الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ إذَا وَافَقَ هَوَاهُ وَيُخَالِفُهُ إذَا خَالَفَ هَوَاهُ فَإِذَا أَنْتَ لَا تُثَابُ عَلَى مَا اتَّبَعْته مِنْ الْحَقِّ وَتُعَاقَبُ عَلَى مَا خَالَفْته . وَهُوَ كَمَا قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إنَّمَا قَصَدَ اتِّبَاعَ هَوَاهُ لَمْ يَعْمَلْ لِلَّهِ . أَلَا تَرَى أَنَّ " أَبَا طَالِبٍ " نَصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَبَّ عَنْهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ لَا لِأَجْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَتَقَبَّلْ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يُثِبْهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعَانَهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لِلَّهِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى } { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } { وَلَسَوْفَ يَرْضَى } . ( الْقِسْمُ الثَّالِثُ ) : الَّذِي يُرِيدُ تَارَةً إرَادَةً يُحِبُّهَا اللَّهُ ؛ وَتَارَةً إرَادَةً يُبْغِضُهَا اللَّهُ . وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ يُطِيعُونَ اللَّهَ تَارَةً وَيُرِيدُونَ مَا أَحَبَّهُ وَيَعْصُونَهُ تَارَةً وَيُرِيدُونَ مَا يَهْوُونَهُ وَإِنْ كَانَ يَكْرَهُهُ . وَ ( الْقِسْمُ الرَّابِعُ ) : أَنْ يَخْلُوَ عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ فَلَا يُرِيدُ لِلَّهِ وَلَا لِهَوَاهُ وَهَذَا يَقَعُ لِكَثِيرِ مِنْ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيَقَعُ لِكَثِيرِ
مِنْ الزُّهَّادِ وَالنُّسَّاكِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ . وَأَمَّا خُلُوُّ الْإِنْسَانِ عَنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا فَمُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ مَفْطُورٌ عَلَى إرَادَةِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَعَلَى كَرَاهَةِ مَا يَضُرُّهُ وَيُؤْذِيهِ وَالزَّاهِدُ النَّاسِكُ إذَا كَانَ مُسْلِمًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَ أَشْيَاءَ يُحِبُّهَا اللَّهُ : مِثْلُ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، وَتَرْكِ الْمَحَارِمِ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ عُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ لَا بُدَّ أَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمْ أَشْيَاءَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يُحِبّ اللَّهَ وَلَا أَحَبّ شَيْئًا لِلَّهِ فَلَمْ يُحِبّ شَيْئًا مِنْ الطَّاعَاتِ لَا الشَّهَادَتَيْنِ وَلَا غَيْرِهِمَا ، وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ لِبَعْضِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ؛ وَأَمَّا إرَادَةُ الْعَبْدِ لِمَا يَهْوَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ اللَّهُ فَهَذَا لَازِمٌ لِكُلِّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَإِنَّهُ أَرَادَ الْمَعْصِيَةَ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَاهَا . وَأَمَّا الْخُلُوُّ عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ فَيَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) : مَعَ إعْرَاضِ الْعَبْدِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ وَإِنْ عَلِمَ بِهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا وَلَا يَكْرَهُ مِنْ غَيْرِهِ فِعْلَهَا وَإِذَا اقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِانْتِصَارِ هَؤُلَاءِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَا لِانْتِصَارِ هَؤُلَاءِ الَّذِي يُبْغِضُهُ اللَّهُ . وَ ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : يَقَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الزُّهَّادِ الْعُبَّادِ الْمُمْتَثِلِينَ لِمَا
يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ الْمُجْتَنِبِينَ لِمَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى عَنْهُ وَأُمُورٌ أُخْرَى لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَأْمُورٌ بِهَا وَلَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَلَا يُرِيدُونَهَا وَلَا يَكْرَهُونَهَا لِعَدَمِ الْعِلْمِ وَقَدْ يَرْضَوْنَهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مُقَدَّرَةً وَقَدْ يُعَاوِنُونَ عَلَيْهَا وَيَرَوْنَ هَذَا مُوَافَقَةً لِلَّهِ وَأَنَّهُمْ لَمَّا خَلَوْا عَنْ هَوَى النَّفْسِ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالرِّضَا بِكُلِّ حَادِثٍ ؛ بَلْ وَالْمُعَاوَنَةُ عَلَيْهِ . وَهَذَا مَوْضِعٌ يَقَعُ فِيهِ الْغَلَطُ فَإِنَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَعَلَيْنَا أَنْ نُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا تَكْلِيفَ فِيهَا مِثْلُ أَفْعَالِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ فَهَذَا إذَا كَانَ اللَّهُ لَا يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا وَلَا يَكْرَهُهَا وَيَذُمُّهَا فَالْمُؤْمِنُ أَيْضًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّهَا وَيَرْضَاهَا وَلَا يَكْرَهَهَا . وَأَمَّا كَوْنُهَا مَقْدُورَةً وَمَخْلُوقَةً لِلَّهِ فَذَاكَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا بَلْ هُوَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ مَا خَلَقَهُ لَمَّا شَاءَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ .
وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : ( أَحَدُهَا ) الرِّضَا بِالطَّاعَاتِ ؛ فَهَذَا طَاعَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا . وَ ( الثَّانِي ) : الرِّضَا بِالْمَصَائِبِ فَهَذَا مَأْمُورٌ بِهِ : إمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا وَاجِبٌ .
وَ ( الثَّالِثُ ) : الْكُفْرُ وَالْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ فَهَذَا لَا يُؤْمَرُ بِالرِّضَا بِهِ بَلْ يُؤْمَرُ بِبُغْضِهِ وَسَخَطِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } وَقَالَ : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } وَقَالَ : { وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } وَقَالَ : { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } . وَهُوَ وَإِنْ خَلَقَهُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُقَ مَا لَا يُحِبُّهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا كَمَا خَلَقَ الشَّيَاطِينَ . فَنَحْنُ رَاضُونَ عَنْ اللَّهِ فِي أَنْ يَخْلُقَ مَا يَشَاءُ وَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى ذَلِكَ . وَأَمَّا نَفْسُ هَذَا الْفِعْلِ الْمَذْمُومِ وَفَاعِلُهُ فَلَا نَرْضَى بِهِ وَلَا نَحْمَدُهُ . وَفَرْقٌ بَيْنَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَمَا يُرَادُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ مَعَ كَوْنِهِ مُبْغِضًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْوَاحِدَ يُرَادُ مِنْ وَجْهٍ وَيُكْرَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . كَالْمَرِيضِ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ ؛ فَإِنَّهُ يُبْغِضُ الدَّوَاءَ وَيَكْرَهُهُ وَهُوَ مَعَ هَذَا يُرِيدُ اسْتِعْمَالَهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى الْمَحْبُوبِ لَا لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مَحْبُوبٌ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا تَرَدَّدْت عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَرِهَ مُسَاءَةَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي
يَكْرَهُ الْمَوْتَ كَانَ هَذَا مُقْتَضِيًا أَنْ يَكْرَهَ إمَاتَتَهُ مَعَ أَنَّهُ يُرِيدُ إمَاتَتَهُ ؛ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . فَالْأُمُورُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَنْهَى عَنْهَا لَا تُحَبُّ وَلَا تُرْضَى ؛ لَكِنْ نَرْضَى بِمَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ حَيْثُ خَلَقَهَا لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ فَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي لَا يُحِبُّهَا وَلَا يُبْغِضُهَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُحَبّ وَلَا تُرْضَى كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ تُبْغَضَ . وَالرِّضَا الثَّابِتُ بِالنَّصِّ هُوَ أَنْ يَرْضَى بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدِ نَبِيًّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُرْضِيَهُ } " وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَدَرِ فَيَرْضَى عَنْ اللَّهِ إذْ لَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيَرْضَى بِمَا يَرْضَاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ الَّتِي خَلَقَ لِأَجْلِهَا مَا خَلَقَ وَإِنْ كُنَّا نُبْغِضُ مَا يُبْغِضُهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَحَيْثُ انْتَفَى الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ أَوْ خَفِيَ الْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ لَا يَكُونُ الِامْتِثَالُ وَالرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَقْدُورًا . وَهَذَا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ خَاصَّةِ " السَّالِكِينَ " وَشُيُوخِهِمْ فَضْلًا عَنْ عَامَّتِهِمْ وَيَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِمْ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَطَاعَتِهِمْ لَهُ . فَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَعْرَفُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَأَطْوَعُ لَهُ فَهَذَا
تَكُونُ حَالُهُ أَحْسَنَ مِمَّنْ يَقْصُرُ عَنْهُ فِي الْمَعْرِفَةِ بِالْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَالطَّاعَةِ لَهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْعُدُ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَيَسْتَرْسِلُ حَتَّى يَنْسَلِخَ مِنْ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَبْقَى وَاقِفًا مَعَ هَوَاهُ وَالْقَدَرِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَمُوتُ كَافِرًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُوتُ فَاسِقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَهَؤُلَاءِ يَنْظُرُونَ إلَى الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ مُعْرِضِينَ عَنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ اتِّبَاعِ أَمْرِ وَنَهْيِ غَيْرِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ إمَّا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إذْ الِاسْتِرْسَالُ مَعَ الْقَدَرِ مُطْلَقًا مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ مَفْطُورٌ عَلَى مَحَبَّةِ أَشْيَاءَ وَبُغْضِ أَشْيَاءَ . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : " إنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ مَعَ اللَّهِ كَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ " لَا يَصِحُّ وَلَا يَسُوغُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ؛ وَمَعَ هَذَا فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِخَفَاءِ أَمْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَإِذَا عَلِمَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَأَحَبَّهُ . فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ .
فَصْلٌ :
وَكَمَا أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْعِلْمِيَّةَ بِصِحَّةِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْأَسْبَابِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعِلْمِ : كَتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ فَالطَّرِيقَةُ الْعَمَلِيَّةُ بِصِحَّةِ الْإِرَادَةِ وَالْأَسْبَابِ هِيَ الْمُوجِبَةُ لِلْعَمَلِ وَلِهَذَا يُسَمُّونَ السَّالِكَ فِي ذَلِكَ " الْمُرِيدَ " كَمَا يُسَمِّيهِ أُولَئِكَ " الطَّالِبَ " وَ " النَّظَرُ " جِنْسٌ تَحْتَهُ حُقٌّ وَبَاطِلٌ وَمَحْمُودٌ وَمَذْمُومٌ وَكَذَلِكَ " الْإِرَادَةُ " فَكَمَا أَنَّ طَرِيقَ الْعِلْمِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ النَّبَوِيِّ الشَّرْعِيِّ بِحَيْثُ يَكُونُ مَعْلُومُك الْمَعْلُومَاتِ الدِّينِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ وَيَكُونُ عِلْمُك بِهَا مُطَابِقًا لِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَإِلَّا فَلَا يَنْفَعُك أَيُّ مَعْلُومٍ عَلِمْته وَلَا أَيُّ شَيْءٍ اعْتَقَدْته فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَكَذَلِكَ " الْإِرَادَةُ " لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ تَعْيِينِ " الْمُرَادِ " وَهُوَ اللَّهُ وَ " الطَّرِيقُ إلَيْهِ " وَهُوَ مَا أَمَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ . فَلَا بُدَّ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ ، وَتَكُونَ عِبَادَتُك إيَّاهُ بِمَا شَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ عِلْمًا وَلَا بُدَّ مِنْ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ عَمَلًا .
وَلِهَذَا كَانَ " الْإِيمَانُ " قَوْلًا وَعَمَلًا مَعَ مُوَافَقَةِ السُّنَّةِ فَعِلْمُ الْحَقِّ مَا وَافَقَ عِلْمَ اللَّهِ ، وَالْإِرَادَةُ الصَّالِحَةُ مَا وَافَقَتْ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَرِضَاهُ وَهُوَ حُكْمُهُ الشَّرْعِيُّ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . فَالْأُمُورُ الْخَبَرِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تُطَابِقَ عِلْمَ اللَّهِ وَخَبَرَهُ ؛ وَالْأُمُورُ الْعَمَلِيَّةُ لَا بُدَّ أَنْ تُطَابِقَ حُبّ اللَّهِ وَأَمْرَهُ فَهَذَا حُكْمُهُ وَذَاكَ عِلْمُهُ . وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ حُكْمَهُ مُجَرَّدَ الْقَدَرِ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " وَجَعَلَ مُشَاهَدَةَ الْعَارِفِ الْحُكْمَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَسْتَحْسِنَ حَسَنَةً أَوْ يَسْتَقْبِحَ سَيِّئَةً فَهَذَا فِيهِ مِنْ الْغَلَطِ الْعَظِيمِ مَا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَلَا يَنْفَعُ الْمُرِيدُ الْقَاصِدُ أَنْ يَعْبُدَ أَيَّ مَعْبُودٍ كَانَ وَلَا أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ بِأَيِّ عِبَادَةٍ كانت بَلْ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْمُشْرِكِينَ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كَالنَّصَارَى وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللَّهِ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ ، وَأَمَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ فَهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَيَعْبُدُونَهُ بِمَا شَرَعَ . لَا يَعْبُدُونَهُ بِالْبِدَعِ إلَّا مَا يَقَعُ مِنْ أَحَدِهِمْ خَطَأٌ . فَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْإِرَادَةِ قَدْ يَغْلَطُونَ تَارَةً فِي الْمُرَادِ ؛ وَتَارَةً فِي الطَّرِيقِ إلَيْهِ وَتَارَةً يألهون غَيْرَ اللَّهِ بِالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ لَهُ وَالتَّعْظِيمِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَسُؤَالِهِ وَالرَّغْبَةِ إلَيْهِ فَهَذَا حَقِيقَةُ الشِّرْكِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ
التَّوْحِيدِ أَنْ لَا يُعْبَدَ إلَّا اللَّهُ . وَ " الْعِبَادَةُ " تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْحُبِّ وَكَمَالَ التَّعْظِيمِ ، وَكَمَالَ الرَّجَاءِ وَالْخَشْيَةِ وَالْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ . وَ " الْفَنَاءُ " فِي هَذَا التَّوْحِيدِ فَنَاءُ الْمُرْسَلِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ وَهُوَ أَنْ تَفْنَى بِعِبَادَتِهِ عَنْ عِبَادَةِ مَا سِوَاهُ وَبِطَاعَتِهِ عَنْ طَاعَةِ مَا سِوَاهُ وَبِسُؤَالِهِ عَنْ سُؤَالِ مَا سِوَاهُ وَبِخَوْفِهِ عَنْ خَوْفِ مَا سِوَاهُ وَبِرَجَائِهِ عَنْ رَجَاءِ مَا سِوَاهُ وَبِحُبِّهِ ، وَالْحُبِّ فِيهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ وَالْحُبِّ فِيهِ . وَأَمَّا الغالطون فِي الطَّرِيقِ فَقَدْ يُرِيدُونَ اللَّهَ ؛ لَكِنْ لَا يَتَّبِعُونَ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ فِي إرَادَتِهِ . لَكِنْ " تَارَةً " يَعْبُدُهُ أَحَدُهُمْ بِمَا يَظُنُّهُ يُرْضِيهِ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ . وَ " تَارَةً " يَنْظُرُونَ الْقَدَرَ لِكَوْنِهِ مُرَادِهِ فَيَفْنَوْنَ فِي الْقَدَرِ الَّذِي لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ غَرَضٌ وَأَمَّا الْفَنَاءُ الْمُطْلَقُ فِيهِ فَمُمْتَنِعٌ . وَهَؤُلَاءِ يَفْنَى أَحَدُهُمْ مُتَّبِعًا لِذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ الْمُخَالِفِ لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ أَوْ نَاظِرًا إلَى الْقَدَرِ . وَهَذَا يُبْتَلَى بِهِ كَثِيرٌ مِنْ خَوَّاصِهِمْ . وَ " الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ " وَنَحْوُهُ مِنْ أَعْظَمِ مَشَايِخِ زَمَانِهِمْ أَمْرًا بِالْتِزَامِ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الذَّوْقِ وَالْقَدَرِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْمَشَايِخِ أَمْرًا بِتَرْكِ الْهَوَى وَالْإِرَادَةِ النَّفْسِيَّةِ . فَإِنَّ الْخَطَأَ فِي الْإِرَادَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ إرَادَةٌ إنَّمَا تَقَعُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ؛ فَهُوَ يَأْمُرُ السَّالِكَ
أَلَّا تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ مِنْ جِهَةِ هَوَاهُ أَصْلًا ؛ بَلْ يُرِيدُ مَا يُرِيدُهُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : إمَّا إرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَنْ تُبَيِّنَ لَهُ ذَلِكَ ؛ وَإِلَّا جَرَى مَعَ الْإِرَادَةِ الْقَدَرِيَّةِ فَهُوَ إمَّا مَعَ أَمْرِ الرَّبِّ ، وَإِمَّا مَعَ خَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ . وَهَذِهِ " طَرِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ صَحِيحَةٌ " إنَّمَا يَخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ تَرْكِ إرَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ أَوْ مِنْ تَقْدِيمِ إرَادَةٍ قَدَرِيَّةٍ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا شَرْعِيَّةٌ فَقَدْ يَتْرُكُهَا وَقَدْ يُرِيدُ ضِدَّهَا فَيَكُونُ تَرَكَ مَأْمُورًا أَوْ فَعَلَ مَحْظُورًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ . فَإِنَّ " طَرِيقَةَ الْإِرَادَةِ " يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ ضَعْفِ الْعِلْمِ ؛ وَمَا يَقْتَرِنُ بِالْعِلْمِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْوُقُوعِ فِي الضَّلَالِ كَمَا أَنَّ طَرِيقَةَ الْعِلْمِ يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ ضَعْفِ الْعَمَلِ وَضَعْفِ الْعِلْمِ الَّذِي يَقْتَرِنُ بِالْعَمَلِ ؛ لَكِنْ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا مِنْ هَذَا وَهَذَا . قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فَإِذَا تَفَقَّهَ السَّالِكُ وَتَعَلَّمَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَكَانَ عِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ بِحَسَبِ ذَاكَ فَهَذَا مُسْتَطَاعُهُ . وَإِذَا أَدَّى الطَّالِبُ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ وَكَانَ عِلْمُهُ مُطَابِقًا لِعَمَلِهِ فَهَذَا مُسْتَطَاعُهُ .
فَصْلٌ :
قَالَ " الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ " قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ : " افْنَ عَنْ الْخَلْقِ بِحُكْمِ اللَّهِ وَعَنْ هَوَاك بِأَمْرِهِ وَعَنْ إرَادَتِك بِفِعْلِهِ لِحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ وِعَاءً لِعِلْمِ اللَّهِ " . قُلْت : فَحُكْمُهُ يَتَنَاوَلُ خَلْقَهُ وَأَمْرَهُ أَيْ : افْنَ عَنْ عِبَادَةِ الْخَلْقِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِمْ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ فَلَا تُطِعْهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَتَعَلَّقْ بِهِمْ فِي جَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ . وَأَمَّا الْفَنَاءُ عَنْ الْهَوَى بِالْأَمْرِ وَعَنْ الْإِرَادَةِ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُوَافِقًا لِلْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ لَا لِهَوَاهُ وَأَنْ تَكُونَ إرَادَتُهُ لِمَا يَخْلُقُ تَابِعَةً لِفِعْلِ اللَّهِ لَا لِإِرَادَةِ نَفْسِهِ . فَالْإِرَادَةُ تَارَةً تَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَتَارَةً بِالْمَخْلُوقَاتِ . فَالْأَوَّلُ " يَكُونُ بِالْأَمْرِ وَ " الثَّانِي " لَا تَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ . وَلَا بُدَّ فِي هَذَا أَنْ يُقَيَّدَ بِأَنْ لَا تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ لَمْ يُؤْمَرْ بِهَا وَإِلَّا فَإِذَا أُمِرَ بِأَنْ يُرِيدَ مِنْ الْمَقْدُورَاتِ شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ فَلْيُرِدْ مَا أُمِرَ بِإِرَادَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لِلْقَدَرِ أَمْ لَا . وَهَذَا الْمَوْضِعُ قَدْ يَغْلَطُ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ السَّالِكِينَ
وَالْغَالِبُ عَلَى الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ وَهُمْ لَيْسَ لَهُمْ إرَادَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ فَتَرَكُوا إرَادَتَهُمْ لِغَيْرِ الْمَقْدُورِ . قَالَ الشَّيْخُ : " فَعَلَامَةُ فَنَائِك عَنْ خَلْقِ اللَّهِ انْقِطَاعُك عَنْهُمْ ، وَعَنْ التَّرَدُّدِ إلَيْهِمْ ، وَالْيَأْسِ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ " . وَهُوَ كَمَا قَالَ . فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ لَا يَرْجُوهُمْ وَلَا يَخَافُهُمْ لَمْ يَتَرَدَّدْ إلَيْهِمْ لِطَلَبِ شَيْءٍ مِنْهُمْ وَهَذَا يُشْبِهُ بِمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ الْمَشْيِ إلَيْهِمْ لِأَمْرِهِمْ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهْيِهِمْ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْهُ كَذَهَابِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِ الرُّسُلِ إلَى مَنْ يُبَلَّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ التَّوَكُّلَ إنَّمَا يَصِحُّ مَعَ الْقِيَامِ بِمَا أُمِرَ بِهِ الْعَبْدُ . لِيَكُونَ عَابِدًا لِلَّهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَ بِهِ ؛ فَقَدْ يَكُونُ مَا أَضَاعَهُ مِنْ الْأَمْرِ أَوْلَى بِهِ مِمَّا قَامَ بِهِ مِنْ التَّوَكُّلِ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ كَمَا أَنَّ مَنْ قَامَ بِأَمْرِ وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ فَلَمْ يَقُمْ بِالْوَاجِبِ ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَا تَرَكَهُ مِنْ التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ أَوْلَى بِهِ مِمَّا فَعَلَهُ مِنْ الْأَمْرِ أَوْ مِثْلَهُ أَوْ دُونَهُ . قَالَ الشَّيْخُ : " وَعَلَامَةُ فَنَائِك عَنْك وَعَنْ هَوَاك : تَرْكُ التَّكَسُّبِ ، وَالتَّعَلُّقُ بِالسَّبَبِ فِي جَلْبِ النَّفْعِ ، وَدَفْعِ الضُّرِّ فَلَا تَتَحَرَّكُ فِيك بِك ، وَلَا تَعْتَمِدُ عَلَيْك لَك وَلَا تَنْصُرُ نَفْسَك وَلَا تَذُبُّ عَنْك لَكِنْ تَكِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ
إلَى مَنْ تَوَلَّاهُ أَوَّلًا فَيَتَوَلَّاهُ آخِرًا . كَمَا كَانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَيْهِ فِي حَالِ كَوْنِك مُغَيَّبًا فِي الرَّحِمِ وَكَوْنِك رَضِيعًا طِفْلًا فِي مَهْدِك " . قُلْت : وَهَذَا لِأَنَّ النَّفْسَ تَهْوَى وُجُودَ مَا تُحِبُّهُ وَيَنْفَعُهَا ، وَدَفْعَ مَا تُبْغِضُهُ وَيَضُرُّهَا فَإِذَا فَنِيَ عَنْ ذَاكَ بِالْأَمْرِ فَعَلَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ، وَتَرَكَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ فَاعْتَاضَ بِفِعْلِ مَحْبُوبِ اللَّهِ عَنْ مَحْبُوبِهِ وَبِتَرْكِ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ عَمَّا يُبْغِضُهُ ، وَحِينَئِذٍ فَالنَّفْسُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ مُتَوَكِّلًا عَلَى اللَّهِ . وَ " الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ " ذَكَرَ هُنَا التَّوَكُّلَ دُونَ الطَّاعَةِ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ ، وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَوَكِّلَةً عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَاثِقَةً بِهِ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَنْصَرِفَ عَنْ ذَلِكَ فَتَمْتَثِلُ الْأَمْرَ مُطْلَقًا ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَعْصِيَ الْأَمْرَ فِي جَلْبِ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَلَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ ، وَطَاعَةُ أَمْرِهِ بِدُونِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ عِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } . وَ ( الْمَقْصُودُ ) أَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ
التَّوَكُّلِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَمَنْ كَانَ وَاثِقًا بِاَللَّهِ أَنْ يَجْلِبَ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ وَيَدْفَعُ عَنْهُ مَا يَضُرُّهُ أَمْكَنَ أَنْ يَدَعَ هَوَاهُ وَيُطِيعَ أَمْرَهُ وَإِلَّا فَنَفْسُهُ لَا تَدَعُهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا يَقُولُ إنَّهُ مُحْتَاجٌ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ . قَالَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " وَعَلَامَةُ فَنَاءِ إرَادَتِك بِفِعْلِ اللَّهِ أَنَّك لَا تُرِيدُ مُرَادًا قَطُّ فَلَا يَكُنْ لَك غَرَضٌ وَلَا تَقِفُ لَك حَاجَةٌ وَلَا مَرَامٌ ؛ لِأَنَّك لَا تُرِيدُ مَعَ إرَادَةِ اللَّهِ سِوَاهَا بَلْ يَجْرِي فِعْلُهُ فِيك فَتَكُونُ أَنْتَ إرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلَهُ ، سَاكِنَ الْجَوَارِحِ ، مُطَمْئِنَ الْجَنَانِ ، مَشْرُوحَ الصَّدْرِ ، مُنَوَّرَ الْوَجْهِ ، عَامِرَ الْبَاطِنِ ، غَنِيًّا عَنْ الْأَشْيَاءِ بِخَالِقِهَا تقلبك يَدُ الْقُدْرَةِ ، وَيَدْعُوك لِسَانُ الْأَزَلِ ، وَيُعَلِّمُك رَبُّ الْمُلْكِ وَيَكْسُوَك نُورًا مِنْهُ وَالْحُلَلَ ، وَيُنْزِلُك مَنَازِلَ مَنْ سَلَفَ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ الْأَوَّلِ فَتَكُونُ مُنْكَسِرًا أَبَدًا . فَلَا تَثْبُتُ فِيك شَهْوَةٌ وَلَا إرَادَةٌ : كَالْإِنَاءِ الْمُتَثَلِّمِ - الَّذِي لَا يَثْبُتُ فِيهِ مَائِعٌ وَلَا كَدِرٌ فَتَفْنَى عَنْ أَخْلَاقِ الْبَشَرِيَّةِ فَلَنْ يَقْبَلَ بَاطِنُك سَاكِنًا غَيْرَ إرَادَةِ اللَّهِ فَحِينَئِذٍ يُضَافُ إلَيْك التَّكْوِينُ ، وَخَرْقُ الْعَادَاتِ فَيُرَى ذَلِكَ مِنْك فِي ظَاهِرِ الْعَقْلِ وَالْحُكْمِ وَهُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَقًّا فِي الْعِلْمِ فَتَدْخُلُ حِينَئِذٍ فِي زُمْرَةِ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ الَّذِينَ كُسِرَتْ إرَادَتُهُمْ الْبَشَرِيَّةُ وَأُزِيلَتْ شَهَوَاتُهُمْ الطَّبِيعِيَّةُ وَاسْتَوْثَقَتْ لَهُمْ إرَادَاتٌ رَبَّانِيَّةٌ وَشَهَوَاتٌ إضَافِيَّةٌ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ
دُنْيَاكُمْ : النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } " فَأُضِيفَ ذَلِكَ إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ وَزَالَ عَنْهُ تَحْقِيقًا لِمَا أَشَرْت إلَيْهِ وَتَقَدَّمَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : " { أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي } " وَسَاقَ كَلَامَهُ . وَفِيهِ : " { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ } " الْحَدِيثَ . قُلْت : هَذَا الْمَقَامُ هُوَ آخِرُ مَا يُشِيرُ إلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ كَوْنَ شَيْءٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِإِرَادَتِهِ فَقَوْلُهُ : عَلَامَةُ فَنَاءِ إرَادَتِك بِفِعْلِ اللَّهِ أَنَّك لَا تُرِيدُ مُرَادًا قَطُّ . أَيْ لَا تُرِيدُ مُرَادًا لَمْ تُؤْمَرْ بِإِرَادَتِهِ فَأَمَّا مَا أَمَرَك اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِإِرَادَتِك إيَّاهُ فَإِرَادَتُهُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكُ إرَادَةِ هَذَا إمَّا مَعْصِيَةٌ وَإِمَّا نَقْصٌ . وَهَذَا الْمَوْضِعُ يَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ السَّالِكِينَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الطَّرِيقَةَ الْكَامِلَةَ أَلَّا يَكُونَ لِلْعَبْدِ إرَادَةٌ أَصْلًا وَأَنَّ قَوْلَ أَبِي يَزِيدَ : " أُرِيدُ أَلَّا أُرِيدَ " - لَمَّا قِيلَ لَهُ : مَاذَا تُرِيدُ ؟ - نَقْصٌ وَتَنَاقُضٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ ، وَيَحْمِلُونَ كَلَامَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يُمْدَحُونَ بِتَرْكِ الْإِرَادَةِ عَلَى تَرْكِ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا وَهَذَا غَلَطٌ مِنْهُمْ عَلَى الشُّيُوخِ الْمُسْتَقِيمِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الشُّيُوخِ مَنْ يَأْمُرُ بِتَرْكِ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا فَإِنَّ هَذَا غَلَطٌ مِمَّنْ قَالَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَقْدُورِ وَلَا مَأْمُورٍ
فَإِنَّ الْحَيَّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إرَادَةٍ فَلَا يُمْكِنُ حَيًّا أَلَّا تَكُونَ لَهُ إرَادَةٌ فَإِنَّ الْإِرَادَةَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَأْمُرُ بِهَا أَمْرُ إيجَابٍ أَوْ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لَا يَدَعُهَا إلَّا كَافِرٌ أَوْ فَاسِقٌ أَوْ عَاصٍ إنْ كَانَتْ وَاجِبَةً وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَبَّةً كَانَ تَارِكُهَا تَارِكًا لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ وَصَفَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصِّدِّيقِينَ بِهَذِهِ " الْإِرَادَةِ " فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى } { إلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } .
وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَلِمَا أَمَرَ بِهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أَيْ أَخْلَصَ قَصْدَهُ لِلَّهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ
هُوَ إرَادَتُهُ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } . وَكُلُّ مُحِبٍّ فَهُوَ مُرِيدٌ . وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } ثُمَّ قَالَ : { إنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } . وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ يَأْمُرُ اللَّهُ بِإِرَادَتِهِ وَإِرَادَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْ إرَادَةِ غَيْرِهِ وَإِرَادَةِ مَا نَهَى عَنْهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } " فَهُمَا " إرَادَتَانِ " : إرَادَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَيَرْضَاهَا وَإِرَادَةٌ لَا يُحِبُّهَا اللَّهُ وَلَا يَرْضَاهَا بَلْ إمَّا نَهَى عَنْهَا وَإِمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِهَا وَلَا يَنْهَى عَنْهَا وَالنَّاسُ فِي الْإِرَادَةِ " ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " . قَوْمٌ يُرِيدُونَ مَا يَهْوُونَهُ فَهَؤُلَاءِ عَبِيدُ أَنْفُسِهِمْ وَالشَّيْطَانِ . وَقَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ فَرَغُوا مِنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُرَادٌ إلَّا مَا يُقَدِّرُهُ الرَّبُّ وَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ هُوَ أَكْمَلُ الْمَقَامَاتِ . وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ قَامَ بِهَذَا فَقَدْ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْحَقِيقَةُ الْقَدَرِيَّةُ الْكَوْنِيَّةُ ؛ وَأَنَّهُ
شَهِدَ القيومية الْعَامَّةَ وَيَجْعَلُونَ الْفَنَاءَ فِي شُهُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ هُوَ الْغَايَةُ ؛ وَقَدْ يُسَمُّونَ هَذَا : الْجَمْعَ وَالْفَنَاءَ وَالِاصْطِلَامَ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَكَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ زَلَقُوا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَفِي " هَذَا الْمَقَامِ " كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ طَائِفَة مِنْ أَصْحَابِهِ الصُّوفِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى شُهُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَهُوَ شُهُودُ الْقَدَرِ ؛ وَسَمَّوْا هَذَا " مَقَامَ الْجَمْعِ " فَإِنَّهُ خَرَجَ بِهِ عَنْ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْفَرْقُ الطَّبِيعِيُّ بِإِرَادَةِ هَذَا وَكَرَاهَةِ هَذَا ، وَرُؤْيَةِ فِعْلِ هَذَا وَتَرْكِ هَذَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ هَذَا التَّوْحِيدَ يَرَى لِلْخَلْقِ فِعْلًا يَتَفَرَّقُ بِهِ قَلْبُهُ فِي شُهُودِ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَيَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ فِيمَا يُرِيدُهُ فَإِذَا أَرَادَ الْحَقَّ خَرَجَ بِإِرَادَتِهِ عَنْ إرَادَةِ الْهَوَى وَالطَّبْعِ ثُمَّ شَهِدَ أَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَخَرَجَ بِشُهُودِ هَذَا الْجَمْعِ عَنْ ذَاكَ الْفَرْقِ فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا ذَكَرَ لَهُمْ الْجُنَيْد بْنُ مُحَمَّدٍ " الْفَرْقَ الثَّانِي " وَهُوَ بَعْدَ هَذَا الْجَمْعِ وَهُوَ الْفَرْقُ الشَّرْعِيُّ . أَلَّا تَرَى أَنَّك تُرِيدُ مَا أُمِرْت بِهِ وَلَا تُرِيدُ مَا نُهِيت عَنْهُ وَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ دُونَ مَا سِوَاهُ وَأَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ بِطَاعَةِ رُسُلِهِ فَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدَائِهِ ، وَتَشْهَدُ تَوْحِيدَ الْأُلُوهِيَّةِ فَنَازَعُوهُ فِي هَذَا " الْفَرْقِ "
مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَهُ ،وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ . وَمِنْهُمْ مَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِيهِ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ . ثُمَّ إنَّك تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الشُّيُوخِ إنَّمَا يَنْتَهِي إلَى ذَلِكَ الْجَمْعِ وَهُوَ " تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ " وَالْفِنَاءُ فِيهِ . كَمَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ " مَنَازِلِ السَّائِرِينَ " مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ مَعَ أَنَّهُ قَطْعًا كَانَ قَائِمًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَعْرُوفَيْنِ لَكِنْ قَدْ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا لِأَجْلِ الْعَامَّةِ . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَتَنَاقَضُ ) . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْوُقُوفُ مَعَ الْأَمْرِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ) وَقَدْ يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بِأَهْلِ الْمَارَسْتَانِ . وَ ( مِنْهُمْ مِنْ يُسَمِّي ذَلِكَ مَقَامَ التَّلْبِيسِ ) . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : التَّحْقِيقُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ فِي قَلْبِك مَشْهُودًا وَالْفَرْقُ عَلَى لِسَانِك مَوْجُودًا ) فَيَشْهَدُ بِقَلْبِهِ اسْتِوَاءَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ مَعَ تَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمَا . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى سُلُوكِ
الْعَارِفِينَ وَغَايَةُ مَنَازِلِ الْأَوْلِيَاءِ الصِّدِّيقِينَ ) . وَ ( مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الْوُقُوفَ مَعَ إرَادَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ يَكُونُ فِي السُّلُوكِ وَالْبِدَايَةِ وَأَمَّا فِي النِّهَايَةِ فَلَا تَبْقَى إلَّا إرَادَةُ الْقَدَرِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ قَوْلٌ بِسُقُوطِ الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَالطَّاعَةَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ إنَّمَا تَكُونُ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ لَا فِي الْجَرْيِ مَعَ الْمَقْدُورِ وَإِنْ كَانَ كُفْرًا أَوْ فَسُوقًا أَوْ عِصْيَانًا وَمِنْ هُنَا صَارَ كَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ مِنْ أَعْوَانِ الْكُفَّارِ وَالْفُجَّارِ وَخُفَرَائِهِمْ حَيْثُ شَهِدُوا الْقَدَرَ مَعَهُمْ ؛ وَلَمْ يَشْهَدُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّيْنِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ : مَنْ شَهِدَ الْقَدَرَ سَقَطَ عَنْهُ الْمُلَامُ . وَيَقُولُونَ إنَّ الْخَضِرَ إنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الْمُلَامُ لَمَّا شَهِدَ الْقَدَرَ . وَأَصْحَابُ شُهُودِ الْقَدَرِ قَدْ يُؤْتَى أَحَدُهُمْ مُلْكًا مِنْ جِهَةِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِالْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ فَيَظُنُّ ذَلِكَ كَمَالًا فِي الْوِلَايَةِ ؛ وَتَكُونُ تِلْكَ " الْخَوَارِقُ " إنَّمَا حَصَلَتْ بِأَسْبَابِ شَيْطَانِيَّةٍ وَأَهْوَاءٍ نَفْسَانِيَّةٍ ؛ وَإِنَّمَا الْكَمَالُ فِي الْوِلَايَةِ أَنْ يُسْتَعْمَلَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي إقَامَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ مَعَ حُصُولِهِمَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ فَإِذَا حَصَلَتْ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ فَهِيَ مَذْمُومَةٌ وَإِنْ حَصَلَتْ بِالْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنْ اُسْتُعْمِلَتْ لِيُتَوَصَّلَ بِهَا إلَى مُحَرَّمٍ كانت مَذْمُومَةً وَإِنْ تَوَصَّلَ بِهَا إلَى مُبَاحٍ
لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةٍ كَانَتْ لِلْأَبْرَارِ دُونَ الْمُقَرَّبِينَ وَأَمَّا إنْ حَصَلَتْ بِالسَّبَبِ الشَّرْعِيِّ وَاسْتُعِينَ بِهَا عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ : فَهَذِهِ خَوَارِقُ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ . فَلَا بُدَّ أَنْ يُنْظَرَ فِي " الْخَوَارِقِ " فِي أَسْبَابِهَا وَغَايَاتِهَا : مِنْ أَيْنَ حَصَلَتْ وَإِلَى مَاذَا أَوْصَلَتْ - كَمَا يُنْظَرُ فِي الْأَمْوَالِ فِي مُسْتَخْرَجِهَا وَمَصْرُوفِهَا - وَمَنْ اسْتَعْمَلَهَا - أَعْنِي الْخَوَارِقَ - فِي إرَادَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ كَانَ مَذْمُومًا وَمَنْ كَانَ خَالِيًا عَنْ الْإِرَادَتَيْنِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا حَسْبُهُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْرِفْ الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ . وَأَمَّا إنْ عَرَفَهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مَذْمُومًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ إنْ لَمْ يُعْفَ عَنْهُ وَهُوَ يُمْدَحُ بِكَوْنِ إرَادَتِهِ لَيْسَتْ بِهَوَاهُ ؛ لَكِنْ يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ لَا يَكْفِيهِ أَنْ تَكُونَ لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ خُلُوُّهُ عَنْ الْإِرَادَةِ مُطْلَقًا بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إرَادَةٍ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرَادَ مَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ لَكِنْ إذَا جَاهَدَ نَفْسَهُ عَلَى تَرْكِ مَا تَهْوَاهُ بَقِيَ مُرِيدًا لِمَا يَظُنُّ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَكُونُ ضَالًّا . فَإِنَّ هَذَا يُشْبِهُ حَالَ الضَّالِّينَ مِنْ النَّصَارَى . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ
وَلَا الضَّالِّينَ } وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } " . فَالْيَهُودُ لَهُمْ إرَادَاتٌ فَاسِدَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ : بِأَنَّهُمْ عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ . وَهُمْ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ فَلَهُمْ عِلْمٌ لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ بِالْعِلْمِ وَهُمْ فِي الْإِرَادَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمُحَرَّمَةِ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ لَيْسُوا فِي الْإِرَادَةِ الْمَحْمُودَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَهِيَ إرَادَةُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَالنَّصَارَى لَهُمْ قَصْدٌ وَعِبَادَةٌ وَزُهْدٌ لَكِنَّهُمْ ضُلَّالٌ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلَا يَعْرِفُونَ الْإِرَادَةَ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَلْ غَايَةُ أَحَدِهِمْ تَجْرِيدُ نَفْسِهِ عَنْ الْإِرَادَاتِ فَلَا يَبْقَى مُرِيدًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ كَمَا لَا يُرِيدُ كَثِيرًا مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ وَهَؤُلَاءِ ضَالُّونَ عَنْ مَقْصُودِهِمْ فَإِنَّ مَقْصُودَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلِهَذَا كَانُوا مَلْعُونِينَ : أَيْ بَعِيدِينَ عَنْ الرَّحْمَةِ الَّتِي تُنَالُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . وَ " الْعَالِمُ الْفَاجِرُ " يُشْبِهُ الْيَهُودَ . وَ " الْعَابِدُ الْجَاهِلُ " يُشْبِهُ النَّصَارَى . وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَمِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ مَنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّانِي .
وَهَذَا الْمَوْضِعُ تَفَرَّقَ فِيهِ بَنُو آدَمَ وَتَبَايَنُوا تَبَايُنًا عَظِيمًا لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ . فَفِيهِمْ مَنْ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْهُ وَهُوَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ شَرُّ الْبَرِيَّةِ وَأَفْضَلُ الْأَحْوَالِ فِيهِ حَالُ الْخَلِيلَيْنِ : إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - وَمُحَمَّدٌ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَفْضَلُ الْأَوَّلِينَ والآخرين ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَإِمَامُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا ، وَخَطِيبُهُمْ إذَا وَفَدُوا وَهُوَ الْمَعْرُوجُ بِهِ إلَى مَا فَوْقَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ - إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَغَيْرِهِمَا .
وَأَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ " إبْرَاهِيمُ " كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّ إبْرَاهِيمَ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } " وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَةِ الْجُمْعَةِ : خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } " . وَكَذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَخْطُبُ بِذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسَ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : " { مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَادِمًا لَهُ وَلَا امْرَأَةً وَلَا دَابَّةً وَلَا شَيْئًا قَطُّ إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا نِيلَ مِنْهُ قَطُّ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللَّهِ فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ } " .
{ وَقَالَ أَنَسٌ : خَدَمْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي : أُفٍّ قَطُّ وَمَا قَالَ لِي لِشَيْءِ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ ؟ وَلَا لِشَيْءِ لَمْ أَفْعَلْهُ لِمَ لَا فَعَلْتَهُ ؟ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِهِ إذَا عَنَّفَنِي عَلَى شَيْءٍ قَالَ : دَعُوهُ فَلَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ } " . وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَهُ الْوَسِيلَةُ فِي الْمَقَامَاتِ كُلِّهَا وَلَمْ يَكُنْ حَالُهُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ شَيْئًا وَلَا أَنَّهُ يُرِيدُ كُلَّ وَاقِعٍ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَالُهُ أَنَّهُ يَتَّبِعُ الْهَوَى بَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذَا وَهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } { إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } وَقَالَ : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } . وَالْمُرَادُ بِعَبْدِهِ عَابِدُهُ الْمُطِيعُ لِأَمْرِهِ ؛ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْمَخْلُوقِينَ عِبَادٌ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ مَخْلُوقُونَ مدبرون . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَابْنِ عُيَيْنَة وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ : عَلَى دِينٍ عَظِيمٍ . وَ " الدِّينُ " فِعْلُ مَا أُمِرَ بِهِ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ } " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَدْ أَخْبَرَتْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعَاقِبُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ لَكِنْ يُعَاقِبُ لِلَّهِ
وَيَنْتَقِمُ لِلَّهِ وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَسٌ أَنَّهُ كَانَ يَعْفُو عَنْ حُظُوظِهِ وَأَمَّا حُدُودُ اللَّهِ فَقَدْ قَالَ : " { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا } " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَهَذَا هُوَ كَمَالُ الْإِرَادَةِ ؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَمَرَ بِذَلِكَ وَكَرِهَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } . وَأَمَّا لِحَظِّ نَفْسِهِ فَلَمْ يَكُنْ يُعَاقِبُ وَلَا يَنْتَقِمُ بَلْ يَسْتَوْفِي حَقَّ رَبِّهِ ، وَيَعْفُو عَنْ حَظِّ نَفْسِهِ وَفِي حَظِّ نَفْسِهِ يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ . فَيَقُولُ : " { لَوْ قُضِيَ شَيْءٌ لَكَانَ } " وَفِي حَقِّ اللَّهِ يَقُومُ بِالْأَمْرِ فَيَفْعَلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَيُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَكْمَلَ الْجِهَادِ الْمُمْكِنِ فَجَاهَدَهُمْ أَوَّلًا بِلِسَانِهِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا } { فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } . ثُمَّ لَمَّا
هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ . وَهَذَا مُطَابِقٌ لِمَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مَعْرُوفٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى لَمَّا لَامَ مُوسَى آدَمَ لِكَوْنِهِ أَخْرَجَ نَفْسَهُ وَذُرِّيَّتَهُ مِنْ الْجَنَّةِ بِالذَّنْبِ الَّذِي فَعَلَهُ فَأَجَابَهُ آدَمَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِمُدَّةِ طَوِيلَةٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى } " وَذَلِكَ لِأَنَّ مَلَامَ مُوسَى لِآدَمَ لَمْ يَكُنْ لِحَقِّ اللَّهِ وَإِنَّمَا كَانَ لِمَا لَحِقَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْمُصِيبَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَذَكَرَ لَهُ آدَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ أَمْرًا مُقَدَّرًا لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ وَالْمَصَائِبُ الَّتِي تُصِيبُ الْعِبَادَ يُؤْمَرُونَ فِيهَا بِالصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْفَعُهُمْ . وَأَمَّا لَوْمُهُمْ لِمَنْ كَانَ سَبَبًا فِيهَا فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تَنْفَعُهُمْ يُؤْمَرُونَ فِي ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إلَى الْقَدَرِ وَأَمَّا التَّأَسُّفُ وَالْحُزْنُ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ فَمَا جَرَى بِهِ الْقَدَرُ مِنْ فَوْتِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَوْ حُصُولِ مَضَرَّةٍ لَهُمْ فَلْيَنْظُرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْقَدَرِ وَأَمَّا مَا كَانَ بِسَبَبِ أَعْمَالِهِمْ فَلْيَجْتَهِدُوا فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْإِصْلَاحِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ . فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ يَنْفَعُهُمْ وَهُوَ مَقْدُورٌ لَهُمْ بِمَعُونَةِ اللَّهِ لَهُمْ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ . وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا ؛ وَلَكِنْ قُلْ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ } " أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِرْصِ الْعَبْدِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَنَهَاهُ عَنْ الْعَجْزِ وَأَنْفَعُ مَا لِلْعَبْدِ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى . وَهَذَانِ الْأَصْلَانِ هُمَا حَقِيقَةُ قَوْله تَعَالَى { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَنَهَاهُ عَنْ الْعَجْزِ وَهُوَ الْإِضَاعَةُ وَالتَّفْرِيطُ وَالتَّوَانِي . كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " { الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ } " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ . وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد : " { أَنَّ رَجُلَيْنِ تَحَاكَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَى أَحَدِهِمَا . فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيْسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } " فَالْكَيْسُ ضِدُّ الْعَجْزِ . وَفِي الْحَدِيثِ : " { كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرِ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ } " رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْعَجْزِ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُضَادُّ
الْقُدْرَةَ ؛ فَإِنَّ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ بِحَالِ لَا يُلَامُ وَلَا يُؤْمَرُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِحَالِ . ثُمَّ لَمَّا أَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَنَهَاهُ عَنْ الْعَجْزِ أَمَرَهُ إذَا غَلَبَهُ أَمْرٌ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْقَدَرِ ، وَيَقُولَ : قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ وَلَا يَتَحَسَّرُ وَيَتَلَهَّفُ وَيَحْزَنُ . وَيَقُولُ : لَوْ أَنِّي فَعَلْت كَذَا وَكَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى : الْأَمْرُ أَمْرَانِ : أَمْرٌ فِيهِ حِيلَةٌ وَأَمْرٌ لَا حِيلَةَ فِيهِ . فَمَا فِيهِ حِيلَةٌ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَمَا لَا حِيلَةَ فِيهِ لَا يَجْزَعُ مِنْهُ . وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الدِّينِ . كَمَا ذَكَرَ ( الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَغَيْرُهُ . فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالرِّضَا وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَقْدُورِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ يُوسُفَ : { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } " فَالتَّقْوَى " تَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ . وَ " الصَّبْرُ " يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ عَلَى الْمَقْدُورِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } - إلَى قَوْلِهِ - { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَعَ التَّقْوَى وَالصَّبْرِ لَا يَضُرُّ
الْمُؤْمِنِينَ كَيْدُ أَعْدَائِهِمْ الْمُنَافِقِينَ . وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ مَعَ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى يَمُدُّهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ . وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ . وَقَالَ تَعَالَى : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ لَا بُدَّ أَنْ يُؤْذُوهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ إنْ يَصْبِرُوا وَيَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ . فَالصَّبْرُ وَالتَّقْوَى يَدْفَعُ شَرَّ الْعَدُوِّ الْمُظْهِرِ لِلْعَدَاوَةِ الْمُؤْذِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَالْمُؤْذِينَ بِأَيْدِيهِمْ وَشَرُّ الْعَدُوِّ الْمُبْطِنُ لِلْعَدَاوَةِ . وَهُمْ الْمُنَافِقُونَ وَهَذَا الَّذِي كَانَ خُلُقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَدْيُهُ هُوَ أَكْمَلُ الْأُمُورِ .
فَأَمَّا مَنْ أَرَادَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَارَةً وَمَا لَا يُحِبُّهُ تَارَةً أَوْ لَمْ يُرِدْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا فَكِلَاهُمَا دُونَ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إثْمٌ كَاَلَّذِي يُرِيدُ مَا أُبِيحَ لَهُ مِنْ نَيْلِ الشَّهْوَةِ الْمُبَاحَةِ وَالْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ الْمُبَاحِ كَمَا هُوَ خُلُقُ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَا إثْمَ فِيهِ فَخُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ مِنْهُ .
وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُرِدْ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى أَمْرٍ مُسْتَحَبٍّ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَغْضَبَ وَيَنْتَقِمَ وَيُجَاهِدَ إذَا جَازَ الْعَفْوُ وَإِنْ كَانَ الِانْتِقَامُ لِلَّهِ أَرْضَى لِلَّهِ . كَمَا هُوَ أَيْضًا خُلُقُ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَا إثْمَ فِيهِ فَخُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ مِنْهُ . وَهَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ إذَا كَانَ شَرِيعَةً لِنَبِيِّ فَلَا عَيْبَ عَلَى نَبِيٍّ فِيمَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُ . لَكِنْ قَدْ فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ، وَفَضَّلَ بَعْضَ الرُّسُلِ عَلَى بَعْضٍ ، وَالشَّرِيعَةُ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِهَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الشَّرَائِعِ ؛ إذْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَأُمَّتُهُ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي قَوْله تَعَالَى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } كُنْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي الْأَقْيَادِ وَالسَّلَاسِلِ حَتَّى تُدْخِلُوهُمْ الْجَنَّةَ . يَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ فِي الْجِهَادِ لِنَفْعِ النَّاسِ فَهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ لِلْخَلْقِ . وَالْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ فَأَحَبُّهُمْ إلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ ، وَأَمَّا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ ذَلِكَ شِرْعَةً لِاتِّبَاعِهِ لِذَلِكَ النَّبِيِّ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَاجِهِ فَإِنْ كَانَ مَا تَرَكَهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَمَا فَعَلَهُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَأَوِّلًا مُخْطِئًا فَاَللَّهُ قَدْ وَضَعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ ، وَذَنْبُ أَحَدِهِمْ قَدْ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ بِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ . وَمِنْ أَسْبَابِ هَذَا الِانْحِرَافِ أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ تَغْلِبُ عَلَيْهِ " طَرِيقَةُ الزُّهْدِ " فِي إرَادَةِ نَفْسِهِ فَيَزْهَدُ فِي مُوجِبِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنْ عِبَادِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَالرُّهْبَانِ وَأَشْبَاهِهِمْ وَهَؤُلَاءِ يَرَوْنَ الْجِهَادَ نَقْصًا لِمَا فِيهِ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَيَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ عِمَارَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى يَدِ دَاوُد لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ سَفْكُ الدِّمَاءِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَرَى ذَبْحَ شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ كَمَا عَلَيْهِ البراهمة وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ لَكِنَّهُ هُوَ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَذْبَحُ حَيَوَانًا وَلَا يَأْكُلُ لَحْمَهُ وَلَا يَنْكِحُ النِّسَاءَ وَيَقُولُ مَادِحُهُ : فُلَانٌ مَا نَكَحَ وَلَا ذَبَحَ . وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَؤُلَاءِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ : " { أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا آكُلُ اللَّحْمَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ . فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا : كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ
وَأَصُومُ وأفطر وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَآكُلُ اللَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي } " . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَطَائِفَةٍ مَعَهُ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى التَّبَتُّلِ وَنَوْعٍ مِنْ التَّرَهُّبِ ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ سَعْدٍ قَالَ رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا } . وَ " الزُّهْدُ " النَّافِعُ الْمَشْرُوعُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ هُوَ الزُّهْدُ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ فَالزُّهْدُ فِيهِ زُهْدٌ فِي نَوْعٍ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ وَالزُّهْدُ إنَّمَا يُرَادُ لِأَنَّهُ زُهْدٌ فِيمَا يَضُرُّ أَوْ زُهْدٌ فِيمَا لَا يَنْفَعُ فَأَمَّا الزُّهْدُ فِي النَّافِعِ فَجَهْلٌ وَضَلَالٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَنَّ } " . وَالنَّافِعُ لِلْعَبْدِ هُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَطَاعَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ وَكُلَّمَا صَدَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ ضَارٌّ لَا نَافِعَ ثُمَّ الْأَنْفَعُ لَهُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ أَعْمَالِهِ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لَهُ وَإِنْ أَدَّى الْفَرَائِضَ وَفَعَلَ مُبَاحًا لَا يُعِينُهُ عَلَى الطَّاعَةِ فَقَدْ فَعَلَ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَضُرُّهُ . وَكَذَلِكَ " الْوَرَعُ " الْمَشْرُوعُ هُوَ الْوَرَعُ عَمَّا قَدْ تُخَافُ عَاقِبَتُهُ وَهُوَ
مَا يُعْلَمُ تَحْرِيمُهُ وَمَا يَشُكُّ فِي تَحْرِيمِهِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ أَعْظَمُ مِنْ فِعْلِهِ - مِثْلُ مُحَرَّمٍ مُعَيَّنٍ - مِثْلُ مَنْ يَتْرُكُ أَخْذَ الشُّبْهَةِ وَرَعًا مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهَا وَيَأْخُذُ بَدَلَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بَيِّنًا تَحْرِيمُهُ أَوْ يَتْرُكُ وَاجِبًا تَرْكُهُ أَعْظَمُ فَسَادًا مِنْ فِعْلِهِ مَعَ الشُّبْهَةِ كَمَنْ يَكُونُ عَلَى أَبِيهِ أَوْ عَلَيْهِ دُيُونٌ هُوَ مُطَالَبٌ بِهَا وَلَيْسَ لَهُ وَفَاءٌ إلَّا مِنْ مَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَيَتَوَرَّعُ عَنْهَا وَيَدَعُ ذِمَّتَهُ أَوْ ذِمَّةَ أَبِيهِ مُرْتَهِنَةً . وَكَذَلِكَ مِنْ " الْوَرَعِ " الِاحْتِيَاطُ بِفِعْلِ مَا يَشُكُّ فِي وُجُوبِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ . وَتَمَامُ " الْوَرَعِ " أَنْ يَعُمَّ الْإِنْسَانَ خَيْرُ الْخَيْرَيْنِ وَشَرُّ الشَّرَّيْنِ ، وَيَعْلَمَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا وَإِلَّا فَمَنْ لَمْ يُوَازِنْ مَا فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَفْسَدَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَقَدْ يَدَعُ وَاجِبَاتٍ وَيَفْعَلُ مُحَرَّمَاتٍ . وَيَرَى ذَلِكَ مِنْ الْوَرَعِ كَمَنْ يَدْعُ الْجِهَادَ مَعَ الْأُمَرَاءِ الظَّلَمَةِ وَيَرَى ذَلِكَ وَرَعًا وَيَدَعُ الْجُمْعَةَ وَالْجَمَاعَةَ خَلْفَ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ فِيهِمْ بِدْعَةٌ أَوْ فُجُورٌ وَيَرَى ذَلِكَ مِنْ الْوَرَعِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الصَّادِقِ وَأَخْذِ عِلْمِ الْعَالِمِ لِمَا فِي صَاحِبِهِ مِنْ بِدْعَةٍ خَفِيَّةٍ وَيَرَى تَرْكَ قَبُولِ سَمَاعِ هَذَا الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ سَمَاعُهُ مِنْ الْوَرَعِ .
وَكَذَلِكَ " الزُّهْدُ وَالرَّغْبَةُ " مَنْ لَمْ يُرَاعِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الرَّغْبَةِ وَالزُّهْدِ وَمَا يَكْرَهُهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ وَإِلَّا فَقَدَ يَدَعُ وَاجِبَاتٍ وَيَفْعَلُ مُحَرَّمَاتٍ مِثْلُ مَنْ يَدْعُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَكْلِ أَوْ أَكْلِ الدَّسِمِ حَتَّى يَفْسُدُ عَقْلُهُ أَوْ تَضْعُفَ قُوَّتُهُ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حُقُوقِ عِبَادِهِ أَوْ يَدَعُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَالْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِمَا فِي فِعْلِ ذَلِكَ مِنْ أَذَى بَعْضِ النَّاسِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْتَوْلِيَ الْكُفَّارُ وَالْفُجَّارُ عَلَى الصَّالِحِينَ الْأَبْرَارِ فَلَا يَنْظُرُ الْمَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةَ فِي ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } . يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : وَإِنْ كَانَ قَتْلُ النُّفُوسِ فِيهِ شَرٌّ فَالْفِتْنَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْكُفْرِ ، وَظُهُورُ أَهْلِهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ فَيَدْفَعُ أَعْظَمَ الفسادين بِالْتِزَامِ أَدْنَاهُمَا . وَكَذَلِكَ الَّذِي يَدَعُ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ أَوْ يَرَى أَنَّ فِي ذَبْحِهِ ظُلْمًا لَهُ هُوَ جَاهِلٌ فَإِنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ فَإِذَا قُتِلَ لِمَنْفَعَةِ الْآدَمِيِّينَ
وَحَاجَتِهِمْ كَانَ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَمُوتَ مَوْتًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدٌ وَالْآدَمِيُّ أَكْمَلُ مِنْهُ وَلَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُ إلَّا بِاسْتِعْمَالِ الْحَيَوَانِ فِي الْأَكْلِ وَالرُّكُوبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ تَعْذِيبِهِ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كَصَبْرِ الْبَهَائِمِ وَذَبْحِهَا فِي غَيْرِ الْحَلْقِ واللبة مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَأَوْجَبَ اللَّهُ الْإِحْسَانَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فِيمَا أَبَاحَهُ مِنْ الْقَتْلِ وَالذَّبْحِ . كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ : فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأُحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأُحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } " . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَهِدُوا فِي " الْإِرَادَاتِ " حَتَّى فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْإِرَادَاتِ بِإِزَائِهِمْ " طَائِفَتَانِ " : ( طَائِفَةٌ رَغِبَتْ فِيمَا كَرِهَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَ الرَّغْبَةُ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . وَ ( طَائِفَةٌ رَغِبَتْ فِيمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَكِنْ لِهَوَى أَنْفُسِهِمْ لَا لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْتُونَ بِصُوَرِ الطَّاعَاتِ مَعَ فَسَادِ النِّيَّاتِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } " . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ إرَادَاتٍ فَاسِدَةٍ مَذْمُومَةٍ فَهُمْ مَعَ تَرْكِهِمْ الْوَاجِبَ فَعَلُوا الْمُحَرَّمَ . وَهُمْ يُشْبِهُونَ الْيَهُودَ كَمَا يُشْبِهُ أُولَئِكَ النَّصَارَى . قَالَ تَعَالَى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } إلَى قَوْلِهِ : { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فَهَؤُلَاءِ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ غَيًّا مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ وَأُولَئِكَ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ مَعَ الضَّلَالِ وَالْجَهْلِ بِالْحَقِّ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ }
وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ تَارِكَةٌ مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ مِنْ الْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مُرْتَكِبَةٌ لِمَا نَهَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ مِنْ الْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ .
فَصْلٌ :
فَأَمَرَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَشَيْخُهُ حَمَّادٌ الدباس وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَشَايِخِ أَهْلَ الِاسْتِقَامَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - : بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّالِكُ مُرَادًا قَطُّ وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ مَعَ إرَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سِوَاهَا بَلْ يَجْرِي فِعْلُهُ فِيهِ فَيَكُونُ هُوَ مُرَادُ الْحَقِّ . إنَّمَا قَصَدُوا بِهِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ الْعَبْدُ أَمْرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِيهِ فَأَمَّا مَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيدَهُ وَيَعْمَلَ بِهِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ مِنْ الغالطين يَرَى الْقِيَامَ بِالْإِرَادَةِ الْخِلْقِيَّةِ هُوَ الْكَمَالُ وَهُوَ " الْفَنَاءُ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ " وَأَنَّ السُّلُوكَ إذَا انْتَهَى إلَى هَذَا الْحَدِّ فَصَاحِبُهُ إذَا قَامَ بِالْأَمْرِ فَلِأَجْلِ غَيْرِهِ أَوْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُومَ بِالْأَمْرِ فَتِلْكَ أَقْوَالٌ وَطَرَائِقُ فَاسِدَةٌ قَدْ تُكُلِّمَ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَأَمَّا الْمُسْتَقِيمُونَ مِنْ السَّالِكِينَ كَجُمْهُورِ مَشَايِخِ السَّلَفِ : مِثْلِ الْفُضَيْل بْنِ عِيَاضِ وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ
الْكَرْخِي وَالسَّرِيِّ السقطي والْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَمِثْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ وَالشَّيْخِ حَمَّادٍ وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ . فَهُمْ لَا يُسَوِّغُونَ لِلسَّالِكِ وَلَوْ طَارَ فِي الْهَوَاءِ أَوْ مَشَى عَلَى الْمَاءِ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَدَعَ الْمَحْظُورَ إلَى أَنْ يَمُوتَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ : كَقَوْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فِي كِتَابِ ( فُتُوحِ الْغَيْبِ : " اُخْرُجْ مِنْ نَفْسِك وَتَنَحَّ عَنْهَا وَانْعَزِلْ عَنْ مُلْكِك . وَسَلِّمْ الْكُلَّ إلَى اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَكُنْ بَوَّابَهُ عَلَى بَابِ قَلْبِك ، وَامْتَثِلْ أَمْرَهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِي إدْخَالِ مَنْ يَأْمُرُك بِإِدْخَالِهِ وَانْتَهِ نَهْيَهُ فِي صَدِّ مَنْ يَأْمُرُك بِصَدِّهِ . فَلَا تُدْخِلْ الْهَوَى قَلْبَك بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ وَإِخْرَاجُ الْهَوَى مِنْ الْقَلْبِ بِمُخَالَفَتِهِ ، وَتَرْكِ مُتَابَعَتِهِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَإِدْخَالُهُ فِي الْقَلْبِ بِمُتَابَعَتِهِ وَمُوَافَقَتِهِ فَلَا تُرَدْ إرَادَةٌ غَيْرُ إرَادَتِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْك غَيْرٌ وَهُوَ وَادِي الْحَمْقَى وَفِيهِ حَتْفُك وَهَلَاكُك وَسُقُوطُك مِنْ عَيْنِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَحِجَابُك عَنْهُ . احْفَظْ أَبَدًا أَمْرَهُ وَانْتَهِ أَبَدًا نَهْيَهُ وَسَلِّمْ إلَيْهِ أَبَدًا مَقْدُورَهُ وَلَا تُشْرِكْهُ بِشَيْءِ مِنْ خَلْقِهِ فَإِرَادَتُك وَهَوَاك وَشَهَوَاتُك خَلْقُهُ فَلَا تَرُدَّ وَلَا تَهْوَى وَلَا تَشْتَهِ لِئَلَّا يَكُونَ شِرْكًا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ
يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } لَيْسَ الشِّرْكُ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ فَحَسْبُ ؛ بَلْ هُوَ أَيْضًا مُتَابَعَتُك لِهَوَاك وَأَنْ تَخْتَارَ مَعَ رَبِّك شَيْئًا سِوَاهُ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَالْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا فَمَا سِوَاهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - غَيْرُهُ فَإِذَا رَكَنْت إلَى غَيْرِهِ فَقَدْ أَشْرَكْت بِهِ غَيْرَهُ فَاحْذَرْ وَلَا تَرْكَنْ وَخَفْ وَلَا تَأْمَنْ وَفَتِّشْ وَلَا تَغْفُلْ فَتَطْمَئِنَّ وَلَا تُضِفْ إلَى نَفْسِك حَالًا وَلَا مَقَامًا وَلَا تَدَعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ " . وَقَالَ ( الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ أَيْضًا : " إنَّمَا هُوَ اللَّهُ وَنَفْسُك وَأَنْتَ الْمُخَاطَبُ وَالنَّفْسُ ضِدُّ اللَّهِ وَعَدُوَّتُهُ ؛ وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا تَابِعَةٌ لِلَّهِ فَإِذَا وَافَقْت الْحَقَّ فِي مُخَالَفَةِ النَّفْسِ وَعَدَاوَتِهَا كُنْت خَصْمًا لَهُ عَلَى نَفْسِك - إلَى أَنْ قَالَ - : " فَالْعِبَادَةُ " فِي مُخَالَفَتِك نَفْسَك وَهَوَاك قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } إلَى أَنْ قَالَ : وَالْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ أَبِي يَزِيدَ البسطامي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا رَأَى رَبَّ الْعِزَّةِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ لَهُ : كَيْفَ الطَّرِيقُ إلَيْك ؟ فَقَالَ : اُتْرُكْ نَفْسَك وَتَعَالَ قَالَ أَبُو يَزِيدَ : فَانْسَلَخْت مِنْ نَفْسِي كَمَا تَنْسَلِخُ الْحَيَّةُ مِنْ جِلْدِهَا . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي مُعَادَاتِهَا فِي الْجُمْلَةِ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا فَإِنْ
كُنْت فِي حَالِ التَّقْوَى فَخَالِفْ النَّفْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ مِنْ إجْرَامِ الْخَلْقِ وَشَبَهِهِمْ وَمِنَّتِهِمْ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِمْ وَالثِّقَةِ بِهِمْ وَالْخَوْفِ مِنْهُمْ ؛ وَالرَّجَاءِ لَهُمْ وَالطَّمَعِ فِيمَا عِنْدَهُمْ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا فَلَا تَرْجُ عَطَاءَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْهَدِيَّةِ أَوْ الزَّكَاةِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْكَفَّارَةِ أَوْ النَّذْرِ فَاقْطَعْ هَمَّك مِنْهُمْ مَنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ وَالْأَسْبَابِ فَاخْرُجْ مِنْ الْخَلْقِ جِدًّا وَاجْعَلْهُمْ كَالْبَابِ يُرَدُّ وَيُفْتَتَحُ وَكَالشَّجَرَةِ يُوجَدُ فِيهَا ثَمَرَةٌ تَارَةً وَتُحِيلُ أُخْرَى كُلُّ ذَلِكَ بِفِعْلِ فَاعِلٍ وَتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ ، وَهُوَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . فَإِذَا صَحَّ لَك هَذَا كُنْت مُوَحِّدًا لَهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - وَلَا تَنْسَ مَعَ ذَلِكَ كَسْبَهُمْ لِتَتَخَلَّصَ مِنْ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ وَأَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَفْعَالَ لَا تَتِمُّ لَهُمْ دُونَ اللَّهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لِكَيْلَا تَعْبُدَهُمْ وَتَنْسَى اللَّهَ تَعَالَى وَلَا تَقْبَلْ فِعْلَهُمْ دُونَ اللَّهِ فَتَكْفُرَ وَتَكُونَ قَدَرِيًّا . وَلَكِنْ قُلْ : هِيَ لِلَّهِ خَلْقًا وَلِلْعِبَادِ كَسْبًا . كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ لِبَيَانِ مَوْضِعِ الْجَزَاءِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَامْتَثِلْ أَمْرَ اللَّهِ فِيهِمْ وَخَلِّصْ قِسْمَك مِنْهُمْ بِأَمْرِهِ وَلَا تُجَاوِزْهُ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ يُحْكَمُ عَلَيْك وَعَلَيْهِمْ فَلَا تَكُنْ أَنْتَ الْحَاكِمُ وَكَوْنُك مَعَهُمْ قَدَرٌ وَالْقَدَرُ ظُلْمَةٌ فَادْخُلْ فِي الظُّلْمَةِ بِالْمِصْبَاحِ وَهُوَ " الْحُكْمُ " : كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَخْرُجْ عَنْهُمَا . فَإِنْ خَطَرَ خَاطِرٌ أَوْ وَجَدْت إلْهَامًا فَاعْرِضْهُمَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ وَجَدْت فِيهِمَا تَحْرِيمَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ تُلْهَمَ بِالزِّنَا أَوْ الرِّبَا أَوْ مُخَالَطَةِ
أَهْلِ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي فَادْفَعْهُ عَنْك وَاهْجُرْهُ وَلَا تَقْبَلْهُ وَلَا تَعْمَلْ بِهِ وَاقْطَعْ بِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ اللَّعِينِ وَإِنْ وَجَدْت فِيهِمَا إبَاحَتَهُ كَالشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبْسِ وَالنِّكَاحِ فَاهْجُرْهُ أَيْضًا وَلَا تَقْبَلْهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ إلْهَامِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا وَقَدْ أُمِرْت بِمُخَالَفَتِهَا وَعَدَاوَتِهَا " . قُلْت : وَمُرَادُهُ بِهَجْرِ الْمُبَاحِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ كَمَا قَدْ بَيَّنَ مُرَادَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَإِنَّ الْمُبَاحَ الْمَأْمُورَ بِهِ إذَا فَعَلَهُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَقَدْ قَدَّمْت أَنَّهُ يَدْعُو إلَى طَرِيقَةِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ ؛ لَا يَقِفُ عِنْدَ طَرِيقَةِ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ . قَالَ : " وَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَحْرِيمَهُ وَلَا إبَاحَتَهُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَا تَعْقِلْهُ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ لَك ائْتِ مَوْضِعَ كَذَا وَكَذَا الق فُلَانًا الصَّالِحَ ؛ وَلَا حَاجَةَ لَك هُنَاكَ وَلَا فِي الصَّالِحِ ؛ لِاسْتِغْنَائِك عَنْهُ بِمَا أَوْلَاك اللَّهُ تَعَالَى مِنْ نِعَمِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ فَتَوَقَّفْ فِي ذَلِكَ وَلَا تُبَادِرْ إلَيْهِ . فَتَقُولُ : هَلْ هَذَا إلْهَامٌ إلَّا مِنْ الْحَقِّ فَاعْمَلْ بِهِ ؟ بَلْ انْتَظِرْ الْخَيْرَ فِي ذَلِكَ وَفِعْلُ الْحَقِّ بِأَنْ يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ الْإِلْهَامُ ، وَتُؤْمَرَ بِالسَّعْيِ أَوْ عَلَامَةٌ تَظْهَرُ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَفْعَلُهَا الْعُقَلَاءُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالْمُؤَيَّدُونَ مِنْ الْأَبْدَال . وَإِنَّمَا لَمْ تُبَادِرْ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّك لَا تَعْلَمُ عَاقِبَتَهُ وَمَا يُؤَوَّلُ الْأَمْرُ إلَيْهِ وَرُبَّمَا
كَانَ فِيهِ فِتْنَةٌ وَهَلَاكٌ وَمَكْرٌ مِنْ اللَّهِ وَامْتِحَانٌ فَاصْبِرْ حَتَّى يَكُونَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْفَاعِلُ فِيك فَإِذَا تَجَرَّدَ الْفِعْلُ وَحُمِلْت إلَى هُنَاكَ وَاسْتَقْبَلَتْك فِتْنَةٌ كَنْت مَحْمُولًا مَحْفُوظًا فِيهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُك عَلَى فِعْلِهِ وَإِنَّمَا تَتَطَرَّقُ الْعُقُوبَاتُ نَحْوَك لِكَوْنِك فِي الشَّيْءِ " . قُلْت : فَقَدْ أَمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّ مَا كَانَ مَحْظُورًا فِي الشَّرْعِ يَجِبُ تَرْكُهُ وَلَا بُدَّ وَمَا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ مُبَاحٌ بِعَيْنِهِ لِكَوْنِهِ يُفْعَلُ بِحُكْمِ الْهَوَى لَا بِأَمْرِ الشَّارِعِ فَيُتْرَكُ أَيْضًا وَأَمَّا مَا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ هُوَ بِعَيْنِهِ مُبَاحٌ لَا مَضَرَّةَ فِيهِ أَوْ فِيهِ مَضَرَّةٌ مِثْلُ السَّفَرِ إلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ وَالذَّهَابِ إلَى مَكَانٍ مُعَيَّنٍ أَوْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ جِنْسَ هَذَا الْعَمَلِ لَيْسَ مُحَرَّمًا وَلَا كُلُّ أَفْرَادِهِ مُبَاحَةٌ ؛ بَلْ يَحْرُمُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى حَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ فِي دِينِهِ فَأَمَرَهُ بِالْكَفِّ عَنْ الذَّهَابِ حَتَّى يَظْهَرَ أَوْ يَتَبَيَّنَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ أَنَّ هَذَا مَصْلَحَةٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ الذَّهَابَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ فِعْلُهُ وَإِذَا خَافَ الضَّرَرَ يَنْبَغِي لَهُ تَرْكُهُ فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى الذَّهَابِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَرَجٌ فَلَا يُؤَاخَذُ بِالْفِعْلِ . بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَهُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ شَهْوَتِهِ ؛ وَإِذْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ كَانَ حَسَنًا . وَقَدْ جَاءَتْ شَوَاهِدُ السُّنَّةِ : بِأَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِغَيْرِ تَعَرُّضٍ مِنْهُ أُعِينَ ، وَمَنْ تَعَرَّضَ لِلْبَلَاءِ خِيفَ عَلَيْهِ . مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ " { لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا
عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا } " وَمِنْهُ قَوْلُهُ : " { لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا } " . وَفِي السُّنَنِ " { مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِالشُّفَعَاءِ وُكِّلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } - وَفِي رِوَايَةٍ - وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ " وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الطَّاعُونِ : " { إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تُقْدِمُوا عَلَيْهِ ؛ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ } " وَعَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { نَهَى عَنْ النَّذْرِ } " وَمِنْهُ قَوْلُهُ : " { ذَرُونِي مَا تَرَكْتُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ . فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ . وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ } " .
فَصْلٌ :
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ : " وَإِنْ كُنْت فِي حَالِ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ حَالُ الْوِلَايَةِ : فَخَالِفْ هَوَاك ، وَاتَّبِعْ الْأَمْرَ فِي الْجُمْلَةِ وَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ عَلَى " قِسْمَيْنِ " : ( أَحَدُهُمَا ) : أَنْ تَأْخُذَ مِنْ الدُّنْيَا الْقُوتَ الَّذِي هُوَ حَقُّ النَّفْسِ وَتَتْرُكَ الْحَظَّ ، وَتُؤَدِّيَ الْفَرْضَ وَتَشْتَغِلَ بِتَرْكِ الذُّنُوبِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : مَا كَانَ بِأَمْرِ بَاطِنٍ وَهُوَ أَمْرُ الْحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَأْمُرُ عَبْدَهُ وَيَنْهَاهُ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْأَمْرُ فِي الْمُبَاحِ الَّذِي لَيْسَ حُكْمًا فِي الشَّرْعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ النَّهْيِ وَلَا مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ بَلْ هُوَ مُهْمَلٌ تُرِكَ الْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ فَسُمِّيَ مُبَاحًا فَلَا يُحْدِثُ الْعَبْدُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ عِنْدِهِ بَلْ يَنْتَظِرُ الْأَمْرَ فِيهِ فَإِذَا أُمِرَ امْتَثَلَ فَيَصِيرُ جَمِيعُ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا فِي الشَّرْعِ حُكْمُهُ فَبِالشَّرْعِ وَمَا لَيْسَ لَهُ حُكْمٌ فِي الشَّرْعِ فَبِالْأَمْرِ الْبَاطِنِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُحَقِّقًا مِنْ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ وَمَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَهُوَ مُجَرَّدُ الْفِعْلِ حَالَةَ التَّسْلِيمِ . وَإِنْ كُنْت فِي حَالَةِ حَقِّ الْحَقِّ وَهِيَ حَالَةُ الْمُحِقِّ ، وَالْفِنَاءُ حَالَةُ الْأَبْدَالِ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ ؛ لِأَجْلِ الْحَقِّ الْمُوَحِّدِينَ الْعَارِفِينَ أَرْبَابِ الْعُلُومِ ، وَالْفِعْلِ السَّادَةِ الْأُمَرَاءِ السَّخِيِّ الْخُفَرَاءِ لِلْحَقِّ خُلَفَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَجِلَّائِهِ وَأَعْيَانِهِ وَأَحْبَابِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ فِيهَا بِمُخَالَفَتِك إيَّاكَ بِالتَّبَرِّي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَأَنْ لَا تَكُونَ لَك إرَادَةٌ وَهِمَّةٌ فِي شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ دُنْيَا وَأُخْرَى ، عَبْدَ الْمَلِكِ لَا عَبْدَ الْمُلْكِ ، وَعَبْدَ الْأَمْرِ لَا عَبْدَ الْهَوَى كَالطِّفْلِ مَعَ الظِّئْرِ وَالْمَيِّتِ الْغَسِيلِ مَعَ الْغَاسِلِ وَالْمَرِيضِ الْمَغْلُوبِ عَلَى حِسِّهِ مَعَ الطَّبِيبِ فِيمَا سِوَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَقَالَ أَيْضًا : " اتَّبِعْ الشَّرْعَ فِي جَمِيعِ مَا يَنْزِلُ بِك إنْ كُنْت فِي
حَالِ التَّقْوَى الَّتِي هِيَ الْقَدَمُ الْأُولَى ، وَاتَّبِعْ الْأَمْرَ فِي حَالَةِ الْوِلَايَةِ وَوُجُودِ الْهَوَى وَلَا تَتَجَاوَزْهُ وَهِيَ الْقَدَمُ الثَّانِيَةُ ، وَارْضَ بِالْفِعْلِ وَوَافِقْ وَافْنَ فِي حَالَةِ الْبَدَلِيَّةِ وَالْعَيْنِيَّةِ والصديقية وَهِيَ الْمُنْتَهَى . تَنَحَّ عَنْ الطَّرِيقِ الْقَذِرِ خَلِّ عَنْ سَبِيلِهِ رُدَّ نَفْسَك وَهَوَاك كُفَّ لِسَانَك عَنْ الشَّكْوَى فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ إنْ كَانَ خَيْرًا زَادَك الْمَوْلَى طِيبَةً وَلَذَّةً وَسُرُورًا ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا حَفِظَك فِي طَاعَتِهِ فِيهِ وَأَزَالَ عَنْك الْمَلَامَةَ وَأَقْعَدَك فِيهِ حَتَّى يَتَجَاوَزَ وَيُرِيحَك عِنْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهِ كَمَا يَنْقَضِي اللَّيْلُ فَيُسْفِرُ عَنْ النَّهَارِ ، وَالْبَرَدُ فِي الشِّتَاءِ فَيُسْفِرُ عَنْ الصَّيْفِ ذَلِكَ النَّمُوذَجُ عِنْدَك فَاعْتَبِرْ بِهِ . ثُمَّ ذُنُوبٌ وَآثَامٌ وَإِجْرَامٌ وَتَلْوِيثٌ بِأَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالْخَطَايَا وَلَا يَصْلُحُ لِمُجَالَسَةِ الْكَرِيمِ إلَّا طَاهِرٌ عَنْ أَنْجَاسِ الذُّنُوبِ وَالزَّلَّاتِ ، وَلَا يُقْبِلُ عَلَى شِدَّتِهِ إلَّا طَيِّبٌ مِنْ دُونِ الدَّعْوَى وَالْهَوَّاشَاتِ كَمَا لَا يَصْلُحُ لِمُجَالَسَةِ الْمُلُوكِ إلَّا الطَّاهِرُ مِنْ الْأَنْجَاسِ وَأَنْوَاعِ النَّتِنِ وَالْأَوْسَاخِ فَالْبَلَايَا مُكَفِّرَاتٌ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ } " . قُلْت : فَقَدْ بَيَّنَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ لُزُومَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ مَقَامٍ ، وَذَكَرَ الْأَحْوَالَ الثَّلَاثَ الَّتِي جَعَلَهَا : حَالَ صَاحِبِ التَّقْوَى وَحَالَ الْحَقِيقَةِ ، وَحَالَ حَقِّ الْحَقِّ وَقَدْ فَسَّرَ مَقْصُودَهُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَنْ يُرِيدَ فِعْلَ مَا أُمِرَ بِهِ
فِي الشَّرْعِ ، وَتَرْكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ وَأَنَّهُ إذَا أُمِرَ الْعَبْدُ بِتَرْكِ إرَادَتِهِ فَهُوَ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ وَهَذَا حَقٌّ . فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ فَتَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ فِي وُجُودِهِ وَلَا نُهِيَ عَنْهُ فَتَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ فِي عَدَمِهِ فَيَخْلُو فِي مِثْلِ هَذَا عَنْ إرَادَةِ النَّقِيضَيْنِ . وَقَدْ بُيِّنَ أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَلْزَمَ الْأَمْرَ دَائِمًا الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ الظَّاهِرَ إنْ عَرَفَهُ أَوْ الْأَمْرَ الْبَاطِنَ ، وَبُيِّنَ أَنَّ الْأَمْرَ الْبَاطِنَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ فِي الشَّرْعِ وَلَا مُحَرَّمٍ وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُنْتَظَرُ فِيهِ الْأَمْرُ الْخَاصُّ حَتَّى يَفْعَلَهُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ . فَإِنْ قُلْت : فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ صَاحِبِ التَّقْوَى الَّذِي قَبْلَهُ ؟ وَصَاحِبِ الْحَقِّ الَّذِي بَعْدَهُ ؟ . قِيلَ : أَمَّا الَّذِي بَعْدَهُ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ " الْأَبْدَالَ " فَهُمْ الَّذِينَ لَا يَفْعَلُونَ إلَّا بِأَمْرِ الْحَقِّ ، وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا بِهِ فَلَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فِعْلًا فِيمَا فَعَلُوهُ مِنْ الطَّاعَةِ ؛ بَلْ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ بِهِمْ مَا قَامَ بِهِمْ مِنْ طَاعَةِ أَمْرِهِ . وَلِهَذَا قَالَ : فَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ فِيهَا مُخَالَفَتُك إيَّاكَ بِالتَّبَرِّي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ . فَهَؤُلَاءِ يَشْهَدُونَ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ تَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ فَيَشْهَدُونَ
أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مَا قَامَ بِهِمْ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ فَلَا يَرَوْنَ لِأَنْفُسِهِمْ حَمْدًا وَلَا مِنَّةً عَلَى أَحَدٍ ، وَيَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَلَا يَرَوْنَ أَحَدًا مُسِيئًا إلَيْهِمْ وَلَا يَرَوْنَ لَهُمْ حَقًّا عَلَى أَحَدٍ إذْ قَدْ شَهِدُوا أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْعِبَادَ لَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَلَا بِأَنْفُسِهِمْ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا بَلْ هُوَ الَّذِي كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَيَشْهَدُونَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُتَّقَى حَقَّ تُقَاتِهِ ، وَحَقُّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى ، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى ، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ فَيَرَوْنَ أَنَّ مَا قَامَ بِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُوَ جُودُهُ وَفَضْلُهُ وَكَرَمُهُ لَهُ الْحَمْدُ فِي ذَلِكَ . وَيَشْهَدُونَ : أَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَأَمَّا مَا قَامَ بِالْعِبَادِ مِنْ أَذَاهُمْ فَهُوَ خَلَقَهُ وَهُوَ مِنْ عَدْلِهِ ، وَمَا تَرَكَهُ النَّاسُ مِنْ حُقُوقِهِمْ الَّتِي يَسْتَحِقُّونَهَا عَلَى النَّاسِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَخْلُقْهُ وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَلَى مَا فَعَلَ وَمَا لَمْ يَفْعَلْ . وَلِهَذَا كَانُوا مُنْكَسِرَةً قُلُوبُهُمْ ؛ لِشُهُودِهِمْ وُجُودَهُ الْكَامِلَ ، وَعَدَمَهُمْ الْمَحْضَ ، وَلَا أَعْظَمَ انْكِسَارًا مِمَّنْ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ إلَّا الْعَدَمَ لَا يَرَى لَهُ شَيْئًا وَلَا يَرَى بِهِ شَيْئًا . وَصَاحِبُ الْحَقِيقَةِ الَّذِي هُوَ دُونَ هَذَا قَدْ شَارَكَهُ فِي إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا لِلَّهِ لَكِنْ قُصِرَ عَنْهُ فِي شُهُودِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَرُؤْيَتِهِ وَأَنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ
وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ شَيْءٌ . بَلْ الرَّبُّ هُوَ الْخَالِقُ الْفَاعِلُ لِكُلِّ مَا قَامَ بِهِ وَأَنَّ كَمَالَ هَذَا الشُّهُودِ لَا يُبْقِي شَيْئًا مِنْ الْعَجَبِ وَلَا الْكِبَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَكِلَاهُمَا قَائِمٌ بِالْأَمْرِ مُطِيعٌ لِلَّهِ لَكِنْ هَذَا يَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي جَعَلَهُ مُسْلِمًا مُصَلِّيًا وَأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا ، وَذَاكَ وَإِنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِهَذَا وَيُصَدِّقُ بِهِ إذْ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ ؛ لَكِنْ قَدْ لَا يَشْهَدُهُ شُهُودًا يَجْعَلُهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ . وَأَيْضًا بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ جِهَةٍ ثَانِيَةٍ : وَهِيَ أَنَّ الْأَوَّلَ تَكُونُ لَهُ إرَادَةٌ وَهِمَّةٌ فِي أُمُورٍ فَيَتْرُكُهَا فَهُوَ يُمَيِّزُ فِي مُرَادَاتِهِ بَيْنَمَا يُؤْمَرُ بِهِ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ وَمَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ وَلَا يُنْهَى عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ مُرَادٌ أَصْلًا إلَّا مَا أَرَادَهُ الرَّبُّ إمَّا أَمْرًا بِهِ فَيَمْتَثِلُهُ هُوَ بِاَللَّهِ وَإِمَّا فِعْلًا فِيهِ فَيَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِ وَلِهَذَا شَبَّهَهُ بِالطِّفْلِ مَعَ الظِّئْرِ فِي غَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَأَمَّا ( الْأَوَّلُ : الَّذِي هُوَ فِي مَقَامِ التَّقْوَى الْعَامَّةِ فَإِنَّ لَهُ شَهَوَاتٍ لِلْمُحَرَّمَاتِ وَلَهُ الْتِفَاتٌ إلَى الْخَلْقِ وَلَهُ رُؤْيَةُ نَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُجَاهَدَةِ بِالتَّقْوَى بِأَنْ يَكُفَّ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَعَنْ تَنَاوُلِ الشَّهَوَاتِ بِغَيْرِ الْأَمْرِ فَهَذَا يَحْتَاجُ أَنْ يُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَفْعَلُهُ وَمَا لَا يَفْعَلُهُ وَهُوَ التَّقْوَى وَصَاحِبُ الْحَقِيقَةِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَا يُؤْمَرُ بِهِ فَقَطْ فَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ فِي الشَّرْعِ وَمَا كَانَ مُبَاحًا لَمْ يَفْعَلْ إلَّا مَا أُمِرَ بِهِ .
وَأَمَّا ( الثَّالِثُ ) : فَقَدْ تَمَّ شُهُودُهُ فِي أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إلَّا لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ . فَلَا يَفْعَلُ إلَّا مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ لِلَّهِ وَيَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا تَكُونُ لَهُ هِمَّةُ إرَادَةٍ أَنْ يَفْعَلَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِ اللَّهِ وَلَا يَفْعَلُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى . وَ ( الثَّلَاثَةُ ) مُشْتَرِكُونَ فِي الطَّرِيقِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ لَا يَفْعَلُ إلَّا الطَّاعَةَ لَكِنْ يَتَفَاوَتُونَ بِكَمَالِ الْمَعْرِفَةِ وَالشَّهَادَةِ وَبِصَفَاءِ النِّيَّةِ وَالْإِرَادَةِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قِيلَ : كَلَامُ الشَّيْخِ كُلِّهِ يَدُورُ عَلَى أَنَّهُ يَتْبَعُ الْأَمْرَ مَهْمَا أَمْكَنَ مَعْرِفَتُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ بَاطِنًا وَلَا ظَاهِرًا يَكُونُ فِيهِ مُسْلِمًا لِفِعْلِ الرَّبِّ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ اخْتِيَارٌ لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا بَلْ إنْ عَرَفَ الْأَمْرَ كَانَ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ كَانَ مَعَ الْقَدَرِ فَهُوَ مَعَ أَمْرِ الرَّبِّ إنْ عَرَفَ وَإِلَّا فَمَعَ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مِنْ الْحَوَادِثِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ فَلَا يَكُونُ لِلَّهِ فِيهِ حُكْمٌ لَا بِاسْتِحْبَابِ وَلَا كَرَاهَةٍ وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ هُوَ وَالشَّيْخُ حَمَّادٌ الدباس ، وَإِنَّ السَّالِكَ يَصِلُ إلَى أُمُورٍ لَا يَكُونُ فِيهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِأَمْرِ وَلَا نَهْيٍ بَلْ يَقِفُ الْعَبْدُ مَعَ الْقَدَرِ ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ السَّالِكُ فِيهِ عِنْدَهُمْ مَعَ " الْحَقِيقَةِ الْقَدَرِيَّةِ " الْمَحْضَةِ إذْ لَيْسَ هُنَا حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ .
وَهَذَا مِمَّا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ . وَيَقُولُونَ : " الْفِعْلُ " إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرْعِ وُجُودُهُ رَاجِحًا عَلَى عَدَمِهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ رَاجِحًا عَلَى وُجُودِهِ . وَهُوَ الْمُحَرَّمُ وَالْمَكْرُوهُ . وَإِمَّا أَنْ يَسْتَوِيَ الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمُبَاحُ . وَهَذَا التَّقْسِيمُ بِحَسَبِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ . ثُمَّ " الْفِعْلُ الْمُعَيَّنُ " الَّذِي يُقَالُ هُوَ مُبَاحٌ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ لِلْعَبْدِ لِاسْتِعَانَتِهِ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ وَلِحُسْنِ نِيَّتِهِ فَهَذَا يَصِيرُ أَيْضًا مَحْبُوبًا رَاجِحَ الْوُجُودِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفَوِّتًا لِلْعَبْدِ مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ كَالْمُبَاحِ الَّذِي يَشْغَلُهُ عَنْ مُسْتَحَبٍّ فَهَذَا عَدَمُهُ خَيْرٌ لَهُ . وَالسَّالِكُ الْمُتَقَرِّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ لَا يَكُونُ الْمُبَاحُ الْمُعَيَّنُ فِي حَقِّهِ مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَعِنْ بِهِ عَلَى طَاعَتِهِ كَانَ تَرْكُهُ وَفِعْلُ الطَّاعَةِ مَكَانَهُ خَيْرًا لَهُ وَإِنَّمَا قَدْرُ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ إذَا كَانَ مَعَ عَدَمِهِ يَشْتَغِلُ بِمُبَاحِ مِثْلِهِ . فَيُقَالُ : لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَهَذَا يَصْلُحُ لِلْأَبْرَارِ أَهْلِ الْيَمِينِ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ بِالْفَرَائِضِ كَأَدَاءِ . الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَشْتَغِلُونَ مَعَ ذَلِكَ بِمُبَاحَاتِ . فَهَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ الْمُبَاحُ الْمُعَيَّنُ يَسْتَوِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِمْ إذَا كَانُوا عِنْدَ عَدَمِهِ يَشْتَغِلُونَ بِمُبَاحِ آخَرَ وَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ تَتْرُكَ النَّفْسُ فِعْلًا إنْ
لَمْ تَشْتَغِلْ بِفِعْلِ آخَرَ يُضَادُّ الْأَوَّلَ ؛ إذْ لَا تَكُونُ مُعَطَّلَةً عَنْ جَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ . وَمِنْ هَذَا أَنْكَرَ الْكَعْبِيُّ " الْمُبَاحَ " فِي الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ كُلَّ مُبَاحٍ فَهُوَ يُشْتَغَلُ بِهِ عَنْ مُحَرَّمٍ ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِنُهُ تَرْكُهُ إلَّا أَنْ يُشْتَغَلَ بِضِدِّهِ وَهَذَا الْمُبَاحُ ضِدُّهُ ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ، وَالنَّهْيُ عَنْهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ وَإِلَّا فَهُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ فَأَيُّ ضِدٍّ تَلَبَّسَ بِهِ كَانَ وَاجِبًا مِنْ بَابِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ . وَسُؤَالُ الْكَعْبِيِّ هَذَا أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النُّظَّارِ فَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَرَفَ بِالْعَجْزِ عَنْ جَوَابِهِ : كَأَبِي الْحَسَنِ الآمدي ، وَقَوَّاهُ طَائِفَة بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ أَضْدَادُهُ مَحْصُورَةً فَأَمَّا مَا لَيْسَتْ أَضْدَادُهُ مَحْصُورَةً فَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ أَمْرًا بِأَحَدِهِمَا كَمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُطْلَقِ ، وَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ . فَيُقَالُ فِي الْمُخَيَّرِ : هُوَ أَمْرٌ بِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَيُقَالُ فِي الْمُطْلَقِ هُوَ أَمْرٌ بِالْقَدَرِ الْمُشْتَرَكِ . وَجَدْنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ يَمِيلُ إلَى هَذَا . وَقَدْ أَلْزَمُوا " الْكَعْبِيَّ " إذَا تَرَكَ الْحَرَامَ بِحَرَامِ آخَرَ وَهُوَ قَدْ يَقُولُ : عَلَيْهِ تَرْكُ الْمُحَرَّمَاتِ كُلِّهَا إلَى مَا لَيْسَ بِمُحَرَّمِ بَلْ إمَّا مُبَاحٌ وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ وَإِمَّا وَاجِبٌ .
