الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
لَفْظِيٍّ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ النِّزَاعُ وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ مَعْنَوِيٌّ . وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي قَالَ الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَإِنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً ؛ إنَّمَا مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّهَا مُنْتَزَعَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ وَأَنَّهَا مَادَّةُ لَفْظِ كَلَامِ اللَّهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ . فَأَمَّا حَرْفٌ مُجَرَّدٌ فَلَا يُوجَدُ لَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي غَيْرِهِ وَلَا يُنْطَقُ بِالْحَرْفِ إلَّا فِي ضِمْنِ مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ وَحُرُوفِ الْمَعَانِي وَأَمَّا الْحُرُوفُ الَّتِي يُنْطَقُ بِهَا مُفْرَدَةً مِثْلُ : أَلِف لَام مِيم وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ فِي الْحَقِيقَةِ أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ حُرُوفًا بِاسْمِ مُسَمَّاهَا كَمَا يُسَمَّى ضَرَبَ فِعْلٌ مَاضٍ بِاعْتِبَارِ مُسَمَّاهُ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا سَأَلَ الْخَلِيلُ أَصْحَابَهُ كَيْفَ تَنْطِقُونَ بالزاء مِنْ زَيْدٍ ؟ قَالُوا : نَقُولُ " زا " قَالَ : جِئْتُمْ بِالِاسْمِ ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ " زه " . وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ - الَّتِي هِيَ أَسْمَاءُ الْحُرُوفِ - إلَّا نِصْفُهَا وَهِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَهِيَ نِصْفُ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ : نَصِفُ الْمَجْهُورَةِ وَ الْمَهْمُوسَةِ والمستعلية وَالْمُطْبَقَةِ وَالشَّدِيدَةِ وَالرَّخْوَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَجْنَاسِ الْحُرُوفِ . وَهُوَ أَشْرَفُ النِّصْفَيْنِ . وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ إلَّا فِي ضِمْنِ الْأَسْمَاءِ أَوْ الْأَفْعَالِ أَوْ حُرُوفِ الْمَعَانِي - الَّتِي لَيْسَتْ بِاسْمِ وَلَا فِعْلٍ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ بِأَسْمَائِهَا جَمِيعِهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ لَكِنْ نَفْسُ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي
هِيَ أَبْعَاضُ الْكَلَامِ مَوْجُودَةٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ بَلْ قَدْ اجْتَمَعَتْ فِي آيَتَيْنِ : " إحْدَاهُمَا " فِي آلِ عِمْرَانَ وَ " الثَّانِيَةِ " فِي سُورَةِ الْفَتْحِ : { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ } الْآيَةَ وَ { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ } الْآيَةَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ آخَرَ مُؤَلَّفٍ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ فَلَمْ يَنْطِقْ بِنَفْسِ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا نَطَقَ بِمِثْلِهَا وَذَلِكَ الَّذِي نَطَقَ بِهِ قَدْ يَكُونُ هُوَ أَخَذَهُ وَإِذَا ابْتَدَأَ مِنْ لَفْظِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً . قِيلَ : الْحَرْفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَهُ الْحَقِيقَةُ الْمُطْلَقَةُ الَّتِي لَا تَأْلِيفَ فِيهَا لَا تُوجَدُ لَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا فِي كَلَامِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ الْحَرْفُ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ اللَّفْظِ أَوْ اسْمُهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ إلَّا حَرْفٌ ؛ وَلَكِنَّ هَذَا الْمُطْلَقُ ؛ بَلْ الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ قَائِمَةٌ بِأَنْفُسِهَا كَالْإِنْسَانِ لَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا عَنْ الْأَعْيَانِ فِي الْأَعْيَانِ لَا يُوجَدُ مُجَرَّدًا عَنْ الْأَعْيَانِ إلَّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَكَيْفَ بِالْحَرْفِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُؤَلَّفًا فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ مُتَعَدِّدَ الْأَعْيَانِ كَمَا يُوجَدُ الْإِنْسَانُ لَمْ تَكُنْ حَقِيقَتُهُ الْمُطْلَقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مَوْجُودَةً إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُرُوفَ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِاخْتِلَافِ مَعَانِيهَا وَاخْتِلَافِ الْمُتَكَلِّمِ
بِهَا وَهَذَا أَوْجَبَ تَعْظِيمَ حُرُوفِ الْقُرْآنِ الْمَنْطُوقَةَ وَالْمَسْطُورَةَ وَكَانَ لَهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَا امْتَازَتْ بِهِ عَمَّا سِوَاهَا وَاخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ إنَّمَا كَانَ لِاخْتِلَافِ صِفَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُقَالَ مَا قَالَهُ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ : إنَّ كَلَامَ الْإِنْسَانِ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ وَالْقُرْآنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { يَقُولُ اللَّهُ : أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْت الرَّحِمَ وَشَقَقْت لَهَا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ } " وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ { الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ : عَجَبًا لَهُمْ كَيْفَ يَكْفُرُونَ بِهِ وَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي نَعْمَائِهِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَسْمَائِهِ } . وَذَكَرَ فِي مُعْظَمِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ أَنَّهَا مَبَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَكُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ وَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ قَالَ : لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً وَلَيْسَ بِحُجَّةِ ؛ فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَا اشْتَقَّهُ هُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ فَتَكَلَّمَ بِهِ فَكَلَامُهُ بِهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا إذَا اشْتَقُّوا اسْمًا أَحْدَثُوهُ فَذَلِكَ الِاسْمُ هُمْ أَحْدَثُوهُ وَلَا يَلْزَمُ إذَا كَانَ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ غَيْرَ مَخْلُوقٍ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَقُّ كَذَلِكَ . وَمَا يُرْوَى عَنْ الْمَسِيحِ فَلَا يُعْرَفُ ثُبُوتُهُ عَنْهُ وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ فَإِذَا كَانَ قَدْ أَلْهَمَ عِبَادَهُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْحُرُوفِ
الَّتِي هِيَ مَبَانِي أَسْمَائِهِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْدَثُوهُ هُمْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ . " وَبِالْجُمْلَةِ " فَمَنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْحَرْفِ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ مَوْجُودَةٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ إشَارَةً إلَى نَفْسِ حَقِيقَةِ الْحَرْفِ ؛ لَا إلَى عَيْنِ جُزْءِ اللَّفْظِ الَّذِي بِهِ يَنْطِقُ الْكُفَّارُ وَالْمُشْرِكُونَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ الْحَرْفَ الَّذِي هُوَ صَوْتٌ لِمُقَدَّرِ أَوْ تَقْدِيرُ صَوْتِ قَائِمٍ بِالْكَافِرِ وَالْمُشْرِكِ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ : إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مُضَافًا إلَى اللَّهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنَّمَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ مَا شَارَكَهُ فِي اسْمِهِ مِمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْمَعْنَى الْمُضَافِ إلَى اللَّهِ . وَهَذَا بِخِلَافِ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي كَلَامِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ تِلْكَ كَلَامُ اللَّهِ كَيْفَ مَا تَصَرَّفَتْ وَنَحْنُ لَمَّا يَسَّرَ اللَّهُ كَلَامَهُ بِأَلْسِنَتِنَا أَمْكَنَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِكَلَامِهِ ؛ لَكِنْ بِأَدَوَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا ؛ وَلَيْسَ تَكَلُّمُنَا بِهِ وَسَمْعُهُ مِنَّا كَتَكَلُّمِ اللَّهِ بِهِ وَسَمْعِهِ مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ سَائِر مَا يُضَافُ إلَيْهِ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا أَنْطَقَنَا اللَّهُ بِأَدَوَاتِنَا وَحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا صَارَ بَيْنَ بَعْضِ لَفْظِنَا بِهِ وَلَفْظِنَا بِغَيْرِهِ نَوْعٌ مِنْ الشَّبَهِ ؛ فَإِذَا تَكَلَّمْنَا بِكَلَامِ آخَرَ فَهُوَ يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَفْظَنَا وَصَوْتَنَا بِالْقُرْآنِ لَا يُشْبِهُ تَكَلُّمَ اللَّهِ بِهِ وَقِرَاءَتَهُ إيَّاهُ فَإِذَا كَانَ وُجُودُ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَإِنَّمَا يُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ تَكَلُّمَنَا بِهِ
مِنْ جِهَةِ مَا يُضَافُ إلَيْنَا لَا مِنْ جِهَةِ مَا يُضَافُ إلَى اللَّهِ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ : عَيْنُ الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ لَفْظَةٍ مِنْ الِاسْمِ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ النَّاسُ هُوَ عَيْنُ الْحَرْفِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ لَفْظٍ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُشْبِهُهُ وَيُقَارِبُهُ فَهُوَ هُوَ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ إيَّاهُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ وَالشَّخْصُ خِلَافُ حُرُوفِ كَلَامِ اللَّهِ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّهَا كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَتْ وَفِيهَا دِقَّةٌ وَشُبْهَةٌ أَشَرْنَا إلَيْهَا فِي هَذَا الْجَوَابِ وَشَرَحْنَاهَا فِي مَوْضِعِهَا . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْحُرُوفَ حَرْفَانِ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمَا عَيْنَانِ وَشَخْصَانِ وَهَذَا حَقٌّ . وَمَنْ قَالَ : الْحَرْفُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَرَادَ بِهِ : أَنَّ الْحَقِيقَةَ النَّوْعِيَّةَ وَاحِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهَذَا حَقٌّ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ حُرُوفَ الْهِجَاءِ مِنْ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَدْ صَدَقَ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ النَّوْعِيَّةِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا مَخْلُوقَةٌ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ الشَّخْصِيَّةِ فَقَدْ صَدَقَ . وَنَظِيرُ هَذَا كَثِيرٌ يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَيَكُونُ النِّزَاعُ فِي مَعْنَيَيْنِ مُتَنَوِّعَيْنِ نِزَاعًا لَفْظِيًّا اعْتِبَارِيًّا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ ؛ لَكِنْ وُقُوعُ الِاشْتِرَاكِ وَالْإِجْمَالِ يَضِلُّ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ كَمَا يَهْتَدِي بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْخَلْقِ وَهُوَ سَبَبُ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ الْمَسْئُولِ عَنْهُمْ فَإِنَّ حُجَّتَهُمْ : أَنَّ اللَّهَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا وَعَلَّمَهُ الْبَيَانَ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى
أَنَّ " اللُّغَاتِ تَوْقِيفِيَّةٌ " كَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ : كَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي مُحَمَّدٍ المقدسي وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ فورك وَغَيْرِهِمَا . لَكِنَّ " التَّوْقِيفَ " هَلْ الْمُرَادُ بِهِ التَّكْلِيمُ أَوْ التَّعْرِيفُ أَوْ كِلَاهُمَا ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ . فَاَلَّذِينَ قَالُوا : إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ يَقُولُونَ : إنَّهَا " تَوْقِيفِيَّةٌ " وَإِنَّ التَّعْلِيمَ هُوَ بِالْخِطَابِ فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْأَسْمَاءِ كُلِّهَا وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . قَالَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ الضَّالُّونَ : وَكَلَامُ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ إلَّا مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ وَتِلْكَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . فَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مَخْلُوقٍ . فَبَنَوْا قَوْلَهُمْ عَلَى أَنَّ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَنَّ الْأَسْمَاءَ الْمُؤَلَّفَةَ مِنْ الْحُرُوفِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَاعْتَقَدُوا مَعَ ذَلِكَ أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ لَيْسَ إلَّا مَا يَأْتَلِفُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ وَتِلْكَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَقَالُوا : كَلَامُ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ لِأَنَّ مُفْرَدَاتِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . وَإِذَا ضُويِقُوا . فَقَدْ يَقُولُونَ النَّظْمُ وَالتَّأْلِيفُ مَخْلُوقٌ وَأَمَّا نَفْسُ الْمَنْظُومِ الْمُؤَلَّفِ فَهُوَ قَدِيمٌ ثُمَّ يَحْسَبُونَ أَنَّ الْمَوَادَّ الْمَنْظُومَةَ الْمُؤَلَّفَةَ هِيَ أَدْخَلُ فِي الْكَلَامِ مِنْ نَفْسِ التَّأْلِيفِ وَالنَّظْمِ كَمَا أَنَّ أَجْزَاءَ الْبَيْتِ هِيَ أَدْخَلُ فِي مُسَمَّاهُ مِنْ تَأْلِيفِهِ وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ اسْمًا لِلْأَجْزَاءِ وَلِتَأْلِيفِهَا .
وَرُبَّمَا طَرَدَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ " الْمَقَالَةِ " فِي سَائِر أَصْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ . وَلَمَّا أَلْزَمُهُمْ مَنْ خَاطَبَهُمْ بِأَصْوَاتِ الْعِبَادِ ؛ الَّتِي لَيْسَتْ بِكَلَامِ طَرَدَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي الْأَصْوَاتِ ثُمَّ طَرَدَ ذَلِكَ فِي أَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ : مِنْ الْحَمِيرِ وَغَيْرِهَا وَيَلْزَمُهُمْ طَرْدُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَصْوَاتِ حَتَّى أَصْوَاتُ الْعِيدَانِ وَالْمَزَامِيرِ ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَصْوَاتِ الْبَهَائِمِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَهَالَةَ إذَا انْتَهَتْ إلَى هَذَا الْحَدِّ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْوَتَدَ وَالْحَائِطَ وَالْعَجَلَ الَّذِي يُعْمَلُ مِنْهُ الْجِلْدُ كَلَامُ اللَّهِ أَوْ يَقُولُ : إنَّ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الْكِبَارِ أَوْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يُعَانِقُ الْمُشَاةَ وَيُصَافِحُ الرُّكْبَانَ أَوْ يَقُولُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَيْسَا مَدْفُونَيْنِ بِالْحُجْرَةِ أَوْ أَنَّهُمَا فِرْعَوْنُ وَهَامَانُ وَأَنَّهُمَا كَانَا كَافِرَيْنِ عَدُوَّيْنِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي لَهَبٍ أَوْ يَقُولُ : إنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ يَقُولُ : إنَّ الَّذِي صَفَعَتْهُ الْيَهُودُ وَصَلَبَتْهُ وَوَضَعَتْ الشَّوْكَ عَلَى رَأْسِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّ الْيَدَيْنِ الْمُسَمَّرَتَيْنِ هُمَا اللَّتَانِ خَلَقَتَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَوْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ قَعَدَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ يَبْكِي وَيَنُوحُ حَتَّى جَاءَ بَعْضُ مَشَايِخِ الْيَهُودِ فَبَرَكَ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ بَكَى حَتَّى رَمَدَتْ عَيْنَاهُ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَأَنَّهُ نَدِمَ عَلَى الطُّوفَانِ وَعَضَّ يَدَيْهِ مِنْ النَّدَمِ حَتَّى جَرَى الدَّمُ أَوْ يَقُولُ : إنَّ
الشَّيْخَ فُلَانًا وَالشَّيْخَ فُلَانًا يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَكُلُّ رِزْقٍ لَا يَرْزُقُنِيهِ مَا أُرِيدُهُ أَوْ يَقُولُ إنَّ عَلِيًّا هُوَ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَقُولُ : إنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ لَمَّا صَنَعَهُ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الطَّبِيعَةُ حَتَّى أَهَلَكَ نَفْسَهُ أَوْ يَقُولُ : إنَّ وُجُودَهُ وَوُجُودَ هَذَا وَهَذَا هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ وَإِنَّ اللَّهَ هُوَ عَيْنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَأَنَّ كُلَّ صَوْتٍ وَنُطْقٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ صَوْتُهُ وَكَلَامُهُ وَكُلَّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ وَسُكُونٍ فَهُوَ حَرَكَتُهُ وَسُكُونُهُ وَإِنَّ الْحَقَّ الْمُنَزَّهَ هُوَ الْخَلْقُ الْمُشَبَّهُ وَإِنَّهُ لَوْ زَالَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ لَزَالَتْ حَقِيقَةُ اللَّهِ وَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ لَا اسْمَ لَهُ وَلَا صِفَةَ وَإِنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا فِي الْأَعْيَانِ الْمُمْكِنَاتِ وَإِنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ السَّارِي فِي الْمَخْلُوقَاتِ : الَّذِي لَا يَتَمَيَّزُ وَلَا يَنْفَصِلُ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ . إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يَقُولُهَا الْغُلَاة مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْكِتَابِيِّينَ . وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ مِنْ غَالِيَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ . فَإِنَّ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ - وَإِنْ كَانُوا أَصْلَحَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَشْبَاهِهِمْ فَالسُّنَّةُ فِي الْإِسْلَامِ كَالْإِسْلَامِ فِي الْمَلَلِ كَمَا أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَيْرٍ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ وَكُلُّ شَرٍّ فِي الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ فَكَذَلِكَ الْمُنْتَسِبَةُ إلَى السُّنَّةِ - قَدْ يُوجَدُ فِيهِمْ مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَيْرٍ فِي غَيْرِ أَهْلِ السُّنَّةِ فَهُوَ فِيهِمْ أَكْثَرُ وَكُلُّ
شَرٍّ فِيهِمْ فَهُوَ فِي غَيْرِهِمْ أَكْثَرُ ؛ إذْ قَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لِتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ : حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ . قَالُوا : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ } ؟ " وَقَالَ : " { لَتَأْخُذُنَّ مَآخِذَ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ : شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعِ قَالُوا : فَارِسُ وَالرُّومُ ؟ قَالَ : وَمَنْ النَّاسُ إلَّا هَؤُلَاءِ } " . وَإِزَالَةُ شُبْهَةِ هَؤُلَاءِ تَحْتَاجُ إلَى الْكَلَامِ فِي " الْحُرُوفِ وَالْأَسْمَاءِ " هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ أَمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَإِنْ كُنَّا قَدْ أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ ؛ بَلْ نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَنَقُولُ مَعَ هَذَا : يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ وَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ إطْلَاقًا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ : بِأَنْ يُقَالَ نَظْمُهُ وَتَأْلِيفُهُ مَخْلُوقٌ وَحُرُوفُهُ وَأَسْمَاؤُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ تَرْكِيبُهُ مَخْلُوقٌ وَمُفْرَدَاتُهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَإِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ لَيْسَ الْكَلَامُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْأَلْفَاظِ وَلَا لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي . وَعَامَّةُ مَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ ؛ بَلْ وَسَائِر الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ مَنْ لَفْظَا الْكَلَامِ وَالْقَوْلِ وَهَذَا كَلَامُ فُلَانٍ أَوْ كَلَامُ فُلَانٍ ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا
لِشُمُولِهِ لَهُمَا ؛ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي اللَّفْظِ فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ ؛ وَلَا فِي الْمَعْنَى فَقَطْ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ . وَلَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ . وَلَا مُشْتَرَكٌ فِي كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَحَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى فِي كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } " { وَقَوْلُ مُعَاذٍ لَهُ : وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ ؟ فَقَالَ : ثَكِلَتْك أُمُّك يَا مُعَاذُ ؛ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ } " وَقَوْلُهُ : " { كَلِمَتَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } " وَقَوْلُهُ : " { إنَّ أَصْدَقَ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ : كَلِمَةُ لَبِيَدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ } وَقَوْلُهُ : " { إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا أَحَدٌ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا وَجَدَ رُوحَهُ لَهَا رَوْحًا . فَمَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } " وَمَا فِي الْقُرْآنِ : مِثْلُ قَوْلِهِ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } وَقَوْلُهُ : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَسْمَاءِ الْقَوْلِ وَالْكَلَامِ جَمِيعًا وَنَحْوُهُمَا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ الْمُبْتَدِئِ لَهُ سَوَاءً كَانَ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا لَا رَيْبَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلَّفَ مَعَانِيَهُ وَأَلَّفَ أَلْفَاظَهُ ؛ وَأَمَّا مُفْرَدَاتُ " الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَخْلُوقَةً أَوْ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ ؛ فَإِنَّ " اللُّغَاتِ " سَابِقَةٌ لِكَلَامِ عَامَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَنُطْقِ النَّاطِقِينَ مِنْ الْبَشَرِ وَهُمْ تَلَقَّوْا الْأَسْمَاءَ وَحُرُوفَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي لُغَاتِهِمْ عَمَّنْ قَبْلَهُمْ إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْأَمْرُ إلَى أَوَّلِ مُتَكَلِّمٍ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ . ثُمَّ أَنَّهُ مِمَّا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ جَمِيعُهُمْ : أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامُ مَنْ أَلَّفَ مَعَانِيَهُ وَأَلْفَاظَهُ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا فِيهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالْحُرُوفِ إنَّمَا تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَالنَّاسُ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْقَصَائِدَ كَلَامُ مُنْشِئِيهَا : مِثْلُ شَعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَالنَّابِغَةِ الذبياني : كَقَوْلِهِ : قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ فَجَمِيعُ الْأُمَمِ يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ إنَّ هَذَا شِعْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَلَامُهُ وَإِنْ كَانَتْ الْأَسْمَاءُ الْمُفْرَدَةُ فِيهِ إنَّمَا تَعَلَّمَهَا مِنْ غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ نَطَقَتْ قَبْلَهُ بِلَفْظِ " قِفَا " وَبِلَفْظِ " نَبْكِ " وَبِلَفْظِ " مِنْ ذِكْرَى " " حَبِيبٍ " " وَمَنْزِلٍ " وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ إذَا سَمِعُوا قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا
الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } " أَوْ " { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ : مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } " وَقَوْلُهُ : " { مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } " قَالُوا : هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا حَدِيثُهُ وَهَذَا قَوْلُهُ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ جَمِيعَ مُفْرَدَاتِ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَبْلَهُ : مِثْلُ لَفْظِ " إنَّمَا " وَلَفْظِ " الْأَعْمَالُ " وَلَفْظِ " النِّيَّةِ " وَ " النِّيَّاتِ " وَلَفْظِ " كُلُّ امْرِئِ " وَلَفْظِ " مَا نَوَى " وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَكَذَا كَلَامُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَكَلَامُ مُصَنِّفِي الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ كُلُّهُمْ يَقُولُ : هَذِهِ الرِّسَالَةُ كَلَامُ فُلَانٍ وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ كَلَامُ فُلَانٍ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ كَلَامِ فُلَانٍ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِمُفْرَدَاتِ الْكَلَامِ : أَسْمَائِهِ وَحُرُوفِ هِجَائِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا بِاعْتِبَارِ الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهَا - وَهِيَ حُرُوفُ الْهِجَاءِ - وَلَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِوَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الْمُفْرَدَةَ لَا يُعْلَمُ وَضْعُ اللَّفْظِ لَهَا إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَا فَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِهَا لَا يُسْتَفَادُ إلَّا مِنْ اللَّفْظِ لَزِمَ الدَّوْرُ . وَلِهَذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ - وَهُمْ أَخْبَرُ بِمُشَبَّهَاتِ الْأَلْفَاظِ مِنْ
غَيْرِهِمْ - : إنَّ اسْمَ الْكَلَامِ لَا يُقَالُ إلَّا عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُفِيدَةِ كَالْمُرَكَّبَةِ مِنْ اسْمَيْنِ أَوْ اسْمٍ وَفِعْلٍ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ " سِيبَوَيْهِ " حَكِيمُ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي ( بَابِ الْحِكَايَةِ بِالْقَوْلِ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ الْقَوْلَ يُحْكَى بِهِ مَا كَانَ كَلَامًا وَلَا يُحْكَى بِهِ مَا كَانَ قَوْلًا وَالْقَوْلُ إنَّمَا تُحْكَى بِهِ الْجُمَلُ الْمُفِيدَةُ . فَعُلِمَ أَنَّهَا هِيَ الْكَلَامُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ . وَحَيْثُ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ اسْمَ " الْكَلَامِ " عَلَى حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا فِي ( بَابِ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا غَرَضُهُمْ مَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ سَوَاءً كَانَ مُفِيدًا أَوْ غَيْرَ مُفِيدٍ وَمَوْضُوعًا أَوْ مُهْمَلًا حَتَّى لَوْ صَوَّتَ تَصْوِيتًا طَوِيلًا وَلَحَّنَ لُحُونَ الْغِنَاءِ أَبْطَلَ الصَّلَاةَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي اللُّغَةِ كَلَامًا . وَهُمْ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ أَوْ لَيَتَكَلَّمَن لَا يُعَلِّقُونَ الْبِرَّ وَالْحِنْثَ إلَّا بِمَا هُوَ فِي عُرْفِ الْحَالِفِ كَلَامٌ وَإِنْ كَانَ أَخَصَّ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ وَأَطْلَقَ يَمِينَهُ حَنِثَ بِكَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ وَهَلْ يَحْنَثُ بِتَكَلُّمِهِ بِالْقُرْآنِ ؟ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : لَا يَحْنَثُ بِحَالِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَحْنَثُ بِتِلَاوَتِهِ فِي الصَّلَاةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَرْجِعُهَا إلَى عُرْفِ الْحَالِفِ فَعُمُومُ اسْمِ الْكَلَامِ وَخُصُوصُهُ عِنْدَهُمْ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ . وَالسَّلَفُ إذَا ذَمُّوا أَهْلَ الْكَلَامِ وَقَالُوا : عُلَمَاءُ الْكَلَامِ زَنَادِقَةٌ وَمَا ارْتَدَى أَحَدٌ بِالْكَلَامِ فَأَفْلَحَ فَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ مُطْلَقَ الْكَلَامِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِيمَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ طَرِيقَةِ الْمُرْسَلِينَ . وَالْخَائِضُونَ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " وَإِنْ قَالُوا : إنَّ الْكَلَامَ مَا تَأَلَّفَ مِنْ حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا أَوْ مَا انْتَظَمَ مِنْ " الْحُرُوفِ " وَهِيَ الْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ الْمُتَوَاضِعُ عَلَيْهَا . وَتَنَازَعُوا فِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ الْمُؤَلَّفِ مَعَ غَيْرِهِ هَلْ يُسَمَّى كَلَامًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ كَمَا قَالَ أَكْثَرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ : إنَّ الْجِسْمَ هُوَ الْمُؤَلَّفُ وَأَقَلُّ التَّرْكِيبِ مَنْ جَوْهَرَيْنِ وَتَنَازَعُوا فِي الْجَوْهَرِ الْوَاحِدِ الْمُؤَلَّفِ هَلْ يُسَمَّى جِسْمًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ فَهَذَا اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ لَهُمْ . كَمَا اصْطَلَحَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّ الْمُفْرَدَ مِثْلُ الِاسْمِ وَحَرْفُ الْمَعْنَى يُسَمَّى كَلِمَةً وَإِنْ كَانَتْ الْكَلِمَةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ العرباء لَا تُوجَدُ إلَّا اسْمًا لِلْجُمْلَةِ التَّامَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا لَا يَحْضُرُنِي الْآنَ . وَإِذَا كَانَ النَّاسُ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامُ مَنْ أَلَّفَ أَلْفَاظَهُ وَمَعَانِيَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ أَسْمَاءَهُ مِنْ غَيْرِهِ زَالَتْ كُلُّ شُبْهَةٍ فِي الْمَسْأَلَةِ وَوَجَبَ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ مَخْلُوقٌ كَمَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الشِّعْرَ مِنْ كَلَامِ فُلَانٍ وَهَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ فُلَانٍ ؛ لَا كَلَامُ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا قَبْلَهُمْ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَحُرُوفِهَا ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ هُوَ كَلَامُ الَّذِينَ أَنْشَئُوهُ وَابْتَدَءُوهُ فَأَلَّفُوا أَلْفَاظَهُ وَمَعَانِيَهُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ قَدْ تَعَلَّمَ أَسْمَاءَهُ وَحُرُوفَهُ مِنْ بَعْضٍ وَلَوْ كَانَتْ أَسْمَاؤُهُ قَدْ سَمِعُوهَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا أَمْرًا عَجِيبًا وَهُوَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ ضِدُّ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَءُونَهُ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ لَا كَلَامَ اللَّهِ فَإِنَّ أُولَئِكَ عَمَدُوا إلَى كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي يَتْلُونَهُ وَيُبَلِّغُونَهُ وَيُؤَدُّونَهُ - فَجَعَلُوهُ كَلَامَ أَنْفُسِهِمْ وَهَؤُلَاءِ عَمَدُوا إلَى كَلَامِهِمْ - الْمُتَضَمِّنِ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ وَالْكَذِبَ وَالْبُطْلَانَ - فَجَعَلُوهُ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ . فَأُولَئِكَ لَمْ يَنْظُرُوا إلَّا إلَى مَنْ سُمِعَ مِنْهُ الْكَلَامُ وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَنْظُرُوا إلَّا إلَى مَنْ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ تَكَلَّمَ أَوَّلًا بِمُفْرَدَاتِ الْكَلَامِ . وَأَمَّا " الْأُمَّةُ الْوَسَطُ " الْبَاقُونَ عَلَى الْفِطْرَةِ وَجَمِيعُ بَنِي آدَمَ فَيَقُولُونَ لِمَا بَلَّغَهُ الْمُبَلِّغُ عَنْ غَيْرِهِ وَأَدَّاهُ وَلِمَا قَرَأَهُ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ وَتَلَاهُ . هَذَا كَلَامُ ذَاكَ وَإِنَّمَا بَلَّغْت بِقُوَاك كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ : { الم } { غُلِبَتِ الرُّومُ } { فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } فَقَالُوا : هَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك ؟ فَقَالَ : لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا كَلَامِ صَاحِبِي وَلَكِنْ كَلَامُ اللَّهِ . وَهَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ فَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } " فَبَيَّنَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّمَا يُبَلِّغُهُ وَيَتْلُوهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُهُ وَإِنْ كَانَ يُبَلِّغُهُ بِأَفْعَالِهِ وَصَوْتِهِ كَمَا قَالَ : " { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } " وَقَالَ : { لَلَّهُ أَشَدُّ أَذْنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ } " . وَالْأُمَمُ مُتَّفِقُونَ عَلَى هَذَا إذَا سَمِعُوا مَنْ يَرْوِي قَصِيدَةً مَنْ شَعْرٍ مِثْلِ " قِفَا نَبْكِ " أَوْ " هَلْ غَادَرَ الشُّعَرَاءُ " أَوْ " خُطْبَةً " مِثْلَ خُطَبِ عَلِيٍّ وَزِيَادٍ أَوْ " رِسَالَةً " كَرِسَالَةِ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَنَحْوِهِ أَوْ سَجْعًا مِنْ سَجْعِ الْكُهَّانِ أَوْ قُرْآنًا مُفْتَرًى كَقُرْآنِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ قَالُوا : هَذَا شِعْرُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَلَامُ عَلِيٍّ وَكَلَامُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَقُرْآنُ مُسَيْلِمَةَ وَهُوَ كَلَامُهُ وَلَمْ يَجْعَلُوهُ كَلَامًا لِلْمُبَلِّغِ الْمُؤَدِّي بِالْوَاسِطَةِ وَإِنْ كَانَ بَلَّغَهُ بِفِعْلِهِ وَصَوْتِهِ وَإِذَا أَنْشَأَ رَجُلٌ قَصِيدَةً أَوْ خُطْبَةً أَوْ رِسَالَةً أَوْ سَجْعًا أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ مَنْثُورٍ : آمِرًا أَوْ مُخْبِرًا قَالُوا : هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ وَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ مُفْرَدَاتِهِ مَنْ غَيْرِهِ وَتَلَقَّنَهَا مَنْ أَحَدٍ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْكَلَامَ هُوَ كَلَامٌ لِمَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُ الْمُفْرِدَاتِ فَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ مِمَّنْ قَالَ : إنَّ الْكَلَامَ لِمَنْ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ كَلَامُ مَنْ اتَّصَلَ بِهِ وَاتَّصَفَ بِهِ وَأَلَّفَهُ وَأَنْشَأَهُ وَكَانَ مُخْبِرًا بِخَبَرِهِ وَآمِرًا بِأَمْرِهِ وَنَاهِيًا عَنْ نَهْيِهِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا سُؤَالُ السَّائِلِ : هَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ زَجْرُهُمْ وَرَدْعُهُمْ ؟ فَنَعَمْ يَجِبُ ذَلِكَ فِي هَؤُلَاءِ وَفِي كُلِّ مَنْ أَظْهَرَ مُقَالَةً تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ " الْمُنْكَرِ " الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } وَهُوَ مِنْ " الْإِثْمِ " الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } . وَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ نَفَى عَنْ اللَّهِ مَا أَثْبَتّه لِنَفْسِهِ مِنْ الْمُعَطِّلَةِ وَالْمُمَثِّلَةِ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَذَلِكَ مِمَّا زَجَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ لِلنَّصَارَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } وَبِقَوْلِهِ : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } وَقَالَ عَنْ الشَّيْطَانِ : { إنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ
وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } . فَإِنَّ مَنْ قَالَ غَيْرَ الْحَقِّ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ ؛ فَإِنَّ الْبَاطِلَ لَا يُعْلَمُ إلَّا إذَا عُلِمَ بُطْلَانُهُ فَأَمَّا اعْتِقَادُ أَنَّهُ الْحَقُّ فَهُوَ جَهْلٌ لَا عِلْمٌ فَمَنْ قَالَهُ فَقَدْ قَالَ مَا لَا يَعْلَمُ وَكَذَلِكَ مَنْ تَبِعَ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَبْوَابِ الدِّينِ آبَاءَهُ وَأَسْلَافَهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ مِنْهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنَّهُ مِمَّنْ ذَمَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } وَقَوْلِهِ : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } { وَقَالُوا رَبَّنَا إنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } { رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } . وَكَذَلِكَ مَنْ اتَّبَعَ الظُّنُونَ وَالْأَهْوَاءَ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا " عَقْلِيَّاتٌ " وَ " ذَوْقِيَّاتٌ " فَهُوَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { إنْ يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } وَإِنَّمَا يَفْصِلُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا تَنَازَعُوا فِيهِ الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ مِنْ السَّمَاءِ وَالرَّسُولِ الْمُؤَيَّدِ بِالْأَنْبَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ } بَلْ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْأُصُولَ الْجَامِعَةَ الْكُلِّيَّةَ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا : فَيُؤْمِنُونَ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ : مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ وَمَنْ ثَبَتَ إسْلَامُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا تَكْفِيرُ قَائِلٍ هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَا بُدَّ مِنْ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ بِسَبَبِ عَدَمِ ضَبْطِهِ اضْطَرَبَتْ الْأُمَّةُ اضْطِرَابًا كَثِيرًا فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ كَمَا اضْطَرَبُوا قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي سَلْبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَهْلِ الْفُجُورِ وَالْكَبَائِرِ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ مِثْلُ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْمُمَثِّلَةِ يَعْتَقِدُونَ اعْتِقَادًا هُوَ ضَلَالٌ
يَرَوْنَهُ هُوَ الْحَقَّ وَيَرَوْنَ كُفْرَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ فَيَصِيرُ فِيهِمْ شَوْبٌ قَوِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُفْرِهِمْ بِالْحَقِّ وَظُلْمِهِمْ لِلْخَلْقِ وَلَعَلَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُكَفِّرِينَ يُكَفِّرُ بِ " الْمُقَالَةِ " الَّتِي لَا تُفْهَمُ حَقِيقَتُهَا وَلَا تُعْرَفُ حُجَّتُهَا . وَبِإِزَاءِ هَؤُلَاءِ الْمُكَفِّرِينَ بِالْبَاطِلِ أَقْوَامٌ لَا يَعْرِفُونَ اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ كَمَا يَجِبُ أَوْ يَعْرِفُونَ بَعْضَهُ وَيَجْهَلُونَ بَعْضَهُ وَمَا عَرَفُوهُ مِنْهُ قَدْ لَا يُبَيِّنُونَهُ لِلنَّاسِ بَلْ يَكْتُمُونَهُ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَذُمُّونَ أَهْلَ الْبِدَعِ وَيُعَاقِبُونَهُمْ ؛ بَلْ لَعَلَّهُمْ يَذُمُّونَ الْكَلَامَ فِي السُّنَّةِ وَأُصُولِ الدِّينِ ذَمًّا مُطْلَقًا ؛ لَا يُفَرِّقُونَ فِيهِ بَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْبِدْعَةِ وَالْفُرْقَةِ أَوْ يُقِرُّونَ الْجَمِيعَ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا يُقَرُّ الْعُلَمَاءُ فِي مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا النِّزَاعُ وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ قَدْ تَغْلِبُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَبَعْضِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ والمتفلسفة كَمَا تَغْلِبُ الْأُولَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْكَلَامِ وَكِلَا هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ مُنْحَرِفَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ بَيَانُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَتَبْلِيغُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وَالْوَفَاءُ بِمِيثَاقِ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيُؤْمِنَ بِهِ وَيُبَلِّغَهُ وَيَدْعُوَ إلَيْهِ
وَيُجَاهِدَ عَلَيْهِ وَيَزِنَ جَمِيعَ مَا خَاضَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ غَيْرَ مُتَّبِعِينَ لِهَوَى : مِنْ عَادَةٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ طَرِيقَةٍ أَوْ رِئَاسَةٍ أَوْ سَلَفٍ ؛ وَلَا مُتَّبِعِينَ لِظَنِّ : مِنْ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ أَوْ قِيَاسٍ فَاسِدٍ - سَوَاءً كَانَ قِيَاسَ شُمُولٍ أَوْ قِيَاسَ تَمْثِيلٍ - أَوْ تَقْلِيدٍ لِمَنْ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُ قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ فِي كِتَابِهِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَيَتْرُكُونَ اتِّبَاعَ مَا جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ مِنْ الْهُدَى .
فَصْلٌ :
إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ " مَسَائِلَ التَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ " هِيَ مِنْ مَسَائِلِ " الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ " الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْمُوَالَاةُ وَالْمُعَادَاةُ وَالْقَتْلُ وَالْعِصْمَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الْجَنَّةَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَحَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ وَهَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَكَانٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى - لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - :
{ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . فَأَمَرَ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِالْبُرْهَانِ عَلَى هَذَا النَّفْيِ الْعَامِّ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِثْبَاتِ الْبَاطِلِ ثُمَّ قَالَ : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَمَّنْ مَضَى مِمَّنْ كَانَ مُتَمَسِّكًا بِدِينِ حَقٍّ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَعَنْ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ جَمَعَ " الْخِصَالَ الثَّلَاثَ " الَّتِي هِيَ جِمَاعُ الصَّلَاحِ وَهِيَ الْإِيمَانُ بِالْخَلْقِ وَالْبَعْثِ : بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ ؛ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ؛ وَهُوَ أَدَاءُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ . فَإِنَّ لَهُ حُصُولُ الثَّوَابِ وَهُوَ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَانْدِفَاعُ الْعِقَابِ . فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ وَلَا يَحْزَنُ عَلَى مَا وَرَاءَهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ وَهُوَ عِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَهُوَ مُحْسِنٌ . فَ " الْأَوَّلُ " وَهُوَ إسْلَامُ الْوَجْهِ هُوَ النِّيَّةُ وَهَذَا " الثَّانِي " - وَهُوَ الْإِحْسَانُ - هُوَ الْعَمَلُ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ هُوَ الْإِيمَانُ الْعَامُّ وَالْإِسْلَامُ الْعَامُّ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ .
وَهُوَ " دِينُ اللَّهِ الْعَامِّ " الَّذِي لَا يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاهُ وَبِهِ بَعَثَ جَمِيعَ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } وَقَالَ تَعَالَى لِبَنِي آدَمَ جَمِيعًا : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . فَكَانَ مِنْ أَوَّلِ الْبِدَعِ وَالتَّفَرُّقِ الَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ " بِدْعَةُ الْخَوَارِجِ " الْمُكَفِّرَةِ بِالذَّنْبِ فَإِنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي فَزَعَمَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الذُّنُوبَ الْكَبِيرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : وَالصَّغِيرَةَ لَا تُجَامِعُ الْإِيمَانَ أَبَدًا بَلْ تُنَافِيهِ وَتُفْسِدُهُ كَمَا يُفْسِدُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ الصِّيَامَ قَالُوا : لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ فَمَتَى بَطَلَ بَعْضُهُ بَطَلَ كُلُّهُ كَسَائِرِ الْمُرَكَّبَاتِ .
ثُمَّ قَالَتْ " الْخَوَارِجُ " : فَيَكُونُ الْعَاصِي كَافِرًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ ثُمَّ اعْتَقَدُوا أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَغَيْرَهُمَا عَصَوْا وَمَنْ عَصَى فَقَدْ كَفَرَ فَكَفَّرُوا هَذَيْنِ الْخَلِيفَتَيْنِ وَجُمْهُورَ الْأُمَّةِ . وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِالْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ . وَقَابَلَتْهُمْ " الْمُرْجِئَةُ " وَ " الْجَهْمِيَّة " وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة . فَقَالُوا : لَيْسَ مِنْ الْإِيمَانِ فِعْلُ الْأَعْمَالِ الْوَاجِبَةِ وَلَا تَرْكُ الْمَحْظُورَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْإِيمَانُ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ ؛ بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ : مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُقَرَّبِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَالظَّالِمِينَ . ثُمَّ قَالَ فُقَهَاءُ الْمُرْجِئَةِ : هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَقَالَ أَكْثَرُ مُتَكَلِّمِيهِمْ : هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : التَّصْدِيقُ بِاللِّسَانِ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَتْ فِيهِ الْوَاجِبَاتُ الْعَمَلِيَّةُ لَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا كَمَا قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَنُكْتَةُ هَؤُلَاءِ جَمِيعِهِمْ تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ مَنْ تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ فَقَدْ تَرَكَهُ كُلَّهُ . وَأَمَّا " أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " مِنْ الصَّحَابَةِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَجَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِثْلِ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ
وَغَيْرِهِمْ ، وَمُحَقِّقِي أَهْلِ الْكَلَامِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ . هَذَا لَفْظُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْنِي بِالْإِيمَانِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَا يُغَايِرُ الْعَمَلَ ؛ لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كُلَّهَا تَدْخُلُ أَيْضًا فِي مُسَمَّى الدِّينِ وَالْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَفِي الْعَمَلِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ لِمَذْهَبِهِمْ : إنَّ لَهُ أُصُولًا وَفُرُوعًا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْكَانٍ وَوَاجِبَاتٍ - لَيْسَتْ بِأَرْكَانِ - وَمُسْتَحِبَّاتٍ ؛ بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْحَجِّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُشْرَعُ فِيهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ مِثْلِ الْإِحْرَامِ وَتَرْكِ مَحْظُورَاتِهِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى وَالطَّوَافِ بِبَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَبَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الْمُكْتَنِفَيْنِ بِهِ وَهُمَا الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ . ثُمَّ الْحَجُّ مَعَ هَذَا مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْكَانٍ مَتَى تُرِكَتْ لَمْ يَصِحَّ الْحَجُّ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ . وَعَلَى تَرْكِ مَحْظُورٍ مَتَى فَعَلَهُ فَسَدَ الْحَجُّ وَهُوَ الْوَطْءُ وَمُشْتَمِلٌ عَلَى وَاجِبَاتٍ : مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا وَيَجِبُ مَعَ تَرْكِهَا - لِعُذْرِ أَوْ غَيْرِهِ - الْجُبْرَانُ بِدَمِ كَالْإِحْرَامِ مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ وَكَرَمْيِ الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَتَرْكِ اللِّبَاسِ الْمُعْتَادِ وَالتَّطَيُّبِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمُشْتَمِلٌ عَلَى مُسْتَحِبَّاتٍ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ يَكْمُلُ الْحَجُّ بِهَا ؛ فَلَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا وَلَا يَجِبُ دَمٌ مِثْلُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ وَسَوْقِ الْهَدْيِ وَذِكْرِ اللَّهِ ،
وَدُعَائِهِ فِي الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَغَيْرِهِمَا . وَقِلَّةِ الْكَلَامِ إلَّا فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ فَقَدْ أَتَمَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهُوَ مُقْتَصِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْعَمَلِ . لَكِنْ مَنْ أَتَى بِالْمُسْتَحَبِّ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَأَتَمُّ مِنْهُ حَجًّا وَهُوَ سَابِقٌ مُقَرَّبٌ وَمَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ وَفَعَلَ الْمَحْظُورَ لَكِنَّهُ أَتَى بِرُكْنِهِ وَتَرَكَ مُفْسِدَهُ فَهُوَ حَاجٌّ حَجًّا نَاقِصًا يُثَابُ عَلَى مَا فِعْلِهِ مِنْ الْحَجِّ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ أَصْلُ الْفَرْضِ بِذَلِكَ مَعَ عُقُوبَتِهِ عَلَى مَا تَرَكَهُ وَمَنْ أَخَلَّ بِرُكْنِ الْحَجِّ أَوْ فِعْلِ مُفْسِدٍ فَحَجُّهُ فَاسِدٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضٌ ؛ بَلْ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَتَنَازَعُ فِي إثَابَتِهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْفَرْضُ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ . فَصَارَ " الْحَجُّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ " كَامِلًا بالمستحبات وَتَامًّا بِالْوَاجِبَاتِ فَقَطْ وَنَاقِصًا عَنْ الْوَاجِبِ . وَالْفُقَهَاءُ يُقَسِّمُونَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ إلَى كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ ؛ لَكِنْ يُرِيدُونَ بِالْكَامِلِ مَا أَتَى بِمَفْرُوضِهِ وَمَسْنُونِهِ وَبِالْمُجْزِئِ مَا اقْتَصَرَ عَلَى وَاجِبِهِ . فَهَذَا فِي " الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ " . وَكَذَلِكَ فِي " الْأَعْيَانِ الْمَشْهُودَةِ " فَإِنَّ الشَّجَرَةَ مَثَلًا اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْجِذْعِ وَالْوَرَقِ وَالْأَغْصَانِ وَهِيَ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَرَقِ
شَجَرَةٌ وَبَعْدَ ذَهَابِ الْأَغْصَانِ شَجَرَةٌ ؛ لَكِنْ كَامِلَةٌ وَنَاقِصَةٌ فَلْيُفْعَلْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالدِّينِ أَنَّ " الْإِيمَانَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ " : إيمَانُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ . وَهُوَ مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ والمستحبات : مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ . وَإِيمَانُ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ . وَهُوَ مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ . وَإِيمَانُ الظَّالِمِينَ . وَهُوَ مَا يَتْرُكُ فِيهِ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ يَفْعَلُ فِيهِ بَعْضَ الْمَحْظُورَاتِ . وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي وَصْفِهِمْ " اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " : إنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ إشَارَةً إلَى بِدْعَةِ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرَةِ بِمُطْلَقِ الذُّنُوبِ فَأَمَّا أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ تَصْدِيقًا بِهِ وَانْقِيَادًا لَهُ ؛ فَهَذَا أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ ؛ وَلِهَذَا تَوَاتَرَ فِي الْأَحَادِيثِ " { أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } { مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمَانٍ } . وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ أَيْضًا " { مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَيْرٍ } " " { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - أَوْ بِضْعَةٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً - أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } " فَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَالتَّجْزِئَةَ وَأَنَّ قَلِيلَهُ يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا لَيْسَ هُوَ كَمَا يَقُولُهُ الْخَارِجُونَ عَنْ مَقَالَةِ أَهْلِ
السُّنَّةِ : إنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَالتَّجْزِئَةَ ؛ بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ : إمَّا أَنْ يَحْصُلَ كُلُّهُ أَوْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ شَيْءٌ . وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهِ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْكِتَابِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ فَيَتَنَوَّعُ مُسَمَّاهَا قَدْرًا وَوَصْفًا بِتَنَوُّعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ ؛ فَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين وَجَمِيعِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ : مِثْلُ الْإِقْرَارِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالصِّدْقِ وَالْعَدْلِ . وَاعْلَمْ أَنَّ عَامَّةَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ بِمَكَّةَ هِيَ فِي هَذَا الْإِيمَانِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ جَمِيعِهِمْ وَالْمُؤْمِنِينَ جَمِيعِهِمْ . وَهَذَا الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ فِي بَعْضِ الْمِلَلِ أَعْظَمُ قَدْرًا وَوَصْفًا فَإِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَوَصْفِ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ سَائِر الْأَنْبِيَاءِ . وَمِنْهُ مَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ وَالْمَنَاهِجُ كَالْقِبْلَةِ وَالْمَنْسَكِ وَمَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ وَأَوْقَاتِهَا وَصِفَاتِهَا وَالسُّنَنِ وَالْأَحْكَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالدِّينِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ هُوَ مُسَمَّاهُ فِي آخِرِ زَمَانِ النُّبُوَّةِ ؛ بَلْ مُسَمَّاهُ فِي الْآخِرِ أَكْمَلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وَقَالَ فِي السُّورَةِ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد كَانَ بَدْءُ الْإِيمَانِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ نَاقِصًا فَجَعَلَ يَتِمُّ وَهَكَذَا
مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالدِّينِ قَدْ شُرِعَ فِي حَقِّ الْأَشْخَاصِ بِحَسَبِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ كُلًّا مِنْهُمْ وَبِحَسَبِ مَا فَعَلَهُ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين ؛ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَرِكِينَ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ . مَعَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْإِقْرَارُ بِمَا لَا يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِقْرَارُ بِهِ ؛ مِثْلُ إقْرَارِهِمْ بِوَاجِبَاتِ التَّوْرَاةِ وبمحرماتها مِثْلِ السَّبْتِ وَشَحْمِ الثَّرْبِ وَالْكُلْيَتَيْنِ . وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ التَّصْدِيقُ الْمُفَصَّلُ بِمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَصِفَاتِ الْيَوْمِ الْآخِرِ . وَنَحْنُ يَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ وَيَجِبُ عَلَيْنَا مِنْ الْإِقْرَارِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَحَجِّ الْبَيْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ فِي إيمَانِنَا وَلَيْسَ دَاخِلًا فِي إيمَانِهِمْ ؛ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ . وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِأَعْيَانِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ الْإِقْرَارُ بِأَعْيَانِهِمْ دَاخِلًا فِي إيمَانِ مَنْ قَبْلَنَا وَنَحْنُ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي إيمَانِنَا الْإِقْرَارُ بِهِمْ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ . وَالْمُنَازِعُونَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ مُبْقًى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي اللُّغَةِ ؛ وَهُوَ التَّصْدِيقُ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ
مَنْقُولٌ إلَى مَعْنًى آخَرَ . وَهُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ . وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ : هُوَ مَنْقُولٌ كَالْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ : مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ . وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ : بَلْ هُوَ مَتْرُوكٌ عَلَى مَا كَانَ وَزَادَتْ عَلَيْهِ الشَّرِيعَةُ أَشْيَاءَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ مَعَ دُخُولِ الْأَعْمَالِ فِيهِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ دَاخِلَةٌ فِي التَّصْدِيقِ فَالْمُؤْمِنُ يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِعَمَلِهِ كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي ؛ وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } " . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَيْسَ الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقَ ؛ بَلْ هُوَ الْإِقْرَارُ وَهُوَ فِي الشَّرْعِ الْإِقْرَارُ أَيْضًا وَالْإِقْرَارُ يَتَنَاوَلُ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلِكَ فَقَدْ بَسَطْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِذَا عُرِفَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ فَعِنْدَ ذِكْرِ اسْتِحْقَاقِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنْ النَّارِ وَذَمَّ مَنْ تَرَكَ بَعْضَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ - يُرَادُ بِهِ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَوْلِهِ { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } الْآيَةَ . وَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } . وَقَوْلِهِ فِي الْجَنَّةِ : { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } " فَنُفِيَ عَنْهُ الْإِيمَانُ الْوَاجِبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْجَنَّةَ وَلَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ نَفْيَ أَصْلِ الْإِيمَانِ وَسَائِر أَجْزَائِهِ وَشُعَبِهِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ : نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ لَا حَقِيقَتُهُ أَيْ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ لَيْسَ هُوَ الْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ : الْغُسْلُ كَامِلٌ وَمُجْزِئٌ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } " لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كَافِرٌ . كَمَا تَأَوَّلَتْهُ الْخَوَارِجُ وَلَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ خِيَارِنَا . كَمَا تَأَوَّلَتْهُ الْمُرْجِئَةُ ؛ وَلَكِنْ الْمُضْمَرُ يُطَابِقُ الْمَظْهَرَ وَالْمَظْهَرُ هُوَ الْمُؤْمِنُونَ الْمُسْتَحِقُّونَ لِلثَّوَابِ السَّالِمُونَ مِنْ الْعَذَابِ وَالْغَاشُّ لَيْسَ مِنَّا لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِسُخْطِ اللَّهِ وَعَذَابِهِ . وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَمَنْ تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ لِعَجْزِهِ عَنْهُ إمَّا لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ : مِثْلُ أَنْ لَا تَبْلُغَهُ الرِّسَالَةُ أَوْ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ
وَالدِّينِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الدِّينِ وَالْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فِي الْأَصْلِ ؛ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ وَالْخَائِفِ وَالْمُسْتَحَاضَةِ وَسَائِر أَهْلِ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ يَعْجِزُونَ عَنْ إتْمَامِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ صَلَاتَهُمْ صَحِيحَةٌ بِحَسَبِ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ وَبِهِ أُمِرُوا إذْ ذَاكَ وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْقَادِرِ عَلَى الْإِتْمَامِ أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ } " رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثٍ حَسَنِ السِّيَاقِ . وَقَوْلُهُ : " { صَلَاةُ الْقَاعِدِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ وَصَلَاةُ النَّائِمِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَاعِدِ } " وَلَوْ أَمْكَنَهُ الْعِلْمُ بِهِ دُونَ الْعَمَلِ لَوَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ عِلْمًا وَاعْتِقَادًا دُونَ الْعَمَلِ .
فَصْلٌ :
فَهَذَا أَصْلٌ مُخْتَصَرٌ فِي " مَسْأَلَةِ الْأَسْمَاءِ " وَأَمَّا " مَسْأَلَةُ الْأَحْكَامِ " وَحُكْمُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَة فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِر أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . أَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ ؛ بَلْ يَخْرُجُ مِنْهَا مَنْ مَعَهُ مِثْقَالُ حَبَّةٍ أَوْ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ . وَأَمَّا " الْخَوَارِجُ " وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُعْتَزِلَة فَيُوجِبُونَ خُلُودَ مَنْ
دَخَلَ النَّارَ وَعِنْدَهُمْ مَنْ دَخَلَهَا خُلِّدَ فِيهَا وَلَا يَجْتَمِعُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ الْعَذَابُ وَالثَّوَابُ وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسَائِر مَنْ اتَّبَعَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِي حَقِّ خَلْقٍ كَثِيرٍ . كَمَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَ " أَيْضًا " : فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يُوجِبُونَ الْعَذَابَ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً وَلَا يَشْهَدُونَ لِمُسْلِمِ بِعَيْنِهِ بِالنَّارِ لِأَجْلِ كَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عَمِلَهَا ؛ بَلْ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ يُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِلَا عَذَابٍ إمَّا لِحَسَنَاتِ تَمْحُو كَبِيرَتَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ؛ وَإِمَّا لِمَصَائِبَ كَفَّرَتْهَا عَنْهُ وَإِمَّا لِدُعَاءِ مُسْتَجَابٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فِيهِ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ . وَ " الوعيدية " مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ : يُوجِبُونَ الْعَذَابَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكَبَائِرِ ؛ لِشُمُولِ نُصُوصِ الْوَعِيدِ لَهُمْ . مِثْلُ قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } وَتَجْعَلُ الْمُعْتَزِلَةُ إنْفَاذَ الْوَعِيدِ أَحَدَ " الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ " الَّتِي يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهَا وَيُخَالِفُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي وُجُوبِ نُفُوذِ الْوَعِيدِ فِيهِمْ وَفِي تَخْلِيدِهِمْ ؛ وَلِهَذَا مَنَعَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ أَنْ يَكُونَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَفَاعَةٌ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ - فِي إخْرَاجِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ النَّارِ . وَهَذَا مَرْدُودٌ بِمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ السُّنَنِ فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي } وَأَحَادِيثُهُ فِي إخْرَاجِهِ مِنْ النَّارِ مَنْ قَدْ دَخَلَهَا . وَلَيْسَ الْغَرَضُ هُنَا تَحْرِيرَ هَذِهِ الْأُصُولِ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا وَكَانَ مَا أَوْقَعَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ سَمِعُوا نُصُوصَ الْوَعِيدِ فَرَأَوْهَا عَامَّةً فَقَالُوا : يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا كُلُّ مَنْ شَمَلَتْهُ وَهُوَ خَبَرٌ وَخَبَرُ اللَّهِ صِدْقٌ فَلَوْ أَخْلَفَ وَعِيدَهُ كَانَ كَإِخْلَافِ وَعْدِهِ وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ فَعَارَضَهُمْ غَالِيَةُ الْمُرْجِئَةِ بِنُصُوصِ الْوَعْدِ فَإِنَّهَا قَدْ تَتَنَاوَلُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَعَادَ كُلُّ فَرِيقٍ إلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ . فَقَالَ الْأَوَّلُونَ : نُصُوصُ الْوَعْدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا مُؤْمِنًا وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا مُؤْمِنِينَ . وَقَالَ الْآخَرُونَ : نُصُوصُ الْوَعِيدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا كَافِرًا وَكُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ . فَإِنَّ النُّصُوصَ - مِثْلَ قَوْلِهِ . { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْكُفْرُ ؛ بَلْ هِيَ فِي حَقِّ الْمُتَدَيِّنِ بِالْإِسْلَامِ . وَقَوْلِهِ : " { مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } " لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ " { وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ } " . فَهُنَا اضْطَرَبَ النَّاسُ فَأَنْكَرَ قَوْمٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ الْعُمُومَ وَقَالُوا : لَيْسَ فِي اللُّغَةِ عُمُومٌ وَهُمْ الواقفية فِي الْعُمُومِ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَبَعْضِ
الْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعِيَّةِ وَإِنَّمَا الْتَزَمُوا ذَلِكَ لِئَلَّا يَدْخُلَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ فِي نُصُوصِ الْوَعِيدِ . وَقَالَتْ الْمُقْتَصِدَةُ : بَلْ الْعُمُومُ صَحِيحٌ وَالصِّيَغُ صِيَغُ عُمُومٍ ؛ لَكِنَّ الْعَامَّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ ؛ وَهَذَا مَذْهَبُ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين إلَّا هَذِهِ الشِّرْذِمَةُ . قَالُوا : فَمَنْ عُفِيَ عَنْهُ كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْعُمُومِ . وَقَالَ قَوْمٌ آخَرُونَ : بَلْ إخْلَافُ الْوَعِيدِ لَيْسَ بِكَذِبِ وَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّ عَارًا أَوْ شَنَارًا أَنْ يُوعِدَ الرَّجُلُ شَرًّا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ كَمَا تَعِدُ عَارًا أَوْ شَنَارًا أَنْ يَعِدَ خَيْرًا ثُمَّ لَا يُنْجِزُهُ وَهَذَا قَوْلُ طَوَائِفَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين وَقَدْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُبِّئْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي وَالْعَفُوُّ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولٌ قَالُوا : فَهَذَا وَعِيدٌ خَاصٌّ وَقَدْ رَجَا فِيهِ الْعَفْوَ مُخَاطِبًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعُلِمَ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْمُتَوَعَّدِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ . وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مُشْتَمِلٌ عَلَى نُصُوصِ الْوَعْدِ
وَالْوَعِيدِ كَمَا أَنَّ ذَلِكَ مُشْتَمِلٌ عَلَى نُصُوصِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكُلٌّ مِنْ النُّصُوصِ يُفَسِّرُ الْآخَرَ وَيُبَيِّنُهُ فَكَمَا أَنَّ نُصُوصَ الْوَعْدِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْكُفْرِ الْمُحْبِطِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ ارْتَدَّ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فَكَذَلِكَ نُصُوصُ الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ التَّوْبَةِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا لِمَنْ تَابَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِي مَوَارِدِ النِّزَاعِ . فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ بِنُصُوصِ مَعْرُوفَةٍ أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ وَأَنَّ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وَأَنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إذَا دَعَاهُ وَأَنَّ مَصَائِبَ الدُّنْيَا تُكَفِّرُ الذُّنُوبَ وَأَنَّهُ يَقْبَلُ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ كَمَا بَيَّنَ أَنَّ الصَّدَقَةَ يُبْطِلُهَا الْمَنُّ وَالْأَذَى وَأَنَّ الرِّبَا يُبْطِلُ الْعَمَلَ وَأَنَّهُ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ ؛ أَيْ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَجَعَلَ لِلسَّيِّئَاتِ مَا يُوجِبُ رَفْعَ عِقَابِهَا كَمَا جَعَلَ لِلْحَسَنَاتِ مَا قَدْ يُبْطِلُ ثَوَابَهَا لَكِنْ لَيْسَ شَيْءٌ يُبْطِلُ جَمِيعَ السَّيِّئَاتِ إلَّا التَّوْبَةُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُبْطِلُ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ إلَّا الرِّدَّةُ . وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّا نَشْهَدُ بِأَنَّ { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا
إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ وَلَا نَشْهَدُ لِمُعَيَّنِ أَنَّهُ فِي النَّارِ ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ لُحُوقَ الْوَعِيدِ لَهُ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ الْوَعِيدِ بِالْمُعَيَّنِ مَشْرُوطٌ بِشُرُوطِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعَ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ثُبُوتَ الشُّرُوطِ وَانْتِفَاءَ الْمَوَانِعِ فِي حَقِّهِ وَفَائِدَةُ الْوَعِيدِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ سَبَبٌ مُقْتَضٍ لِهَذَا الْعَذَابِ وَالسَّبَبُ قَدْ يَقِفُ تَأْثِيرُهُ عَلَى وُجُودِ شَرْطِهِ وَانْتِفَاءِ مَانِعِهِ . يُبَيِّنُ هَذَا : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ الْخَمْرَ وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا } . وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُكْثِرُ شُرْبَ الْخَمْرِ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } " فَنَهَى عَنْ لَعْنِ هَذَا الْمُعَيَّنِ وَهُوَ مُدْمِنُ خَمْرٍ ؛ لِأَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَقَدْ لُعِنَ شَارِب الْخَمْرِ عَلَى الْعُمُومِ .
فَصْلٌ :
إذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتُ فِي اسْمِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ الْمِلِّي وَفِي حُكْمِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ وَمَا وَقَعَ فِي
ذَلِكَ مِنْ الِاضْطِرَابِ فَ " مَسْأَلَةُ تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ " مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ . وَنَحْنُ نَبْدَأُ بِمَذْهَبِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِيهَا قَبْلَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْحُجَّةِ فَنَقُولُ : الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة وَهُمْ الْمُعَطِّلَةُ لِصِفَاتِ الرَّحْمَنِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ صَرِيحٌ فِي مُنَاقَضَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ الْكِتَابِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ جُحُودُ الصَّانِعِ فَفِيهِ جُحُودُ الرَّبِّ وَجُحُودُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَعْنُونَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَلِهَذَا كَفَّرُوا مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا غَضَبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ . وَأَمَّا " الْمُرْجِئَةُ " : فَلَا تَخْتَلِفُ نُصُوصُهُ أَنَّهُ لَا يُكَفِّرُهُمْ ؛ فَإِنَّ بِدْعَتَهُمْ مِنْ جِنْسِ اخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فِي الْفُرُوعِ وَكَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِمْ يَعُودُ النِّزَاعُ فِيهِ إلَى نِزَاعٍ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَسْمَاءِ : وَلِهَذَا يُسَمَّى الْكَلَامُ فِي مَسَائِلِهِمْ " بَابُ الْأَسْمَاءِ " وَهَذَا مِنْ نِزَاعِ الْفُقَهَاءِ لَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ
الدِّينِ ؛ فَكَانَ الْمُنَازِعُ فِيهِ مُبْتَدِعًا . وَكَذَلِكَ " الشِّيعَةُ " الْمُفَضِّلُونَ لِعَلِيِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ لَا يَخْتَلِفُ قَوْلُهُ إنَّهُمْ لَا يُكَفَّرُونَ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا وَإِنْ كَانُوا يُبَدَّعُونَ . وَأَمَّا " الْقَدَرِيَّةُ " الْمُقِرُّونَ بِالْعِلْمِ وَ " الرَّوَافِضُ " الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ الْغَالِيَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَالْخَوَارِجُ : فَيُذْكَرُ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِهِمْ رِوَايَتَانِ هَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِ الْمُطْلَقِ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ التَّوَقُّفُ عَنْ تَكْفِيرِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُقِرِّينَ بِالْعِلْمِ وَالْخَوَارِجِ مَعَ قَوْلِهِ : مَا أَعْلَمُ قَوْمًا شَرًّا مِنْ الْخَوَارِجِ . ثُمَّ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَحْكُونَ عَنْهُ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ مُطْلَقًا رِوَايَتَيْنِ حَتَّى يَجْعَلُوا الْمُرْجِئَةَ دَاخِلِينَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَعَنْهُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَا يُكَفِّرُ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَكْفُرُ . وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ الْخِلَافَ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَا يُكَفِّرُ مُطْلَقًا وَهُوَ خَطَأٌ مَحْضٌ . وَالْجَهْمِيَّة - عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ : مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَيُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ - لَيْسُوا مِنْهُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً الَّتِي افْتَرَقَتْ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ ؛ بَلْ أُصُولُ هَذِهِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ : هُمْ الْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ وَالْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَهَذَا الْمَأْثُورُ
عَنْ أَحْمَد وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ ؛ مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ . ثُمَّ حَكَى أَبُو نَصْرٍ السجزي عَنْهُمْ فِي هَذَا قَوْلَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّهُ كُفْرٌ يَنْقُلُ عَنْ الْمِلَّةِ . قَالَ : وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ . وَ " الثَّانِي " أَنَّهُ كُفْرٌ لَا يَنْقُلُ . وَلِذَلِكَ قَالَ الخطابي : إنَّ هَذَا قَالُوهُ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ وَكَذَلِكَ تَنَازَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي تَخْلِيدِ الْمُكَفَّرِ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ فَأَطْلَقَ أَكْثَرُهُمْ عَلَيْهِ التَّخْلِيدَ كَمَا نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَقَدِّمِي عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ ؛ كَأَبِي حَاتِمٍ ؟ وَأَبِي زُرْعَةَ وَغَيْرِهِمْ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّخْلِيدِ . وَسَبَبُ هَذَا التَّنَازُعِ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَدِلَّةً تُوجِبُ إلْحَاقَ أَحْكَامِ الْكُفْرِ بِهِمْ ثُمَّ إنَّهُمْ يَرَوْنَ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّذِينَ قَالُوا تِلْكَ الْمَقَالَاتِ مَنْ قَامَ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا فَيَتَعَارَضُ عِنْدَهُمْ الدَّلِيلَانِ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي كَلَامِ الْأَئِمَّةِ مَا أَصَابَ الْأَوَّلِينَ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ كُلَّمَا رَأَوْهُمْ قَالُوا : مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ اعْتَقَدَ الْمُسْتَمِعُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ شَامِلٌ لِكُلِّ مَنْ قَالَهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا أَنَّ التَّكْفِيرَ لَهُ شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ قَدْ تَنْتَقِي فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ وَأَنَّ تَكْفِيرَ الْمُطْلَقِ لَا يَسْتَلْزِمُ تَكْفِيرَ الْمُعَيَّنِ
إلَّا إذَا وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَعَامَّةَ الْأَئِمَّةِ : الَّذِينَ أَطْلَقُوا هَذِهِ العمومات لَمْ يُكَفِّرُوا أَكْثَرَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِعَيْنِهِ . فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد - مَثَلًا - قَدْ بَاشَرَ " الْجَهْمِيَّة " الَّذِينَ دَعَوْهُ إلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَفْيِ الصِّفَاتِ وَامْتَحَنُوهُ وَسَائِر عُلَمَاءِ وَقْتِهِ وَفَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الَّذِينَ لَمْ يُوَافِقُوهُمْ عَلَى التَّجَهُّمِ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ وَالْقَتْلِ وَالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَاتِ وَقَطْعِ الْأَرْزَاقِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ وَتَرْكِ تَخْلِيصِهِمْ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِحَيْثُ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ إذْ ذَاكَ مِنْ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ : يُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ جهميا مُوَافِقًا لَهُمْ عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ مِثْلِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَيَحْكُمُونَ فِيهِ بِحُكْمِهِمْ فِي الْكَافِرِ فَلَا يُوَلُّونَهُ وِلَايَةً وَلَا يُفْتِكُونَهُ مِنْ عَدُوٍّ وَلَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَا يَقْبَلُونَ لَهُ شَهَادَةً وَلَا فُتْيَا وَلَا رِوَايَةً وَيَمْتَحِنُونَ النَّاسَ عِنْدَ الْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالِافْتِكَاكِ مِنْ الْأَسْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَمَنْ أَقَرَّ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ حَكَمُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لَمْ يَحْكُمُوا لَهُ بِحُكْمِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَمَنْ كَانَ دَاعِيًا إلَى غَيْرِ التَّجَهُّمِ قَتَلُوهُ أَوْ ضَرَبُوهُ وَحَبَسُوهُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا مِنْ أَغْلَظِ التَّجَهُّمِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ إلَى الْمَقَالَةِ أَعْظَمُ مِنْ
قَوْلِهَا وَإِثَابَةُ قَائِلِهَا وَعُقُوبَةَ تَارِكِهَا أَعْظَمُ مِنْ مُجَرَّدِ الدُّعَاءِ إلَيْهَا وَالْعُقُوبَةُ بِالْقَتْلِ لِقَائِلِهَا أَعْظَمُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِالضَّرْبِ . ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد دَعَا لِلْخَلِيفَةِ وَغَيْرِهِ . مِمَّنْ ضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وحللهم مِمَّا فَعَلُوهُ بِهِ مِنْ الظُّلْمِ وَالدُّعَاءِ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ كُفْرٌ وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ ؛ فَإِنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَفَّارِ لَا يَجُوزُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوا الْمُعَيَّنِينَ مِنْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ أَحْمَد مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَفَّرَ بِهِ قَوْمًا مُعَيَّنِينَ فَأَمَّا أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَفِيهِ نَظَرٌ أَوْ يُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى التَّفْصِيلِ . فَيُقَالُ : مَنْ كَفَّرَهُ بِعَيْنِهِ ؛ فَلِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَتْ فِيهِ شُرُوطُ التَّكْفِيرِ وَانْتَفَتْ مَوَانِعُهُ وَمَنْ لَمْ يُكَفِّرْهُ بِعَيْنِهِ ؛ فَلِانْتِفَاءِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ هَذِهِ مَعَ إطْلَاقِ قَوْلِهِ بِالتَّكْفِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْعُمُومِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالِاعْتِبَارُ . أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } وقَوْله تَعَالَى { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : قَدْ فَعَلْت لَمَّا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهَذَا الدُّعَاءِ } . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " { أُعْطِيت فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَخَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ } " وَ " { أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِحَرْفِ مِنْهَا إلَّا أُعْطِيَهُ } " . وَإِذَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ الْمُفَسَّرِ بِالسُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ فَهَذَا عَامٌّ عُمُومًا مَحْفُوظًا وَلَيْسَ فِي الدَّلَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُوجِبُ أَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مُخْطِئًا عَلَى خَطَئِهِ وَإِنْ عَذَّبَ الْمُخْطِئَ . مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ . وَ " أَيْضًا " قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَقَالَ لِأَهْلِهِ : إذَا مَاتَ فَأَحْرِقُوهُ ثُمَّ اُذْرُوَا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا بِهِ كَمَا أَمَرَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ . ثُمَّ قَالَ : لِمَ فَعَلْت هَذَا ؟ قَالَ مِنْ خَشْيَتِك يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ ؛ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ } " .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُتَوَاتِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْأَسَانِيدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ وَحُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِمْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ يَعْلَمُ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّهَا تُفِيدُهُمْ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْرَكهُمْ فِي أَسْبَابِ الْعِلْمِ . فَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ قَدْ وَقَعَ لَهُ الشَّكُّ وَالْجَهْلُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ؛ بَعْدَ مَا أُحْرِقَ وَذُرِيَ وَعَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الْمَيِّتَ وَيَحْشُرُهُ إذَا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ وَهَذَانِ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ : " أَحَدُهُمَا " مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَ " الثَّانِي " مُتَعَلِّقٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا الْمَيِّتَ وَيَجْزِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ وَمُؤْمِنًا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ وَيُعَاقِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا - وَهُوَ خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذُنُوبِهِ - غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . وَأَيْضًا : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ دِينَارٍ مِنْ إيمَانٍ } "
وَفِي رِوَايَةٍ : { مِثْقَالُ دِينَارٍ مَنْ خَيْرٍ ثُمَّ يُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ } " وَفِي رِوَايَةٍ " مَنْ خَيْرٍ " " { وَيُخْرِجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ أَوْ خَيْرٍ } " وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ النُّصُوصِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَأَنَّ الْإِيمَانَ مِمَّا يَتَبَعَّضُ وَيَتَجَزَّأُ . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْطِئِينَ مَعَهُمْ مِقْدَارٌ مَا مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ إذْ الْكَلَامُ فِيمَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّلَفَ أَخْطَأَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَاتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ مِثْلُ مَا أَنْكَرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ يَسْمَعُ نِدَاءَ الْحَيِّ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الْمِعْرَاجُ يَقَظَةً وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ رُؤْيَةَ مُحَمَّدٍ رَبَّهُ وَلِبَعْضِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ وَالتَّفْضِيلِ كَلَامٌ مَعْرُوفٌ وَكَذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ فِي قِتَالِ بَعْضٍ وَلَعْنِ بَعْضٍ وَإِطْلَاقِ تَكْفِيرِ بَعْضِ أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ . وَكَانَ الْقَاضِي شريح يُنْكِرُ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ : { بَلْ عَجِبْتَ } وَيَقُولُ : إنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقَالَ : إنَّمَا شريح شَاعِر يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ . كَانَ عَبْد اللَّه أُفُقه مِنْهُ فَكَانَ يَقُولُ : { بَلْ عَجِبْتَ } فَهَذَا قَدْ أَنْكَرَ قِرَاءَةً ثَابِتَةً وَأَنْكَرَ صِفَةً دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ إمَامٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ بَعْضُ السَّلَفِ أَنْكَرَ
بَعْضُهُمْ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مِثْلَ إنْكَارِ بَعْضِهِمْ قَوْلَهُ : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا } وَقَالَ : إنَّمَا هِيَ : أو لَمْ يَتَبَيَّنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَإِنْكَارِ الْآخَرِ قِرَاءَةَ قَوْلِهِ : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ } وَقَالَ : إنَّمَا هِيَ : وَوَصَّى رَبُّك . وَبَعْضُهُمْ كَانَ حَذَفَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَآخَرُ يَكْتُبُ سُورَةَ الْقُنُوتِ . وَهَذَا خَطَأٌ مَعْلُومٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَدْ تَوَاتَرَ النَّقْلُ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يُكَفَّرُوا وَإِنْ كَانَ يَكْفُرُ بِذَلِكَ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا إلَّا بَعْدَ إبْلَاغِ الرِّسَالَةِ فَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ جُمْلَةً لَمْ يُعَذِّبْهُ رَأْسًا وَمَنْ بَلَغَتْهُ جُمْلَةً دُونَ بَعْضِ التَّفْصِيلِ لَمْ يُعَذِّبْهُ إلَّا عَلَى إنْكَارِ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية . وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَوْلِهِ : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } الْآيَةَ . وَقَوْلِهِ : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ } وَقَوْلِهِ : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ } الْآيَةَ . وَقَوْلِهِ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } وَقَوْلِهِ : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ
خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ } وَقَوْلِهِ : { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } وَقَوْلِهِ " { وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } وَنَحْوُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ . فَمَنْ كَانَ قَدْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ تَفْصِيلًا ؛ إمَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ . أَوْ سَمِعَهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا أَوْ اعْتَقَدَ مَعْنًى آخَرَ لِنَوْعِ مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ . فَهَذَا قَدْ جُعِلَ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مَا يُوجِبُ أَنْ يُثِيبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَلَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ مُخَالِفُهَا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ مِنْ الْخَطَأِ فِي الدِّينِ مَا لَا يَكْفُرُ مُخَالِفُهُ ؛ بَلْ وَلَا يَفْسُقُ ؛ بَلْ وَلَا يَأْثَمُ ؛ مِثْلُ الْخَطَأِ فِي الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ ؛ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُخْطِئَ فِيهَا آثِمٌ وَبَعْضُ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ يَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ فَهَذَانِ الْقَوْلَانِ شَاذَّانِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَكْفِيرِ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَبَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَدْ ثَبَتَ خَطَأُ الْمُنَازِعِ
فِيهَا بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ مِثْلُ اسْتِحْلَالِ بَعْضِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الرِّبَا وَاسْتِحْلَالِ آخَرِينَ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْخَمْرِ وَاسْتِحْلَالِ آخَرِينَ لِلْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ . وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفِينَ بِالْخَيْرِ كَالصَّحَابَةِ الْمَعْرُوفِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَا يُفَسَّقُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُكَفَّرَ حَتَّى عَدَّى ذَلِكَ مَنْ عَدَّاهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى سَائِر أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنَّهُمْ مَعَ إيجَابِهِمْ لِقِتَالِهِمْ مَنَعُوا أَنْ يُحْكَمَ بِفِسْقِهِمْ لِأَجْلِ التَّأْوِيلِ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ : إنَّ شَارِبَ النَّبِيذِ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مُتَأَوِّلًا لَا يُجْلَدُ وَلَا يَفْسُقُ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } . وَثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ العاص وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } " . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ بريدة بْنِ الحصيب أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إذَا حَاصَرْت أَهْلَ حِصْنٍ فَسَأَلُوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِك وَحُكْمِ أَصْحَابِك فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ } "
وَأَدِلَّةُ هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ لَهَا مَوْضِعٌ آخَرُ . وَقَدْ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَنَّ مَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُؤْمِنُ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ الِاعْتِذَارُ بِالِاجْتِهَادِ لِظُهُورِ أَدِلَّةِ الرِّسَالَةِ وَأَعْلَامِ النُّبُوَّةِ ؛ وَلِأَنَّ الْعُذْرَ بِالْخَطَأِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَكَمَا أَنَّ الذُّنُوبَ تَنْقَسِمُ إلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ وَالْوَاجِبَاتُ تَنْقَسِمُ إلَى أَرْكَانٍ وَوَاجِبَاتٍ لَيْسَتْ أَرْكَانًا : فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ يَنْقَسِمُ إلَى مَغْفُورٍ وَغَيْرِ مَغْفُورٍ وَالنُّصُوصُ إنَّمَا أَوْجَبَتْ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْخَطَأِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُخْطِئُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ : إمَّا أَنْ يَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ مُبَايَنَتِهِ لَهُمْ فِي عَامَّةِ أُصُولِ الْإِيمَانِ . وَإِمَّا أَنْ يَلْحَقَ بِالْمُخْطِئِينَ فِي مَسَائِلِ الْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ مَعَ أَنَّهَا أَيْضًا مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ . فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ؛ : هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَالْجَاحِدُ لَهَا كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي بَعْضِهَا لَيْسَ بِكَافِرِ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ خَطَئِهِ . وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهِ بِأَحَدِ الصِّنْفَيْنِ : فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُخْطِئِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ أَشَدُّ شَبَهًا مِنْهُ بِالْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ
فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ وَعَلَى هَذَا مَضَى عَمَلُ الْأُمَّةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي أَنَّ عَامَّةَ الْمُخْطِئِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى غَيْرِهِمْ هَذَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ مُنَافِقُونَ النِّفَاقَ الْأَكْبَرَ وَأُولَئِكَ كُفَّارٌ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ فَمَا أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ فِي الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَنَحْوِهِمْ زَنَادِقَةٌ مُنَافِقُونَ بَلْ أَصْلُ هَذِهِ الْبِدَعِ هُوَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ الزَّنَادِقَةِ مِمَّنْ يَكُونُ أَصْلُ زَنْدَقَتِهِ عَنْ الصَّابِئِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَهَؤُلَاءِ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ عُلِمَ حَالُهُ فَهُوَ كَافِرٌ فِي الظَّاهِرِ أَيْضًا . وَأَصْلُ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَاضُ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ وَابْتِغَاءِ الْهُدَى فِي خِلَافِ ذَلِكَ فَمَنْ كَانَ هَذَا أَصْلَهُ فَهُوَ بَعْدَ بَلَاغِ الرِّسَالَةِ كَافِرٌ لَا رَيْبَ فِيهِ مِثْلُ مَنْ يَرَى أَنَّ الرِّسَالَةَ لِلْعَامَّةِ دُونَ الْخَاصَّةِ كَمَا يَقُولُهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَغَالِيَةِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ أَوْ يَرَى أَنَّهُ رَسُولٌ إلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . فَهَذَا الْكَلَامُ يُمَهِّدُ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ : " أَحَدُهُمَا " أَنَّ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ وَالْهُدَى فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَأَنَّ خِلَافَ ذَلِكَ كُفْرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَنَفْيُ الصِّفَاتِ كُفْرٌ وَالتَّكْذِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُهُ أَوْ
أَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى أَوْ أَنَّهُ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا كُفْرٌ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ . وَ " الْأَصْلُ الثَّانِي " أَنَّ التَّكْفِيرَ الْعَامَّ - كَالْوَعِيدِ الْعَامِّ - يَجِبُ الْقَوْلُ بِإِطْلَاقِهِ وَعُمُومِهِ . وَأَمَّا الْحُكْمُ عَلَى الْمُعَيَّنِ بِأَنَّهُ كَافِرٌ أَوْ مَشْهُودٌ لَهُ بِالنَّارِ : فَهَذَا يَقِفُ عَلَى الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَقِفُ عَلَى ثُبُوتِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ تَأْمُرُنَا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى شَخْصٍ فِي الدُّنْيَا ؛ إمَّا بِقَتْلِ أَوْ جَلْدٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ غَيْرَ مُعَذَّبٍ مِثْلُ قِتَالِ الْبُغَاةِ والمتأولين مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى الْعَدَالَةِ وَمِثْلُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَوْبَةً صَحِيحَةً فَإِنَّا نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ كَمَا أَقَامَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ وَعَلَى الغامدية مَعَ قَوْلِهِ : { لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ } " وَمِثْلُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ مُتَأَوِّلًا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى الْعَدَالَةِ . بِخِلَافِ مَنْ لَا تَأْوِيلَ لَهُ فَإِنَّهُ لَمَّا شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ
وَاعْتَقَدُوا أَنَّهَا تَحِلُّ لِلْخَاصَّةِ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا } اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ مِثْلُ عُمَرِ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمَا عَلَى أَنَّهُمْ إنْ أَقَرُّوا بِالتَّحْرِيمِ جُلِدُوا وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى الِاسْتِحْلَالِ قُتِلُوا . وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّ خَلْقًا لَا يُعَاقَبُونَ فِي الدُّنْيَا مَعَ أَنَّهُمْ كُفَّارٌ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْمُقِرِّينَ بِالْجِزْيَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ . وَمِثْلُ الْمُنَافِقِينَ الْمُظْهِرِينَ الْإِسْلَامَ فَإِنَّهُمْ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَافِرُونَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } الْآيَةَ . وَقَوْلِهِ : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } الْآيَةَ . وَهَذَا لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ . وَأَمَّا الدُّنْيَا فَإِنَّمَا يُشْرَعُ فِيهَا مِنْ الْعِقَابِ مَا يُدْفَعُ
بِهِ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ هُوَ إقَامَةُ الْقِسْطِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } . وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَعُقُوبَةُ الدُّنْيَا غَيْرُ مُسْتَلْزَمَةٍ لِعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ وَلَا بِالْعَكْسِ . وَلِهَذَا أَكْثَرُ السَّلَفِ يَأْمُرُونَ بِقَتْلِ الدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ الَّذِي يُضِلُّ النَّاسَ لِأَجْلِ إفْسَادِهِ فِي الدِّينِ سَوَاءً قَالُوا : هُوَ كَافِرٌ أَوْ لَيْسَ بِكَافِرِ . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَتَكْفِيرُ " الْمُعَيَّنِ " مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ وَأَمْثَالِهِمْ - بِحَيْثُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْكُفَّارِ - لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَقُومَ عَلَى أَحَدِهِمْ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ لَا رَيْبَ أَنَّهَا كُفْرٌ . وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي تَكْفِيرِ جَمِيعِ " الْمُعَيَّنِينَ " مَعَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ
الْبِدْعَةِ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَيْسَ فِي بَعْضٍ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ . وَمَنْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ . وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا . وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَسَائِر إخْوَانِنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فِي رَجُلٍ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَإِنَّمَا خَلَقَ الْكَلَامَ وَالصَّوْتَ فِي الشَّجَرَةِ وَمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ مِنْ الشَّجَرَةِ لَا مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُكَلِّمْ جِبْرِيلَ بِالْقُرْآنِ وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ . فَهَلْ هُوَ عَلَى الصَّوَابِ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لَيْسَ هَذَا عَلَى الصَّوَابِ ؛ بَلْ هَذَا ضَالٌّ مُفْتَرٍ كَاذِبٌ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ بَلْ هُوَ كَافِرٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَإِذَا قَالَ : لَا أُكَذِّبُ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ - وَهُوَ قَوْلُهُ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } - بَلْ أَقَرَّ بِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ حَقٌّ لَكِنْ أَنْفِي مَعْنَاهُ وَحَقِيقَتَهُ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً . وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ يُقَالُ لَهُ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ
فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمَ أَضْحَى ؛ فَإِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ : ضَحُّوا أَيُّهَا النَّاسُ تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا . ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ فَشَكَرُوا ذَلِكَ وَأَخَذَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْهُ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَقَتَلَهُ بِخُرَاسَانَ سَلَمَةُ بْنُ أَحْوَزَ وَإِلَيْهِ نُسِبَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي تُسَمَّى " مَقَالَةَ الْجَهْمِيَّة " وَهِيَ نَفْيُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُ عِبَادَهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَمٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ . وَوَافَقَ الْجَهْمَ عَلَى ذَلِكَ " الْمُعْتَزِلَةُ " أَصْحَابُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَضَمُّوا إلَيْهَا بِدَعًا أُخْرَى فِي الْقَدَرِ وَغَيْرِهِ ؛ لَكِنْ الْمُعْتَزِلَةُ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى حَقِيقَةً وَتَكَلَّمَ حَقِيقَةً ؛ لَكِنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ إمَّا فِي شَجَرَةٍ وَإِمَّا فِي هَوَاءٍ وَأَمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ كَلَامٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ . وَالْجَهْمِيَّة تَارَةً يَبُوحُونَ بِحَقِيقَةِ الْقَوْلِ فَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَلَا يَتَكَلَّمُ . وَتَارَةً لَا يُظْهِرُونَ هَذَا اللَّفْظَ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيُقِرُّونَ بِاللَّفْظِ
وَلَكِنْ يُقْرِنُونَهُ بِأَنَّهُ خَلَقَ فِي غَيْرِهِ كَلَامًا . وَأَئِمَّةُ الدِّينِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَنُصُوصُ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ حَتَّى أَنَّ أَبَا الْقَاسِمِ الطبري الْحَافِظَ لَمَّا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ فِي " شَرْحِ أُصُولِ السُّنَّةِ " مَقَالَاتِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ : ذَكَرَ مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَقَالَ : فَهَؤُلَاءِ خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا أَوْ أَكْثَرُ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ سِوَى الصَّحَابَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْإِعْصَارِ وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ وَفِيهِمْ نَحْوٌ مَنْ مِائَةِ إمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ وَتَدَيَّنُوا بِمَذَاهِبِهِمْ . وَلَوْ اشْتَغَلْت بِنَقْلِ قَوْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَبَلَغَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا : لَكِنِّي اخْتَصَرْت فَنَقَلْت عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ أَوْ أَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ صَلْبِهِ قَالَ : وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ جَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي سِنِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثُمَّ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ فَأَمَّا جَعْدٌ فَقَتَلَة خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ . وَأَمَّا جَهْمٌ فَقُتِلَ بِمُرْوٍ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ .
وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ يَوْمَ صفين : حَكَّمْت رَجُلَيْنِ ؟ فَقَالَ : مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي لَحْدِهِ قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ : اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لَهُ فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ : مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ . وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة قَالَ : سَمِعْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ : أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا وَالنَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَفِي لَفْظٍ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالَ حَرْبٌ الكرماني ثنا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي ابْنَ رَاهَوَيْه عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ : أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً أَدْرَكْت أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ دُونَهُمْ يَقُولُونَ : اللَّهُ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ إلَّا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة إسْحَاقُ وَإِسْحَاقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ - وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ - أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْقُرْآنِ أَخَالِقٌ هُوَ أَمْ مَخْلُوقٌ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ بِخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ . وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَيُّوبَ السختياني وَسُلَيْمَانَ
التيمي وَخَلْقٍ مِنْ التَّابِعِينَ . وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ بَلْ اشْتَهَرَ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ تَكْفِيرُ مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَأَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ ؟ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِحَفْصِ الْفَرْدِ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو مِمَّنْ يَقُولُ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَلَمَّا نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ وَقَالَ لَهُ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ قَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ - كَفَرْت بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ : ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة قَالَ : كَانَ فِي كِتَابِي عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ : حَضَرْت الشَّافِعِيَّ أَوْ حَدَّثَنِي أَبُو شُعَيْبٍ إلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ حَضَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَيُوسُفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ فَسَأَلَ حَفْصٌ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ : مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهُ فَسَأَلَ يُوسُفَ بْنَ عَمْرٍو فَلَمْ يُجِبْهُ وَكِلَاهُمَا أَشَارَ إلَى الشَّافِعِيِّ فَسَأَلَ الشَّافِعِيَّ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ وَطَالَتْ فِيهِ الْمُنَاظَرَةُ فَقَامَ الشَّافِعِيُّ بِالْحُجَّةِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَكَفَّرَ حَفْصًا الْفَرْدَ . قَالَ الرَّبِيعُ : فَلَقِيت حَفْصًا فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ هَذَا فَقَالَ : أَرَادَ الشَّافِعِيُّ قَتْلِي . وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَنُقِلَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَاسْتِتَابَتُهُ وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِي فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي قَالَ فِي أَوَّلِهِ : " ذِكْرُ بَيَانِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ " : أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشيباني قَالَ فِيهِ : " وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا وَأَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَحْيًا وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا وَأَثْبَتُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ عَذَابَهُ وَتَوَعَّدَهُ حَيْثُ قَالَ : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ سَقَرَ لِمَنْ قَالَ : { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } عَلِمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ " . وَأَمَّا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ فَكَلَامُهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَشْهُورٌ مُتَوَاتِرٌ وَهُوَ الَّذِي اشْتَهَرَ بِمِحْنَةِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة فَإِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْقَوْلَ بِإِنْكَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَائِقِ أَسْمَائِهِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلَ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَدَعَوْا النَّاس إلَى ذَلِكَ وَعَاقَبُوا مَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ إمَّا بِالْقَتْلِ وَإِمَّا بِقِطَعِ الرِّزْقِ وَإِمَّا بِالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَةِ وَإِمَّا بِالْحَبْسِ أَوْ بِالضَّرْبِ وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ فَثَبَّتَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامَ أَحْمَد حَتَّى أَخْمَدَ اللَّهُ بِهِ بَاطِلَهُمْ وَنَصَرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهِمْ وَأَذَلَّهُمْ بَعْدَ الْعِزِّ وَأَخْمَلَهُمْ بَعْدَ الشُّهْرَةِ وَاشْتَهَرَ عِنْدَ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ وَعَوَامِّهَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ
اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ . وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى فَهَذِهِ مُنَاقَضَةٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَهَذَا بِلَا رَيْبٍ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ نَصَّ الْقُرْآنِ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَفُ فِي مَثَلِهِ وَاَلَّذِي يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ هُوَ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقٌ لَهُ فَلِذَلِكَ كَفَّرَهُ السَّلَفُ . قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " خَلْقِ الْأَفْعَالِ " قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ : وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ : مَنْ قَالَ { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقِ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَالَ وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ فِي الْأَرْضِ هَاهُنَا بَلْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا ؟ قَالَ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ . وَقَالَ : مَنْ قَالَ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنَّا نَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة . قَالَ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ : مَا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا أَكْفَرُ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي إدْرِيسَ يُسَمِّيهِمْ زَنَادِقَةَ الْعِرَاقِ
وَقِيلَ لَهُ : سَمِعْت أَحَدًا يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ ؟ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ . قَالَ : وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ - وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ - فَقَالَ كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } ؟ قَالَ : وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سلام نَظَرْت فِي كَلَامِ الْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ فَمَا رَأَيْت قَوْمًا أَضَلُّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْهُمْ وَإِنِّي لأستجهل مَنْ لَا يُكَفِّرُهُمْ إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ كُفْرَهُمْ . قَالَ : وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ : مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ إذْ قَالَ { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } ؟ وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ وَاَلَّذِي قَالَ : { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } هَذَا أَيْضًا قَدْ ادَّعَى مَا ادَّعَى فِرْعَوْنُ فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى أَنْ يُخَلَّدَ فِي النَّارِ مِنْ هَذَا ؟ وَكِلَاهُمَا عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ . فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فَاسْتَحْسَنَهُ وَأَعْجَبَهُ . وَمَعْنَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا - كَمَا قَالَ هَذَا الجهمي الْمُعْتَزِلِيُّ الْمَسْئُولُ عَنْهُ - كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ : إنَّ الشَّجَرَةَ هِيَ الَّتِي قَالَتْ لِمُوسَى { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } وَمَنْ قَالَ : هَذَا مَخْلُوقٌ قَالَ ذَلِكَ فَهَذَا الْمَخْلُوقُ عِنْدَهُ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } كِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ وَكِلَاهُمَا قَالَ ذَلِكَ . فَإِنْ كَانَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ كُفْرًا فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا كُفْرٌ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ يَئُولُ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ ؛ وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ مُوسَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ : مِنْ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْأَعْلَى وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } وَهُوَ قَدْ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ . وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ صَارَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ : ( أَحَدُهَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْطَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا نُطْقًا مُعْتَادًا وَنُطْقًا خَارِجًا عَنْ الْمُعْتَادِ قَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ } وَقَدْ { ثَبَتَ أَنَّ الْحَصَى كَانَ يُسَبِّحُ فِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ الْحَجْرَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ إنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ ؛ فَلَوْ كَانَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ كَانَ هَذَا كُلُّهُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ قَدْ كَلَّمَ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ
أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَكُلُّ نَاطِقٍ فَاَللَّهُ خَالِقُ نُطْقِهِ وَكَلَامِهِ فَلَوْ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ حَتَّى كَلَامُ إبْلِيسَ وَالْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ وَهَذَا تَقُولُهُ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّة كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ يَقُولُونَ :
وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ * * * سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
وَهَكَذَا أَشْبَاهُ هَؤُلَاءِ مِنْ غُلَاةِ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَجْعَلُونَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْخَالِقِ فَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ مَخْلُوقًا وَأَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ كَلَامَ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلِهَذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ اتِّصَالٌ بَيْنَ شَيْخِ الْجَهْمِيَّة الْحُلُولِيَّةِ وَشَيْخِ الْمُشَبِّهَةِ الْحُلُولِيَّةِ . وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ سَلَّطَ اللَّهُ أَعْدَاءَ الدِّينِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } { الَّذِينَ إنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } وَأَيُّ مَعْرُوفٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ . وَأَيُّ مُنْكَرٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ ؟
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يُقَالَ لِهَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ : مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ
مِنْ الْكَلَامِ وَسَائِر الصِّفَاتِ فَإِنَّمَا يَعُودُ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ حَرَكَةً أَوْ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَحَرِّكَ الْمُتَلَوِّنَ الْمُتَرَوِّحَ الْمَطْعُومَ وَإِذَا خَلَقَ بِمَحَلِّ حَيَاةً أَوْ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ إرَادَةً أَوْ كَلَامًا كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْحَيَّ الْعَالَمَ الْقَادِرَ الْمُرِيدَ الْمُتَكَلِّمَ . فَإِذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَجْسَامِ كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ كَمَا لَوْ خَلَقَ فِيهِ إرَادَةً أَوْ حَيَاةً أَوْ عِلْمًا وَلَا يَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ كَمَا إذَا خَلَقَ فِيهِ حَيَاةً أَوْ قُدْرَةً أَوْ سَمْعًا أَوْ بَصَرًا كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْحَيَّ بِهِ وَالْقَادِرَ بِهِ وَالسَّمِيعَ بِهِ وَالْبَصِيرَ بِهِ فَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ وَغَيْرِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمُتَحَرِّكَ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَلَا الْمُصَوِّتَ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَلَا سَمْعُهُ وَلَا بَصَرُهُ وَقُدْرَتُهُ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِذَلِكَ الْكَلَامِ . ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ مِنْ مَعْنًى لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَاسْمُ الْفَاعِلِ وَاسْمُ الْمَفْعُولِ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ وَأَفْعَالُ التَّفْضِيلِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ مَعْنَاهَا دُونَ مَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّتِي هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ وَالنَّاسُ
مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَحَرِّكٌ وَلَا مُتَكَلِّمٌ إلَّا بِحَرَكَةِ وَكَلَامٍ فَلَا يَكُونُ مُرِيدٌ إلَّا بِإِرَادَةِ وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ عَالِمٌ إلَّا بِعِلْمِ وَلَا قَادِرٌ إلَّا بِقُدْرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . ثُمَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ الْمَصْدَرِ إنَّمَا يُسَمَّى بِهَا مَنْ قَامَ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ فَإِنَّمَا يُسَمَّى بِالْحَيِّ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَبِالْمُتَحَرِّكِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ وَبِالْعَالِمِ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ وَبِالْقَادِرِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ . فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُسَمَّى بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَنَحْوِهِ مِنْ الصِّفَاتِ . وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاعْتِبَارِ فِي جَمِيعِ النَّظَائِرِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ هُوَ مُرَكَّبٌ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَعَلَى الصِّفَةِ . وَالْمُرَكَّبُ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ بِدُونِ تَحَقُّقِ مُفْرَدَاتِهِ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ : مِثْلُ تَكَلَّمَ وَكَلَّمَ وَيَتَكَلَّمُ وَيُكَلِّمُ وَعَلِمَ وَيَعْلَمُ وَسَمِعَ وَيَسْمَعُ وَرَأَى وَيَرَى وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءً قِيلَ : إنَّ الْفِعْلَ الْمُشْتَقَّ مِنْ الْمَصْدَرِ أَوْ الْمَصْدَرُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ لَا نِزَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ فَاعِلَ الْفِعْلِ هُوَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ . فَإِذَا قِيلَ كَلَّمَ أَوْ عَلِمَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ تَعَلَّمَ فَفَاعِلُ التَّكْلِيمِ وَالتَّعْلِيمِ هُوَ الْمُكَلِّمُ وَالْمُعَلِّمُ وَكَذَلِكَ التَّعَلُّمُ وَالتَّكَلُّمُ وَالْفَاعِلُ هُوَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيمُ وَالتَّعْلِيمُ وَالتَّكَلُّمُ وَالتَّعَلُّمُ فَإِذَا قِيلَ . تَكَلَّمَ فُلَانٌ أَوْ كَلَّمَ فُلَانٌ فُلَانًا فَفُلَانٌ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ وَالْمُكَلِّمُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى
تَكْلِيمًا } وَقَوْلُهُ : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } وَقَوْلُهُ : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُكَلِّمُ فَكَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ كَلَّمَ بِكَلَامِ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ . فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا أَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَهْمِيَّة عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ كَلَامًا لَهُ : إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ إلَّا كَوْنُهُ خَلَقَهُ وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ كَلَامًا وَلَوْ فِي غَيْرِهِ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِهِ عِنْدَهُمْ وَلَيْسَ لِلْكَلَامِ عِنْدَهُمْ مَدْلُولٌ يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى لَوْ كَانَ مَدْلُولُ " قَائِمًا " يَدُلُّ لِكَوْنِهِ خَلَقَ صَوْتًا فِي مَحَلٍّ وَالدَّلِيلُ يَجِبُ طَرْدُهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ صَوْتٍ يَخْلُقُهُ لَهُ كَذَلِكَ وَهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ عَلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ فَلَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى قَوْلِهِمْ وَالصَّوْتُ الَّذِي هُوَ لَيْسَ بِكَلَامِ . ( الثَّانِي أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالْحَرَكَةِ عَادَ حُكْمُهَا إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَا يَعُودُ حُكْمُهَا إلَى غَيْرِهِ . ( الثَّالِثُ أَنْ يُشْتَقَّ مِنْهُ الْمَصْدَرُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِهِ
وَنَحْوُ ذَلِكَ وَلَا يُشْتَقُّ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ . وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ وَهُوَ مَا يُبَيِّنُ قَوْلَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّكَلُّمِ عَائِدًا إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا إلَى اللَّهِ . ( الرَّابِعُ أَنَّ اللَّهَ أَكَّدَ تَكْلِيمَ مُوسَى بِالْمَصْدَرِ فَقَالَ ( تَكْلِيمًا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ : التَّوْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ يَنْفِي الْمَجَازَ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا أَوْ كَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا بَلْ كَلَّمَهُ مِنْهُ إلَيْهِ . ( وَالْخَامِسُ أَنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُوسَى بِتَكْلِيمِهِ إيَّاهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُكَلِّمْهُ وَقَالَ : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا } الْآيَةَ فَكَانَ تَكْلِيمُ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ وَقَالَ : { يَا مُوسَى إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي } وَقَالَ { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَالْوَحْيُ هُوَ مَا نَزَّلَهُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ فَلَوْ كَانَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى إنَّمَا هُوَ صَوْتٌ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ لَكَانَ وَحْيُ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ عَرَفُوا الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِلَا وَاسِطَةٍ وَمُوسَى إنَّمَا عَرَفَهُ بِوَاسِطَةِ وَلِهَذَا كَانَ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّة مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْإِلْهَامِ أَفْضَلُ مِمَّا حَصَلَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَلَمَّا فَهِمَ السَّلَفُ حَقِيقَةَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ الرِّسَالَةِ فَإِنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا بُعِثُوا لِيُبَلِّغُوا كَلَامَ اللَّهِ ؛ بَلْ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ التَّوْحِيدِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا حَيَاةٌ هُوَ كَالْمَوَاتِ بَلْ مَنْ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَهُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ إذْ ذَاتٌ لَا صِفَةَ لَهَا إنَّمَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ كَتَقْدِيرِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَخَصَّصُ . فَكَانَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مُضَاهِيًا لِقَوْلِ " الْمُتَفَلْسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ " الَّذِينَ يَجْعَلُونَ وُجُودَ الرَّبِّ وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا صِفَةَ لَهُ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ . وَهَؤُلَاءِ الدَّهْرِيَّةُ يُنْكِرُونَ أَيْضًا حَقِيقَةَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَيَقُولُونَ إنَّمَا هُوَ فَيْضٌ فَاضَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي الْوَحْيِ إلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ : إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ لَكِنَّهُ صَدَرَ عَنْ نَفْسٍ صَافِيَةٍ شَرِيفَةٍ . وَإِذَا كَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ خَيْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ فَكَيْفَ هَؤُلَاءِ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ لَا يُحْصَى قَالَ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الكرماني : سَمِعْت إسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْه يَقُولُ . لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافٌ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَكَيْفَ يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ الرَّبِّ عَزَّ ذِكْرُهُ مَخْلُوقًا ؟ وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا : عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ مَخْلُوقَةٌ فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا كَانَ اللَّهُ
- تَبَارَكَ اسْمُهُ - وَلَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا مَشِيئَةَ وَهُوَ الْكُفْرُ الْمَحْضُ الْوَاضِحُ ؛ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا لَهُ الْمَشِيئَةُ وَالْقُدْرَةُ فِي خَلْقِهِ وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ . وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ . فَقِيلَ لَهُ : مَنْ أَيْنَ قُلْت هَذَا ؟ قَالَ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } وَلَا يَكُونُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ . وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ . وَقَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ مِنْهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَمِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نفير قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ بِشَيْءِ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي أمامة مَرْفُوعًا . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ لِأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ لَمَّا سَمِعَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ " وَيَحْكُمُ أَيْنَ يَذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ ؟ إنَّ هَذَا كَلَامًا لَمْ يَخْرَجْ مِنْ إلٍّ " أَيْ مِنْ رَبٍّ . وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ : إنَّهُ مِنْهُ خَرَجَ وَمِنْهُ بَدَا . أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ إذْ تَكَلَّمَ بِهِ لَا يُفَارِقُ ذَاتَه
وَيَحِلُّ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ ؟ قَالَ تَعَالَى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إنْ يَقُولُونَ إلَّا كَذِبًا } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْكَلِمَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَعَ هَذَا فَلَمْ تُفَارِقْ ذَاتَهمْ . وَ " أَيْضًا " فَالصِّفَةُ لَا تُفَارِقُ الْمَوْصُوفَ وَتَحِلُّ بِغَيْرِهِ لَا صِفَةُ الْخَالِقِ وَلَا صِفَةُ الْمَخْلُوقِ وَالنَّاسُ إذَا سَمِعُوا كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَلَّغُوهُ عَنْهُ كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي بَلَّغُوهُ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَلَّغُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } وَلَكِنَّ مَقْصُودَ السَّلَفِ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ قَدْ ابْتَدَأَ وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ لَا مِنْ اللَّهِ كَمَا يَقُولُونَ : كَلَامُهُ لِمُوسَى خَرَجَ مِنْ الشَّجَرَةِ فَبَيَّنَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ بَدَأَ وَخَرَجَ وَذَكَرُوا قَوْلَهُ { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْلَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ . وَ " مِنْ " هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَإِنْ كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا عَيْنًا يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَمْ
يَكُنْ صِفَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وَقَوْلِهِ فِي الْمَسِيح : { وَرُوحٌ مِنْهُ } وَكَذَلِكَ مَا يَقُومُ بِالْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا صِفَةً وَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا مَحَلٌّ كَانَ صِفَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } . وَكَذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَنَّ الْقُرْآنَ نُزِّلَ مِنْهُ وَأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْهُ رَدًّا عَلَى هَذَا الْمُبْتَدِعِ الْمُفْتَرِي وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَقُولُ : إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { عَلَى قَلْبِكَ } وَقَالَ { مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَقَالَ هُنَا { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ } فَبَيَّنَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ هَوَاءٍ وَلَا مِنْ لَوْحٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ سَائِر آيَاتِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَوْلِهِ { حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } وَقَوْلِهِ { حم } { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَقَوْلِهِ { الم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَوْلِهِ { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } .
فَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَاللَّوْحِ وَالْهَوَاءِ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ مُكَذِّبٌ لِكِتَابِ اللَّهِ . مُتَّبِعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ . أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ مَا نَزَلَ مِنْهُ وَمَا نَزَّلَهُ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوفَاتِ كَالْمَطَرِ بِأَنْ قَالَ : { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } ؟ فَذَكَرَ الْمَطَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَّلَهُ مِنْ السَّمَاءِ وَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ . وَأَخْبَرَ بِتَنْزِيلِ مُطْلَقٍ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ } لِأَنَّ الْحَدِيدَ يُنَزَّلُ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ لَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ ؛ فَإِنَّ الذَّكَرَ يُنْزِلُ الْمَاءَ فِي الْإِنَاثِ . فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْ كَانَ جِبْرِيلُ أَخَذَ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَكَانَ الْيَهُودُ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لِمُوسَى التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَأَنْزَلَهَا مَكْتُوبَةً . فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ قَدْ قَرَءُوا الْأَلْوَاحَ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُحَمَّدٌ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ عَنْ اللَّوْحِ فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ بِمَنْزِلَةِ جِبْرِيلَ وَتَكُونُ مَنْزِلَةُ بَنِي إسْرَائِيلَ أَرْفَعَ مِنْ مَنْزِلَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِنْ فَضَائِلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ وَأَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ تِلَاوَةً لَا كِتَابَةً وَفَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ . فَقَالَ : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } .
ثم إنْ كَانَ جِبْرِيلُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا وَجَدَهُ مَكْتُوبًا كَانَتْ الْعِبَارَةُ عِبَارَةَ جِبْرِيلَ وَكَانَ الْقُرْآنُ كَلَامَ جِبْرِيلَ تَرْجَمَ بِهِ عَنْ اللَّهِ . كَمَا يُتَرْجَمُ عَنْ الْأَخْرَسِ الَّذِي كَتَبَ كَلَامًا وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . وَهَذَا خِلَافُ دِينِ الْمُسْلِمِينَ . وَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } قِيلَ لَهُ فَقَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } فَالرَّسُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالرَّسُولُ فِي الْأُخْرَى جِبْرِيلُ فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَ عِبَارَتَهُ لَتَنَاقَضَ الْخِبْرَانِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ إضَافَةَ تَبْلِيغٍ لَا إضَافَةَ إحْدَاثٍ وَلِهَذَا قَالَ : { لَقَوْلُ رَسُولٍ } وَلَمْ يَقُلْ مَلَكٌ وَلَا نَبِيٌّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } فَكَانَ { النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ؟ } وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : { الم } { غُلِبَتِ الرُّومُ } خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَرَأَهَا عَلَى عَلَى النَّاسِ فَقَالُوا : هَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك ؟ فَقَالَ : لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا كَلَامَ صَاحِبِي وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ . وَإِنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } قِيلَ لَهُ
هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْك فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } عَلِمَ أَنَّ الذِّكْرَ مِنْهُ مُحْدَثٌ وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِمُحْدَثِ ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا وُصِفَتْ مُيِّزَ بِهَا بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَغَيْرِهِ كَمَا لَوْ قَالَ : مَا يَأْتِينِي مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ إلَّا أَكْرَمَتْهُ وَمَا آكُلُ إلَّا طَعَامًا حَلَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُحْدَثَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ الَّذِي يَقُولُهُ الجهمي وَلَكِنَّهُ الَّذِي أُنْزِلَ جَدِيدًا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَالْمُنَزَّلُ أَوَّلًا هُوَ قَدِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُنَزَّلِ آخِرًا . وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ قَدِيمٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا قَالَ : { كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ } وَقَالَ : { تَاللَّهِ إنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ } وَقَالَ : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إفْكٌ قَدِيمٌ } وَقَالَ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } لَمْ يَقُلْ جَعَلْنَاهُ فَقَطْ حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ بِمَعْنَى خَلَقْنَاهُ ؛ وَلَكِنْ قَالَ : { جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أَيْ صَيَّرْنَاهُ عَرَبِيًّا لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُنَزِّلَهُ عَجَمِيًّا فَلَمَّا أَنْزَلَهُ عَرَبِيًّا كَانَ قَدْ جَعَلَهُ عَرَبِيًّا دُونَ عَجَمِيٍّ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي فَارَقُوا بِهَا الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَنَحْوِهِمْ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا فَقَالَ لَهُ آخَرُ : بَلْ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا فَقَالَ : إنْ قُلْت كَلَّمَهُ فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِحَرْفِ وَصَوْتٍ فَهُوَ كَافِرٌ فَهَلْ هُوَ كَمَا قَالَ أَوْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا فَهَذَا إنْ كَانَ لَمْ يَسْمَعْ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ أَنَّ هَذَا نَصُّ الْقُرْآنِ فَإِنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ إنْ كَانَ كَلَامُهُ بَعْدَ أَنْ يَجْحَدَ نَصَّ الْقُرْآنِ بَلْ لَوْ قَالَ : إنَّ مَعْنَى كَلَامِي أَنَّهُ خَلَقَ صَوْتًا فِي الْهَوَاءِ فَأَسْمَعُهُ مُوسَى كَانَ كَلَامُهُ أَيْضًا كُفْرًا وَهُوَ قَوْلُ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ كَفَّرَهُمْ السَّلَفُ وَقَالُوا : يُسْتَتَابُونَ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا ؛ لَكِنْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُبَيِّنُ لَهُ الصَّوَابَ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَفَرَ . إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ
يُخْطِئُ فِيمَا يَتَأَوَّلُهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَيَجْهَلُ كَثِيرًا مِمَّا يَرِدُ مِنْ مَعَانِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مَرْفُوعَانِ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْكُفْرُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ . وَالْأَئِمَّةُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِقَتْلِ مِثْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ وَيَقُولُونَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ قِيلَ إنَّهُمْ أُمِرُوا بِقَتْلِهِمْ لِكُفْرِهِمْ وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ إذَا دَعَوْا النَّاسَ إلَى بِدْعَتِهِمْ أَضَلُّوا النَّاسَ فَقُتِلُوا لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَحِفْظًا لِدِينِ النَّاسِ أَنْ يُضِلُّوهُمْ . وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الْجَهْمِيَّة مِنْ شَرِّ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ كَثِيرٌ عَنْ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً . وَمِنْ الْجَهْمِيَّة : الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ وَإِنَّهُ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ - وَإِنَّهُ لَيْسَ مُبَايِنًا لِخَلْقِهِ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الْخَالِقِ وَتَكْذِيبَ رُسُلِهِ وَإِبْطَالَ دِينِهِ . وَأَمَّا قَوْلُ الجهمي : إنْ قُلْت كَلَّمَهُ فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ وَمَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى بِحَرْفِ وَصَوْتٍ فَهُوَ كَافِرٌ . فَيُقَالُ لِهَذَا الْمُلْحِدِ : أَنْتَ تَقُولُ إنَّهُ كَلَّمَهُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ
لَكِنْ تَقُولُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ وَتَقُولُ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَقُومَ بِهِ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ إلَّا بِمُتَحَيِّزِ وَالْبَارِي لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُتَحَيِّزٌ فَقَدْ كَفَرَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ جَحَدَ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ أَوْلَى بِالْكُفْرِ مِمَّنْ أَقَرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَإِنْ قَالَ الْجَاحِدُ لِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّ الْعَقْلَ مَعَهُ قَالَ لَهُ الْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ : بَلْ الْعَقْلُ مَعِي وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهَذَا يَقُولُ إنَّ مَعَهُ السَّمْعَ وَالْعَقْلَ وَذَاكَ إنَّمَا يَحْتَجُّ لِقَوْلِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْعَقْلِ الَّذِي يُبَيِّنُ مُنَازِعُهُ فَسَادَهُ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعَقْلَ مَعَهُ . " وَالْكُفْرُ " هُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ شَيْئًا عُلِمَ بِنَظَرِ الْعَقْلِ يَكُونُ كَافِرًا وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ جَحَدَ بَعْضَ صَرَائِحِ الْعُقُولِ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ كُفْرًا فِي الشَّرِيعَةِ . وَأَمَّا مَنْ خَالَفَ مَا عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِلَا نِزَاعٍ . وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا الْإِخْبَارُ عَنْ اللَّهِ بِأَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا وَهَذَا يَكْفُرُ . وَهَذَا اللَّفْظُ مُبْتَدَعٌ وَالْكَفْرُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ أَسْمَاءٍ مُبْتَدَعَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ بَلْ يَسْتَفْسِرُ هَذَا الْقَائِلَ إذَا قَالَ : إنَّ اللَّهَ مُتَحَيِّزٌ أَوْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ فَإِنْ قَالَ : أَعْنِي بِقَوْلِي إنَّهُ مُتَحَيِّزٌ
أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قَدْ حَازَتْهُ وَأَحَاطَتْ بِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ . وَإِنْ قَالَ أَعْنِي بِهِ أَنَّهُ مُنْحَازٌ عَنْ الْمَخْلُوقَاتِ مُبَايِنٌ لَهَا فَهَذَا حَقٌّ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَا يَحُوزُ الْخَالِقَ فَقَدْ أَصَابَ وَإِنْ قَالَ إنَّ الْخَالِقَ لَا يُبَايِنُ الْمَخْلُوقَ وَيَنْفَصِلُ عَنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ . وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالنَّاسُ فِي الْجَوَابِ عَنْ حُجَّتِهِ الدَّاحِضَةِ - وَهِيَ قَوْلُهُ " لَوْ قُلْت إنَّهُ كَلَّمَهُ فَالْكَلَامُ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَالْحَرْفُ وَالصَّوْتُ مُحْدَثٌ " - ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : صِنْفٌ مَنَعُوهُ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَصِنْفٌ مَنَعُوهُ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ - وَصِنْفٌ لَمْ يَمْنَعُوهُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَلْ اسْتَفْسَرُوهُ وَبَيَّنُوا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا . فَ " الصِّنْفُ الْأَوَّلُ " أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ وَأَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ وَمِنْ اتَّبَعَهُمَا قَالُوا : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ بَلْ الْكَلَامُ مَعْنًى قَائِمٌ بِذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ عِبَارَةٌ عَنْهُ " وَذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِكُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ وَالْخَبَرَ عَنْ كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَقَالُوا : إنَّهُ اسْمُ الْكَلَامِ حَقِيقَةً فَيَكُونُ اسْمُ الْكَلَامِ مُشْتَرَكًا أَوْ مَجَازًا فِي كَلَامِ الْخَالِقِ وَحَقِيقَةً فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ .
" وَالصِّنْفُ الثَّانِي " سَلَّمُوا لَهُمْ أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَمَنَعُوهُمْ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ وَهُوَ أَنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا . وَصِنْفٌ قَالُوا : إنَّ الْمُحْدَثَ كَالْحَادِثِ سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ لَا يَكُونُ قَدِيمًا وَهُوَ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ وَهُوَ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ كَأَبِي الْحَسَنِ بْنِ سَالِمٍ وَأَتْبَاعِهِ السالمية وَطَوَائِفَ مِمَّنْ اتَّبَعَهُ وَقَالَ هَؤُلَاءِ فِي الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ نَظِيرُ مَا قَالَهُ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ فِي الْمَعَانِي . وَقَالُوا كَلَامٌ لَا بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ لَا يُعْقَلُ وَمَعْنًى يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ - فَقَوْلُهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ عَقْلًا وَشَرْعًا وَإِخْرَاجُ الْحُرُوفِ عَنْ مُسَمَّى الْكَلَامِ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْحُرُوفَ وَالْأَصْوَاتَ الْمَخْلُوقَةَ فِي غَيْرِ كَلَامِ اللَّهِ حَقِيقَةٌ أَمْكَنَ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ فِي غَيْرِهِ . وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ الْأَوَّلِينَ : إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْكَلَامَ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَعْنَى
وَقَدْ خَلَقَ عِبَارَةَ بَيَانٍ . . . (1) فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ تِلْكَ الْعِبَارَةَ كَلَامُهُ حَقِيقَةً بَطَلَتْ حُجَّتُكُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ ؛ فَإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِكُمْ عَلَيْهِمْ قَوْلُكُمْ إنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ يَخْلُقُهُ فِي غَيْرِهِ كَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ بِعِلْمِ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ وَأَنْ يَقْدِرَ بِقُدْرَةِ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَأَنْ يُرِيدَ بِإِرَادَةِ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ وَإِنْ قُلْتُمْ هِيَ كَلَامٌ مَجَازًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى مَجَازًا فِي اللَّفْظِ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ جَمِيعِ اللُّغَاتِ . وَ " الصِّنْفُ الثَّالِثُ " : الَّذِينَ لَمْ يَمْنَعُوا الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَلَكِنْ اسْتَفْسَرُوهُمْ وَبَيَّنُوا أَنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ قَوْلِكُمْ بَلْ قَالُوا : إنْ قُلْتُمْ : إنَّ الْحَرْفَ وَالصَّوْتَ مُحْدَثٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِكُمْ وَتَنَاقُضِهِ وَهَذَا قَوْلٌ مَمْنُوعٌ وَإِنْ قُلْتُمْ : بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ مُحْدَثَةٌ . وَهَؤُلَاءِ " صِنْفَانِ " : صِنْفٌ قَالُوا : إنَّ الْمُحْدَثَ هُوَ الْمَخْلُوقُ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ فَإِذَا قُلْنَا : الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ لَا يَكُونُ إلَّا مُحْدَثًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا لَا يَكُونُ إلَّا مَخْلُوقًا وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ هَذَا الْمُعْتَزِلِيُّ أَبْطَلَ قَوْلَهُ
بِقَوْلِهِ حَيْثُ زَعَمَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ مَخْلُوقٍ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ فِيهِ تَلْبِيسٌ . وَنَحْنُ لَا نَقُولُ كَلَّمَ مُوسَى بِكَلَامِ قَدِيمٍ وَلَا بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْتِي فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَقَالَ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ كَثِيرٌ . يُبَيِّنُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ إذَا شَاءَ فَعَلَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ تَكْلِيمِهِ وَأَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ وَمَا كَانَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ هُوَ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ . وَالْمَخْلُوقُ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِالْخَالِقِ وَلَا يَكُونُ الرَّبُّ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقَاتِ بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ يَقُومُ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ كَلِمَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مَخْلُوقًا إنَّمَا الْمَخْلُوقُ مَا كَانَ بَائِنًا عَنْهُ . وَكَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ مِنْهُ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ
وَإِلَيْهِ يَعُودُ فَقَالُوا : مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَا أَنَّهُ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ الْمَخْلُوقَةِ . وَهَذَا " الْجَوَابُ " هُوَ جَوَابُ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْفِقْهِ وَطَوَائِفَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ : مِنْ الهشامية والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ . وَأَتْبَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ : أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : مِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَهُمْ الَّذِينَ يَرْتَضُونَ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ فِي الْقُرْآنِ وَهُمْ طَوَائِفُ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الصِّنْفِ الثَّانِي وَهُمْ الطَّوَائِفُ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَيَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ : كالسالمية وَطَوَائِفَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ جَوَابَ الطَّائِفَةِ الثَّالِثَةِ وَهُمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ قَوْلَ الطَّائِفَتَيْنِ المتقدمتين الْكُلَّابِيَة والسالمية . ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الكَرَّامِيَة - والكَرَّامِيَة يَنْتَسِبُونَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَخْتَارُ قَوْلَ الكَرَّامِيَة أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَنَاقُضٍ آخَرَ ؛ بَلْ يَقُولُ بِقَوْلِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ : كَالْبُخَارِيِّ وَعُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الدارمي وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَة وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ السَّلَفِ :
كَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القرظي وَالزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ تَضِيقُ عَنْهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ . وَبَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مُنَازَعَاتٌ وَدَقَائِقُ تَضِيقُ عَنْهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ كُلِّ قَوْلٍ وَمَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّوَابُ فِي صَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ ؛ لَكِنْ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَضْلِيلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ . وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا يُقْتَلُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَسُئِلَ أَيْضًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ قَالَ : كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا وَسَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ وَوَعَاهُ قَلْبُهُ وَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ وَنَاوَلَهُ إيَّاهُ مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِهِ وَقَالَ آخَرُ : لَمْ يُكَلِّمْهُ إلَّا بِوَاسِطَةِ .
فَأَجَابَ :
الْقَائِلُ الَّذِي قَالَ : إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا - كَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ - مُصِيبٌ وَأَمَّا الَّذِي قَالَ : كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِوَاسِطَةِ فَهَذَا ضَالٌّ مُخْطِئٌ ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ إنْكَارٌ لِمَا قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَلِمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } الْآيَةَ فَفَرَّقَ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَ مُوسَى - وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ بِوَاسِطَةِ رَسُولٍ كَمَا أَوْحَى إلَى غَيْرِ مُوسَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } .
وَالْأَحَادِيثُ بِذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَحْفُوظِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثُ { الْتَقَى آدَمَ وَمُوسَى قَالَ آدَمَ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي كَلَّمَك اللَّهُ تَكْلِيمًا لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ رَسُولًا مِنْ خَلْقِهِ } . وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا كَفَّرُوا الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ سَمِعَهُ مُوسَى وَفَسَّرَ التَّكْلِيمَ بِذَلِكَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ } فَهَذَا قَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ - مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَإِذَا أَنْكَرَهُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ " نَاوَلَهَا بِيَدِهِ إلَى يَدِهِ " فَهَذَا مَأْثُورٌ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَهُوَ هَكَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لَكِنْ لَا أَعْلَمُ غَيْرَ هَذَا اللَّفْظِ مَأْثُورًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمُتَكَلِّم بِهِ إنْ أَرَادَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْأَعْلَامُ أَئِمَّةُ الدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - :
هَلْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ وَكَانَ صِفَةً لَهُ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا كَانَ كَلَامُهُ فَهَلْ إذَا تَلَوْنَاهُ وَقَامَ بِنَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَتُهُ ؟ أَمْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ صِفَتِهِ ؟ أَمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَجِبُ بَيَانُهُ ؟ وَهَلْ إذَا قَامَ بِنَا كَانَ مُنْتَقِلًا عَنْ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَامَ بِهِ ؟ أَمْ يَكُونُ قَائِمًا بِنَا وَبِهِ مَعًا ؟ أَمْ الَّذِي قَامَ بِنَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْهُ وَيَكُونُ إطْلَاقُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجَازًا ؟ وَهَلْ يَكُونُ صِفَةً لَنَا مُحْدَثَةً قَامَتْ بِمُحْدَثِ ؛ إذْ الْقَدِيمُ لَا يَقُومُ بِمُحْدَثِ وَالْمُحْدَثُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا وَهَلْ " التِّلَاوَةُ " هِيَ نَفْسُ الْمَتْلُوِّ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ " الْمَسْأَلَةُ " جَوَابُهَا يَحْتَمِلُ الْبَسْطَ وَيُمْكِنُ فِيهِ الِاخْتِصَارُ ثُمَّ بَسَطَ الْجَوَابَ بَعْضَ الْبَسْطِ ؛ فَأَمَّا الْجَوَابُ الْمُخْتَصَرُ فَإِنَّهُ يُقَالُ : جَوَابُ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى " مُقَدِّمَةٍ " وَهِيَ أَنْ يَعْرِفَ الْإِنْسَانُ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ لِمَا بَلَغَهُ عَنْ غَيْرِهِ : هَذَا كَلَامُ ذَلِكَ الْغَيْرِ ؛ فَإِنَّ الْمُحَدِّثَ إذَا حَدَّثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } أَوْ قَوْلِهِ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ } أَوْ قَوْلِهِ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ فَهُوَ الَّذِي أَخْبَرَ بِمَعْنَاهُ وَهُوَ الَّذِي أَلَّفَ حُرُوفَهُ وَتَكَلَّمَ بِهَا بِصَوْتِهِ . ثُمَّ الْمُبَلِّغُ بِذَلِكَ عَنْهُ بَلَّغَ كَلَامَهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } فَدَعَا بِالنَّضْرَةِ لِمَنْ سَمِعَ مِنْهُ حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ . فَبَيَّنَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ هُوَ الْحَدِيثُ الْمُبَلَّغُ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُبَلِّغَ عَنْهُ بَلَّغَهُ بِأَفْعَالِهِ وَأَصْوَاتِهِ وَأَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ هُوَ صَوْتُهُ لَا صَوْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ بِصَوْتِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ فَالْمُبَلَّغُ عَنْهُ هُوَ حَدِيثُهُ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ وَلَيْسَ الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ صَوْتَهُ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : هَلْ هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي قَرَأَهُ الْمُحَدِّثُ الْقَائِمُ بِهِ
حِينَ الْقِرَاءَةِ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ وَكَانَ صِفَةً لَهُ أَمْ لَا ؟ قِيلَ لَهُ : إنْ كُنْت تُرِيدُ أَنَّ نَفْسَ الْحَدِيثِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ كَانَ صِفَةً لَهُ ؛ فَنَعَمْ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِالْقَارِئِ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ هُوَ الْقَائِمُ بِالرَّسُولِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَكَذَلِكَ إنْ أَرَدْت أَنَّ نَفْسَ مَا اخْتَصَّ بِهِ الرَّسُولُ مِنْ حَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ وَالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ هِيَ بِعَيْنِهَا انْتَقَلَتْ عَنْ الرَّسُولِ وَقَامَتْ بِالْقَارِئِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَقَوْلُ الْقَائِلِ : هَذَا هُوَ هَذَا وَلَيْسَ هُوَ إيَّاهُ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ هَذَا وَلَيْسَ هُوَ عَيْنَهُ : لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ فَإِنَّ مَنْ نَقَلَ لَفْظَ غَيْرِهِ كَمَا سَمِعَهُ وَكَتَبَهُ فِي كِتَابٍ فَإِنَّهُ يَقُولُ : هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِهِ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِهِ . وَمُرَادُهُ أَنَّ نَفْسَ مَا قَالَهُ هُوَ الَّذِي بَلَغَهُ عَنْهُ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : لِمَا سَمِعَ مِنْ الْقَارِئِ هَذَا عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ بِعَيْنِهِ أَوْ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ قَالَ لِمَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ بِعَيْنِهِ . وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ كَانَ صَادِقًا
وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَانَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ : أَنَّ الْقُرْآنَ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّاسُ مُطْبِقِينَ عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ ؛ وَالْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ نَفَى ذَلِكَ . وَقَدْ يُقَالُ لِكَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ : هَذَا كَلَامُ زَيْدٍ بِعَيْنِهِ ؛ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِ زَيْدٍ وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِ زَيْدٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ ؛ بِحَيْثُ يَسْمَعُ صِفَةَ ذَلِكَ الْمُتَكَلِّمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ أَيُّوبُ السختياني . كَانَ الْحَسَنُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ فَيَأْتِي مِثْلَ الدُّرِّ ؛ فَتَكَلَّمَ بِهِ بَعْدَهُ قَوْمٌ فَجَاءَ مِثْلَ الْبَعْرِ . وَالْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ مِنْ الْبَشَرِ لَهُ صَوْتٌ يَخُصُّهُ وَنَغْمَةٌ تَخُصُّهُ كَمَا لَهُ سَجِيَّةٌ تَخُصُّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } . وَلَهُ أَيْضًا - إنْ كَانَ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا - مِنْ الْحَالِ وَالصِّفَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ فَإِذَا سُمِعَ كَلَامُهُ بِالصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ وَقِيلَ : هَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِهِ وَنَفْسُ كَلَامِهِ وَأُدْخِلَتْ الصِّفَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ فِي مُسَمَّى الْعَيْنِ وَالنَّفْسِ لَمْ يَصْدُقْ هَذَا عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَرْوِيًّا . لَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّاسُ فِي زَمَانِنَا يَعْلَمُونَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ : لَمْ يَسْبِقْ هَذَا الْمَعْنَى إلَى ذِهْنِ أَحَدٍ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّا إذَا قُلْنَا سَمِعْنَا كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِهِ وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِهِ فَإِنَّمَا الْمُرَادُ
بِهِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَهُوَ كَوْنُهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ لَا أَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْهُ وَلَا أَنَّ تَكَلُّمَهُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْكَلَامِ وُجِدَ . وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَوْلَى بِذَلِكَ فَإِنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ كَمَا سَمِعَ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ ؛ بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ إنَّمَا سُمِعَ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ } وَقَالَ نُوحٌ : { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي } وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ بِالْمَوْقِفِ : { أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنَّ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } فَلَمَّا كَانَ هَذَا مُسْتَقِرًّا فِي قُلُوبِ الْمُسْتَمِعِينَ عَلِمُوا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } إنَّمَا هُوَ سَمَاعُهُ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ لَهُ لَا سَمَاعُهُ مِنْهُ وَإِنَّ هَذَا السَّمَاعَ لَيْسَ كَسَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ مُوسَى سَمِعَهُ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَنَحْنُ إذَا سَمِعْنَا كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَكُنْ كَسَمْعِ الصَّحَابَةِ
مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنَّهُمْ يُبَلِّغُونَ حَدِيثَهُ كَمَا سَمِعُوهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْكُوا صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا هِيَ أَصْوَاتُهُمْ صَوْتَهُ وَلَا مِثْلَ صَوْتِهِ مَعَ أَنَّهُمْ بَلَّغُوا حَدِيثَهُ كَمَا سَمِعُوهُ . فَالْقُرْآنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ وَالرَّسُولُ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ وَالْأُمَّةُ بَلَّغَتْهُ كَمَا سَمِعَتْهُ وَأَنْ يَكُونَ مَا بَلَّغَتْهُ هُوَ مَا سَمِعَتْهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْحَالَيْنِ ؛ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ بَشَرٌ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ " وَاَللَّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وَالتَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ أَعْظَمُ مِنْ التَّفَاوُتِ بَيْنَ أَدْنَى الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْلَاهَا فَإِذَا كَانَ سَمْعُ التَّابِعِينَ لِكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الصَّحَابَةِ لَيْسَ كَسَمْعِ الصَّحَابَةِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَاعُ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ أَبْعَدُ مِنْ مُمَاثَلَةِ سَمَاعِ شَيْءٍ لِشَيْءِ مِنْ الْمَخْلُوفَاتِ . وَالْقَائِلُ إذَا قَالَ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْ الرَّسُولِ هَذَا كَلَامُ الرَّسُولِ أَوْ هَذَا كَلَامٌ صَوَابٌ أَوْ حَقٌّ أَوْ صَحِيحٌ أَوْ هَذَا حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ أَدَّاهُ كَمَا سَمِعَهُ . أَوْ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ الرَّسُولِ أَوْ عَيْنُهُ فَإِنَّمَا قَصَدَ إلَى مُجَرَّدِ الْكَلَامِ وَهُوَ مَا يُوجَدُ حَالَ سَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ وَالْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَمْ يُشِرْ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِهِمَا ؛ فَلَمْ يُشِرْ إلَى مُجَرَّدِ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ وَلَا مُجَرَّدِ صَوْتِ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ وَلَا إلَى حَرَكَةِ أَحَدٍ مِنْهُمَا ؛ بَلْ هُنَاكَ أَمْرٌ يَتَّحِدُ فِي الْحَالَيْنِ
وَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَدَّدُ يَخْتَصُّ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْهُ بِمَا يَخُصُّهُ . فَإِذَا قِيلَ : هَذَا هُوَ كَلَامُهُ كَانَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الْمُتَّحِدِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا . وَإِذَا قِيلَ : هَذَا صَوْتُهُ كَانَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الْمُخْتَصِّ الْمُتَعَدِّدِ فَيُقَالُ : هَذَا صَوْتٌ غَلِيظٌ أَوْ رَقِيقٌ أَوْ حَسَنٌ أَوْ لَيْسَ حَسَنًا ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَلَّهُ أَشَدُّ أَذْنًا إلَى الرَّجُلِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إلَى قَيْنَتِهِ } وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : { زُيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } قَالَ أَحْمَد . يُحَسِّنُهُ بِصَوْتِهِ مَا اسْتَطَاعَ . فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْقَارِئِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ الْبَارِي . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ تَبْلِيغِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَذَلِكَ فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ كُلِّ أَحَدٍ فَإِذَا سَمِعَ النَّاسُ مُنْشِدًا يُنْشِدُ . أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ قَالُوا : هَذَا شِعْرُ لَبِيَدٍ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَهَذَا كَلَامُ لَبِيَدٍ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ } . وَلَوْ قَالَ الْمُنْشِدُ : هَذَا شَعْرِي أَوْ كَلَامِي لَكَذَّبَهُ النَّاسُ كَمَا يُكَذِّبُونَهُ لَوْ قَالَ : هَذَا صَوْتُ لَبِيَدٍ وَإِذَا قَالَ : هَذَا لَفْظُ لَبِيَدٍ بِالْمَعْنَى الْمَعْرُوفِ - وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الْمَلْفُوظَ هُوَ كَلَامُهُ بِنَظْمِهِ وَتَأْلِيفِهِ - لَصَدَّقَهُ النَّاسُ .
وَإِنْ قَالَ : هَذَا لَفْظُهُ بِمَعْنَى أَنَّ هَذَا بِلَفْظِهِ كَذَّبَهُ النَّاسُ ؛ فَإِنَّ " اللَّفْظَ " يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ " وَيُرَادُ بِهِ الْمَلْفُوظُ وَكَذَلِكَ " التِّلَاوَةُ " وَ " الْقِرَاءَةُ " يُرَادُ بِذَلِكَ الْمَصْدَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ نَفْسُهُ الَّذِي يُقْرَأُ وَيُتْلَى . وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ تَعَلُّمَ الْجَامِعِ وَالْفَارِقِ بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَمِنْ الْمُبَلِّغِ لَهُ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَأَنَّهُ كَلَامُهُ فِي الْحَالَيْنِ : لَكِنْ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا مَسْمُوعٌ مِنْهُ سَمَاعًا مُطْلَقًا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَفِي الْأُخْرَى مَسْمُوعٌ مِنْهُ سَمَاعًا مُقَيَّدًا بِوَاسِطَةِ التَّبْلِيغِ كَمَا أَنَّك تَارَةً تَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ فَلَا تَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى وَاسِطَةٍ وَتَارَةً تَرَاهَا فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ تَرَاهَا بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْجِسْمِ الشَّفَّافِ فَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالرُّؤْيَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . لَكِنْ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ رَأَيْتهَا نَفْسَهَا بِالْمُبَاشَرَةِ رُؤْيَةً مُطْلَقَةً وَفِي الْأُخْرَى رَأَيْتهَا رُؤْيَةً مُقَيَّدَةً بِوَاسِطَةِ . وَإِذَا قُلْت : الْمَرْئِيُّ مِثَالُهَا أَوْ خَيَالُهَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ . قِيلَ : أَنْتَ تَجِدُ الْفَرْقَ بَيْنَ رُؤْيَتِك خَيَالَ الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ ظِلُّهُ وَتِمْثَالُهُ الَّذِي هُوَ صُورَتُهُ الْمُصَوَّرَةُ وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ ؛ إذَا كَانَ الْمَرْئِيُّ هُنَا وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَوَسُّطِ خَيَالٍ فَالْمَقْصُودُ بِالرُّؤْيَةِ هُوَ الْحَقِيقَةُ ؛ وَلَكِنْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمِرْآةِ فَيُرَى كَبِيرًا إنْ كَانَتْ الْمِرْآةُ كَبِيرَةً وَصَغِيرًا
إنْ كَانَتْ الْمِرْآةُ صَغِيرَةً وَمُسْتَطِيلًا إنْ كَانَتْ الْمِرْآةُ مُسْتَطِيلَةً . وَهَذَا الْكَلَامُ الْمَرْوِيُّ عَنْ الْغَيْرِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ نَفْسُ كَلَامِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَوَسُّطِ صَوْتِ هَذَا الْمُبَلِّغِ ؛ وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ ؛ فَتَارَةً يَكُونُ رَقِيقًا وَتَارَةً غَلِيظًا وَتَارَةً مَجْهُورًا بِهِ وَتَارَةً مُخَافَتًا بِهِ . فَإِنْ قُلْت : فَهَذَا الْمَسْمُوعُ مِثْلُ كَلَامِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ أَوْ حِكَايَةُ كَلَامِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ كَمَا أَطْلَقَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ كَانَ إطْلَاقُ هَذَا خَطَأً كَمَا أَنَّك إذَا قُلْت لِمَا تَرَاهُ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ هَذَا مِثْلُ الشَّمْسِ أَوْ هَذَا يَحْكِي الشَّمْسَ : كَانَ إطْلَاقُ ذَلِكَ خَطَأً قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } الْآيَةَ فَقَدْ بَيَّنَ عَجْزَ الْخَلَائِقِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مَعَ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى تَبْلِيغِهِ وَتِلَاوَتِهِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْمَسْمُوعَ لَا يُقَالُ إنَّهُ مِثْلُ كَلَامِ اللَّهِ كَمَا سَمَّاهُ كَلَامَهُ ؛ لَكِنَّهُ كَلَامُهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ لَا بِطْرِيقَ الْمُبَاشَرَةِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ فَرَّقَ بَيْن التَّكْلِيمَيْنِ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَفَرَّقَ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ - كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى - وَبَيْنَ تَكْلِيمِهِ بِإِرْسَالِهِ رَسُولًا يُوحِي بِإِذْنِهِ ؛ ذَاكَ تَكْلِيمٌ بِلَا
وَاسِطَةٍ وَهَذَا تَكْلِيمُهُ بِوَاسِطَةِ . وَإِنْ قُلْت : لِمَا يُبَلِّغُهُ الْمُبَلِّغُ عَنْ غَيْرِهِ هَذَا حِكَايَةُ كَلَامِ ذَلِكَ كَانَ الْإِطْلَاقُ خَطَأً فَإِنَّ لَفْظَ " الْحِكَايَةِ " إذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَتَى بِكَلَامِ يُشْبِهُ كَلَامَهُ كَمَا يُقَالُ : هَذَا يُحَاكِي هَذَا وَهَذَا قَدْ حَكَى هَذَا ؛ لَكِنْ قَدْ يُقَالُ : فُلَانٌ قَدْ حَكَى هَذَا الْكَلَامَ عَنْ فُلَانٍ . كَمَا يُقَالُ : رَوَاهُ عَنْهُ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ وَحَدَّثَ بِهِ عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا يَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ . فَكُلَّمَا بَلَّغَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ فَقَدْ حَكَاهُ عَنْهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ . فَالْقَائِلُ إذَا قَالَ لِلْقَارِئِ هَذَا يَحْكِي كَلَامَ اللَّهِ أَوْ يَحْكِي الْقُرْآنَ فَقَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِكَلَامِ يُحَاكِي بِهِ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا كُفْرٌ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ بَلَّغَهُ وَتَلَاهُ فَالْمَعْنَى صَحِيحٌ ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي تَعْبِيرُهُ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى بَاطِلٍ فَيَقُولُ : قَرَأَهُ وَتَلَاهُ وَبَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ ؛ وَلِهَذَا إذَا قِيلَ : يَحْكِي الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ وَيَرْوِيهَا وَيَنْقُلُهَا لَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا تَبْلِيغُهَا ؛ لَا أَنَّهُ يَأْتِي بِمِثْلِهَا .
فَصْلٌ :
إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ ، فَيُقَالُ : هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَقْرَؤُهُ وَنُبَلِّغُهُ وَنَسْمَعُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ وَنَزَلَ بِهِ مِنْهُ رُوحُ الْقُدُسِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } { إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي قَالُوا : إنَّمَا يُعَلِّمُهُ إيَّاهُ بَشَرٌ وَقَدْ أَبْطَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي يَمْتَنِعُ أَنْ يُعَلِّمَهُ إيَّاهُ ذَلِكَ الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي أَلْحَدُوا إلَيْهِ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ رَجُلٌ بِمَكَّةَ مَوْلًى لِابْنِ الْحَضْرَمِيّ وَالْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةُ لَا يَمْتَنِعُ تَعَلُّمُهَا مِنْ الْأَعْجَمِيِّ بِخِلَافِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ فَدَلَّ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَهَذَا الْكَلَامُ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا مَا اُخْتُصَّ قِيَامُهُ بِنَا ؛ مِنْ حَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا وَفَهْمِنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِنَا فَلَمْ يَقُمْ مِنْهُ شَيْءٌ بِذَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنَّ مَا اخْتَصَّ الرَّبُّ تَعَالَى بِقِيَامِهِ بِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ وَلَمْ يَقُمْ بِغَيْرِهِ لَا هُوَ وَلَا مِثْلُهُ : فَإِنَّ الْمَخْلُوقَ إذَا سَمِعَ مِنْ الْمَخْلُوقِ كَلَامَهُ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ كَانَ مَا بَلَّغَهُ هُوَ كَلَامَهُ كَمَا تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ } مَعَ أَنَّ مَا قَامَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَاطِنِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهِمَا وَبِظَاهِرِهِ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالصَّوْتِ وَغَيْرِهِمَا - لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ وَلَمْ يَقُمْ بِغَيْرِهِ ؛ بَلْ جَمِيعُ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ لَا تُفَارِقُ ذَوَاتِهِمْ وَتَنْتَقِلُ عَنْهُمْ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ صِفَةَ الْخَالِقِ فَارَقَتْ ذَاتَه فَانْتَقَلَتْ عَنْهُ ؟ وَالْمُتَعَلِّمُ إذَا أَخَذَ عِلْمَ الْمُعَلِّمِ وَنَقَلَهُ عَنْهُ لَمْ يُفَارِقْ ذَاتَ الْأَوَّلِ وَيَنْتَقِلْ عَنْهَا إلَى الثَّانِي ؛ بَلْ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ الْعِلْمِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ مِثْلَ مَا حَصَلَتْ لِمُعَلِّمِهِ أَوْ لَيْسَ مَثَلَهُ بَلْ يُشْبِهُهُ ؛ وَلِهَذَا يُشَبَّهُ الْعِلْمُ بِضَوْءِ السِّرَاجِ كُلُّ أَحَدٍ يَقْتَبِسُ مِنْهُ وَهُوَ لَمْ يَنْقُصْ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَوْقَدَ مِنْ مِصْبَاحِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى سِرَاجِهِ شَيْءٌ مِنْ جِرْمِ تِلْكَ النَّارِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهَا الْقَائِمَةِ بِهَا ؛ بَلْ جَعَلَ اللَّهُ بِسَبَبِ مُلَاصَقَةِ النَّارِ ذَلِكَ نَارًا مِثْلَ تِلْكَ
فَالْحَقِيقَةُ النَّارِيَّةُ مَوْجُودَةٌ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْعَيْنُ لَيْسَتْ تِلْكَ ؛ لَكِنَّ النَّارَ وَالْعِلْمَ لَيْسَ هُوَ مِثْلَ الْكَلَامِ الَّذِي يُبَلَّغُ عَنْ الْغَيْرِ ؛ بَلْ هُوَ مِثْلُ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ النَّاسِ كَلَامَ غَيْرِهِ وَشِعْرَ غَيْرِهِ فَيَقُولُ مِنْ جِنْسِ مَا قَالَ وَيَقُولُ كَمَا قَالَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ . كَمَا يُقَالُ : وَقْعُ الْخَاطِرِ عَلَى الْخَاطِرِ كَوَقْعِ الْحَافِرِ عَلَى الْحَافِرِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ التَّبْلِيغِ وَالرِّوَايَةِ فِي شَيْءٍ ( فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ :
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ هُوَ كَلَامُ لَبِيَدٍ
كَيْفَ مَا أَنْشَدَهُ النَّاسُ وَكَتَبُوهُ ؛ فَهَذَا الشِّعْرُ الَّذِي يُنْشِدُهُ هُوَ شِعْرُ لَبِيَدٍ بِعَيْنِهِ . فَإِذَا قِيلَ : الشِّعْرُ الَّذِي قَامَ بِنَا هُوَ الَّذِي قَامَ بلبيد . قِيلَ : إنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الشِّعْرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ إنْ أُرِيدَ أَنَّ نَفْسَ مَا قَامَ بِذَاتِهِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَيْنَا ؛ فَلَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ أُرِيدَ أَنَّ عَيْنَ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِذَلِكَ الشَّخْصِ كَحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ هِيَ عَيْنُ الصِّفَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِنَا كَحَرَكَتِنَا وَصَوْتِنَا فَلَيْسَ كَذَلِكَ ) (*) . فَقَوْلُك : هَذَا هُوَ هَذَا لَفْظٌ فِيهِ إجْمَالٌ يُبَيِّنُهُ السِّيَاقُ . فَإِذَا قُلْت : هَذَا الْكَلَامُ هُوَ ذَاكَ أَوْ هَذَا الشِّعْرُ هُوَ ذَاكَ كُنْت صَادِقًا . وَإِذَا قُلْت هَذَا الصَّوْتُ هُوَ ذَاكَ كَانَ كَذِبًا . وَالنَّاسُ لَا يَقْصِدُونَ إذَا قَالُوا : هَذَا شِعْرُ لَبِيَدٍ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَّحِدَ
وَهِيَ الْحَقِيقَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعَ قَصْرِ النَّظَرِ عَمَّا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا . فَإِنْ قِيلَ : الْقَدْرُ الْمُتَّحِدُ كُلِّيٌّ مُطْلَقٌ وَالْكُلِّيَّاتُ إنَّمَا تُوجَدُ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ . قِيلَ : ذِكْرُ هَذَا هُنَا غَلَطٌ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يُقَالُ لَوْ كَانَ رَجُلٌ قَدْ قَالَ شِعْرُ لَبِيَدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ بِشِعْرِهِ . فَنَقُولُ : هذان شَيْئَانِ اشْتَرَكَا فِي النَّوْعِ الْكُلِّيِّ وَامْتَازَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِمَا يَخُصُّهُ وَالْكُلِّيُّ إنَّمَا يُوجَدُ كُلِّيًّا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ وَأَمَّا هُنَا فَنَفْسُ شِعْرِهِ كَانَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْحَقِيقَةِ الْكَلَامِيَّةِ - مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صَوْتِ زَيْدٍ وَصَوْتِ عَمْرٍو - مَوْجُودٌ لَمَّا تَكَلَّمَ بِهِ لَبِيَدِ وَمَوْجُودٌ إذَا أَنْشَدَهُ غَيْرُ لَبِيَدٍ وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ الْمُتَّحِدَةُ مَوْجُودَةٌ هُنَا وَهُنَا ؛ لَيْسَتْ مِثْلَ وُجُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَخَالِدٍ ؛ فَإِنَّ إنْسَانِيَّةَ زَيْدٍ لَيْسَتْ إنْسَانِيَّةَ عَمْرٍو بَلْ مِثْلُهَا وَالْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا لَا يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ وَهُنَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لَبِيَدِ تَكَلَّمَ بِهِ الْمُنْشِدُ عَنْهُ وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ أَنْشَأَ مِثْلَهُ وَلَا أَنْشَدَ مِثْلَهُ بَلْ يُقَالُ : أَنْشَدَ شِعْرَهُ بِعَيْنِهِ . لَكِنَّ الشِّعْرَ عَرَضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِغَيْرِهِ ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ إمَّا بلبيد وَإِمَّا بِغَيْرِهِ وَالْقَائِمُ بِهِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِثْلَ الْقَائِمِ بِغَيْرِهِ ؛ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِمَا وَاحِدٌ . فَالتَّمَاثُلُ وَالتَّغَايُرُ فِي الْوَسِيلَةِ وَالِاتِّحَادُ فِي الْحَقِيقَةِ الْمَقْصُودَةِ وَتِلْكَ الْحَقِيقَةُ هِيَ إنْشَاءُ لَبِيَدٍ لَا إنْشَاءُ غَيْرِهِ وَالْعُقَلَاءُ
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ لَبِيَدٍ هُوَ نَفْسَ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْمُنْشِدِ ؛ لَكِنَّ نَفْسَ الْمَقْصُودِ بِالصَّوْتِ هُوَ الْكَلَامُ ؛ فَإِنَّ الصَّوْتَ وَاسِطَةٌ فِي تَبْلِيغِهِ ؛ وَلِهَذَا مَا كَانَ فِي الصَّوْتِ مِنْ مَدْحٍ وَذَمٍّ كَانَ لِلْمُبَلِّغِ وَمَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مِنْ مَدْحٍ وَذَمٍّ كَانَ لِلْمُتَكَلِّمِ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ فِي لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا : فَقَوْلُ الْقَائِلِ : هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ وَكَانَ صِفَةً لَهُ أَمْ لَا ؟ قِيلَ لَهُ : أَمَّا الْكَلَامُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُنَا وَلَا غَيْرُنَا وَهُوَ مَسْمُوعٌ مِنْ الْمُبَلِّغِ لَا مِنْ اللَّهِ - كَمَا تَقَدَّمَ - وَهُوَ مَسْمُوعٌ بِوَاسِطَةِ سَمَاعًا مُقَيَّدًا لَا سَمَاعًا مِنْ اللَّهِ مُطْلَقًا - كَمَا تَقَدَّمَ - وَلَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا قَامَ بِذَاتِهِ فَارَقَهُ وَانْتَقَلَ إلَيْنَا وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يَخْتَصُّ بِذَوَاتِنَا - كَحَرَكَاتِنَا وَأَصْوَاتِنَا فَهُوَ مِنَّا - قَائِمًا بِهِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي نَتْلُوهُ الْقَائِمُ بِنَا حِينَ التِّلَاوَةِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي قَامَ بِهِ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ ؟ فَلَفْظُ الْقِيَامِ فِيهِ إجْمَالٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ صِفَةِ الرَّبِّ تَكُونُ صِفَةً لِغَيْرِهِ أَوْ صِفَةُ الْعَبْدِ تَكُونُ صِفَةً لِلرَّبِّ فَلَيْسَ كَذَلِكَ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ مَا لَيْسَ بِمَخْلُوقِ صَارَ مَخْلُوفًا أَوْ مَا هُوَ مَخْلُوقٌ صَارَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَا اخْتَصَّ الرَّبُّ بِقِيَامِهِ بِهِ شَارَكَهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . وَإِنْ
أَرَادَ أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ - كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ - فَالْأَمْرُ كَذَلِكَ . وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْحَالَ إذَا سُمِعَ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ كَالْحَالِ إذَا سُمِعَ مِنْ خَلْقِهِ وَذَلِكَ فَرْقٌ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ وَاحِدًا . فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ ثَابِتًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ مَسْمُوعًا وَمُبَلَّغًا عَنْهُ فَثُبُوتُهُ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحْرَى فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَكَلُّمُهُ بِهِ وَسَمَاعُهُ مِمَّا يُعْرَفُ لَهُ نَظِيرٌ وَلَا مِثَالٌ وَلَا يُقَاسُ ذَلِكَ بِتَكَلُّمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْرِفَ صِفَاتِهِ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا مِثَالَ لَهُ وَهُوَ أَبْعَدُ عَنْ مُمَاثَلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ أَعْظَمُ مِنْ بُعْدِ مُمَاثَلَةِ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ عَنْ مُمَاثَلَةِ أَدْنَاهَا .
وَقَوْلُ السَّائِلِ : إذَا تَلَوْنَاهُ وَقَامَ بِنَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَتُهُ أَمْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلَامُ اللَّهِ دُونَ صِفَتِهِ ؟ أَمْ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَجِبُ بَيَانُهُ ؟ فَيُقَالُ : هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَصِفَتُهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ لَا مِنْهُ ؛ فَالنَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِدُونِ هَذَا التَّفْصِيلِ يُوهِمُ : إمَّا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ . بَلْ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَقَعَ فِي كَلَامِ طَائِفَتَيْنِ مِنْ النَّاسِ . طَائِفَةٌ جَعَلَتْ هَذَا كَلَامَ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ ؛ لَا كَلَامَ
اللَّهِ . وَطَائِفَةٌ قَالَتْ : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ وَلَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ الْحَالَيْنِ ؛ حَتَّى ادَّعَى بَعْضُهَا أَنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ قَدِيمٌ وَتِلْكَ لَمْ تَجْعَلْهُ كَلَامَ اللَّهِ ؛ بَلْ كَلَامَ النَّاسِ . فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : لَيْسَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ : هَذَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ قَدِيمٌ . وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَضَلَالٌ ؛ لَكِنْ هُوَ كَلَامُهُ مُقَيَّدًا بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ الْقَارِئِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَهُ وَصِفَتَهُ مُطْلَقًا عَنْ التَّقْيِيدِ مَسْمُوعًا مِنْهُ وَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ يُضَافُ إلَيْهِ مُطْلَقًا إذَا سُمِعَ مِنْهُ وَمُقَيَّدًا إذَا سُمِعَ مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ كَمَا أَنَّ رُؤْيَتَهُ يُقَالُ : مُطْلَقَةٌ إذَا رُئِيَ مُبَاشَرَةً . وَيُقَالُ : مُقَيَّدَةٌ إذَا رُئِيَ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : إذَا قَامَ بِنَا هَلْ كَانَ مُنْتَقِلًا عَنْ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَامَ بِهِ أَمْ يَكُونُ قَائِمًا بِنَا وَبِهِ مَعًا ؟ أَمْ الَّذِي قَامَ بِنَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْهُ ؟ وَيَكُونُ إطْلَاقُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجَازًا ؟ فَيُقَالُ : إنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ لَا تُفَارِقُ ذَاتَه وَتَنْتَقِلُ عَنْهُ وَتَقُومُ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ صِفَةَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ فَارَقَتْ ذَاتَه وَانْتَقَلَتْ عَنْهُ وَقَامَتْ بِغَيْرِهِ . وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مِنَّا إذَا أَرْسَلَ غَيْرَهُ بِكَلَامِ فَإِنَّهُ مَا قَامَ بِهِ ؛ بَلْ لَمْ يُفَارِقْ ذَاتَه وَيَنْتَقِلْ إلَى غَيْرِهِ ؛ فَكَلَامُ اللَّهِ أَوْلَى وَأَحْرَى ؛ بَلْ كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ قَائِمٌ بِهِ كَمَا يَقُومُ بِهِ لَوْ تَكَلَّمَ بِهِ وَلَمْ يُرْسِلْ بِهِ رَسُولًا فَإِرْسَالُهُ رَسُولًا بِهِ يُفِيدُ إبْلَاغَهُ إلَى الْخَلْقِ . وَإِنْزَالَهُ إلَيْهِمْ
لَا يُوجِبُ نَقْصًا فِي حَقِّ الرَّبِّ وَلَا زَوَالَ اتِّصَافِهِ بِهِ وَلَا خُرُوجَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامَهُ ؛ بَلْ نَعْلَمُ أَنَّ الرَّبَّ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَلَا يُرْسِلُ بِهِ رَسُولًا قَدْ يَتَكَلَّمُ بِهِ وَيُرْسِلُ بِهِ رَسُولًا فَهُوَ فِي الْحَالَيْنِ كَلَامُهُ - سُبْحَانَهُ - ؛ بَلْ إرْسَالُ الرَّسُولِ بِهِ نَفْعُ الْخَلْقِ وَهُدَاهُمْ وَلَمْ يَجِبْ بِهِ نُقْصَانُ صِفَةِ مَوْلَاهُمْ . وَقَوْلُهُ : أَمْ يَكُونُ قَائِمًا بِنَا وَبِهِ ؟ فَيُقَالُ : مَعْنَى الْقَائِمِ لَفْظٌ مُجْمَلٌ ؛ فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ تَكَلَّمَ هُوَ بِهِ وَتَكَلَّمْنَا بِهِ مُبَلِّغِينَ لَهُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ هُوَ . وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ يَقُومُ بِنَا أَوْ مَا اخْتَصَّ بِنَا يَقُومُ بِهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ . وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقِيَامِ أَنَّا بَلَّغْنَا كَلَامَهُ أَوْ قَرَأْنَا كَلَامَهُ أَوْ تَلَوْنَا كَلَامَهُ فَهَذَا صَحِيحٌ . فَكَذَلِكَ إنْ أُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ كَلَامُهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ لَا مِنْهُ . وَإِنْ أُرِيدَ بِالْقِيَامِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ هُوَ بِعَيْنِهِ قَامَ بِغَيْرِهِ مُخْتَصًّا بِهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ . وَإِنْ قِيلَ : الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ تَقُومُ بِمَوْضِعَيْنِ . قِيلَ : هَذَا أَيْضًا مُجْمَلٌ ؛ فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الشَّيْءَ الْمُخْتَصَّ بِمَحَلِّ يَقُومُ بِمَحَلِّ آخَرَ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يُسَمَّى صِفَةً وَاحِدَةً يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَيُبَلِّغُهُ عَنْهُ غَيْرُهُ كَانَ هَذَا صَحِيحًا . فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ يَجِبُ أَنْ تُفَسَّرَ الْأَلْفَاظُ الْمُجْمَلَةُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُفَسِّرَةِ الْمُبَيِّنَةِ وَكُلُّ لَفْظٍ يَحْتَمِلُ حَقًّا وَبَاطِلًا فَلَا يُطْلَقُ إلَّا مُبَيَّنًا بِهِ الْمُرَادُ الْحَقُّ دُونَ
الْبَاطِلِ فَقَدْ قِيلَ أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ . وَكَثِيرٌ مِنْ نِزَاعِ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ مِنْ جِهَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا هَذَا مَعْنًى يُثْبِتُهُ وَيُفْهَمُ مِنْهَا الْآخَرُ مَعْنًى يَنْفِيهِ . ثُمَّ الْنُّفَاةِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَالْمُثْبِتَةُ يَجْمَعُونَ بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَمْ الَّذِي يَقُومُ بِنَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ حِكَايَةً عَنْهُ وَيَكُونُ إطْلَاقُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَجَازًا ؟ فَيُقَالُ : الْعِبَارَةُ عَنْ كَلَامِ الْغَيْبِ يُقَالُ لِمَنْ فِي نَفْسِهِ مَعْنَى ثُمَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ غَيْرُهُ كَمَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي نَفْسِ الْأَخْرَسِ مَنْ فَهِمَ مُرَادَهُ وَاَلَّذِينَ قَالُوا : " الْقُرْآنُ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ " قَصَدُوا هَذَا وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ بَلْ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ ؛ وَجِبْرِيلُ بَلَّغَهُ عَنْهُ . وَأَمَّا " الْحِكَايَةُ " فَيُرَادُ بِهَا مَا يُمَاثِلُ الشَّيْءَ كَمَا يُقَالُ : هَذَا يُحَاكِي فُلَانًا إذَا كَانَ يَأْتِي بِمِثْلِ قَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ وَهَذَا مُمْتَنِعٌ فِي الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ الْآيَةَ . وَقَدْ يُقَالُ فُلَانٌ حَكَى فُلَانٌ عَنْهُ أَيْ بَلَّغَهُ عَنْهُ وَنَقَلَهُ عَنْهُ وَيَجِيءُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ وَيُقَالُ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَى عَنْ رَبِّهِ وَحَكَى عَنْ رَبِّهِ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّهُ حَكَى عَنْ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ بَلَّغَ عَنْ اللَّهِ فَهَذَا صَحِيحٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَلْ يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَجَازًا ؟ فَيُقَالُ : عَلَامَةُ الْمَجَازِ صِحَّةُ نَفْيِهِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ فُلَانًا لَوْ قَالَ بِحَضْرَةِ الرَّسُولِ لَيْسَ هَذَا كَلَامَ اللَّهِ لَكَانَ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ . وَأَيْضًا : فَهَذَا مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ أَنَّهُ يُقَالُ هَذَا كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ لَا كَلَامُ الْمُبَلِّغِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
مَا تَقُولُ السَّادَةُ أَئِمَّةُ الدِّينِ :
فِي رَجُلَيْنِ قَالَ أَحَدَهُمَا : الْقُرْآنُ الْمَسْمُوعُ كَلَامُ اللَّهِ . وَقَالَ الْآخَرُ : هُوَ كَلَامُ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } فَهَلْ أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ ؟ وَمَا الْجَوَابُ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ ؟ وَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ أَحَدٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَالْأَئِمَّةِ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ ؟ .
فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ بَلْ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ كَلَامَ جِبْرِيلَ . وَلَا كَلَامَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ وَسَمِعَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ جِبْرِيلَ كَمَا قَالَ تَعَالَى { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } . وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } فَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } فَإِنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِكَوْنِهِ أَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا وَابْتَدَأَهُ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي إحْدَى الْآيَتَيْنِ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ . وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ ؛ فَلَوْ كَانَتْ إضَافَتُهُ إلَى أَحَدِهِمَا لِكَوْنِهِ أَلَّفَ النَّظْمَ الْعَرَبِيَّ وَأَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ تَنَاقَضَ الْكَلَامُ . فَإِنَّهُ إنْ كَانَ نَظَمَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَكُنْ نَظَمَ الْآخَرَ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ : { لَقَوْلُ رَسُولٍ } وَلَمْ يَقُلْ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ وَلَفْظُ الرَّسُولِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَا أَنَّهُ أَنْشَأَ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } ضَمِيرٌ يَعُودُ إلَى الْقُرْآنِ
وَالْقُرْآنُ يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَهُ وَلَفْظَهُ وَمَجْمُوعُ هَذَا لَيْسَ قَوْلًا لِغَيْرِ اللَّهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ جِبْرِيلَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَخْلُوقِينَ كُفْرٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ عَظَّمَ اللَّهُ الْإِنْكَارَ عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ فَقَالَ تَعَالَى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ نَظَرَ } { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } { فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ مَلَكٍ ؛ وَإِنَّمَا يَقُولُ إنَّهُ قَوْلُ جِبْرِيلَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ : إمَّا رَجُلٌ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ . الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ فَيْضٌ فَاضَ عَلَى نَفْسِ النَّبِيِّ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَيَقُولُونَ : إنَّهُ جِبْرِيلُ . وَيَقُولُونَ : إنَّ جِبْرِيلَ هُوَ الْخَيَالُ الَّذِي يَتَمَثَّلُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . يَقُولُونَ : إنَّهُ تَلَقَّاهُ مَعَانٍ مُجَرَّدَةً ثُمَّ إنَّهُ تَشَكَّلَ فِي نَفْسِهِ حُرُوفًا كَمَا يَتَشَكَّلُ فِي نَفْسِ النَّائِمِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ عَرَبِيٍّ صَاحِبُ " الْفُصُوصِ " وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ ؛ وَلِهَذَا يَدَّعِي أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْمَعْدِنِ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَلَكُ الَّذِي يُوحِي بِهِ إلَى الرَّسُولِ فَإِنَّ " الْمَعْدِنَ " عِنْدَهُ هُوَ الْعَقْلُ وَ " الْمَلَكُ " هُوَ الْخَيَالُ الَّذِي فِي نَفْسِهِ وَالنَّبِيُّ عِنْدَهُمْ يَأْخُذُ مِنْ هَذَا الْخَيَالِ .
وَهَذَا الْكَلَامُ مَنْ أَظْهَرِ الْكُفْرِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ . أَوْ رَجُلٌ يَنْتَسِبُ إلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْأَشْعَرِيِّ ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ عِنْدَهُ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ : هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ ؛ إنْ عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ ابْنِ كُلَّابٍ والقلانسي وَالْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوِهِمْ فَلَمْ يَقُولُوا : إنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ جِبْرِيلَ وَمَنْ حَكَى هَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ فَهُوَ مُجَازِفٌ وَإِنَّمَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ - كَمَا قَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى - إنَّهُ نَظْمُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ مَخْلُوقٌ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ مَخْلُوقًا فَقَدْ يَكُونُ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ فِي جِسْمٍ ؛ لَكِنَّ الْقَوْلَ إذَا كَانَ ضَعِيفًا ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي لَوَازِمِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَصْحَابِهِمْ الَّذِينَ يُفْتَى بِقَوْلِهِمْ : بَلْ كَانَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الإسفراييني يَقُولُ : مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَسَائِر عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْقُرْآنِ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِي - وَالِدُ أَبِي
الْمَعَالِي - قَالَ : مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِي الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ وَعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ فَسَادَ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عُرِّبَتْ لَمْ تَكُنْ هِيَ الْقُرْآنَ وَنَعْلَمُ أَنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَيْسَتْ هِيَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ فَرَّقَ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى وَإِيحَائِهِ إلَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَفَرَّقَ بَيْنَ التَّكْلِيمِ الَّذِي حَصَلَ لِمُوسَى وَبَيْنَ الْإِيحَاءِ الْمُشْتَرَكِ وَمُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى . { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا } . وَالرَّسُولُ إذَا بَلَّغَهُ إلَى النَّاسِ وَبَلَّغَهُ النَّاسُ عَنْهُ كَانَ مَسْمُوعًا سَمَاعًا مُقَيَّدًا بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } فَهُوَ مَسْمُوعٌ مُبَلَّغٌ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمَخْلُوقِ ؛ بِخِلَافِ سَمَاعِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَسْمَعُ كَلَامَ الرَّسُولِ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ كَالسَّمَاعِ مِنْهُ فَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ .
وَلِهَذَا اتَّفَقَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَلَا مِدَادَ الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُثْبَتَ بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } فَالْكَلَامُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْأَصْوَاتُ الَّتِي يَقْرَءُونَ بِهَا أَصْوَاتُهُمْ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءَ الْجَهَابِذَةُ - أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فِيمَنْ يَقُولُ : الْكَلَامُ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْقَائِلِ وَالْقُرْآنُ وَالْمَقْرُوءُ وَالْقَارِئُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَهُ مَعْنًى ؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا ؛ لِيَصِلَ إلَى ذِهْنِ الْحَاذِقِ وَالْبَلِيدِ أَثَابَكُمْ اللَّهُ بِمَنِّهِ .
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَنْ قَالَ : إنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْقَوْلَ غَيْرُ الْقَائِلِ وَأَرَادَ أَنَّهُ مُبَايِنٌ لَهُ وَمُنْفَصِلٌ عَنْهُ فَهَذَا خَطَأٌ وَضَلَالٌ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ لَا الْقُرْآنُ وَلَا غَيْرُهُ وَيُوهِمُونَ النَّاسَ بِقَوْلِهِمْ الْعِلْمُ غَيْرُ الْعَالِمِ وَالْقُدْرَةُ غَيْرُ الْقَادِرِ وَالْكَلَامُ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ ثُمَّ يَقُولُونَ : وَمَا كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَهَذَا تَلْبِيسٌ مِنْهُمْ . فَإِنَّ لَفْظَ " الْغَيْرِ " يُرَادُ بِهِ مَا يَجُوزُ مُبَايَنَتُهُ لِلْآخَرِ وَمُفَارَقَتُهُ لَهُ وَعَلَى هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عِلْمُ اللَّهِ غَيْرُهُ وَلَا يُقَالُ إنَّ الْوَاحِدَ
مِنْ الْعَشَرَةِ غَيْرُهَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَقَدْ يُرَادُ بِلَفْظِ " الْغَيْرِ " مَا لَيْسَ هُوَ الْآخَرَ وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الصِّفَةُ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ لَكِنْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَكُونُ مَا هُوَ غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ الْمَوْصُوفَةِ بِصِفَاتِهِ مَخْلُوقًا ؛ لِأَنَّ صِفَاتِهِ لَيْسَتْ هِيَ الذَّاتَ ؛ لَكِنْ قَائِمَةٌ بِالذَّاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الذَّاتُ الْمُقَدَّسَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِصِفَاتِ كَمَالِهِ وَلَيْسَ الِاسْمُ اسْمًا لِذَاتِ لَا صِفَاتِ لَهَا ؛ بَلْ يَمْتَنِعُ وُجُودُ ذَاتٍ لَا صِفَاتِ لَهَا . وَالصَّوَابُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ : الْكَلَامُ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْقَوْلُ صِفَةُ الْقَائِلِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ باينا مِنْهُ ؛ بَلْ أَسْمَعَهُ لِجِبْرِيلَ وَنَزَلَ بِهِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ . بَلْ يُقَالُ كَمَا قَالَ السَّلَفُ : إنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . فَقَوْلُهُمْ : " مِنْهُ بَدَأَ " رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ وَمِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ ابْتَدَأَ . فَبَيَّنُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ " مِنْهُ بَدَأَ " لَا مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ " وَإِلَيْهِ يَعُودُ " أَيْ فَلَا يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ حَرْفٌ وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ اللَّهِ فَخَطَؤُهُ وَتَلْبِيسُهُ كَخَطَأِ مَنْ قَالَ إنَّ الْكَلَامَ غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ
اللَّهِ لَهُ مَقْرُوءٌ غَيْرُ الْقُرْآنِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ فَخَطَؤُهُ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ فَقَدْ أَخْطَأَ . وَإِنْ أَرَادَ بِ " الْقُرْآنِ " مَصْدَرَ قَرَأَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا وَقَالَ : أَرَدْت أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ الْمَقْرُوءِ ؛ فَلَفْظُ الْقِرَاءَةِ مُجْمَلٌ قَدْ يُرَادُ بِالْقِرَاءَةِ الْقُرْآنُ وَقَدْ يُرَادُ بِالْقِرَاءَةِ الْمَصْدَرُ فَمَنْ جَعَلَ " الْقِرَاءَةَ " الَّتِي هِيَ الْمَصْدَرُ غَيْرَ الْمَقْرُوءِ كَمَا يُجْعَلُ التَّكَلُّمُ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ غَيْرَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ يَقُولُهُ وَأَرَادَ بِالْغَيْرِ أَنَّهُ لَيْسَ هُوَ إيَّاهُ فَقَدْ صَدَقَ فَإِنَّ الْكَلَامَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ الْإِنْسَانُ يَتَضَمَّنُ فِعْلًا كَالْحَرَكَةِ وَيَتَضَمَّنُ مَا يَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي ؛ وَلِهَذَا يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَسِيمًا لِلْفِعْلِ تَارَةً وَقِسْمًا مِنْهُ أُخْرَى . فَالْأَوَّلُ كَمَا يَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ } " وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } " . وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ . وَأَمَّا دُخُولُ الْقَوْلِ فِي الْعَمَلِ فَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } { عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } . أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَدْ فَسَّرُوهُ بِقَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَمَّا
{ سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ } مَعَ قَوْلِهِ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } وَنَظَائِرُ ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ . وَقَدْ تُنُوزِعَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَعْمَلُ عَمَلًا إذَا قَالَ قَوْلًا كَالْقِرَاءَةِ وَنَحْوِهَا هَلْ يَحْنَثُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا . فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الَّتِي فِيهَا إجْمَالٌ وَاشْتِبَاهٌ إذَا فُصِّلَتْ مَعَانِيهَا . وَإِلَّا وَقَعَ فِيهَا نِزَاعٌ وَاضْطِرَابٌ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
هَلْ نَفْسُ الْمُصْحَفِ هُوَ نَفْسُ الْقُرْآنِ أَمْ كِتَابَتُهُ ؟ وَمَا فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ هَلْ هُوَ نَفْسُ الْقُرْآنِ أَوْ حِفْظُهُ ؟ .
فَأَجَابَ : الْوَاجِبُ أَنْ يُطْلِقَ مَا أَطْلَقَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } وَقَوْلِهِ : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } { لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ } وَقَوْلِهِ : { وَالطُّورِ } { وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ } { فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ } وَقَوْلِهِ : { يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } وقَوْله تَعَالَى { كَلَّا إنَّهَا تَذْكِرَةٌ } { فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ } { مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } . وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُسَافِرُ بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ } وَقَوْلُهُ : { اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عُقُلِهَا } وَكِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَوْلُهُ : { الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
فَمَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ فَقَدْ صَدَقَ وَمَنْ قَالَ : فِيهَا حِفْظُهُ وَكِتَابَتُهُ فَقَدْ صَدَقَ وَمَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ فَقَدْ صَدَقَ وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْمِدَادَ أَوْ الْوَرَقَ أَوْ صِفَةَ الْعَبْدِ أَوْ فِعْلَهُ أَوْ حِفْظَهُ وَصَوْتَهُ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَمَنْ قَالَ : إنَّ مَا فِي الْمُصْحَفِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ مَا فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ الْعَزِيزَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ اللَّهُ وَلَكِنْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ صَنَّفَهُ جِبْرِيلُ أَوْ مُحَمَّدٌ وَقَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَهُوَ أَيْضًا مُخْطِئٌ ضَالٌّ . فَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامٌ وَالْكَلَامُ نَفْسُهُ يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ . بِخِلَافِ الْأَعْيَانِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُكْتَبُ اسْمُهَا وَذِكْرُهَا فَالرَّسُولُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ذِكْرُهُ وَنَعْتُهُ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ وَكَمَا أَنَّ أَعْمَالَنَا فِي الزُّبُرِ . قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } وَمُحَمَّدٌ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ وَكَمَا أَنَّ أَعْمَالَنَا فِي الْكُتُبِ وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ نَفْسُهُ مَكْتُوبٌ فِي الْمَصَاحِفِ لَيْسَ الْمَكْتُوبُ ذِكْرُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ كَمَا يُكْتَبُ اسْمُ اللَّهِ فِي الْوَرَقِ وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كِتَابَةِ الْأَسْمَاءِ وَالْكَلَامِ وَكِتَابَةِ الْمُسَمَّيَاتِ وَالْأَعْيَانِ - كَمَا جَرَى لِطَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ - فَقَدْ غَلِطَ غَلَطًا سَوَّى فِيهِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا قَدْ
يَجْعَلُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْحَقَائِقَ الْمُخْتَلِفَةَ شَيْئًا وَاحِدًا كَمَا قَدْ جَعَلُوا جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ مَعْنًى وَاحِدًا . وَكَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ يُسْمَعُ تَارَةً مِنْهُ وَتَارَةً مِنْ الْمُبَلِّغِ . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ } فَهَذَا الْكَلَامُ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ؛ فَلَفْظُهُ لَفْظُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الرَّسُولِ . فَإِذَا بَلَّغَهُ الْمُبَلِّغُ عَنْهُ بَلَّغَ كَلَامَ الرَّسُولِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ؛ وَلَكِنَّ صَوْتَ الصَّحَابِيِّ الْمُبَلِّغِ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ سَمِعَهُ مِنْهُ جِبْرِيلُ وَبَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ إلَى مُحَمَّدٍ ؛ وَمُحَمَّدٌ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَبَلَّغَهُ إلَى أُمَّتِهِ فَهُوَ كَلَامُ اللَّه حَيْثُ سُمِعَ وَكُتِبَ وَقُرِئَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } . وَكَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِنَفْسِهِ تَكَلَّمَ بِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ لَيْسَ مَخْلُوقًا بَائِنًا عَنْهُ . بَلْ هُوَ قَائِمٌ بِذَاتِهِ مَعَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ لَيْسَ قَائِمًا بِدُونِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ .
وَالسَّلَفُ قَالُوا : لَمْ يَزَلْ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ . فَإِذَا قِيلَ : كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُتَكَلِّمًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا وَلَا كَلَامُهُ مَخْلُوقٌ وَلَا مَعْنًى وَاحِدٌ قَدِيمٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ ؛ بَلْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّ نَفْسَ الْكَلَامِ الْمُعَيَّنِ قَدِيمًا . وَكَانُوا يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ وَلَا قَالُوا : إنَّ كَلَامَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَلَا قَالُوا : إنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ أَوْ حُرُوفَهُ وَأَصْوَاتَهُ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْحُرُوفِ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِهَا إذَا شَاءَ ؛ بَلْ قَالُوا : إنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْحُرُوفَ . وَكَانَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . يَقُولُونَ : مَنْ قَالَ هُوَ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ؛ فَإِنَّ " اللَّفْظَ " يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَيُرَادُ بِاللَّفْظِ الْمَلْفُوظُ بِهِ وَهُوَ نَفْسُ الْحُرُوفِ الْمَنْطُوقَةِ وَأَمَّا أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَمِدَادُ الْمَصَاحِفِ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ فِي أَنَّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ صَوْتَ الْقَارِئِ صَوْتُ الْعَبْدِ وَكَذَلِكَ غَيْرُ أَحْمَد مِنْ الْأَئِمَّةِ . وَقَالَ أَحْمَد : مَنْ
قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ يُرِيدُ بِهِ الْقُرْآنَ فَهُوَ جهمي فَالْإِنْسَانُ وَجَمِيعُ صِفَاتِهِ مَخْلُوقٌ حَرَكَاتُهُ وَأَفْعَالُهُ وَأَصْوَاتُهُ مَخْلُوقَةٌ وَجَمِيعُ صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ ؛ فَمَنْ قَالَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْعَبْدِ إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ قَدِيمَةٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ وَمَنْ قَالَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ كَلَام اللَّهِ أَوْ صِفَاتِهِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ مُخْطِئٌ ضَالٌّ . وَأَمَّا أَصْوَاتُ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَالْمِدَادِ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ يَتَوَقَّفُ فِي ذَلِكَ ؛ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ أَنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَالْمِدَادَ كُلَّهُ مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ الَّذِي يُكْتَبُ بِالْمِدَادِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا وَذُكِرَ أَقْوَالُ النَّاسِ وَاضْطِرَابُهُمْ فِيهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ .
وَقَالَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
وَالْقُرْآنُ الَّذِي بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ مُتَوَاتِرٌ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَصَاحِفَ الْمَكْتُوبَةَ اتَّفَقَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ وَنَقَلُوهَا قُرْآنًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ عَهْدِ الصَّحَابَةِ نَعْلَمُ عِلْمًا ضَرُورِيًّا أَنَّهَا مَا غُيِّرَتْ وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ عَنْ السَّلَفِ الْمُوَافِقَةُ لِلْمُصْحَفِ تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهَا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَلَا فَرْقَ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ بَيْنَ قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَخَلْفٍ وَبَيْنَ قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عَمْرٍو وَنُعَيْمٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا إنَّ الْقِرَاءَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ : إنَّمَا جَمَعَ قِرَاءَاتِهِمْ أَبُو بَكْرٍ ابْنُ مُجَاهِدٍ بُعْدَ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ وَقَصَدَ أَنْ يَنْتَخِبَ قِرَاءَةَ سَبْعَةٍ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ وَلَمْ يَقُلْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّ مَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ السَّبْعَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا إنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ } أُرِيدَ بِهِ قِرَاءَةُ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ ؛ وَلَكِنَّ
هَذِهِ السَّبْعَةَ اُشْتُهِرَتْ فِي أَمْصَارٍ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهَا كَأَرْضِ الْمَغْرِب . فَأُولَئِكَ لَا يَقْرَءُونَ بِغَيْرِهَا ؛ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِمْ بِاشْتِهَارِ غَيْرِهَا . فَأَمَّا مَنْ اشْتَهَرَتْ عِنْدَهُمْ هَذِهِ كَمَا اشْتَهَرَ غَيْرُهَا . مِثْلُ أَرْضِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا فَلَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوا بِهَذَا وَهَذَا وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ مِثْلُ مَا خَرَجَ عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ : الْحَيُّ الْقَيَّامُ وَصِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ وَ إنْ كَانَتْ الأزقية وَاحِدَةً وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَأَمْثَالِ ذَلِكَ . فَهَذِهِ إذَا قُرِئَ بِهَا فِي الصَّلَاةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد . " أَحَدُهُمَا " تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ قَرَءُوا بِهَا كَانُوا يَقْرَءُونَهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ . " وَالثَّانِي " لَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَتَوَاتَرْ إلَيْنَا وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَلْ يُقَالُ : إنَّهَا كَانَتْ قُرْآنًا فَنُسِخَ وَلَمْ يُعْرَفْ مَنْ قَرَأَ بِالنَّاسِخِ ؟ أَوْ لَمْ تُنْسَخْ وَلَكِنْ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِهَا جَائِزَةً لِمَنْ ثَبَتَتْ عِنْدَهُ دُونَ مَنْ لَمْ تَثْبُتْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ بِقِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبَ وَنَحْوِهِمَا : فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ ؛ وَلَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْمَغَارِبَةِ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ كَلَامًا وَافَقَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّة - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
وَأَمَّا " الْحُرُوفُ " هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ؟ فَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْخَلَفِ مَشْهُورٌ فَأَمَّا السَّلَفُ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظَهُ وَتِلَاوَتَهُ مَخْلُوقَةٌ وَلَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّ أَلْفَاظَنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ . وَقَالُوا : هُوَ جهمي . وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَهُ وَفِي لَفْظِ بَعْضِهِمْ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ وَلَفْظِ بَعْضِهِمْ الْحُرُوفُ . وَمِمَّنْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو الْوَلِيدِ الْجَارُودِيَّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه والحميدي وَمُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطوسي وَهِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ وَأَحْمَد بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ . وَمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى نُصُوصِ كَلَامِهِمْ فَلْيُطَالِعْ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي السُّنَّةِ ؛ مِثْلَ " الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة " لِلْإِمَامِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَكِتَابِ " الشَّرِيعَةِ " للآجري وَ " الْإِبَانَةِ " لِابْنِ بَطَّةَ وَ " السُّنَّةِ " للالكائي وَ " السُّنَّةِ " للطبراني ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُتُبِ الْكَثِيرَةِ وَلَمْ يُنْسَبْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى خِلَافِ ذَلِكَ إلَّا بَعْضُ أَهْلِ الْغَرَضِ نَسَبَ الْبُخَارِيَّ إلَى أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ بِالْإِسْنَادِ الْمَرَضِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَالَ عَنِّي أَنِّي قُلْت لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَذَبَ . وَتَرَاجِمُهُ فِي آخِرِ صَحِيحِهِ تُبَيِّنُ ذَلِكَ . وَهُنَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : " أَحَدُهَا " حُرُوفُ الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ لَفْظُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهَا جِبْرِيلُ وَبَعْدَ مَا نَزَلَ بِهَا فَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ مَخْلُوقَةٌ فَقَدْ خَالَفَ إجْمَاعَ السَّلَفِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِهِمْ مَنْ يَقُولُ هَذَا إلَّا الَّذِينَ قَالُوا . إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ أُولَئِكَ قَالُوا بِالْخَلْقِ لِلْأَلْفَاظِ ؛ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِثُبُوتِهِ لَا مَخْلُوقًا وَلَا غَيْرَ مَخْلُوقٍ وَقَدْ اعْتَرَفَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ فُحُولِ أَهْلِ الْكَلَامِ بِهَذَا : مِنْهُمْ عَبْدُ الْكَرِيمِ الشَّهْرَستَانِي مَعَ خِبْرَتِهِ بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ السَّلَفَ مُطْلَقًا ذَهَبُوا إلَى أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَقَالَ : ظُهُورُ الْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْقُرْآنِ مُحْدَثٌ وَقَرَّرَ مَذْهَبَ السَّلَفِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِ " نِهَايَةِ الْكَلَامِ " . " الثَّانِي " أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَهِيَ حَرَكَاتُهُمْ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَيْهَا التِّلَاوَةُ . فَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوفَةٌ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّهُ بَدَّعَ
أَكْثَرَهُمْ مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَدْخُلُ فِيهِ فِعْلُهُ . " الثَّالِثُ " التِّلَاوَةُ الظَّاهِرَةُ مِنْ الْعَبْدِ عَقِيبَ حَرَكَةِ الْآيَةِ فَهَذِهِ مِنْهُمْ مَنْ يَصِفُهَا بِالْخَلْقِ وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ - فِيمَا بَلَغَنَا - حُسَيْنٌ الكرابيسي وَتِلْمِيذُهُ دَاوُد الأصبهاني وَطَائِفَةٌ ؛ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَالُوا فِيهِمْ كَلَامًا غَلِيظًا وَجُمْهُورُهُمْ - وَهُمْ اللَّفْظِيَّةُ عِنْدَ السَّلَفِ - الَّذِينَ يَقُولُونَ : لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ الْقُرْآنُ بِأَلْفَاظِنَا مَخْلُوقٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَعَارَضَهُمْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرُونَ فَقَالُوا : لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَطَبَقَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : أَنَّ مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُطْلَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَمَا عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَجُمْهُورُ السَّلَفِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِطْلَاقَيْنِ يَقْتَضِي إيهَامًا لِخَطَأِ ؛ فَإِنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ مُحْدَثَةٌ بِلَا شَكٍّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَنْ نَصَرَ السُّنَّةَ يَنْفِي الْخَلْقَ عَنْ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْعَبْدِ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ الْمُبَلَّغِ . فَإِنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَعَابُوهُ جَرْيًا عَلَى مِنْهَاجِ أَحْمَد
وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } . وَأَمَّا التِّلَاوَةُ فِي نَفْسِهَا الَّتِي هِيَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَأَلْفَاظُهُ فَهِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَالْعَبْدُ إنَّمَا يَقْرَأُ كَلَامَ اللَّهِ بِصَوْتِهِ كَمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } فَهَذَا الْكَلَامُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ إنَّمَا هُوَ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَدْ بَلَّغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ كَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لَيْسَ لِلْمَخْلُوقِ فِيهِ إلَّا تَبْلِيغُهُ وَتَأْدِيَتُهُ وَصَوْتُهُ وَمَا يَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ الْفَرْقُ بَيْنَ التِّلَاوَةِ فِي نَفْسِهَا ؛ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا الْخَلْقُ وَبَعْدَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِهَا وَبَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مِنْ عَمَلٍ وَكَسْبٍ وَإِنَّمَا غَلِطَ بَعْضُ الْمُوَافِقِينَ وَالْمُخَالِفِينَ فَجَعَلُوا الْبَابَيْنِ بَابًا وَاحِدًا وَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى نَفْسِ حُدُوثِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ بِمَا دَلَّ عَلَى حُدُوثِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَمَا تَوَلَّدَ عَنْهَا وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْغَلَطِ وَلَيْسَ فِي الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَا السَّمْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِ نَفْسِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ إلَّا مِنْ جِنْسِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى حُدُوثِ مَعَانِيهِ . وَالْجَوَابُ عَنْ الْحُجَجِ مِثْلُ الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ لِمَنْ اسْتَهْدَى اللَّهَ فَهَدَاهُ . وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا : فَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ الْإِقْرَارُ وَالْإِمْرَارُ . قَالَ
أَبُو سُلَيْمَانَ الخطابي وَأَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ : مَذْهَبُ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ إجْرَاؤُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا . وَقَالَا فِي ذَلِكَ : إنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوَهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالَهُ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ ذَاتِهِ إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ كَيْفِيَّةٍ : فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ صِفَاتِهِ إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ كَيْفِيَّةٍ فَلَا نَقُولُ : إنَّ مَعْنَى الْيَدِ الْقُدْرَةُ وَلَا إنَّ مَعْنَى السَّمْعِ الْعِلْمُ هَذَا كَلَامُهُمَا . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إذَا قَالَ لَك الجهمي : كَيْفَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ؟ فَقُلْ لَهُ : كَيْفَ هُوَ فِي نَفْسِهِ ؟ فَإِنْ قَالَ : نَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَاتِهِ . فَقُلْ : وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِ وَكَيْفَ نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفَةٍ وَلَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ مَوْصُوفِهَا . وَمَنْ فَهِمَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُدُوثِ مُجَانِسٌ لِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ فَقَدْ شَبَّهَ وَعَطَّلَ ؛ بَلْ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُوصَفَ اللَّهُ إلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ لَا نَتَجَاوَزُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ . وَأَنْ نَعْلَمَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي نَفْسِهِ وَلَا فِي أَوْصَافِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ وَأَنَّ الْخَلْقَ لَا تُطِيقُ عُقُولُهُمْ كُنْهَ مَعْرِفَتِهِ وَلَا تَقْدِرُ أَلْسِنَتُهُمْ عَلَى بُلُوغِ صِفَتِهِ { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } { وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } { وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَمَّنْ يَقُولُ : إنَّ الشَّكْلَ وَالنَّقْطَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهَلْ ذَلِكَ حَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ ؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي الْأَحْرُفِ ؟ هَلْ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ أَمْ لَا ؟ بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الْمَصَاحِفُ الَّتِي كَتَبَهَا الصَّحَابَةُ لَمْ يُشَكِّلُوا حُرُوفًا وَلَمْ يُنَقِّطُوهَا ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا لَا يَلْحَنُونَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ لَمَّا نَشَأَ اللَّحْنُ صَارُوا يُنَقِّطُونَ الْمَصَاحِفَ وَيُشَكِّلُونَهَا وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حُكْمَ الشَّكْلِ وَالنَّقْطِ حُكْمُ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ فَإِنَّ النُّقَطَ تُمَيِّزُ بَيْنَ الْحُرُوفِ وَالشَّكْلُ يُبَيِّنُ الْإِعْرَابَ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ . وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا : " إعْرَابُ الْقُرْآنِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ حِفْظِ بَعْضِ حُرُوفِهِ " فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } كَانَتْ الضَّمَّةُ وَالْفَتْحَةُ وَالْكَسْرَةُ مِنْ تَمَامِ لَفْظِ الْقُرْآنِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الشَّكْلُ وَالنَّقْطُ كَالْمِدَادِ الَّذِي
يُكْتَبُ بِهِ الْحُرُوفُ وَالْمِدَادُ كُلُّهُ مَخْلُوقٌ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَالصَّوْتُ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ النَّاسُ الْقُرْآنَ هُوَ صَوْتُ الْعِبَادِ ؛ لَكِنْ الْكَلَامُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ وَهَذَا لَيْسَ هُوَ الصَّوْتَ الَّذِي يُنَادِي اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ وَيَسْمَعُهُ مُوسَى وَغَيْرُهُ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَهُوَ أَيْضًا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ عِنْدَهُمْ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ فَهُوَ قَدِيمُ النَّوْعِ وَأَمَّا نَفْسُ " النِّدَاءِ " الَّذِي نَادَى بِهِ مُوسَى وَنَحْوَهُ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ نَادَاهُ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى } وَكَذَلِكَ نَظَائِرُهُ فَكَانَ السَّلَفُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ نَوْعِ الْكَلَامِ وَبَيْنَ الْكَلِمَةِ الْمُعَيَّنَةِ . قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } . وكلام اللَّهِ وَمَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِهِ مِنْ نِدَائِهِ . وَغَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ بَائِنٍ مِنْهُ بَلْ هُوَ مِنْهُ وَالْقُرْآنُ سَمِعَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللَّهِ وَنَزَلَ بِهِ إلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَنَحْوَ ذَلِكَ .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَّغَهُ إلَى الْأُمَّةِ وَالْمُسْلِمُونَ يَسْمَعُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَسَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ فَإِنَّهُ سَمِعَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَاَلَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَهُمْ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ وَيَكْتُبُونَهُ بِمِدَادِهِمْ فِي وَرَقِهِمْ . وَأَفْعَالُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَمِدَادُهُمْ مَخْلُوقٌ . وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَءُونَهُ وَيَكْتُبُونَهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ سَوَاءٌ قَرَءُوهُ قِرَاءَةً يُثَابُونَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يُثَابُونَ عَلَيْهَا وَسَوَاءٌ كَتَبُوهُ مَشْكُولًا مَنْقُوطًا أَوْ كَتَبُوهُ غَيْرَ مَشْكُولٍ وَلَا مَنْقُوطٍ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ هُوَ الْقُرْآنَ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَمَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ سَوَاءٌ كَانَ مَشْكُولًا مَنْقُوطًا أَوْ كَانَ غَيْرَ مَشْكُولٍ وَلَا مَنْقُوطٍ وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَالْمِدَادُ مَخْلُوقَانِ . وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ لَيْسَ بَعْضُهُ كَلَامَ اللَّهِ وَبَعْضُهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَلَيْسَ لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدِ مِنْهُ إلَّا التَّبْلِيغُ لَمْ يُحْدِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ حُرُوفِهِ ؛ بَلْ الْجَمِيعُ كَلَامُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . وَهَذِهِ " الْمَسَائِلُ " مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْجَوَابِ . وَلَكِنْ هَذَا قَدْرُ مَا وَسِعَتْهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
الْكَلَامُ فِي " الْقُرْآنِ " وَ " الْكَلَامِ " هَلْ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ أَمْ لَيْسَ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ مُحْدَثٌ : حَدَثَ فِي حُدُودِ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَانْتَشَرَ فِي الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ ؛ فَإِنَّ أَبَا سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ ثُمَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ وَنَحْوَهُمَا لَمَّا نَاظَرُوا الْمُعْتَزِلَةَ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا إذَا كَانَ الْقُرْآنُ قَدِيمًا وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنًى قَائِمًا بِنَفْسِ اللَّهِ كَعِلْمِهِ وَزَادُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ وَلَا لُغَةٍ لَا قَدِيمٍ وَلَا غَيْرِ قَدِيمٍ لَمَّا رَأَوْهُ مِنْ امْتِنَاعِ قِيَامِ أَمْرٍ حَادِثٍ بِهِ وَخَالَفُوا فِي ذَلِكَ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ : مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالْكَلَامِ وَالتَّصَوُّفِ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ مَآخِذُهُمْ فَإِنَّ الْآثَارَ شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ . وَلِهَذَا جَهَّمَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد : قُلْت لِأَبِي : إنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ .