَاوَلُ حَقًّا وَبَاطِلًا حَصَلَ بِهَا مِنْ الضَّلَالِ مَا هُوَ ضِدُّ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَوَازِينِ . وَصَارَتْ هَذِهِ الْمَوَازِينُ عَائِلَةً لَا عَادِلَةً . وَكَانُوا فِيهَا مِنْ الْمُطَفِّفِينَ : { الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } وَأَيْنَ الْبَخْسُ فِي الْأَمْوَالِ مِنْ الْبَخْسِ فِي الْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ مَعَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَقْصِدُونَ الْبَخْسَ بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَرِثَ مَوَازِينَ مِنْ أَبِيهِ يَزِنُ بِهَا تَارَةً لَهُ وَتَارَةً عَلَيْهِ . وَلَا يَعْرِفُ أَهِيَ عَادِلَةٌ أَمْ عَائِلَةٌ . وَالْمِيزَانُ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ مَعَ الْكِتَابِ مِيزَانٌ عَادِلَةٌ تَتَضَمَّنُ اعْتِبَارَ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ وَخِلَافِهِ فَتُسَوِّي بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِمَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي فِطَرِ عِبَادِهِ وَعُقُولِهِمْ مِنْ مَعْرِفَةِ التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ . فَإِذَا قِيلَ : إنْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ . فَكَيْفَ جَعَلَهُ اللَّهُ مِمَّا أَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ . قِيلَ : لِأَنَّ الرُّسُلَ ضَرَبَتْ لِلنَّاسِ الْأَمْثَالَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يَعْرِفُونَ بِهَا التَّمَاثُلَ وَالِاخْتِلَافَ . فَإِنَّ الرُّسُلَ دَلَّتْ النَّاسَ وَأَرْشَدَتْهُمْ إلَى مَا بِهِ يَعْرِفُونَ الْعَدْلَ وَيَعْرِفُونَ الْأَقْيِسَةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ . فَلَيْسَتْ الْعُلُومُ النَّبَوِيَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى الْخَبَرِ بَلْ الرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَيَّنَتْ الْعُلُومَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ دِينُ اللَّهِ عِلْمًا وَعَمَلًا . وَضَرَبَتْ الْأَمْثَالَ فَكَمُلَتْ الْفِطْرَةُ بِمَا نَبَّهَتْهَا عَلَيْهِ وَأَرْشَدَتْهَا لِمَا كَانَتْ الْفِطْرَةُ مُعْرِضَةً عَنْهُ
أَوْ كَانَتْ الْفِطْرَةُ قَدْ فَسَدَتْ بِمَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ الْفَاسِدَةِ فَأَزَالَتْ ذَلِكَ الْفَسَادَ . وَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ مَمْلُوءَانِ مِنْ هَذَا يُبَيِّنُ اللَّهُ الْحَقَائِقَ بِالْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ . وَيُبَيِّنُ طَرِيقَ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ . وَيُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } الْآيَةُ وَقَوْلِهِ : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أَيْ هَذَا حُكْمٌ جَائِرٌ لَا عَادِلٌ فَإِنَّ فِيهِ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ . وَمِنْ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ قَوْلُهُ : { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ } وَقَوْلُهُ : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } الْآيَةُ . وَ الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمِيزَانَ الْعَقْلِيَّ حَقٌّ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ . وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِمَنْطِقِ الْيُونَانِ بَلْ هِيَ الْأَقْيِسَةُ الصَّحِيحَةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ سَوَاءٌ صِيغَ ذَلِكَ بِصِيغَةِ قِيَاسِ الشُّمُولِ أَوْ بِصِيغَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ وَصِيَغُ التَّمْثِيلِ هِيَ الْأَصْلُ وَهِيَ الْحَمْلُ وَالْمِيزَانُ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ الْجَامِعُ . ( الْوَجْهُ الثَّامِنُ ) : أَنَّهُمْ كَمَا حَصَرُوا الْيَقِينَ فِي الصُّورَةِ الْقِيَاسِيَّةِ حَصَرُوهُ فِي الْمَادَّةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا مِنْ الْقَضَايَا : الْحِسِّيَّاتِ وَالْأَوَّلِيَّاتِ وَالمُتَواتِراتِ وَالْمُجَرَّبَاتِ . وَالْحَدْسِيَّاتِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى نَفْيِ مَا سِوَى هَذِهِ الْقَضَايَا ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ إنَّمَا اعْتَبَرُوا فِي الْحِسِّيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِاشْتِرَاكِ
بَنِي آدَمَ فِيهِ وَتَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ بَنِي آدَمَ إنَّمَا يَشْتَرِكُونَ كُلُّهُمْ فِي بَعْضِ الْمَرْئِيَّاتِ وَبَعْضِ الْمَسْمُوعَاتِ فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ يَرَوْنَ عَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَيَرَوْنَ جِنْسَ السَّحَابِ وَالْبَرْقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا يَرَاهُ هَؤُلَاءِ عَيْنَ مَا يَرَاهُ هَؤُلَاءِ وَكَذَلِكَ يَشْتَرِكُونَ فِي سَمَاعِ صَوْتِ الرَّعْدِ وَأَمَّا مَا يَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ كَلَامِ بَعْضٍ وَصَوْتِهِ فَهَذَا لَا يَشْتَرِكُ بَنُو آدَمَ فِي عَيْنِهِ بَلْ كُلُّ قَوْمٍ يَسْمَعُونَ مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُمْ وَكَذَا أَكْثَرُ الْمَرْئِيَّاتِ . وَأَمَّا الشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ فَهَذَا لَا يَشْتَرِكُ جَمِيعُ النَّاسِ فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ بَلْ الَّذِي يَشُمُّهُ هَؤُلَاءِ وَيَذُوقُونَهُ وَيَلْمِسُونَهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي يَشُمُّهُ وَيَذُوقُهُ وَيَلْمِسُهُ هَؤُلَاءِ . لَكِنْ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْجِنْسِ لَا فِي الْعَيْنِ . وَكَذَلِكَ مَا يُعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ وَالتَّجْرِبَةِ وَالْحَدْسِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَوَاتَرُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ وَيُجَرِّبُ هَؤُلَاءِ مَا لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ وَيُجَرِّبُوهُ . وَلَكِنْ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْجِنْسِ كَمَا يُجَرِّبُ قَوْمٌ بَعْضَ الْأَدْوِيَةِ وَيُجَرِّبُ آخَرُونَ جِنْسَ تِلْكَ الْأَدْوِيَةِ فَيُتَّفَقُ فِي مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ لَا فِي مَعْرِفَةِ عَيْنِ الْمُجَرَّبِ . ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذَا يَقُولُونَ فِي الْمَنْطِقِ : إنَّ الْمُتَوَاتِرَاتِ وَالْمُجَرَّبَاتِ وَالْحَدْسِيَّاتِ تَخْتَصُّ بِمَنْ عَلِمَهَا فَلَا يَقُومُ مِنْهَا بُرْهَانٌ عَلَى غَيْرِهِ . فَيُقَالُ لَهُمْ ؛ وَكَذَلِكَ الْمَشْمُومَاتُ وَالْمَذُوقَاتُ . وَالْمَلْمُوسَاتُ بَلْ اشْتِرَاكُ
النَّاسِ فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ أَكْثَرُ فَإِنَّ الْخَبَرَ الْمُتَوَاتِرَ يَنْقُلُهُ عَدَدٌ كَثِيرٌ فَيَكْثُرُ السَّامِعُونَ لَهُ وَيَشْتَرِكُونَ فِي سَمَاعِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ بِخِلَافِ مَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَنْ أَحَسَّهُ فَإِذَا قَالَ : رَأَيْت أَوْ سَمِعْت أَوْ ذُقْت أَوْ لَمَسْت أَوْ شَمَمْت فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذَا بُرْهَانًا عَلَى غَيْرِهِ . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ شَارَكَهُ فِي تِلْكَ الْحِسِّيَّاتِ عَدَدٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُمْ أَحَسَّهَا وَلَا يُمْكِنُ عِلْمُهَا لِمَنْ لَمْ يُحِسَّهَا إلَّا بِطَرِيقِ الْخَبَرِ . وَعَامَّةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ بِأَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ هِيَ مِنْ الْعِلْمِ بِعَادَةِ ذَلِكَ الْمَوْجُودِ وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ " الْحَدْسِيَّاتِ " وَعَامَّةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْعُلُومِ الْفَلَكِيَّةِ كَعِلْمِ الْهَيْئَةِ فَهُوَ مِنْ قِسْمِ الْمُجَرَّبَاتِ وَهَذِهِ لَا يَقُومُ فِيهَا بُرْهَانٌ فَإِنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ الطَّبِيعِيَّةِ جُرِّبَتْ وَكَوْنَ الْحَرَكَاتِ جُرِّبَتْ لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ إلَّا بِالنَّقْلِ . وَالتَّوَاتُرُ فِي هَذَا قَلِيلٌ . وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تُنْقَلَ التَّجْرِبَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ أَوْ بَعْضِ أَهْلِ الْحِسَابِ . وَغَايَةُ مَا يُوجَدُ . أَنْ يَقُولَ بَطْلَيْمُوسُ : هَذَا مِمَّا رَصَدَهُ فُلَانٌ وَأَنْ يَقُولَ جالينوس : هَذَا مِمَّا جَرَّبْته أَوْ ذَكَرَ لِي فُلَانٌ أَنَّهُ جَرَّبَهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ . وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ غَيْرَهُ جَرَّبَهُ أَيْضًا فَذَاكَ خَبَرٌ وَاحِدٌ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يُجَرِّبُوا جَمِيعَ مَا جَرَّبُوهُ وَلَا عَلِمُوا بِالْأَرْصَادِ مَا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ
عَلِمُوهُ . وَإِنْ ذَكَرُوا جَمَاعَةً رَصَدُوا فَغَايَتُهُ أَنَّهُ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ الْخَاصِّ الَّذِي تَنْقُلُهُ طَائِفَةٌ . فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ بِمَا تَوَاتَرَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَى غَيْرِهِ بُرْهَانًا بِمِثْلِ هَذَا التَّوَاتُرِ وَيُعَظِّمَ عِلْمَ الْهَيْئَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَيَدَّعِيَ أَنَّهُ عِلْمٌ عَقْلِيٌّ مَعْلُومٌ بِالْبُرْهَانِ . وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَقُومُ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ عِنْدَهُمْ هَذَا حَالُهُ فَمَا الظَّنُّ بِالْإِلَهِيَّاتِ الَّتِي إذَا نُظِرَ فِيهَا كَلَامُ مُعَلِّمِهِمْ الْأَوَّلِ أَرِسْطُو وَتَدَبَّرَهُ الْفَاضِلُ الْعَاقِلُ لَمْ يُفِدْهُ إلَّا الْعِلْمَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنَّ كُفَّارَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِهَذِهِ الْأُمُورِ .
الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لَهُمْ مِنْ عِلْمِ الْوَحْيِ وَالْإِلْهَامِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ قِيَاسِهِمْ الَّذِي ذَكَرُوهُ بَلْ الْفِرَاسَةُ أَيْضًا وَأَمْثَالُهَا . فَإِنْ أَدْخَلُوا ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ لَمْ يُمْكِنْهُمْ نَفْيُ مَا لَمْ يَذْكُرُوهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ ضَابِطٌ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ : أَنَّ الْقَضَايَا الْوَاجِبَ قَبُولُهَا الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْبُرْهَانُ : الْأَوَّلِيَّاتُ وَالْحِسِّيَّاتُ وَالْمُجَرَّبَاتُ وَالْحَدْسِيَّاتُ وَالمُتَواتِراتِ وَرُبَّمَا ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ قَضَايَا مَعَهَا حُدُودُهَا وَلَمْ يَذْكُرُوا دَلِيلًا عَلَى هَذَا الْحَصْرِ وَلِهَذَا اعْتَرَفَ الْمُنْتَصِرُونَ لَهُمْ أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ مُنْتَشِرٌ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ يَتَعَذَّرُ إقَامَةُ دَلِيلٍ عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ أَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي قِيَاسِهِمْ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا . وَحِينَئِذٍ فَلَا يَكُونُ الْمَنْطِقُ آلَةً قَانُونِيَّةً تَعْصِمُ مُرَاعَاتُهَا مِنْ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ
إذَا ذُكِرَ لَهُ قَضَايَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا بِغَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ لَمْ يُمْكِنْ وَزْنُهَا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ . وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ الْمَنْطِقِيِّينَ يُكَذِّبُونَ بِمَا لَمْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقِيَاسِهِمْ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْجَهْلِ . لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الَّذِي كَذَّبُوا بِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ . فَإِذَا كَانَ أَشْرَفُ الْعُلُومِ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِطَرِيقِهِمْ لَزِمَ أَمْرَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ عَلَى مَا يُكَذِّبُونَ بِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي قِيَاسِهِمْ دَلِيلٌ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ مَا عَلِمُوهُ خَسِيسٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا جَهِلُوهُ فَكَيْفَ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ النَّجَاةَ وَلَا السَّعَادَةَ.
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا هُوَ عِلْمٌ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ لَيْسَ عِلْمًا وَمَا هُوَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ بِعِلْمِ يَجْعَلُونَهُ عِلْمًا . فَزَعَمُوا أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالْمَعَادِ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ وَأَنَّهُمْ إنَّمَا أَخْبَرُوا الْجُمْهُورَ بِمَا يَتَخَيَّلُونَهُ فِي ذَلِكَ لِيَنْتَفِعُوا بِهِ فِي إقَامَةِ مَصْلَحَةِ دُنْيَاهُمْ لَا لِيَعْرِفُوا بِذَلِكَ الْحَقَّ وَأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْكَذِبِ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ وَيَقُولُونَ إنَّ النَّبِيَّ حَاذِقٌ بِالشَّرَائِعِ الْعَمَلِيَّةِ دُونَ الْعِلْمِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَضِّلُ الْفَيْلَسُوفَ عَلَى كُلِّ نَبِيٍّ . وَعَلَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَا يُوجِبُونَ اتِّبَاعَ نَبِيٍّ بِعَيْنِهِ لَا مُحَمَّدٍ وَلَا
غَيْرِهِ . وَلِهَذَا لَمَّا ظَهَرَتْ التَّتَارُ وَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ قِيلَ : إنَّ " هُولَاكُو " أَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ قَالَ : ذَاكَ لِسَانُهُ عَرَبِيٌّ وَلَا تَحْتَاجُونَ إلَى شَرِيعَتِهِ . وَمَنْ تَبِعَ النَّبِيَّ مِنْهُمْ فِي الشَّرَائِعِ الْعَمَلِيَّةِ لَا يَتْبَعُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالِاعْتِقَادِ ؛ بَلْ النَّبِيُّ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْكَلَامِ إذَا قَلَّدُوا مَذْهَبًا مِنْ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ اقْتَصَرُوا فِي تَقْلِيدِهِ عَلَى الْقَضَايَا الْفِقْهِيَّةِ وَلَا يَلْتَزِمُونَ مُوَافَقَتَهُ فِي الْأُصُولِ وَمَسَائِلِ التَّوْحِيدِ . بَلْ قَدْ يَجْعَلُونَ شُيُوخَهُمْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَفْضَلَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ . وَعَنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِقِيَاسِهِمْ وَكَذَا أَخْبَرَ عَنْ أُمُورٍ مُعَيَّنَةٍ مِمَّا كَانَ وَسَيَكُونُ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ بِقِيَاسِهِمْ : لَا الْبُرْهَانِيِّ وَلَا غَيْرِهِ فَإِنَّ أَقْيِسَتَهُمْ لَا تُفِيدُ إلَّا أُمُورًا كُلِّيَّةً وَهَذِهِ أُمُورٌ خَاصَّةٌ وَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَكُونُ مِنْ الْحَوَادِثِ الْمُعَيَّنَةِ حَتَّى أَخْبَرَ عَنْ التتر الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ سِتّمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ إخْبَارِهِ وَكَذَلِكَ عَنْ النَّارِ الَّتِي خَرَجَتْ قَبْلَ مَجِيءِ التتر سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ هـ . فَهَلْ يُتَصَوَّرُ أَنَّ قِيَاسَهُمْ وَبُرْهَانَهُمْ يَدُلُّ عَلَى آدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ أَوْ أُمَّةٍ مُعَيَّنَةٍ فَضْلًا عَنْ مَوْصُوفٍ بِالصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا ؟ .
ثُمَّ مِنْ بَلَايَاهُمْ وكفرياتهم أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ الْبَارِيَ - تَعَالَى - لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ وَلَا يَعْرِفُ عَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى وَلَا غَيْرَهُمَا وَلَا شَيْئًا مِنْ تَفَاصِيلِ الْحَوَادِثِ . وَالْكَلَامُ وَالرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ مَا هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالِ . فِرَارًا مِنْ لَازِمٍ لَيْسَ لَهُمْ قَطُّ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِهِ .
الْوَجْه الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِالْحِسِّيَّاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ كَالْجُوعِ وَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ . وَنَفَوْا وُجُودَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْتَصَّ بِرُؤْيَتِهِ بَعْضُ النَّاسِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَمَا تَرَاهُ النَّفْسُ عِنْدَ الْمَوْتِ . وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ نَاطِقَانِ بِإِثْبَاتِ ذَلِكَ . وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّ مَا تَلَقَّوْهُ مِنْ الْقَوَاعِدِ الْفَاسِدَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ مِنْ نَفْيِ مَا لَمْ يُعْلَمْ نَفْيُهُ أَوْجَبَ لَهُمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ مَا صَارَ حَاجِبًا وَأَنَّهُمْ بِهِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ كُفَّارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنْ يُقَالَ : كَوْنُ الْقَضِيَّةِ " بُرْهَانِيَّةً " مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ أَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلْمُسْتَدِلِّ بِهَا وَكَوْنُهَا " جَدَلِيَّةً " مَعْنَاهُ كَوْنُهَا مُسَلَّمَةً وَكَوْنُهَا " خَطَابِيَّةً " مَعْنَاهُ كَوْنُهَا مَشْهُورَةً أَوْ مَقْبُولَةً أَوْ مَظْنُونَةً . وَجَمِيعُ هَذِهِ الْفُرُوقِ هِيَ نِسَبٌ وَإِضَافَاتٌ عَارِضَةٌ لِلْقَضِيَّةِ لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ صِفَةٌ مُلَازِمَةٌ لَهَا فَضْلًا
عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَاتِيَّةً لَهَا عَلَى أَصْلِهِمْ . بَلْ لَيْسَ فِيهَا مَا هُوَ صِفَةٌ لَهَا فِي نَفْسِهَا بَلْ هَذِهِ صِفَاتٌ نِسْبِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ شُعُورِ الشَّاعِرِ بِهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَضِيَّةَ قَدْ تَكُونُ حَقًّا وَالْإِنْسَانُ لَا يَشْعُرُ بِهَا ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَظُنَّهَا أَوْ يَعْلَمَهَا . وَكَذَلِكَ قَدْ تَكُونُ خَطَابِيَّةً أَوْ جَدَلِيَّةً وَهِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا بَلْ تَكُونُ بُرْهَانِيَّةً أَيْضًا كَمَا قَدْ سَلَّمُوا ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَخْبَرُوا بِالْقَضَايَا الَّتِي هِيَ حَقٌّ فِي نَفْسِهَا لَا تَكُونُ كَذِبًا بَاطِلًا قَطُّ . وَبَيَّنُوا مِنْ الطُّرُقِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا صِدْقُ الْقَضَايَا مَا هُوَ مُشْتَرِكٌ . فَيَنْتَفِعُ بِهِ جِنْسُ بَنِي آدَمَ وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ لِلنَّاسِ . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ فَلَمْ يَسْلُكُوا هَذَا الْمَسْلَكَ . بَلْ سَلَكُوا فِي الْقَضَايَا الْأَمْرَ النِّسْبِيَّ فَجَعَلُوا الْبُرْهَانِيَّاتِ مَا عَلِمَهُ الْمُسْتَدِلُّ وَغَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَجْعَلُوهُ بُرْهَانِيًّا وَإِنْ عِلْمَهُ مُسْتَدِلٌّ آخَرُ . وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مِنْ الْبُرْهَانِيَّاتِ عِنْدَ إنْسَانٍ وَطَائِفَةٍ مَا لَيْسَ مِنْ الْبُرْهَانِيَّاتِ عِنْدَ آخَرِينَ . فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحَدَّ الْقَضَايَا الْعِلْمِيَّةُ بِحَدِّ جَامِعٍ بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ مَنْ عَلِمَهَا وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْهَا حَتَّى إنَّ أَهْلَ الصِّنَاعَاتِ عِنْدَ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ مِنْ الْقَضَايَا الَّتِي يَعْلَمُونَهَا مَا لَا يَعْلَمُهَا غَيْرُهُمْ وَحِينَئِذٍ فَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ طَرِيقَتُهُمْ مُمَيِّزَةً لِلْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ وَالصِّدْقِ مِنْ الْكَذِبِ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ أَهْلِ كُلِّ صِنَاعَةٍ مِنْ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَمِنْ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ . وَيَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مَنْفَعَتُهَا مُشْتَرِكَةً بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ ؛ بِخِلَافِ طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِالْقَضَايَا الصَّادِقَةِ الَّتِي تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ
وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَكُلُّ مَا نَاقَضَ الصِّدْقَ فَهُوَ كَذِبٌ وَكُلُّ مَا نَاقَضَ الْحَقَّ فَهُوَ بَاطِلٌ فَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ مَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ حَاكِمًا بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . وَأَنْزَلَ أَيْضًا الْمِيزَانَ وَمَا يُوزَنُ بِهِ وَيُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ . وَلِكُلِّ حَقٍّ مِيزَانٌ يُوزَنُ بِهِ بِخِلَافِ مَا فَعَلَهُ الْفَلَاسِفَةُ الْمَنْطِقِيُّونَ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لِلْحَقِّ وَلَا مُفَرِّقًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلَا هُوَ مِيزَانٌ يُعْرَفُ بِهِ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ . وَأَمَّا الْمُتَكَلِّمُونَ فَمَا كَانَ فِي كَلَامِهِمْ مُوَافِقًا لَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَهُوَ مِنْهُ . وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْبَاطِلَةِ شَرْعًا وَعَقْلًا . فَإِنْ قِيلَ : نَحْنُ نَجْعَلُ الْبُرْهَانِيَّاتِ إضَافِيَّةً . فَكُلُّ مَا عَلِمَهُ الْإِنْسَانُ بِمُقَدِّمَاتِهِ فَهُوَ بُرْهَانِيٌّ عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُرْهَانِيًّا عِنْدَ غَيْرِهِ . قِيلَ : لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ سَلَكَ هَذَا السَّبِيلَ لَمْ يَجِدْ مَوَادَّ الْبُرْهَانِ فِي أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ مَعَ إمْكَانِ عِلْمِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ لِأُمُورِ أُخْرَى بِغَيْرِ تِلْكَ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي عَيَّنُوهَا . وَإِذَا قَالُوا : نَحْنُ لَا نُعَيِّنُ الْمَوَادَّ فَقَدْ بَطَلَ أَحَدُ أَجْزَاءِ الْمَنْطِقِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّهُمْ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ طَرِيقَهُمْ كُلِّيَّةٌ مُحِيطَةٌ بِطُرُقِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ لِبَنِي آدَمَ - مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ إمَّا بِالْحِسِّ وَإِمَّا
بِالْعَقْلِ وَإِمَّا بِالْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ مَعْلُومَاتٍ كَثِيرَةً لَا تُعْلَمُ بِطُرُقِهِمْ الَّتِي ذَكَرُوهَا . وَمِنْ ذَلِكَ مَا عَلِمَهُ الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعُلُومِ - أَرَادُوا إجْرَاءَ ذَلِكَ عَلَى قَانُونِهِمْ الْفَاسِدِ . فَقَالُوا : النَّبِيُّ لَهُ قُوَّةٌ أَقْوَى مِنْ قُوَّةِ غَيْرِهِ . وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَنَالُ الْحَدَّ الْأَوْسَطَ مِنْ غَيْرِ تَعْلِيمِ مُعَلِّمٍ فَإِذَا تَصَوَّرَ أَدْرَكَ بِتِلْكَ الْقُوَّةِ الْحَدَّ الَّذِي قَدْ يَتَعَسَّرُ أَوْ يَتَعَذَّرُ عَلَى غَيْرِهِ إدْرَاكُهُ بِلَا تَعْلِيمٍ ؛ لِأَنَّ قُوَى الْأَنْفُسِ فِي الْإِدْرَاكِ غَيْرُ مَحْدُودَةٍ : فَجَعَلُوا مَا يُخْبِرُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ إنَّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ . فَإِنَّ الْقِيَاسَ الْمَنْطِقِيَّ إنَّمَا تُعْرَفُ بِهِ أُمُورٌ كُلِّيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَهُمْ يُسَلِّمُونَ ذَلِكَ وَالرُّسُلُ أَخْبَرُوا بِأُمُورِ مُعَيَّنَةٍ شَخْصِيَّةٍ جُزْئِيَّةٍ مَاضِيَةٍ وَحَاضِرَةٍ وَمُسْتَقْبَلَةٍ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا عَلِمَتْهُ الرُّسُلُ لَمْ يَكُنْ بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ . بَلْ جَعَلَ ابْنُ سِينَا عِلْمَ الرَّبِّ بِمَفْعُولَاتِهِ فِي هَذَا الْبَابِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا تَقَرَّرَ فَسَادُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ مِنْ حَصْرِ طَرِيقِ الْعِلْمِ : مَادَّةً وَصُورَةً وَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا مِنْ الْعُلُومِ الصَّادِقَةِ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ وَأَكْثَرَ مِمَّا أَثْبَتُوهُ وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الطَّرِيقِ إنَّمَا يُفِيدُ عُلُومًا قَلِيلَةً خَسِيسَةً لَا كَثِيرَةً وَلَا شَرِيفَةً . وَهَذِهِ مَرْتَبَةُ الْقَوْمِ ؛ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَخَسِّ النَّاسِ عِلْمًا وَعَمَلًا . وَكُفَّارُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَشْرَفُ عِلْمًا وَعَمَلًا مِنْهُمْ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَالْفَلْسَفَةُ كُلُّهَا لَا يَصِيرُ صَاحِبُهَا فِي دَرَجَةِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ
فَضْلًا عَنْ دَرَجَتِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ . وَقَدْ أَنْشَدَ ابْنُ القشيري فِي الرَّدِّ عَلَى " الشِّفَاءِ " لِابْنِ سِينَا : قَطَعْنَا الْأُخُوَّةَ مِنْ مَعْشَرٍ بِهِمْ مَرَضٌ مِنْ كِتَابِ الشفا وَكَمْ قُلْت : يَا قَوْمِ أَنْتُمْ عَلَى شَفَا جُرُفٍ مِنْ كِتَابِ الشفا فَلَمَّا اسْتَهَانُوا بِتَنْبِيهِنَا رَجَعْنَا إلَى اللَّهِ حَتَّى كَفَى فَمَاتُوا عَلَى دِينِ رسطاطالس وَعِشْنَا عَلَى مِلَّةِ الْمُصْطَفَى . فَإِنْ قِيلَ : مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ الْمَنْطِقِ مِنْ حَصْرِ طُرُقِ الْعِلْمِ يُوجَدُ نَحْوٌ مِنْهُ فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمِي الْمُسْلِمِينَ . بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُهُ بِعَيْنِهِ إمَّا بِعِبَارَاتِهِمْ وَإِمَّا بِتَغْيِيرِ الْعِبَارَةِ . فَالْجَوَابُ : أَنْ لَيْسَ كُلُّ مَا يَقُولُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ حَقًّا بَلْ كُلُّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ فَهُوَ حَقٌّ . وَمَا قَالَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّا يُوَافِقُ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ . وَمَا قَالُوهُ مِمَّا يُخَالِفُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَقَدْ عُرِفَ ذَمُّ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لِأَهْلِ الْكَلَامِ الْمُحْدَثِ . قَالَ : وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْمٍ أَرَادُوا بِزَعْمِهِمْ نَصْرَ الشَّرْعِ بِعُقُولِهِمْ النَّاقِصَةِ وَأَقْيِسَتِهِمْ الْفَاسِدَةِ . فَكَانَ مَا فَعَلُوهُ مِمَّا جَرَّأَ الْمُلْحِدِينَ أَعْدَاءَ الدِّينِ
عَلَيْهِ فَلَا الْإِسْلَامَ نَصَرُوا وَلَا الْأَعْدَاءَ كَسَرُوا . ثُمَّ مِنْ الْعَجَائِبِ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ إلَّا الْحَقَّ وَيُعْرِضُونَ عَنْ تَقْلِيدِهِمْ وَيُقَلِّدُونَ وَيُسَاكِنُونَ مُخَالِفَ مَا جَاءُوا بِهِ مَنْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومِ وَأَنَّهُ يُخْطِئُ تَارَةً وَيُصِيبُ أُخْرَى وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
قَالَ " السيوطي " : هَذَا آخِرُ مَا لَخَّصْته مِنْ كِتَابِ ابْنِ تَيْمِيَّة . وَقَدْ أَوْرَدْت عِبَارَتَهُ بِلَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ فِي الْغَالِبِ . وَحَذَفْت مِنْ كِتَابِهِ الْكَثِيرَ فَإِنَّهُ فِي عِشْرِينَ كُرَّاسًا . وَلَمْ أَحْذِفْ مِنْ الْمُهِمِّ شَيْئًا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
فِي ضَبْطِ كُلِّيَّاتِ " الْمَنْطِقِ " وَالْخَلَلِ فِيهِ .
بَنَوْهُ عَلَى أَنَّ مَدَارِكَ الْعِلْمِ مُنْحَصِرَةٌ فِي " الْحَدِّ " وَجِنْسِهِ مِنْ الرَّسْمِ وَنَحْوِهِ وَفِي الْقِيَاسِ وَنَحْوِهِ مِنْ الِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ : إمَّا " تَصَوُّرٌ " وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْمُفْرَدَاتِ وَإِمَّا " تَصْدِيقٌ " وَهُوَ الْعِلْمُ بِنِسْبَةِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ وَكُلٌّ مِنْ الْعِلْمَيْنِ : إمَّا " بَدِيهِيٌّ " لَا يَحْتَاجُ إلَى طَرِيقٍ وَإِمَّا " نَظَرِيٌّ " مُفْتَقِرٌ إلَى الطَّرِيقِ وَطَرِيقُ التَّصَوُّرِ هُوَ " الْحَدُّ " وَطَرِيقُ التَّصْدِيقِ هُوَ " الْقِيَاسُ " الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْبُرْهَانَ - إنْ كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهُ يَقِينِيَّةً . ثُمَّ قَالُوا : " الْحَدُّ " هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَإِنْ كَانَ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْمَحْدُودِ كَمَا أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْمُسَمَّى وَيُرَادُ بِهِ الْمُسَمَّى ،
إذْ الْمَفْهُومُ مِنْ الْحَدِّ وَالِاسْمِ هُوَ الْمَحْدُودُ وَالْمُسَمَّى كَمَا أَنَّ " الْمَاهِيَّةَ " هِيَ الْمَقُولَةُ فِي جَوَابِ مَا هُوَ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِأَنَّهَا جَوَابُ مَا يُقَالُ فِي السُّؤَالِ بِصِيغَةِ مَا هُوَ فَتَكُونُ الْمَاهِيَّةُ هِيَ الْحَدَّ وَهِيَ ذَاتُ الشَّيْءِ أَيْضًا وَهَذِهِ الْمَصَادِرُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ الْجُمَلِ الِاسْتِفْهاميّةِ مُوَلَّدَةٌ مِثْلَ الْمَاهِيَّةِ وَالْمَائِيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْحَيْثِيَّةِ والأينية واللمية بِمَنْزِلَةِ الْمَصَادِرِ مِنْ الْجُمَلِ الْخَبَرِيَّةِ كَالْحَوْقَلَةِ والقلحدة وَالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالُوا : " الْمَاهِيَّةُ " مُرَكَّبَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَتَكَلَّمُوا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ بِأَنَّ " الذَّاتِيَّةَ " هِيَ الَّتِي يَمْتَنِعُ تَصَوُّرُ الْمَوْصُوفِ إلَّا بِتَصَوُّرِهَا فَالذَّاتُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَيْهَا فِي الْوُجُودِ وَالذِّهْنِ كَالتَّجْسِيمِ لِلْحَيَوَانِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ " الْعَرَضِيُّ " . ثُمَّ هُوَ يَنْقَسِمُ : إلَى لَازِمٍ وَعَارِضٍ مُفَارِقٍ ؛ وَاللَّازِمُ : إمَّا لَازِمٌ لِلْمَاهِيَّةِ كَالزَّوْجِيَّةِ لِلْأَرْبَعَةِ وَالْفَرْدِيَّةِ لِلثَّلَاثَةِ وَإِمَّا لَازِمٌ لِوُجُودِهَا دُونَ مَاهِيَّتِهَا كَالسَّوَادِ لِلْقَارِ وَالْحُدُوثِ لِلْحَيَوَانِ . وَالْعَارِضُ الْمُفَارِقُ إمَّا بَطِيءُ الزَّوَالِ كَالشَّبَابِ وَالْمَشِيبِ وَإِمَّا سَرِيعُ الزَّوَالِ كَحُمْرَةِ الْخَجَلِ وَصُفْرَةِ الْوَجَلِ وَالْمُشْكِلُ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَاللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ ؛ فَإِنَّ كِلَاهُمَا لَا يُفَارِقُ الذَّاتَ لَا فِي الْوُجُودِ الْعَيْنِيِّ وَلَا الذِّهْنِيِّ
فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الذَّاتِيَّ يَسْبِقُ تَصَوُّرُهُ تَصَوُّرَ الْمَاهِيَّةِ بِحَيْثُ لَا تُفْهَمُ الذَّاتُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ لَازِمِ الْمَاهِيَّةِ . ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ : إمَّا أَنْ يَشْتَرِكَ فِيهِ الْجِنْسُ وَهُوَ الْجِنْسُ الْعَامُّ وَالْعَرَضُ الْعَامُّ وَإِمَّا يَنْفَرِدَ بِهِ نَوْعٌ وَهُوَ الْفَصْلُ وَالْخَاصَّةُ وَإِمَّا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُمَيَّزِ وَهُوَ النَّوْعُ فَهَذِهِ " الْكُلِّيَّاتُ الْخَمْسُ " الْجِنْسُ وَالْفَصْلُ وَالنَّوْعُ وَالْخَاصَّةُ وَالْعَرَضُ الْعَامُّ . فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَأَقْسَامِهَا غَالِبُ مَنْفَعَتِهِ فِي الْحُدُودِ وَالْحَقَائِقِ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْوَالٍ إذَا سَلِمَتْ لَزِمَ عَنْهَا لِذَاتِهَا قَوْلٌ آخَرُ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَ " الْمُقَدِّمَةُ " هِيَ الْقَضِيَّةُ وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ مُفْرَدَيْنِ فَكَانَ الْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثِ مَرَاتِبَ : ( الْأُولَى ) الْكَلَامُ فِي الْمُفْرَدَاتِ أَلْفَاظُهَا وَمَعَانِيهَا لِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ وَالْمُتَوَاطِئَةِ وَالْمُفْرَدَةِ وَالْمُرَكَّبَةِ وَالْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ . وَ " الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ " الْكَلَامُ فِي الْقَضَايَا وَأَقْسَامِهَا : مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْإِيجَابِ وَالسَّلْبِ وَجِهَاتِ الْقَضَايَا وَفِي أَحْكَامِ الْقَضَايَا : مِثْلَ كَذِبِ النَّقِيضِ وَصِدْقِ الْعَكْسِ وَعَكْسِ النَّقِيضِ .
وَ " الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ " : الْكَلَامُ فِي الْقِيَاسِ وَضُرُوبِهِ وَشُرُوطِ نِتَاجِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّةٍ عَامَّةٍ إيجَابِيَّةٍ وَأَنَّ النِّتَاجَ لَا يَحْصُلُ عَنْ سَالِبَتَيْنِ وَلَا خَاصِّيَّتَيْنِ جُزْئِيَّتَيْنِ وَلَا سَالِبَةٍ صُغْرَى وَجُزْئِيَّةٍ كُبْرَى بَلْ إمَّا مُوجَبَتَانِ فِيهِمَا كُلِّيَّةٌ وَإِمَّا صُغْرَى سَالِبَةٌ وَكُبْرَى جُزْئِيَّةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ صُوَرِ الْقِيَاسِ وَأَنْوَاعِهِ الَّتِي تَتَبَيَّنُ بِبُرْهَانِ الْخَلْفِ الْمَرْدُودِ إلَى حُكْمِ نَقِيضِ الْقَضِيَّةِ أَوْ بِالرَّدِّ إلَى عَكْسِ الْقَضِيَّةِ أَوْ عَكْسِ نَقِيضِهَا .
ثُمَّ بَيَّنُوا بَعْدَ ذَلِكَ مَوَادَّ الْقِيَاسِ فَقَسَّمُوهُ : إلَى " بُرْهَانِيٍّ " وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ يَقِينِيَّةً وَحَصَرُوا الْيَقِينِيَّاتِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحِسِّيَّاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَالْبَدِيهِيَّاتِ والمتواترات وَالْمُجَرَّبَاتِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْحَدْسِيَّاتِ . وَإِلَى " خَطَابِيٍّ " : وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مَشْهُورَةً يَقِينِيَّةً أَوْ غَيْرَ يَقِينِيَّةٍ . وَإِلَى " جَدَلِيٍّ " : وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مُسَلَّمَةً مِنْ الْمُنَازِعِ يَقِينِيَّةً أَوْ مَشْهُورَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . وَإِلَى " شعري " : وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مَشْعُورًا بِهَا غَيْرَ مُعْتَقَدَةٍ كَالْمُفْرِحَةِ وَالْمُحْزِنَةِ وَالْمُضْحِكَةِ . وَإِلَى " مغلطي سُوفِسْطَائِيٍّ " وَهُوَ مَا كَانَتْ مَوَادُّهُ مُمَوَّهَةً بِشُبَهِ الْحَقِّ .
فَصْلٌ :
النَّاسُ فِي مُسَمَّى الْقِيَاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّمْثِيلِ مَجَازٌ فِي الشُّمُولِ وَهُوَ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ .وَالثَّانِي : الْعَكْسُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْجُمْهُورِ يَنْقَسِمُ إلَى : عَقْلِيٍّ وَهُوَ مَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالْعَقْلِ وَإِلَى شَرْعِيٍّ وَهُوَ مَا لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَصْلٍ مَعْلُومٍ بِالشَّرْعِ . وَكُلٌّ مِنْ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ وَكُلُّ مَا يُسَمَّى قِيَاسًا يَنْقَسِمُ : إلَى قِيَاسِ تَمْثِيلٍ وَقِيَاسِ شُمُولٍ . فَالْأَوَّلُ إلْحَاقُ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ وَالثَّانِي إدْخَالُ الشَّيْءِ تَحْتَ حُكْمِ الْمَعْنَى الْعَامِّ الَّذِي يَشْمَلُهُ ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَّصِلٌ بِالْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ مِنْ مَعْنًى مُشْتَرَكٍ يَكُونُ شَامِلًا لَهُمَا وَلَا بُدَّ فِي الْمَعْنَى الشَّامِلِ لِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ تَسْوِيَةِ أَحَدِ الِاثْنَيْنِ بِالْآخَرِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَالْقِيَاسُ ثَابِتٌ فِيهِمَا وَهُوَ التَّقْدِيرُ وَالِاعْتِبَارُ وَالْحُسْبَانُ .
فَصْلٌ :
الْفَسَادُ فِي الْمَنْطِقِ : فِي الْبُرْهَانِ وَفِي الْحَدِّ .
أَمَّا " الْبُرْهَانُ " فَصُورَتُهُ صُورَةٌ صَحِيحَةٌ وَإِذَا كَانَتْ مَوَادُّهُ صَحِيحَةً فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يُفِيدُ عِلْمًا صَحِيحًا لَكِنَّ الْخَطَأَ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَصْرَ مَوَادِّهِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ فَأَصَابُوا فِيمَا أَثْبَتُوهُ دُونَ مَا نَفَوْهُ فَمِنْ أَيْنَ يُحْكَمُ بِأَنَّهُ لَا يَقِينَ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنْ رَجَعَ فِيهِ الْإِنْسَانُ إلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ نَفْسِهِ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَنَّ سَائِرَ النَّوْعِ حَتَّى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ يَقِينٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ ثُمَّ الْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ يُفِيدُ الْعِلْمَ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِقَلْبِ بَشَرٍ عِلْمٌ إلَّا بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْمَوْصُوفِ بَلْ قَدْ رَأَيْنَا عُلُومًا كَثِيرَةً هِيَ لِقَوْمِ ضَرُورِيَّةٌ أَوْ حِسِّيَّةٌ وَلِآخَرِينَ نَظَرِيَّةٌ قِيَاسِيَّةٌ فَلِهَذَا كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَهُوَ مَا حَصَلَ مِنْ الْعُلُومِ بِغَيْرِ هَذِهِ الْمَوَادِّ الْمَحْصُورَةِ أَوْ بِغَيْرِ قِيَاسٍ أَصْلًا بَلْ زَعَمَ أَفْضَلُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ أَنَّ عُلُومَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ لَا تَحْصُلُ إلَّا
بِوَاسِطَةِ الْقِيَاسِ وَكَلَامُهُمْ يَقْتَضِي أَنَّ عِلْمَ الرَّبِّ كَذَلِكَ وَلَا دَلِيلَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ أَصْلًا سِوَى مَحْضِ قِيَاسِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ عَلَى نَفْسِهِ وَقِيَاسِ الرَّبِّ وَالْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ . فَهَذَا مَوْضِعٌ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَيَقَّنَهُ وَيَعْلَمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَغَيْرَهُمْ إنَّمَا ضَلُّوا غَالِبًا مِنْ جِهَةِ مَا نَفَوْهُ وَكَذَّبُوا بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ مَا أَثْبَتُوهُ وَعَلِمُوهُ وَلِهَذَا كَانَ الْمَنْطِقُ مَظِنَّةَ الزَّنْدَقَةِ لِمَنْ لَمْ يَقْوَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إلَّا بِهَذِهِ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ وَذَلِكَ مَفْقُودٌ عِنْدَهُ فِي غَالِبِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فَيَشُكُّ فِي ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُ بِهِ أَوْ يُعْرِضُ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ فَيَكُونُ عَدَمُ إيمَانِهِ وَعِلْمِهِ مِنْ اعْتِقَادِهِ الْفَاسِدِ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْمَوَادِّ الْمُعَيَّنَةِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَلْبَتَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُفِيدَةً لِلْعِلْمِ فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ كَوْنِهَا تُفِيدُهُ وَبَيْنَ كَوْنِهَا تُفِيدُهُ وَلَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى عِلْمٍ كُلِّيٍّ وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَةٍ كُلِّيَّةٍ إيجَابِيَّةٍ وَالْكُلِّيُّ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الْكُلِّيُّ . فَجَمِيعُ الْحَقَائِقِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا الْقِيَاسُ بِأَعْيَانِهَا وَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِهِ - إنْ عُلِمَ - صِفَةٌ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَلَا يُعْلَمُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ خَوَاصِّ الرُّبُوبِيَّةِ أَلْبَتَّةَ وَلَا شَيْءٌ مِنْ خَوَاصِّ مَلَكٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا وَلِيٍّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ بَلْ وَلَا مَلِكٍ مِنْ الْمُلُوكِ وَلَا أَحَدٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الْعُلْوِيَّةِ وَلَا السُّفْلِيَّةِ ؛ فَإِذًا الْعِلْمُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا أَوْ حَاصِلًا
بِغَيْرِ الْقِيَاسِ وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ وَاقِعٌ فَإِنَّهُ مُنْتَفٍ عِنْدَهُمْ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُمْ غَيْرُ الْقِيَاسِ وَحَاصِلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ بَلْ حَاصِلُ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ جَمِيعِ أُولِي الْعِلْمِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَسَائِرِ الْآدَمِيِّينَ . وَ " أَيْضًا " فَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُقَدِّمَةٍ كُلِّيَّةٍ فَإِنْ كَانَتْ نَظَرِيَّةً افْتَقَرَتْ إلَى أُخْرَى وَإِنْ كَانَتْ بَدِيهِيَّةً فَإِذَا جَازَ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهَا بَدِيهَةً فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَحْصُلَ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ وَهُوَ أَسْهَلُ .
وَأَمَّا " الْحَدُّ " فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ :
أَحَدُهَا : دَعْوَاهُمْ أَنَّ التَّصَوُّرَاتِ النَّظَرِيَّةَ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالْحَدِّ الَّذِي ذَكَرُوهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي أَنَّ التَّصْدِيقَاتِ النَّظَرِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْبُرْهَانِ الَّذِي حَصَرُوا مَوَادَّهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَنَّ الْحَادَّ إنْ عَرَفَ الْمَحْدُودَ بِحَدِّ غَيْرِهِ فَقَدْ لَزِمَ الدَّوْرُ أَوْ التَّسَلْسُلُ وَإِنْ عَرَفَهُ بِغَيْرِ حَدٍّ بَطَلَ الْمُدَّعَى فَإِنْ قِيلَ : بَلْ عَرَفَهُ بِالْحَدِّ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ كَمَا عَرَفَ التَّصْدِيقَ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ قِيلَ : الْبُرْهَانُ مُبَايِنٌ لِلنَّتِيجَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بالمقدمتين لَيْسَ هُوَ عَيْنَ الْعِلْمِ بِالنَّتِيجَةِ وَأَمَّا الْحَدُّ الْمُنْعَقِدُ فِي النَّفْسِ فَهُوَ نَفْسُ الْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَأَيْنَ الْحَدُّ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ بِالْمَحْدُودِ وَهَذَا أَحَدُ مَا يُبَيِّنُ .
الْمَوْضِعُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ إنَّ الْحَدَّ لَا تُعْرَفُ بِهِ مَاهِيَّةُ الْمَحْدُودِ بِحَالِ بِخِلَافِ الْبُرْهَانِ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَادِّ ؛ فَلِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَحُدَّهُ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ حَدُّهُ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ أَنْ يُطَابِقَهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَلَوْلَا مَعْرِفَتُهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَحُدَّهُ لَمْ تَصِحَّ مَعْرِفَتُهُ بِالْمُطَابَقَةِ وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَمِعِ فَلِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ بَدِيهِيَّةً وَلَمْ يُقِمْ الْحَادُّ عَلَيْهِ دَلِيلًا امْتَنَعَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ عِلْمٌ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الْحَادِّ الْمُتَكَلِّمِ بِالْحَدِّ ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ الْمُسْتَمِعَ يُعَارِضُ الْحَدَّ وَيُنَاقِضُهُ فِي طَرْدِهِ وَعَكْسِهِ وَلَوْلَا تَصَوُّرُهُ الْمَحْدُودَ بِدُونِ الْحَدِّ لَامْتَنَعَتْ الْمُعَارَضَةُ وَالْمُنَاقَضَةُ . وَإِنَّمَا فَائِدَةُ الْحَدِّ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ لَا تَصْوِيرُهُ ؛ وَهُوَ مُطَابِقٌ لِاسْمِ الْحَدِّ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ الْفَاصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَتَصَوَّرُ مَاهِيَّةَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا . مِثْلُ مَنْ يَتَصَوَّرُ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ وَالْعِلْمَ فَيَتَصَوَّرُهُ مُطْلَقًا لَا عَامًّا ؛ فَالْحَدُّ يُمَيِّزُ الْعَامَّ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ خَبَرٍ وَعِلْمٍ وَأَمْرٍ . وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ الَّذِي يُتَصَوَّرُ بِالْبَدِيهَةِ مِنْ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ غَيْرُ الْمَطْلُوبِ بِالْحَدِّ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ الْعَامَّةُ ؛ ثُمَّ التَّمْيِيزُ لِلْأَسْمَاءِ تَارَةً وَلِلصِّفَاتِ أُخْرَى فَالْحَدُّ إمَّا بِحَسَبِ الِاسْمِ وَهُوَ الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ كُلِّ عَالِمٍ وَإِمَّا بِحَسَبِ الْوَصْفِ وَهُوَ تَفْهِيمُ الْحَقِيقَةِ الَّتِي عُرِفَتْ صِفَتُهَا وَهَذَا يَحْصُلُ بِالرَّسْمِ وَالْخَوَاصِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ لِلْمَاهِيَّةِ بِحَيْثُ يَدَّعِي
أَنَّ هَذَا لَا تُفْهَمُ الْمَاهِيَّةُ بِدُونِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ إذَا رَجَعَ إلَى ذِهْنِهِ لَمْ يَجِدْ أَحَدَهُمَا سَابِقًا وَالْآخَرَ لَاحِقًا ثُمَّ إذَا كَانَ الْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الذَّاتِيِّ إلَى تَصَوُّرِ الذَّاتِ وَالْمَرْجِعُ فِي تَصَوُّرِهَا إلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِيِّ كَانَ دَوْرًا ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ الْمَاهِيَّةَ إلَّا بِالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَلَا نَعْرِفُ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ حَتَّى نَتَصَوَّرَ الذَّاتَ ؛ فَإِنَّ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةَ مَا تَقِفُ مَعْرِفَةُ الذَّاتِ عَلَيْهَا فَلَا تُعْرَفُ الذَّاتِيَّةُ . إلَّا بِأَنْ نَعْرِفَ أَنَّ فَهْمَ الذَّاتِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا فَلَا تُرِيدُ أَنْ تَفْهَمَ الذَّاتَ حَتَّى تَعْرِفَ الذَّاتِيَّةَ وَبَسْطُ هَذَا كَثِيرٌ . ( الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ ) : دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْمَاهِيَّاتِ مُرَكَّبَةٌ وَلَا تَرْكِيبَ فِي الذِّهْنِ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
قَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ مُلَخَّصَ " الْمَنْطِقِ " الْمُعَرَّبِ الَّذِي بَلَّغَتْهُ الْعَرَبُ عَنْ الْيُونَانِيِّينَ وَعَرَّبَتْهُ لَفْظًا وَمَعْنًى فَإِنَّهَا أَحْسَنَتْ أَلْفَاظَهُ وَحَرَّرَتْ مَعَانِيَهُ وَهُوَ الْمَنْسُوبُ إلَى أَرِسْطُو الْيُونَانِيِّ الَّذِي يُسَمِّيهِ أَتْبَاعُهُ مِنْ الصَّابِئِينَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُبْتَدِعِينَ " الْمُعَلِّمَ الْأَوَّلَ " لِأَنَّهُ وَضَعَ التَّعَالِيمَ الَّتِي يَتَعَلَّمُونَهَا مِنْ الْمَنْطِقِ وَالطَّبِيعِيِّ وَمَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ . فَإِنَّ هَذِهِ التَّعَالِيمَ لَمَّا اتَّصَلَتْ بِالْمُسْلِمِينَ وَعُرِّبَتْ كُتُبُهَا مَعَ مَا عُرِّبَ مِنْ كُتُبِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْهَيْئَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ انْتِشَارُ تَعْرِيبِهَا فِي دَوْلَةِ الْخَلِيفَةِ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمُلَقَّبِ بِالْمَأْمُونِ أَخَذَهَا الْمُسْلِمُونَ فَحَرَّرُوهَا لَفْظًا وَمَعْنًى . لَكِنْ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ وَالضَّلَالِ شَيْءٌ كَثِيرٌ .
فَمِنْهُمْ مَنْ اتَّبَعَهَا مَعَ مَا يَنْتَحِلُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ وَهُمْ صَابِئَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَمَّوْنَ بِالْفَلَاسِفَةِ فَصَارُوا مُؤْمِنِينَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ دُونَ بَعْضٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ النَّسْخِ لَمَّا بَدَّلُوا بَعْضَ الْكُتُبِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقْصِدْ أَتْبَاعَهَا لَكِنْ تَلَقَّى عَنْهُمْ أَشْيَاءَ يَظُنُّ أَنَّهَا جَمِيعَهَا تُوَافِقُ الْإِسْلَامَ وَتَنْصُرُهُ وَكَثِيرٌ مِنْهَا تُخَالِفُهُ وَتَخْذُلُهُ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا قِيلَ هُمْ مَخَانِيثُ الْفَلَاسِفَةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا إعْرَاضًا مُجْمَلًا وَلَمْ يَتَّبِعْ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْإِسْلَامِ مَا يُغْنِي عَنْ كُلِّ حَقِّهَا وَيَدْفَعُ بَاطِلَهَا وَلَمْ يُجَاهِدْهُمْ الْجِهَادَ الْمَشْرُوعَ وَهَذِهِ حَالُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقَوَاعِدِ . وَذَكَرْت فِي تَلْخِيصِ جُمَلِ الْمَنْطِقِ مَا وَقَعَ مِنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بِسَبَبِهِ وَبَعْضَ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الْخَلَلِ . وَهُنَا تَلْخِيصُ ذَلِكَ فَأَقُولُ : مَقْصُودُ الْكَلَامِ فِي طُرُقِ الْعِلْمِ بِالتَّصَوُّرَاتِ وَالتَّصْدِيقَاتِ ( فَالْأَوَّلُ ) كَالْحَدِّ وَالرَّسْمِ وَ ( الثَّانِي ) كَالْقِيَاسِ بِأَنْوَاعِهِ مِنْ الْبُرْهَانِ وَغَيْرِهِ وَكَالتَّمْثِيلِ وَالِاسْتِقْرَاءِ . وَقَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ لَا يُنَالُ إلَّا بِجِنْسِ الْحَدِّ
وَالْمَطْلُوبَ مِنْ التَّصْدِيقَاتِ لَا يُنَالُ إلَّا بِجِنْسِ الْقِيَاسِ وَقَدْ يُسَمَّى جِنْسُ الْقِيَاسِ بِالنِّسْبَةِ كَمَا يُسَمَّى جِنْسُ الْقَوْلِ الشَّارِحِ حَدًّا وَأَمَّا الْبَدِيهِيُّ مِنْ النَّوْعَيْنِ فَمُسْتَغْنٍ عَنْ الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ فَتَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ أَنَّ الْحُدُودَ تُفِيدُ تَصْوِيرَ الْحَقَائِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهَا وَأَنَّ الْقِيَاسَ يُفِيدُ التَّصْدِيقَ بِالْحَقَائِقِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ وَفِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَقَعَ الْخَطَأُ . أَمَّا فِي الْحَدِّ فَفِي كِلَا الْقَضِيَّتَيْنِ السَّلْبُ وَالْإِيجَابُ فِيمَا أَثْبَتُوهُ وَفِيمَا نَفَوْهُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّ الْحَدَّ لَا يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْحَقَائِقِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ وَتَصَوُّرُ الْحَقَائِقِ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْحَدِّ الَّذِي هُوَ كَلَامُ الْحَادِّ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إدْرَاكِهَا بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَإِذَا لَمْ تُدْرَكْ ضُرِبَ الْمَثَلُ لَهَا فَيَحْصُلُ بِالْمِثَالِ الَّذِي هُوَ قِيَاسُ التَّصْوِيرِ - لَا قِيَاسُ التَّصْدِيقِ - نَوْعٌ مِنْ الْإِدْرَاكِ كَإِدْرَاكِنَا لِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ تَارَةً تَكُونُ لِلتَّصْوِيرِ وَتَارَةً تَكُونُ لِلتَّصْدِيقِ وَهَذَا الْوَجْهُ مُقَرَّرٌ بِوُجُوهِ مُتَعَدِّدَةٍ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا تَلْخِيصُ الْمَقْصُودِ .
وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ النَّفْيُ فَإِنَّ إدْرَاكَ الْحَقَائِقِ الْمُتَصَوَّرَةِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْحَدِّ لَوْ فُرِضَ أَنَّهَا تُعْرَفُ بِالْحَدِّ بَلْ تَحْصُلُ بِأَسْبَابِ الْإِدْرَاكِ الْمَعْرُوفَةِ
وَقَدْ تَحْصُلُ مِنْ الْكَلَامِ بِالْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ كَمَا تَحْصُلُ بِالْحَدِّ وَرُبَّمَا كَانَ الِاسْمُ فِيهَا أَنْفَعَ مِنْ الْحَدِّ وَهَذَا أَيْضًا مُقَرَّرٌ . وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يُفِيدُ التَّصْدِيقَ إذَا صَحَّتْ مُقَدِّمَاتُهُ وَتَأْلِيفُهَا ؛ لَكِنَّ الْخَطَأَ فِيهِ مِنْ النَّفْيِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَيْضًا . ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ التصديقي فِي النَّفْسِ لَيْسَ مَوْقُوفًا عَلَى الْقِيَاسِ بَلْ يَحْصُلُ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ . ( الثَّانِي ) أَنَّ الْقِيَاسَ الْبُرْهَانِيَّ لَيْسَتْ مَوَادُّهُ مُنْحَصِرَةً فِيمَا ذَكَرُوهُ فِي الْحِسِّيَّاتِ والوجديات وَالْبَدِيهِيَّاتِ وَالنَّظَرِيَّاتِ والمتواترات والتجريبيات وَالْحَدْسِيَّاتِ كَمَا بَيَّنْت هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ :
عَنْ " كُتُبِ الْمَنْطِقِ " .
فَأَجَابَ :
أَمَّا " كُتُبُ الْمَنْطِقِ " فَتِلْكَ لَا تَشْتَمِلُ عَلَى عِلْمٍ يُؤْمَرُ بِهِ شَرْعًا وَإِنْ كَانَ قَدْ أَدَّى اجْتِهَادُ بَعْضِ النَّاسِ إلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ الْعُلُومَ لَا تَقُومُ إلَّا بِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ فَهَذَا غَلَطٌ عَظِيمٌ عَقْلًا وَشَرْعًا . أَمَّا " عَقْلًا " فَإِنَّ جَمِيعَ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ حَرَّرُوا عُلُومَهُمْ بِدُونِ الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ . وَأَمَّا " شَرْعًا " فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُوجِبْ تَعَلُّمَ هَذَا الْمَنْطِقِ الْيُونَانِيِّ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ . وَأَمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ فَبَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ وَالْحَقُّ الَّذِي فِيهِ كَثِيرٌ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرُهُ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَالْقَدْرُ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْهُ فَأَكْثَرُ الْفِطَرِ السَّلِيمَةِ تَسْتَقِلُّ بِهِ وَالْبَلِيدُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَالذَّكِيُّ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَمَضَرَّتُهُ عَلَى
مَنْ لَمْ يَكُنْ خَبِيرًا بِعُلُومِ الْأَنْبِيَاءِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ مِنْ الْقَوَاعِدِ السَّلْبِيَّةِ الْفَاسِدَةِ مَا رَاجَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَكَانَتْ سَبَبَ نِفَاقِهِمْ وَفَسَادِ عُلُومِهِمْ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ كَلَامٌ بَاطِلٌ بَلْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْحَدِّ وَالصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ وَأَقْسَامِ الْقِيَاسِ وَالْبُرْهَانِ وَمَوَادِّهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
عَنْ " الْعَقْلِ " الَّذِي لِلْإِنْسَانِ هَلْ هُوَ عَرَضٌ ؟ وَمَا هِيَ " الرُّوحُ " الْمُدَبِّرَةُ لِجَسَدِهِ ؟ هَلْ هِيَ النَّفْسُ ؟ وَهَلْ لَهَا كَيْفِيَّةٌ تُعْلَمُ ؟ وَهَلْ هِيَ عَرَضٌ أَوْ جَوْهَرٌ ؟ وَهَلْ يُعْلَمُ مَسْكَنُهَا مِنْ الْجَسَدِ ؟ وَمَسْكَنُ الْعَقْلِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، " الْعَقْلُ " فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ أَمْرٌ يَقُومُ بِالْعَاقِلِ سَوَاءٌ سُمِّيَ عَرَضًا أَوْ صِفَةً لَيْسَ هُوَ عَيْنًا قَائِمَةً بِنَفْسِهَا سَوَاءٌ سُمِّيَ جَوْهَرًا أَوْ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . وَإِنَّمَا يُوجَدُ التَّعْبِيرُ بِاسْمِ " الْعَقْلِ " عَنْ الذَّاتِ الْعَاقِلَةِ الَّتِي هِيَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ فِي كَلَامِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الَّذِينَ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ وَيَدَّعُونَ ثُبُوتَ عُقُولٍ عَشَرَةٍ كَمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ مَنْ يَذْكُرُهُ مِنْ أَتْبَاعِ أَرِسْطُو أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ . وَمَنْ تَلَقَّى ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمِلَلِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ مَا يَذْكُرُونَهُ
مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ وَالْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ مِنْهُ إلَّا نَفْسُ الْإِنْسَانِ وَمَا يَقُومُ بِهَا مِنْ الْعُلُومِ وَتَوَابِعهَا ؛ فَإِنَّ أَصْلَ تَسْمِيَتِهِمْ لِهَذِهِ الْأُمُورِ مُفَارَقَاتٍ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مُفَارَقَةِ النَّفْسِ الْبَدَنَ بِالْمَوْتِ وَهَذَا أَمْرٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ نَفْسَ الْمَيِّتِ تُفَارِقُ بَدَنَهُ بِالْمَوْتِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا تَبْقَى بَعْدَ فِرَاقِ الْبَدَنِ بِالْمَوْتِ مُنَعَّمَةً أَوْ مُعَذَّبَةً وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ النَّفْسَ هِيَ الْحَيَاةُ الْقَائِمَةُ بِالْبَدَنِ . وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ كَالرِّيحِ الْمُتَرَدِّدَةِ فِي الْبَدَنِ أَوْ الْبُخَارِ الْخَارِجِ مِنْ الْقَلْبِ . فَفِي الْجُمْلَةِ النَّفْسُ الْمُفَارِقَةُ لِلْبَدَنِ بِالْمَوْتِ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَلَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْبَدَنِ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا . وَإِنَّمَا يَقُولُ هَذَا وَهَذَا مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الْمُحْدَثِ مِنْ أَتْبَاعِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ . وَالْفَلَاسِفَةُ الْمَشَّاءُونَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ النَّفْسَ تَبْقَى إذَا فَارَقَتْ الْبَدَنَ ؛ لَكِنْ يَصِفُونَ النَّفْسَ بِصِفَاتِ بَاطِلَةٍ فَيَدَّعُونَ أَنَّهَا إذَا فَارَقَتْ الْبَدَنَ كَانَتْ عَقْلًا . وَالْعَقْلُ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْمَادَّةِ وَعَلَائِقِ الْمَادَّةِ وَالْمَادَّةُ عِنْدَهُمْ هِيَ الْجِسْمُ وَقَدْ يَقُولُونَ : هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِالْهَيُولَى وَالْهَيُولَى فِي لُغَتِهِمْ هُوَ بِمَعْنَى الْمَحَلِّ . وَيَقُولُونَ : الْمَادَّةُ وَالصُّورَةُ .
وَالْعَقْلُ عِنْدَهُمْ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَا يُوصَفُ بِحَرَكَةِ وَلَا سُكُونٍ وَلَا تَتَجَدَّدُ لَهُ أَحْوَالٌ أَلْبَتَّةَ . فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ النَّفْسَ إذَا فَارَقَتْ الْبَدَنَ لَا يَتَجَدَّدُ لَهَا حَالٌ مِنْ الْأَحْوَالِ لَا عُلُومٌ وَلَا تَصَوُّرَاتٌ . وَلَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا إرَادَاتٌ . وَلَا فَرَحٌ وَسُرُورٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ بَلْ تَبْقَى عِنْدَهُمْ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ أَزَلًا وَأَبَدًا كَمَا يَزْعُمُونَهُ فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ النُّفُوسَ وَاحِدَةٌ بِالْعَيْنِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هِيَ مُتَعَدِّدَةٌ . وَفِي كَلَامِهِمْ مِنْ الْبَاطِلِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَوْضِعَ : فَهُمْ يُسَمُّونَ مَا اقْتَرَنَ بِالْمَادَّةِ الَّتِي هِيَ الْهَيُولَى وَهِيَ الْجِسْمُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَفْسًا كَنَفْسِ الْإِنْسَانِ الْمُدَبِّرَةِ لِبَدَنِهِ . وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْفَلَكِ نَفْسًا تُحَرِّكُهُ كَمَا لِلنَّاسِ نُفُوسٌ لَكِنْ كَانَ قُدَمَاؤُهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ نَفْسَ الْفَلَكِ عَرَضٌ قَائِمٌ بِالْفَلَكِ كَنُفُوسِ الْبَهَائِمِ وَكَمَا يَقُومُ بِالْإِنْسَانِ الشَّهْوَةُ وَالْغَضَبُ لَكِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ كَابْنِ سِينَا وَغَيْرِهِ زَعَمُوا أَنَّ النَّفْسَ الْفَلَكِيَّةَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ كَنَفْسِ الْإِنْسَانِ وَمَا دَامَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ مُدَبِّرَةً لِبَدَنِهِ سَمَّوْهَا نَفْسًا فَإِذَا فَارَقَتْ سَمَّوْهَا عَقْلًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْمَادَّةِ وَعَنْ عَلَائِقِ الْمَادَّةِ . وَأَمَّا النَّفْسُ فَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ .
وَأَصْلُ تَسْمِيَتِهِمْ هَذِهِ مُجَرَّدَاتٍ هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ يُجَرِّدُ الْأُمُورَ الْعَقْلِيَّةَ الْكُلِّيَّةَ عَنْ الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنَّهُ إذَا رَأَى أَفْرَادًا لِلْإِنْسَانِ كَزَيْدِ وَعَمْرٍو عَقَلَ قَدْرًا مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْأَنَاسِيِّ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُشْتَرِكَةِ الْمَعْقُولَةِ فِي قَلْبِهِ . وَإِذَا رَأَى الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ وَبَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَفْرَادِ الْحَيَوَانِ عَقَلَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا كُلِّيًّا مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَهِيَ الْحَيَوَانِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ الْمَعْقُولَةُ . وَإِذَا رَأَى مَعَ ذَلِكَ الْحَيَوَانَ وَالشَّجَرَ وَالنَّبَاتَ عَقَلَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرِكًا كُلِّيًّا وَهُوَ الْجِسْمُ النَّامِي الْمُغْتَذِي وَقَدْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ النَّفْسَ النَّبَاتِيَّةَ.
وَإِذَا رَأَى مَعَ ذَلِكَ سَائِرَ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ الْفَلَكِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ الْعُنْصُرِيَّةِ عَقَلَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرِكًا كُلِّيًّا هُوَ الْجِسْمُ الْعَامُّ الْمُطْلَقُ وَإِذَا رَأَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ عَقَلَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرًا مُشْتَرَكًا كُلِّيًّا وَهُوَ الْوُجُودُ الْعَامُّ الْكُلِّيُّ الَّذِي يَنْقَسِمُ إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَهَذَا الْوُجُودُ هُوَ عِنْدَهُمْ مَوْضُوعُ " الْعِلْمِ الْأَعْلَى " النَّاظِرِ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ وَهِيَ " الْفَلْسَفَةُ الْأُولَى " وَ " الْحِكْمَةُ الْعُلْيَا " عِنْدَهُمْ . وَهُمْ يُقَسِّمُونَ الْوُجُودَ : إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ وَالْأَعْرَاضُ يَجْعَلُونَهَا " تِسْعَةَ أَنْوَاعٍ " هَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ يَجْعَلُونَ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمَنْطِقِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ الْمُفْرَدَاتِ الَّتِي تَنْتَهِي إلَيْهَا الْحُدُودُ الْمُؤَلَّفَةُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِمَّنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ كَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا ابْنُ سِينَا وَأَتْبَاعُهُ فَقَالُوا : " الْكَلَامُ فِي هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِالْمَنْطِقِ "
فَأَخْرَجُوهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ ابْنِ سِينَا كَأَبِي حَامِدٍ وَالسُّهْرَوَرْدِي الْمَقْتُولِ وَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرِهِمْ . وَهَذِهِ هِيَ " الْمَقُولَاتُ الْعَشْرُ " الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِقَوْلِهِمْ : الْجَوْهَرُ . وَالْكَمُّ . وَالْكَيْفُ . وَالْأَيْنُ . وَمَتَى وَالْإِضَافَةُ وَالْوَضْعُ وَالْمِلْكُ وَأَنْ يَفْعَلَ وَأَنْ يَنْفَعِلَ وَقَدْ جُمِعَتْ فِي بَيْتَيْنِ وَهِيَ :
زَيْدُ الطَّوِيلُ الْأَسْوَدُ ابْنُ مَالِكِ * * * فِي دَارِهِ بِالْأَمْسِ كَانَ متكي
فِي يَدِهِ سَيْفٌ نَضَاهُ فانتضا * * * فَهَذِهِ عَشْرُ مَقُولَاتٍ سوا
وَأَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَغَيْرِ أَتْبَاعِهِ أَنْكَرُوا حَصْرَ الْأَعْرَاضِ فِي تِسْعَةِ أَجْنَاسٍ وَقَالُوا : إنَّ هَذَا لَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ . وَيُثْبِتُونَ إمْكَانَ رَدِّهَا إلَى ثَلَاثَةٍ وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْدَادِ . وَجَعَلُوا الْجَوَاهِرَ " خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ " : الْجِسْمَ وَالْعَقْلَ وَالنَّفْسَ وَالْمَادَّةَ وَالصُّورَةَ . فَالْجِسْمُ جَوْهَرٌ حِسِّيٌّ وَالْبَاقِيَةُ جَوَاهِرُ عَقْلِيَّةٌ ؛ لَكِنْ مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى إثْبَاتِ الْجَوَاهِرِ الْعَقْلِيَّةِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . وَهَذِهِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا " الْمُجَرَّدَاتِ الْعَقْلِيَّةَ " وَيَقُولُونَ : الْجَوَاهِرُ تَنْقَسِمُ إلَى مَادِّيَّاتٍ وَمُجَرَّدَاتٍ فَالْمَادِّيَّاتُ الْقَائِمَةُ بِالْمَادَّةِ وَهِيَ الْهَيُولَى وَهِيَ الْجِسْمُ وَالْمُجَرَّدَاتُ هِيَ الْمُجَرَّدَاتُ عَنْ الْمَادَّةِ وَهَذِهِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمُجَرَّدَاتِ أَصْلُهَا هِيَ هَذِهِ الْأُمُورُ
الْكُلِّيَّةُ الْمَعْقُولَةُ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ كَمَا أَنَّ الْمُفَارَقَاتِ أَصْلُهَا مُفَارَقَةُ النَّفْسِ الْبَدَنَ وَهَذَانِ أَمْرَانِ لَا يُنْكَرَانِ ؛ لَكِنْ ادَّعَوْا فِي صِفَاتِ النَّفْسِ وَأَحْوَالِهَا أُمُورًا بَاطِلَةً وَادَّعَوْا أَيْضًا ثُبُوتَ جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِأَنْفُسِهَا وَيَقُولُونَ فِيهَا : الْعَاقِلُ وَالْمَعْقُولُ وَالْعَقْلُ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَمَا يَقُولُونَ : مِثْلَ ذَلِكَ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ . فَيَقُولُونَ : هُوَ عَاقِلٌ وَمَعْقُولٌ وعقل وَعَاشِقٌ وَمَعْشُوقٌ وعشق وَلَذِيذٌ وَمُلْتَذٌّ وَلَذَّةٌ . وَيَجْعَلُونَ الصِّفَةَ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَيَجْعَلُونَ كُلَّ صِفَةٍ هِيَ الْأُخْرَى فَيَجْعَلُونَ نَفْسَ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ نَفْسَ الْعَاقِلِ الْعَالِمِ وَنَفْسَ الْعِشْقِ الَّذِي هُوَ الْحُبُّ نَفْسَ الْعَاشِقِ الْمُحِبِّ وَنَفْسَ اللَّذَّةِ هِيَ نَفْسُ الْعِلْمِ وَنَفْسُ الْحُبِّ وَيَجْعَلُونَ الْقُدْرَةَ وَالْإِرَادَةَ هِيَ نَفْسَ الْعِلْمِ فَيَجْعَلُونَ الْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةَ وَهُوَ الْإِرَادَةَ وَهُوَ الْمَحَبَّةَ وَهُوَ اللَّذَّةَ وَيَجْعَلُونَ الْعَالِمَ الْمُرِيدَ الْمُحِبَّ الْمُلْتَذَّ هُوَ نَفْسَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْإِرَادَةِ وَهُوَ نَفْسُ الْمَحَبَّةِ وَهُوَ نَفْسُ اللَّذَّةِ فَيَجْعَلُونَ الْحَقَائِقَ الْمُتَنَوِّعَةَ شَيْئًا وَاحِدًا وَيَجْعَلُونَ نَفْسَ الصِّفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ هِيَ نَفْسَ الذَّاتِ الْمَوْصُوفَةِ ثُمَّ يَتَنَاقَضُونَ فَيُثْبِتُونَ لَهُ عِلْمًا لَيْسَ هُوَ نَفْسَ ذَاتِهِ كَمَا تَنَاقَضَ ابْنُ سِينَا فِي إشَارَاتِهِ . وَغَيْرُهُ مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ وَبَسْطُ الْكَلَامِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِمَوْضِعِ آخَرَ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ بِلَفْظِ الْعَقْلِ عَنْ جَوْهَرٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ وَيُثْبِتُونَ جَوَاهِرَ عَقْلِيَّةً يُسَمُّونَهَا الْمُجَرَّدَاتِ وَالْمُفَارَقَاتِ لِلْمَادَّةِ وَإِذَا حُقِّقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ غَيْرُ نَفْسِ الْإِنْسَانِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا النَّاطِقَةَ وَغَيْرُ مَا يَقُومُ بِهَا مِنْ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى عَقْلًا .
وَكَانَ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ يُسَمُّونَ " الرَّبَّ " عَقْلًا وَجَوْهَرًا . وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا سِوَى نَفْسِهِ وَلَا يُرِيدُ شَيْئًا وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَيُسَمُّونَهُ " الْمَبْدَأَ " وَ " الْعِلَّةَ الْأُولَى " لِأَنَّ الْفَلَكَ عِنْدَهُمْ مُتَحَرِّكٌ لِلتَّشَبُّهِ بِهِ أَوْ مُتَحَرِّكٌ لِلشَّبَهِ بِالْعَقْلِ فَحَاجَةُ الْفَلَكِ عِنْدَهُمْ إلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُتَشَبِّهٌ بِهَا كَمَا يَتَشَبَّهُ الْمُؤْتَمُّ بِالْإِمَامِ وَالتِّلْمِيذُ بِالْأُسْتَاذِ . وَقَدْ يَقُولُ : إنَّهُ يُحَرِّكُهُ كَمَا يُحَرِّكُ الْمَعْشُوقُ عَاشِقَهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ أَبْدَعَ شَيْئًا وَلَا فَعَلَ شَيْئًا وَلَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ وَاجِبَ الْوُجُودِ وَلَا يُقَسِّمُونَ الْوُجُودَ إلَى وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ وَيَجْعَلُونَ الْمُمْكِنَ هُوَ مَوْجُودًا قَدِيمًا أَزَلِيًّا كَالْفَلَكِ عِنْدَهُمْ . وَإِنَّمَا هَذَا فِعْلُ ابْنِ سِينَا وَأَتْبَاعِهِ وَهُمْ خَالَفُوا فِي ذَلِكَ سَلَفَهُمْ وَجَمِيعَ الْعُقَلَاءِ وَخَالَفُوا أَنْفُسَهُمْ أَيْضًا فَتَنَاقَضُوا ؛ فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِمَا صَرَّحَ بِهِ سَلَفُهُمْ وَسَائِرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا وَأَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ . وَأَمَّا الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ فَيَمْتَنِعُ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ بَلْ كُلُّ مَا قَبِلَ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُحْدَثًا وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . لَكِنَّ ابْنَ سِينَا وَمُتَّبِعُوهُ تَنَاقَضُوا فَذَكَرُوا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْوُجُودَ يَنْقَسِمُ إلَى : وَاجِبٍ وَمُمْكِنٍ . وَأَنَّ الْمُمْكِنَ قَدْ يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَمْتَنِعُ
عَدَمُهُ وَيَقُولُونَ : هُوَ وَاجِبٌ بِغَيْرِهِ وَجَعَلُوا الْفَلَكَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ؛ فَخَرَجُوا عَنْ إجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ وَافَقُوهُمْ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ مُمْكِنٍ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَأَلَّا يُوجَدَ وَأَنَّهُ مَعَ هَذَا يَكُونُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا أَبَدِيًّا مُمْتَنِعَ الْعَدَمِ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ . وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ لِمَنْ تَصَوَّرَ حَقِيقَةَ الْمُمْكِنِ الَّذِي يَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ كَمَا بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ إنَّمَا تَسَلَّطُوا عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ . وَلَمْ يَحْتَجُّوا لِمَا نَصَرُوهُ بِحُجَجِ صَحِيحَةٍ فِي الْمَعْقُولِ . فَقَصَّرَ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي مَعْرِفَةِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ . ( حَتَّى قَالُوا : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ [ ثُمَّ حَدَثَ مَا حَدَثَ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَزَعَمُوا دَوَامَ امْتِنَاعِ كَوْنِ الرَّبِّ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ ] ثُمَّ حَدَثَ مَا حَدَثَ مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَزَعَمُوا دَوَامَ امْتِنَاعِ كَوْنِ الرَّبِّ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ فَعَّالًا لِمَا يَشَاءُ ؛ لِزَعْمِهِمْ امْتِنَاعَ دَوَامِ الْحَوَادِثِ ) (*) ثُمَّ صَارَ أَئِمَّتُهُمْ كَالْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ وَأَبِي الهذيل الْعَلَّافِ إلَى امْتِنَاعِ دَوَامِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي فَقَالَ الْجَهْمُ : بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَقَالَ أَبُو الهذيل : بِفَنَاءِ حَرَكَاتِهِمَا وَأَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ دَائِمًا فِي سُكُونٍ وَيَزْعُمُ بَعْضُ مَنْ سَلَكَ هَذِهِ السَّبِيلَ أَنَّ هَذَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَأَنَّ كُلَّ مَا لَهُ ابْتِدَاءٌ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ انْتِهَاءٌ . وَلَمَّا رَأَوْا الشَّرْعَ قَدْ جَاءَ بِدَوَامِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أُكُلُهَا
دَائِمٌ وَظِلُّهَا } وَقَالَ : { إنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ } ظَنُّوا أَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُ الشَّرْعِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ أَهْلُ الْعَقْلِ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْحُجَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ لَا تُنَاقِضُ الْحُجَّةَ الشَّرْعِيَّةَ الصَّحِيحَةَ بَلْ يَمْتَنِعُ تَعَارُضُ الْحُجَجِ الصَّحِيحَةِ سَوَاءً كَانَتْ عَقْلِيَّةً أَوْ سَمْعِيَّةً أَوْ سَمْعِيَّةً وَعَقْلِيَّةً . بَلْ إذَا تَعَارَضَتْ حُجَّتَانِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ إحْدَاهُمَا أَوْ فَسَادِهِمَا جَمِيعًا . وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إلَى جَوَازِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ الْمَاضِي وَذَكَرُوا فُرُوعًا عَرَفَ حُذَّاقُهُمْ ضَعْفَهَا كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَهُوَ لُزُومُهُمْ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ كَانَ غَيْرَ قَادِرٍ ثُمَّ صَارَ قَادِرًا مِنْ غَيْرِ تَجَدُّدِ سَبَبٍ يُوجِبُ كَوْنَهُ قَادِرًا وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ ثُمَّ صَارَ الْفِعْلُ مُمْكِنًا لَهُ بِدُونِ سَبَبٍ يُوجِبُ تَجَدُّدَ الْإِمْكَانِ . وَإِذَا ذُكِرَ لَهُمْ هَذَا قَالُوا : كَانَ فِي الْأَزَلِ قَادِرًا عَلَى مَا لَمْ يَزَلْ فَقِيلَ لَهُمْ : الْقَادِرُ لَا يَكُونُ قَادِرًا مَعَ كَوْنِ الْمَقْدُورِ مُمْتَنِعًا بَلْ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مُمْتَنِعَةً وَإِنَّمَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فَإِذَا كَانَ لَمْ يَزَلْ قَادِرًا فَلَمْ يَزَلْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ . وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ هَؤُلَاءِ هَذَا صَارُوا فِي كَلَامِ اللَّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
فِرْقَةٌ قَالَتْ : الْكَلَامُ لَا يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ بَلْ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ إلَّا مَخْلُوقًا ؛ لِأَنَّهُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالْقَدِيمُ لَا يَكُونُ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ
بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ كَانَ مَخْلُوقًا لَا يَقُومُ بِذَاتِهِ . إذْ لَوْ قَامَ بِذَاتِهِ كَانَتْ قَدْ قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ وَالْحَوَادِثُ لَا تَقُومُ بِهِ لِأَنَّهَا لَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ . قَالُوا : إذْ بِهَذَا الْأَصْلِ أَثْبَتْنَا حُدُوثَ الْأَجْسَامِ وَبِهِ ثَبَتَ حُدُوثُ الْعَالَمِ . قَالُوا : وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا لَمْ يَسْبِقْ الْحَادِثُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ إمَّا مَعَهُ وَإِمَّا بَعْدَهُ . وَمَا كَانَ مَعَ الْحَادِثِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ حَادِثٌ . وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَتَفَطَّنْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ نَوْعِ الْحَوَادِثِ وَبَيْنَ الْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْحَادِثَ الْمُعَيَّنَ وَالْحَوَادِثَ الْمَحْصُورَةَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ أَزَلِيَّةً دَائِمَةً وَمَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا فَهُوَ إمَّا مَعَهَا وَإِمَّا بَعْدَهَا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَادِثٌ قَطْعًا . وَهَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ . وَلَكِنَّ مَوْضِعَ النَّظَرِ وَالنِّزَاعِ " نَوْعُ الْحَوَادِثِ " . وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ النَّوْعُ دَائِمًا فَيَكُونُ الرَّبُّ لَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ أَوْ يَفْعَلُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ ؟ فَلَمَّا تَفَطَّنَ لِهَذَا الْفَرْقِ طَائِفَةٌ قَالُوا : وَهَذَا أَيْضًا مُمْتَنِعٌ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا وَذَكَرُوا عَلَى ذَلِكَ حُجَجًا كَحُجَّةِ التَّطْبِيقِ وَحُجَّةِ امْتِنَاعِ انْقِضَاءِ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . وَقَدْ ذَكَرَ عَامَّةَ مَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ . وَأُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَيَمْتَنِعُ كَوْنُ الرَّبِّ يَصِيرُ فَاعِلًا بَعْدَ
أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَأَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ يَمْتَنِعُ تَخَلُّفُ أَثَرِهِ عَنْهُ - ظَنُّوا أَنَّهُمْ إذَا أَبْطَلُوا هَذَا الْقَوْلَ فَقَدْ سَلِمَ لَهُمْ مَا ادَّعَوْهُ عَنْ " قِدَمِ الْعَالَمِ " كَالْأَفْلَاكِ وَجِنْسِ الْمُوَلَّدَاتِ وَمَوَادِّ الْعَنَاصِرِ وَضَلُّوا ضَلَالًا عَظِيمًا خَالَفُوا بِهِ صَرَائِحَ الْعُقُولِ وَكَذَّبُوا بِهِ كُلَّ رَسُولٍ . فَإِنَّ الرُّسُلَ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . لَيْسَ مَعَ اللَّهِ شَيْءٌ قَدِيمٌ بِقِدَمِهِ وَأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . وَالْعُقُولُ الصَّرِيحَةُ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَوَادِثَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ إلَّا الْعِلَّةُ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِمَعْلُولِهَا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَالَمِ شَيْءٌ مِنْ الْحَوَادِثِ . فَإِنَّ حُدُوثَ ذَلِكَ الْحَادِثِ عَنْ عِلَّةٍ قَدِيمَةٍ أَزَلِيَّةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِمَعْلُولِهَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مَعْلُولُهَا لَازِمًا لَهَا كَانَ قَدِيمًا مَعَهَا لَمْ يَتَأَخَّرْ عَنْهَا فَلَا يَكُونُ لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ سَبَبٌ اقْتَضَى حُدُوثَهُ فَتَكُونُ الْحَوَادِثُ كُلُّهَا حَدَثَتْ بِلَا مُحْدِثٍ وَهَؤُلَاءِ فَرُّوا مِنْ أَنْ يُحْدِثَهَا الْقَادِرُ بِغَيْرِ سَبَبٍ حَادِثٍ وَذَهَبُوا إلَى أَنَّهَا تَحْدُثُ بِغَيْرِ مُحْدِثٍ أَصْلًا لَا قَادِرٍ وَلَا غَيْرِ قَادِرٍ . فَكَانَ مَا فَرُّوا إلَيْهِ شَرًّا مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ وَكَانُوا شَرًّا مِنْ الْمُسْتَجِيرِ مِنْ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ . وَاعْتَقَدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ الْمَفْعُولَ الْمَصْنُوعَ الْمُبْتَدَعَ الْمُعَيَّنَ كَالْفَلَكِ يُقَارِنُ فَاعِلَهُ أَزَلًا وَأَبَدًا لَا يَتَقَدَّمُ الْفَاعِلُ عَلَيْهِ تَقَدُّمًا زَمَانِيًّا وَأُولَئِكَ قَالُوا : بَلْ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ يَتَرَاخَى عَنْهُ أَثَرُهُ ثُمَّ يَحْدُثُ الْأَثَرُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ اقْتَضَى حُدُوثَهُ فَأَقَامَ الْأَوَّلُونَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا كَمَا أَقَامَ هَؤُلَاءِ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الصَّرِيحَةَ
عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْآخَرِينَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ أَهْلِ الْمُقَارَنَةِ أَشَدُّ فَسَادًا وَمُنَاقَضَةً لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ . وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ مِنْ قَوْلِ أُولَئِكَ أَهْلِ التَّرَاخِي . وَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْقُولُ الصَّرِيحُ وَيُقِرُّ بِهِ عَامَّةُ الْعُقَلَاءِ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ لَمْ يَهْتَدِ لَهُ الْفَرِيقَانِ : وَهُوَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ التَّامَّ يَسْتَلْزِمُ وُقُوعَ أَثَرِهِ عَقِبَ تَأَثُّرِهِ التَّامِّ لَا يَقْتَرِنُ بِهِ وَلَا يَتَرَاخَى كَمَا إذَا طَلَّقْت الْمَرْأَةَ فَطَلَقَتْ . وَأَعْتَقْت الْعَبْدَ فَعَتَقَ . وَكَسَرْت الْإِنَاءَ فَانْكَسَرَ وَقَطَعْت الْحَبْلَ فَانْقَطَعَ فَوُقُوعُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ لَيْسَ مُقَارِنًا لِنَفْسِ التَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعَهُ وَلَا هُوَ أَيْضًا مُتَرَاخٍ عَنْهُ بَلْ يَكُونُ عَقِبَهُ مُتَّصِلًا بِهِ . وَقَدْ يُقَالُ هُوَ مَعَهُ وَمُفَارِقٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَكُونُ عَقِبَهُ مُتَّصِلًا بِهِ كَمَا يُقَالُ : هُوَ بَعْدَهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عَقِبَ التَّأْثِيرِ التَّامِّ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَكُونُ مَا يَشَاءُ تَكْوِينَهُ فَإِذَا كَوَّنَهُ كَانَ عَقِبَ تَكْوِينِهِ مُتَّصِلًا بِهِ لَا يَكُونُ مَعَ تَكْوِينِهِ فِي الزَّمَانِ وَلَا يَكُونُ مُتَرَاخِيًا عَنْ تَكْوِينِهِ بَيْنَهُمَا فَصْلٌ فِي الزَّمَانِ ؛ بَلْ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِتَكْوِينِهِ كَاتِّصَالِ أَجْزَاءِ الْحَرَكَةِ وَالزَّمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ . وَهَذَا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ قِيلَ مَعَ ذَلِكَ بِدَوَامِ فَاعِلِيَّتِهِ ومتكلميته وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْلُ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مُحْدَثٌ وَمَنْ قَالَ إنَّ الرَّبَّ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ وَلَا إرَادَةٌ بَلْ وَلَا عِلْمٌ بَلْ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ . فَلَمَّا ظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ شَرْعًا وَعَقْلًا قَالَتْ طَائِفَةٌ مِمَّنْ وَافَقَتْهُمْ عَلَى أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ : هُوَ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بَلْ كَلَامُهُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ كَمَا تَلْزَمُ ذَاتَه الْحَيَاةُ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ مَعَانٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا فِي آنٍ وَاحِدٍ وَامْتِنَاعِ تَخْصِيصِهِ بِعَدَدِ دُونَ عَدَدٍ وَقَالُوا : ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَمْرُ بِكُلِّ مَأْمُورٍ وَالْخَبَرُ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا . وَقَالُوا : إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ صِفَاتٌ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعٌ لَهُ . فَإِنَّ مَعْنَى " آيَةِ الْكُرْسِيِّ " وَ " آيَةِ الدَّيْنِ " وَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } مَعْنًى وَاحِدٌ . فَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ لَهُمْ : تَصَوُّرُ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِفَسَادِهِ وَقَالُوا لَهُمْ : مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ . إنْ قُلْتُمْ كُلَّهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ عِلْمَ اللَّهِ . وَإِنْ قُلْتُمْ بَعْضَهُ فَقَدْ تَبَعَّضَ . وَقَالُوا لَهُمْ : إذَا جَوَّزْتُمْ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ الْخَبَرِ هِيَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَحَقِيقَةُ النَّهْيِ عَنْ كُلِّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ . وَالْأَمْرِ بِكُلِّ مَأْمُورٍ بِهِ هُوَ حَقِيقَةُ الْخَبَرِ عَنْ كُلِّ مُخْبَرٍ عَنْهُ فَجَوَّزُوا أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ هِيَ حَقِيقَةَ الْقُدْرَةِ وَحَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ هِيَ حَقِيقَةَ الْإِرَادَةِ . فَاعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِأَنَّ هَذَا لَازِمٌ لَهُمْ لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ وَلَزِمَهُمْ إمْكَانُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ الذَّاتِ هِيَ حَقِيقَةَ الصِّفَاتِ وَحَقِيقَةُ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ هِيَ حَقِيقَةَ الْوُجُوبِ الْمُمْكِنِ وَالْتَزَمَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا :
الْوُجُودُ وَاحِدٌ وَعَيْنُ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ الْقَدِيمِ الْخَالِقِ هُوَ عَيْنُ الْوُجُودِ الْمُمْكِنِ الْمَخْلُوقِ الْمُحْدَثِ . وَهَذَا أَصْلُ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ الطَّائِيِّ وَابْنِ سَبْعِينَ وَأَتْبَاعِهِمَا كَمَا بُسِطَ فِي مَوَاضِعَ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مَعَ قِيَامِ الْكَلَامِ بِهِ مَنْ قَالَ : كَلَامُهُ الْمُعَيَّنُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مُعَيَّنَةٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ . وَزَعَمُوا أَنَّ كُلًّا مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَمْ تَزَلْ وَلَا تَزَالُ فَقَالَ لَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ : مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْبَاءَ قَبْلَ السِّينِ وَالسِّينَ قَبْلَ الْمِيمِ فَكَيْفَ يَكُونَانِ مَعًا أَزَلًا وَأَبَدًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّوْتَ الْمُعَيَّنَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَزَلِيًّا لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ . فَقَالَتْ ( الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ - مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ - بَلْ نَقُولُ إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِهِ فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ لَا شَرْعًا وَلَا عَقْلًا بَلْ هَذَا لَازِمٌ لِجَمِيعِ طَوَائِفِ الْعُقَلَاءِ وَعَلَيْهِ دَلَّتْ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَنَقُولُ : إنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِالْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ وَأَنَّهُ نَادَى مُوسَى بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ وَأَقْوَالُ السَّلَفِ لَكِنْ نَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَزَلِ مُتَكَلِّمًا وَيَمْتَنِعُ أَنْ
يَكُونَ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . وَهُوَ أَصْلُ هَؤُلَاءِ . فَقِيلَ لَهُمْ : مَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ كَمَالٍ لَا صِفَةُ نَقْصٍ وَأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ أَكْمَلُ مِمَّنْ صَارَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ . وَقَالُوا لَهُمْ : إذَا قُلْتُمْ تَكَلَّمَ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْكَلَامُ مُمْتَنِعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ سَبَبٌ أَوْجَبَ تَجَدُّدَ قُدْرَتِهِ وَتَجَدُّدَ إمْكَانِ الْكَلَامِ لَهُ قُلْتُمْ إنَّهُ لَمْ يَزَلْ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْكَلَامِ وَلَمْ يَزَلْ الْكَلَامُ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَهُ ثُمَّ صَارَ قَادِرًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ وَهَذَا مُخَالَفَةٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَسَلْبٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ عَنْ الْبَارِي وَجَعْلُهُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ الَّذِي صَارَ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ . وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَمَا شَاءَ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ وَسَلَفِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ مَخْلُوقٌ بَائِنٌ
عَنْهُ . وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ صَارَ مُتَكَلِّمًا أَوْ قَادِرًا عَلَى الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ . وَقَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الَّتِي قَالَهَا هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة والسالمية وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ انْتَسَبُوا إلَى بَعْضِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَخَالَفُوا بِهَا إجْمَاعَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةَ وَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَخَالَفُوا بِهَا صَرِيحَ الْمَعْقُولِ الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ هِيَ الَّتِي سَلَّطَتْ أُولَئِكَ الْمُتَفَلْسِفَةَ الدَّهْرِيَّةَ عَلَيْهِمْ لَكِنَّ قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ .
فَصْلٌ :
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ اسْمَ الْعَقْلِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ إنَّمَا هُوَ صِفَةٌ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى عَرَضًا قَائِمًا بِالْعَاقِلِ . وَعَلَى هَذَا دَلَّ الْقُرْآنُ فِي قَوْله تَعَالَى { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . وَقَوْلِهِ : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } . وَقَوْلِهِ : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ مَصْدَرُ عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْعَقْلُ لَا يُسَمَّى بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ بِهِ صَاحِبُهُ . وَلَا الْعَمَلُ بِلَا عِلْمٍ ؛ بَلْ إنَّمَا يُسَمَّى بِهِ الْعِلْمُ
الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ وَالْعَمَلُ بِالْعِلْمِ وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ النَّارِ : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } . وَالْعَقْلُ الْمَشْرُوطُ فِي التَّكْلِيفِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عُلُومًا يُمَيِّزُ بِهَا الْإِنْسَانُ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ فَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالْفُلُوسِ وَلَا بَيْنَ أَيَّامِ الْأُسْبُوعِ وَلَا يَفْقَهُ مَا يُقَالُ لَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَيْسَ بِعَاقِلِ . أَمَّا مَنْ فَهِمَ الْكَلَامَ وَمَيَّزَ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ فَهُوَ عَاقِلٌ . ثُمَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : الْعَقْلُ هُوَ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْعَقْلُ هُوَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِ تِلْكَ الْعُلُومِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ اسْمَ الْعَقْلِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا وَقَدْ يُرَادُ بِالْعَقْلِ نَفْسُ الْغَرِيزَةِ الَّتِي فِي الْإِنْسَانِ الَّتِي بِهَا يَعْلَمُ وَيُمَيِّزُ وَيَقْصِدُ الْمَنَافِعَ دُونَ الْمَضَارِّ كَمَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَالْحَارِثُ المحاسبي وَغَيْرُهُمَا : أَنَّ الْعَقْلَ غَرِيزَةٌ . وَهَذِهِ الْغَرِيزَةُ ثَابِتَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ كَمَا أَنَّ فِي الْعَيْنِ قُوَّةً بِهَا يُبْصِرُ ؛ وَفِي اللِّسَانِ قُوَّةً بِهَا يَذُوقُ وَفِي الْجِلْدِ قُوَّةً بِهَا يَلْمِسُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُنْكِرُ الْقُوَى وَالطَّبَائِعَ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْمُنْكِرُونَ لِلْقُوَى وَالطَّبَائِعِ
يُنْكِرُونَ الْأَسْبَابَ أَيْضًا وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا فَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُشْبِعُ بِالْخُبْزِ وَلَا يَرْوِي بِالْمَاءِ وَلَا يُنْبِتُ الزَّرْعَ بِالْمَاءِ بَلْ يَفْعَلُ عِنْدَهُ لَا بِهِ وَهَؤُلَاءِ خَالَفُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ مَعَ مُخَالَفَةِ صَرِيحِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُنَزِّلُ الْمَاءَ بِالسَّحَابِ وَيُخْرِجُ الثَّمَرَ بِالْمَاءِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } وَقَالَ : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ } وَقَالَ : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } وَقَالَ : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } وَقَالَ : { فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } وَمِثْلُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ بِحِسِّهِمْ وَعَقْلِهِمْ أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ سَبَبٌ لِبَعْضِ كَمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الشِّبَعَ يَحْصُلُ بِالْأَكْلِ لَا بِالْعَدِّ وَيَحْصُلُ بِأَكْلِ الطَّعَامِ لَا بِأَكْلِ الْحَصَى وَأَنَّ الْمَاءَ سَبَبٌ لِحَيَاةِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ كَمَا قَالَ : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } وَأَنَّ الْحَيَوَانَ يُرْوَى بِشُرْبِ الْمَاءِ لَا بِالْمَشْيِ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَوْضِعٌ آخَرُ.