وَ " تَحْقِيقُ الْأَمْرِ " أَنَّ قَوْلَنَا : الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ . وَأَضْدَادُهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ أَوْ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِنَا : الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِلَوَازِمِهِ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَمَّا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إلَّا بِهِ . فَإِنَّ وُجُودَ الْمَأْمُورِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ لَوَازِمِهِ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ ، بَلْ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ كَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَهُ وَانْتِفَاءَ أَضْدَادِهِ وَعَدَمَ النَّهْيِ عَنْهُ ؛ بَلْ وَعَدَمُ كُلِّ شَيْءٍ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ مَلْزُومَاتِهِ وَإِذَا كَانَ لَا يَعْدَمُ إلَّا بِضِدِّ يَخْلُقُهُ كَالْأَكْوَانِ فَلَا بُدَّ عِنْدَ عَدَمِهِ مِنْ وُجُودِ بَعْضِ أَضْدَادِهِ فَهَذَا حَقٌّ فِي نَفْسِهِ ؛ لَكِنْ هَذِهِ اللَّوَازِمُ جَاءَتْ مِنْ ضَرُورَةِ الْوُجُودِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ الْأَمْرَ . وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ مَا يُؤْمَرُ بِهِ قَصْدًا وَمَا يَلْزَمُهُ فِي الْوُجُودِ . ( فَالْأَوَّلُ ) هُوَ الَّذِي يُذَمُّ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ بِخِلَافِ ( الثَّانِي ) فَإِنَّ مَنْ أُمِرَ بِالْحَجِّ أَوْ الْجُمْعَةِ وَكَانَ مَكَانَهُ بَعِيدًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى مِنْ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ ، وَالْقَرِيبُ يَسْعَى مِنْ الْمَكَانِ الْقَرِيبِ فَقَطْعُ تِلْكَ الْمَسَافَاتِ مِنْ لَوَازِمِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِذَا تُرِكَ هَذَانِ الْجُمْعَةُ وَالْحَجُّ لَمْ تَكُنْ عُقُوبَةُ الْبَعِيدِ أَعْظَمَ مِنْ عُقُوبَةِ الْقَرِيبِ بَلْ ذَلِكَ بِالْعَكْسِ أَوْلَى مَعَ أَنَّ ثَوَابَ الْبَعِيدِ أَعْظَمُ فَلَوْ كَانَتْ اللَّوَازِمُ مَقْصُودَةً لِلْأَمْرِ لَكَانَ يُعَاقَبُ بِتَرْكِهَا فَكَأَنْ يَكُونُ عُقُوبَةُ الْبَعِيدِ أَعْظَمَ وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا . وَهَكَذَا إذَا فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْكِ أَضْدَادِهِ ، لَكِنْ
تَرْكُ الْأَضْدَادِ هُوَ مِنْ لَوَازِمَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَيْسَ مَقْصُودًا لِلْأَمْرِ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ عُوقِبَ عَلَى تَرْكِهِ لَا عَلَى فِعْلِ الْأَضْدَادِ الَّتِي اشْتَغَلَ بِهَا وَكَذَلِكَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَقْصُودُ النَّاهِي عَدَمَهُ ؛ لَيْسَ مَقْصُودُهُ فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ أَضْدَادِهِ وَإِذَا تَرَكَهُ مُتَلَبِّسًا بِضِدِّ لَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّرْكِ . وَعَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ حَرَامًا بِحَرَامِ آخَرَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى الثَّانِي وَلَا يُقَالُ فَعَلَ وَاجِبًا وَهُوَ تَرْكُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ الْأَوَّلِ ، فَالْمُبَاحُ الَّذِي اشْتَغَلَ بِهِ عَنْ مُحَرَّمٍ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَا بِامْتِثَالِهِ أَمْرًا مَقْصُودًا ؛ لَكِنْ نُهِيَ عَنْ الْحَرَامِ وَمِنْ ضَرُورَةِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الِاشْتِغَالُ بِضِدِّ مِنْ أَضْدَادِهِ فَذَاكَ يَقَعُ لَازِمًا لِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلَيْسَ هُوَ الْوَاجِبُ الْمَحْدُودُ بِقَوْلِنَا " الْوَاجِبُ مَا يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ " أَوْ " يَكُونُ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ " . فَقَوْلُنَا : " مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ " أَوْ " يَجِبُ التَّوَصُّلُ إلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ " يَتَضَمَّنُ إيجَابَ اللَّوَازِمِ . وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ الْوَاجِبِ " الْأَوَّلِ " وَ " الثَّانِي " . فَإِنَّ الْأَوَّلَ يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُعَاقَبُ ، وَالثَّانِي وَاجِبٌ وُقُوعًا أَيْ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ وَيُؤْمَرُ بِهِ أَمْرًا بِالْوَسَائِلِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ لَكِنْ الْعُقُوبَةُ لَيْسَتْ عَلَى تَرْكِهِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ إذَا اشْتَبَهَتْ الْمَيْتَةُ بِالْمُذَكَّى فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ الَّذِي يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ أَحَدُهُمَا بِحَيْثُ إذَا أَكَلَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يُعَاقَبْ عُقُوبَةَ مَنْ أَكَلَ مَيْتَتَيْنِ بَلْ عُقُوبَةَ مَنْ أَكَلَ مَيْتَةً وَاحِدَةً ، وَالْأُخْرَى وَجَبَ تَرْكُهَا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ . فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : كِلَاهُمَا مُحَرَّمٌ صَحِيحٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ؛ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : الْمُحَرَّمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ أَيْضًا بِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : يَجِبُ التَّوَصُّلُ إلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبِ . وَإِنْكَارِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي عَلَى مَنْ قَالَ هَذَا وَمَنْ قَالَ الْمُحَرَّمُ أَحَدُهُمَا لَا يُنَاسِبُ طَرِيقَةَ الْفُقَهَاءِ ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى " نِزَاعٍ لَفْظِيٍّ " . فَإِنَّ الْوُجُوبَ وَالْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ لِأَحَدِهِمَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً لِلْآخَرِ بَلْ نَوْعٌ آخَرُ حَتَّى لَوْ اشْتَبَهَتْ مَمْلُوكَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ بِاللَّيْلِ وَوَطِئَهَا يَعْتَقِدُ حِلَّ وَطْءِ إحْدَاهُمَا وَتَحْرِيمَ وَطْءِ الْأُخْرَى كَانَ وَلَدُهُ مِنْ مَمْلُوكَتِهِ ثَابِتًا نَسَبُهُ بِخِلَافِ الْأُخْرَى وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهَا اشْتَبَهَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا فَحُدَّ مَثَلًا ثُمَّ تَزَوَّجَ الْأُخْرَى لَمْ يُحَدَّ حَدَّيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَنْكُوحَةُ هِيَ الْأَجْنَبِيَّةُ . وَبِهَذَا تَنْحَلُّ " شُبْهَةُ الْكَعْبِيِّ " . فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ تَرْكُهُ مَقْصُودٌ ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِضِدِّ مِنْ أَضْدَادِهِ فَهُوَ وَسِيلَةٌ ؛ فَإِذَا قِيلَ الْمُبَاحُ وَاجِبٌ بِمَعْنَى وُجُوبِ الْوَسَائِلِ أَيْ قَدْ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى فِعْلِ وَاجِبٍ وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فَهَذَا حَقٌّ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْقَصْدُ ؛ فَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَقْصِدُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْمُبَاحِ لِيَتْرُكَ الْمُحَرَّمَ مِثْلُ مَنْ يَشْتَغِلُ بِالنَّظَرِ إلَى امْرَأَتِهِ وَوَطْئِهَا لِيَدَعَ بِذَلِكَ النَّظَرِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَوَطْئِهَا أَوْ يَأْكُلُ طَعَامًا حَلَالًا لِيَشْتَغِلَ بِهِ عَنْ الطَّعَامِ الْحَرَامِ فَهَذَا يُثَابُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ وَالْفِعْلِ ؛ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : " { وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ قَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَمَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَلِمَ تَحْتَسِبُونَ بِالْحَرَامِ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْحَلَالِ } " وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُؤْخَذَ بِرُخْصِهِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ } " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَة فِي صَحِيحِهِ . وَقَدْ يُقَالُ الْمُبَاحُ يَصِيرُ وَاجِبًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا صَارَ وَاجِبًا مُعَيَّنًا وَإِلَّا كَانَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا لَكِنْ مَعَ هَذَا الْقَصْدِ إمَّا مَعَ الذُّهُولِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا أَصْلًا إلَّا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ إلَى التَّرْكِ ، وَتَرْكُ الْمُحَرَّمِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَصْدُ . فَكَذَلِكَ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَيْهِ فَإِذَا قِيلَ هُوَ مُبَاحٌ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ وُجُوبَ الْمُخَيَّرَاتِ مِنْ جِهَةِ الْوَسِيلَةِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ . فَالنِّزَاعُ فِي هَذَا الْبَابِ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ اعْتِبَارِيٌّ . وَإِلَّا فَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ لَا يُنَازِعُ فِيهَا مَنْ فَهِمَهَا .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْأَبْرَارَ وَأَصْحَابَ الْيَمِينِ قَدْ يَشْتَغِلُونَ بِمُبَاحِ
عَنْ مُبَاحٍ آخَرَ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ الْمُبَاحَيْنِ يَسْتَوِي وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ فِي حَقِّهِمْ . أَمَّا السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ فَهُمْ إنَّمَا يَسْتَعْمِلُونَ الْمُبَاحَاتِ إذَا كَانَتْ طَاعَةً لِحُسْنِ الْقَصْدِ فِيهَا ؛ وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ . وَحِينَئِذٍ فَمُبَاحَاتُهُمْ طَاعَاتٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ الْأَفْعَالُ فِي حَقِّهِمْ إلَّا مَا يَتَرَجَّحُ وُجُودُهُ فَيُؤْمَرُونَ بِهِ شَرْعًا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ أَوْ مَا يَتَرَجَّحُ عَدَمُهُ فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَلَّا يَفْعَلُوهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْمٌ وَالشَّرِيعَةُ قَدْ بَيَّنَتْ أَحْكَامَ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا فَهَذَا " سُؤَالٌ " . وَ " سُؤَالٌ ثَانٍ " وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قُدِّرَ أَنَّ مِنْ الْأَفْعَالِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ كَمَا فِي حَقِّ الْأَبْرَارِ فَهَذَا الْفِعْلُ لَا يُحْمَدُ وَلَا يُذَمُّ وَلَا يُحَبُّ وَلَا يُبْغَضُ وَلَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَّا وُجُودُ الْقَدَرِ وَعَدَمُهُ ؛ بَلْ إنْ فَعَلَوْهُ لَمْ يُحْمَدُوا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوهُ لَمْ يُحْمَدُوا ، فَلَا يَجْعَلُ مِمَّا يُحْمَدُونَ عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي هَذَا الْفِعْلِ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ مَعَ كَوْنِ هَذَا الْفِعْلِ صَدَرَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ . إذْ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا غَيْرُ " الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ " : وَهُوَ مَا فُعِلَ بِالْإِنْسَانِ كَمَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْ التَّكْلِيفِ مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُحِبَّهُ إنْ كَانَ حَسَنَةً وَيُبْغِضَهُ إنْ كَانَ سَيِّئَةً وَيَخْلُوَ عَنْهُمَا إنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنَةً وَلَا سَيِّئَةً ، فَمَنْ جَعَلَ الْإِنْسَانَ فِيمَا يَسْتَعْمِلُهُ فِيهِ الْقَدَرُ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ - كَالْمَيِّتِ بَيْنَ
يَدَيْ الْغَاسِلِ - فَقَدْ رَفَعَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ عَنْهُ فِي الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهَذَا بَاطِلٌ . وَ " سُؤَالٌ ثَالِثٌ " : وَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الْقَوْلِ طَيُّ بِسَاطِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مَعَ كَوْنِ أَفْعَالِهِ اخْتِيَارِيَّةً ، وَهَبْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَوَى فَلَيْسَ كُلُّ مَا لَا هَوَى فِيهِ يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُحِبَّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُبْغِضَ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . قِيلَ : هَذِهِ الْأَسْئِلَةُ أَسْئِلَةٌ صَحِيحَةٌ . وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَنَّ السَّالِكَ قَدْ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِحَيْثُ لَا يَدْرِي هَلْ ذَلِكَ الْفِعْلُ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا ؛ فَيَبْقَى هَوَاهُ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ هَوَى فِيهِ ثُمَّ يُسَلِّمُ فِيهِ لِلْقَدَرِ ، وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِرِضَا الرَّبِّ وَأَمْرِهِ وَحُبِّهِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ . وَهَذَا يَعْرِضُ لِكَثِيرِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعُبَّادِ وَأَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُمْ أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ لَا يَعْرِفُونَ حُكْمَ اللَّهِ الشَّرْعِيَّ فِيهَا بَلْ قَدْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُمْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ أَوْ خَفِيَتْ الْأَدِلَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَكُونُونَ مَعْذُورِينَ لِخَفَاءِ الشَّرْعِ عَلَيْهِمْ وَحُكْمُ الشَّرْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ
مَعْرِفَتِهِ وَأَمَّا مَا لَمْ يَبْلُغْهُ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فَلَا يُطَالَبُ بِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ مَا اسْتَطَاعَ . وَهَذَا خَطَأٌ فِي الْعِلْمِ وَلَيْسَ خَطَأً فِي الْعَمَلِ وَهُوَ كَالْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ لَهُ أَجْرٌ عَلَى قَصْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، وَخَطَؤُهُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ . فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا . فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنَّ يَتَوَقَّفَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا لَا مَدْحَ فِيهِ وَلَا ذَمَّ فَيَقِفُ لَا يَسْتَسْلِمُ لِلْقَدَرِ وَيَصِيرُ مَحَلًّا لِمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّهُمَّ إلَّا إذَا فَعَلَ غَيْرُهُ فِعْلًا فَهُوَ لَا يَمْدَحُهُ وَلَا يَذُمُّهُ وَلَا يَرْضَاهُ وَلَا يَسْخَطُهُ ؛ إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ حُكْمُهُ . فَأَمَّا كَوْنُهُ هُوَ مِنْ أَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ يَصِيرُ مُسْتَسْلِمًا لِمَا يَسْتَعْمِلُهُ الْقَدَرُ فِيهِ : كَالطِّفْلِ مَعَ الظِّئْرِ وَالْمَيِّتِ مَعَ الْغَاسِلِ فَهَذَا مِمَّا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ بَلْ هَذَا مُحَرَّمٌ ، وَإِنْ عفى عَنْ صَاحِبِهِ وَحَسْبُ صَاحِبِهِ أَنْ يعفي عَنْهُ ؛ لِاجْتِهَادِهِ وَحُسْنِ قَصْدِهِ أَمَّا كَوْنُهُ يُحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ وَيَجْعَلُ هَذَا أَفْضَلَ الْمَقَامَاتِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، وَكَوْنُهُ مُجَرَّدًا عَنْ هَوَاهُ لَيْسَ مُسَوَّغًا لَهُ أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِكُلِّ مَا يُفْعَلُ بِهِ . ثُمَّ يُقَالُ الْأُمُورُ مَعَ هَذَا نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يُفْعَلَ بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ كَمَا يُحْمَلُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ ، وَكَمَا تُضْجَعُ الْمَرْأَةُ قَهْرًا وَتُوطَأَ فَهَذَا لَا إثْمَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ . وَإِمَّا أَنْ يُكْرَهَ بِالْإِكْرَاهِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى يَفْعَلَ ، فَهَذَا أَيْضًا مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الْأَفْعَالِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَأَمَّا إذَا لَمْ يُكْرَهْ الْإِكْرَاهَ الشَّرْعِيَّ فَاسْتِسْلَامُهُ لِلْفِعْلِ الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَخِيرٌ هُوَ أَمْ شَرٌّ ؟ لَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِهِ وَإِنْ جَرَى عَلَى يَدِهِ خَرْقُ عَادَةٍ أَوْ لَمْ يَجْرِ فَلَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا هُوَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . قِيلَ : هَذَا السُّؤَالُ صَحِيحٌ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ السَّالِكِينَ إذَا وَصَلُوا إلَى هَذَا الْمَقَامِ فَيَحْسُنُ قَصْدُهُمْ وَتَسْلِيمُهُمْ وَخُضُوعُهُمْ لِرَبِّهِمْ وَطَلَبِهِمْ مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ لَهُمْ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ إذَا اسْتَعْمَلُوا فِي أُمُورِهِمْ [ مَا ] (1) لَا يَعْرِفُونَ حُكْمَهُ فِي الشَّرْعِ رَجَوْا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُمْ بِحُكْمِهِ قَدْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِمْ وَالْإِنْسَانُ غَيْرُ عَالِمٍ فِي كُلِّ حَالٍ بِمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي دِينِهِ وَبِمَا هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَيَبْقَى حَالُهُمْ حَالَ الْمُسْتَخِيرِ لِلَّهِ فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ عَاقِبَتَهُ إذَا قَالَ : " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسَتُخَيِّرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ ؛ فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ ؛ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَم ؛ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ . اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي
وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ . وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَأَصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ } " فَإِذَا اسْتَخَارَ اللَّهَ كَانَ مَا شَرَحَ لَهُ صَدْرَهُ وَتَيَسَّرَ لَهُ مِنْ الْأُمُورِ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ لَهُ . إذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّ عَيْنَ هَذَا الْفِعْلِ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تَأْمُرُ بِأَمْرِ مُطْلَقٍ عَامٍّ لَا بِعَيْنِ كُلِّ فِعْلٍ مِنْ كُلِّ فَاعِلٍ إذْ كَانَ هَذَا مُمْتَنِعًا ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ يُمْكِنُ إدْرَاجُهُ تَحْتَ بَعْضِ خِطَابِ الشَّارِعِ الْعَامِّ ؛ إذَا كَانَتْ الْأَفْرَادُ الْمُعَيَّنَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الْأَمْرِ الْعَامِّ الْكُلِّيِّ ؛ لَكِنْ لَا يَقْدِرُ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى اسْتِحْضَارِ هَذَا وَلَا عَلَى اسْتِحْضَارِ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاءُ يَعْدِلُونَ إلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ خَفَاءِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ . ثُمَّ " الْقِيَاسُ أَيْضًا قَدْ لَا يَحْصُلُ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ فَقَدْ يَخْفَى عَلَى الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ دُخُولُ الْوَاقِعَةِ الْمُعَيَّنَةِ تَحْتَ خِطَابٍ عَامٍّ أَوْ اعْتِبَارِهَا بِنَظِيرِ لَهَا فَلَا يُعْرَفُ لَهَا أَصْلٌ وَلَا نَظِيرٌ . هَذَا مَعَ كَثْرَةِ نَظَرِهِمْ فِي خِطَابِ الشَّارِعِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهِ وَدَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ . فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ
ثُمَّ السَّالِكُ لَيْسَ قَصْدُهُ مَعْرِفَةَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ؛ بَلْ مَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْمُعَيَّنَ خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا وَأَيُّهُمَا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ فِي حَقِّهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَا يُحِيطُ بِهِ إلَّا اللَّهُ وَلِكُلِّ سَالِكٍ حَالٌ تَخُصُّهُ قَدْ يُؤْمَرُ فِيهَا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ غَيْرَهُ وَيُؤْمَرُ فِي حَالٍ بِمَا يَنْهَى عَنْهُ فِي أُخْرَى . فَقَالُوا : نَحْنُ نَفْعَلُ الْخَيْرَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَهُوَ فِعْلُ مَا عَلِمْنَا أَنَّا أُمِرْنَا بِهِ وَنَتْرُكُ أَصْلَ الشَّرِّ وَهُوَ هَوَى النَّفْسِ وَنَلْجَأُ إلَى اللَّهِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا هُوَ أَحَبّ إلَيْهِ وَأَرْضَى لَهُ ؛ فَمَا اسْتَعْمَلْنَا فِيهِ رَجَوْنَا أَنَّ يَكُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ ثُمَّ إنْ أَصَبْنَا فَلَنَا أَجْرَانِ وَإِلَّا فَلَنَا أَجْرٌ وَخَطَؤُنَا مَحْطُوطٌ عَنَّا فَهَذَا هَذَا . وَحِينَئِذٍ فَمَنْ قَدَّرَ أَنَّهُ عَلِمَ الْمَشْرُوعَ وَفَعَلَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا ؛ وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْمَشْرُوعَ لَا يَفْعَلُهُ وَلَا يَقْصِدُ أَحَبّ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَفْعَلُهُ بِشَوْبِ مِنْ الْهَوَى فَيَبْقَى ، هَذَا فَعَلَ الْمَشْرُوعَ بِهَوَى ، وَهَذَا تَرَكَ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَشْرُوعٌ بِلَا هَوَى . فَهَذَا نَقْصٌ فِي الْعِلْمِ ، وَذَاكَ نَقْصٌ فِي الْعَمَلِ ؛ إذْ الْعَمَلُ بِهَوَى النَّفْسِ نَقْصٌ فِي الْعَمَلِ وَلَوْ كَانَ الْمَفْعُولُ وَاجِبًا . فَيُقَالُ : إنْ تَابَ صَاحِبُ الْهَوَى مِنْ هَوَاهُ كَانَ أَرْفَعَ بِعِلْمِهِ وَإِنْ
لَمْ يَتُبْ فَلَهُ نَصِيبٌ مِنْ عَالِمِ السُّوءِ ؛ وَلِهَذَا تَشَاجَرَ رَجُلَانِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ عَامَ الْحَكَمَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا . فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنَّمَا مَثَلُك مِثْلُ الْكَلْبِ ؛ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ . وَقَالَ الْآخَرُ : أَنْتَ كَالْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ؛ فَهَذَا أَحْسَنُ قَصْدًا وَأَقْوَى عِلْمًا . وَلِهَذَا تَجِدُ أَصْحَابَ حُسْنِ الْقَصْدِ إنَّمَا يَعِيبُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ اتِّبَاعَ الْهَوَى وَحُبَّ الدُّنْيَا وَالرِّئَاسَةَ ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعِيبُونَ عَلَى أُولَئِكَ نَقْصَ عِلْمِهِمْ بِالشَّرْعِ ، وَعُدُولَهُمْ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فَهَذَا هَذَا . وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمَسْئُولُ أَنْ يَهْدِيَنَا إلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ صِرَاطِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا . وَقَدْ قَالَ بَعْضُ ( أَهْلِ الْفِقْهِ وَالزُّهْدِ ) : مِنْ النَّاسِ مَنْ سَلَكَ " الشَّرِيعَةَ " وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ " الْحَقِيقَةَ " . وَلَعَلَّهُ أَرَادَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُرَجِّحُونَ بِمَا يُيَسِّرُهُ اللَّهُ مَعَ حُسْنِ الْقَصْدِ وَاتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَعْلُومِ لَهُمْ مَعَ خَفَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْمُتَيَسَّرِ لَهُمْ وَهَؤُلَاءِ يُرَجِّحُونَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الظَّوَاهِرِ وَالْأَقْيِسَةِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ مَعَ خَفَاءِ الْأَمْرِ الْمُتَيَسَّرِ لَهُمْ . وَ ( أَيْضًا فَهَؤُلَاءِ ) قَدْ يَشْهَدُونَ مَا فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ مِنْ
الْمَصْلَحَةِ وَالْخَيْرِ فَيُرَجِّحُونَهُ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا دَلِيلًا مِنْ النَّصِّ عَلَى حُسْنِهِ وَأُولَئِكَ إنَّمَا يُرَجِّحُونَ مِنْ النُّصُوصِ وَمَا اُسْتُنْبِطَ مِنْهَا . فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ الْقُرْآنُ وَهَؤُلَاءِ لَهُمْ الْإِيمَانُ . وَسَبَبُ هَذَا أَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ خَفِيَ عَلَيْهِ مَا مَعَ الْأُخْرَى مِنْ الْحَقِّ ، وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ فِي طَرِيقِهَا حَقٌّ وَبَاطِلٌ .
فَأَمَّا الْمُدَّعُونَ لِلْحَقِيقَةِ بِدُونِ مُرَاعَاةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ فَهُمْ ضَالُّونَ ؛ كَاَلَّذِينَ يَعْرِفُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَا يَفْعَلُونَ إلَّا مَا يَهْوُونَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهُمْ فُسَّاقٌ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : " احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ " . وَ " الْحَقِيقَةُ " قَدْ تَكُونُ قَدَرِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ ذَوْقِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ شَرْعِيَّةً وَلَفْظُ " الشَّرْعِ " يَتَنَاوَلُ الْمُنَزَّلَ وَالْمُؤَوَّلَ وَالْمُبَدَّلَ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَالِ أَهْل الْعِبَادَةِ وَالْإِرَادَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَنْ الْهَوَى وَهُوَ الْفَرْقُ الطَّبْعِيُّ وَقَامُوا بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ الْفَرْقِ الشَّرْعِيِّ . وَبَقِيَ " قِسْمٌ ثَالِثٌ " لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ فَرْقٌ طَبْعِيٌّ وَلَا عِنْدَهُمْ فِيهِ فَرْقٌ شَرْعِيٌّ فَهُوَ الَّذِي جَرَوْا فِيهِ مَعَ الْفِعْلِ وَالْقَدَرِ . وَأَمَّا مَنْ جَرَى مَعَ الْفَرْقِ الطَّبْعِيِّ إمَّا عَالِمًا بِأَنَّهُ عَاصٍ وَهُوَ الْعَالِمُ
الْفَاجِرُ أَوْ مُحْتَجًّا بِالْقَدَرِ أَوْ بِذَوْقِهِ وَوَجَدَهُ مُعْرِضًا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الْعَابِدُ الْجَاهِلُ فَهَذَا خَارِجٌ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . وَهَذَا مِمَّا بَيَّنَ حَالَ كَمَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَأَنَّهُمْ خَيْرُ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ؛ إذْ كَانُوا فِي خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ يَقُومُونَ بِالْفُرُوقِ الشَّرْعِيَّةِ فِي جَلِيلِ الْأُمُورِ وَدَقِيقِهَا مَعَ اتِّسَاعِ الْأَمْرِ وَالْوَاحِدُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ قَدْ يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْفُرُوقِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا يَخُصُّهُ كَمَا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي أَمْرٍ قَلِيلٍ . فَأُولَئِكَ مَعَ عَظِيمِ مَا دَخَلُوا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَهُمْ الْعِلْمُ الَّذِي يُمَيَّزُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَلَهُمْ الْقَصْدُ الْحَسَنُ الَّذِي يَفْعَلُونَ بِهِ الْحَسَنَاتِ . وَالْكَثِيرُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْعَالِمِينَ وَالْعَابِدِينَ يَفُوتُ أَحَدَهُمْ الْعِلْمُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ حَتَّى يَظُنَّ السَّيِّئَةَ حَسَنَةً وَبِالْعَكْسِ ، أَوْ يَفُوتُهُ الْقَصْدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْمَالِ حَتَّى يَتَّبِعَ هَوَاهُ فِيمَا وَضَحَ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . هَذَا لَعَمْرِي إذَا كَانَ عِنْدَ الْعَالِمِ مَا هُوَ أَمْرُ الشَّارِعِ وَنَهْيُهُ حَقِيقَةً وَعِنْدَ الْعَابِدِ حُسْنُ الْقَصْدِ الْخَالِي عَنْ الْهَوَى حَقِيقَةً
فَأَمَّا مَنْ خَلَطَ الشَّرْعَ الْمُنَزَّلَ بِالْمُبَدَّلِ وَالْمُؤَوَّلِ ، وَخَلَطَ الْقَصْدَ الْحَسَنَ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى فَهَؤُلَاءِ
وَهَؤُلَاءِ مخلطون فِي عِلْمِهِمْ وَعَمَلِهِمْ وَتَخْلِيطُ هَؤُلَاءِ فِي الْعِلْمِ سِوَى تَخْلِيطِهِمْ وَتَخْلِيطِ غَيْرِهِمْ فِي الْقَصْدِ ، وَتَخْلِيطُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَصْدِ سِوَى تَخْلِيطِهِمْ وَتَخْلِيطِ غَيْرِهِمْ فِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . وَ " حُسْنُ الْقَصْدِ " مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى نَيْلِ الْعِلْمِ وَدَرْكِهِ . وَ " الْعِلْمُ الشَّرْعِيُّ " مِنْ أَعْوَنِ الْأَشْيَاءِ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَإِنَّ الْعِلْمَ قَائِدٌ وَالْعَمَلَ سَائِقٌ ، وَالنَّفْسَ حَرُونٌ فَإِنْ وَنَى قَائِدُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِسَائِقِهَا وَإِنْ وَنَى سَائِقُهَا لَمْ تَسْتَقِمْ لِقَائِدِهَا فَإِذَا ضَعُفَ الْعِلْمُ حَارَ السَّالِكُ وَلَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَسْلُكُ فَغَايَتُهُ أَنْ يستطرح لِلْقَدَرِ وَإِذَا تَرَكَ الْعَمَلَ حَارَ السَّالِكُ عَنْ الطَّرِيقِ فَسَلَكَ غَيْرَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ تَرَكَهُ فَهَذَا حَائِرٌ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَسْلُكُ مَعَ كَثْرَةِ سَيْرِهِ وَهَذَا حَائِرٌ عَنْ الطَّرِيقِ زَائِغٌ عَنْهُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ . قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } . هَذَا جَاهِلٌ وَهَذَا ظَالِمٌ . قَالَ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } . مَعَ أَنَّ الْجَهْلَ وَالظُّلْمَ مُتَقَارِبَانِ لَكِنَّ الْجَاهِلَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ ظَالِمٌ وَالظَّالِمُ جَهِلَ الْحَقِيقَةَ الْمَانِعَةَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ . قَالَ تَعَالَى { إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَقَالُوا : كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ
فَهُوَ جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ . وَقَدْ رَوَى الْخَلَّالُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التيمي قَالَ : " الْعُلَمَاءُ ثَلَاثَةٌ " فَعَالِمٌ بِاَللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ ، وَعَالِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ لَيْسَ عَالِمًا بِاَللَّهِ ، وَعَالِمٌ بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِ اللَّهِ . فَالْعَالِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي يَخْشَاهُ وَالْعَالِمُ بِأَمْرِ اللَّه الَّذِي يَعْرِفُ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ . قُلْت : وَالْخَشْيَةُ تَمْنَعُ اتِّبَاعَ الْهَوَى ، قَالَ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } . وَالْكَمَالُ فِي عَدَمِ الْهَوَى وَفِي الْعِلْمِ هُوَ لِخَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالَ فِيهِ : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } { إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } فَنَفَى عَنْهُ الضَّلَالَ وَالْغَيَّ وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى فَنَفَى الْهَوَى وَأَثْبَتَ الْعِلْمَ الْكَامِلَ وَهُوَ الْوَحْيُ فَهَذَا كَمَالُ الْعِلْمِ وَذَاكَ كَمَالُ الْقَصْدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَوَصَفَ أَعْدَاءَهُ بِضِدِّ هَذَيْنِ فَقَالَ تَعَالَى : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } فَالْكَمَالُ الْمُطْلَقُ لِلْإِنْسَانِ هُوَ تَكْمِيلُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ عِلْمًا وَقَصْدًا . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَنْ إبْلِيسَ : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } . قَالَ تَعَالَى : { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } . وَ " عِبَادَتُهُ " طَاعَةُ أَمْرِهِ ، وَأَمْرُهُ لَنَا مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ عَنْهُ ؛ فَالْكَمَالُ فِي كَمَالِ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَمَنْ كَانَ لَمْ يَعْرِفْ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَتَرَكَ هَوَاهُ وَاسْتَسْلَمَ لِلْقَدَرِ أَوْ اجْتَهَدَ فِي الطَّاعَةِ فَأَخْطَأَ ، فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إلَى مَا اعْتَقَدَهُ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ تَعَارَضَتْ عِنْدَهُ الْأَدِلَّةُ فَتَوَقَّفَ عَمَّا هُوَ طَاعَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَهَؤُلَاءِ مُطِيعُونَ لِلَّهِ مُثَابُونَ عَلَى مَا أَحْسَنُوهُ مِنْ الْقَصْدِ لِلَّهِ وَاسْتَفْرَغُوهُ مِنْ وُسْعِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَمَا عَجَزُوا عَنْ عِلْمِهِ فَأَخْطَئُوهُ إلَى غَيْرِهِ فَمَغْفُورٌ لَهُمْ . وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ فِتَنٍ تَقَعُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَإِنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ وَيَفْعَلُونَ أُمُورًا هُمْ مُجْتَهِدُونَ فِيهَا وَقَدْ أَخْطَئُوا فَتَبْلُغُ أَقْوَامًا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا فِيهَا الذَّنْبَ أَوْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لَا يُعْذَرُونَ بِالْخَطَأِ وَهُمْ أَيْضًا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ فَيَكُونُ هَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا فِي فِعْلِهِ وَهَذَا مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا
فِي إنْكَارِهِ وَالْكُلُّ مَغْفُورٌ لَهُمْ . وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُذْنِبًا كَمَا قَدْ يَكُونَانِ جَمِيعًا مُذْنِبِينَ . وَخَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ . وَالْوَاحِدُ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يُعْطَى طَرَفًا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَيُوَلِّي وَيَعْزِلُ وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذَا كَمَالٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَالًا إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْأَمْرِ فَيَكُونُ طَاعَةً لِلَّهِ وَإِلَّا فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ وَأَفْعَالِ الْمُلْكِ : إمَّا ذَنَبٌ وَإِمَّا عَفْوٌ وَإِمَّا طَاعَةٌ . فَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَفْعَالُهُمْ طَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ وَهُمْ أَتْبَاعُ الْعَبْدِ الرَّسُولِ . وَهِيَ طَرِيقَةُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ . وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْمُلُوكِ الْعَادِلِينَ فَإِمَّا طَاعَةٌ وَإِمَّا عَفْوٌ ؛ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُلُوكِ ؛ وَطَرِيقَةُ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ . وَأَمَّا طَرِيقَةُ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ : فَتَتَضَمَّنُ الْمَعَاصِيَ ؛ وَهِيَ طَرِيقَةُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ . قَالَ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } فَلَا يَخْرُجُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ يَكُونَ
مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ : إمَّا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَإِمَّا مُقْتَصِدٌ وَإِمَّا سَابِقٌ بِالْخَيِّرَاتِ . وَ " خَوَارِقُ الْعَادَاتِ " إمَّا مُكَاشَفَةٌ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْعِلْمِ الْخَارِقِ وَإِمَّا تَصَرُّفٌ وَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْقُدْرَةِ الْخَارِقَةِ ؛ وَأَصْحَابُهَا لَا يَخْرُجُونَ عَنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ مُحْيِي الدِّينِ بْنِ النَّحَّاسِ ؛ وأظني سَمِعْتهَا مِنْهُ أَنَّهُ رَأَى الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ فِي مَنَامِهِ وَهُوَ يَقُولُ : إخْبَارًا عَنْ الْحَقِّ تَعَالَى : " مَنْ جَاءَنَا تَلَقَّيْنَاهُ مِنْ الْبَعِيدِ وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِنَا أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وَمَنْ اتَّبَعَ مُرَادَنَا أَرَدْنَا مَا يُرِيدُ وَمَنْ تَرَكَ مِنْ أَجْلِنَا أَعْطَيْنَاهُ فَوْقَ الْمَزِيدِ " . قُلْت : هَذَا مِنْ جِهَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . فَالْأُولَيَانِ : الْعِبَادَةُ وَالِاسْتِعَانَةُ . وَالْآخِرَتَانِ : الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ . فَالذَّهَابُ إلَى اللَّهِ هِيَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : " { مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } " . وَالتَّقَرُّبُ بِحَوْلِهِ هُوَ الِاسْتِعَانَةُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا
قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ . وَفِي الْأَثَرِ : " { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } " . وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : " التَّوَكُّلُ جِمَاعُ الْإِيمَانِ " وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } وَقَالَ : { إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } وَهَذَا عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فِي أَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ - بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا - سَبَبٌ لِجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ فَإِنَّهُ يُفِيدُ قُوَّةَ الْعَبْدِ وَتَصْرِيفَ الْكَوْنِ وَلِهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى ذَوِي الْأَحْوَالِ متشرعهم وَغَيْرِ متشرعهم وَبِهِ يَتَصَرَّفُونَ وَيُؤْثِرُونَ " تَارَةً " بِمَا يُوَافِقُ الْأَمْرَ . و " تَارَةً " بِمَا يُخَالِفُهُ . وَقَوْلُهُ : " وَمَنْ اتَّبَعَ مُرَادَنَا " يَعْنِي الْمُرَادَ الشَّرْعِيَّ كَقَوْلِهِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وَقَوْلِهِ : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } وَقَوْلِهِ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } هَذَا هُوَ طَاعَةُ أَمْرِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { وَأَنْتَ يَا عُمَرُ لَوْ أَطَعْت اللَّهَ لَأَطَاعَك } " . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ } " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } . وَقَوْلُهُ : " وَمَنْ تَرَكَ مِنْ أَجْلِنَا أَعْطَيْنَا فَوْقَ الْمَزِيدِ " يَعْنِي تَرَكَ مَا كَرِهَ اللَّهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ لِأَجْلِ اللَّهِ : رَجَاءً وَمَحَبَّةً وَخَشْيَةً أَعْطَيْنَاهُ . فَوْقَ الْمَزِيدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَقَامَ الصَّبْرِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
سُئِلَ عَنْ :
" إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ " و " قُوتِ الْقُلُوبِ " إلَخْ
فَأَجَابَ :
أَمَّا ( كِتَابُ قُوتِ الْقُلُوبِ ) و ( كِتَابُ الْإِحْيَاءِ ) تَبَعٌ لَهُ فِيمَا يَذْكُرُهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ : مِثْلَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالْحُبِّ وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّوْحِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَبُو طَالِبٍ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ ، وَالْأَثَرِ وَكَلَامِ أَهْلِ عُلُومِ الْقُلُوبِ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَكَلَامُهُ أَسَدُّ وَأَجْوَدُ تَحْقِيقًا وَأَبْعَدُ عَنْ الْبِدْعَةِ مَعَ أَنَّ فِي " قُوتِ الْقُلُوبِ " أَحَادِيثَ ضَعِيفَةً وَمَوْضُوعَةً وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَرْدُودَةً . وَأَمَّا مَا فِي ( الْإِحْيَاءِ ) مِنْ الْكَلَامِ فِي " الْمُهْلِكَاتِ " مِثْلُ الْكَلَامِ عَلَى الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالرِّيَاءِ وَالْحَسَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَغَالِبُهُ مَنْقُولٌ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ فِي الرِّعَايَةِ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَقْبُولٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مَرْدُودٌ وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَنَازَعٌ فِيهِ . و " الْإِحْيَاءُ " فِيهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ ؛ لَكِنْ فِيهِ مَوَادُّ مَذْمُومَةٌ فَإِنَّهُ فِيهِ مَوَادُّ فَاسِدَةٌ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ تَتَعَلَّقُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ فَإِذَا
ذَكَرَ مَعَارِفَ الصُّوفِيَّةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ عَدُوًّا لِلْمُسْلِمِينَ أَلْبَسَهُ ثِيَابَ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ أَنْكَرَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى " أَبِي حَامِدٍ " هَذَا فِي كُتُبِهِ . وَقَالُوا : مَرَّضَهُ " الشِّفَاءُ " يَعْنِي شِفَاءَ ابْنِ سِينَا فِي الْفَلْسَفَةِ . وَفِيهِ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ ضَعِيفَةٌ ؛ بَلْ مَوْضُوعَةٌ كَثِيرَةٌ . وَفِيهِ أَشْيَاءُ مِنْ أَغَالِيطِ الصُّوفِيَّةِ وَتُرَّهَاتِهِمْ . وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْمَشَايِخِ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفِينَ الْمُسْتَقِيمِينَ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْأَدَبِ مَا هُوَ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا يَرِدُ مِنْهُ فَلِهَذَا اخْتَلَفَ فِيهِ اجْتِهَادُ النَّاسِ وَتَنَازَعُوا فِيهِ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
قَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَآثَارُ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى " جِنْسِ الْمَشْرُوعِ الْمُسْتَحَبِّ فِي ذِكْرِ اللَّهِ وَدُعَائِهِ " كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَاتِبَ الْأَذْكَارِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ : { أَفْضَلُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقُرْآنِ أَرْبَعٌ - وَهُنَّ مِنْ الْقُرْآنِ - سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ لَا يَضُرُّك بِأَيِّهِنَّ بَدَأْت } . وَفِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ } . وَفِي " كِتَابِ الذِّكْرِ " لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَفْضَلُ الذِّكْرِ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ : الْحَمْدُ
لِلَّهِ } . وَفِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ حَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَفِي السُّنَنِ { حَدِيثُ الَّذِي قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا فَعَلِّمْنِي مَا يُجْزِئُنِي فِي صَلَاتِي فَقَالَ : قُلْ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ } . وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : إنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ انْتَقَلَ إلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ . وَفَضَائِلُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ وَنَحْوُهَا كَثِيرٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ الْجِنْسِ أَوْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَوْ عَنْ صِفَتِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } فَلَا يُدْعَى إلَّا بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى . وَمِنْ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ : مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي تَلْبِيَتِهِمْ : لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ . وَمِثْلَ { قَوْلِ بَعْضِ الْأَعْرَابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِاَللَّهِ عَلَيْك . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ : إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَشْفِعُ به على أحد من خلقه } وَمِثْلَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ :
السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ عِبَادِهِ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ } أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ " السَّلَامَ " إنَّمَا يُطْلَبُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ هُوَ " السَّلَامُ " فَالسَّلَامُ يُطْلَبُ مِنْهُ لَا يَطْلُبُ لَهُ . بَلْ يُثْنَى عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَهُ فَيُقَالُ : التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ . فَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ يُثْنَى عَلَيْهِ وَيُطْلَبُ مِنْهُ وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ فَيَطْلُبُ لَهُ . فَيُقَالُ : السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ . قَالَ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } وَالرِّزْقُ يَعُمُّ كُلَّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُرْتَزِقُ ؛ فَالْإِنْسَانُ يُرْزَقُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَاللِّبَاسَ ، وَمَا يَنْتَفِعُ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَمِّهِ ؛ وَيُرْزَقُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَاطِنُهُ مِنْ عِلْمٍ وَإِيمَانٍ وَفَرَحٍ وَسُرُورٍ وَقُوَّةٍ وَنُورٍ وَتَأْيِيدٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا يُرِيدُ مِنْ الْخَلْقِ مِنْ رِزْقٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَبْلُغُوا ضُرَّهُ فَيَضُرُّوهُ وَلَنْ يَبْلُغُوا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ ؛ بَلْ هُوَ الْغَنِيُّ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ . و { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } وَهُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ الْمَكْرُوهُ مِثْلُ الدُّعَاءِ بِبَغْيٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ دُعَاءِ مَنَازِلِ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ دُعَاءِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ : اللَّهُمَّ مَا كُنْت مُعَذِّبِي بِهِ فِي
الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا . وَمِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُصَابِينَ بِمَيِّتِ لَمَّا صَاحُوا : { لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بِخَيْرِ ؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ } . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى . { وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا } وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ لَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا اسْتِيعَابَهُ . وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى جِنْسِ الْمَكْرُوهِ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ هُنَا أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَسْتَحِبَّ مِنْ الذِّكْرِ إلَّا مَا كَانَ كَلَامًا تَامًّا مُفِيدًا مِثْلَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَمِثْلَ " اللَّهُ أَكْبَرُ " وَمِثْلَ " سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ " وَمِثْلَ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ " وَمِثْلَ { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ } { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ } .
فَأَمَّا " الِاسْمُ الْمُفْرَدُ " مُظْهَرًا مِثْلَ : " اللَّهُ " " اللَّهُ " . أَوْ " مُضْمَرًا " مِثْلَ " هُوَ " " هُوَ " . فَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ . وَلَا هُوَ مَأْثُورٌ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا عَنْ أَعْيَانِ الْأُمَّةِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ وَإِنَّمَا لَهِجَ بِهِ قَوْمٌ مِنْ ضُلَّالِ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَرُبَّمَا اتَّبَعُوا فِيهِ حَالَ شَيْخٍ مَغْلُوبٍ فِيهِ مِثْلَمَا يُرْوَى عَنْ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " اللَّهُ اللَّهُ " . فَقِيلَ لَهُ : لِمَ لَا تَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؟
فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ . وَهَذِهِ مِنْ زَلَّاتِ الشِّبْلِيِّ الَّتِي تُغْفَرُ لَهُ لِصِدْقِ إيمَانِهِ وَقُوَّةِ وَجْدِهِ وَغَلَبَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ رُبَّمَا يُجَنُّ وَيُذْهَبُ بِهِ إلَى الْمَارَسْتَانِ وَيَحْلِقُ لِحْيَتَهُ . وَلَهُ أَشْيَاءُ مِنْ هَذَا النَّمَطِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا ؛ وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا أَوْ مَأْجُورًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَمَاتَ قَبْلَ كَمَالِهَا لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ شَيْئًا . إذْ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ؛ بَلْ يُكْتَبُ لَهُ مَا نَوَاهُ . وَرُبَّمَا غَلَا بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَجْعَلُوا ذِكْرَ الِاسْمِ الْمُفْرَدِ لِلْخَاصَّةِ وَذِكْرَ الْكَلِمَةِ التَّامَّةِ لِلْعَامَّةِ . وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " لِلْمُؤْمِنِينَ و " اللَّهُ " لِلْعَارِفِينَ و " هُوَ " لِلْمُحَقِّقِينَ وَرُبَّمَا اقْتَصَرَ أَحَدُهُمْ فِي خَلْوَتِهِ أَوْ فِي جَمَاعَتِهِ عَلَى " اللَّهُ اللَّهُ اللَّهُ " أَوْ عَلَى " هُوَ " أَوْ " يَا هُوَ " أَوْ " لَا هُوَ إلَّا هُوَ " . وَرُبَّمَا ذَكَرَ بَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ فِي الطَّرِيقِ تَعْظِيمَ ذَلِكَ . وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ تَارَةً بِوَجْدِ وَتَارَةً بِرَأْيٍ وَتَارَةً بِنَقْلِ مَكْذُوبٍ . كَمَا يَرْوِي بَعْضُهُمْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَّنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُ اللَّهُ اللَّهُ } . فَقَالَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا . ثُمَّ أَمَرَ عَلِيًّا فَقَالَهَا ثَلَاثًا . وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ .
وَإِنَّمَا كَانَ تَلْقِينُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلذِّكْرِ الْمَأْثُورِ عَنْهُ وَرَأْسُ الذِّكْرِ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي عَرَضَهَا عَلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ الْمَوْتِ . { وَقَالَ : يَا عَمِّ قُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَك بِهَا عِنْدَ اللَّهِ } وَقَالَ : { إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا وَجَدَ رُوحَهُ لَهَا رُوحًا } وَقَالَ : { مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَقَالَ : { مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَقَالَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى . وَقَدْ كَتَبْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ " الْقَوَاعِدِ " بَعْضَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَاتَيْنِ " الْكَلِمَتَيْنِ " الْعَظِيمَتَيْنِ الْجَامِعَتَيْنِ الْفَارِقَتَيْنِ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا . فَأَمَّا ذِكْرُ " الِاسْمِ الْمُفْرَدِ " فَلَمْ يُشْرَعْ بِحَالِ وَلَيْسَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ . وَأَمَّا مَا يَتَوَهَّمُهُ طَائِفَة مِنْ غَالِطِي الْمُتَعَبِّدِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { قُلِ
اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } وَيَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْمُرَادَ قَوْلُ هَذَا الِاسْمِ فَخَطَأٌ وَاضِحٌ ؛ وَلَوْ تَدَبَّرُوا مَا قَبْلَ هَذَا تَبَيَّنَ مُرَادُ الْآيَةِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ } . أَيْ : قُلْ : اللَّهُ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى . فَهَذَا كَلَامٌ تَامٌّ وَجُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ حُذِفَ الْخَبَرُ مِنْهَا لِدَلَالَةِ السُّؤَالِ عَلَى الْجَوَابِ . وَهَذَا قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ فِي مِثْلِ هَذَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِ : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ } الْآيَةُ . وَقَوْلُهُ : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ } وَكَذَلِكَ ؟ مَا بَعْدَهَا وَقَوْلُهُ : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ اللَّهُ } عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو . وَتَقُولُ فِي الْكَلَامِ مَنْ جَاءَ ؟ فَتَقُولُ : زَيْدٌ . وَمَنْ أَكَرَمْت ؟ فَتَقُولُ : زَيْدًا . وَبِمَنْ مَرَرْت ؟ فَتَقُولُ : بِزَيْدِ . فَيَذْكُرُونَ الِاسْمَ الَّذِي هُوَ جَوَابُ مَنْ ؛ وَيَحْذِفُونَ الْمُتَّصِلَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ مَرَّةً فَيَكْرَهُونَ تَكْرِيرَهُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةِ بَيَانٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّطْوِيلِ وَالتَّكْرِيرِ .
وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ : لِي مَرَّةً شَخْصٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الغالطين فِي قَوْلِهِ : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ } قَالَ الْمَعْنَى وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ ( هُوَ أَيْ اسْمُ " هُوَ " الَّذِي يُقَالُ فِيهِ : " هُوَ هُوَ " وَصَنَّفَ ابْنُ عَرَبِيٍّ كِتَابًا فِي " الهو " فَقُلْت لَهُ - وَأَنَا إذْ ذَاكَ صَغِيرٌ جِدًّا - لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُ : لَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ مَفْصُولَةً تَأْوِيلُ هُوَ وَلَمْ تُكْتَبْ مَوْصُولَةً وَهَذَا الْكَلَامُ الَّذِي قَالَهُ هَذَا مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ . وَإِنَّمَا كَثِيرٌ مِنْ غَالِطِي الْمُتَصَوِّفَةِ لَهُمْ مِثْلُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّة . وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي يَعْنُونَهُ صَحِيحًا ؛ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ وَلَيْسَ هُوَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا . فَيَقَعَ الْغَلَطُ " تَارَةً " فِي الْحُكْمِ و " تَارَةً " فِي الدَّلِيلِ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : { أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } أَيْ : أَنْ رَأَى رَبَّهُ اسْتَغْنَى وَالْمَعْنَى إنَّهُ لَيَطْغَى أَنْ رَأَى نَفْسَهُ اسْتَغْنَى ، وَكَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : " فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ " : يَعْنِي فَإِنْ فَنِيَتْ عَنْك رَأَيْت رَبَّك . وَلَيْسَ هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا لَقِيلَ : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَهُ . وَقَدْ قِيلَ : " تَرَاهُ " ثُمَّ كَيْفَ يَصْنَعُ بِجَوَابِ الشَّرْطِ ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ : فَإِنَّهُ يَرَاك ؛ ثُمَّ إنَّهُ عَلَى قَوْلِهِمْ الْبَاطِلِ تَكُونُ كَانَ تَامَّةً . فَالتَّقْدِيرُ : فَإِنْ لَمْ تَكُنْ : أَيْ لَمْ تَقَعْ وَلَمْ تَحْصُلْ . وَهَذَا تَقْدِيرٌ مُحَالٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ كَائِنٌ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَعْدُومِ . وَلَوْ أُرِيدُ فَنَاؤُهُ عَنْ هَوَاهُ أَوْ فَنَاءِ شُهُودِهِ لِلْأَغْيَارِ لَمْ يُعَبِّرْ بِنَفْيِ كَوْنِهِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مِحَالٌ . وَمَتَى كَانَ الْمَعْنَى صَحِيحًا وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ مُرَادَةً فَقَدْ يُسَمَّى ذَلِكَ " إشَارَةً "
وَقَدْ أَوْدَعَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي " حَقَائِقَ التَّفْسِيرِ " مِنْ هَذَا قِطْعَةً . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ الْآنَ الْكَلَامَ فِي هَذَا فَإِنَّهُ بَابٌ آخَرُ . وَإِنَّمَا الْغَرَضُ بَيَانُ حُكْمِ ذِكْرِ الِاسْمِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ تَامٍّ وَقَدْ ظَهَرَ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ . وَكَذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الذَّوْقِيَّةِ ؛ فَإِنَّ الِاسْمَ وَحْدَهُ لَا يُعْطِي إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَلَا هُدًى وَلَا ضَلَالًا وَلَا عِلْمًا وَلَا جَهْلًا وَقَدْ يَذْكُرُ الذَّاكِرُ اسْمَ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ فِرْعَوْنَ مِنْ الْفَرَاعِنَةِ أَوْ صَنَمٍ مِنْ الْأَصْنَامِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ اسْمِهِ حُكْمٌ إلَّا أَنْ يَقْرِنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ أَوْ حُبٍّ أَوْ بُغْضٍ وَقَدْ يَذْكُرُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَسَائِر اللُّغَاتِ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ وَحْدَهُ لَا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ ؛ وَلَا هُوَ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ ؛ وَلَا كَلَامًا مُفِيدًا وَلِهَذَا سَمِعَ بَعْضُ الْعَرَبِ مُؤَذِّنًا يَقُولُ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ : فَعَلَ مَاذَا فَإِنَّهُ لَمَّا نَصَبَ الِاسْمَ صَارَ صِفَةً وَالصِّفَةُ مِنْ تَمَامِ الِاسْمِ الْمَوْصُوفِ فَطَلَبَ بِصِحَّةِ طَبْعِهِ الْخَبَرَ الْمُفِيدَ ؛ وَلَكِنَّ الْمُؤَذِّنَ قَصَدَ الْخَبَرَ وَلَحَنَ .
وَلَوْ كَرَّرَ الْإِنْسَانُ اسْمَ " اللَّهِ " أَلْفَ أَلْفَ مَرَّةٍ لَمْ يَصِرْ بِذَلِكَ مُؤْمِنًا وَلَمْ يَسْتَحِقَّ ثَوَابَ اللَّهِ وَلَا جَنَّتَهُ ؛ فَإِنَّ الْكُفَّارَ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ يَذْكُرُونَ الِاسْمَ مُفْرَدًا سَوَاءٌ أَقَرُّوا بِهِ وَبِوَحْدَانِيَّتِه أَمْ لَا ؛ حَتَّى إنَّهُ لَمَّا أَمَرَنَا بِذِكْرِ اسْمِهِ كَقَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وَقَوْلِهِ : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ : كَانَ ذِكْرُ اسْمِهِ بِكَلَامِ تَامٍّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : بِسْمِ اللَّهِ أَوْ يَقُولَ : سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ، وَسُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَلَمْ يَشْرَعْ ذِكْرَ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ قَطُّ وَلَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ امْتِثَالُ أَمْرٍ وَلَا [ حِلُّ صَيْدٍ ] (1) وَلَا ذَبِيحَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : فَالذَّاكِرُ أَوْ السَّامِعُ لِلِاسْمِ الْمُجَرَّدِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ وَجْدُ مُحِبَّةٍ وَتَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ . قُلْت : نَعَمْ وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْدِ الْمَشْرُوعِ وَالْحَالِ الْإِيمَانِيِّ لَا لِأَنَّ مُجَرَّدَ الِاسْمِ مُسْتَحَبٌّ وَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ حَرَّكَ سَاكِنَ الْقَلْبِ وَقَدْ يَتَحَرَّكُ السَّاكِنُ بِسَمَاعِ ذِكْرٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ حَتَّى قَدْ يَسْمَعُ الْمُسْلِمُ مَنْ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ ؛ أَوْ يَسُبّهُ فَيَثُورُ فِي قَلْبِهِ حَالُ وَجْدٍ وَمَحَبَّةٍ لِلَّهِ بِقُوَّةِ نَفْرَتِهِ
وَبُغْضِهِ لِمَا سَمِعَهُ . وَقَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَحَدَنَا لَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ مَا لَأَنْ يَحْتَرِقَ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً أَوْ يَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : أو قَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ : ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ } فَالشَّيْطَانُ لَمَّا قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ وَسُوسَةً مَذْمُومَةً تَحَرَّكَ الْإِيمَانُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمْ بِالْكَرَاهَةِ لِذَلِكَ وَالِاسْتِعْظَامِ لَهُ فَكَانَ ذَلِكَ صَرِيحَ الْإِيمَانِ ؛ وَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الَّذِي هُوَ الْوَسْوَسَةُ مَأْمُورًا بِهِ . وَالْعَبْدُ أَيْضًا قَدْ يَدْعُوهُ دَاعٍ إلَى الْكُفْرِ أَوْ الْمَعْصِيَةِ فَيَسْتَعْصِمُ وَيَمْتَنِعُ وَيُورِثُهُ ذَلِكَ إيمَانًا وَتَقْوَى ؛ وَلَيْسَ السَّبَبُ مَأْمُورًا بِهِ ؛ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ } الْآيَةَ . فَهَذَا الْإِيمَانُ الزَّائِدُ وَالتَّوَكُّلُ كَانَ سَبَبَ تَخْوِيفِهِمْ بِالْعَدُوِّ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَشْرُوعًا بَلْ الْعَبْدُ يَفْعَلُ ذَنْبًا فَيُورِثُهُ ذَلِكَ تَوْبَةً يُحِبُّهُ اللَّهُ بِهَا وَلَا يَكُونُ الذَّنْبُ مَأْمُورًا بِهِ وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا . فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ السَّبَبِ مُوجِبًا لِلْخَيْرِ وَمُقْتَضِيًا وَبَيْنَ
أَنْ لَا يَكُونَ ؛ وَإِنَّمَا نَشَأَ الْخَيْرُ مِنْ الْمَحَلِّ . فَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ الْكَلِمَاتِ الطَّيِّبَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ هِيَ مُوجِبَةٌ لِلْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَالثَّوَابِ . وَإِذَا اقْتَرَنَ بِهَا قُوَّةُ إيمَانِ الْعَبْدِ وَمَا يَجِدُهُ مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَتَذَوُّقِهِ مِنْ طَعْمِهِ تَضَاعَفَ الْخَيْرُ وَالرَّحْمَةُ وَالْبَرَكَةُ وَمَا لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ : إمَّا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ : مُحَرَّمِهِ وَمَكْرُوهِهِ وَمُبَاحِهِ . وَإِمَّا مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ مَعَهُ : مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَإِمَّا مِنْ الْحَوَادِثِ السمائية الَّتِي يُصِيبُهُ بِهَا الرَّبُّ إذَا صَادَفَتْ مِنْهُ إيمَانًا وَيَقِينًا فَحَرَّكَتْ ذَلِكَ الْإِيمَانَ وَالْيَقِينَ وَازْدَادَ الْعَبْدُ بِذَلِكَ إيمَانًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ تُحَبَّ تِلْكَ الْأَسْبَابُ أَوْ تُحْمَدَ أَوْ يُؤْمَرَ بِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُقْتَضِيَةً لِذَلِكَ الْخَيْرِ وَإِنَّمَا مُقْتَضَاهَا تَحْرِيكُ السَّاكِنِ وَطَالَ مَا جَرَتْ إلَى شَرٍّ وَضَرَرٍ . وَيُشْبِهُ هَذَا الْبَابُ ذِكْرَ الْحُبِّ الْمُطْلَقِ وَالشَّوْقِ الْمُطْلَقِ وَالْوَجَلِ الْمُطْلَقِ وَمَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ مِنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْمُجْمَلِ أَيْضًا : يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَلِذَلِكَ لَمَّ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالْبِرِّ وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ شِعْرَ الْمُحِبِّينَ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ مُحِبِّ الْإِيمَانِ وَمُحِبِّ الْأَوْثَانِ وَمُحِبِّ النِّسْوَانِ وَمُحِبِّ المردان وَمُحِبِّ الْأَوْطَانِ وَمُحِبِّ الْأَخْدَانِ .
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ ذِكْرَ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ مُسْتَحَبًّا ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ ذِكْرَ الْخَاصَّةِ . وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ ذِكْرُ " الِاسْمِ الْمُضْمَرِ " وَهُوَ : " هُوَ " . فَإِنَّ هَذَا بِنَفْسِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مُعَيَّنٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا يُفَسِّرُهُ مِنْ مَذْكُورٍ أَوْ مَعْلُومٍ فَيَبْقَى مَعْنَاهُ بِحَسَبِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَنِيَّتِهِ ؛ وَلِهَذَا قَدْ يَذْكُرُ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَقَّ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ . وَقَدْ يَقُولُ : " لَا هُوَ إلَّا هُوَ " وَيَسْرِي قَلْبُهُ فِي " وَحْدَةِ الْوُجُودِ " وَمَذْهَبُ فِرْعَوْنَ والْإِسْمَاعِيلِيَّة وَزَنَادِقَةِ هَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ بِحَيْثُ يَكُونُ قَوْلُهُ " هُوَ " كَقَوْلِهِ : " وُجُودُهُ " . وَقَدْ يَعْنِي بِقَوْلِهِ : " لَا هُوَ إلَّا هُوَ " أَيْ : أَنَّهُ هُوَ الْوُجُودُ وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ خَلْقٌ أَصْلًا ، وَأَنَّ الرَّبَّ وَالْعَبْدَ وَالْحَقَّ وَالْخَلْقَ شَيْءٌ وَاحِدٌ . كَمَا بَيَّنْتُهُ مِنْ مَذْهَبِ " الِاتِّحَادِيَّةِ " فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَمِنْ أَسْبَابِ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْفَاسِدَةِ الْخُرُوجُ عَنْ الشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ الَّذِي بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ إلَيْنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ الْبِدَعَ هِيَ : مَبَادِئُ الْكُفْرِ وَمَظَانُّ الْكُفْرِ . كَمَا أَنَّ السُّنَنَ الْمَشْرُوعَةَ هِيَ : مَظَاهِرُ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَةٌ لِلْإِيمَانِ ؛ فَإِنَّهُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ . كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ زِيَادَتِهِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا } وَقَوْلِهِ : { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا }
وَقَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ } وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الذِّكْرُ مَشْرُوعًا . فَهَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ ؟ قُلْت : أَمَّا فِي حَقِّ الْمَغْلُوبِ فَلَا يُوصَفُ بِكَرَاهَةِ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلْقَلْبِ أَحْوَالٌ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ فِيهَا نُطْقُ اللِّسَانِ مَعَ امْتِلَاءِ الْقَلْبِ بِأَحْوَالِ الْإِيمَانِ وَرُبَّمَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ ذِكْرُ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ دُونَ الْكَلِمَةِ التَّامَّةِ وَهَؤُلَاءِ يَأْتُونَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ وَمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نُطْقِ اللِّسَانِ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ فِي الذِّكْرِ أَرْبَعُ طَبَقَاتٍ : ( إحْدَاهَا ) الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ . ( الثَّانِي ) الذِّكْرُ بِالْقَلْبِ فَقَطْ فَإِنْ كَانَ مَعَ عَجْزِ اللِّسَانِ فَحَسَنٌ وَإِنْ كَانَ مَعَ قُدْرَتِهِ فَتَرْكٌ لِلْأَفْضَلِ . ( الثَّالِثُ ) الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ وَهُوَ كَوْنُ لِسَانِهِ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ وَفِيهِ حِكَايَةُ الَّتِي لَمْ تَجِدْ الْمَلَائِكَةُ فِيهِ خَيْرًا إلَّا حَرَكَةَ لِسَانِهِ بِذِكْرِ اللَّهِ . وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ } . ( الرَّابِعُ ) عَدَمُ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ حَالُ الْخَاسِرِينَ .
وَأَمَّا مَعَ تَيَسُّرِ الْكَلِمَةِ التَّامَّةِ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى مُجَرَّدِ الِاسْمِ مُكَرَّرًا بِدْعَةٌ وَالْأَصْلُ فِي الْبِدَعِ الْكَرَاهَةُ . وَمَا نُقِلَ عَنْ " أَبِي يَزِيدَ " و " النُّورِيِّ " و " الشِّبْلِيِّ " وَغَيْرِهِمْ : مِنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْمُجَرَّدِ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ فَإِنَّ أَحْوَالَهُمْ تَشْهَدُ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْمَشَايِخَ الَّذِينَ هُمْ أَصَحُّ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَكْمَلُ لَمْ يَذْكُرُوا إلَّا الْكَلِمَةَ التَّامَّةَ وَعِنْدَ التَّنَازُعِ يَجِبُ الرَّدُّ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وَلَيْسَ فِعْلُ غَيْرِ الرَّسُولِ حُجَّةً عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ : فِي الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ : فِي " الزُّهْدِ " و " الْعِبَادَةِ " و " الْوَرَعِ " فِي تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشَّهَوَاتِ و " الِاقْتِصَادِ " فِي الْعِبَادَةِ . وَأَنَّ لُزُومَ السُّنَّةِ هُوَ يَحْفَظُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ بِدُونِ الطُّرُقِ الْمُبْتَدَعَةِ فَإِنَّ أَصْحَابَهَا لَا بُدَّ أَنْ يَقَعُوا فِي الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ وَإِنْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ أَصْحَابُ الْبِدَعِ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ ؛ فَإِنَّ طَرِيقَ السُّنَّةِ عِلْمٌ وَعَدْلٌ وَهُدًى ؛ وَفِي الْبِدْعَةِ جَهْلٌ وَظُلْمٌ وَفِيهَا اتِّبَاعُ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ . و " الرَّسُولُ " مَا ضَلَّ وَمَا غَوَى و " الضَّلَالُ " مَقْرُونٌ بِالْغَيِّ ؛ فَكُلُّ غَاوٍ ضَالٌّ ؛ وَالرَّشَدُ ضِدُّ الْغَيِّ وَالْهُدَى ضِدُّ الضَّلَالِ وَهُوَ مُجَانَبَةُ طَرِيقِ الْفُجَّارِ ، وَأَهْلِ الْبِدَعِ كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَنْهَوْنَ عَنْهُمَا . قَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } .
و " الْغَيُّ " فِي الْأَصْلِ : مَصْدَرُ غَوَى يَغْوِي غَيًّا ؛ كَمَا يُقَالُ : لَوَى يَلْوِي لَيًّا . وَهُوَ ضِدُّ الرَّشَدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } . و " الرُّشْدُ " الْعَمَلُ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ وَالْغَيُّ الْعَمَلُ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ فَعَمَلُ الْخَيْرِ رُشْدٌ وَعَمَلُ الشَّرِّ غَيٌّ ؛ وَلِهَذَا قَالَتْ الْجِنُّ : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } فَقَابَلُوا بَيْنَ الشَّرِّ وَبَيْنَ الرَّشَدِ وَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ : { قُلْ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا } وَمِنْهُ " الرَّشِيدُ " الَّذِي يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ . وَهُوَ الَّذِي يَصْرِفُ مَالَهُ فِيمَا يَنْفَعُ لَا فِيمَا يَضُرُّ . وَقَالَ الشَّيْطَانُ : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { إلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالشَّرِّ الَّذِي يَضُرُّهُمْ فَيُطِيعُونَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } وَقَالَ : { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } إلَى أَنْ قَالَ : { فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } { وَجُنُودُ إبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } وَقَالَ : { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } وَقَالَ : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } . ثُمَّ إنَّ " الْغَيَّ " إذَا كَانَ اسْمًا لِعَمَلِ الشَّرِّ الَّذِي يَضُرُّ صَاحِبَهُ فَإِنَّ عَاقِبَةَ الْعَمَلِ أَيْضًا تُسَمَّى غَيًّا كَمَا أَنَّ عَاقِبَةَ الْخَيْرِ تُسَمَّى رُشْدًا كَمَا
يُسَمَّى عَاقِبَةُ الشَّرِّ شَرًّا وَعَاقِبَةُ الْخَيْرِ خَيْرًا ؛ وَعَاقِبَةُ الْحَسَنَاتِ حَسَنَاتٍ ؛ وَعَاقِبَةُ السَّيِّئَاتِ سَيِّئَاتٍ . " فَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ " فِي كِتَابِ اللَّهِ يُرَادُ بِهَا أَعْمَالُ الْخَيْرِ ، وَأَعْمَالُ الشَّرِّ كَمَا يُرَادُ بِهَا النِّعَمُ وَالْمَصَائِبُ وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَمَنْ عَمِلَ خَيْرًا وَحَسَنَاتٍ لَقِيَ خَيْرًا وَحَسَنَاتٍ وَمَنْ عَمِلَ شَرًّا وَسَيِّئَاتٍ لَقِيَ شَرًّا وَسَيِّئَاتٍ . كَذَلِكَ مَنْ عَمِلَ غَيًّا لَقِيَ غَيًّا وَتَرْكُ الصَّلَاةِ ، وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ غَيٌّ يَلْقَى صَاحِبُهُ غَيًّا . فَلِهَذَا قَالَ الزمخشري : كُلُّ شَرٍّ عِنْدَ الْعَرَبِ غَيٌّ وَكُلُّ خَيْرٍ رَشَادٌ . كَمَا قِيلَ : فَمَنْ يَلْقَ خَيْرًا يَحْمَدُ النَّاسُ أَمْرَهُ وَمَنْ يَغْوِ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا وَقَالَ الزَّجَّاجُ : جَزَاؤُهُ غَيٌّ ؛ لِقَوْلِهِ : { يَلْقَ أَثَامًا } أَيْ مُجَازَاةَ آثَامٍ . وَفِي الْحَدِيثِ الْمَأْثُورِ : { إنَّ غَيًّا وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَسْتَعِيذُ مِنْهُ أَوْدِيَتُهَا } وَهَذَا تَعْبِيرٌ عَنْ مُلَاقَاةِ الشَّرِّ . وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا إرَادَةُ وَجْهِ اللَّهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أَيْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ . وَالدَّاعِي يَقْصِدُ رَبَّهُ وَيُرِيدُهُ فَتَكُونُ الْقُلُوبُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُرِيدَةً لِرَبِّهَا مُحِبَّةً لَهُ .
وَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ ؛ فَإِنَّ " الشَّهَوَاتِ " جَمْعُ شَهْوَةٍ وَالشَّهْوَةُ هِيَ فِي الْأَصْلِ : مَصْدَرٌ وَيُسَمَّى الْمُشْتَهَى شَهْوَةً . تَسْمِيَةٌ لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ . قَالَ تَعَالَى { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } فَجَعَلَ التَّوْبَةَ فِي مُقَابَلَةِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْنَا : أَيْ فَاَللَّهُ يُحِبُّ لَنَا ذَلِكَ وَيَرْضَاهُ وَيَأْمُرُ بِهِ { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } وَهُمْ الْغَاوُونَ { أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } يَعْدِلُ بِكُمْ عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إلَى اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ عُدُولًا عَظِيمًا فَإِنَّ أَصْلَ " الْمَيْلِ " الْعُدُولُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ لِلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصَوْا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ } رَوَاهُ أَحْمَد وَابْنُ مَاجَه مِنْ حَدِيثِ ثوبان . فَأَخْبَرُ أَنَّا لَا نُطِيقُ الِاسْتِقَامَةَ أَوْ ثَوَابَهَا إذَا اسْتَقَمْنَا . وَقَالَ { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } فَقَوْلُهُ : { كُلَّ الْمَيْلِ } أَيْ يُرِيدُ نِهَايَةَ الْمَيْلِ يُرِيدُ الزَّيْغَ عَنْ الطَّرِيقِ وَالْعُدُولَ عَنْ سَوَاءِ الصِّرَاطِ إلَى نِهَايَةِ الشَّرِّ ؛ بَلْ إذَا بُلِيت بِذَلِكَ فَتَوَسَّطْ وَعُدْ إلَى الطَّرِيقِ بِالتَّوْبَةِ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَيْلُ الْمُؤْمِنِ كَمَيْلِ الْفَرَسِ فِي آخِيَتِهِ يَحُولُ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى آخِيَتِهِ . كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَحُولُ ثُمَّ يَرْجِعُ
إلَى رَبِّهِ } قَالَ تَعَالَى : { وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } فَلَمْ يَقُلْ لَا يَظْلِمُونَ وَلَا يُذْنِبُونَ . بَلْ قَالَ : { إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } أَيْ بِذَنْبِ آخَرَ غَيْرِ الْفَاحِشَةِ ؛ فَعَطَفَ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ . كَمَا قَالَ مُوسَى : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } وَقَالَتْ بلقيس : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } وَقَالَ تَعَالَى عُمُومًا عَنْ أَهْلِ الْقُرَى الْمُهْلَكَةِ : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } فَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِارْتِكَابِهِمْ مَا نُهُوا عَنْهُ ؛ وَبِعِصْيَانِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ ؛ وَبِتَرْكِهِمْ التَّوْبَةَ إلَى رَبِّهِمْ . وقَوْله تَعَالَى { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } وَلِهَذَا قَالَ : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ } ثُمَّ قَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ : يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ الزِّنَا وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : هُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ . وَقَالَ السدي : هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْجَمِيعُ حَقٌّ ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ مَعَ الْكُفْرِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } وَسِيَاقُ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَهْوَةٍ مُبَاحَةٍ يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ الْمُحَرَّمَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ طَاوُوسٌ وَمُقَاتِلٌ : ضَعِيفٌ فِي قِلَّةِ الصَّبْرِ عَنْ النِّسَاءِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ كيسان : ضَعِيفُ الْعَزْمِ عَنْ قَهْرِ الْهَوَى . وَقِيلَ : ضَعِيفٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ، يُرْوَى ذَلِكَ
عَنْ الْحَسَنِ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ عَنْ الصَّبْرِ لِيُنَاسِبَ مَا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ فَإِنَّهُ قَالَ : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } وَهُوَ تَسْهِيلُ التَّكْلِيفِ بِأَنْ يُبِيحَ لَكُمْ مَا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَلَا تَصْبِرُوا عَنْهُ . كَمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْفَتَيَاتِ ؛ وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ { لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } . فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَ إبَاحَتِهِ نِكَاحَ الْإِمَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الطَّوْلِ وَخَشْيَةِ الْعَنَتِ قَالَ : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ الصَّبْرُ مَعَ خَشْيَةِ الْعَنَتِ وَأَنَّهُ لَيْسَ النِّكَاحُ كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَبَاحَ " الِاسْتِمْنَاءَ " عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَالصَّبْرُ عَنْ الِاسْتِمْنَاءِ أَفْضَلُ . فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ نِكَاحَ الْإِمَاءِ خَيْرٌ مِنْهُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الزِّنَا فَإِذَا كَانَ الصَّبْرُ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ أَفْضَلَ فَعَنْ الِاسْتِمْنَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَفْضَلُ . لَا سِيَّمَا وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ يَجْزِمُونَ بِتَحْرِيمِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ - يَعْنِي عَنْ أَحْمَد - أَنَّهُ مُحَرَّمٌ إلَّا إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ . وَالثَّالِثُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ إلَّا إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ . فَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ قَالَ فِي نِكَاحِ الْإِمَاءِ : { وَأَنْ
تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } فَفِيهِ أَوْلَى . وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَنْ كِلَيْهِمَا مُمْكِنٌ . فَإِذَا كَانَ قَدْ أَبَاحَ مَا يُمْكِنُ الصَّبْرُ عَنْهُ فَذَلِكَ لِتَسْهِيلِ التَّكْلِيفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } . و " الِاسْتِمْنَاءُ " لَا يُبَاحُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ سَلَفًا وَخَلَفًا سَوَاءٌ خُشِيَ الْعَنَتُ أَوْ لَمْ يُخْشَ ذَلِكَ . وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا رُوِيَ عَنْ أَحْمَد فِيهِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ خَشِيَ " الْعَنَتَ " وَهُوَ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ خَشْيَةً شَدِيدَةً خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي ذَلِكَ فَأُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ لِتَكْسِيرِ شِدَّةِ عَنَتِهِ وَشَهْوَتِهِ . وَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَلَذُّذًا أَوْ تَذَكُّرًا أَوْ عَادَةً ؛ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ فِي حَالِ اسْتِمْنَائِهِ صُورَةً كَأَنَّهُ يُجَامِعُهَا فَهَذَا كُلُّهُ مُحَرَّمٌ لَا يَقُولُ بِهِ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ وَقَدْ أَوْجَبَ فِيهِ بَعْضُهُمْ الْحَدَّ ، وَالصَّبْرُ عَنْ هَذَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا مِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ .
وَأَمَّا الصَّبْرُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَوَاجِبٌ وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ تَشْتَهِيهَا وَتَهْوَاهَا . قَالَ تَعَالَى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } و " الِاسْتِعْفَافُ " هُوَ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ } . " فَالْمُسْتَغْنِي " لَا يَسْتَشْرِفُ بِقَلْبِهِ و " الْمُسْتَعِفُّ " هُوَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ بِلِسَانِهِ و " الْمُتَصَبِّرُ " هُوَ الَّذِي لَا يَتَكَلَّفُ الصَّبْرَ . فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ . وَهَذَا كَأَنَّهُ فِي سِيَاقِ الصَّبْرِ عَلَى الْفَاقَةِ بِأَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَرَارَةِ الْحَاجَةِ لَا يَجْزَعُ مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ الْفَقْرِ وَهُوَ الصَّبْرُ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ . قَالَ تَعَالَى : { وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ } . و " الضَّرَّاءُ " الْمَرَضُ . وَهُوَ الصَّبْرُ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ حَاجَةٍ وَمَرَضٍ وَخَوْفٍ . وَالصَّبْرُ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ كَالْجِهَادِ ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَرَضِ الَّذِي يُبْتَلَى بِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ؛ وَلِذَلِكَ إذَا اُبْتُلِيَ بِالْعَنَتِ فِي الْجِهَادِ فَالصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَيْهِ فِي بَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الصَّبْرَ مِنْ تَمَامِ الْجِهَادِ . وَكَذَلِكَ لَوْ اُبْتُلِيَ فِي الْجِهَادِ بِفَاقَةِ أَوْ مَرَضٍ حَصَلَ بِسَبَبِهِ كَانَ الصَّبْرُ عَلَيْهِ أَفْضَلَ . كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ . وَكَذَلِكَ مَا يُؤْذَى الْإِنْسَانُ بِهِ فِي فِعْلِهِ لِلطَّاعَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ الْمَصَائِبِ فَصَبْرُهُ عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بِدُونِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى مُحَرَّمَاتٍ : مِنْ رِئَاسَةٍ وَأَخْذِ مَالٍ وَفِعْلِ فَاحِشَةٍ كَانَ صَبْرُهُ عَنْهُ أَفْضَلَ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ كُلَّمَا عَظُمَتْ كَانَ الصَّبْرُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِمَّا دُونَهَا . فَإِنَّ فِي " الْعِلْمِ " وَ " الْإِمَارَةِ " وَ " الْجِهَادِ " وَ " الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ " وَ " الصَّلَاةِ " وَ " الْحَجِّ " وَ " الصَّوْمِ " وَ " الزَّكَاةِ " مِنْ الْفِتَنِ النَّفْسِيَّةِ وَغَيْرِهَا مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا . وَيَعْرِضُ فِي ذَلِكَ مَيْلُ النَّفْسِ إلَى الرِّئَاسَةِ وَالْمَالِ وَالصُّوَرِ . فَإِذَا كَانَتْ النَّفْسُ غَيْرَ قَادِرَةٍ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِ كَمَا تَطْمَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ ؛ فَإِنَّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ تَطْلُبُ تِلْكَ الْأُمُورَ الْمُحَرَّمَةَ ؛ بِخِلَافِ حَالِهَا بِدُونِ الْقُدْرَةِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مَعَ الْقُدْرَةِ جِهَادٌ ؛ بَلْ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ . وَأَكْمَلُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) : أَنَّ الصَّبْرَ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَصَائِبِ . ( الثَّانِي ) : أَنَّ تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَطَلَبَ النَّفْسِ لَهَا أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا بِدُونِ ذَلِكَ . ( الثَّالِثُ ) : أَنَّ طَلَبَ النَّفْسِ لَهَا إذَا كَانَ بِسَبَبِ أَمْرٍ دِينِيٍّ - كَمَنَ
خَرَجَ لِصَلَاةِ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ جِهَادٍ فَابْتُلِيَ بِمَا يَمِيلُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ صَبْرَهُ عَنْ ذَلِكَ - يَتَضَمَّنُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ بِدُونِ عَمَلٍ صَالِحٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ يُوصِي بِثَلَاثِ يَقُولُ : لَا تَدْخُلْ عَلَى سُلْطَانٍ ، وَإِنْ قُلْتَ : آمُرُهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ . وَلَا تَدْخُلْ عَلَى امْرَأَةٍ ؛ وَإِنْ قُلْتَ : أُعَلِّمُهَا كِتَابَ اللَّهِ . وَلَا تُصْغِ أُذُنَكَ إلَى صَاحِبِ بِدْعَةٍ وَإِنْ قُلْتَ : أَرُدُّ عَلَيْهِ . فَأَمْرُهُ بِالِاحْتِرَازِ مِنْ " أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ " فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَعَرَّضَ لِذَلِكَ فَقَدْ يَفْتَتِنُ وَلَا يَسْلَمُ . فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِذَلِكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ أَوْ دَخَلَ فِيهِ بِاخْتِيَارِهِ وَابْتُلِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ ، وَيَصْبِرَ وَيُخْلِصَ وَيُجَاهِدَ . وَصَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ وَسَلَامَتُهُ مَعَ قِيَامِهِ بِالْوَاجِبِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ كَمَنْ تَوَلَّى وِلَايَةً وَعَدَلَ فِيهَا أَوْ رَدَّ عَلَى أَصْحَابِ الْبِدَعِ بِالسُّنَّةِ الْمَحْضَةِ وَلَمْ يَفْتِنُوهُ ، أَوْ عَلَّمَ النِّسَاءَ الدِّينَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ غَيْرِ فِتْنَةٍ . لَكِنَّ اللَّهَ إذَا ابْتَلَى الْعَبْدَ وَقَدَّرَ عَلَيْهِ أَعَانَهُ ، وَإِذَا تَعَرَّضَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ إلَى الْبَلَاءِ وَكَّلَهُ اللَّهُ إلَى نَفْسِهِ . كَمَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا } وَكَذَلِكَ
{ قَالَ فِي الطَّاعُونِ : إذَا وَقَعَ بِبَلَدِ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ } فَمَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَعَرَضَتْ لَهُ فِتْنَةٌ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعِينُهُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا . لَكِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْأَلُ الْإِمَارَةَ فَيُوكَلُ إلَيْهَا ثُمَّ يَنْدَمُ فَيَتُوبُ مِنْ سُؤَالِهِ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيُعِينُهُ ؛ إمَّا عَلَى إقَامَةِ الْوَاجِبِ وَإِمَّا عَلَى الْخَلَاصِ مِنْهَا ؛ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفِتَنِ . كَمَا قَالَ : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } وَهَذِهِ الْأُمُورُ تَحْتَاجُ إلَى بَسْطٍ لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ . وَ ( الْمَقْصُودُ ) أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا وَيَهْدِيَنَا سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } وَهُمْ الَّذِينَ أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَهُ الْهِدَايَةَ لِسَبِيلِهِمْ فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فَهُوَ يُحِبُّ لَنَا وَيَأْمُرُنَا أَنْ نَتَّبِعَ صِرَاطَ هَؤُلَاءِ وَهُوَ سَبِيلُ مَنْ أَنَابَ إلَيْهِ فَذَكَرَ هُنَا ثَلَاثَةَ أُمُورٍ : الْبَيَانَ وَالْهِدَايَةَ وَالتَّوْبَةَ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالسُّنَنِ هُنَا سُنَنُ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ . أَيْ : يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا سُنَنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فَيَهْدِي عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إلَى الْحَقِّ
وَيُضِلُّ آخَرِينَ فَإِنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْبَيَانِ . كَمَا قَالَ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وَقَالَ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } فَتَكُونُ ( سُنَنَ ) مُتَعَلِّقًا بيبين يَعْنِي : سُنَنَ أَهْلِ الْبَاطِلِ لَا بيهدي ، وَأَهْلُ الْحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ : وَيَهْدِيَكُمْ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : السُّنَنُ الطُّرُقُ فَالْمَعْنَى يَدُلُّكُمْ عَلَى طَاعَتِهِ كَمَا دَلَّ الْأَنْبِيَاءَ وَتَابِعِيهِمْ وَهَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُقَدِّمُ فِعْلَيْنِ فَلَا يَجْعَلُ الْأَوَّلَ هُوَ الْعَامِلُ وَحْدَهُ ؛ بَلْ الْعَامِلُ إمَّا الثَّانِي وَحْدَهُ وَإِمَّا الِاثْنَانِ كَقَوْلِهِ : { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } أَوْ إذَا أُرِيدَ هَذَا التَّقْدِيرُ : يُبَيِّنُ لَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَهْدِيكُمْ سُنَنًا . فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَهْدِينَا سُنَنَهُمْ . وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ سُنَنُ أَهْلِ الْحَقِّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَهَا : { فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } فَإِنَّهُ أَرَادَ تَعْرِيفَ عُقُوبَةِ الظَّالِمِينَ بِالْعِيَانِ وَهُنَا فَأَنْزَلَ عَلَيْنَا مِنْ الْقُرْآنِ مَا يَهْدِينَا بِهِ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا وَهُمْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ . وَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ : " التَّبْيِينَ " وَ " الْهُدَى " وَ " التَّوْبَةَ " ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ أَوَّلًا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَا أُمِرَ بِهِ وَمَا نُهِيَ عَنْهُ ثُمَّ يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ
إلَى أَنْ يُهْدَى فَيَقْصِدُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ دُونَ الْبَاطِلِ . وَهُوَ سُنَنُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . ثُمَّ لَا بُدَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوبِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَطَهَّرَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَإِلَى التَّوْبَةِ مَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّقْصِيرِ أَوْ الْغَفْلَةِ فِي سُلُوكِ تِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي هَدَاهُ اللَّهُ إلَيْهَا فَيَتُوبُ مِنْهَا بِمَا وَقَعَ مِنْ تَفْرِيطٍ فِي كُلِّ سُنَّةٍ مِنْ تِلْكَ السُّنَنِ وَهَذِهِ " السُّنَنُ " تَدْخُلُ فِيهَا الْوَاجِبَاتُ وَالْمُسْتَحَبَّات فَلَا بُدَّ لِلسَّالِكِ فِيهَا مِنْ تَقْصِيرٍ وَغَفْلَةٍ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ إلَيْهِ . فَإِنَّ الْعَبْدَ لَوْ اجْتَهَدَ مَهْمَا اجْتَهَدَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ لِلَّهِ بِالْحَقِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ فَمَا يَسَعُهُ إلَّا الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ عَقِيبَ كُلِّ طَاعَةٍ . وَقَدْ يُقَالُ : " الْهِدَايَةُ " هُنَا الْبَيَانُ وَالتَّعْرِيفُ أَيْ : يُعَرِّفُكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ وَتَجْتَنِبُوا هَذِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ : سَبِيلُ الْخَيْرِ ، وَالشَّرِّ . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : سَبِيلُ الْهُدَى وَالضَّلَالِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ : سَبِيلُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ : أَيْ فَطَرْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ وَعَرَّفْنَاهُ إيَّاهُ ، وَالْجَمِيعُ وَاحِدٌ . وَالنَّجْدَانِ الطَّرِيقَانِ الْوَاضِحَانِ وَالنَّجْدُ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ فَالْمَعْنَى أَلَمْ نُعَرِّفْهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَنُبَيِّنْهُ لَهُ كَتَبْيِينِ الطَّرِيقَيْنِ الْعَالِيَيْنِ ؛ لَكِنَّ الْهُدَى وَالتَّبْيِينَ وَالتَّعْرِيفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَشْتَرِكُ
فِيهِ بَنُو آدَمَ وَيَعْرِفُونَهُ بِعُقُولِهِمْ . وَأَمَّا طَرِيقُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ إخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا كَمَا قَالَ : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا } لَكِنْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لَقَالَ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَلَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَذْكُرَ الْهُدَى إذَا كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّبْيِينَ وَالْهُدَى عُلِمَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ هَذَا فا " لتبيين " التَّعْرِيفُ وَالتَّعْلِيمُ وَ " الْهُدَى " هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَهُوَ الدُّعَاءُ إلَى الْخَيْرِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } أَيْ دَاعٍ يَدْعُوهُمْ إلَى الْخَيْرِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أَيْ تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ دُعَاءَ تَعْلِيمٍ .
وَهُدَاهُ هُنَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ : وَيُلْزِمُكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ فَلَا تَعْدِلُوا عَنْهَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا بِالْهُدَى الْإِلْهَامَ . كَمَا فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } لِكَوْنِهِ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَوَقَعَ ؛ وَلَمْ يَكُنْ فِينَا ضَالٌّ ؛ بَلْ هَذِهِ إرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَمْرِيَّةٌ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَلِهَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ : يُرِيدُ أَنْ يَدُلَّكُمْ عَلَى مَا يَكُونُ سَبَبًا لِتَوْبَتِكُمْ فَعَلَّقَ الْإِرَادَةَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ . فَإِنَّ الزَّجَّاجَ ظَنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْقُرْآنِ لَيْسَتْ إلَّا كَذَلِكَ وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ؛ بَلْ الْإِرَادَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِفِعْلِهِ يَكُونُ مُرَادُهَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ
مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } الْآيَةَ . وَقَوْلُهُ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ إرَادَتُهُ لِمَا أَمَرَ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُثِيبُ فَاعِلَهُ ؛ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَهُ فَيَكُونُ كَمَا قَالَ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا } الْآيَةَ . وَكَمَا قَالَ نُوحٌ : { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فَهَذِهِ إرَادَةٌ لِمَا يَخْلُقُهُ وَيَكُونُهُ . كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ : مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهَذِهِ الْإِرَادَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِكُلِّ حَادِثٍ ، وَالْإِرَادَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْأَمْرِيَّةُ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالطَّاعَاتِ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ لِمَنْ يَفْعَلُ الْقَبِيحَ : يَفْعَلُ شَيْئًا مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ مَعَ قَوْلِهِمْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . فَإِنَّ هَذِهِ الْإِرَادَةَ " نَوْعَانِ " . كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَقَدْ يُرَادُ بِالْهُدَى الْإِلْهَامُ وَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ الَّذِينَ
هَدَاهُمْ اللَّهُ إلَى طَاعَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ وَيَهْدِيَهُمْ فَاهْتَدَوْا وَلَوْلَا إرَادَتُهُ لَهُمْ ذَلِكَ لَمْ يَهْتَدُوا كَمَا قَالُوا : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } . لَكِنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ كَالْخِطَابِ بِآيَةِ الْوُضُوءِ . وَالْخِطَابُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ } وَلِهَذَا يُهَدِّدُ مَنْ لَمْ يُطِعْهُ . وَكَمَا فِي الصِّيَامِ : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } . فَهَذِهِ إرَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ أَمْرِيَّةٌ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا ؛ لَا إرَادَةُ الْخَلْقِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِلْمُرَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَكُنْ الْآيَةُ خِطَابًا إلَّا لِمَنْ أَخَذَ بِالْيُسْرِ وَلِمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَكَانَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي فِي الْآيَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . بَلْ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَازِمٌ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَمَنْ أَطَاعَ أُثِيبَ وَمَنْ عَصَى عُوقِبَ وَاَلَّذِينَ أَطَاعُوهُ إنَّمَا أَطَاعُوهُ بِهُدَاهُ لَهُمْ : هُدَى الْإِلْهَامِ وَالْإِعَانَةِ بِأَنْ جَعَلَهُمْ مُهْتَدِينَ . كَمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُصَلِّيَ مُصَلِّيًا وَالْمُسْلِمَ مُسْلِمًا . وَلَوْ كَانَتْ الْإِرَادَةُ هُنَا مِنْ الْإِنْسَانِ مُسْتَلْزِمَةً لِوُقُوعِ الْمُرَادِ لَمْ يُقَلْ : { وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا } فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا تَأْثِيرَ لِإِرَادَةِ هَؤُلَاءِ بَلْ وَجُودُهَا وَعَدَمُهَا سَوَاءٌ . كَمَا فِي قَوْلِ نُوحٍ { وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ
يُغْوِيَكُمْ } فَإِنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ النَّاسُ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ شَاءَهُ النَّاسُ . وَالْمَقْصُودُ بِالْآيَةِ تَحْذِيرُهُمْ مِنْ مُتَابَعَةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ . وَالْمَعْنَى : إنِّي أُرِيدُ لَكُمْ الْخَيْرَ الَّذِي يَنْفَعُكُمْ وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ لَكُمْ الشَّرَّ الَّذِي يَضُرُّكُمْ كَالشَّيْطَانِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ وَأَتْبَاعُهُ هُمْ أَهْلُ الشَّهَوَاتِ فَلَا تَتَّخِذُوهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي بَلْ اُسْلُكُوا طُرُقَ الْهُدَى وَالرَّشَادِ وَإِيَّاكُمْ وَطُرُقَ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } الْآيَاتِ .
وَقَوْلُهُ : { يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } فِي الْمَوْضِعَيْنِ . فَاتِّبَاعُ الشَّهْوَةِ مِنْ جِنْسِ اتِّبَاعِ الْهَوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَقَالَ : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } وَقَالَ تَعَالَى . { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ . وَ " الْهَوَى " مَصْدَرُ هَوَى يَهْوِي هَوَى وَنَفْسُ الْمَهْوِيِّ يُسَمَّى هَوَى مَا يَهْوِي فَاتِّبَاعُهُ كَاتِّبَاعِ السَّبِيلِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَتَّبِعُوا
أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } وَكَمَا فِي لَفْظِ الشَّهْوَةِ فَاتِّبَاعُ الْهَوَى يُرَادُ بِهِ نَفْسُ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ أَيْ اتِّبَاعُ إرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ الَّتِي هِيَ هَوَاهُ وَاتِّبَاعُ الْإِرَادَةِ هُوَ فِعْلُ مَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى . { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ } وَقَوْلُهُ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وَقَالَ : { وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } فَلَفْظُ الِاتِّبَاعِ يَكُونُ لِلْآمِرِ النَّاهِي وَلِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلِلْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ . كَذَلِكَ يَكُونُ لِلْهَوَى أَمْرٌ وَنَهْيٌ ؛ وَهُوَ أَمْرُ النَّفْسِ وَنَهْيُهَا . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَلَكِنْ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ فَأَحَدُهَا مُسْتَلْزِمٌ لِلْآخَرِ فَاتِّبَاعُ الْأَمْرِ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَاتِّبَاعُ أَمْرِ النَّفْسِ هُوَ فِعْلُ مَا تَهْوَاهُ فَعَلَى هَذَا يُعْلَمُ أَنَّ اتِّبَاعَ الشَّهَوَاتِ ، وَاتِّبَاعَ الْأَهْوَاءِ هُوَ اتِّبَاعُ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَهَوَاهَا وَذَلِكَ بِفِعْلِ مَا تَشْتَهِيهِ وَتَهْوَاهُ . بَلْ قَدْ يُقَالُ : هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي لَفْظِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَشْتَهِي وَيَهْوَى إنَّمَا يَصِيرُ مَوْجُودًا بَعْدَ أَنْ يَشْتَهِيَ وَيَهْوَى وَإِنَّمَا يُذَمُّ الْإِنْسَانُ إذَا فَعَلَ مَا يَشْتَهِي وَيَهْوَى عِنْدَ وُجُودِهِ
فَهُوَ حِينَئِذٍ قَدْ فَعَلَ ؛ وَلَا يُنْهَى عَنْهُ بَعْدَ وُجُودِهِ وَلَا يُقَالُ لِصَاحِبِهِ : لَا تَتَّبِعْ هَوَاك . وَأَيْضًا فَالْفِعْلُ الْمُرَادُ الْمُشْتَهَى الَّذِي يَهْوَاهُ الْإِنْسَانُ هُوَ تَابِعٌ لِشَهْوَتِهِ وَهَوَاهُ ؛ فَلَيْسَتْ الشَّهْوَةُ وَالْهَوَى تَابِعَةً لَهُ ؛ فَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ هُوَ اتِّبَاعُ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَإِذَا جَعَلْت الشَّهْوَةَ بِمَعْنَى الْمُشْتَهَى كَانَ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَصْلِ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَجْعَلَ فِي الْخَارِجِ مَا يُشْتَهَى وَالْإِنْسَانُ يَتْبَعُهُ كَالْمَرْأَةِ الْمَطْلُوبَةِ أَوْ الطَّعَامِ الْمَطْلُوبِ وَإِنْ سُمِّيَتْ الْمَرْأَةُ شَهْوَةً وَالطَّعَامُ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي } أَيْ يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ ؛ وَهُوَ إنَّمَا يَتْرُكُ مَا يَشْتَهِيهِ كَمَا يَتْرُكُ الطَّعَامَ ؛ لَا أَنَّهُ يَدَعُ طَعَامَهُ بِتَرْكِ الشَّهْوَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي نَفْسِهِ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ مَخْلُوقَةٌ فِيهِ مَجْبُولٌ عَلَيْهَا ؛ وَإِنَّمَا يُثَابُ إذَا تَرَكَ مَا تَطْلُبُهُ تِلْكَ الشَّهْوَةُ . وَ " حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " إنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ : فَمَنْ اتَّبَعَ نَفْسَ شَهْوَتِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ اتَّبَعَ مَا يَشْتَهِيهِ ؛ وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّبَعَ الْهَوَى الْقَائِمَ بِنَفْسِهِ اتَّبَعَ مَا يَهْوَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الْإِرَادَةِ وَاتِّبَاعُ الْإِرَادَةِ هُوَ امْتِثَالُ أَمْرِهَا وَفِعْلُ مَا تَطْلُبُهُ كَالْمَأْمُورِ الَّذِي يَتْبَعُ أَمْرَ أَمِيرِهِ ؛ وَلَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَ مُرَادَهُ الَّذِي يَهْوَاهُ وَيَشْتَهِيهِ فِي نَفْسِهِ وَيَتَخَيَّلُهُ قَبْلَ فِعْلِهِ . فَيَبْقَى ذَلِكَ الْمِثَالُ كَالْإِمَامِ مَعَ الْمَأْمُومِ يَتْبَعُهُ حَيْثُ كَانَ ؛ وَفِعْلُهُ فِي الظَّاهِرِ
تَبَعٌ لِاتِّبَاعِ الْبَاطِنِ فَتَبْقَى صُورَةُ الْمُرَادِ الْمَطْلُوبِ الْمُشْتَهَى الَّتِي فِي النَّفْسِ هِيَ الْمُحَرِّكَةُ لِلْإِنْسَانِ الْآمِرَةُ لَهُ . وَلِهَذَا يُقَالُ : الْعِلَّةُ الغائية عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لِلْعِلَّةِ الغائية - بِهَذَا التَّصَوُّرِ وَالْإِرَادَةِ - صَارَ فَاعِلًا لِلْفِعْلِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الْمُرَادَةُ الْمُتَصَوَّرَةُ فِي النَّفْسِ هِيَ الَّتِي جَعَلَتْ الْفَاعِلَ فَاعِلًا فَيَكُونُ الْإِنْسَانُ مُتَّبِعًا لَهَا وَالشَّيْطَانُ يَمُدُّهُ فِي الْغَيِّ فَهُوَ يُقَوِّي تِلْكَ الصُّورَةَ وَيُقَوِّي أَثَرَهَا وَيُزَيِّنُ لِلنَّاسِ اتِّبَاعَهَا وَتِلْكَ الصُّورَةُ تَتَنَاوَلُ صُورَةَ الْعَيْنِ الْمَطْلُوبَةِ - كَالْمَحْبُوبِ مِنْ الصُّوَرِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ - وَيَتَنَاوَلُ نَفْسَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْمُبَاشَرَةُ لِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ الْمَحْبُوبِ ، وَالشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ ذَلِكَ وَكُلَّمَا تَصَوَّرَ ذَلِكَ الْمَحْبُوبَ فِي نَفْسِهِ أَرَادَ وُجُودَهُ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّ أَوَّلَ الْفِكْرِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلَ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرْكِ . وَلِهَذَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ عِنْدَ شَهْوَتِهِ وَهَوَاهُ أَسِيرًا لِذَلِكَ مَقْهُورًا تَحْتَ سُلْطَانِ الْهَوَى أَعْظَمَ مِنْ قَهْرِ كُلِّ قَاهِرٍ فَإِنَّ هَذَا الْقَاهِرَ الْهَوَائِيَّ الْقَاهِرَ لِلْعَبْدِ هُوَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهِ لَا يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهُ أَلْبَتَّةَ وَالصُّورَةُ الذِّهْنِيَّةُ تَطْلُبُهَا النَّفْسُ فَإِنَّ الْمَحْبُوبَ تَطْلُبُ النَّفْسُ أَنْ تُدْرِكَهُ وَتُمَثِّلَهُ لَهَا فِي نَفْسِهَا فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلْإِرَادَةِ . وَإِنْ كَانَتْ الذِّهْنِيَّةُ وَالتَّزَيُّنُ مِنْ الزَّيْنِ وَالْمُرَادُ التَّصَوُّرُ فِي نَفْسِهِ . وَالْمُشْتَهَى الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ لَهُ " مُحَرِّكَانِ " التَّصَوُّرُ وَالْمُشْتَهَى ، هَذَا يُحَرِّكُهُ تَحْرِيكَ طَلَبٍ وَأَمْرٍ ، وَهَذَا يَأْمُرُهُ أَنْ يَتَّبِعَ
طَلَبَهُ وَأَمْرَهُ ، فَاتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ ؛ بِخِلَافِ كُلِّ قَاهِرٍ يَنْفَصِلُ عَنْ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ مُفَارَقَتُهُ مَعَ بَقَاءِ نَفْسِهِ عَلَى حَالِهَا : وَهَذَا إنَّمَا يُفَارِقُهُ بِتَغَيُّرِ صِفَةِ نَفْسِهِ . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ : شُحٌّ مُطَاعٌ ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ . وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ : خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَالْقَصْدُ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا } وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ : " هَوَى مُتَّبَعٌ " . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَّبَعَ هُوَ مَا قَامَ فِي النَّفْسِ . كَقَوْلِهِ : فِي الشُّحِّ الْمُطَاعِ وَجَعَلَ الشُّحَّ مُطَاعًا لِأَنَّهُ هُوَ الْآمِرُ وَجَعَلَ الْهَوَى مُتَّبَعًا ؛ لِأَنَّ الْمُتَّبَعَ قَدْ يَكُونُ إمَامًا يُقْتَدَى بِهِ وَلَا يَكُونُ آمِرًا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالشُّحَّ . فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا وَأَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا } . فَبَيَّنَ أَنَّ الشُّحَّ يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ وَالظُّلْمِ وَالْقَطِيعَةِ . " فَالْبُخْلُ " مَنْعُ مَنْفَعَةِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَ " الظُّلْمُ " هُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَيْهِمْ . فَالْأَوَّلُ هُوَ التَّفْرِيطُ فِيمَا يَجِبُ فَيَكُونُ قَدْ فَرَّطَ فِيمَا يَجِبُ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ بِفِعْلِ مَا يُحَرَّمُ وَخَصَّ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ بِالذِّكْرِ إعْظَامًا لَهَا ؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ
فِي الْأَمْرَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ قَبْلَهَا . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } هُوَ أَلَّا يَأْخُذَ شَيْئًا مِمَّا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا يَمْنَعُ شَيْئًا أَمَرَهُ اللَّهُ بِأَدَائِهِ " فَالشُّحُّ " يَأْمُرُ بِخِلَافِ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْهَى عَنْ الظُّلْمِ وَيَأْمُرُ بِالْإِحْسَانِ ، وَالشُّحُّ يَأْمُرُ بِالظُّلْمِ وَيَنْهَى عَنْ الْإِحْسَانِ . ( وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يُكْثِرُ فِي طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ وَبِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إذَا وُقِيت شُحَّ نَفْسِي وُقِيت الظُّلْمَ وَالْبُخْلَ وَالْقَطِيعَةَ . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ : إنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْت قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } وَأَنَا رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْ يَدِي شَيْءٌ فَقَالَ لَيْسَ ذَاكَ بِالشُّحِّ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا الشُّحُّ أَنْ تَأْكُلَ مَالَ أَخِيك ظُلْمًا وَإِنَّمَا يَكُنْ بِالْبُخْلِ وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلَ ) (*) . وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى " الشُّحَّ " فِي سِيَاقِ ذِكْرِ الْحَسَدِ وَالْإِيثَارِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } - ثُمَّ قَالَ - { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَمَنْ وُقِيَ شُحَّ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ حَسُودًا بَاغِيًا عَلَى الْمَحْسُودِ وَ " الْحَسَدُ " أَصْلُهُ بُغْضُ الْمَحْسُودِ .
وَ " الشُّحُّ " يَكُونُ فِي الرَّجُلِ مَعَ الْحِرْصِ وَقُوَّةِ الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ وَبُغْضٍ لِلْغَيْرِ وَظُلْمٍ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } الْآيَاتِ - إلَى قَوْلِهِ - { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } فَشُحُّهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى الْخَيْرِ يَتَضَمَّنُ كَرَاهِيَتَهُ وَبُغْضَهُ ، وَبُغْضُ الْخَيْرِ يَأْمُرُ بِالشَّرِّ ، وَبُغْضُ الْإِنْسَانِ يَأْمُرُ بِظُلْمِهِ وَقَطِيعَتِهِ كَالْحَسَدِ ؛ فَإِنَّ الْحَاسِدَ يَأْمُرُ حَاسِدَهُ بِظُلْمِ الْمَحْسُودِ وَقَطِيعَتِهِ كَابْنَيْ آدَمَ وَإِخْوَةِ يُوسُفَ . " فَالْحَسَدُ وَالشُّحُّ " يَتَضَمَّنَانِ بُغْضًا وَكَرَاهِيَةً فَيَأْمُرَانِ بِمَنْعِ الْوَاجِبِ وَبِظُلْمِ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَإِنَّ الْفِعْلَ صَدَرَ فِيهِ عَنْ بُغْضٍ بِخِلَافِ الْهَوَى فَإِنَّ الْفِعْلَ صَدَرَ فِيهِ عَنْ حُبّ أَحَبّ شَيْئًا فَأَتْبَعُهُ فَفَعَلَهُ وَذَلِكَ مَقْصُودُهُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ وَالْعَدَمُ لَا يَنْفَعُ . وَلَكِنَّ ذَاكَ الْقَصْدَ أَمْرٌ بِأَمْرِ وُجُودِيٍّ فَأُطِيعُ أَمْرُهُ . وَابْنُ مَسْعُودٍ جَعَلَ الْبُخْلَ خَارِجًا عَنْ الشُّحِّ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الشُّحَّ يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : " الشُّحُّ وَالْبُخْلُ " سَوَاءٌ . كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : الشُّحُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْبُخْلُ وَمَنْعُ الْفَضْلِ مِنْ الْمَالِ . وَلَيْسَ
كَمَا قَالَ بَلْ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَابْنُ مَسْعُودٍ أَحَقّ أَنْ يُتَّبَعَ فَإِنَّ " الْبَخِيلَ " قَدْ يَبْخَلُ بِالْمَالِ مَحَبَّةً لِمَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنْ اللَّذَّةِ وَالتَّنَعُّمِ وَقَدْ لَا يَكُونُ مُتَلَذِّذًا بِهِ وَلَا مُتَنَعِّمًا بَلْ نَفْسُهُ تَضِيقُ عَنْ إنْفَاقِهِ وَتَكْرَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ يَكْرَهُ أَنْ يَنْفَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ مَعَ كَثْرَةِ مَالِهِ وَهَذَا قَدْ يَكُونُ مَعَ الْتِذَاذِهِ بِجَمْعِ الْمَالِ وَمَحَبَّتِهِ لِرُؤْيَتِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ لَذَّةٌ أَصْلًا ؛ بَلْ يَكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ إحْسَانًا إلَى أَحَدٍ حَتَّى لَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يُعْطِيَ كُرْهَ ذَلِكَ مِنْهُ بُغْضًا لِلْخَيْرِ لَا لِلْمُعْطِي وَلَا لِلْمُعْطَى بَلْ بُغْضًا مِنْهُ لِلْخَيْرِ وَقَدْ يَكُونُ بُغْضًا وَحَسَدًا لِلْمُعْطَى أَوْ لِلْمُعْطِي وَهَذَا هُوَ " الشُّحُّ " وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَأْمُرُ بِالْبُخْلِ قَطْعًا وَلَكِنْ كُلُّ بُخْلٍ يَكُونُ عَنْ شُحٍّ . فَكُلُّ شَحِيحٍ بَخِيلٌ وَلَيْسَ كُلُّ بَخِيلٍ شَحِيحًا . قَالَ الخطابي " الشُّحُّ " أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْبُخْلِ وَالْبُخْلُ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْأُمُورِ وَخَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ وَالشُّحُّ عَامٌّ فَهُوَ كَالْوَصْفِ اللَّازِمِ لِلْإِنْسَانِ مِنْ قِبَلِ الطَّبْعِ وَالْجِبِلَّةِ . وَحَكَى الخطابي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : " الْبُخْلُ " أَنْ يَضِنَّ الْإِنْسَانُ بِمَالِهِ وَ " الشُّحُّ " أَنْ يَضِنَّ بِمَالِهِ وَمَعْرُوفِهِ وَقِيلَ " الشُّحُّ " أَنْ يَشِحَّ بِمَعْرُوفِ غَيْرِهِ . عَلَى غَيْرِهِ وَ " الْبُخْلُ " أَنْ يَبْخَلَ بِمَعْرُوفِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَاَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ يُحِبُّونَ ذَلِكَ وَيُرِيدُونَهُ فَاتَّبَعُوا
مَحَبَّتَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَلَمْ يَنْظُرُوا هَلْ ذَلِكَ نَافِعٌ لَهُمْ فِي الْعَاقِبَةِ أَوْ ضَارٌّ . وَلِهَذَا قَالَ : { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ } ثُمَّ قَالَ : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } .
وَ " اتِّبَاعُ الْهَوَى " دَرَجَاتٌ : فَمِنْهُمْ الْمُشْرِكُونَ وَاَلَّذِينَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا يَسْتَحْسِنُونَ بِلَا عِلْمٍ وَلَا بُرْهَانٍ كَمَا قَالَ : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ } أَيْ يَتَّخِذُ إلَهَهُ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَهُوَ مَا يَهْوَاهُ مِنْ آلِهَةٍ وَلَمْ يَقُلْ إنَّ هَوَاهُ نَفْسُ إلَهِهِ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَهْوَى شَيْئًا يَعْبُدُهُ فَإِنَّ الْهَوَى أَقْسَامٌ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَعْبُودَ الَّذِي يَعْبُدُهُ هُوَ مَا يَهْوَاهُ فَكَانَتْ عِبَادَتُهُ تَابِعَةً لِهَوَى نَفْسِهِ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ مَا يُحِبُّ أَنْ يَعْبُدَ وَلَا عَبْدَ الْعِبَادَةَ الَّتِي أُمِرَ بِهَا . وَهَذِهِ حَالُ " أَهْلِ الْبِدَعِ " فَإِنَّهُمْ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ وَابْتَدَعُوا عِبَادَاتٍ زَعَمُوا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِهَا فَهُمْ إنَّمَا اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَتَّبِعُ مَحَبَّةَ نَفْسِهِ وَذَوْقَهَا وَوَجْدَهَا وَهَوَاهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ . فَلَوْ اتَّبَعَ الْعِلْمَ وَالْكِتَابَ الْمُنِيرَ لَمْ يَعْبُدْ إلَّا اللَّهَ بِمَا شَاءَ لَا بِالْحَوَادِثِ وَالْبِدَعِ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الْآلِهَةَ كَثِيرَةٌ وَالْعِبَادَاتُ لَهَا مُتَنَوِّعَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ وَيُحِبُّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ فِي نَفْسِهِ فَتِلْكَ الصُّورَةُ الْعِلْمِيَّةُ مُحَرِّكَةٌ لَهُ إلَى مَحْبُوبِهِ وَلَوَازِمِ الْحُبِّ فَمَنْ عَبَدَهُ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ وَتَمَثَّلَتْ لَهُ الشَّيَاطِينُ فِي صُورَةِ مَنْ يَعْبُدُهُ وَهَذَا كَثِيرٌ مَا زَالَ وَلَمْ يَزَلْ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ الشَّيْطَانَ وَلِهَذَا يُقَارِنُ الشَّيْطَانُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَاسْتِوَائِهَا لِيَكُونَ سُجُودُ مَنْ يَعْبُدُهَا لَهُ . وَقَدْ كَانَتْ " الشَّيَاطِينُ " تَتَمَثَّلُ فِي صُورَةِ مَنْ يُعْبَدُ كَمَا كَانَتْ تُكَلِّمُهُمْ مِنْ الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَكَذَلِكَ فِي وَقْتِنَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ أَشْرَكَ بِبَعْضِ مَنْ يُعَظِّمُهُ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنْ الْمَشَايِخِ وَغَيْرِهِمْ فَيَدْعُوهُ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ فَيَرَاهُ قَدْ أَتَاهُ وَكَلَّمَهُ وَقَضَى حَاجَتَهُ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ تَمَثَّلَ عَلَى صُورَتِهِ لِيُغْوِيَ هَذَا الْمُشْرِكَ . وَالْمُبْتَلُونَ " بِالْعِشْقِ " لَا يَزَالُ الشَّيْطَانُ يُمَثِّلُ لِأَحَدِهِمْ صُورَةَ الْمَعْشُوقِ أَوْ يَتَصَوَّرُ بِصُورَتِهِ فَلَا يَزَالُ يَرَى صُورَتَهُ مَعَ مَغِيبِهِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّمَا جَلَاهُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَلْبِهِ وَلِهَذَا إذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ اللَّهَ الذِّكْرَ الَّذِي يَخْنِسُ مِنْهُ الْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ خَنَسَ هَذَا الْمِثَالُ الشَّيْطَانِيُّ وَصُورَةُ الْمَحْبُوبِ تَسْتَوْلِي عَلَى الْمُحِبِّ أَحْيَانًا حَتَّى لَا يَرَى غَيْرَهَا وَلَا يَسْمَعَ غَيْرَ كَلَامِهَا فَتَبْقَى
نَفْسُهُ مُشْتَغِلَةً بِهَا . وَاَلَّذِينَ يَسْلُكُونَ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ مَسْلَكًا نَاقِصًا يَحْصُلُ لِأَحَدِهِمْ نَوْعٌ مِنْ ذَلِكَ يُسَمَّى " الِاصْطِلَامُ " وَ " الْفَنَاءُ " يَغِيبُ بِمَحْبُوبِهِ عَنْ مَحَبَّتِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ حَتَّى لَا يَشْعُرَ بِشَيْءِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَلَامِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ . وَ " مِنْهُمْ " مِنْ قَدْ يَنْتَقِلُ مِنْ هَذَا إلَى " الِاتِّحَادِ " . فَيَقُولُ : أَنَا هُوَ وَهُوَ أَنَا وَأَنَا اللَّهُ وَيَظُنُّ كَثِيرٌ مِنْ السَّالِكِينَ أَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ السَّالِكِينَ وَأَنَّ هَذَا هُوَ " التَّوْحِيدُ " الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ كُلِّ سَالِكٍ . وَهُمْ غالطون فِي هَذَا ؛ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النَّصَارَى وَلَكِنْ ضَلُّوا لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْلُكُوا الطَّرِيقَ الشَّرْعِيَّةَ فِي الْبَاطِنِ فِي خَبَرِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الْمُتَّبِعِينَ لِشَهَوَاتِهِمْ مِنْ الصُّوَرِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ يَسْتَوْلِي عَلَى قَلْبِ أَحَدِهِمْ مَا يَشْتَهِيهِ حَتَّى يَقْهَرَهُ وَيَمْلِكَهُ وَيَبْقَى أَسِيرًا ، مَا يَهْوَاهُ يَصْرِفُهُ كَيْفَ تَصَرَّفَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَا أَنَا عَلَى الشَّابِّ النَّاسِكِ بِأَخْوَفَ مِنِّي عَلَيْهِ مِنْ سَبُعٍ ضَارٍ يَثِبُ عَلَيْهِ مِنْ صَبِيٍّ حَدَثٍ يَجْلِسُ إلَيْهِ .
وَذَلِكَ أَنَّ النَّفْسَ الصَّافِيَةَ الَّتِي فِيهَا رِقَّةُ " الرِّيَاضَةِ " وَلَمْ تَنْجَذِبْ إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ انْجِذَابًا تَامًّا وَلَا قَامَ بِهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ التَّامَّةِ مَا يَصْرِفُهَا عَنْ هَوَاهَا مَتَى صَارَتْ تَحْتَ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ اسْتَوْلَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ عَلَيْهَا كَمَا يَسْتَوْلِي السَّبُعُ عَلَى مَا يَفْتَرِسُهُ ؛ فَالسُّبُعُ يَأْخُذُ فَرِيسَتَهُ بِالْقَهْرِ وَلَا تَقْدِرُ الْفَرِيسَةُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ كَذَلِكَ مَا يُمَثِّلُهُ الْإِنْسَانُ فِي قَلْبِهِ مِنْ الصُّوَرِ الْمَحْبُوبَةِ تَبْتَلِعُ قَلْبَهُ وَتَقْهَرَهُ فَلَا يَقْدِرُ قَلْبُهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ فَيَبْقَى قَلْبُهُ مُسْتَغْرِقًا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَعْظَمَ مِنْ اسْتِغْرَاقِ الْفَرِيسَةِ فِي جَوْفِ الْأَسَدِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْبُوبَ الْمُرَادَ هُوَ غَايَةُ النَّفْسِ لَهُ عَلَيْهَا سُلْطَانٌ قَاهِرٌ . وَ " الْقَلْبُ " يَغْرَقُ فِيمَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ : إمَّا مِنْ مَحْبُوبٍ وَإِمَّا مِنْ مَخُوفٍ كَمَا يُوجَدُ مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ ، وَالْخَائِفُ مِنْ غَيْرِهِ يَبْقَى قَلْبُهُ وَعَقْلُهُ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ كَمَا يَغْرَقُ الْغَرِيقُ فِي الْمَاءِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا مَا يُحِيطُ بِهَا مِنْ الْأَجْسَامِ وَالْقُلُوبِ يَسْتَوْلِي عَلَيْهَا مَا يَتَمَثَّلُ لَهَا مِنْ الْمَخَاوِفِ وَالْمَحْبُوبَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ فَالْمَحْبُوبُ يَطْلُبُهُ وَالْمَكْرُوهُ يَدْفَعُهُ وَالرَّجَاءُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحْبُوبِ ، وَالْخَوْفُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَكْرُوهِ وَلَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ إلَّا اللَّهُ { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } . { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } .
وَإِذَا دَعَا الْعَبْدُ رَبَّهُ بِإِعْطَاءِ الْمَطْلُوبِ وَدَفْعِ الْمَرْهُوبِ جَعَلَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَرَجَائِهِ وَحَيَاةِ قَلْبِهِ وَاسْتِنَارَتِهِ بِنُورِ الْإِيمَانِ مَا قَدْ يَكُونُ أَنْفَع لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ إنْ كَانَ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا وَأَمَّا إذَا طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَهُنَا الْمَطْلُوبُ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ الطَّلَبِ وَهُوَ الدُّعَاءُ ، وَالْمَطْلُوبُ الذِّكْرُ وَالشُّكْرُ وَقِيَامُ الْعِبَادَةِ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَهَذَا لِبَسْطِهِ مَوْضِعٌ آخَرُ . وَ ( الْمَقْصُودُ ) : أَنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَغْمُرُهُ فَيَسْتَوْلِي عَلَيْهِ مَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَيُحِبُّهُ وَمَا يَخَافُهُ وَيَحْذَرُهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } فَهِيَ فِيمَا يَغْمُرُهَا عَمَّا أُنْذِرَتْ بِهِ فَيَغْمُرُهَا ذَلِكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَمَا فِيهَا مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ } أَيْ فِيمَا يَغْمُرُ قُلُوبَهُمْ مِنْ حُبّ الْمَالِ وَالْبَنِينَ الْمَانِعِ لَهُمْ مِنْ الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيِّرَاتِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } { الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } الْآيَاتِ : أَيْ سَاهُونَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَهُمْ فِي غَمْرَةٍ عَنْهَا أَيْ فِيمَا يَغْمُرُ قُلُوبَهُمْ مِنْ حُبّ الدُّنْيَا وَمَتَاعِهَا سَاهُونَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَمَا خُلِقُوا لَهُ . وَهَذَا يُشْبِهُ قَوْلَهُ : { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } فَالْغَمْرَةُ تَكُونُ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى ، وَالسَّهْوُ مَنْ جِنْسِ الْغَفْلَةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : " السَّهْوُ " الْغَفْلَةُ عَنْ الشَّيْءِ وَذَهَابُ الْقَلْبِ عَنْهُ وَهَذَا جِمَاعُ الشَّرِّ " الْغَفْلَةُ " وَ " الشَّهْوَةُ " " فَالْغَفْلَةُ " عَنْ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ تَسُدُّ بَابَ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ الذِّكْرُ وَالْيَقَظَةُ . وَ " الشَّهْوَةُ " تَفْتَحُ بَابَ الشَّرِّ وَالسَّهْوِ وَالْخَوْفِ فَيَبْقَى الْقَلْبُ مَغْمُورًا فِيمَا يَهْوَاهُ وَيَخْشَاهُ غَافِلًا عَنْ اللَّهِ رَائِدًا غَيْرَ اللَّهِ سَاهِيًا عَنْ ذِكْرِهِ قَدْ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ اللَّهِ قَدْ انْفَرَطَ أَمْرُهُ قَدْ رَانَ حُبُّ الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِهِ كَمَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ } جَعَلَهُ عَبَدَ مَا يُرْضِيهِ وُجُودُهُ ، وَيُسْخِطُهُ فَقْدُهُ حَتَّى يَكُونَ عَبْدَ الدِّرْهَمِ ، وَعَبْدَ مَا وُصِفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَ " الْقَطِيفَةُ " هِيَ الَّتِي يُجْلَسُ عَلَيْهَا فَهُوَ خَادِمُهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْبَسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَخْدِمُك وَلَا تَلْبَسْ مِنْهَا مَا تَكُنْ أَنْتَ تَخْدِمُهُ وَهِيَ كَالْبِسَاطِ الَّذِي تَجْلِسُ عَلَيْهِ وَ " الْخَمِيصَةُ " هِيَ الَّتِي يَرْتَدِي بِهَا وَهَذَا مِنْ أَقَلِّ الْمَالِ . وَإِنَّمَا
نَبَّهَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَهُوَ عَبْدٌ لِذَلِكَ : فِيهِ أَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ وَشُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ . وَلِهَذَا قَالَ : { إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ } . فَمَا كَانَ يُرْضِي الْإِنْسَانَ حُصُولُهُ ، وَيُسْخِطُهُ فَقْدُهُ فَهُوَ عَبْدُهُ إذْ الْعَبْدُ يَرْضَى بِاتِّصَالِهِ بِهِمَا وَيَسْخَطُ لِفَقْدِهِمَا . وَ " الْمَعْبُودُ الْحَقُّ " الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إذَا عَبَدَهُ الْمُؤْمِنُ وَأَحَبَّهُ حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِ بِذَلِكَ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ وَتَوْحِيدٌ وَمَحَبَّةٌ وَذِكْرٌ وَعِبَادَةٌ فَيَرْضَى بِذَلِكَ وَإِذَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ غَضِبَ . وَكَذَلِكَ مَنْ أَحَبّ شَيْئًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ فِي قَلْبِهِ ، وَيُرِيدَ اتِّصَالَهُ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ . قَالَ الْجُنَيْد : لَا يَكُونُ الْعَبْدُ عَبْدًا حَتَّى يَكُونَ مِمَّا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى حُرًّا . وَهَذَا مُطَابِقٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ خَالِصًا مُخْلِصًا دِينَهُ لِلَّهِ كُلَّهُ حَتَّى لَا يَكُونَ عَبْدًا لِمَا سِوَاهُ وَلَا فِيهِ شُعْبَةٌ وَلَا أَدْنَى جُزْءٍ مِنْ عُبُودِيَّةِ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِذَا كَانَ يُرْضِيهِ وَيُسْخِطُهُ غَيْرُ اللَّهِ فَهُوَ عَبْدٌ لِذَلِكَ الْغَيْرِ فَفِيهِ مِنْ الشِّرْكِ بِقَدْرِ مَحَبَّتِهِ ، وَعِبَادَتُهُ لِذَلِكَ الْغَيْرِ زِيَادَةٌ . قَالَ " الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ " وَاَللَّهِ مَا صَدَقَ اللَّهَ فِي عُبُودِيَّتِهِ مَنْ
لِأَحَدِ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَيْهِ رَبَّانِيَّةٌ . وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نفيل :
أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفُ رَبٍّ * * * أَدِينُ إذَا انْقَسَمَتْ الْأُمُورُ
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِي والطَّبَرَانِي مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءِ بِنْتِ عميس قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالَّ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سهى ولهى وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ بَغَى وَاعْتَدَى وَنَسِيَ الْمَبْدَأَ وَالْمُنْتَهَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشُّبُهَاتِ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ وَيُزِيلُهُ عَنْ الْحَقِّ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوَى يُضِلُّهُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ غَرِيبٌ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْمُتَقَدِّمِ مَا يُقَوِّيهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَم . وَكَذَلِكَ أَحَادِيثُ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ رُوِيَتْ فِي مَعْنَى ذَلِكَ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَطَالِبُ الرِّئَاسَةِ - وَلَوْ بِالْبَاطِلِ - تُرْضِيهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي فِيهَا تَعْظِيمُهُ وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلًا ، وَتُغْضِبُهُ الْكَلِمَةُ الَّتِي فِيهَا ذَمُّهُ وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا .
وَالْمُؤْمِنُ تُرْضِيهِ كَلِمَةُ الْحَقِّ لَهُ وَعَلَيْهِ ، وَتُغْضِبُهُ كَلِمَةُ الْبَاطِلِ لَهُ وَعَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْحَقَّ وَالصِّدْقَ وَالْعَدْلَ وَيُبْغِضُ الْكَذِبَ وَالظُّلْمَ . فَإِذَا قِيلَ : الْحَقُّ وَالصِّدْقُ وَالْعَدْلُ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ أُحِبُّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُخَالَفَةُ هَوَاهُ . لِأَنَّ هَوَاهُ قَدْ صَارَ تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ . وَإِذَا قِيلَ : الظُّلْمُ وَالْكَذِبُ فَاَللَّهُ يُبْغِضُهُ وَالْمُؤْمِنُ يُبْغِضُهُ وَلَوْ وَافَقَ هَوَاهُ . وَكَذَلِكَ طَالِبُ " الْمَالِ " - وَلَوْ بِالْبَاطِلِ - كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ : { تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ } الْحَدِيثَ . فَكَيْفَ إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ مَا هُوَ أَعْظَمُ اسْتِعْبَادًا مِنْ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ مِنْ الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْمَحْبُوبَاتِ الَّتِي تَجْذِبُ الْقَلْبَ عَنْ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَعِبَادَتِهِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمُزَاحَمَةِ وَالشِّرْكِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كَيْفَ تَدْفَعُ الْقَلْبَ وَتُزِيغُهُ عَنْ كَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِرَبِّهِ وَعِبَادَتِهِ وَخَشْيَتِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَحْبُوبٍ يَجْذِبُ قَلْبَ مُحِبِّهِ إلَيْهِ وَيُزِيغُهُ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِ مَحْبُوبِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ يَدْفَعُهُ وَيُزِيلُهُ وَيَشْغَلُهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَلِهَذَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَده وَغَيْرُهُ . أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ لِأَصْحَابِهِ : { الْفَقْرَ تَخَافُونَ لَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الْفَقْرَ . إنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا حَتَّى إنَّ قَلْبَ أَحَدِكُمْ إذَا زَاغَ لَا يُزِيغُهُ إلَّا هِيَ } وَكَذَلِكَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ الْعَبْدَ كَأَصْدِقَائِهِ وَاَلَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ كَأَعْدَائِهِ فَاَلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ يَجْذِبُونَهُ إلَيْهِمْ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْمَحَبَّةُ مِنْهُمْ لَهُ لِلَّهِ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْطَعُهُ عَنْ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ يُبْغِضُونَهُ يُؤْذُونَهُ وَيُعَادُونَهُ فَيَشْغَلُونَهُ بِأَذَاهُمْ عَنْ اللَّهِ وَلَوْ أَحْسَنَ إلَيْهِ أَصْدِقَاؤُهُ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْجَبَ إحْسَانُهُمْ إلَيْهِ مَحَبَّتَهُ لَهُمْ وَانْجِذَابَ قَلْبِهِ إلَيْهِمْ وَلَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الِاسْتِقَامَةِ وَأَوْجَبَ مُكَافَأَتَهُ لَهُمْ فَيَقْطَعُونَهُ عَنْ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ . فَلَا تَزُولُ الْفِتْنَةُ عَنْ الْقَلْبِ إلَّا إذَا كَانَ دِينُ الْعَبْدِ كُلِّهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَكُونُ حُبُّهُ لِلَّهِ وَلِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَبُغْضُهُ لِلَّهِ وَلِمَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَكَذَلِكَ مُوَالَاتُهُ وَمُعَادَاتُهُ وَإِلَّا فَمَحَبَّةُ الْمَخْلُوقِ تَجْذِبُهُ وَحُبُّ الْخَلْقِ لَهُ سَبَبٌ يَجْذِبُهُمْ بِهِ إلَيْهِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ هَذَا أَقْوَى وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَقْوَى فَإِذَا كَانَ هُوَ غَالِبًا لِهَوَاهُ لَمْ يَجْذِبْهُ مَغْلُوبٌ مَعَ هَوَاهُ وَلَا مَحْبُوبَاتُهُ إلَيْهَا ؛ لِكَوْنِهِ غَالِبًا لِهَوَاهُ نَاهِيًا لِنَفْسِهِ عَنْ الْهَوَى لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ الَّتِي تَمْنَعُهُ عَنْ انْجِذَابِهِ إلَى الْمَحْبُوبَاتِ . وَأَمَّا حُبّ النَّاسِ لَهُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَجْذِبُوهُ هُمْ بِقُوَّتِهِمْ إلَيْهِمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ يَدْفَعُهُمْ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ
وَإِلَّا جَذَبُوهُ وَأَخَذُوهُ إلَيْهِمْ كَحُبِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ ؛ فَإِنَّ قُوَّةَ " يُوسُفَ " وَمَحَبَّتَهُ لِلَّهِ وَإِخْلَاصَهُ وَخَشْيَتَهُ كَانَتْ أَقْوَى مِنْ جَمَالِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ وَحُسْنِهَا وَحُبِّهِ لَهَا ، هَذَا إذَا أَحَبّ أَحَدُهُمْ صُورَتَهُ مَعَ أَنَّ هُنَا الدَّاعِيَ قَوِيٌّ مِنْهُ وَمِنْهُمْ فَهُنَا الْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ وَإِلَّا فَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَحَبَّةِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَنَّهُ يَقَعُ بَعْضُ الشَّرِّ بَيْنَهُمْ . وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } . وَقَدْ يُحِبُّونَهُ لِعِلْمِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ إحْسَانِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَالْفِتْنَةُ فِي هَذَا أَعْظَمُ ؛ إلَّا إذَا كَانَتْ فِيهِ قُوَّةٌ إيمَانِيَّةٌ وَخَشْيَةٌ وَتَوْحِيدٌ تَامٌّ ؛ فَإِنَّ فِتْنَةَ الْعِلْمِ وَالْجَاهِ وَالصُّوَرِ فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ . وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ مَقَاصِدَهُمْ إنْ لَمْ يَفْعَلْهَا وَإِلَّا نَقَصَ الْحُبُّ . أَوْ حَصَلَ نَوْعُ بُغْضٍ وَرُبَّمَا زَادَ أَوْ أَدَّى إلَى الِانْسِلَاخِ مِنْ حُبِّهِ فَصَارَ مَبْغُوضًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَحْبُوبًا فَأَصْدِقَاءُ الْإِنْسَانِ يُحِبُّونَ اسْتِخْدَامَهُ وَاسْتِعْمَالَهُ فِي أَغْرَاضِهِمْ حَتَّى يَكُونَ كَالْعَبْدِ لَهُمْ وَأَعْدَاؤُهُ يَسْعَوْنَ فِي أَذَاهُ وَإِضْرَارِهِ وَأُولَئِكَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ انْتِفَاعَهُمْ وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا لَهُ مُفْسِدًا لِدِينِهِ لَا يُفَكِّرُونَ فِي ذَلِكَ . وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ الشَّكُورُ . فَالطَّائِفَتَانِ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَقْصِدُونَ نَفْعَهُ وَلَا دَفْعَ ضَرَرِهِ وَإِنَّمَا
يَقْصِدُونَ أَغْرَاضَهُمْ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْإِنْسَانُ عَابِدًا اللَّهَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مُوَالِيًا لَهُ وَمُوَالِيًا فِيهِ وَمُعَادِيًا وَإِلَّا أَكَلَتْهُ الطَّائِفَتَانِ وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى هَلَاكِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي آدَمَ وَمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ الْمُحَارَبَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ . قَوْمٌ يُوَالُونَ زَيْدًا وَيُعَادُونَ عَمْرًا . وَآخَرُونَ بِالْعَكْسِ ؛ لِأَجْلِ أَغْرَاضِهِمْ فَإِذَا حَصَلُوا عَلَى أَغْرَاضِهِمْ مِمَّنْ يُوَالُونَهُ وَمَا هُمْ طالبونه مِنْ زَيْدٍ انْقَلَبُوا إلَى عَمْرٍو ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُ عَمْرو كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ بَيْنَ أَصْنَافِ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ " الرَّأْسُ " مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَمِيلُ إلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُوَالُونَهُ وَهُمْ إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُوَالَاةُ لِلَّهِ أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ أُولَئِكَ ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ إفْسَادَ دُنْيَاهُ : إمَّا بِقَتْلِهِ أَوْ بِأَخْذِ مَالِهِ ، وَإِمَّا بِإِزَالَةِ مَنْصِبِهِ وَهَذَا كُلُّهُ ضَرَرٌ دُنْيَوِيٌّ لَا يُعْتَدُّ بِهِ إذَا سَلَّمَ الْعَبْدُ وَهُوَ عَكْسُ حَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَمُحِبِّيهَا الَّذِينَ لَا يَعْتَدُّونَ بِفَسَادِ دِينِهِمْ مَعَ سَلَامَةِ دُنْيَاهُمْ . فَهُمْ لَا يُبَالُونَ بِذَلِكَ . وَأَمَّا " دِينُ الْعَبْدِ " الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ . وَأَمَّا أَوْلِيَاؤُهُ الَّذِينَ يُوَالُونَهُ لِلْأَغْرَاضِ فَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ مِنْهُ فَسَادَ دِينِهِ بِمُعَاوَنَتِهِ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ انْقَلَبُوا أَعْدَاءً . فَدَخَلَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ الْأَذَى مِنْ " جِهَتَيْنِ " :
مِنْ جِهَةِ مُفَارَقَتِهِمْ .
وَمِنْ جِهَةِ عَدَاوَتِهِمْ .
وَعَدَاوَتُهُمْ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ أَعْدَائِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا مِنْهُ . وَعَرَفُوا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَعْدَاؤُهُ . فَاسْتَجْلَبُوا بِذَلِكَ عَدَاوَةَ غَيْرِهِمْ فَتَتَضَاعَفُ الْعَدَاوَةُ . وَإِنْ لَمْ يُحِبّ مُفَارَقَتَهُمْ احْتَاجَ إلَى مُدَاهَنَتِهِمْ وَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَسَادُ دِينِهِ . فَإِنْ سَاعَدَهُمْ عَلَى نَيْلِ مَرْتَبَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ نَالَهُ مِمَّا يَعْمَلُونَ فِيهَا نَصِيبًا وَافِرًا وَحَظًّا تَامًّا مِنْ ظُلْمِهِمْ وَجَوْرِهِمْ وَطَلَبُوا مِنْهُ أَيْضًا أَنْ يُعَاوِنَهُمْ عَلَى أَغْرَاضِهِمْ وَلَوْ فَاتَتْ أَغْرَاضُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ . فَكَيْفَ بِالدِّينِيَّةِ إنْ وُجِدَتْ فِيهِ أَوْ عِنْدَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ ظَالِمٌ جَاهِلٌ لَا يَطْلُبُ إلَّا هَوَاهُ . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الْبَاطِنِ يُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ . وَيَقْضِي حَوَائِجَهُمْ لِلَّهِ وَتَكُونُ اسْتِعَانَتُهُ عَلَيْهِمْ بِاَللَّهِ تَامَّةً وَتَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَامٌّ . وَإِلَّا أَفْسَدُوا دِينَهُ وَدُنْيَاهُ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ الْمُشَاهَدُ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ يَطْلُبُ الرِّئَاسَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْمَعَاصِي مَا يَنَالُ بِهِ تِلْكَ الرِّئَاسَةَ وَيُحْسِنُ لَهُ هَذَا الرَّأْيَ ، وَيُعَادِيهِ إنْ لَمْ يَقُمْ مَعَهُ كَمَا قَدْ
جَرَى ذَلِكَ مَعَ غَيْرِ وَاحِدٍ . وَذَلِكَ يَجْرِي فِيمَنْ يُحِبُّ شَخْصًا لِصُورَتِهِ فَإِنَّهُ يَخْدِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيُعْطِيه مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَطْلُبُ مِنْهُ مِنْ الْمُحَرَّمِ مَا يُفْسِدُ دِينَهُ . وَفِيمَنْ يُحِبُّ صَاحِبَ " بِدْعَةٍ " لِكَوْنِهِ لَهُ دَاعِيَةً إلَى تِلْكَ الْبِدْعَةِ يحوجه إلَى أَنْ يَنْصُرَ الْبَاطِلَ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ . وَإِلَّا عَادَاهُ وَلِهَذَا صَارَ عُلَمَاءُ الْكُفَّارِ وَأَهْلُ الْبِدَعِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ يَنْصُرُونَ ذَلِكَ الْبَاطِلَ ؛ لِأَجْلِ الْأَتْبَاعِ وَالْمُحِبِّينَ وَيُعَادُونَ أَهْلَ الْحَقِّ وَيَهْجُنُونَ طَرِيقَهُمْ . فَمَنْ أَحَبّ غَيْرَ اللَّهِ وَوَالَى غَيْرَهُ كَرِهَ مُحِبَّ اللَّهِ وَوَلِيَّهُ وَمَنْ أَحَبَّ أَحَدًا لِغَيْرِ اللَّهِ كَانَ ضَرَرُ أَصْدِقَائِهِ عَلَيْهِ أَعْظَمَ مِنْ ضَرَرِ أَعْدَائِهِ ؛ فَإِنَّ أَعْدَاءَهُ غَايَتُهُمْ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْمَحْبُوبِ الدُّنْيَوِيِّ ، وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَحْمَةٌ فِي حَقِّهِ ، وَأَصْدِقَاؤُهُ يُسَاعِدُونَهُ عَلَى نَفْيِ تِلْكَ الرَّحْمَةِ وَذَهَابِهَا عَنْهُ ، فَأَيُّ صَدَاقَةٍ هَذِهِ وَيُحِبُّونَ بَقَاءَ ذَلِكَ الْمَحْبُوبِ لِيَسْتَعْمِلُوهُ فِي أَغْرَاضِهِمْ وَفِيمَا يُحِبُّونَهُ وَكِلَاهُمَا ضَرَرٌ عَلَيْهِ . قَالَ تَعَالَى : { إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } . قَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ عَنْ لَيْثٍ
عَنْ مُجَاهِدٍ : هِيَ الْمَوَدَّاتُ الَّتِي كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَالْوَصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا { وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } . فَالْأَعْمَالُ الَّتِي أَرَاهُمْ اللَّهُ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ : هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَمِنْهَا الْمُوَالَاةُ وَالصُّحْبَةُ وَالْمَحَبَّةُ لِغَيْرِ اللَّهِ . فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْئًا وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
فَصْلٌ :
وَمِمَّا يُحَقِّقُ هَذِهِ الْأُمُورَ أَنَّ الْمُحِبَّ يَجْذِبُ وَالْمَحْبُوبَ يُجْذَبُ . فَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا جَذَبَهُ إلَيْهِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ وَمَنْ أَحَبَّ صُورَةً جَذَبَتْهُ تِلْكَ الصُّورَةُ إلَى الْمَحْبُوبِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ بِحَسَبِ قُوَّتِهِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ عِلَّتُهُ فَاعِلِيَّةٌ وَالْمَحْبُوبَ عِلَّتُهُ غائية وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي وُجُودِ الْمَعْلُولِ وَالْمُحِبُّ إنَّمَا يَجْذِبُ الْمَحْبُوبَ بِمَا فِي قَلْبِ الْمُحِبِّ مِنْ صُورَتِهِ الَّتِي يَتَمَثَّلُهَا ؛ فَتِلْكَ الصُّورَةُ تَجْذِبُهُ بِمَعْنَى انْجِذَابِهِ إلَيْهَا ، لَا أَنَّهَا هِيَ فِي نَفْسِهَا قَصْدٌ وَفِعْلٌ ؛ فَإِنَّ فِي الْمَحْبُوبِ مِنْ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ مَا يَقْتَضِي انْجِذَابَ الْمُحِبِّ إلَيْهِ كَمَا يَنْجَذِبُ الْإِنْسَانُ إلَى الطَّعَامِ لِيَأْكُلَهُ وَإِلَى امْرَأَةٍ لِيُبَاشِرَهَا وَإِلَى
صَدِيقِهِ لِيُعَاشِرَهُ وَكَمَا تَنْجَذِبُ قُلُوبُ الْمُحِبِّينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ لِمَا اتَّصَفَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ لِأَجْلِهَا أَنْ يُحَبّ وَيُعْبَدَ . بَلْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَبّ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ لِذَاتِهِ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ فَكُلُّ مَحْبُوبٍ فِي الْعَالَمِ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُحَبّ لِغَيْرِهِ لَا لِذَاتِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُحَبّ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مِنْ مَعَانِي إلَهِيَّتِهِ و { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } فَإِنَّ مَحَبَّةَ الشَّيْءِ لِذَاتِهِ شِرْكٌ فَلَا يُحَبُّ لِذَاتِهِ إلَّا اللَّهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ إلَهِيَّتِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ وَكُلُّ مَحْبُوبٍ سِوَاهُ إنْ لَمْ يُحَبّ لِأَجْلِهِ أَوْ لِمَا يُحَبُّ لِأَجْلِهِ فَمَحَبَّتُهُ فَاسِدَةٌ . وَاَللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِي النُّفُوسِ حُبّ الْغِذَاءِ وَحُبَّ النِّسَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حِفْظِ الْأَبْدَانِ ، وَبَقَاءِ الْإِنْسَانِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا حُبّ الْغِذَاءِ لَمَا أَكَلَ النَّاسُ فَفَسَدَتْ أَبْدَانُهُمْ وَلَوْلَا حُبُّ النِّسَاءِ لَمَا تَزَوَّجُوا فَانْقَطَعَ النَّسْلُ . وَالْمَقْصُودُ بِوُجُودِ ذَلِكَ بَقَاءُ كُلٍّ مِنْهُمْ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَيَكُونُ هُوَ الْمَحْبُوبَ الْمَعْبُودَ لِذَاتِهِ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ غَيْرُهُ . وَإِنَّمَا تُحَبُّ الْأَنْبِيَاءُ وَالصَّالِحُونَ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ فَإِنَّ مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ حُبّ مَا يُحِبُّهُ وَهُوَ يُحِبُّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَيُحِبُّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، فَحُبُّهَا
لِلَّهِ هُوَ مِنْ تَمَامِ حُبِّهِ وَأَمَّا الْحُبُّ مَعَهُ فَهُوَ حُبُّ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْدَادَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ، فَالْمَخْلُوقُ إذَا أَحَبَّ لِلَّهِ كَانَ حُبُّهُ جَاذِبًا إلَى حُبِّ اللَّهِ وَإِذَا تَحَابَّ الرَّجُلَانِ فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ؛ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَاذِبًا لِلْآخَرِ إلَى حُبّ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ وَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءِ وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِقُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ وَهُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرَوْحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَمْوَالٍ يتباذلونها وَلَا أَرْحَامٍ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا إنَّ لِوُجُوهِهِمْ لَنُورًا وَإِنَّهُمْ لَعَلَى كَرَاسٍ مِنْ نُورٍ لَا يَخَافُونَ إذَا خَافَ النَّاسُ وَلَا يَحْزَنُونَ إذَا حَزِنَ النَّاسُ } فَإِنَّك إذَا أَحْبَبْت الشَّخْصَ لِلَّهِ كَانَ اللَّهُ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ فَكُلَّمَا تَصَوَّرْته فِي قَلْبِك تَصَوَّرْت مَحْبُوبَ الْحَقِّ فَأَحْبَبْته فَازْدَادَ حُبُّك لِلَّهِ . كَمَا إذَا ذَكَرْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَنْبِيَاءَ قَبْلَهُ وَالْمُرْسَلِينَ وَأَصْحَابَهُمْ الصَّالِحِينَ وَتَصَوَّرْتهمْ فِي قَلْبِك فَإِنَّ ذَلِكَ يَجْذِبُ قَلْبَك إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِمْ وَبِهِمْ إذَا كُنْت تُحِبُّهُمْ لِلَّهِ فَالْمَحْبُوبُ لِلَّهِ يُجْذَبُ إلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ وَالْمُحِبُّ لِلَّهِ إذَا أَحَبّ شَخْصًا لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَحْبُوبُهُ فَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَجْذِبَهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَكُلٌّ مِنْ الْمُحِبِّ لِلَّهِ وَالْمَحْبُوبِ لِلَّهِ يُجْذَبُ إلَى اللَّهِ . وَهَكَذَا إذَا كَانَ الْحُبُّ لِغَيْرِ اللَّهِ كَمَا إذَا أَحَبّ كُلٌّ مِنْ الشَّخْصَيْنِ
الْآخَرَ بِصُورَةِ : كَالْمَرْأَةِ مَعَ الرَّجُلِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَطْلُبُ الْمَحْبُوبَ وَالْمَحْبُوبُ يَطْلُبُ الْمُحِبَّ بِانْجِذَابِ الْمَحْبُوبِ فَإِذَا كَانَا مُتَحَابَّيْنِ صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَاذِبًا مَجْذُوبًا مِنْ الْوَجْهَيْنِ فَيَجِبُ الِاتِّصَالُ وَلَوْ كَانَ الْحُبُّ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَكَانَ الْمُحِبُّ يَجْذِبُ الْمَحْبُوبَ وَالْمَحْبُوبُ يَجْذِبُهُ لَكِنَّ الْمَحْبُوبَ لَا يَقْصِدُ جَذْبَهُ وَالْمُحِبُّ يَقْصِدُ جَذْبَهُ وَيَنْجَذِبُ وَهَذَا " سَبَبُ التَّأْثِيرِ فِي الْمَحْبُوبِ " إمَّا تَمَثُّلٌ يَحْصُلُ فِي قَلْبِهِ فَيَنْجَذِبُ وَإِمَّا أَنْ يَنْجَذِبَ بِلَا مَحَبَّةٍ : كَمَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَيَلْبَسُ الثَّوْبَ وَيَسْكُنُ الدَّارَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَحْبُوبَاتِ الَّتِي لَا إرَادَةَ لَهَا . وَأَمَّا " الْحَيَوَانُ " فَيُحِبُّ بَعْضُهُ بَعْضًا بِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْإِحْسَانِ إلَيْهِ وَقَدْ جُبِلَتْ النُّفُوسُ عَلَى حُبّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا لَكِنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ مَحَبَّةُ الْإِحْسَانِ لَا نَفْسُ الْمُحْسِنِ وَلَوْ قُطِعَ ذَلِكَ لَاضْمَحَلَّ ذَلِكَ الْحُبُّ وَرُبَّمَا أَعْقَبَ بُغْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يُعْطِيه فَمَا أَحَبّ إلَّا الْعَطَاءَ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يُحِبُّ مَنْ يُعْطِيه لِلَّهِ فَهَذَا كَذِبٌ وَمُحَالٌ وَزُورٌ مِنْ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ إنْسَانًا لِكَوْنِهِ يَنْصُرُهُ إنَّمَا أَحَبّ النَّصْرَ لَا النَّاصِرَ . وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ اتِّبَاعِ مَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فَإِنَّهُ لَمْ يُحِبّ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا مَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ فَهُوَ إنَّمَا أَحَبَّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةَ وَدَفْعَ الْمَضَرَّةِ وَإِنَّمَا
أَحَبّ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَحْبُوبِهِ وَلَيْسَ هَذَا حُبًّا لِلَّهِ وَلَا لِذَاتِ الْمَحْبُوبِ . وَعَلَى هَذَا تَجْرِي عَامَّةُ مَحَبَّةِ الْخَلْقِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَهَذَا لَا يُثَابُونَ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يَنْفَعُهُمْ بَلْ رُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى النِّفَاقِ وَالْمُدَاهَنَةِ فَكَانُوا فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْأَخِلَّاءِ الَّذِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ عَدُوٌّ إلَّا الْمُتَّقِينَ . وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ وَحْدَهُ وَأَمَّا مَنْ يَرْجُو النَّفْعَ وَالنَّصْرَ مِنْ شَخْصٍ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ لِلَّهِ فَهَذَا مِنْ دَسَائِسِ النُّفُوسِ وَنِفَاقِ الْأَقْوَالِ . وَإِنَّمَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ الْحُبُّ لِلَّهِ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِكَوْنِ حُبِّهِمْ يُقَرِّبُ إلَى اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مَحَبَّةَ اللَّهِ لَهُمْ . وَنَبِيُّنَا كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَيَدَعُ آخَرِينَ هُمْ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ الَّذِي يُعْطِي ؛ يَكِلُهُمْ إلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنَّمَا كَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْهَلَعِ وَالْجَزَعِ ؛ لِيَكُونَ مَا يُعْطِيهِمْ سَبَبًا لِجَلْبِ قُلُوبِهِمْ إلَى أَنْ يُحِبُّوا الْإِسْلَامَ فَيُحِبُّوا اللَّهَ فَكَانَ مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ دَعْوَةَ الْقُلُوبِ إلَى حُبّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَرْفِهَا عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ يُعْطِي أَقْوَامًا خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُمْ اللَّهُ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ فَمَنَعَهُمْ بِذَلِكَ الْعَطَاءِ عَمَّا
يَكْرَهُهُ مِنْهُمْ فَكَانَ يُعْطِي لِلَّهِ وَيَمْنَعُ لِلَّهِ . وَقَدْ قَالَ : { مَنْ أَحَبّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنِّي وَاَللَّهِ إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا وَلَكِنْ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْت } . وَصُورَةُ الْمَحْبُوبِ الْمُتَمَثِّلَةُ فِي النَّفْسِ يَتَحَرَّكُ لَهَا الْمُحِبُّ وَيُرِيدُ لَهَا وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ وَيَبْتَهِجُ وَيَنْشَرِحُ عِنْدَ ذِكْرِهَا مِنْ أَيِّ جِنْسٍ كَانَتْ فَتَبْقَى هِيَ كَالْآمِرِ النَّاهِي لَهُ ؛ وَلِهَذَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ كَأَنَّهَا تُخَاطِبُهُ بِأَمْرِ وَنَهْيٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَمَا يَرَى كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُحِبُّهُ وَيُعَظِّمُهُ فِي مَنَامِهِ وَهُوَ يَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ وَيُخْبِرُهُ بِأُمُورِ . وَالْمُشْرِكُونَ تَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيَاطِينُ فِي صُوَرِ مَنْ يَعْبُدُونَهُ . تَأْمُرُهُمْ وَتَنْهَاهُمْ . وَالْقَائِلُونَ بِالشَّاهِدِ وَالْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّلُوكِ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : إنَّهُ يُخَاطِبُ فِي بَاطِنِهِ عَلَى لِسَانِ الشَّاهِدِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَذَاكَ بِإِزَائِهِ لِيُشَاهِدَهُ فِي الضَّوْءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُشَاهِدُهُ فِي حَالِ السَّمَاعِ فِي غَيْرِهِ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُخَاطِبُونَ وَيَجِدُونَ الْمَزِيدَ فِي قُلُوبِهِمْ بِذَلِكَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَمَثَّلُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَرُبَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ فَيَجِدُونَ فِي نُفُوسِهِمْ خِطَابًا مِنْ تِلْكَ الصُّورَةِ فَيَقُولُونَ خُوطِبْنَا مِنْ جِهَتِهِ . وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي