الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
فَبَقِيَ النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ هَلْ هُوَ جُزْءٌ مِنْ مُسَمَّى الْإِيمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ أَوْ لَازِمٌ لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ . وَ " التَّحْقِيقُ " أَنَّهُ تَارَةً يَدْخُلُ فِي الِاسْمِ وَتَارَةً يَكُونُ لَازِمًا لِلْمُسَمَّى - بِحَسَبِ إفْرَادِ الِاسْمِ وَاقْتِرَانِهِ - فَإِذَا قُرِنَ الْإِيمَانُ بِالْإِسْلَامِ كَانَ مُسَمَّى الْإِسْلَامِ خَارِجًا عَنْهُ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ وَكَذَلِكَ إذَا قُرِنَ الْإِيمَانُ بِالْعَمَلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فَقَدْ يُقَالُ : اسْمُ الْإِيمَانِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْعَمَلُ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ ؛ وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ دَخَلَ فِيهِ وَعُطِفَ عَلَيْهِ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ ؛ وَبِكُلِّ حَالٍ فَالْعَمَلُ تَحْقِيقٌ لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ وَتَصْدِيقٌ لَهُ وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ - كَالشَّيْخِ أَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ ؟ وَغَيْرِهِ - : الْإِيمَانُ كُلُّهُ تَصْدِيقٌ فَالْقَلْبُ يُصَدِّقُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ، وَاللِّسَانُ يُصَدِّقُ مَا فِي الْقَلْبِ ، وَالْعَمَلُ يُصَدِّقُ الْقَوْلَ كَمَا يُقَالُ : صَدَّقَ عَمَلُهُ قَوْلَهُ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا السَّمْعُ وَالْيَدُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ تَزْنِي وَزِنَاهَا الْمَشْيُ وَالْقَلْبُ يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ } وَالتَّصْدِيقُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْخَبَرِ وَفِي الْإِرَادَةِ يُقَالُ : فُلَانٌ صَادِقُ الْعَزْمِ وَصَادِقُ الْمَحَبَّةِ وَحَمَلُوا حَمْلَةً صَادِقَةً .
وَ " السَّلَفُ " اشْتَدَّ نَكِيرُهُمْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ لَمَّا أَخْرَجُوا الْعَمَلَ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَالُوا إنَّ الْإِيمَانَ يَتَمَاثَلُ النَّاسُ فِيهِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِتَسَاوِي إيمَانِ النَّاسِ
مِنْ أَفْحَشِ الْخَطَأِ بَلْ لَا يَتَسَاوَى النَّاسُ فِي التَّصْدِيقِ وَلَا فِي الْحُبِّ وَلَا فِي الْخَشْيَةِ وَلَا فِي الْعِلْمِ ؛ بَلْ يَتَفَاضَلُونَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ . وَ " أَيْضًا " فَإِخْرَاجُهُمْ الْعَمَلَ يُشْعِرُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ أَيْضًا وَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا فَإِنَّ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ وَأَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ بِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ فَهُوَ كَافِرٌ قَطْعًا بِالضَّرُورَةِ وَإِنْ أَدْخَلُوا أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ أَخْطَئُوا أَيْضًا ؛ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْإِيمَانِ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ حَرَكَةِ بَدَنٍ . وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ كُلِّ مُعَيَّنٍ ؛ بَلْ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَلْبِهِ هَلْ يَتَصَوَّرُ إذَا رَأَى الرَّسُولَ وَأَعْدَاءَهُ يُقَاتِلُونَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِمْ وَيَحُضَّ عَلَى نَصْرِ الرَّسُولِ بِمَا لَا يَضُرُّهُ هَلْ يُمْكِنُ مِثْلُ هَذَا فِي الْعَادَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ حَرَكَةٌ مَا إلَى نَصْرِ الرَّسُولِ ؟ فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ الْمُتَعَيَّنُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنْ الْإِيمَانِ وَكَانَ عَدَمُهُ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ } وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ شُعَبِ النِّفَاقِ مَعَ مَا مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَ " أَيْضًا " فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ وَفِي رِوَايَةٍ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ } . فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَلْبَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ بُغْضُ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ كَانَ عَادِمًا لِلْإِيمَانِ وَالْبُغْضُ وَالْحُبُّ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ إبْلِيسَ وَنَحْوَهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ هَذِهِ الْأُمُورَ وَلَا يُبْغِضُونَهَا بَلْ يَدْعُونَ إلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .
وَ " أَيْضًا " فَهَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِقَوْلِ جَهْمٍ والصالحي قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ سَبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ؛ وَالتَّكَلُّمَ بِالتَّثْلِيثِ وَكُلَّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلَامِ الْكُفْرِ لَيْسَ هُوَ كُفْرًا فِي الْبَاطِنِ وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ فِي الظَّاهِرِ عَلَى الْكُفْرِ وَيَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ هَذَا السَّابُّ الشَّاتِمُ فِي الْبَاطِنِ عَارِفًا بِاَللَّهِ مُوَحِّدًا لَهُ مُؤْمِنًا بِهِ فَإِذَا أُقِيمَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ بِنَصِّ أَوْ إجْمَاعٍ أَنَّ هَذَا كَافِرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا . قَالُوا : هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّكْذِيبِ الْبَاطِنِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ ذَلِكَ ؛ فَيُقَالُ لَهُمْ : مَعَنَا أَمْرَانِ مَعْلُومَانِ . ( أَحَدُهُمَا ) : مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ الدِّينِ . وَ ( الثَّانِي ) مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ أَنْفُسِنَا عِنْدَ التَّأَمُّلِ . أَمَّا " الْأَوَّلُ " : فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ طَوْعًا بِغَيْرِ كُرْهٍ ؛ بَلْ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتِ الْكُفْرِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ وَمَنْ اسْتَهْزَأَ بِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ
كَافِرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَأَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ يَكُونُ فِي الْبَاطِنِ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ كَافِرٌ فِي الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ قَالَ قَوْلًا مَعْلُومَ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الدِّينِ . وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ كَلِمَاتِ الْكُفَّارِ فِي الْقُرْآنِ وَحَكَمَ بِكُفْرِهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِمْ الْوَعِيدَ بِهَا وَلَوْ كَانَتْ أَقْوَالُهُمْ الكفرية بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِمْ أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي يَغْلَطُ فِيهِ الْمُقِرُّ لَمْ يَجْعَلْهُمْ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوَعِيدِ بِالشَّهَادَةِ الَّتِي قَدْ تَكُونُ صِدْقًا وَقَدْ تَكُونُ كَذِبًا بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ إلَّا بِشَرْطِ صِدْقِ الشَّهَادَةِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَأَمَّا " الثَّانِي " : فَالْقَلْبُ إذَا كَانَ مُعْتَقِدًا صِدْقَ الرَّسُولِ وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَكَانَ مُحِبًّا لِرَسُولِ اللَّهِ مُعَظِّمًا لَهُ امْتَنَعَ مَعَ هَذَا أَنْ يَلْعَنَهُ وَيَسُبَّهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا مَعَ نَوْعٍ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ وَبِحُرْمَتِهِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مُجَرَّدَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ صَادِقٌ لَا يَكُونُ إيمَانًا إلَّا مَعَ مَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ بِالْقَلْبِ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } وَقَالَ : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } فَتَبَيَّنَ أَنَّ الطَّاغُوتَ يُؤْمَنُ بِهِ وَيُكْفَرُ بِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ ؛ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ وَالشَّيْطَانَ وَالسِّحْرَ يَشْتَرِكُ فِي الْعِلْمِ بِحَالِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي السِّحْرِ : { حَتَّى يَقُولَا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ
مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُوَا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَنَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَمَعَ هَذَا فَيَكْفُرُونَ . وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِمَا يَحْصُلُ بِالسِّحْرِ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْجِبْتِ وَكَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِ الشَّيْطَانِ وَالْأَصْنَامِ وَمَا يَحْصُلُ بِهَا مِنْ الْفِتْنَةِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ أَحَدٌ فِيهَا أَنَّهَا تَخْلُقُ الْأَعْيَانَ وَأَنَّهَا تَفْعَلُ مَا تَشَاءُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَلَكِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِعِبَادَتِهَا لَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الْمَطَالِبِ كَمَا كَانَتْ الشَّيَاطِينُ تُخَاطِبُهُمْ مِنْ الْأَصْنَامِ وَتُخْبِرُهُمْ بِأُمُورِ . وَكَمَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ فِي الْأَصْنَامِ الَّتِي يَعْبُدُهَا أَهْلُ الْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ كُفْرُهُمْ بِهَا الْخُضُوعَ لَهَا وَالدُّعَاءَ وَالْعِبَادَةَ وَاِتِّخَاذَهَا وَسِيلَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ لَا مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ بِمَا يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ فَإِنَّ هَذَا يَعْلَمُهُ الْعَالِمُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَيُصَدِّقُ بِوُجُودِهِ لَكِنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَيُبْغِضُهُ ؛ وَالْكَافِرُ قَدْ يَعْلَمُ وُجُودَ ذَلِكَ الضَّرَرِ لَكِنَّهُ يَحْمِلُهُ حُبُّ الْعَاجِلَةِ عَلَى الْكُفْرِ . يُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } { لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } فَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ وَذَكَرَ وَعِيدَهُ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ قَالَ { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ } . وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْوَعِيدَ اسْتَحَقُّوهُ بِهَذَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ بَابَ التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إنَّمَا اسْتَحَقُّوا الْوَعِيدَ لِزَوَالِ التَّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ حُبَّ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ اسْتِحْبَابَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ هُوَ الْأَصْلُ الْمُوجِبُ لِلْخُسْرَانِ وَاسْتِحْبَابُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ قَدْ يَكُونُ مَعَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ بِأَنَّ الْكُفْرَ يَضُرُّ فِي الْآخِرَةِ وَبِأَنَّهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتَثْنَى الْمُكْرَهَ مِنْ الْكُفَّارِ وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَكْذِيبِ الْقَلْبِ وَجَهْلِهِ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْهُ الْمُكْرَهَ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فَعُلِمَ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ لَا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ . وقَوْله تَعَالَى { وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أَيْ : لِاسْتِحْبَابِهِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضِ مِنْ الدُّنْيَا } وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ وَأَمْثَالِهِمَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
الْمُسْتَضْعَفِينَ لَمَّا أَكْرَهَهُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى سَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَاتِ الْكُفْرِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِلِسَانِهِ كَعَمَّارِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْمِحْنَةِ كَبِلَالِ وَلَمْ يُكْرَهْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى خِلَافِ مَا فِي قَلْبِهِ بَلْ أُكْرِهُوا عَلَى التَّكَلُّمِ فَمَنْ تَكَلَّمَ بِدُونِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا وَصَدْرُهُ مُنْشَرِحٌ بِهِ . وَأَيْضًا فَقَدْ { جَاءَ نَفَرٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا : نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولٌ وَلَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ أَيْ نَعْلَمُ وَنَجْزِمُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : فَلِمَ لَا تَتَّبِعُونِي ؟ قَالُوا : نَخَافُ مِنْ يَهُودَ } فَعُلِمَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَيْسَ بِإِيمَانِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِالْإِيمَانِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْشَاءِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِالْتِزَامِ وَالِانْقِيَادِ مَعَ تَضَمُّنِ ذَلِكَ الْإِخْبَارِ عَمَّا فِي أَنْفُسِهِمْ . فَالْمُنَافِقُونَ قَالُوا مُخْبِرِينَ كَاذِبِينَ فَكَانُوا كُفَّارًا فِي الْبَاطِنِ وَهَؤُلَاءِ قَالُوهَا غَيْرَ مُلْتَزِمِينَ وَلَا مُنْقَادِينَ فَكَانُوا كُفَّارًا فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَكَذَلِكَ أَبُو طَالِبٍ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وَأُنْشِدَ عَنْهُ :
وَلَقَدْ عَلِمْت بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ * * * مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا
لَكِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ حُبًّا لِدِينِ سَلَفِهِ وَكَرَاهَةَ أَنْ يُعَيِّرَهُ قَوْمُهُ فَلَمَّا لَمْ يَقْتَرِنْ بِعِلْمِهِ الْبَاطِنِ الْحُبُّ وَالِانْقِيَادُ الَّذِي يَمْنَعُ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مِنْ حُبِّ الْبَاطِلِ وَكَرَاهَةِ الْحَقِّ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا .
وَأَمَّا إبْلِيسُ وَفِرْعَوْنُ وَالْيَهُودُ وَنَحْوُهُمْ فَمَا قَامَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ الْكُفْرِ وَإِرَادَةِ الْعُلُوِّ وَالْحَسَدِ مَنْعٌ مِنْ حُبِّ اللَّهِ وَعِبَادَةِ الْقَلْبِ لَهُ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ وَصَارَ فِي الْقَلْبِ مِنْ كَرَاهِيَةِ رِضْوَانِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ مَا أَسْخَطَهُ مَا كَانَ كُفْرًا لَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعِلْمُ .
فَصْلٌ :
وَالتَّفَاضُلُ فِي الْإِيمَانِ بِدُخُولِ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ فِيهِ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ : ( أَحَدُهَا ) الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِيهَا وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى دُخُولِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنُّقْصَانِ لَكِنْ نِزَاعُهُمْ فِي دُخُولِ ذَلِكَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ . فالْنُّفَاةِ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ فَأُدْخِلَ فِيهِ مَجَازًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَهَذَا مَعْنَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ عِنْدَهُمْ وَنَقْصِهِ أَيْ زِيَادَةِ ثَمَرَاتِهِ وَنُقْصَانِهَا فَيُقَالُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ وَمُوجِبَاتِهِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ إيمَانٌ تَامٌّ فِي الْقَلْبِ بِلَا قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ ظَاهِرٍ وَأَمَّا كَوْنُهُ لَازِمًا أَوْ جُزْءًا مِنْهُ فَهَذَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ حَالِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْإِيمَانِ مُفْرَدًا أَوْ مَقْرُونًا بِلَفْظِ الْإِسْلَامِ وَالْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَلِ الظَّاهِرِ لَا فِي مُوجِبِهِ وَمُقْتَضِيهِ فَهَذَا غَلَطٌ ،
فَإِنْ تَفَاضَلَ مَعْلُولُ الْأَشْيَاءِ . وَمُقْتَضَاهَا يَقْتَضِي تَفَاضُلَهَا فِي أَنْفُسِهَا وَإِلَّا فَإِذَا تَمَاثَلَتْ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لَزِمَ تَمَاثُلُ مُوجِبِهَا وَمُقْتَضَاهَا فَتَفَاضُلُ النَّاسِ فِي الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ يَقْتَضِي تَفَاضُلَهُمْ فِي مُوجِبِ ذَلِكَ وَمُقْتَضِيهِ وَمِنْ هَذَا يَتَبَيَّنُ : ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنَقْصِهِ : وَهُوَ زِيَادَةُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَنَقْصِهَا فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِالذَّوْقِ الَّذِي يَجِدُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي حُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ وَفِي سَلَامَةِ الْقُلُوبِ مِنْ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ وَالنُّصْحِ لَهُمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْإِيمَانِيَّةِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَمَنْ كَانَ يُحِبُّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ وَمَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا } . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمُكُمْ بِحُدُودِهِ } وَقَالَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } { وَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِنْ نَفْسِي قَالَ : لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إلَيْك مِنْ نَفْسِك قَالَ : فَلَأَنْتَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ نَفْسِي قَالَ : الْآنَ يَا عُمَرُ } .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَنَحْوُهَا فِي الصِّحَاحِ وَفِيهَا بَيَانُ تَفَاضُلِ الْحُبِّ وَالْخَشْيَةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَهَذَا أَمْرٌ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ يُحِبُّهُ تَارَةً أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّهُ تَارَةً وَيَخَافُهُ تَارَةً أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُهُ تَارَةً وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ قَوْلًا بِدُخُولِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ لِمَا يَجِدُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَمِنْ هَذَا قَوْله تَعَالَى { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَإِنَّمَا زَادَهُمْ طُمَأْنِينَةً وَسُكُونًا . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } . ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) : أَنَّ نَفْسَ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ يَتَفَاضَلُ بِاعْتِبَارِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ فَلَيْسَ تَصْدِيقُ مَنْ صَدَّقَ الرَّسُولَ مُجْمَلًا مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ مِنْهُ بِتَفَاصِيلِ أَخْبَارِهِ كَمَنْ عَرَفَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْأُمَمِ وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَلَيْسَ مَنْ الْتَزَمَ طَاعَتَهُ مُجْمَلًا وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ تَفْصِيلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ كَمَنْ عَاشَ حَتَّى عَرَفَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا وَأَطَاعَهُ فِيهِ . ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ ) : أَنَّ نَفْسَ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ يَتَفَاضَلُ وَيَتَفَاوَتُ كَمَا يَتَفَاضَلُ سَائِرُ صِفَاتِ الْحَيِّ مِنْ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ بَلْ سَائِرُ الْأَعْرَاضِ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ تَتَفَاوَتُ فَكَذَلِكَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ يَتَفَاوَتُ وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ
الْوَاحِدِ لَا يَتَفَاضَلُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَقْدُورِ الْوَاحِدِ لَا تَتَفَاضَلُ وَقَوْلُهُ : وَرُؤْيَةُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا تَتَفَاضَلُ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْهِلَالَ الْمَرْئِيَّ يَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِي رُؤْيَتِهِ وَكَذَلِكَ سَمْعُ الصَّوْتِ الْوَاحِدِ يَتَفَاضَلُونَ فِي إدْرَاكِهِ وَكَذَلِكَ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ يَتَكَلَّمُ بِهَا الشَّخْصَانِ وَيَتَفَاضَلُونَ فِي النُّطْقِ بِهَا وَكَذَلِكَ شَمُّ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَذَوْقِهِ يَتَفَاضَلُ الشَّخْصَانِ فِيهِ . فَمَا مِنْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَيِّ وَأَنْوَاعِ إدْرَاكَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ بَلْ وَغَيْرِ صِفَاتِ الْحَيِّ إلَّا وَهِيَ تَقْبَلُ التَّفَاضُلَ وَالتَّفَاوُتَ إلَى مَا لَا يَحْصُرُهُ الْبَشَرُ حَتَّى يُقَالَ : لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ مِثْلَ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بَلْ عِلْمُ اللَّهِ بِالشَّيْءِ أَكْمَلُ مِنْ عِلْمِ غَيْرِهِ بِهِ كَيْفَ مَا قَدَّرَ الْأَمْرَ وَلَيْسَ تَفَاضُلُ الْعِلْمَيْنِ مِنْ جِهَةِ الْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ فَقَطْ ؛ بَلْ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى . وَالْإِنْسَانُ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ عِلْمَهُ بِمَعْلُومِهِ يَتَفَاضَلُ حَالُهُ فِيهِ كَمَا يَتَفَاضَلُ حَالُهُ فِي سَمْعِهِ لِمَسْمُوعِهِ ؛ وَرُؤْيَتِهِ لِمَرْئِيِّهِ ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى مَقْدُورِهِ وَحُبِّهِ لِمَحْبُوبِهِ وَبُغْضِهِ لِبَغِيضِهِ وَرِضَاهُ بِمُرْضِيهِ وَسَخَطِهِ لِمَسْخُوطِهِ ، وَإِرَادَتِهِ لِمُرَادِهِ ، وَكَرَاهِيَتِهِ لِمَكْرُوهِهِ وَمَنْ أَنْكَرَ التَّفَاضُلَ فِي هَذِهِ الْحَقَائِقِ كَانَ مُسَفْسِطًا . ( الْوَجْهُ الْخَامِسُ ) : أَنَّ التَّفَاضُلَ يَحْصُلُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِهَةِ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهَا ؛ فَمَنْ كَانَ مُسْتَنِدٌ تَصْدِيقَهُ وَمَحَبَّتَهُ أَدِلَّةً تُوجِبُ الْيَقِينَ وَتُبَيِّنُ فَسَادَ الشُّبْهَةِ الْعَارِضَةِ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ تَصْدِيقُهُ لِأَسْبَابِ دُونِ ذَلِكَ بَلْ مَنْ جُعِلَ لَهُ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهَا عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تُعَارِضُهُ
الشُّبَهُ وَيُرِيدُ إزَالَتَهَا بِالنَّظَرِ وَالْبَحْثِ وَلَا يَسْتَرِيبُ عَاقِلٌ أَنَّ الْعِلْمَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَقُوَّتِهَا وَبِفَسَادِ الشُّبَهِ الْمُعَارِضَةِ لِذَلِكَ وَبَيَانِ بُطْلَانِ حُجَّةِ الْمُحْتَجِّ عَلَيْهَا لَيْسَ كَالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْحَاصِلُ عَنْ دَلِيلٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ الشُّبَهَ الْمُعَارِضَةَ لَهُ ؛ فَإِنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا قَوِيَتْ أَسْبَابُهُ وَتَعَدَّدَتْ وَانْقَطَعَتْ مَوَانِعُهُ وَاضْمَحَلَّتْ كَانَ أَوْجَبَ لِكَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَتَمَامِهِ . ( الْوَجْهُ السَّادِسُ ) : أَنَّ التَّفَاضُلَ يَحْصُلُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِهَةِ دَوَامِ ذَلِكَ وَثَبَاتِهِ وَذِكْرِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ كَمَا يَحْصُلُ الْبُغْضُ مِنْ جِهَةِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَالْإِعْرَاضِ وَالْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَمَا فِي الْقَلْبِ هِيَ صِفَاتٌ وَأَعْرَاضٌ وَأَحْوَالٌ تَدُومُ وَتَحْصُلُ بِدَوَامِ أَسْبَابِهَا وَحُصُولِ أَسْبَابِهَا . وَالْعِلْمُ وَإِنْ كَانَ فِي الْقَلْبِ فَالْغَفْلَةُ تُنَافِي تَحَقُّقَهُ وَالْعَالِمُ بِالشَّيْءِ فِي حَالِ غَفْلَتِهِ عَنْهُ دُونَ الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ فِي ذِكْرِهِ لَهُ . قَالَ عُمَيْرُ بْنُ حَبِيبٍ الخطمي مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ قَالُوا : وَمَا زِيَادَتُهُ وَنَقْصُهُ ؟ قَالَ : إذَا حَمِدْنَا اللَّهَ وَذَكَرْنَاهُ وَسَبَّحْنَاهُ فَذَلِكَ زِيَادَتُهُ فَإِذَا غَفَلْنَا وَنَسِينَا وَضَيَّعْنَا فَذَلِكَ نُقْصَانُهُ . ( الْوَجْهُ السَّابِعُ ) أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ فِيمَا يَقُومُ بِالْإِنْسَانِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمُورِ أَعْظَمُ تَفَاضُلًا وَتَفَاوُتًا مِنْ الْإِيمَانِ فَكُلَّمَا تَقَرَّرَ إثْبَاتُهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ مَعَ تَفَاضُلِهِ فَالْإِيمَانُ أَعْظَمُ تَفَاضُلًا مِنْ ذَلِكَ . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ تَفَاضُلَ الْحُبِّ الَّذِي يَقُومُ بِقَلْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ حُبًّا لِوَلَدِهِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ
أَوْ لِرِيَاسَتِهِ أَوْ وَطَنِهِ أَوْ صَدِيقِهِ أَوْ صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ أَوْ خَيْلِهِ أَوْ بُسْتَانِهِ أَوْ ذَهَبِهِ أَوْ فِضَّتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِهِ فَكَمَا أَنَّ الْحُبَّ أَوَّلُهُ عَلَاقَةٌ لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ ثُمَّ صَبَابَةٌ لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ نَحْوَهُ ثُمَّ غَرَامٌ لِلُزُومِهِ الْقَلْبَ كَمَا يَلْزَمُ الْغَرِيمُ غَرِيمَهُ ثُمَّ يَصِيرُ عِشْقًا إلَى أَنْ يَصِيرَ تتيما - وَالتَّتْمِيمُ التَّعَبُّدُ وَتَيَّمَ اللَّهُ عَبْدَ اللَّهِ - فَيَصِيرُ الْقَلْبُ عَبْدًا لِلْمَحْبُوبِ مُطِيعًا لَهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ عَنْ أَمْرِهِ وَقَدْ آلَ الْأَمْرُ بِكَثِيرِ مِنْ عُشَّاقِ الصُّوَرِ إلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ مِثْلُ مَنْ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ وَقَتْلِ مَعْشُوقِهِ أَوْ الْكُفْرِ وَالرِّدَّةِ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ أَفْضَى بِهِ إلَى الْجُنُونِ وَزَوَالِ الْعَقْلِ أَوْ أَوْجَبَ خُرُوجَهُ عَنْ الْمَحْبُوبَاتِ الْعَظِيمَةِ مِنْ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ أَوْ إمْرَاضِ جِسْمِهِ وَأَسْنَانِهِ . فَمَنْ قَالَ الْحُبُّ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ كَانَ قَوْلُهُ مِنْ أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ فَسَادًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي حُبِّ اللَّهِ أَعْظَمَ مَنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي حُبِّ كُلِّ مَحْبُوبٍ فَهُوَ سُبْحَانَهُ اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَاِتَّخَذَ مُحَمَّدًا أَيْضًا خَلِيلًا كَمَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَاِتَّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا ؛ وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ } يَعْنِي نَفْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } وَالْخُلَّةُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْمَحَبَّةِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّونَ اللَّهَ وَيُحِبُّهُمْ اللَّهُ كَمَا قَالَ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } الْآيَةَ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَيُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَيُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيُحِبُّ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ بِحُبِّهِ لِغَيْرِ وَاحِدٍ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ قَالَ لِلْحَسَنِ وَأُسَامَةَ : اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحُبّ مَنْ يُحِبُّهُمَا } { وَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ العاص أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إلَيْك ؟ قَالَ : عَائِشَةُ قَالَ فَمِنْ الرِّجَالِ ؟ قَالَ : أَبُوهَا } . وَقَالَ : { وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّكُمْ } . وَالنَّاسُ فِي حُبِّ اللَّهِ يَتَفَاوَتُونَ مَا بَيْنَ أَفْضَلِ الْخَلْقِ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ إلَى أَدْنَى النَّاسِ دَرَجَةً مِثْلُ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدَّيْنِ مِنْ الدَّرَجَاتِ لَا يُحْصِيهِ إلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ مَا يَتَفَاضَلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ كَبَنِي آدَمَ فَإِنَّ الْفَرَسَ الْوَاحِدَةَ مَا تَبْلُغُ أَنْ تساوي أَلْفَ أَلْفٍ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ { حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ مَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ فَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَعْرِفُ هَذَا ؟ قُلْت : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ وَإِنْ غَابَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْهُ ثُمَّ مَرَّ بِرَجُلِ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَعْرِفُ هَذَا ؟ قُلْت : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ ضُعَفَاءِ النَّاسِ هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَلَّا يُنْكَحَ وَإِنْ قَالَ أَلَّا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ وَإِنْ غَابَ أَلَّا يُسْأَلَ عَنْهُ فَقَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ لَهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا } . فَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ الَّذِي لَا يُجَاوِزُ فِيمَا يَقُولُ : إنَّ الْوَاحِدَ مِنْ بَنِي آدَمَ
يَكُونُ خَيْرًا مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَإِذَا كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَفْضَلَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ شَرٌّ مِنْ الْبَهَائِمِ كَانَ التَّفَاضُلُ الَّذِي فِيهِمْ أَعْظَمَ مِنْ تَفَاضُلِ الْمَلَائِكَةِ . وَأَصْلُ تَفَاضُلِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ فَعُلِمَ أَنَّ تَفَاضُلَهُمْ فِي هَذَا لَا يَضْبُطُهُ إلَّا اللَّهُ وَكُلُّ مَا يُعْلَمُ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي حُبِّ الشَّيْءِ مِنْ مَحْبُوبَاتِهِمْ فَتَفَاضُلُهُمْ فِي حُبِّ اللَّهِ أَعْظَمُ . وَهَكَذَا تَفَاضُلُهُمْ فِي خَوْفِ مَا يَخَافُونَهُ وَتَفَاضُلُهُمْ فِي الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ لِمَا يَذِلُّونَ لَهُ وَيَخْضَعُونَ وَكَذَلِكَ تَفَاضُلُهُمْ فِيمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ الْمَعْرُوفَاتِ وَيُصَدِّقُونَ بِهِ وَيُقِرُّونَ بِهِ فَإِنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ فِي مَعْرِفَةِ الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ وَالتَّصْدِيقِ بِهِمْ فَتَفَاضُلُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ أَعْظَمُ . وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا يَتَفَاضَلُونَ فِي مَعْرِفَةِ رُوحِ الْإِنْسَانِ وَصِفَاتِهَا وَالتَّصْدِيقِ بِهَا أَوْ فِي مَعْرِفَةِ الْجِنِّ وَصِفَاتِهِمْ وَفِي التَّصْدِيقِ بِهِمْ أَوْ فِي مَعْرِفَةِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ - كَمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ وَالْمَلْبُوسَاتِ وَالْمَنْكُوحَاتِ وَالْمَسْكُونَاتِ - فَتَفَاضُلُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ " الرُّوحِ " الَّتِي هِيَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ . وَمَعْرِفَةِ مَا فِي الْآخِرَةِ مِنْ النَّعِيمِ وَالْعَذَابِ . بَلْ إنْ كَانُوا مُتَفَاضِلِينَ فِي مَعْرِفَةِ أَبْدَانِهِمْ وَصِفَاتِهَا وَصِحَّتِهَا وَمَرَضِهَا وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَتَفَاضُلُهُمْ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا يُعْلَمُ وَيُقَالُ يَدْخُلُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ إذْ لَا مَوْجُودَ إلَّا وَهُوَ خَلَقَهُ وَكُلُّ مَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَالْأَقْدَارِ وَالْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا شَوَاهِدُ وَدَلَائِلُ عَلَى
مَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى إذْ كُلُّ كَمَالٍ فِي الْمَخْلُوقَاتِ فَمِنْ أَثَرِ كَمَالِهِ ، وَكُلُّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِهِ ، وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ مَخْلُوقٌ فَالْخَالِقُ أَحَقُّ بِتَنْزِيهِهِ عَنْهُ ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ كُلِّ طَائِفَةٍ وَاصْطِلَاحِهَا . فَهَذَا يَقُولُ كَمَالُ الْمَعْلُولِ مِنْ كَمَالِ عِلَّتِهِ وَهَذَا يَقُولُ : كَمَالُ الْمَصْنُوعِ الْمَخْلُوقِ مِنْ كَمَالِ صَانِعِهِ وَخَالِقِهِ . وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا أَصَابَ عَبْدًا هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنِّي عَبْدُك ابْنُ أَمَتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِيَّ حُكْمُك عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُك أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مَنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي إلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا . قَالُوا . يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ ؟ قَالَ : بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ } . فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ وَأَسْمَاءُ اللَّهِ مُتَضَمِّنَةٌ لِصِفَاتِهِ لَيْسَتْ أَسْمَاءَ أَعْلَامٍ مَحْضَةً بَلْ أَسْمَاؤُهُ تَعَالَى : كَالْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالسَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَالرَّحِيمِ وَالْحَكِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ مِنْ مَعَانِي صِفَاتِهِ مَعَ اشْتِرَاكِهَا كُلِّهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَاتِهِ وَإِذَا كَانَ مِنْ أَسْمَائِهِ مَا اخْتَصَّ هُوَ بِمَعْرِفَتِهِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ مَا خُصَّ بِهِ
مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ عُلِمَ أَنَّ تَفَاضُلَ النَّاسِ فِي مَعْرِفَتِهِ أَعْظَمُ مِنْ تَفَاضُلِهِمْ فِي مَعْرِفَةِ كُلِّ مَا يَعْرِفُونَهُ .
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ أَنَّهُمْ عَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ صِفَةٌ إلَّا عَرَفُوهَا وَأَنَّ مَا لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِهِ كَانَ مَعْدُومًا مُنْتَفِيًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَوْمٌ غالطون مُخْطِئُونَ مُبْتَدِعُونَ ضَالُّونَ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ دَاحِضَةٌ فَإِنَّ عَدَمَ الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ عَلَى الشَّيْءِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَائِهِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ثُبُوتَهُ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ الدَّلِيلِ . مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ لَوْ وُجِدَ لَتَوَفَّرَتْ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ فَيَكُونُ هَذَا لَازِمًا لِثُبُوتِهِ فَيُسْتَدَلُّ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ ؛ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بَيْنَ الشَّامِ وَالْحِجَازِ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ مِثْلُ بَغْدَادَ وَمِصْرَ لَكَانَ النَّاسُ يَنْقُلُونَ خَبَرَهَا فَإِذَا نَقَلَ ذَلِكَ وَاحِدٌ وَاثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ عُلِمَ كَذِبُهُمْ . وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَحَدٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلُ مُسَيْلِمَةَ والعنسي وطليحة وسجاح لَنَقَلَ النَّاسُ خَبَرَهُ كَمَا نَقَلُوا أَخْبَارَ هَؤُلَاءِ وَلَوْ عَارَضَ الْقُرْآنَ مُعَارِضٌ أَتَى بِمَا يَظُنُّ النَّاسُ أَنَّهُ مِثْلُ الْقُرْآنِ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ قُرْآنُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَكَمَا نَقَلُوا الْفُصُولَ وَالْغَايَاتِ لِأَبِي الْعَلَاءِ المعري وَكَمَا نَقَلُوا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُعَارِضِينَ ( و لَوْ بِخُرَافَاتِ لَا يَظُنُّ عَاقِلٌ أَنَّهَا مِثْلُهُ فَكَانَ النَّقْلُ لِمَا تَظْهَرُ فِيهِ الْمُشَابَهَةُ وَالْمُمَاثَلَةُ أَقْوَى فِي الْعَادَةِ وَالطِّبَاعِ فِي ذَلِكَ وَأَرْغَبُ - سَوَاءٌ كَانُوا مُحِبِّينَ أَوْ مُبْغِضِينَ - هَذَا أَمْرٌ جُبِلَ عَلَيْهِ بَنُو آدَمَ .
كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ لَوْ طَلَبَ الْخِلَافَةَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَقَاتَلَ عَلَيْهَا لَنَقَلَ ذَلِكَ النَّاسُ كَمَا نَقَلُوا مَا جَرَى بَعْدَ هَؤُلَاءِ ؛ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ صَلَاتَهُمْ لَنَقَلُوا ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا أَمْرَهُ لِأَبِي بَكْرٍ وَصَلَاتَهُ بِالنَّاسِ وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ عَهِدَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ لَنَقَلُوا ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا مَا دُونَهُ ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْتَمِعُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى اسْتِمَاعِ دُفٍّ أَوْ كَفٍّ وَلَا عَلَى رَقْصٍ وَزَمْرٍ ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ يَجْتَمِعُ هُوَ وَهُمْ عَلَى دُعَاءٍ وَرَفْعِ أَيْدٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَنَقَلُوهُ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْعِشَاءَ أَرْبَعًا وَأَنَّهُ لَوْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا بَعْضَ الْأَوْقَاتِ لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا جَمْعَهُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ . بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَاتِ وَحْدَهُ بَلْ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهِنَّ فِي الْجَمَاعَةِ ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَحْمِلُونَ التُّرَابَ فِي السَّفَرِ لِلتَّيَمُّمِ وَلَا يُصَلُّونَ كُلَّ لَيْلَةٍ عَلَى مَنْ يَمُوتُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَنْوُونَ الِاعْتِكَافَ كُلَّمَا دَخَلُوا مَسْجِدًا لِلصَّلَاةِ ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى غَائِبٍ غَيْرَ النَّجَاشِيِّ ؛ بَلْ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ دَائِمًا يَقْنُتُ فِي الْفَجْرِ أَوْ غَيْرِهَا بِقُنُوتِ مَسْنُونٍ يَجْهَرُ بِهِ لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ - كَمَا نَقَلُوا قُنُوتَهُ الْعَارِضَ الَّذِي دَعَا فِيهِ لِقَوْمِ وَعَلَى قَوْمٍ وَكَانَ نَقْلُهُمْ لِذَلِكَ أَوْكَدَ - وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمَّا صَلَّى بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ قَصْرًا وَجَمْعًا لَوْ أَمَرَ أَحَدًا خَلْفَهُ أَنْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ أَوْ أَنْ لَا يَجْمَعَ مَعَهُ لَنَقَلَ النَّاسُ ذَلِكَ كَمَا نَقَلُوا مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ .
وَكَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ الْحُيَّضَ فِي زَمَانِهِ الْمُبْتَدَآتِ بِالْحَيْضِ أَنْ يَغْتَسِلْنَ عِنْدَ انْقِضَاءِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ أَنْ يَغْسِلُوا مَا يُصِيبُ أَبْدَانَهُمْ وَثِيَابَهُمْ مِنْ الْمَنِيِّ وَأَنَّهُ لَمْ يُوَقِّتْ لِلنَّاسِ لَفْظًا مُعَيَّنًا لَا فِي نِكَاحٍ وَلَا فِي بَيْعٍ وَلَا إجَارَةٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمَّا حَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ لَمْ يَعْتَمِرْ عَقِيبَ الْحَجِّ وَأَنَّهُ لَمَّا أَفَاضَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ يَوْمَ النَّحْرِ مَا طَافَ وَسَعَى أَوَّلًا ثُمَّ طَافَ ثَانِيًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ . وَمَنْ تَتَبَّعَ كُتُبَ الصَّحِيحَيْنِ وَنَحْوَهَا مِنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ وَوَقَفَ عَلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ قَفَا مِنْهَاجَهُمْ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ - قَدِيمًا وَحَدِيثًا - عَلِمَ صِحَّةَ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا ) أَنَّ الْمَدْلُولَ إذَا كَانَ وُجُودُهُ مُسْتَلْزِمًا لِوُجُودِ دَلِيلِهِ كَانَ انْتِفَاءُ دَلِيلِهِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَائِهِ أَمَّا إذَا أَمْكَنَ وُجُودُهُ وَأَمْكَنَ أَنْ لَا نَعْلَمَ نَحْنُ دَلِيلَ ثُبُوتِهِ لَمْ يَكُنْ عَدَمُ عِلْمِنَا بِدَلِيلِ وُجُودِهِ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِهِ ، فَأَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا مَا يَدُلُّنَا عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِانْتِفَائِهَا إذْ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا لَا بُدَّ أَنْ نَعْلَمَ كُلَّ مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ تَعَالَى مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بَلْ قَدْ قَالَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَعْلَمُهُمْ بِاَللَّهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ { فَأَخِرّ سَاجِدًا فَأَحْمَدَ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُهَا عَلَيَّ لَا أُحْصِيهَا الْآنَ } . فَإِذَا كَانَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ وَلَا يَعْرِفُ الْآنَ مَحَامِدَهُ الَّتِي يَحْمَدُهُ بِهَا عِنْدَ السُّجُودِ لِلشَّفَاعَةِ ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ غَيْرُهُ عَارِفًا بِجَمِيعِ مَحَامِدِ اللَّهِ
وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَكُلُّ مَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَحَامِدِهِ وَفِيمَا يُثْنِي عَلَيْهِ بِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ بِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَعْلَمَ وَأَعْرَفَ كَانَ بِاَللَّهِ أَعْلَمَ وَأَعْرَفَ ؛ بَلْ مَنْ كَانَ بِأَسْمَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَاتِهِ أَعْلَمَ كَانَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ فَلَيْسَ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولٌ وَلَا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولٌ كَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ وَلَا مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ خَاتَمُ الرُّسُلِ كَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ كَمَنْ عَلِمَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَالْمِلَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنْ خَصَائِصِهِ يَكُونُ كَافِرًا بَلْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَسْمَعْ بِكَثِيرِ مِنْ فَضَائِلِهِ وَخَصَائِصِهِ فَكَذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ مَنْ جَهِلَ بَعْضَ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ يَكُونُ كَافِرًا إذْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَسْمَعْ كَثِيرًا مِمَّا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ . فَهَذِهِ الْوُجُوهُ وَنَحْوُهَا مِمَّا تُبَيِّنُ تَفَاضُلَ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ؛ وَأَمَّا تَفَاضُلُهُمْ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فَلَا تَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ :
إذَا تَبَيَّنَ هَذَا وَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي فِي الْقَلْبِ مِنْ التَّصْدِيقِ وَالْحُبِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْأُمُورَ الظَّاهِرَةَ مِنْ الْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ ؛ كَمَا أَنَّ الْقَصْدَ التَّامَّ مَعَ الْقُدْرَةِ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُرَادِ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مَقَامَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ فِي الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ مُوجِبِ ذَلِكَ وَمُقْتَضَاهُ زَالَتْ " الشُّبَهُ الْعِلْمِيَّةُ " فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا " نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ " فِي أَنَّ مُوجِبَ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ هَلْ هُوَ جُزْءٌ مِنْهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّاهُ فَيَكُونُ لَفْظُ الْإِيمَانِ دَالًّا عَلَيْهِ بِالتَّضَمُّنِ وَالْعُمُومِ ؟ أَوْ هُوَ لَازِمٌ لِلْإِيمَانِ وَمَعْلُولٌ لَهُ وَثَمَرَةٌ لَهُ فَتَكُونُ دَلَالَةُ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ ؟ وَ " حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا كَمَا قَدْ تَقَدَّمَ ؛ فَإِذَا قُرِنَ اسْمُ الْإِيمَانِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ الْعَمَلِ كَانَ دَالًّا عَلَى الْبَاطِنِ فَقَطْ . وَإِنْ أُفْرِدَ اسْمُ الْإِيمَانِ فَقَدْ يَتَنَاوَلُ الْبَاطِنَ وَالظَّاهِرَ وَبِهَذَا تَأْتَلِفُ النُّصُوصُ . فَقَوْلُهُ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً : أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } . أُفْرِدَ لَفْظُ الْإِيمَانِ فَدَخَلَ فِيهِ الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ : { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } ذَكَرَهُ مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ } فَلَمَّا أَفْرَدَهُ عَنْ اسْمِ الْإِسْلَامِ ذَكَرَ مَا يَخُصُّهُ الِاسْمُ فِي ذَاكَ الْحَدِيثِ مُجَرَّدًا عَنْ الِاقْتِرَانِ . وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَقْرُونٌ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وقَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } دَخَلَ فِيهِ الْبَاطِنُ فَلَوْ أَتَى بِالْعَمَلِ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ أَتَى بِالدِّينِ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ . وَأَمَّا إذَا قُرِنَ الْإِسْلَامُ بِالْإِيمَانِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } وَقَوْلُهُ : { فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } فَقَدْ يُرَادُ بِالْإِسْلَامِ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي فِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ تَخْتَلِفُ بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ كَمَا فِي اسْمِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ وَكَمَا فِي لُغَاتِ سَائِرِ الْأُمَمِ ؟ عَرَبِهَا وَعَجَمِهَا زَاحَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ فِي هَذَا لِلْبَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ؛ اسْمُ " الْإِيمَانِ " إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْأَعْمَالَ مَجَازًا قِيلَ : " أَوَّلًا " لَيْسَ هَذَا بِأَوْلَى مِمَّنْ قَالَ : إنَّمَا تَخْرُجُ عَنْهُ الْأَعْمَالُ مَجَازًا بَلْ هَذَا أَقْوَى لِأَنَّ خُرُوجَ الْعَمَلِ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ إذَا كَانَ مَقْرُونًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ وَالْعَمَلِ وَأَمَّا دُخُولُ الْعَمَلِ فِيهِ فَإِذَا أُفْرِدَ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً
أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } فَإِنَّمَا يَدُلُّ مَعَ الِاقْتِرَانِ أَوْلَى بِاسْمِ الْمَجَازِ مِمَّا يَدُلُّ عِنْدَ التَّجْرِيدِ وَالْإِطْلَاقِ . وَقِيلَ لَهُ " ثَانِيًا " لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ هُوَ فَرْعٌ عَنْ الْبَاطِنِ وَمُوجِبٌ لَهُ وَمُقْتَضَاهُ ؛ لَكِنْ هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الِاسْمِ وَجُزْءٌ مِنْهُ أَوْ هُوَ لَازِمٌ لِلْمُسَمَّى كَالشَّرْطِ الْمُفَارِقِ وَالْمُوجِبِ التَّابِعِ ؟ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الشَّرْعِيَّةَ وَالدِّينِيَّةَ : كَاسْمِ " الصَّلَاةِ " وَ " الزَّكَاةِ " وَ " الْحَجِّ " وَنَحْوِ ذَلِكَ هِيَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحَجِّ الشَّرْعِيِّ وَمَنْ قَالَ إنَّ الِاسْمَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي اللُّغَةِ . وَإِنَّ مَا زَادَهُ الشَّارِعُ إنَّمَا هُوَ زِيَادَةٌ فِي الْحُكْمِ وَشَرْطٌ فِيهِ لَا دَاخِلٌ فِي الِاسْمِ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَمَنْ وَافَقَهُمَا عَلَى أَنَّ الشَّرْعَ زَادَ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً جَعَلَهَا شُرُوطًا فِي الْقَصْدِ ، وَالْأَعْمَالُ وَالدُّعَاءُ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ فَقَوْلُهُمْ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاهِيرِ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الْعِلْمِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ . فَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : إنَّ اسْمَ " الْإِيمَانِ " إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مُجَرَّدَ مَا هُوَ تَصْدِيقٌ وَأَمَّا كَوْنُهُ تَصْدِيقًا بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَكَوْنُ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمًا لِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ لَا دَاخِلٌ فِي الِاسْمِ إنْ لَمْ يَكُنْ أَضْعَفَ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ فَلَيْسَ دُونَهُ فِي الضَّعْفِ فَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ : الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ
لَوَازِمُ لِلْبَاطِنِ لَا تَدْخُلُ فِي الِاسْمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُشْبِه قَوْلُهُ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَالشَّارِعُ إذَا قَرَنَ بِالْإِيمَانِ الْعَمَلَ فَكَمَا يَقْرِنُ بِالْحَجِّ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ كَمَا إذَا قَالَ مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ وَطَافَ وَسَعَى وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ وَرَمَى الْجِمَارَ ؛ وَمَنْ صَلَّى فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ كَمَا قَالَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ صَوْمًا شَرْعِيًّا إنْ لَمْ يَكُنْ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا . وَقَالَ : { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّفَثَ الَّذِي هُوَ الْجِمَاعُ يُفْسِدُ الْحَجَّ وَالْفُسُوقُ يُنْقِصُ ثَوَابَهُ وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا } . فَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا إنْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ قِبْلَتَنَا فِي الصَّلَاةِ وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ } فَذَكَرَ الْمُحَافِظَ عَلَيْهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُصَلِّيًا لَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ إلَّا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا . وَلَكِنْ بَيَّنَ أَنَّ الْوَعِيدَ مَشْرُوطٌ بِذَلِكَ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْمُحَافَظَةِ أَنْ لَا يُصَلِّيَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ فَلَا يَكُونُ مُحَافِظًا عَلَيْهَا . إذْ الْمُحَافَظَةُ تَسْتَلْزِمُ فِعْلَهَا كَمَا قَالَ : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } نَزَلَتْ لَمَّا أُخِّرَتْ الْعَصْرُ عَامَ الْخَنْدَقِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَلَأَ اللَّهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ } .
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَكْفُرُ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لَكِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْمُحَافَظَةِ لَا يَكْفُرُ فَإِذَا صَلَّاهَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَكْفُرْ ؛ وَلِهَذَا جَاءَتْ فِي " { الْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ : لَا مَا صَلَّوْا } وَكَذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْله تَعَالَى { أَضَاعُوا الصَّلَاةَ } قَالَ هُوَ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَقِيلَ لَهُ : كُنَّا نَظُنُّ ذَلِكَ تَرْكَهَا فَقَالَ : لَوْ تَرَكُوهَا كَانُوا كُفَّارًا . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِي " الِاسْمِ الْمُطْلَقِ " أُمُورٌ كَثِيرَةٌ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ تُخَصُّ بِالذِّكْرِ . وَقِيلَ لِمَنْ قَالَ : دُخُولُ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ مَجَازٌ نِزَاعُك لَفْظِيٌّ ؛ فَإِنَّك إذَا سَلَّمْت أَنَّ هَذِهِ لَوَازِمَ الْإِيمَانِ الْوَاجِبُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَمُوجِبَاتِهِ كَانَ عَدَمُ اللَّازِمِ مُوجِبًا لِعَدَمِ الْمَلْزُومِ فَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ هَذَا الظَّاهِرِ عَدَمُ الْبَاطِنِ فَإِذَا اعْتَرَفْت بِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ لَفْظِيًّا وَإِنْ قُلْت : مَا هُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ الْإِيمَانُ التَّامُّ الْوَاجِبُ فِي الْقَلْبِ مَعَ إظْهَارِ مَا هُوَ كُفْرٌ وَتَرْكِ جَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ قِيلَ لَك : فَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَك إنَّ الظَّاهِرَ لَازِمٌ لَهُ وَمُوجِبٌ لَهُ بَلْ قِيلَ : حَقِيقَةُ قَوْلِك إنَّ الظَّاهِرَ يُقَارِنُ الْبَاطِنَ تَارَةً وَيُفَارِقُهُ أُخْرَى فَلَيْسَ بِلَازِمِ لَهُ وَلَا مُوجِبٍ وَمَعْلُولٍ لَهُ وَلَكِنَّهُ دَلِيلٌ إذَا وُجِدَ دَلَّ عَلَى وُجُودِ الْبَاطِنِ وَإِذْ عُدِمَ لَمْ يَدُلَّ عَدَمُهُ عَلَى الْعَدَمِ وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِك .
وَهُوَ أَيْضًا خَطَأٌ عَقْلًا كَمَا هُوَ خَطَأٌ شَرْعًا وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلِ قَاطِعٍ إذْ هَذَا يَظْهَرُ مِنْ الْمُنَافِقِ فَإِنَّمَا يَبْقَى دَلِيلًا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِدَارِ الدُّنْيَا كَدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِك فَيُقَالُ لَك : فَلَا يَكُونُ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْأَعْمَالِ ثَمَرَةً لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَلَا مُوجِبًا لَهُ وَمِنْ مُقْتَضَاهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِهَذَا الظَّاهِرِ إنْ كَانَ هُوَ نَفْسُ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ لَمْ يَتَوَقَّفْ وُجُودُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ مَا كَانَ مَعْلُولًا لِلشَّيْءِ وَمُوجِبًا لَهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُهُ فَلَوْ كَانَ الظَّاهِرُ مُوجِبَ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى غَيْرِهِ بَلْ إذَا وُجِدَ الْمُوجَبُ وُجِدَ الْمُوجِبُ . وَأَمَّا إذَا وُجِدَ مَعَهُ تَارَةً وَعُدِمَ أُخْرَى أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُوجِبِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَإِنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ إمَّا مُسْتَقِلٌّ بِالْإِيمَانِ أَوْ مُشَارِكٌ لِلْإِيمَانِ وَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ الظَّاهِرُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمَا مَعًا : عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ وَعَلَى الْإِيمَانِ ؛ بَلْ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ يُوجَدُ بِدُونِ الْإِيمَانِ ؛ كَمَا فِي أَعْمَالِ الْمُنَافِقِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِيمَانِ وَلَا لَازِمًا لَهُ بَلْ يُوجَدُ مَعَهُ تَارَةً وَمَعَ نَقِيضِهِ تَارَةً وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ عِلَّةً لَهُ وَلَا مُوجِبًا وَلَا مُقْتَضِيًا فَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْمَدْلُولَ وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فَإِنَّ مُجَرَّدَ التَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لَيْسَ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِيمَانِ النَّافِعِ عِنْدَ اللَّهِ . وَلِهَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ لَمَّا قَالَ : هُوَ مُؤْمِنٌ . قَالَ أو
مُسْلِمٌ ؟ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ إظْهَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْإِيمَانِ فِي الْبَاطِنِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَحْتَجْ الْمُهَاجِرَاتُ اللَّاتِي جِئْنَ مُسْلِمَاتٍ إلَى الِامْتِحَانِ وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بِالِامْتِحَانِ وَالِاخْتِبَارِ يَتَبَيَّنُ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ فَيُعْلَمُ أَهُوَ مُؤْمِنٌ أَمْ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ : { إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ } الْآيَةَ } . فَإِذَا قِيلَ : الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ تَكُونُ مِنْ مُوجِبِ الْإِيمَانِ تَارَةً ، وَمُوجِبِ غَيْرِهِ أُخْرَى ؛ كَالتَّكَلُّمِ بِالشَّهَادَتَيْنِ : تَارَةً يَكُونُ مِنْ مُوجِبِ إيمَانِ الْقَلْبِ وَتَارَةً يَكُونُ تَقِيَّةً كَإِيمَانِ الْمُنَافِقِينَ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } . وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا : هِيَ مِنْ ثَمَرَةِ الْإِيمَانِ إذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنْ إيمَانِ الْقَلْبِ لَا عَنْ نِفَاقٍ قِيلَ : فَإِذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنْ إيمَانٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْإِيمَانِ مُوجِبًا لَهَا وَإِمَّا أَنْ تَقِفَ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ فَإِذَا كَانَ نَفْسُ الْإِيمَانِ مُوجِبًا لَهَا ثَبَتَ أَنَّهَا لَازِمَةٌ لِإِيمَانِ الْقَلْبِ مَعْلُولَةٌ لَا تَنْفَكُّ عَنْهُ وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ ؛ وَإِنْ تَوَقَّفَتْ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ كَانَ الْإِيمَانُ جُزْءَ السَّبَبِ جَعَلَهَا ثَمَرَةً لِلْجُزْءِ الْآخَرِ وَمَعْلُولَةً لَهُ إذْ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ لَهُمَا وَثَمَرَةٌ لَهُمَا . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الصَّالِحَةَ لَا تَكُونُ ثَمَرَةً لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَمَعْلُولَةً
لَهُ إلَّا إذَا كَانَ مُوجِبًا لَهَا وَمُقْتَضِيًا لَهَا وَحِينَئِذٍ فَالْمُوجَبُ لَازِمٌ لِمُوجِبِهِ ، وَالْمَعْلُولُ لَازِمٌ لِعِلَّتِهِ وَإِذَا نَقَصَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ الْوَاجِبَةُ كَانَ ذَلِكَ لِنَقْصِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَعَ كَمَالِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ أَنْ تُعْدَمَ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ الْوَاجِبَةُ ؛ بَلْ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ هَذَا كَامِلًا وُجُودُ هَذَا كَامِلًا ، كَمَا يَلْزَمُ مِنْ نَقْصِ هَذَا نَقْصُ هَذَا ؛ إذْ تَقْدِيرُ إيمَانٍ تَامٍّ فِي الْقَلْبِ بِلَا ظَاهِرٍ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ كَتَقْدِيرِ مُوجَبٍ تَامٍّ بِلَا مُوجِبِهِ وَعِلَّةٍ تَامَّةٍ بِلَا مَعْلُولِهَا وَهَذَا مُمْتَنِعٌ . وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ يَتَبَيَّنُ فَسَادُ قَوْلِ جَهْمٍ والصالحي وَمَنْ اتَّبَعَهُمَا فِي " الْإِيمَانِ " كَالْأَشْعَرِيِّ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَطَائِفَةٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ : كالماتريدي وَنَحْوِهِ حَيْثُ جَعَلُوهُ مُجَرَّدَ تَصْدِيقٍ فِي الْقَلْبِ يَتَسَاوَى فِيهِ الْعِبَادُ وَأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْدَمَ ، وَإِمَّا أَنْ يُوجَدَ لَا يَتَبَعَّضُ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ وُجُودُ الْإِيمَانِ تَامًّا فِي الْقَلْبِ مَعَ وُجُودِ التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ وَالسَّبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ وَأَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ الْأَقْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ صَاحِبَهُ كَافِرٌ ؛ فَلِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ عَدَمَ ذَلِكَ التَّصْدِيقِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ، فِي الْأَفْعَالِ . . . (1) وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الظَّاهِرَةَ لَيْسَتْ لَازِمَةً لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ؛ بَلْ يُوجَدُ إيمَانُ الْقَلْبِ تَامًّا بِدُونِهَا فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ فِيهِ خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ أَخْرَجُوا مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ حُبٍّ لِلَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
أَنْ يَكُونَ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ .
وَثَانِيهَا : جَعَلُوا مَا عُلِمَ أَنَّ صَاحِبَهُ كَافِرٌ - مِثْلُ إبْلِيسَ وَفِرْعَوْنَ وَالْيَهُودِ وَأَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِمْ - أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَافِرًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِ فِي الْبَاطِنِ وَهَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْحِسِّ ، وَكَذَلِكَ جَعَلُوا مَنْ يُبْغِضُ الرَّسُولَ وَيَحْسُدُهُ كَرَاهَةَ دِينِهِ مُسْتَلْزِمًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ صَادِقٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَ ( ثَالِثُهَا ) : أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَا يُوجَدُ مِنْ التَّكَلُّمِ بِالْكُفْرِ مِنْ سَبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَالتَّثْلِيثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُجَامِعًا لِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ، وَيَكُونُ صَاحِبُ ذَلِكَ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ حَقِيقَةً سَعِيدًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَهَذَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ . وَ ( رَابِعُهَا ) : أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْإِيمَانِ قَطُّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا أَطَاعَ اللَّهَ طَاعَةً ظَاهِرَةً مَعَ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقُدْرَتِهِ يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ تَامَّ الْإِيمَانِ سَعِيدًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ . وَهَذِهِ الْفَضَائِحُ تَخْتَصُّ بِهَا الْجَهْمِيَّة دُونَ الْمُرْجِئَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ . وَ ( خَامِسُهَا ) : وَهُوَ يَلْزَمُهُمْ وَيَلْزَمُ الْمُرْجِئَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا تَامَّ الْإِيمَانِ إيمَانُهُ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا لَا صَلَاةً وَلَا صِلَةً وَلَا صِدْقَ حَدِيثٍ وَلَمْ يَدَعْ كَبِيرَةً إلَّا رَكِبَهَا فَيَكُونُ
الرَّجُلُ عِنْدَهُمْ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى دَوَامِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً ، وَلَا يُحْسِنُ إلَى أَحَدٍ حَسَنَةً ، وَلَا يُؤَدِّي أَمَانَةً وَلَا يَدَعُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ كَذِبٍ وَظُلْمٍ وَفَاحِشَةٍ إلَّا فَعَلَهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ ، إيمَانُهُ مِثْلُ إيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَهَذَا يَلْزَمُ كُلَّ مَنْ لَمْ يَقُلْ إنَّ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ فَإِذَا قَالَ : إنَّهَا مِنْ لَوَازِمِهِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ يَسْتَلْزِمُ عَمَلًا صَالِحًا ظَاهِرًا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ، قَوْلُهُ : إنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ لَازِمَةٌ لِمُسَمَّى الْإِيمَانِ أَوْ جُزْءٌ مِنْهُ ( نِزَاعًا لَفْظِيًّا كَمَا تَقَدَّمَ ) . وَ ( سَادِسُهَا ) : أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ أَنَّ مَنْ سَجَدَ لِلصَّلِيبِ وَالْأَوْثَانِ طَوْعًا وَأَلْقَى الْمُصْحَفَ فِي الْحُشِّ عَمْدًا ، وَقَتَلَ النَّفْسَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَتَلَ كُلَّ مَنْ رَآهُ يُصَلِّي وَسَفَكَ دَمَ كُلِّ مَنْ يَرَاهُ يَحُجُّ الْبَيْتَ ؛ وَفَعَلَ مَا فَعَلَتْهُ الْقَرَامِطَةُ بِالْمُسْلِمِينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنًا وَلِيًّا لِلَّهِ ، إيمَانُهُ مِثْلُ إيمَانِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنَافِيًا لِهَذِهِ الْأُمُورِ وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ مُنَافِيًا ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا أَمْكَنَ وُجُودُهَا مَعَهُ فَلَا يَكُونُ وُجُودُهَا إلَّا مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ . وَإِنْ كَانَ مُنَافِيًا لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ كَانَ تَرْكُ هَذِهِ مِنْ مُوجَبِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَاهُ وَلَازِمِهِ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ إلَّا مَنْ تَرَكَ هَذِهِ الْأُمُورَ فَمَنْ لَمْ يَتْرُكْهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ إيمَانِهِ الْبَاطِنِ وَإِذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ والتروك
الظَّاهِرَةُ لَازِمَةً لِلْإِيمَانِ الْبَاطِنِ كَانَتْ مِنْ مُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَكَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهَا تَقْوَى بِقُوَّتِهِ وَتَزِيدُ بِزِيَادَتِهِ وَتَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ فَإِنَّ الشَّيْءَ الْمَعْلُولَ لَا يَزِيدُ إلَّا بِزِيَادَةِ مُوجَبِهِ وَمُقْتَضِيهِ وَلَا يَنْقُصُ إلَّا بِنُقْصَانِ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا جُعِلَ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ مُوجَبَ الْبَاطِنِ وَمُقْتَضَاهُ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ زِيَادَتُهُ لِزِيَادَةِ الْبَاطِنِ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ وَنَقْصِهِ لِنَقْصِ الْبَاطِنِ فَيَكُونُ نَقْصُهُ دَلِيلًا عَلَى نَقْصِ الْبَاطِنِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا إذَا تَدَبَّرَهَا الْمُؤْمِنُ بِعَقْلِهِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْمَذْهَبُ الْحَقُّ ؛ الَّذِي لَا عُدُولَ عَنْهُ ؛ وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ لَزِمَهُ فَسَادٌ مَعْلُومٌ بِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ كَسَائِرِ مَا يَلْزَمُ الْأَقْوَالَ الْمُخَالِفَةَ لِأَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَوْلُ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ : إنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ وَهُوَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ وَالسَّعَادَةَ يُشْبِهُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَّائِينَ وَأَتْبَاعِهِمْ : إنَّ سَعَادَةَ الْإِنْسَانِ فِي مُجَرَّدِ أَنْ يَعْلَمَ الْوُجُودَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ ؛ كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة وَهَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ فِي " مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " وَ " مَسَائِلِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ " مُتَقَارِبَانِ وَكَذَلِكَ فِي " مَسَائِلِ الْإِيمَانِ " وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ وَبَيَّنَّا بَعْضَ مَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، مِثْلُ أَنَّ الْعِلْمَ هُوَ أَحَدُ قُوَّتَيْ النَّفْسِ فَإِنَّ النَّفْسَ لَهَا " قُوَّتَانِ " : قُوَّةُ الْعِلْمِ وَالتَّصْدِيقِ ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ كَمَا أَنَّ الْحَيَوَانَ لَهُ " قُوَّتَانِ " : قُوَّةُ الْحِسِّ ، وَقُوَّةُ الْحَرَكَةِ بِالْإِرَادَةِ .
وَلَيْسَ صَلَاحُ الْإِنْسَانِ فِي مُجَرَّدِ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ دُونَ أَلَّا يُحِبَّهُ وَيُرِيدَهُ وَيَتَّبِعَهُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ سَعَادَتُهُ فِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِاَللَّهِ مُقِرًّا بِمَا يَسْتَحِقُّهُ دُونَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلَّهِ عَابِدًا لِلَّهِ مُطِيعًا لِلَّهِ بَلْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ ؛ فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ الْحَقَّ وَأَبْغَضَهُ وَعَادَاهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَعِقَابِهِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ كَمَا أَنَّ مَنْ كَانَ قَاصِدًا لِلْحَقِّ طَالِبًا لَهُ - وَهُوَ جَاهِلٌ بِالْمَطْلُوبِ وَطَرِيقِهِ - كَانَ فِيهِ مِنْ الضَّلَالِ وَكَانَ مُسْتَحِقًّا مِنْ اللَّعْنَةِ - الَّتِي هِيَ الْبُعْدُ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ - مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَيْسَ مِثْلُهُ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَقُولَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } . وَ " الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ " عَلِمُوا الْحَقَّ فَلَمْ يُحِبُّوهُ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَ " الضَّالُّونَ " قَصَدُوا الْحَقَّ لَكِنْ بِجَهْلِ وَضَلَالٍ بِهِ وَبِطَرِيقِهِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَابِدِ الْجَاهِلِ وَهَذَا حَالُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا حَالُ النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ ضَالُّونَ . كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } .
وَ " الْمُتَفَلْسِفَةُ " أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ جَهْلِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ وَبَيْنَ فُجُورِ هَؤُلَاءِ وَظُلْمِهِمْ فَصَارَ فِيهِمْ مِنْ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ مَا لَيْسَ فِي الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى حَيْثُ جَعَلُوا السَّعَادَةَ فِي مُجَرَّدِ أَنْ يَعْلَمُوا الْحَقَائِقَ حَتَّى يَصِيرَ الْإِنْسَانُ عَالَمًا مَعْقُولًا مُطَابِقًا لِلْعَالَمِ الْمَوْجُودِ ثُمَّ لَمْ يَنَالُوا مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ
وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَخَلْقِهِ وَأَمْرِهِ إلَّا شَيْئًا نَزْرًا قَلِيلًا فَكَانَ جَهْلُهُمْ أَعْظَمَ مِنْ عِلْمِهِمْ ، وَضَلَالُهُمْ أَكْبَرَ مَنْ هُدَاهُمْ وَكَانُوا مُتَرَدِّدِينَ بَيْنَ الْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ ؛ فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي الطَّبِيعَاتِ وَالرِّيَاضِيَّاتِ لَا يُفِيدُ كَمَالَ النَّفْسِ وَصَلَاحَهَا وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَكَلَامُهُمْ فِيهِ : لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَى وَلَا سَمِينٌ فَيُنْتَقَلُ . فَإِنَّ كَلَامَهُمْ فِي " وَاجِبِ الْوُجُودِ " مَا بَيْنَ حَقٍّ قَلِيلٍ وَبَاطِلٍ فَاسِدٍ كَثِيرٍ وَكَذَلِكَ فِي " الْعُقُولِ " وَ " النُّفُوسِ " الَّتِي تَزْعُمُ أَتْبَاعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ أَنَّهَا الْمَلَائِكَةُ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ زَعْمُهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ جِنْسِ زَعْمِهِمْ أَنَّ " وَاجِبَ الْوُجُودِ " هُوَ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْأَذْهَانِ وَكَذَلِكَ كَلَامُهُمْ فِي الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ يَعُودُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى أُمُورٍ مُقَدَّرَةٍ فِي الْأَذْهَانِ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فِي الْأَعْيَانِ ثُمَّ فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَإِثْبَاتِ رَبٍّ مُبْدِعٍ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ سِوَاهُ - لَكِنَّهُ مَعْلُولٌ لَهُ - وَإِثْبَاتُ رَبٍّ مُبْدِعٍ لِكُلِّ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ هُوَ مَعْلُولُ الرَّبِّ فَوْقَهُ ، ذَلِكَ الرَّبُّ مَعْلُولٌ لِرَبِّ فَوْقَهُ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ كَلَامِ النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ الْمَسِيحَ ابْنُ اللَّهِ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ كَمَا بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَيْسَ لِمُقَدِّمِيهِمْ كَلَامٌ فِي " النُّبُوَّاتِ " أَلْبَتَّةَ وَمُتَأَخِّرُوهُمْ حَائِرُونَ فِيهَا مِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِهَا ؛ كَمَا فَعَلَ ابْنُ زَكَرِيَّا الرَّازِي وَأَمْثَالُهُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ .
أَثْبَتُوا الْقُدَمَاءَ الْخَمْسَةَ وَأَخَذُوا مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا هُوَ مِنْ شَرِّهَا وَأَفْسَدِهَا ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَدِّقُ بِهَا مَعَ قَوْلِهِ بِقِدَمِ الْعَالَمِ كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ لَكِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ النَّبِيَّ بِمَنْزِلَةِ مَلَكٍ عَادِلٍ فَيَجْعَلُونَ النُّبُوَّةَ كُلَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْكَشْفِ وَالتَّأْثِيرِ وَالتَّخَيُّلِ فَيَجْعَلُونَ خَاصَّةَ النَّبِيِّ " ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ " : قُوَّةُ الْحَدْسِ الصَّائِبِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْقُوَّةَ الْقُدْسِيَّةَ وَقُوَّةُ التَّأْثِيرِ فِي الْعَالَمِ ، وَقُوَّةُ الْحِسِّ الَّتِي بِهَا يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ الْمَعْقُولَاتِ مُتَخَيَّلَةً فِي نَفْسِهِ فَكَلَامُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا فِي نَفْسِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَمَلَائِكَتِهِ هِيَ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الصُّوَرِ وَالْأَنْوَارِ وَهَذِهِ الْخِصَالُ تَحْصُلُ لِغَالِبِ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ وَالصَّفَا ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ النُّبُوَّةُ عِنْدَهُمْ مُكْتَسَبَةً . وَصَارَ كُلُّ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ كالسهروردي الْمَقْتُولِ وَابْنِ سَبْعِينَ الْمَغْرِبِيِّ وَأَمْثَالِهِمَا - يَطْلُبُ النُّبُوَّةَ وَيَطْمَعُ أَنْ يُقَالَ لَهُ قُمْ فَأَنْذِرْ هَذَا يَقُولُ : لَا أَمُوتُ حَتَّى يُقَالَ لِي : قُمْ فَأَنْذِرْ وَهَذَا يُجَاوِرُ بِمَكَّةَ وَيَعْمِدُ إلَى غَارِ حِرَاءٍ وَيَطْلُبُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ فِيهِ الْوَحْيُ كَمَا نَزَلَ عَلَى الْمُزَّمِّلِ وَالْمُدَّثِّرِ مِثْلُهُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا ، وَمَنْ أَمْثَالُهُمَا يَسْعَى بِأَنْوَاعِ السِّيمِيَاءِ الَّتِي هِيَ مِنْ السِّحْرِ وَيَتَوَهَّمُ أَنَّ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ السِّحْرِ السيميائي . وَمَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ طَلَبُ النُّبُوَّةِ وَادِّعَاؤُهَا - لِعِلْمِهِ بِقَوْلِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ : { لَا نَبِيَّ بَعْدِي } أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ - كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ طَلَبَ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْ النُّبُوَّةِ وَأَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ أَعْظَمُ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ الْوَلِيَّ يَأْخُذُ عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةٍ
وَالنَّبِيُّ يَأْخُذُ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ ، وَبُنِيَ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ مَتْبُوعِيهِ الْفَلَاسِفَةِ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ : مَا يُتَصَوَّرُ فِي نَفْسِ النَّبِيِّ أَوْ الْوَلِيِّ هِيَ الْمَلَائِكَةُ : مِنْ الْأَشْكَالِ النُّورَانِيَّةِ الْخَيَالِيَّةِ " فَالْمَلَائِكَةُ " عِنْدَهُمْ مَا يَتَخَيَّلُهُ فِي نَفْسِهِ . وَ " النَّبِيُّ " عِنْدَهُمْ مَا يَتَلَقَّى بِوَاسِطَةِ هَذَا التَّخَيُّلِ وَ " الْوَلِيُّ " يَتَلَقَّى الْمَعَارِفَ الْعَقْلِيَّةَ بِدُونِ هَذَا التَّخَيُّلِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَنْ تَلَقَّى الْمَعَارِفَ بِلَا تَخَيُّلٍ كَانَ أَكْمَلَ مِمَّنْ تَلَقَّاهَا بِتَخَيُّلِ . فَلَمَّا اعْتَقَدُوا فِي النُّبُوَّةِ مَا يَعْتَقِدُهُ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ صَارُوا يَقُولُونَ : إنَّ الْوِلَايَةَ أَعْظَمُ مِنْ النُّبُوَّةِ كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ : إنَّ الْفَيْلَسُوفَ أَعْظَمُ مِنْ النَّبِيِّ ؛ فَإِنَّ هَذَا قَوْلُ الْفَارَابِيِّ وَمُبَشِّرِ بْنِ فَاتِكٍ وَغَيْرِهِمَا ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ النُّبُوَّةُ أَفْضَلُ الْأُمُورِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ؛ لَا عِنْدَ الْخَاصَّةِ . وَيَقُولُونَ : خَاصَّةُ النَّبِيِّ جَوْدَةُ التَّخْيِيلِ وَالتَّخَيُّلِ فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَخْرَجُوا الْفَلْسَفَةَ فِي قَالَبِ الْوِلَايَةِ وَعَبَّرُوا عَنْ الْمُتَفَلْسِفِ بِالْوَلِيِّ وَأَخَذُوا مَعَانِيَ الْفَلَاسِفَةِ وَأَبْرَزُوهَا فِي صُورَةِ الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ وَقَالُوا : إنَّ الْوَلِيَّ أَعْظَمُ مِنْ النَّبِيِّ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْمُجَرَّدَةَ يَأْخُذُهَا عَنْ اللَّهِ بِلَا وَاسِطَةِ تَخَيُّلٍ لِشَيْءِ فِي نَفْسِهِ ، وَالنَّبِيُّ يَأْخُذُهَا بِوَاسِطَةِ مَا يَتَخَيَّلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ الصُّوَرِ وَالْأَصْوَاتِ وَلَمْ يَكْفِهِمْ هَذَا الْبُهْتَانُ حَتَّى ادَّعَوْا أَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ يَسْتَفِيدُونَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ مِشْكَاةِ خَاتَمِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ ، وَالْعِلْمُ بِاَللَّهِ هُوَ عِنْدَهُمْ بِأَنَّهُ " الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ " السَّارِي فِي الْكَائِنَاتِ فَوُجُودُ كُلِّ مَوْجُودٍ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ وَاجِبِ الْوُجُودِ . وَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ - قَوْلُ الدَّهْرِيَّةِ الطَّبعيَّةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِ
مُبْدِعٌ أَبْدَعَهُ هُوَ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ ؛ بَلْ يَقُولُونَ : الْعَالَمُ نَفْسُهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ . فَحَقِيقَةُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ الإلهيين وَهُوَ يَعُودُ عِنْدَ التَّحَقُّقِ إلَى قَوْلِ الدَّهْرِيَّةِ الطَّبِيعِيِّينَ وَقَدْ حَدَّثُونَا : أَنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ تَنَازَعَ هُوَ وَالشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ السهروردي : هَلْ يُمْكِنُ وَقْتَ تَجَلِّي الْحَقِّ لِعَبْدِ مُخَاطَبَةٌ لَهُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ السهروردي : نَعَمْ يُمْكِنُ ذَلِكَ . فَقَالَ ابْنُ عَرَبِيٍّ : لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ وَأَظُنُّ الْكَلَامَ كَانَ فِي غَيْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَقِيلَ لِابْنِ عَرَبِيٍّ : إنَّ السهروردي يَقُولُ كَذَا وَكَذَا . فَقَالَ : مِسْكِينٌ نَحْنُ تَكَلَّمْنَا فِي مُشَاهَدَةِ الذَّاتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي مُشَاهَدَةِ الصِّفَاتِ . وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالسُّلُوكِ وَالطَّالِبِينَ لِطَرِيقِ التَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ - مَعَ أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُتَابِعُونَ لِلرُّسُلِ وَأَنَّهُمْ مُتَّقُونَ لِلْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لَهُ - يَقُولُونَ هَذَا الْكَلَامَ وَيُعَظِّمُونَهُ وَيُعَظِّمُونَ ابْنَ عَرَبِيٍّ لِقَوْلِهِ مِثْلَ هَذَا وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ فِي الْإِلْحَادِ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ التَّعْطِيلِ وَالِاتِّحَادِ ؛ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الرَّبِّ عِنْدَهُ وُجُودٌ مُجَرَّدٌ لَا اسْمٌ لَهُ وَلَا صِفَةٌ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَى فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَلَا لَهُ كَلَامٌ قَائِمٌ بِهِ وَلَا عِلْمٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يُرَى ظَاهِرًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مُتَجَلِّيًا فِي الْمَصْنُوعَاتِ وَهُوَ عِنْدَهُ غَيْرُ وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ وَشَبَهِهِ ، وَتَارَةً بِظُهُورِ الْكُلِّيِّ فِي جُزْئِيَّاتِهِ كَظُهُورِ الْجِنْسِ فِي أَنْوَاعِهِ وَالنَّوْعِ فِي الْخَاصَّةِ كَمَا تَظْهَرُ الْحَيَوَانِيَّةُ فِي كُلِّ حَيَوَانٍ والإنسانية فِي كُلِّ إنْسَانٍ . وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى غَلَطِ أَسْلَافِهِ " الْمَنْطِقِيِّينَ الْيُونَانِيِّينَ " حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ
الْمَوْجُودَاتِ الْعَيْنِيَّةَ يُقَارِنُهَا جَوَاهِرُ عَقْلِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا تَحْمِلُ لَهَا مِنْ الْكُلِّيَّاتِ فَيَظُنُّونَ أَنَّ فِي الْإِنْسَانِ الْمُعَيَّنِ إنْسَانًا عَقْلِيًّا وَحَيَوَانًا عَقْلِيًّا وَنَاطِقًا عَقْلِيًّا وَحَسَّاسًا عَقْلِيًّا وَجِسْمًا عَقْلِيًّا وَذَاكَ هُوَ الْمَاهِيَّةُ الَّتِي يَعْرِضُ لَهَا الْوُجُودُ وَتِلْكَ الْمَاهِيَّةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُعَيَّنَاتِ وَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ وَقْعٌ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْهُ وَيَتَدَبَّرْهُ . فَإِذَا فَهِمَ حَقِيقَتَهُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ بِكَلَامِ الْمَجَانِينِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِكَلَامِ الْعُقَلَاءِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَإِنَّمَا أَتَى فِيهِ هَؤُلَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمْ تَصَوَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعَانِيَ " كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً " فَظَنُّوا أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ . فَضُلَّالُهُمْ فِي هَذَا عَكْسُ ضُلَّالِهِمْ فِي أَمْرِ الْأَنْبِيَاءِ شَاهَدَتْ أُمُورًا خَارِجَةً عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَزَعَمَ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ . وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ شَهِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أُمُورًا " كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً " فَظَنُّوا أَنَّهَا فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَتْ إلَّا فِي أَنْفُسِهِمْ فَجَعَلُوا مَا فِي أَنْفُسِهِمْ فِي الْخَارِجِ وَلَيْسَ فِيهِ وَجَعَلُوا مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ فَلِهَذَا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِالْغَيْبِ الَّتِي أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ جَعَلُوا وُجُودَ الرَّبِّ الْخَالِقِ لِلْعَالَمِينَ الْبَائِنِ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ أَجْمَعِينَ هُوَ مِنْ جِنْسِ وُجُودِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي الْأَنَاسِيِّ والحيوانية فِي الْحَيَوَانِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَوُجُودِ الْوُجُودِ فِي الثُّبُوتِ - عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْمَعْدُومُ شَيْءٌ - فَإِنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ شَيْئًا مَوْجُودًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ مُغَايَرَتِهِ لَهَا فَضَرَبُوا لَهُ مَثَلًا تَارَةً بِالْكُلِّيَّاتِ وَتَارَةً بِالْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ وَتَارَةً بِالْوُجُودِ الْمُغَايِرِ لِلثُّبُوتِ وَإِذَا مَثَّلُوهُ بِالْمَحْسُوسَاتِ مَثَّلُوهُ بِالشُّعَاعِ فِي الزُّجَاجِ أَوْ بِالْهَوَاءِ فِي الصُّوفَةِ
فَضَرَبُوا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الْأَمْثَالَ ؛ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ؛ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَمْثَالِ ضَالُّونَ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : إنَّمَا مَثَّلُوا بِهِ مِنْ الْمَادَّةِ مَعَ الصُّورَةِ وَالْكُلِّيَّاتِ مَعَ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْوُجُودِ مَعَ الثُّبُوتِ : كُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا شَيْئَيْنِ فَجَعَلُوا الْوَاحِدَ اثْنَيْنِ كَمَا جَعَلُوا الِاثْنَيْنِ وَاحِدًا فِي مِثْلِ صِفَاتِ اللَّهِ يَجْعَلُونَ الْعِلْمَ هُوَ الْعَالِمُ ، وَالْعِلْمَ هُوَ الْمَعْلُومُ وَالْعِلْمَ هُوَ الْقُدْرَةُ ، وَالْعِلْمَ هُوَ الْإِرَادَةُ وَأَنْوَاعُ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي إذَا تَدَبَّرَهَا الْعَاقِلُ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِالْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ ، وَأَعْظَمِ النَّاسِ قَوْلًا لِلْبَاطِلِ ؛ مَعَ مَا فِي نُفُوسِهِمْ وَنُفُوسِ أَتْبَاعِهِمْ مِنْ الدَّعَاوَى الْهَائِلَةِ الطَّوِيلَةِ الْعَرِيضَةِ كَمَا يَدَّعِي إخْوَانُهُمْ الْقَرَامِطَةُ الْبَاطِنِيَّةُ أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ مَعْصُومُونَ مِثْلُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ وَأَضَلِّهِمْ وَأَكْفَرِهِمْ . ( الثَّانِي ) : أَنَّهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ يَجْعَلُونَ وُجُودَهُ مَشْرُوطًا بِوُجُودِ غَيْرِهِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مُبْدِعًا لَهُ ؛ فَإِنَّ وُجُودَ الْكُلِّيَّاتِ فِي الْخَارِجِ مَشْرُوطٌ بِالْجُزْئِيَّاتِ ، وَوُجُودَ الْمَادَّةِ مَشْرُوطٌ بِالصُّورَةِ وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ ، وَوُجُودَ الْأَعْيَانِ مَشْرُوطٌ بِثُبُوتِهَا الْمُسْتَقِرِّ فِي الْعَدَمِ ؛ فَيَلْزَمُهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ أَنْ يَكُونَ وَاجِبُ الْوُجُودِ مَشْرُوطًا بِمَا لَيْسَ هُوَ مِنْ مُبْدِعَاتِهِ ، وَمَا كَانَ وُجُودُهُ مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِهِ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مَصْنُوعًا لَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَهَذَا بَيِّنٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَعُودُ عِنْدَ التَّحْقِيقِ إلَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْخَالِقِ عَيْنَ وُجُودِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُمْ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ ؛ لَكِنْ يَدَّعُونَ الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالثُّبُوتِ : أَوْ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ : وَبَيْنَ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ ، وَهُوَ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُعَيَّنِ ؛ فَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ : بِالْحُلُولِ . تَارَةً يَجْعَلُونَ الْخَالِقَ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ ، وَتَارَةً مَحَلًّا لَهَا وَإِذَا حَقَّقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْمُغَايَرَةِ كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ نَفْسُ الْمَخْلُوقَاتِ فَلَا خَالِقَ وَلَا مَخْلُوقَ وَإِنَّمَا الْعَالَمُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِمَا يَزْعُمُونَهُ مِنْ " التَّوْحِيدِ " عَنْ التَّعَدُّدِ فِي صِفَاتِهِ الْوَاجِبَةِ ؛ وَأَسْمَائِهِ ؛ وَقِيَامِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَعَنْ كَوْنِهِ جِسْمًا ؛ أَوْ جَوْهَرًا ؛ ثُمَّ هُمْ عِنْدَ التَّحْقِيقِ يَجْعَلُونَهُ عَيْنَ الْأَجْسَامِ الْكَائِنَةِ الْفَاسِدَةِ الْمُسْتَقْذَرَةِ وَيَصِفُونَهُ بِكُلِّ نَقْصٍ كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ قَالُوا : أَلَا تَرَى الْحَقَّ يَظْهَرُ بِصِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ ؟ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَبِصِفَاتِ النَّقْصِ ؛ وَبِصِفَاتِ الذَّمِّ ، وَقَالُوا : الْعَلِيُّ لِذَاتِهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ لَهُ الْكَمَالُ الَّذِي يَسْتَغْرِقُ بِهِ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْوُجُودِيَّةِ وَالنِّسَبِ الْعَدَمِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا ؛ أَوْ مَذْمُومَةً عُرْفًا وَعَقْلًا وَشَرْعًا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمُسَمَّى اللَّهِ خَاصَّةً فَهُوَ مُتَّصِفٌ عِنْدَهُمْ بِكُلِّ صِفَةٍ مَذْمُومَةٍ كَمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِكُلِّ صِفَةٍ مَحْمُودَةٍ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ أَمْرَهُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبْسَطَ هُنَا . وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْبِيهُ عَلَى تَشَابُهِ رُؤُوسِ الضَّلَالِ حَتَّى إذَا فَهِمَ الْمُؤْمِنُ
قَوْلَ أَحَدِهِمْ أَعَانَهُ عَلَى فَهْمِ قَوْلِ الْآخَرِ ؛ وَاحْتَرَزَ مِنْهُمْ ، وَبَيَّنَ ضَلَالَهُمْ لِكَثْرَةِ مَا أَوْقَعُوا فِي الْوُجُودِ مِنْ الضَّلَالَاتِ . فَابْنُ عَرَبِيٍّ بِزَعْمِهِ : إنَّمَا تَجَلِّي الذَّاتِ عِنْدَهُ شُهُودٌ مُطْلَقٌ ؛ هُوَ وُجُودُ الْمَوْجُودَاتِ ؛ مُجَرَّدًا مُطْلَقًا لَا اسْمَ لَهُ وَلَا نَعْتَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ تَصَوَّرَ هَذَا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ عَنْهُ خِطَابٌ ؛ فَلِهَذَا زَعَمَ أَنَّ عِنْدَ تَجَلِّي الذَّاتِ لَا يَحْصُلُ خِطَابٌ . وَأَمَّا أَبُو حَفْصٍ السهروردي فَكَانَ أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ وَأَتْبَعَ لِلسُّنَّةِ مِنْ هَذَا وَخَيْرًا مِنْهُ ؛ وَقَدْ رَأَى أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ وَيُخَاطِبُهُمْ حِينَ تَجَلِّيهِ لَهُمْ فَآمَنَ بِذَلِكَ ؛ لَكِنَّ ابْنَ عَرَبِيٍّ فِي فَلْسَفَتِهِ أَشْهَرُ مِنْ هَذَا فِي سُنَّتِهِ . وَلِهَذَا كَانَ أَتْبَاعُهُمَا يُعَظِّمُونَ ابْنَ عَرَبِيٍّ عَلَيْهِ مَعَ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ السهروردي أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ كَمَا حَدَّثَنِي الشَّيْخُ الْمُلَقَّبُ بِحُسَامِ الدِّينِ الْقَادِمِ السَّالِكِ طَرِيقَ ابْنِ حموية الَّذِي يُلَقِّبُهُ أَصْحَابُهُ " سُلْطَانَ الْأَقْطَابِ " ؛ وَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّعْظِيمِ لِابْنِ عَرَبِيٍّ وَابْنِ حموية ؛ وَالْغُلُوُّ فِيهِمَا أَمْرٌ عَظِيمٌ فَبَيَّنَتْ لَهُ كَثِيرًا مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُمَا مِنْ الْفَسَادِ وَالْإِلْحَادِ وَالْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَرَى فِي ذَلِكَ فُصُولٌ ؛ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّعْظِيمِ مَعَ عَدَمِ فَهْمِ حَقِيقَةِ أَقْوَالِهِمَا وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الضَّلَالَاتِ . وَكَانَ مِمَّنْ حَدَّثَنِي عَنْ شَيْخِهِ الطاووسي الَّذِي كَانَ بهمدان عَنْ سَعْدِ الدِّينِ
بْنِ حمويه أَنَّهُ قَالَ : مُحْيِي الدِّينِ ابْنُ عَرَبِيٍّ بَحْرٌ لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ ؛ لَكِنَّ نُورَ الْمُتَابَعَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى وَجْهِ الشَّيْخِ شِهَابِ الدِّينِ السهروردي شَيْءٌ آخَرُ فَقُلْت لَهُ : هَذَا كَمَا يُقَالُ : كَانَ هَؤُلَاءِ أُوتُوا مَنْ مُلْكِ الْكُفَّارِ مُلْكًا عَظِيمًا . لَكِنَّ نُورَ الْإِسْلَامِ الَّذِي عَلَى شِهَابِ غَازِيٍّ صَاحِبِ " ميافا رُقِّينَ " شَيْءٌ آخَرُ . فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ ابْنَ عَرَبِيٍّ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْخَ شِهَابَ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَعْرِفَةِ السُّنَّةِ وَمُتَابَعَتِهَا وَتَحْقِيقِ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ؛ كَتَمَكُّنِ ابْنِ عَرَبِيٍّ فِي طَرِيقِهِ الَّتِي سَلَكَهَا وَجَمَعَ فِيهَا بَيْنَ الْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ . وَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَقْطَعُ دَابِرَهُمْ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَإِثْبَاتُ تَعَيُّنِهِ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمَخْلُوقِ تُرْفَعُ إلَيْهِ الْأَيْدِي بِالدُّعَاءِ وَإِلَيْهِ كَانَ مِعْرَاجُ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ ذَكَرَ السهروردي فِي عَقِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ قَوْلَهُ : " بِلَا إشَارَةٍ وَلَا تَعْيِينٍ " وَهَذِهِ هِيَ الَّتِي اسْتَطَالَ بِهَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّهُ مَتَى نُفِيَتْ الْإِشَارَةُ وَالتَّعْيِينُ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَدَمُ الْمَحْضُ ؛ وَالتَّعْطِيلُ أَوْ الْإِلْحَادُ وَالْوَحْدَةُ وَالْحُلُولُ . وَابْنُ سَبْعِينَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ يَقُولُونَ هَكَذَا : لَا إشَارَةَ وَلَا تَعْيِينَ بَلْ عَيْنُ مَا تَرَى ذَاتٌ لَا تُرَى وَذَاتٌ لَا تُرَى عَيْنُ مَا تَرَى وَيَقُولُونَ فِي أَذْكَارِهِمْ : لَيْسَ إلَّا اللَّهُ بَدَلَ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لِأَنَّ مُعْتَقَدَهُمْ أَنَّهُ وُجُودُ كُلِّ مَوْجُودٍ ؛ فَلَا مَوْجُودَ إلَّا هُوَ ؛ وَالْمُسْلِمُونَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ ؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا جُزْءًا مِنْهَا ؛ وَلَا صِفَةً لَهَا ؛ بَلْ هُوَ بَائِنٌ عَنْهَا وَيَقُولُونَ إنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ
الْمَوْجُودَاتِ فَلَا إلَهَ إلَّا هُوَ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } وَقَالَ : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } . وَهَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ مَا عِنْدَهُمْ غَيْرُ يُمْكِنُ أَنْ يُعْبَدَ وَلَا غَيْرُ يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ وَلِيًّا وَلَا إلَهًا ؛ بَلْ هُوَ الْعَابِدُ وَالْمَعْبُودُ ؛ وَالْمُصَلِّي وَالْمُصَلَّى لَهُ ؛ كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ ابْنُ الْفَارِضِ فِي قَصِيدَتِهِ " نَظْمِ السُّلُوكِ " :
لَهَا صَلَوَاتِي بِالْمَقَامِ أُقِيمُهَا * * * وَأَشْهَدُ فِيهَا أَنَّهَا لِي صَلَّتْ
كِلَانَا مُصَلٍّ وَاحِدٌ سَاجِدٌ إلَى * * * حَقِيقَتِهِ بِالْجَمْعِ فِي كُلِّ سَجْدَةِ
إلَى قَوْلِهِ :
وَمَا كَانَ لِي صَلَّى سِوَايَ وَلَمْ تَكُنْ * * * صَلَاتِي لِغَيْرِي فِي أَدَا كُلِّ رَكْعَةِ
إلَيَّ رَسُولًا كُنْت مِنِّي مُرْسَلًا * * * وَذَاتِي بِآيَاتِي عَلَيَّ اسْتَدَلَّتْ
وَقَوْلُهُ : وَمَازِلْت إيَّاهَا وَإِيَّايَ لَمْ تَزَلْ * * * وَلَا فَرْقَ بَلْ ذَاتِي لِذَاتِي أَحَبَّتْ
فَهَؤُلَاءِ " الْجَهْمِيَّة " مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالصُّوفِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ يَقُولُونَ : الْمَعْرُوفُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمَوْصُوفُ بِالسَّلْبِ وَالنَّفْيِ كَقَوْلِهِمْ : لَا هُوَ دَاخِلُ الْعَالَمِ ؛ وَلَا خَارِجُهُ ؛ وَلَا مُبَايِنُ الْعَالَمِ وَلَا محايث ثُمَّ
يَعُودُونَ فَيَجْعَلُونَهُ حَالًّا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ مَحَلًّا لَهَا أَوْ هُوَ عَيْنُهَا ؛ أَوْ يُعَطِّلُونَهُ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ فَهُمْ فِي هَذَا نَظِيرُ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمَشَّائِينَ : الَّذِينَ يَجْعَلُونَ كَمَالَ الْإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ ؛ وَ " الْعِلْمُ الْأَعْلَى " - عِنْدَهُمْ - وَ " الْفَلْسَفَةُ الْأُولَى " - عِنْدَهُمْ - النَّظَرُ فِي الْوُجُودِ وَلَوَاحِقِهِ وَيَجْعَلُونَ وَاجِبَ الْوُجُودِ وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَكِنْ أُولَئِكَ يُغَيِّرُونَ الْعِبَارَاتِ وَيُعَبِّرُونَ بِالْعِبَارَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَنْ الْإِلْحَادَاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْيُونَانِيَّةِ وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ قُرِّرَ ؛ وَبُسِطَ الْقَوْلُ فِيهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَصْلٌ أَوَّلُ مَا فِي الْحَدِيثِ سُؤَالُهُ عَنْ " الْإِسْلَامِ " : فَأَجَابَهُ بِأَنَّ { الْإِسْلَامَ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ } وَهَذِهِ الْخَمْسُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } . وَهَذَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ فَرَضَ اللَّهُ الْحَجَّ فَلِهَذَا ذَكَرَ الْخَمْسَ : وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ لَا يُوجَدُ فِيهَا ذِكْرُ الْحَجِّ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ { آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ . أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصِيَامُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ } .
وَحَدِيثُ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ أَشْهَرِ الْأَحَادِيثِ وَأَصَحِّهَا . وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ لَمْ يَذْكُرْ الصِّيَامَ لَكِنْ هُوَ مَذْكُورٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ طُرُقِهِ وَفِي مُسْلِمٍ وَهُوَ أَيْضًا مَذْكُورٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ قِصَّةَ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْهُ وَاتَّفَقَا عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِإِيتَاءِ الْخُمُسِ مِنْ الْمَغْنَمِ ؛ وَالْخُمُسُ إنَّمَا فُرِضَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ ، وَشَهْرُ رَمَضَانَ فُرِضَ قَبْلَ ذَلِكَ . وَوَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ خِيَارِ الْوَفْدِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُدُومُهُمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ وَقَدْ قِيلَ قَدِمُوا سَنَةَ الْوُفُودِ : سَنَةَ تِسْعٍ وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ قَدِمُوا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ قَالُوا إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ - يَعْنُونَ أَهْلَ نَجْدٍ - وَإِنَّا لَا نَصِلُ إلَيْك إلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ وَسَنَةَ تِسْعٍ كَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ ذَلَّتْ وَتَرَكَتْ الْحَرْبَ وَكَانُوا بَيْنَ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ خَائِفٍ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ ثُمَّ هَزَمُوا هَوَازِنَ يَوْمَ حنين وَإِنَّمَا كَانُوا يَنْتَظِرُونَ بِإِسْلَامِهِمْ فَتْحَ مَكَّةَ وَقَدْ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْدَفَهُ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتَنْفِيذِ الْعُهُودِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الْعَرَبِ إلَّا أَنَّهُ أَجَّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ وَكَانَتْ فِي ذِي الْقِعْدَةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } الْآيَةَ وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي أَجَّلُوهَا الْأَرْبَعَةُ الْحُرُمُ .
وَلِهَذَا غَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصَارَى بِأَرْضِ الرُّومِ عَامَ تَبُوكَ سَنَةَ تِسْعٍ قَبْلَ إرْسَالِ أَبِي بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَوْسِمِ وَإِنَّمَا أَمْكَنَهُ غَزْوُ النَّصَارَى لَمَّا اطْمَأَنَّ مِنْ جِهَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا خَوْفَ عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدِ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِلْقِتَالِ فِي التَّخَلُّفِ فَلَمْ يَتَخَلَّفْ إلَّا مُنَافِقٌ : أَوْ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ أَوْ مَعْذُورٌ وَلِهَذَا لَمَّا { اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا عَلَى الْمَدِينَةِ عَامَ تَبُوكَ طَعَنَ الْمُنَافِقُونَ فِيهِ لِضَعْفِ هَذَا الِاسْتِخْلَافِ وَقَالُوا : إنَّمَا خَلَّفَهُ لِأَنَّهُ يُبْغِضُهُ . فَاتَّبَعَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ يَبْكِي فَقَالَ : أَتُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ؟ فَقَالَ : أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي } . وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ وَفِيهَا رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ بِأَرْضِ الْعَرَبِ لَا بِمَكَّةَ وَلَا بِنَجْدِ وَنَحْوِهِمَا مَنْ يُقَاتِلُ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ - مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمَا - وَلَا يُخِيفُهُمْ : ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ أَقَرَّ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْمَوْسِمِ يُقِيمُ الْحَجَّ وَالصَّلَاةَ وَيَأْمُرُ أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عريان وَأَتْبَعَهُ بِعَلِيِّ لِأَجْلِ نَقْضِ الْعُهُودِ ؛ إذْ كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ أَنْ لَا يَقْبَلُوا إلَّا مِنْ الْمُطَاعِ الْكَبِيرِ أَوْ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ . وَ ( الْمَقْصُودُ : أَنَّ هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قُدُومَ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَمَّا " حَدِيثُ ضِمَامٍ " فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ { أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْعَاقِلُ يَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُولُك فَزَعَمَ أَنَّك تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَك قَالَ : صَدَقَ
قَالَ : فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ ؟ قَالَ : اللَّهُ قَالَ : فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ ؟ قَالَ : اللَّهُ قَالَ : فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ ؟ قَالَ : اللَّهُ قَالَ : فَبِاَلَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَك قَالَ : نَعَمْ قَالَ وَزَعَمَ رَسُولُك أَنَّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا قَالَ : صَدَقَ قَالَ : فَبِاَلَّذِي أَرْسَلَك آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُك أَنَّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا قَالَ : صَدَقَ قَالَ : فَبِاَلَّذِي أَرْسَلَك آللَّهُ أَمَرَك بِهَذَا قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : وَزَعَمَ رَسُولُك أَنَّ عَلَيْنَا حَجَّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا قَالَ : صَدَقَ ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ وَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُنَّ فَقَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ } . { وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ إذْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ؛ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ ؟ - وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظهرانيهم - فَقُلْنَا : هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ فَقَالَ لَهُ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَجَبْتُك فَقَالَ الرَّجُلُ : لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّنِي سَائِلُك فَمُشَدِّدٌ عَلَيْك فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدُ عَلَيَّ فِي نَفْسِك ؛ فَقَالَ : سَلْ عَمَّا بَدَا لَك ؟ فَقَالَ : أَسْأَلُك بِرَبِّك وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ ؟ آللَّهُ أَرْسَلَك إلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ ؟ فَقَالَ : اللَّهُمَّ نَعَمْ وَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ الصِّيَامَ وَالْحَجَّ فَقَالَ : الرَّجُلُ آمَنْت بِمَا جِئْت بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي ؛ وَأَنَا ضِمَامُ
بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ } . هَذَانِ الطَّرِيقَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَكِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ الْحَجَّ ؛ بَلْ ذَكَرَ الصِّيَامَ ؛ وَالسِّيَاقُ الْأَوَّلُ أَتَمُّ ؛ وَالنَّاسُ يَجْعَلُونَ الْحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا وَاحِدًا . وَيُشْبِهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَكُونَ الْبُخَارِيُّ رَأَى أَنَّ ذِكْرَ الْحَجِّ فِيهِ وَهْمًا لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ؛ هُمْ مِنْ هَوَازِنَ وَهُمْ أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَوَازِنُ كانت مَعَهُمْ وَقْعَةُ حنين بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَسْلَمُوا كُلُّهُمْ بَعْدَ الْوَقْعَةِ وَدَفَعَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ بَعْدَ أَنْ قَسَمَهَا عَلَى الْمُعَسْكَرِ وَاسْتَطَابَ أَنْفُسَهُمْ فِي ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الزِّيَارَةُ إلَّا قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَالْحَجُّ لَمْ يَكُنْ فُرِضَ إذْ ذَاكَ . وَحَدِيثُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ حَدِيثُ ضِمَامٍ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ . قَالَ : وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ قَالَ : هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ : لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ : وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ } وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ
طُرُقِهِ ذِكْرُ الْحَجِّ بَلْ فِيهِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ كَمَا فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا " { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْته دَخَلْت الْجَنَّةَ فَقَالَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ قَالَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا وَلَا أَنْقَصُ مِنْهُ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذَا } وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ضِمَامًا وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ يَا مُحَمَّدُ . أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنْ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ قَالَ : فَكَفَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ وُفِّقَ أَوْ لَقَدْ هُدِيَ ثُمَّ قَالَ : كَيْفَ قُلْت ؟ قَالَ : فَأَعَادَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ فَلَمَّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ تَمَسَّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } هَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي مُسْلِمٍ . وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ قوقل رَوَاهُ مُسْلِمٌ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَرَأَيْت إذَا
صَلَّيْت الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ وَصُمْت رَمَضَانَ وَأَحْلَلْت الْحَلَالَ وَحَرَّمْت الْحَرَامَ وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا } . وَفِي لَفْظٍ " أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النُّعْمَانُ بْنُ قوقل . وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ هَذَا قَدِيمٌ ؛ فَإِنَّ النُّعْمَانَ بْنَ قوقل قُتِلَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ قَتَلَهُ بَعْضُ بَنِي سَعْدِ بْنِ العاص كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ خَرَجَتْ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلِينَ . أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَأَحَادِيثُ الدَّعْوَةِ وَالْقِتَالِ فِيهَا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } . وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرٍ { قَالَ : أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ . فَكَانَ مِنْ فِقْهِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ الْمُخْتَصَرِ أَنَّ الْقِتَالَ عَلَى الزَّكَاةِ قِتَالٌ عَلَى حَقِّ الْمَالِ وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَهُ بِذَلِكَ فِي اللَّفْظِ الْمَبْسُوطِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ . وَالْقُرْآنُ صَرِيحٌ فِي مُوَافَقَةِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } .
وَحَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ . فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ذَكَرَ بَعْضَ الْأَرْكَانِ دُونَ بَعْضٍ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ . فَأَجَابَ بَعْضُ النَّاسِ بِأَنَّ سَبَبَ هَذَا أَنَّ الرُّوَاةَ اخْتَصَرَ بَعْضُهُمْ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ هَذَا طَعْنٌ فِي الرُّوَاةِ وَنِسْبَةٌ لَهُمْ إلَى الْكَذِبِ إذْ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ إنَّمَا يَقَعُ فِي الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ مِثْلُ حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ الصِّيَامَ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَحَدِيثُ ضِمَامٍ حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ الْخَمْسَ وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ قَوقَل حَيْثُ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الصِّيَامَ ، وَبَعْضُهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ فَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ أَحَدَ الرَّاوِيَيْنِ اخْتَصَرَ الْبَعْضُ أَوْ غَلِطَ فِي الزِّيَادَةِ . فَأَمَّا الْحَدِيثَانِ الْمُنْفَصِلَانِ فَلَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِمَا كَذَلِكَ لَا سِيَّمَا وَالْأَحَادِيثُ قَدْ تَوَاتَرَتْ بِكَوْنِ الْأَجْوِبَةِ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً وَفِيهِمَا مَا بُيِّنَ قَطْعًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهَذَا تَارَةً وَبِهَذَا تَارَةً وَالْقُرْآنُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّقَ الْأُخُوَّةَ الْإِيمَانِيَّةَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَقَطْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } كَمَا أَنَّهُ عَلَّقَ تَرْكَ الْقِتَالِ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مُوَافِقًا لِهَذِهِ الْآيَةِ وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ ذَكَرَ خُمُسَ الْمَغْنَمِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً يُقَاتِلُونَ
وَمِثْلُ هَذَا لَا يُذْكَرُ جَوَابُ سُؤَالِ سَائِلٍ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَكِنْ عَنْ هَذَا " جَوَابَانِ " :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ بِحَسَبِ نُزُولِ الْفَرَائِضِ وَأَوَّلُ مَا فَرَضَ اللَّهُ الشَّهَادَتَيْنِ ثُمَّ الصَّلَاةَ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْوَحْيِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ { فِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَوَّلَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } - إلَى قَوْلِهِ - { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ثُمَّ أُنْزِلَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } { قُمْ فَأَنْذِرْ } } فَهَذَا الْخِطَابُ إرْسَالٌ لَهُ إلَى النَّاسِ وَالْإِرْسَالُ بَعْدَ الْإِنْبَاءِ ؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِيهِ إرْسَالٌ وَآخِرُ سُورَةِ اقْرَأْ { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } . فَأَوَّلُ السُّورَةِ أَمْرٌ بِالْقِرَاءَةِ وَآخِرُهَا أَمْرٌ بِالسُّجُودِ وَالصَّلَاةُ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ فَأَفْضَلُ أَقْوَالِهَا الْقِرَاءَةُ وَأَفْضَلُ أَعْمَالِهَا السُّجُودُ وَالْقِرَاءَةُ أَوَّلُ أَقْوَالِهَا الْمَقْصُودَةِ وَمَا بَعْدَهُ تَبَعٌ لَهُ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعَشِيِّ ثُمَّ فُرِضَتْ الْخَمْسُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَكَانَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ؛ فَلَمَّا هَاجَرَ أُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ ؛ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَكَانَتْ الصَّلَاةُ تُكْمَلُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَكَانُوا أَوَّلًا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا تَشَهُّدٌ ثُمَّ أُمِرُوا بِالتَّشَهُّدِ ؛ وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ الْكَلَامُ ؛ وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ لَهُمْ أَذَانٌ . وَإِنَّمَا شُرِعَ الْأَذَانُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ؛ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ ؛ وَالْكُسُوفِ ؛ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ وَغَيْرِ ذَلِكَ . إنَّمَا شُرِعَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ .
وَأُمِرُوا بِالزَّكَاةِ ؛ وَالْإِحْسَانِ فِي مَكَّةَ أَيْضًا ؛ وَلَكِنَّ فَرَائِضَ الزَّكَاةِ وَنُصُبَهَا إنَّمَا شُرِعَتْ بِالْمَدِينَةِ . وَأَمَّا " صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ " فَهُوَ إنَّمَا فُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَأَدْرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَ رمضانات . وَأَمَّا " الْحَجُّ " فَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي وُجُوبِهِ ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ فُرِضَ سَنَةَ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ قَالُوا : وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ وَوُجُوبِ الْعُمْرَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِتْمَامِ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِابْتِدَاءِ الْفِعْلِ وَإِتْمَامِهِ . وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : إنَّمَا وَجَبَ الْحَجُّ مُتَأَخِّرًا قِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ ؛ وَقِيلَ سَنَةَ عَشْرٍ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ آيَةَ الْإِيجَابِ إنَّمَا هِيَ قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي آلَ عِمْرَانَ فِي سِيَاقِ مُخَاطَبَتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ ، وَصَدْرُ آلَ عِمْرَانَ وَمَا فِيهَا مِنْ مُخَاطَبَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ نَزَلَ لَمَّا قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ نَجْرَانَ النَّصَارَى وَنَاظَرُوهُ فِي أَمْرِ الْمَسِيحِ ؛ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ أَدَّى الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ إنْزَالِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا الْجِزْيَةَ وَأَمَرَ فِيهَا بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَغَزَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ الَّتِي غَزَا فِيهَا النَّصَارَى لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَ الْحَجِّ فِي عَامَّةِ الْأَحَادِيثِ وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَأَخِّرَةِ . وَقَدْ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانَ قُدُومُهُمْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَك هَذَا الْحَيَّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ يَعْنُونَ بِذَلِكَ أَهْلَ نَجْدٍ : مِنْ تَمِيمٍ وَأَسَدٍ وغطفان لِأَنَّهُمْ بَيْنَ الْبَحْرِينِ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَعَبْدُ الْقَيْسِ هُمْ مِنْ رَبِيعَةَ لَيْسُوا مِنْ مُضَرَ وَلَمَّا فُتِحَتْ مَكَّةُ زَالَ هَذَا الْخَوْفُ وَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ؛ وَصِيَامِ رَمَضَانَ ؛ وَخُمُسِ الْمَغْنَمِ ؛ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْحَجِّ وَحَدِيثُ ضِمَامَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْحَجَّ كَمَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي حَدِيثِ طَلْحَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمَا مَعَ قَوْلِهِمْ : إنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ هِيَ مِنْ قِصَّةِ ضِمَامٍ وَهَذَا مُمْكِنٌ ؛ مَعَ أَنَّ تَارِيخَ قُدُومِ ضِمَامٍ هَذَا لَيْسَ مُتَيَقَّنًا . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا الْأَمْرُ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ وَذَلِكَ يُوجِبُ إتْمَامَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِيهِ فَنَزَلَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ لَمَّا أَحْرَمُوا بِالْعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ثُمَّ أُحْصِرُوا فَأُمِرُوا بِالْإِتْمَامِ وَبَيَّنَ لَهُمْ حُكْمَ الْإِحْصَارِ وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ لَا عُمْرَةٌ وَلَا حَجٌّ . ( الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مَا يُنَاسِبُهُ فَيَذْكُرُ تَارَةً الْفَرَائِضَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي تُقَاتَلُ عَلَى تَرْكِهَا الطَّائِفَةُ الْمُمْتَنِعَةُ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ
وَيُذْكَرُ تَارَةً مَا يَجِبُ عَلَى السَّائِلِ فَمَنْ أَجَابَهُ بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ يُؤَدِّيهَا وَمَنْ أَجَابَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي مِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَنَحْوِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ مِمَّنْ لَا حَجَّ عَلَيْهِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ فَلَهُمَا شَأْنٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْفَرَائِضِ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْقِتَالَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَتَانِ ؛ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ وَهُوَ مِمَّا ائتمن عَلَيْهِ النَّاسُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْتَمَنُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُهُ أَلَّا يَنْوِيَ الصَّوْمَ وَأَنْ يَأْكُلَ سِرًّا كَمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتُمَ حَدَثَهُ وَجَنَابَتَهُ وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ لَا يُمْكِنُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ . وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ فِي الْإِسْلَامِ الْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي يُقَاتَلُ عَلَيْهَا النَّاسُ وَيَصِيرُونَ مُسْلِمِينَ بِفِعْلِهَا ؛ فَلِهَذَا عَلَّقَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ دُونَ الصِّيَامِ وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا كَمَا فِي آيَتَيْ بَرَاءَةٌ فَإِنَّ بَرَاءَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَ فَرْضِ الصِّيَامِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ { لَمَّا بَعَثَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : إنَّك تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ ؛ فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ : شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوك لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ؛ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوك لِذَلِكَ
فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَمُعَاذٌ أَرْسَلَهُ إلَى الْيَمَنِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ بَعْدَ فَرْضِ الصِّيَامِ ؛ بَلْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ بَلْ بَعْدَ تَبُوكَ وَبَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْجِزْيَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَمُعَاذٌ بِالْيَمَنِ وَإِنَّمَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصِّيَامَ لِأَنَّهُ تَبَعٌ وَهُوَ بَاطِنٌ وَلَا ذَكَرَ الْحَجَّ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ خَاصٌّ لَيْسَ بِعَامِّ وَهُوَ لَا يَجِبُ فِي الْعُمُرِ إلَّا مَرَّةً .
وَلِهَذَا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ يَتْرُكُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ " الْفَرَائِضِ الْأَرْبَعِ " بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا ؛ فَأَمَّا " الشَّهَادَتَانِ " إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِمَا مَعَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ كَافِرٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا عِنْدَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَجَمَاهِيرِ عُلَمَائِهَا وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُرْجِئَةِ وَهُمْ جهمية الْمُرْجِئَةِ : كَجَهْمِ وَالصَّالِحِيَّ وَأَتْبَاعِهِمَا إلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا فِي الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَصْلِ هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ قَوْلٌ مُبْتَدَعٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِيمَانَ الْبَاطِنَ يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ الظَّاهِرَ ؛ بَلْ وَغَيْرَهُ وَأَنَّ وُجُودَ الْإِيمَانِ الْبَاطِنِ تَصْدِيقًا وَحُبًّا وَانْقِيَادًا بِدُونِ الْإِقْرَارِ الظَّاهِرِ مُمْتَنِعٌ . وَأَمَّا " الْفَرَائِضُ الْأَرْبَعُ " فَإِذَا جَحَدَ وُجُوبَ شَيْءٍ مِنْهَا بَعْدَ بُلُوغِ الْحُجَّةِ
فَهُوَ كَافِرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ جَحَدَ تَحْرِيمَ شَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرُ تَحْرِيمُهَا كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةِ بَعِيدَةٍ لَمْ تَبْلُغْهُ فِيهَا شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يُسْتَثْنَوْنَ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ كَمَا غَلِطَ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ اسْتَتَابَهُمْ عُمَرُ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يُسْتَتَابُونَ وَتُقَامُ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ فَإِنْ أَصَرُّوا كَفَرُوا حِينَئِذٍ وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ كَمَا لَمْ يَحْكُمْ الصَّحَابَةُ بِكُفْرِ قدامة بْنِ مَظْعُونٍ . وَأَصْحَابِهِ لَمَّا غَلِطُوا فِيمَا غَلِطُوا فِيهِ مِنْ التَّأْوِيلِ . وَأَمَّا مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ فَفِي التَّكْفِيرِ أَقْوَالٌ لِلْعُلَمَاءِ هِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَد :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَكْفُرُ بِتَرْكِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ حَتَّى الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَمَتَى عَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ بِالْكُلِّيَّةِ كَفَرَ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَد اخْتَارَهَا ابْنُ بَطَّةَ وَغَيْرُهُ .
وَالثَّالِثُ : لَا يَكْفُرُ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَ ( الرَّابِعُ : يَكْفُرُ بِتَرْكِهَا وَتَرْكِ الزَّكَاةِ فَقَطْ . وَ ( الْخَامِسُ : بِتَرْكِهَا وَتَرْكِ الزَّكَاةِ إذَا قَاتَلَ الْإِمَامَ عَلَيْهَا دُونَ تَرْكِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ . وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا طَرَفَانِ . ( أَحَدُهُمَا فِي إثْبَاتِ الْكُفْرِ الظَّاهِرِ . وَ ( الثَّانِي فِي إثْبَاتِ الْكُفْرِ الْبَاطِنِ . فَأَمَّا " الطَّرَفُ الثَّانِي " فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَسْأَلَةِ كَوْنِ الْإِيمَانِ قَوْلًا وَعَمَلًا كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا إيمَانًا ثَابِتًا فِي قَلْبِهِ بِأَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْحَجَّ وَيَعِيشُ دَهْرَهُ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً وَلَا يَصُومُ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يُؤَدِّي لِلَّهِ زَكَاةً وَلَا يَحُجُّ إلَى بَيْتِهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ وَلَا يَصْدُرُ هَذَا إلَّا مَعَ نِفَاقٍ فِي الْقَلْبِ وَزَنْدَقَةٍ لَا مَعَ إيمَانٍ صَحِيحٍ ؛ وَلِهَذَا إنَّمَا يَصِفُ سُبْحَانَهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ السُّجُودِ الْكُفَّارَ كَقَوْلِهِ : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمَا فِي الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ حَدِيثِ التَّجَلِّي { أَنَّهُ إذَا تَجَلَّى تَعَالَى لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَجَدَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَبَقِيَ ظَهْرُ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً مِثْلَ الطَّبَقِ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ } فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ مَنْ سَجَدَ رِيَاءً فَكَيْفَ حَالُ مَنْ لَمْ يَسْجُدْ قَطُّ وَثَبَتَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّارَ تَأْكُلُ مِنْ ابْنِ آدَمَ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مَوْضِعَ السُّجُودِ فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَهُ } فَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَسْجُدُ لِلَّهِ تَأْكُلُهُ النَّارُ كُلَّهُ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُ أُمَّتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ غُرًّا مُحَجَّلًا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَكُونُ مِنْ أُمَّتِهِ . وقَوْله تَعَالَى { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ } { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } وقَوْله تَعَالَى { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } { وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ } { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ } { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى } { وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } . وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ } { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } { حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } فَوَصَفَهُ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ كَمَا وَصَفَهُ بِتَرْكِ التَّصْدِيقِ وَوَصَفَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالتَّوَلِّي وَ " الْمُتَوَلِّي " هُوَ الْعَاصِي الْمُمْتَنِعُ مِنْ الطَّاعَةِ ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } . وَكَذَلِكَ وَصَفَ أَهْلَ سَقَرٍ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُصَلِّينَ وَكَذَلِكَ قَرَنَ التَّكْذِيبَ بِالتَّوَلِّي فِي قَوْلِهِ : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى } { عَبْدًا إذَا صَلَّى } { أَرَأَيْتَ إنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } { أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى } { أَرَأَيْتَ إنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } { كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ } { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } . وَ " أَيْضًا " فِي الْقُرْآنِ عَلَّقَ الْأُخُوَّةَ فِي الدِّينِ عَلَى نَفْسِ إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ كَمَا عَلَّقَ ذَلِكَ عَلَى التَّوْبَةِ مِنْ الْكُفْرِ فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ انْتَفَتْ الْأُخُوَّةُ وَ " أَيْضًا " فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ } . وَفِي الْمُسْنَدِ { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ } . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ الصَّلَاةُ وَلِهَذَا يُعَبِّرُ عَنْهُمْ بِهَا فَيُقَالُ : اخْتَلَفَ أَهْلُ الصَّلَاةِ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَالْمُصَنِّفُونَ لِمَقَالَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ : " مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتِلَافُ الْمُصَلِّينَ " وَفِي الصَّحِيحِ { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا ؛ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا ؛ وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا ؛ فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ لَهُ مَا لَنَا ؛ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْنَا } وَأَمْثَالُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَكْفُرُوا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا ؛ فَلَيْسَتْ لَهُمْ حُجَّةٌ إلَّا وَهِيَ
مُتَنَاوِلَةٌ لِلْجَاحِدِ كَتَنَاوُلِهَا لِلتَّارِكِ فَمَا كَانَ جَوَابُهُمْ عَنْ الْجَاحِدِ كَانَ جَوَابًا لَهُمْ عَنْ التَّارِكِ ؛ مَعَ أَنَّ النُّصُوصَ عَلَّقَتْ الْكُفْرَ بِالتَّوَلِّي كَمَا تَقَدَّمَ ؛ وَهَذَا مِثْلُ اسْتِدْلَالِهِمْ بالعمومات الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْمُرْجِئَةُ كَقَوْلِهِ { مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٍ مِنْهُ . . . أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ . وَأَجْوَدُ مَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ . فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهِنَّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ . وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ } . قَالُوا : فَقَدْ جَعَلَ غَيْرَ الْمُحَافِظِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ . وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا ؛ فَإِنَّ الْوَعْدَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَالْمُحَافَظَةُ فِعْلُهَا فِي أَوْقَاتِهَا كَمَا أَمَرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } وَعَدَمُ الْمُحَافَظَةِ يَكُونُ مَعَ فِعْلِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ كَمَا أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْأَمْرِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } فَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ : مَا إضَاعَتُهَا ؟ فَقَالَ : تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا فَقَالُوا : مَا كُنَّا نَظُنُّ ذَلِكَ إلَّا تَرْكَهَا فَقَالَ : لَوْ تَرَكُوهَا لَكَانُوا كُفَّارًا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ } { الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ }
ذَمَّهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ ؛ لِأَنَّهُمْ سَهَوْا عَنْ حُقُوقِهَا الْوَاجِبَةِ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْوَقْتِ وَإِتْمَامِ أَفْعَالِهَا الْمَفْرُوضَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعًا لَا يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا } فَجَعَلَ هَذِهِ صَلَاةَ الْمُنَافِقِينَ لِكَوْنِهِ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ وَنَقَرَهَا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْأُمَرَاءَ بَعْدَهُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا يُنْكَرُ ؛ وَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ : لَا مَا صَلَّوْا } وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { سَيَكُونُ أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا ثُمَّ اجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ نَافِلَةً } فَنَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ إذَا صَلَّوْا وَكَانَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يُصَلُّوا قُوتِلُوا وَبَيْنَ أَنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا وَذَلِكَ تَرْكُ الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا لَا تَرْكُهَا . وَإِذَا عُرِفَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَدْخَلَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَا مَنْ تَرَكَ وَنَفْسُ الْمُحَافَظَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ صَلَّوْا وَلَمْ يُحَافِظُوا عَلَيْهَا وَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَمْ يُحَافِظْ فَإِنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَ ذَلِكَ قُتِلُوا كُفَّارًا مُرْتَدِّينَ بِلَا رَيْبٍ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَادَةِ أَنَّ رَجُلًا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ مُقِرًّا بِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ مُلْتَزِمًا لِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ يَأْمُرُهُ وَلِيُّ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ فَيَمْتَنِعُ حَتَّى يُقْتَلَ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مُؤْمِنًا فِي الْبَاطِنِ قَطُّ لَا يَكُونُ إلَّا كَافِرًا وَلَوْ قَالَ أَنَا مُقِرٌّ بِوُجُوبِهَا غَيْرَ أَنِّي لَا أَفْعَلُهَا
كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ كَذِبًا مِنْهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ يُلْقِي الْمُصْحَفَ فِي الْحَشِّ وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّ مَا فِيهِ كَلَامَ اللَّهِ أَوْ جَعَلَ يَقْتُلُ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُنَافِي إيمَانَ الْقَلْبِ فَإِذَا قَالَ أَنَا مُؤْمِنٌ بِقَلْبِي مَعَ هَذِهِ الْحَالِ كَانَ كَاذِبًا فِيمَا أَظْهَرَهُ مِنْ الْقَوْلِ . فَهَذَا الْمَوْضِعُ يَنْبَغِي تَدَبُّرُهُ فَمَنْ عَرَفَ ارْتِبَاطَ الظَّاهِرِ بِالْبَاطِنِ زَالَتْ عَنْهُ الشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالْوُجُوبِ وَامْتَنَعَ عَنْ الْفِعْلِ لَا يُقْتَلُ أَوْ يُقْتَلُ مَعَ إسْلَامِهِ ؛ فَإِنَّهُ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الشُّبْهَةُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَى الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَاَلَّتِي دَخَلَتْ عَلَى مَنْ جَعَلَ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ لَا يَكُونُ بِهَا شَيْءٌ مِنْ الْفِعْلِ وَلِهَذَا كَانَ الْمُمْتَنِعُونَ مِنْ قَتْلِ هَذَا مِنْ الْفُقَهَاءِ بَنَوْهُ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي " مَسْأَلَةِ الْإِيمَانِ " وَأَنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جِنْسَ الْأَعْمَالِ مِنْ لَوَازِمِ إيمَانِ الْقَلْبِ وَأَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ التَّامِّ بِدُونِ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ مُمْتَنِعٌ سَوَاءٌ جَعَلَ الظَّاهِرَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ أَوْ جُزْءًا مِنْ الْإِيمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَفْعَلُ بَعْضَ الْمَأْمُورَاتِ وَيَتْرُكُ بَعْضَهَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِحَسَبِ مَا فَعَلَهُ وَالْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَيَجْتَمِعُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ . كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا اُئْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .
وَبِهَذَا تَزُولُ الشُّبْهَةُ فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ ؛ بَلْ أَكْثَرُهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ لَا يَكُونُونَ مُحَافِظِينَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَلَا هُمْ تَارِكُوهَا بِالْجُمْلَةِ بَلْ يُصَلُّونَ أَحْيَانًا وَيَدَعُونَ أَحْيَانًا فَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةُ فِي الْمَوَارِيثِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إذَا جَرَتْ عَلَى الْمُنَافِقِ الْمَحْضِ - كَابْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُنَافِقِينَ - فَلَأَنْ تَجْرِيَ عَلَى هَؤُلَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى . وَبَيَانُ " هَذَا الْمَوْضِعِ " مِمَّا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ : فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَظُنُّ أَنَّ مَنْ قِيلَ هُوَ كَافِرٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ رِدَّةً ظَاهِرَةً فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُنَاكَحُ حَتَّى أَجْرَوْا هَذِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى مَنْ كَفَّرُوهُ بِالتَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ " : مُؤْمِنٌ ؛ وَكَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ وَمُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ مُبْطِنٌ لِلْكُفْرِ . وَكَانَ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعَلَامَاتِ وَدَلَالَاتٍ بَلْ مَنْ لَا يَشُكُّونَ فِي نِفَاقِهِ وَمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِبَيَانِ نِفَاقِهِ - كَابْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ - وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا مَاتَ هَؤُلَاءِ وَرِثَهُمْ وَرَثَتُهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَكَانَ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ آتَوْهُمْ مِيرَاثَهُ وَكَانَتْ تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ حَتَّى تَقُومَ السُّنَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى أَحَدِهِمْ بِمَا يُوجِبُ عُقُوبَتَهُ.
وَلَمَّا خَرَجَتْ الحرورية عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاعْتَزَلُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَهُمْ : إنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا أَلَّا نَمْنَعَكُمْ الْمَسَاجِدَ وَلَا نَمْنَعَكُمْ نَصِيبَكُمْ مِنْ الْفَيْءِ فَلَمَّا اسْتَحَلُّوا قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ قَاتَلَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛
حَيْثُ قَالَ : { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَكَانَتْ الحرورية قَدْ ثَبَتَ قِتَالُهُمْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَكُنْ قِتَالُهُمْ قِتَالَ فِتْنَةٍ كَالْقِتَالِ الَّذِي جَرَى بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ فِي الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ { قَالَ لِلْحَسَنِ ابْنِهِ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَتَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ مِنْ تَرْكِ الْقِتَالِ إمَّا وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا لَمْ يَمْدَحْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَدَلَّ الْحَدِيثُ الْآخَرُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ قَاتَلُوا الْخَوَارِجَ وَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ ؛ وَأَنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ قِتَالُهُمْ كَالْقِتَالِ فِي الْجَمَلِ وصفين الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ لَمْ يَحْكُمُوا بِكُفْرِهِمْ وَلَا قَاتَلُوهُمْ حَتَّى بَدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ. وَالْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ وَتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ وَمَا مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا مَنْ حُكِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ " قَوْلَانِ "
كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَصَارَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِمْ يَحْكِي هَذَا النِّزَاعَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ ؛ وَفِي تَخْلِيدِهِمْ حَتَّى الْتَزَمَ تَخْلِيدَهُمْ كُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ بِعَيْنِهِ وَفِي هَذَا مِنْ الْخَطَأِ مَا لَا يُحْصَى ؛ وَقَابَلَهُ بَعْضُهُمْ فَصَارَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ كُفْرُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ ؛ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَتَوْا مِنْ الْإِلْحَادِ وَأَقْوَالِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ وَالِاتِّحَادِ . وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا : أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا كَمَقَالَاتِ الْجَهْمِيَّة الَّذِينَ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ كُفْرٌ فَيُطْلِقُ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِ الْقَائِلِ ؛ كَمَا قَالَ السَّلَفُ مَنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ وَلَا يَكْفُرُ الشَّخْصُ الْمُعَيَّنُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ كَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ . وَالزَّكَاةَ وَاسْتَحَلَّ الْخَمْرَ ؛ وَالزِّنَا وَتَأَوَّلَ . فَإِنَّ ظُهُورَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَعْظَمُ مِنْ ظُهُورِ هَذِهِ فَإِذَا كَانَ الْمُتَأَوِّلُ الْمُخْطِئُ فِي تِلْكَ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ إلَّا بَعْدَ الْبَيَانِ لَهُ وَاسْتِتَابَتِهِ - كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ فِي الطَّائِفَةِ الَّذِينَ اسْتَحَلُّوا الْخَمْرَ - فَفِي غَيْرِ ذَلِكَ أَوْلَى وَأَحْرَى وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ . { فِي الَّذِي قَالَ : إذَا أَنَا مت فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي فِي الْيَمِّ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ } وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لِهَذَا مَعَ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِعَادَتِهِ إذَا حَرَقُوهُ وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي آيَتَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِذَا كَانَ الْمُنَافِقُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ مُجَاهَدَتُهُ ؟.
قِيلَ مَا يَسْتَقِرُّ فِي الْقَلْبِ مِنْ إيمَانٍ وَنِفَاقٍ لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مُوجِبُهُ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَبْدَاهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ : { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } . فَإِذَا أَظْهَرَ الْمُنَافِقُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ عُوقِبَ عَلَى الظَّاهِرِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ بَاطِنِهِ بِلَا حُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَنْ عَرَّفَهُ اللَّهُ بِهِمْ وَكَانُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَهُمْ كَاذِبُونَ ؛ وَكَانَ يَقْبَلُ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ . وَأَسَاسَ النِّفَاقِ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ أَنَّ الْمُنَافِقَ لَا بُدَّ أَنْ تَخْتَلِفَ سَرِيرَتُهُ وَعَلَانِيَتُهُ وَظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ وَلِهَذَا يَصِفُهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بِالْكَذِبِ كَمَا يَصِفُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّدْقِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } . وَقَالَ : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } . وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ : { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ } - إلَى قَوْلِهِ - { أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } . وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْكُفْرَ " نَوْعَانِ " : كُفْرٌ ظَاهِرٌ
وَكُفْرُ نِفَاقٍ فَإِذَا تَكَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ كَانَ حُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمَ الْكُفَّارِ وَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَقَدْ تَجْرِي عَلَى الْمُنَافِقِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّينَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَلْبِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَلَمْ يُؤَدِّ وَاجِبًا ظَاهِرًا وَلَا صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لَا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَهَا مِثْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ أَوْ يُصَدِّقَ الْحَدِيثَ أَوْ يَعْدِلَ فِي قَسَمِهِ وَحُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ إيمَانٍ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ يَرَوْنَ وُجُوبَ هَذِهِ الْأُمُورِ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِإِيجَابِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَمَنْ قَالَ : بِحُصُولِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ بِدُونِ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْوَاجِبَاتِ سَوَاءٌ جَعَلَ فِعْلَ تِلْكَ الْوَاجِبَاتِ لَازِمًا لَهُ ؛ أَوْ جُزْءًا مِنْهُ فَهَذَا نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ كَانَ مُخْطِئًا خَطَأً بَيِّنًا وَهَذِهِ بِدْعَةُ الْإِرْجَاءِ الَّتِي أَعْظَمَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْكَلَامَ فِي أَهْلِهَا وَقَالُوا فِيهَا مِنْ الْمَقَالَاتِ الْغَلِيظَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَالصَّلَاةُ هِيَ أَعْظَمُهَا وَأَعَمُّهَا وَأَوَّلُهَا وَأَجَلُّهَا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا " الْإِحْسَانُ " فَقَوْلُهُ : { أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك } . قَدْ قِيلَ : إنَّ الْإِحْسَانَ هُوَ الْإِخْلَاصُ وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْإِحْسَانَ يَتَنَاوَلُ الْإِخْلَاصَ وَغَيْرَهُ وَالْإِحْسَانُ يَجْمَعُ كَمَالَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَيَجْمَعُ الْإِتْيَانَ بِالْفِعْلِ الْحَسَنِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ قَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا } فَذَكَرَ إحْسَانَ الدِّينِ أَوَّلًا ثُمَّ ذَكَرَ الْإِحْسَانَ ثَانِيًا فَإِحْسَانُ الدِّينِ هُوَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْإِحْسَانُ الْمَسْئُولُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ فَإِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ ؛ فَفِي . . . (1)
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
قَدْ ذَكَرْت فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ : أَنَّ " الْإِسْلَامَ " الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ ؛ وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ ؛ وَهُوَ أَنْ يُسْلِمَ الْعَبْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ فَيَسْتَسْلِمُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَكُونُ سَالِمًا لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُتَأَلِّهًا لَهُ غَيْرَ مُتَأَلِّهٍ لِمَا سِوَاهُ كَمَا بَيَّنَتْهُ أَفْضَلُ الْكَلَامِ وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ : وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ . وَلَهُ ضِدَّانِ : الْكِبْرُ وَالشِّرْكُ وَلِهَذَا رُوِيَ { أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بَنِيهِ بِلَا إلَهِ إلَّا اللَّهُ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ الْكِبْرِ وَالشِّرْكِ } فِي حَدِيثٍ قَدْ ذَكَرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّ الْمُسْتَكْبِرَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَا يَعْبُدُهُ فَلَا يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا لَهُ وَاَلَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَعْبُدُ غَيْرَهُ يَكُونُ مُشْرِكًا بِهِ فَلَا يَكُونُ سَالِمًا لَهُ بَلْ يَكُونُ لَهُ فِيهِ شِرْكٌ . وَلَفْظُ " الْإِسْلَامِ " يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلَامَ وَالسَّلَامَةَ الَّتِي هِيَ الْإِخْلَاصُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الرُّسُلَ جَمِيعَهُمْ بُعِثُوا بِالْإِسْلَامِ الْعَامِّ الْمُتَضَمِّنِ لِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } وَقَالَ مُوسَى : { إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ } وَقَالَ الْخَلِيلُ لَمَّا قَالَ لَهُ رَبُّهُ : { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } - أَيْضًا وَصَّى بِهَا بَنِيهِ - { يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ يُوسُفُ : { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَعُلِمَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ هُوَ إمَامُ الْحُنَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ كَمَا جَعَلَهُ أُمَّةً وَإِمَامًا وَجَاءَتْ الرُّسُلُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ بِذَلِكَ فَابْتَدَعَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مَا ابْتَدَعُوهُ مِمَّا خَرَجَ بِهِمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ الْعَامُّ وَلِهَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَقُولَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَكُلٌّ مِنْ هَاتَيْنِ الْأُمَّتَيْنِ خَرَجَتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَغَلَبَ عَلَيْهَا أَحَدُ ضِدَّيْهِ فَالْيَهُودُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الْكِبْرُ وَيَقِلُّ فِيهِمْ الشِّرْكُ وَالنَّصَارَى يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الشِّرْكُ وَيَقِلُّ فِيهِمْ الْكِبْرُ . وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ فِي الْيَهُودِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إلَّا اللَّهَ } . وَهَذَا هُوَ أَصْلُ الْإِسْلَامِ . إلَى قَوْلِهِ : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } . وَهَذَا اللَّفْظُ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ ؛ هُوَ إنْكَارٌ لِذَلِكَ عَلَيْهِمْ . وَذَمٌّ لَهُمْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُذَمُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوهُ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى
أَنْفُسُهُمْ اسْتَكْبَرُوا فَيَقْتُلُونَ فَرِيقًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَيُكَذِّبُونَ فَرِيقًا ؛ وَهَذَا حَالُ الْمُسْتَكْبِرِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ مَا لَا يَهْوَاهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ فَسَّرَ الْكِبْرَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِأَنَّهُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ . قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ ؟ فَقَالَ : لَا إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَلَكِنَّ الْكِبْرَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } وَبَطَرُ الْحَقِّ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ " الْكِبْرَ " فِي قَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ قَالَ : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } إلَى أَنْ قَالَ : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا } . وَهَذَا حَالُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ بَلْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَهُوَ الْغَاوِي كَمَا قَالَ : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } الْآيَةَ وَهَذَا مِثْلُ عُلَمَاءِ السُّوءِ وَقَدْ قَالَ لَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَيْهِمْ : { وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } فَاَلَّذِينَ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ ؛ خِلَافُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } .
فَأُولَئِكَ الْمُسْتَكْبِرُونَ الْمُتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ مَصْرُوفُونَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَعْلَمُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ لَمَّا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا عَلِمُوهُ اسْتِكْبَارًا وَاتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ عُوقِبُوا بِأَنْ مُنِعُوا الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ ؛ فَإِنَّ الْعِلْمَ حَرْبٌ لِلْمُتَعَالِي كَمَا أَنَّ السَّيْلَ حَرْبٌ لِلْمَكَانِ الْعَالِي وَاَلَّذِينَ يَرْهَبُونَ رَبَّهُمْ عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوهُ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ عِلْمًا وَرَحْمَةً إذْ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَلِهَذَا لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ النَّصَارَى : { بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } . وَالرُّهْبَانُ : مِنْ الرَّهْبَنَةِ { وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } كَانُوا بِذَلِكَ أَقْرَبَ مَوَدَّةً إلَى الَّذِينَ آمَنُوا . كَمَا قَالَ : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } . فَلَمَّا كَانَ فِيهِمْ رَهْبَةٌ وَعَدَمُ كِبْرٍ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْهُدَى فَقَالَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَعَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ وَهُمْ الْأُمَّةُ الشُّهَدَاءُ فَإِنَّ النَّصَارَى لَهُمْ قَصْدٌ وَعِبَادَةٌ وَلَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ وَشَهَادَةٌ ؛ وَلِهَذَا فَإِنْ كَانَ الْيَهُودُ شَرًّا مِنْهُمْ ؛ بِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ كِبْرًا وَأَقَلُّ رَهْبَةً وَأَعْظَمُ قَسْوَةً فَإِنَّ النَّصَارَى شَرٌّ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْظَمُ ضَلَالًا وَأَكْثَرُ شِرْكًا وَأَبْعَدُ عَنْ تَحْرِيمِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِالشِّرْكِ الَّذِي ابْتَدَعُوهُ كَمَا وَصَفَ الْيَهُودَ بِالْكِبْرِ الَّذِي هَوُوهُ فَقَالَ تَعَالَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } إلَى قَوْلِهِ : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } الْآيَةَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ قَوْلَهُمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَإِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَقَوْلُهُمْ : اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ؛ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَبَيَّنَ عَظِيمَ فِرْيَتِهِمْ وَشَتْمَهُمْ لِلَّهِ وَقَوْلَهُمْ " الْإِدُّ " الَّذِي : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } وَلِهَذَا يَدْعُوهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ إلَى أَلَّا يَعْبُدُوا إلَّا إلَهًا وَاحِدًا كَقَوْلِهِ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } إلَى قَوْلِهِ { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعًا } وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ بِمَخْلُوقِ مِنْ الْبَشَرِ أَوْ غَيْرَهُمْ يَصِيرُونَ هُمْ مُشْرِكُونَ . وَيَصِيرُ الَّذِي أَشْرَكُوا بِهِ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مُسْتَكْبِرًا كَمَا قَالَ : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ عِبَادَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَإِنْ أَشْرَكَ بِهِمْ الْمُشْرِكُونَ . وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إلَهٍ إلَّا إلَهٌ وَاحِدٌ } إلَى قَوْلِهِ : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يُشْرِكُوا بِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ كَمَا فَعَلُوهُ . وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ دِينِ الْيَهُودِ الْكِبْرَ عَاقَبَهُمْ بِالذِّلَّةِ : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا } . وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ دِينِ النَّصَارَى الْإِشْرَاكَ لِتَعْدِيدِ الطُّرُقِ إلَى اللَّهِ أَضَلَّهُمْ عَنْهُ ؛ فَعُوقِبَ كُلٌّ مِنْ الْأُمَّتَيْنِ عَلَى مَا اجْتَرَمَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } . كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { يُحْشَرُ الْجَبَّارُونَ والمتكبرون يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ يَطَؤُهُمْ النَّاسُ بِأَرْجُلِهِمْ } . وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا : { مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا فِي رَأْسِهِ حِكْمَةٌ فَإِنْ تَوَاضَعَ قِيلَ لَهُ : انْتَعِشْ نَعَشَك اللَّهُ وَإِنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قِيلَ لَهُ : انْتَكِسْ نَكَسَك اللَّهُ } . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ } { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ } . وَلِهَذَا اسْتَوْجَبُوا الْغَضَبَ وَالْمَقْتَ . وَالنَّصَارَى لَمَّا دَخَلُوا فِي الْبِدَعِ : أَضَلَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَضَّلُوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَهُمْ إنَّمَا ابْتَدَعُوهَا لِيَتَقَرَّبُوا بِهَا إلَيْهِ وَيَعْبُدُوهُ فَأَبْعَدَتْهُمْ عَنْهُ وَأَضَلَّتْهُمْ عَنْهُ وَصَارُوا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ .
فَتَدَبَّرْ هَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَهْدِينَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ . وَقَدْ وَصَفَ بَعْضَ الْيَهُودِ بِالشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } وَفِي قَوْلِهِ : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } فَفِي الْيَهُودِ مَنْ عَبَدَ الْأَصْنَامَ وَعَبَدَ الْبَشَرَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَكْبِرَ عَنْ الْحَقِّ يُبْتَلَى بِالِانْقِيَادِ لِلْبَاطِلِ فَيَكُونُ الْمُسْتَكْبِرُ مُشْرِكًا كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ عَنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ : أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ اسْتِكْبَارِهِمْ وَجُحُودِهِمْ مُشْرِكِينَ فَقَالَ عَنْ مُؤْمِنِ آلَ فِرْعَوْنَ : { وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ } { تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ } { لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ } . وَقَالَ : { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ } الْآيَةَ . وَقَالَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ لَهُمْ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مُشْرِكِينَ ؟ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ فِرْعَوْنَ
أَنَّهُ جَحَدَ الْخَالِقَ فَقَالَ : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي } وَقَالَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } وَقَالَ عَنْ قَوْمِهِ : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وَالْإِشْرَاكُ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ مُقِرٍّ بِاَللَّهِ وَإِلَّا فَالْجَاحِدُ لَهُ لَمْ يُشْرِكْ بِهِ . قِيلَ : لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ جُحُودَ الصَّانِعِ إلَّا عَنْ فِرْعَوْنَ مُوسَى وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ يُوسُفَ فَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِاَللَّهِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ وَلِهَذَا كَانَ خِطَابُ يُوسُفَ لِلْمَلِكِ وَلِلْعَزِيزِ وَلَهُمْ : يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ كَقَوْلِهِ : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } إلَى قَوْلِهِ { إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { إنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَدْ قَالَ مُؤْمِنُ آلَ - حم - { وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا } فَهَذَا يَقْتَضِي : أَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ يُوسُفُ كَانُوا يُقِرُّونَ بِاَللَّهِ . وَلِهَذَا كَانَ إخْوَةُ يُوسُفَ يُخَاطِبُونَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ يُوسُفُ وَيَظُنُّونَهُ مِنْ آلَ فِرْعَوْنَ بِخِطَابِ يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِالصَّانِعِ كَقَوْلِهِمْ : { تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } وَقَالَ لَهُمْ : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } وَقَالَ : { مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } وَقَالُوا لَهُ :
{ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ يُوسُفَ أَكْرَمَ أَبَوَيْهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ لَمَّا قَدِمُوا إكْرَامًا عَظِيمًا مَعَ عِلْمِهِ بِدِينِهِمْ وَاسْتِقْرَاءُ أَحْوَالِ النَّاسِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . فَإِنَّ جُحُودَ الصَّانِعِ لَمْ يَكُنْ دِينًا غَالِبًا عَلَى أُمَّةٍ مِنْ الْأُمَمِ قَطُّ وَإِنَّمَا كَانَ دِينُ الْكُفَّارِ الْخَارِجِينَ عَنْ الرِّسَالَةِ هُوَ الْإِشْرَاكُ وَإِنَّمَا كَانَ يَجْحَدُ الصَّانِعَ بَعْضُ النَّاسِ وَأُولَئِكَ كَانَ عُلَمَاؤُهُمْ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الصَّابِئَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يُعَظِّمُونَ الْهَيَاكِلَ وَالْكَوَاكِبَ وَالْأَصْنَامَ وَالْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ مِنْ نَقْلِ أَخْبَارِهِمْ وَسِيَرِهِمْ كُلِّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّ فِرْعَوْنَ مُوسَى : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُمْ - دُونَ الْفَرَاعِنَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ - ؛ { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي } ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى } نَكَالَ الْكَلِمَةِ الْأُولَى . وَنَكَالَ الْكَلِمَةِ الْأَخِيرَةِ وَكَانَ فِرْعَوْنُ فِي الْبَاطِنِ عَارِفًا بِوُجُودِ الصَّانِعِ وَإِنَّمَا اسْتَكْبَرَ كإبليس وَأَنْكَرَ وُجُودَهُ وَلِهَذَا قَالَ لَهُ مُوسَى : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } فَلَمَّا أَنْكَرَ الصَّانِعَ وَكَانَتْ لَهُ آلِهَةٌ يَعْبُدُهَا بَقِيَ عَلَى عِبَادَتِهَا وَلَمْ يَصِفْهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالشِّرْكِ وَإِنَّمَا وَصَفَهُ بِجُحُودِ الصَّانِعِ وَعِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى . وَالْمُنْكِرُ لِلصَّانِعِ مِنْهُمْ مُسْتَكْبِرٌ كَثِيرًا مَا يَعْبُدُ آلِهَةً ؛ وَلَا يَعْبُدُ اللَّهَ قَطُّ ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ : هَذَا الْعَالَمُ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ . وَبَعْضُ أَجْزَائِهِ مُؤَثِّرٌ فِي بَعْضٍ وَيَقُولُ إنَّمَا انْتَفَعَ بِعِبَادَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَصْنَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِهَذَا كَانَ بَاطِنُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى الْإِسْلَامِ هُوَ قَوْلَ فِرْعَوْنَ .
وَكُنْت أُبَيِّنُ أَنَّهُ مَذْهَبُهُمْ وَأُبَيِّنُ أَنَّهُ حَقِيقَةُ مَذْهَبِ فِرْعَوْنَ حَتَّى حَدَّثَنِي الثِّقَةُ : عَنْ بَعْضِ طَوَاغِيتِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : نَحْنُ عَلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ ؛ وَلِهَذَا يُعَظِّمُونَ فِرْعَوْنَ فِي كُتُبِهِمْ تَعْظِيمًا كَثِيرًا . فَإِنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا ثَمَّ صَانِعًا لِلْعَالَمِ خَلَقَ الْعَالَمَ وَلَا أَثْبَتُوا رَبًّا مُدَبِّرًا لِلْمَخْلُوقَاتِ وَإِنَّمَا جَعَلُوا نَفْسَ الطَّبِيعَةِ هِيَ الصَّانِعَ وَلِهَذَا جَوَّزُوا عِبَادَةَ كُلِّ شَيْءٍ وَقَالُوا مَنْ عَبَدَهُ فَقَدَ عَبَدَ اللَّهَ وَلَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرُ اللَّهِ فَمَا مِنْ شَيْءٍ يُعْبَدُ إلَّا وَهُوَ اللَّهُ وَهَذِهِ الْكَائِنَاتُ عِنْدَهُمْ أَجْزَاؤُهُ أَوْ صِفَاتُهُ كَأَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ أَوْ صِفَاتِهِ فَهَؤُلَاءِ إذَا عَبَدُوا الْكَائِنَاتِ فَلَمْ يَعْبُدُوهَا لِتُقَرِّبَهُمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى ؛ لَكِنْ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ هِيَ اللَّهُ أَوْ مُجَلَّى مِنْ مَجَالِيهِ أَوْ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِهِ أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْ تَعَيُّنٌ مِنْ تعيناته وَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ مَا يَعْبُدُهُ فِرْعَوْنُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لَكِنَّ فِرْعَوْنَ لَا يَقُولُ : هِيَ اللَّهُ وَلَا تُقَرِّبُنَا إلَى اللَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ : هِيَ شُفَعَاؤُنَا وَتُقَرِّبُنَا إلَى اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هِيَ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ وَأُولَئِكَ أَكْفَرُ مِنْ حَيْثُ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ عَبَدُوا غَيْرَ اللَّهِ أَوْ جَحَدُوهُ ؛ وَهَؤُلَاءِ أَوْسَعُ ضَلَالًا مِنْ حَيْثُ جَوَّزُوا عِبَادَةَ كُلِّ شَيْءٍ وَزَعَمُوا أَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَأَنَّ الْعَابِدَ هُوَ الْمَعْبُودُ وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا قَصَدُوا عِبَادَةَ اللَّهِ . وَإِذَا كَانَ أُولَئِكَ كَانُوا مُشْرِكِينَ كَمَا وُصِفُوا بِذَلِكَ . وَفِرْعَوْنُ مُوسَى هُوَ الَّذِي جَحَدَ الصَّانِعَ وَكَانَ يَعْبُدُ الْآلِهَةَ وَلَمْ يَصِفْهُ اللَّهُ بِالشِّرْكِ . فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ كَمَا يُحِبُّونَ اللَّهَ أَوْ تَزِيدُ مَحَبَّتُهُمْ لَهُمْ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ ؛ وَلِهَذَا : يَشْتُمُونَ اللَّهَ إذَا شُتِمَتْ آلِهَتَهُمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } . فَقَوْمُ فِرْعَوْنَ قَدْ يَكُونُونَ أَعْرَضُوا عَنْ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُشْرِكِينَ بِهِ وَاسْتَجَابُوا لِفِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } و { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي } . وَلِهَذَا لَمَّا خَاطَبَهُمْ الْمُؤْمِنُ ذَكَرَ الْأَمْرَيْنِ فَقَالَ : { تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } فَذَكَرَ الْكُفْرَ بِهِ الَّذِي قَدْ يَتَنَاوَلُ جُحُودَهُ وَذَكَرَ الْإِشْرَاكَ بِهِ أَيْضًا ؛ فَكَانَ كَلَامُهُ مُتَنَاوِلًا لِلْمَقَالَتَيْنِ وَالْحَالَيْنِ جَمِيعًا . فَقَدْ تَبَيَّنَ : أَنَّ الْمُسْتَكْبِرَ يَصِيرُ مُشْرِكًا إمَّا بِعِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى مَعَ اسْتِكْبَارِهِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ لَكِنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا شِرْكًا نَظِيرُ مَنْ امْتَنَعَ مَعَ اسْتِكْبَارِهِ عَنْ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُمْ كَانُوا إذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } { وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ } فَهَؤُلَاءِ مُسْتَكْبِرُونَ مُشْرِكُونَ ؛ وَإِنَّمَا اسْتِكْبَارُهُمْ عَنْ إخْلَاصِ الدِّينِ لِلَّهِ فَالْمُسْتَكْبِرُ الَّذِي لَا يُقِرُّ بِاَللَّهِ فِي الظَّاهِرِ كَفِرْعَوْنَ أَعْظَمُ كَفْرًا مِنْهُمْ وَإِبْلِيسَ الَّذِي يَأْمُرُ بِهَذَا كُلِّهِ وَيُحِبُّهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ أَعْظَمُ كُفْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِوُجُودِ اللَّهِ وَعَظَمَتِهِ كَمَا أَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ أَيْضًا عَالِمًا بِوُجُودِ اللَّهِ . وَإِذَا كَانَتْ الْبِدَعُ وَالْمَعَاصِي شُعْبَةً مِنْ الْكُفْرِ وَكَانَتْ مُشْتَقَّةً مِنْ شُعَبِهِ . كَمَا أَنَّ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ وَمُشْتَقَّةٌ مِنْهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي يَعْرِفُ الْحَقَّ وَلَا يَتَّبِعُهُ غَاوٍ يُشْبِهُ الْيَهُودَ ؛ وَأَنَّ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَشَرْعٍ : هُوَ ضَالٌّ يُشْبِهُ النَّصَارَى ؛ كَمَا كَانَ يَقُولُ مَنْ يَقُولُ مِنْ السَّلَفِ : مَنْ فَسَدَ مِنْ الْعُلَمَاءِ
فَفِيهِ شُبَهٌ مِنْ الْيَهُودِ ؛ وَمَنْ فَسَدَ مِنْ الْعِبَادِ فَفِيهِ شُبَهٌ مِنْ النَّصَارَى .
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ هَذَيْنِ الشَّبَهَيْنِ الْفَاسِدَيْنِ ؛ مِنْ حَالِ قَوْمٍ فِيهِمْ اسْتِكْبَارٌ وَقَسْوَةٌ عَنْ الْعِبَادَةِ وَالتَّأَلُّهِ ؛ وَقَدْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ وَحَظًّا مِنْ الْعِلْمِ ؛ وَقَوْمٌ فِيهِمْ عِبَادَةٌ وَتَأَلُّهٌ بِإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ وَضَلَالٍ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَوَحْيِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدْ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا وَهَذَا كَثِيرٌ مُنْتَشِرٌ فِي النَّاسِ ؛ وَالشُّبَهُ تَقِلُّ تَارَةً وَتَكْثُرُ أُخْرَى ؛ فَأَمَّا الْمُسْتَكْبِرُونَ الْمُتَأَلِّهُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ الَّذِينَ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ . وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ ؛ فَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ فِرْعَوْنَ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
لَفْظُ " الْإِسْلَامِ " يُسْتَعْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ : " مُتَعَدِّيًا " كَقَوْلِهِ : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } وَقَوْلِهِ : { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ } الْآيَةَ { وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَاءِ الْمَنَامِ . أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك } . وَيُسْتَعْمَلُ " لَازِمًا " كَقَوْلِهِ : { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وَقَوْلِهِ : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } وَقَوْلِهِ عَنْ بلقيس : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . وَهُوَ يَجْمَعُ مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا الِانْقِيَادُ وَالِاسْتِسْلَامُ .
وَالثَّانِي : إخْلَاصُ ذَلِكَ وَإِفْرَادُهُ . كَقَوْلِهِ : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } . وَعُنْوَانُهُ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَلَهُ مَعْنَيَانِ .
أَحَدُهُمَا : الدِّينُ الْمُشْتَرَكُ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الَّذِي بُعِثَ بِهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ ؛ كَمَا دَلَّ عَلَى اتِّحَادِ دِينِهِمْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَالثَّانِي مَا اخْتَصَّ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنْ الدِّينِ وَالشِّرْعَةِ وَالْمِنْهَاجِ - وَهُوَ الشَّرِيعَةُ وَالطَّرِيقَةُ وَالْحَقِيقَةُ - وَلَهُ مَرْتَبَتَانِ :
أَحَدُهُمَا الظَّاهِرُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَهِيَ الْمَبَانِي الْخَمْسُ . وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الظَّاهِرُ مُطَابِقًا لِلْبَاطِنِ . فَبِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ جَاءَتْ الْآيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَالْحَدِيثَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْإِيمَانِ فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا . وَبِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي يُقَالُ : { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } وَقَوْلُهُ : { وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وَقَوْلُهُ : آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَفَسَّرَهُ بِخِصَالِ الْإِسْلَامِ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْإِيمَانُ التَّامُّ وَالدِّينُ وَالْإِسْلَامُ سَوَاءٌ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَفْهَمْ الْمُعْتَزِلَةُ غَيْرَهُ . وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَعْنًى ثَالِثٌ هُوَ كَمَالِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ } فَيَكُونُ أَسْلَمَ غَيْرَهُ أَيْ جَعَلَهُ سَالِمًا مِنْهُ . وَلَفْظُ الْإِيمَانِ : قِيلَ أَصْلُهُ التَّصْدِيقُ - وَلَيْسَ مُطَابِقًا لَهُ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ تَصْدِيقًا عَنْ غَيْبٍ وَإِلَّا فَالْخَبَرُ عَنْ مَشْهُودٍ لَيْسَ تَصْدِيقُهُ إيمَانًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْأَمْنِ الَّذِي هُوَ الطُّمَأْنِينَةُ وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُخْبِرِ الَّذِي قَدْ يَقَعُ فِيهِ رَيْبٌ وَالْمَشْهُودَاتُ لَا رَيْبَ فِيهَا . إلَّا عَلَى هَذَا - فَأَمَّا تَصْدِيقُ الْقَلْبِ فَقَطْ كَمَا تَقُولُ
الْجَهْمِيَّة وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَإِمَّا الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ كَمَا تَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ أَوْ بِاللِّسَانِ كَمَا تَقُولُهُ الكَرَّامِيَة وَإِمَّا التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ - فَإِنَّ الْجَمِيعَ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى التَّصْدِيقِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَمَا فَسَّرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ (*) - . وَقِيلَ : بَلْ هُوَ الْإِقْرَارُ ؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ إنَّمَا يُطَابِقُ الْخَبَرَ فَقَطْ وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَيُطَابِقُ الْخَبَرَ وَالْأَمْرَ كَقَوْلِهِ : { أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا } وَلِأَنَّ قَرَّ وَآمَنَ : مُتَقَارِبَانِ . فَالْإِيمَانُ دُخُولٌ فِي الْأَمْنِ وَالْإِقْرَارُ دُخُولٌ فِي الْإِقْرَارِ وَعَلَى هَذَا فَالْكَلِمَةُ إقْرَارٌ وَالْعَمَلُ بِهَا إقْرَارٌ أَيْضًا . ثُمَّ هُوَ فِي الْكِتَابِ بِمَعْنَيَيْنِ : أَصْلٌ وَفَرْعٌ وَاجِبٌ فَالْأَصْلُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ وَرَاءَ الْعَمَلِ فَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ : { آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَاَلَّذِي يَجْمَعُهُمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ } { لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } . وَحَدِيثُ " الْحَيَّا " وَ " وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ " وَهُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ أَصْلٍ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ وَمِنْ وَاجِبٍ يَنْقُصُ بِفَوَاتِهِ نَقْصًا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ الْعُقُوبَةَ وَمِنْ مُسْتَحَبٍّ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ عُلُوُّ الدَّرَجَةِ فَالنَّاسُ فِيهِ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمُقْتَصِدٌ وَسَابِقٌ كَالْحَجِّ وَكَالْبَدَنِ وَالْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَعْيَانِ وَالْأَعْمَالِ وَالصِّفَاتِ فَمِنْ سَوَاءِ أَجْزَائِهِ مَا إذَا ذَهَبَ نَقْصٌ عَنْ الْأَكْمَلِ وَمِنْهُ مَا نَقَصَ عَنْ الْكَمَالِ وَهُوَ تَرْكُ الْوَاجِبَاتِ أَوْ فِعْلُ الْمُحَرَّمَاتِ وَمِنْهُ مَا نَقَصَ رُكْنُهُ وَهُوَ تَرْكُ الِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ : الَّذِي يَزْعُمُ الْمُرْجِئَةُ وَالْجَهْمِيَّة أَنَّهُ مُسَمًّى فَقَطْ وَبِهَذَا تَزُولُ شُبُهَاتُ الْفِرَقِ . وَأَصْلُهُ الْقَلْبُ وَكَمَالُهُ الْعَمَلُ الظَّاهِرُ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ أَصْلَهُ الظَّاهِرُ وَكَمَالَهُ الْقَلْبُ .
وَقَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
مَعْلُومٌ أَنَّ أَصْلَ " الْإِيمَانِ " هُوَ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ أَصْلُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ كَمَا بَيَّنْته فِي أَوَّلِ الْجُزْءِ (*) .
فَأَمَّا " الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ " فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ قَدْ أَقَرَّ بِهِ جُمْهُورُ الْخَلَائِقِ إلَّا شَوَاذَّ الْفِرَقِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ والْإِسْمَاعِيلِيَّة وَنَحْوِهِمْ أَوْ مَنْ نَافَقَ فِيهِ مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلتَّمَسُّكِ بِالْمِلَلِ وَإِنَّمَا يَقَعُ اخْتِلَافُ أَهْلِ الْمِلَلِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَعِبَادَاتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَأَمَّا " الْإِيمَانُ بِالرَّسُولِ " فَهُوَ الْمُهِمُّ إذْ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِهِ وَلَا تَحْصُلُ النَّجَاةُ وَالسَّعَادَةُ بِدُونِهِ إذْ هُوَ الطَّرِيقُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ رُكْنَا الْإِسْلَامِ : " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ ؛ لَا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ . وَالْإِقْرَارُ ضِمْنَ قَوْلِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ وَعَمَلِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الِانْقِيَادُ - تَصْدِيقُ الرَّسُولِ
فِيمَا أَخْبَرَ وَالِانْقِيَادُ لَهُ فِيمَا أَمَرَ كَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاَللَّهِ هُوَ الِاعْتِرَافُ بِهِ وَالْعِبَادَةُ لَهُ فَالنِّفَاقُ يَقَعُ كَثِيرًا فِي حَقِّ الرَّسُولِ وَهُوَ أَكْثَرُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِنْ نِفَاقِ الْمُنَافِقِينَ فِي حَيَاتِهِ وَالْكُفْرُ هُوَ عَدَمُ الْإِيمَانِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ تَكْذِيبٌ أَوْ اسْتِكْبَارٌ أَوْ إبَاءٌ أَوْ إعْرَاضٌ ؛ فَمَنْ لَمْ يَحْصُلْ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ وَالِانْقِيَادُ فَهُوَ كَافِرٌ . ثُمَّ هُنَا " نفاقان " : نِفَاقٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَنِفَاقٌ لِأَهْلِ الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ - فَأَمَّا النِّفَاقُ الْمَحْضُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي كُفْرِ صَاحِبِهِ فَأَنْ لَا يَرَى وُجُوبَ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَا وُجُوبَ طَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَإِنْ اعْتَقَدَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ عَظِيمُ الْقَدْرِ - عِلْمًا وَعَمَلًا وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ وَطَاعَتُهُ ؛ لَكِنَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ لَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الْمِلَلِ إذَا كَانَ الْمَعْبُودُ وَاحِدًا وَيَرَى أَنَّهُ تَحْصُلُ النَّجَاةُ وَالسَّعَادَةُ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَبِغَيْرِ مُتَابَعَتِهِ ؛ إمَّا بِطْرِيقِ الْفَلْسَفَةِ وَالصُّبُوءِ أَوْ بِطْرِيقِ التَّهَوُّدِ وَالتَّنَصُّرِ كَمَا هُوَ : قَوْلِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي غَيْرِهَا فَإِنَّهُمْ وَإِنْ صَدَّقُوهُ وَأَطَاعُوهُ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ التَّارِكُ لِتَصْدِيقِهِ وَطَاعَتِهِ مُعَذَّبًا ؛ بَلْ يَرَوْنَ ذَلِكَ مِثْلَ التَّمَسُّكِ بِمَذْهَبِ إمَامٍ أَوْ طَرِيقَةِ شَيْخٍ أَوْ طَاعَةِ مَلِكٍ ؛ وَهَذَا دِينُ التَّتَارِ وَمَنْ دَخَلَ مَعَهُمْ . أَمَّا النِّفَاقُ الَّذِي هُوَ دُونَ هَذَا ؛ فَأَنْ يَطْلُبَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْ غَيْرِ خَبَرِهِ ؛ أَوْ الْعَمَلَ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ ؛ كَمَا يُبْتَلَى بِالْأَوَّلِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ . وَبِالثَّانِي كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ أَوْ تَجِبُ طَاعَتُهُ لَكِنَّهُمْ فِي سُلُوكِهِمْ الْعِلْمِيِّ
وَالْعَمَلِيِّ غَيْرَ سَالِكِينَ هَذَا الْمَسْلَكَ بَلْ يَسْلُكُونَ مَسْلَكًا آخَرَ : إمَّا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الذَّوْقِ وَالْوَجْدِ ؛ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ التَّقْلِيدِ ؛ وَمَا جَاءَ عَنْ الرَّسُولِ إمَّا أَنْ يُعْرِضُوا عَنْهُ وَإِمَّا أَنْ يَرُدُّوهُ إلَى مَا سَلَكُوهُ ؛ فَانْظُرْ نِفَاقَ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ رَسُولٌ وَأَنَّهُ أَعْلَمُ النَّاسِ لَكِنْ إذَا لَمْ يُوجِبُوا مُتَابَعَتَهُ وَسَوَّغُوا تَرْكَ مُتَابَعَتِهِ كَفَرُوا وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا لَكِنَّ بَسْطَ الْكَلَامِ فِي حُكْمِ هَؤُلَاءِ : لَهُ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا .
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ هَلْ فَوْقَهُ مَقَامٌ مِنْ الْمَقَامَاتِ أَوْ حَالٌ مِنْ الْأَحْوَالِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ الْمَحْمُودَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ تَكُونُ صِفَةُ الْإِيمَانِ نُورًا يُوقِعُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَيَعْرِفُ الْعَبْدُ عِنْدَ وُقُوعِهِ فِي قَلْبِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَكُونُ لِأَوَّلِ حُصُولِهِ سَبَبٌ مِنْ الْأَسْبَابِ - مِثْلَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْخَيْرِ أَوْ مُجَالَسَتِهِمْ وَصُحْبَتِهِمْ أَوْ تَعَلُّمِ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؟ . فَإِنْ كَانَ لِأَوَّلِ حُصُولِهِ سَبَبٌ فَمَا هُوَ ذَلِكَ السَّبَبُ ؟ وَمَا الْأَسْبَابُ أَيْضًا الَّتِي يَقْوَى بِهَا الْإِيمَانُ - إلَى أَنْ يَكْمُلَ عَلَى تَرْتِيبِهَا ؟ هَلْ يَبْدَأُ بِالزُّهْدِ حَتَّى يُصَحِّحَهُ ؟ أَمْ بِالْعِلْمِ حَتَّى يَرْسَخَ فِيهِ ؟ أَمْ بِالْعِبَادَةِ حَتَّى يُجْهِدَ نَفْسَهُ ؟ أَمْ يَجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ ؟ أَمْ كَيْفَ يَتَوَصَّلُ إلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الَّذِي مَدَحَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؟ بَيِّنُوا لَنَا الْأَسْبَابَ وَأَنْوَاعَهَا وَشَرْحَهَا الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ وَمَا وَصْفُ صَاحِبِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْكُمْ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، اسْمُ " الْإِيمَانِ " يُسْتَعْمَلُ مُطْلَقًا وَيُسْتَعْمَلُ مُقَيَّدًا وَإِذَا اُسْتُعْمِلَ مُطْلَقًا فَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَقْوَالِ الْعَبْدِ وَأَعْمَالِهِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ الْإِيمَانَ قَوْلًا وَعَمَلًا يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ وَيُدْخِلُونَ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا فِي مُسَمَّاهُ وَهَذَا مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَالْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا قَدْ يُسَمَّى مَقَامًا وَحَالًا مِثْلَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالتَّوَكُّلِ وَالرِّضَا وَالْخَشْيَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَمِنْ هَذَا مَا خَرَجَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } . فَذَكَرَ أَعْلَى شُعَبِ الْإِيمَانِ وَهُوَ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنْهَا كَمَا فِي الْمُوَطَّأِ وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ
عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وَفِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ { أَنَّهُ قَالَ : لِعَمِّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ يَا عَمِّ قُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَك بِهَا عِنْدَ اللَّهِ } .
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الدَّلَائِلُ عَلَى أَنَّ أَحْسَنَ الْحَسَنَاتِ هُوَ التَّوْحِيدُ كَمَا أَنَّ أَسْوَأَ السَّيِّئَاتِ هُوَ الشِّرْكُ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَتِلْكَ الْحَسَنَةُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ سَعَادَةِ صَاحِبِهَا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ حَدِيثُ الْمُوجِبَتَيْنِ : مُوجِبَةُ السَّعَادَةِ وَمُوجِبَةُ الشَّقَاوَةِ ؛ فَمَنْ مَاتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَمَّا مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النَّارَ وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهَا أَعَلَا شُعَبِ الْإِيمَانِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ : آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ ؟ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَتُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَتُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَتُؤَدُّوا خُمُسَ الْمَغْنَمِ } فَجَعَلَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ وَقَدْ جَعَلَهَا مِنْ الْإِسْلَامِ فِي { حَدِيثِ جبرائيل الصَّحِيحِ - لَمَّا أَتَاهُ فِي صُورَةِ أَعْرَابِيٍّ - وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ ؛ فَقَالَ : الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَسَأَلَهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ : أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ
وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ وَتَحُجَّ الْبَيْتَ } وَفِي حَدِيثٍ فِي الْمُسْنَدِ قَالَ : { الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ } . فَأَصْلُ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَلْبِ وَعَمَلُهُ وَهُوَ إقْرَارٌ بِالتَّصْدِيقِ وَالْحُبِّ وَالِانْقِيَادِ وَمَا كَانَ فِي الْقَلْبِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مُوجِبُهُ وَمُقْتَضَاهُ عَلَى الْجَوَارِحِ وَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ ضَعْفِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ مِنْ مُوجِبِ إيمَانِ الْقَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ وَهِيَ تَصْدِيقٌ لِمَا فِي الْقَلْبِ وَدَلِيلٌ عَلَيْهِ وَشَاهِدٌ لَهُ وَهِيَ شُعْبَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ وَبَعْضٌ لَهُ ؛ لَكِنَّ مَا فِي الْقَلْبِ هُوَ الْأَصْلُ لِمَا عَلَى الْجَوَارِحِ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : إنَّ الْقَلْبَ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءَ جُنُودُهُ فَإِنْ طَابَ الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ } . وَلِهَذَا ظَنَّ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا هُوَ فِي الْقَلْبِ خَاصَّةً وَمَا عَلَى الْجَوَارِحِ لَيْسَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّاهُ وَلَكِنْ هُوَ مِنْ ثَمَرَاتِهِ وَنَتَائِجِهِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ حَتَّى آلَ الْأَمْرُ بِغُلَاتِهِمْ - كَجَهْمِ وَأَتْبَاعِهِ - إلَى أَنْ قَالُوا : يُمْكِنُ أَنْ يُصَدِّقَ بِقَلْبِهِ وَلَا يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ إلَّا كَلِمَةَ الْكُفْرِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إظْهَارِهَا فَيَكُونُ الَّذِي فِي الْقَلْبِ إيمَانًا نَافِعًا لَهُ فِي الْآخِرَةِ وَقَالُوا : حَيْثُ حَكَمَ الشَّارِعُ بِكُفْرِ أَحَدٍ بِعَمَلِ أَوْ قَوْلٍ : فَلِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ مَا فِي الْقَلْبِ وَقَوْلُهُمْ مُتَنَاقِضٌ ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَلْزِمًا لِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ ثَابِتًا فِي
الْقَلْبِ مَعَ الدَّلِيلِ الْمُسْتَلْزِمِ لِنَفْيِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الْكُفْرِ الْبَاطِنِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ يُبَيِّنُ أَنَّ تَحْقِيقَ الْإِيمَانِ وَتَصْدِيقَهُ بِمَا هُوَ مِنْ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ . كَقَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَقَالَ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَنْتَفِي عِنْدَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْإِيمَانِ قِيلَ هَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّهُ يَنْتَفِي الْإِيمَانُ الْبَاطِنُ مَعَ عَدَمِ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ إيمَانٌ يُنَافِي الْكُفْرَ بِدُونِ أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ : لَا قَوْلٍ وَلَا عَمَلٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ - وَذَلِكَ تَصْدِيقٌ - وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ إذَا تَحَقَّقَ مَا فِيهِ أَثَرٌ فِي الظَّاهِرِ ضَرُورَةً لَا يُمْكِنُ انْفِكَاكُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ فَالْإِرَادَةُ الْجَازِمَةُ لِلْفِعْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ تُوجِبُ وُقُوعَ الْمَقْدُورِ فَإِذَا كَانَ فِي الْقَلْبِ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثَابِتًا اسْتَلْزَمَ مُوَالَاةَ أَوْلِيَائِهِ
وَمُعَادَاةَ أَعْدَائِهِ { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } فَهَذَا التَّلَازُمُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ . وَمِنْ جِهَةِ ظَنِّ انْتِفَاءِ التَّلَازُمِ غَلِطَ غالطون ؛ كَمَا غَلِطَ آخَرُونَ فِي جَوَازِ وُجُودِ إرَادَةٍ جَازِمَةٍ مَعَ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ بِدُونِ الْفِعْلِ حَتَّى تَنَازَعُوا : هَلْ يُعَاقَبُ عَلَى الْإِرَادَةِ بِلَا عَمَلٍ ؟ وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا : أَنَّ الْهِمَّةَ الَّتِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا فِعْلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْهَامُّ لَيْسَتْ إرَادَةً جَازِمَةً وَأَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ لَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ مَعَهَا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَالْعَفْوُ وَقَعَ عَمَّنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ وَلَمَّا يَفْعَلْهَا ؛ لَا عَنْ مَنْ أَرَادَ وَفَعَلَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ وَعَجَزَ عَنْ حُصُولِ مُرَادِهِ كَاَلَّذِي أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ فَقَاتَلَهُ حَتَّى قُتِلَ أَحَدُهُمَا ؛ فَإِنَّ هَذَا يُعَاقَبُ ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ وَفَعَلَ الْمَقْدُورَ مِنْ الْمُرَادِ وَمَنْ عَرَفَ الْمُلَازِمَاتِ الَّتِي بَيْنَ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ زَالَتْ عَنْهُ شُبُهَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي كَثُرَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِيهَا .
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : فَهَلْ اسْمُ الْإِيمَانِ لِلْأَصْلِ فَقَطْ أَوْ لَهُ وَلِفُرُوعِهِ ؟ . وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُهُمَا وَقَدْ يَخُصُّ الِاسْمُ وَحْدَهُ بِالِاسْمِ مَعَ الِاقْتِرَانِ وَقَدْ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْأَصْلَ إذَا لَمْ يَخُصَّ إلَّا هُوَ ؛ كَاسْمِ الشَّجَرَةِ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ إذَا وُجِدَتْ وَلَوْ قُطِعَتْ الْفُرُوعُ لَكَانَ اسْمُ الشَّجَرَةِ يَتَنَاوَلُ الْأَصْلَ وَحْدَهُ وَكَذَلِكَ اسْمُ الْحَجِّ هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُشْرَعُ فِيهِ مِنْ رُكْنٍ وَوَاجِبٍ
وَمُسْتَحَبٍّ وَهُوَ حَجٌّ أَيْضًا تَامٌّ بِدُونِ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَهُوَ حَجٌّ نَاقِصٌ بِدُونِ الْوَاجِبَاتِ الَّتِي يَجْبُرُهَا دَمٌ . وَالشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنْفِي الْإِيمَانَ عَنْ الْعَبْدِ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ لَكِنْ لِتَرْكِ وَاجِبٍ ؛ بِحَيْثُ تَرَكَ مَا يَجِبُ مِنْ كَمَالِهِ وَتَمَامِهِ ؛ لَا بِانْتِفَاءِ مَا يُسْتَحَبُّ فِي ذَلِكَ وَلَفْظُ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ : قَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَمَالُ الْوَاجِبُ وَالْكَمَالُ الْمُسْتَحَبُّ ؛ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : الْغُسْلُ يَنْقَسِمُ : إلَى كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ فَإِذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } وَ { لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَنَحْوَ ذَلِكَ كَانَ لِانْتِفَاءِ بَعْضِ مَا يَجِبُ فِيهِ ؛ لَا لِانْتِفَاءِ الْكَمَالِ الْمُسْتَحَبِّ . وَالْإِيمَانُ يَتَبَعَّضُ وَيَتَفَاضَلُ النَّاسُ فِيهِ : كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ وَمِثْقَالُ شُعَيْرَةٍ مِنْ إيمَانٍ } . وَأَمَّا إذَا اُسْتُعْمِلَ اسْمُ الْإِيمَانِ مُقَيَّدًا : كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } وَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ } وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُنَا قَدْ يُقَالُ : إنَّهُ مُتَنَاوِلٌ لِذَلِكَ وَإِنَّ عَطْفَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وَقَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } .
وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ دَلَالَةَ الِاسْمِ تَنَوَّعَتْ بِالْإِفْرَادِ وَالِاقْتِرَانِ كَلَفْظِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا أُفْرِدَ تَنَاوَلَ الْآخَرَ وَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا كَانَا صِنْفَيْنِ : كَمَا فِي آيَةِ الصَّدَقَةِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ فُرُوعَ الْإِيمَانِ مَعَ أُصُولِهِ كَالْمَعْطُوفَيْنِ وَهِيَ مَعَ جَمِيعِهِ كَالْبَعْضِ مَعَ الْكُلِّ وَمِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ نَشَأَ نِزَاعٌ وَاشْتِبَاهٌ هَلْ الْأَعْمَالُ دَاخِلَةٌ فِي الْإِيمَانِ أَمْ لَا ؟ لِكَوْنِهَا عُطِفَتْ عَلَيْهِ . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَدْ يُعْطَفُ عَلَى الْإِيمَانِ بَعْضُ شُعَبِهِ الْعَالِيَةِ أَوْ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ الرَّفِيعَةِ : كَالْيَقِينِ وَالْعِلْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيُشْعِرُ الْعَطْفُ بِالْمُغَايَرَةِ ؛ فَيُقَالُ هَذَا : أَرْفَعُ الْإِيمَانِ - أَيْ الْيَقِينُ وَالْعِلْمُ أَرْفَعُ مِنْ الْإِيمَانِ الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ هَذَا الْيَقِينُ وَالْعِلْمُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاضَلُونَ فِي نَفْسِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ فِي قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ وَفِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ وَفِي بَقَائِهِ وَدَوَامِهِ وَفِي مُوجِبِهِ وَنَقِيضِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِ فَيُخَصُّ أَحَدُ نَوْعَيْهِ بِاسْمِ يَفْضُلُ بِهِ عَلَى النَّوْعِ الْآخَرِ وَيَبْقَى اسْمُ الْإِيمَانِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مُتَنَاوِلًا لِلْقِسْمِ الْآخَرِ وَكَذَلِكَ يُفْعَلُ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ ؛ كَمَا يُقَالُ : الْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْإِنْسَانُ خَيْرٌ مِنْ الدَّوَابِّ وَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَدْخُلُ فِي الدَّوَابِّ فِي قَوْلِهِ : { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } . فَإِذَا عُرِفَ هَذَا ؛ فَحَيْثُ وُجِدَ فِي كَلَامٍ مَقْبُولٍ تَفْضِيلُ شَيْءٍ عَلَى الْإِيمَانِ فَإِنَّمَا هُوَ تَفْضِيلُ نَوْعٍ خَاصٍّ عَلَى عُمُومِهِ أَوْ تَفْضِيلُ بَعْضِ شُعَبِهِ الْعَالِيَةِ عَلَى غَيْرِهِ ،
وَاسْمُ الْإِيمَانِ قَدْ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَقَدْ يَخُصُّ أَحَدَهُمَا كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ قِيلَ : أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ أَسْمَائِهِ .
فَصْل :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَلْ تَكُونُ صِفَةُ الْإِيمَانِ نُورًا يُوقِعُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَيَعْرِفُ الْعَبْدُ عِنْدَ وُقُوعِهِ فِي قَلْبِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ ؟ فَيُقَالُ لَهُ : قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } قَالَ أبي بْنُ كَعْبٍ وَغَيْرُهُ : مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ إلَى قَوْلِهِ : { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ } فَالْإِيمَانُ الَّذِي يَهَبُهُ اللَّهُ لِعَبْدِهِ سَمَّاهُ نُورًا وَسُمِّيَ الْوَحْيُ النَّازِلُ مِنْ السَّمَاءِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ الْإِيمَانُ { نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بَلْ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَعْظَمِ الْحَقِّ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : بِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ إيمَانٌ يُفَرِّقُ بِمُجَرَّدِ مَا أُعْطِيَهُ مِنْ الْإِيمَانِ بَيْنَ كُلِّ حَقٍّ وَكُلِّ بَاطِلٍ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : هَلْ يَكُونُ لِأَوَّلِ حُصُولِهِ سَبَبٌ ؟ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِسَبَبِ مِثْلَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَمِثْلَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمْ وَمِثْلَ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعْجِزَاتِهِ وَالنَّظَرِ فِي ذَلِكَ وَمِثْلَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَمِثْلَ التَّفَكُّرِ فِي أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ وَمِثْلَ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ لِلْعَبْدِ الَّتِي تَضْطَرُّهُ إلَى الذُّلِّ لِلَّهِ وَالِاسْتِسْلَامِ لَهُ وَاللُّجُوءِ إلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا سَبَبًا لِشَيْءِ مِنْ الْإِيمَانِ وَهَذَا سَبَبًا لِشَيْءِ آخَرَ ؛ بَلْ كُلُّ مَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْأُمُورِ فَلَا بُدَّ لَهُ مَنْ سَبَبٍ وَسَبَبُ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهِ يَكُونُ تَارَةً مِنْ الْعَبْدِ وَتَارَةً مَنْ غَيْرِهِ مِثْلَ مَنْ يُقَيِّضُ لَهُ مَنْ يَدْعُوهُ إلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَيَنْهَاهُ عَنْ الشَّرِّ وَيُبَيِّنُ لَهُ عَلَامَاتِ الدِّينِ وَحُجَجَهُ وَبَرَاهِينَهُ وَمَا يَعْتَبِرُهُ وَيَنْزِلُ بِهِ وَيَتَّعِظُ بِهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَالْأَسْبَابُ الَّتِي يَقْوَى بِهَا الْإِيمَانُ إلَى أَنْ يَكْمُلَ عَلَى تَرْتِيبِهَا ؟ هَلْ يَبْدَأُ بِالزُّهْدِ ؟ أَوْ بِالْعِلْمِ ؟ أَوْ بِالْعِبَادَةِ ؟ أَمْ يَجْمَعُ بَيْنَ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِ ؟ فَيُقَالُ : لَهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ وَالْعِبَادَةِ الْوَاجِبَةِ وَالزُّهْدِ الْوَاجِبِ ثُمَّ النَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي الْإِيمَانِ ؛ كَتَفَاضُلِهِمْ فِي شُعَبِهِ وَكُلُّ إنْسَانٍ يَطْلُبُ مَا يُمْكِنُهُ طَلَبَهُ وَيُقَدِّمُ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَقْدِيمِهِ مِنْ الْفَاضِلِ . وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ فِي هَذَا الْبَابِ : فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الْعِلْمُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ الزُّهْدِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ الزُّهْدُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ الْعِبَادَةُ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا فَالْمَشْرُوعُ لِكُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وَإِذَا ازْدَحَمَتْ شُعَبُ الْإِيمَانِ قَدَّمَ مَا كَانَ أَرْضَى لِلَّهِ وَهُوَ عَلَيْهِ أَقْدَرُ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى الْمَفْضُولِ أَقْدَرَ مِنْهُ عَلَى الْفَاضِلِ وَيَحْصُلُ لَهُ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْصُلُ مِنْ الْفَاضِلِ فَالْأَفْضَلُ لِهَذَا أَنْ يَطْلُبَ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَهُوَ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ وَلَا يَطْلُبُ مَا هُوَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا إذَا كَانَ مُتَعَذِّرًا فِي حَقِّهِ أَوْ مُتَعَسِّرًا يَفُوتُهُ مَا هُوَ أَفْضَلُ لَهُ وَأَنْفَعُ ؛ كَمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِاللَّيْلِ فَيَتَدَبَّرُهُ وَيَنْتَفِعُ بِتِلَاوَتِهِ وَالصَّلَاةُ تَثْقُلُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْتَفِعُ مِنْهَا بِعَمَلِ أَوْ يَنْتَفِعُ بِالذِّكْرِ أَعْظَمَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِالْقِرَاءَةِ .
فَأَيُّ عَمَلٍ كَانَ لَهُ أَنْفَعَ وَلِلَّهِ أَطْوَعَ أَفْضَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ تَكَلُّفِ عَمَلٍ لَا يَأْتِي بِهِ عَلَى وَجْهِهِ بَلْ عَلَى وَجْهٍ نَاقِصٍ وَيَفُوتُهُ بِهِ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ آكَدُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ الذِّكْرَ فِي فِعْلِهِ الْخَاصِّ : كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَأَنَّ الذِّكْرَ وَالْقِرَاءَةَ وَالدُّعَاءَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا خَيْرٌ مِنْ الصَّلَاةِ . وَالزُّهْدُ هُوَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ وَهُوَ كَالْبُغْضِ الْمُخَالِفِ لِلْمَحَبَّةِ وَالْكَرَاهَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِرَادَةِ وَكُلٌّ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ لَهُ أَقْسَامٌ فِي نَفْسِهِ وَفِي مُتَعَلَّقِهِ فَالزُّهْدُ فِيهِ انْقِسَامٌ : إلَى الْمَزْهُودِ فِيهِ وَإِلَى نَفْسِ الزُّهْدِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَإِنَّ الزُّهْدَ . . . (1) وَأَمَّا نَفْسُ الزُّهْدِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الرَّغْبَةِ وَهُوَ الْكَرَاهَةُ وَالْبُغْضُ فَحَقِيقَةُ الْمَشْرُوعِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كَرَاهَةُ الْعَبْدِ وَبُغْضُهُ وَحُبُّهُ تَابِعًا لِحُبِّ اللَّهِ وَبُغْضِهِ وَرِضَاهُ وَسَخَطِهِ فَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَيَبْغُضُ مَا أَبْغَضَهُ اللَّهُ وَيَرْضَى مَا يَرْضَاهُ وَيَسْخَطُ مَا يَسْخَطُهُ اللَّه بِحَيْثُ لَا يَكُونُ تَابِعًا هَوَاهُ بَلْ لِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الزُّهَّادِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَعْرَضُوا عَنْ فُضُولِهَا وَلَمْ يُقْبِلُوا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا الزُّهْدِ يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَلِهَذَا كَانَ فِي الْمُشْرِكِينَ زُهَّادٌ وَفِي أَهْلِ الْكِتَابِ زُهَّادٌ وَفِي أَهْلِ الْبِدَعِ زُهَّادٌ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْهَدُ لِطَلَبِ الرَّاحَةِ مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْهَدُ لِمَسْأَلَةِ أَهْلِهَا وَالسَّلَامَةِ مِنْ أَذَاهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْهَدُ فِي الْمَالِ لِطَلَبِ الرَّاحَةِ إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهَا وَلَا رَسُولُهُ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنْ يَزْهَدَ فِيمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيَرْغَبَ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَكُونُ زُهْدُهُ هُوَ الْإِعْرَاضُ عَمَّا لَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ أَمْرَ إيجَابٍ وَلَا أَمْرَ اسْتِحْبَابٍ سَوَاءٌ كَانَ مُحَرَّمًا أَوْ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مُقْبِلًا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَإِلَّا فَتَرْكُ الْمَكْرُوهِ بِدُونِ فِعْلِ الْمَحْبُوبِ لَيْسَ بِمَطْلُوبِ وَإِنَّمَا الْمَطْلُوبُ بِالْمَقْصُودِ الْأَوَّلِ فِعْلُ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتَرْكُ الْمَكْرُوهِ مُتَعَيَّنٌ كَذَلِكَ بِهِ تَزْكُو النَّفْسُ ؛ فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ إذَا انْتَفَتْ عَنْهَا السَّيِّئَاتُ زَكَتْ فَبِالزَّكَاةِ تَطِيبُ النَّفْسُ مِنْ الْخَبَائِثِ وَتَعْظُمُ فِي الطَّاعَاتِ كَمَا أَنَّ الزَّرْعَ إذَا أُزِيلَ عَنْهُ الدَّغَلُ زَكَا وَظَهَرَ وَعَظُمَ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَى ذَلِكَ : فَبِالِاجْتِهَادِ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى ذَلِكَ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُك وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزَن وَإِنْ أَصَابَك شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْت لَكَانَ كَذَا وَكَذَا . وَلَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ
الشَّيْطَانِ } وَفِي السُّنَنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ وَلَكِنْ عَلَيْك بِالْكَيِّسِ فَإِذَا غَلَبَك أَمْرٌ فَقُلْ : حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } . فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبْدَ بِأَنْ يَحْرِصَ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ وَيَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ وَالْحِرْصُ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي الْخَيْرِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ طَلَبِ مَا يَضُرُّهُ - وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَنْفَعُهُ - كَمَا يَطْلُبُ الْمُحَرَّمَاتِ وَهِيَ تَضُرُّهُ وَيَطْلُبُ الْمَفْضُولَ الَّذِي لَا يَنْفَعُهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ الطَّيِّبَاتِ وَهِيَ مَا يَنْفَعُهُمْ وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَهِيَ مَا يَضُرُّهُمْ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْإِيمَانُ : هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ . فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ نَشَأَ النِّزَاعُ فِيهَا لَمَّا ظَهَرَتْ مِحْنَةُ الْجَهْمِيَّة فِي الْقُرْآنِ هَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ وَهِيَ مِحْنَةُ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ جَرَتْ فِيهَا أُمُورٌ يَطُولُ وَصْفُهَا هُنَا لَكِنْ لَمَّا ظَهَرَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَطْفَأَ اللَّهُ نَارَ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةِ صَارَتْ طَائِفَةٌ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ مَخْلُوقٌ وَيُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِاللَّفْظِ فَصَارُوا يَقُولُونَ أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ أَوْ تِلَاوَتُنَا أَوْ قِرَاءَتُنَا مَخْلُوقَةٌ وَلَيْسَ مَقْصُودُهُمْ مُجَرَّدَ كَلَامِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ بَلْ يُدْخِلُونَ فِي كَلَامِهِمْ نَفْسَ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي نَقْرَأُ بِأَصْوَاتِنَا وَحَرَكَاتِنَا وَعَارَضَهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى فَقَالُوا : أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَرَدَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ وَقَالَ : مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ : غَيْرَ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ .
وَتَكَلَّمَ النَّاسُ حِينَئِذٍ فِي الْإِيمَانِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ وَأَدْرَجُوا فِي ذَلِكَ مَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْلَ : قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَصَارَ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ أَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَخْلُوقَةٌ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهَا فَبَدَّعَ الْإِمَامُ أَحْمَد هَؤُلَاءِ وَقَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } أَفَيَكُونُ قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَخْلُوقًا . وَمُرَادُهُ أَنَّ مَنْ قَالَ : هِيَ مَخْلُوقَةٌ مُطْلَقًا كَانَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ كَمَا أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ أَلْفَاظَنَا وَتِلَاوَتَنَا وَقِرَاءَتَنَا لِلْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ كَانَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ وَأَنَّ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَأَنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ نَزَلَ بِمَخْلُوقِ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْمُسْلِمُونَ يَقْرَءُونَ قُرْآنًا مَخْلُوقًا لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ فَإِنَّ الْكَلَامَ قَدْ سُمِعَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بِلَا وَاسِطَةٍ وَهَذَا سَمَاعٌ مُطْلَقٌ - كَمَا يَرَى الشَّيْءَ رُؤْيَةً مُطْلَقَةً وَقَدْ يَسْمَعُهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ فَيَكُونُ قَدْ سَمِعَهُ سَمْعًا مُقَيَّدًا - كَمَا يَرَى الشَّيْءَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ رُؤْيَةً مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً أَوْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ مَنْ خُوطِبَ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ يَسْمَعُ سَمَاعًا مُقَيَّدًا مِنْ الْمُبَلِّغِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ اللَّهِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَسْمَعُ صَوْتَ الْقَارِئِ مِنْ اللَّهِ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ
يَقُولُ : إنَّ صَوْتَ الرَّبِّ حَلَّ فِي الْعَبْدِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ظَهَرَ فِيهِ - وَلَمْ يَحِلَّ فِيهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا أَقُولُ ظَهَرَ وَلَا حَلَّ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ قَدِيمٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَسْمَعُ مِنْهُ صَوْتَانِ : مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَسْمُوعٌ مِنْ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ : بِأَنَّهُ يَسْمَعُ الْمَعْنَى الْقَدِيمَ الْقَائِمَ بِذَاتِ الرَّبِّ مَعَ سَمَاعِ الصَّوْتِ الْمُحْدَثِ ؛ قَالَ هَؤُلَاءِ يَسْمَعُ الْقَدِيمَ وَالْمُحْدَثَ كَمَا قَالَ أُولَئِكَ يَسْمَعُ صَوْتَيْنِ قَدِيمًا وَمُحْدَثًا ؛ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى قَالَتْ : لَمْ يَسْمَعْ النَّاسُ كَلَامَ اللَّهِ ؛ لَا مِنْ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ ؛ قَالُوا : لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يُسْمَعُ إلَّا مِنْ الْمُتَكَلِّمِ ؛ ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ : تُسْمَعُ حِكَايَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تُسْمَعُ عِبَارَتُهُ لَا حِكَايَتُهُ ؛ وَمِنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مَنْ قَالَ : يُسْمَعُ شَيْئَانِ : الْكَلَامُ الْمَخْلُوقُ ؛ وَاَلَّذِي خَلَقَهُ ؛ وَالصَّوْتُ الَّذِي لِلْعَبْدِ . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُبْتَدَعَةٌ مُخْتَرَعَةٌ لَمْ يَقُلْ السَّلَفُ شَيْئًا مِنْهَا ؛ وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ شَرْعًا وَعَقْلًا وَلَكِنْ أَلْجَأَ أَصْحَابَهَا إلَيْهَا اشْتِرَاكٌ فِي الْأَلْفَاظِ ؛ وَاشْتِبَاهٌ فِي الْمَعَانِي ؛ فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ سَمِعْت كَلَامَ زَيْدٍ أَوْ قِيلَ هَذَا كَلَامُ زَيْدٍ فَإِنَّ هَذَا يُقَالُ : عَلَى كَلَامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ سَوَاءٌ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَأَنَّهُ إذَا سُمِعَ مِنْهُ سُمِعَ بِصَوْتِهِ وَإِذَا سُمِعَ مِنْ غَيْرِهِ سُمِعَ بِصَوْتِ ذَلِكَ الْمُبَلِّغِ لَا بِصَوْتِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَفْظَ الْمُتَكَلِّمِ وَقَدْ يُقَالُ مَعَ الْقَرِينَةِ هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ وَإِنْ تَرْجَمَ عَنْهُ بِلَفْظِ آخَرَ كَمَا يَحْكِي اللَّهُ كَلَامَ مَنْ يَحْكِي قَوْلَهُ مِنْ الْأُمَمِ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَإِنْ كَانُوا إنَّمَا قَالُوهُ بِلَفْظِ عِبْرِيٍّ أَوْ سُرْيَانِيٍّ
أَوْ قِبْطِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّهُ نَشَأَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ النِّزَاعِ فِي " مَسْأَلَتَيْ : الْقُرْآنِ وَالْإِيمَانِ " بِسَبَبِ أَلْفَاظٍ مُجْمَلَةٍ وَمَعَانِي مُتَشَابِهَةٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ : كَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ وَمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِي وَغَيْرِهِمَا قَالُوا : الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ ؛ وَلَيْسَ مُرَادُهُمْ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ . وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَقَدْ اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ : مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ : أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ . وَصَارَ بَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ وَهَؤُلَاءِ خَالَفُوا أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ وَغَيْرَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَجَرَتْ لِلْبُخَارِيِّ مِحْنَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمَّا مَاتَ أَمَرَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ أَلَّا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهَذَا كَذِبٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَاتَ بَعْدَ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ بِنَحْوِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَإِنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُوُفِّيَ سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَتُوُفِّيَ الْبُخَارِيُّ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ وَكَانَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ يُحِبُّ الْبُخَارِيَّ وَيُجِلُّهُ وَيُعَظِّمُهُ وَأَمَّا تَعْظِيمُ الْبُخَارِيِّ وَأَمْثَالِهِ لِلْإِمَامِ أَحْمَد فَهُوَ أَمْرٌ مَشْهُورٌ وَلَمَّا صَنَّفَ الْبُخَارِيُّ كِتَابَهُ فِي خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ أَبْوَابًا فِي هَذَا الْمَعْنَى ؛ ذَكَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ الْقَائِلِينَ : بِأَنَّ لَفْظَنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ يُنْسَبُونَ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ
وَيَدَّعُونَ أَنَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ وَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ لَمْ تَفْهَمْ دِقَّةَ كَلَامِ أَحْمَد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . وَطَائِفَةٌ أُخْرَى : كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُونَ إنَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ قَالُوا : أَحْمَد وَغَيْرُهُ كَرِهُوا أَنْ يُقَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ اللَّفْظَ هُوَ الطَّرْحُ وَالنَّبْذُ وَطَائِفَةٌ أُخْرَى كَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يَقُولُ أَيْضًا : إنَّهُ مُتَّبِعٌ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ إلَى غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَمَذْهَبُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ إنَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَنَحْوِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ مَا كَانَ يَقُولُهُ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ ؛ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَمْثَالِهِ وَقَدْ بَسَطْنَا أَقْوَالَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ : أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا الْبُخَارِيُّ وَأَمْثَالُهُ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِقَوْلِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ ؛ وَقَدْ رَأَيْت طَائِفَةً تَنْتَسِبُ إلَى السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ : كَأَبِي نَصْرٍ السجزي وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَرُدُّونَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ يَقُولُونَ . إنَّ أَحْمَد بْنَ حَنْبَلٍ كَانَ يَقُولُ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ وَذَكَرُوا رِوَايَاتٍ كَاذِبَةٍ لَا رَيْبَ فِيهَا ؛ [ وَالْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنَيْهِ : صَالِحٍ وَعَبْدِ اللَّهِ وَحَنْبَلٍ والمروذي ؛ وقوزان وَمَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ أَحْمَد كَانَ يُنْكِرُ عَلَى هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ ] (*) وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ المروذي فِي ذَلِكَ مُصَنَّفًا ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ
أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ ؛ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْخَلَّالُ - فِي كِتَابِ " السُّنَّةِ " وَذَكَرَ بَعْضَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ منده فِيمَا صَنَّفَهُ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " . وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ : لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي شَيْءٍ مِنْ اعْتِقَادِهِمْ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ ؛ ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : أَنَّ اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا ؛ وَيُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ فَعَلَ الْعَبْدِ وَصَوْتُهُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ وَأَمَّا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ الْعِبَادُ فَلَيْسَ مَخْلُوقًا وَكَذَلِكَ " مَسْأَلَةُ الْإِيمَانِ " لَمْ يَقُلْ قَطُّ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ وَلَا قَالَ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ ؛ وَإِنَّمَا قَالُوا : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْعَبْدِ وَأَفْعَالِهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَلَا صَوْتِهِ بِالْقُرْآنِ وَلَا لَفْظِهِ بِالْقُرْآنِ ؛ وَلَا إيمَانِهِ وَلَا صَلَاتِهِ وَلَا شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
لَكِنْ الْمُتَأَخِّرُونَ انْقَسَمُوا فِي هَذَا الْبَابِ انْقِسَامًا كَثِيرًا ؛ فَاَلَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ قَدِيمٌ فِي هَذَا وَهَذَا ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ الْإِيمَانِيَّةِ وَالْأَفْعَالِ فَيَقُولُونَ : الْأَقْوَالُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَقَدِيمَةٌ ؛ وَأَفْعَالُ الْإِيمَانِ مَخْلُوقَةٌ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فِي أَفْعَالِ الْإِيمَانِ إنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْهَا مَخْلُوقٌ وَأَمَّا الطَّاعَاتُ كَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هِيَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكْ فَلَا يَقُولُ : هِيَ
مَخْلُوقَةٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكْ عَنْ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ كُلُّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ قَدِيمَةٌ ؛ وَيَقُولُ لَيْسَ مُرَادِي بِالْأَفْعَالِ الْحَرَكَاتِ ؛ بَلْ مُرَادِي الثَّوَابُ الَّذِي يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَحْتَجُّ هَذَا بِأَنَّ الْقَدَرَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالشَّرْعَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَيَجْعَلُ أَفْعَالَ الْعِبَادِ هِيَ : الْقَدَرُ وَالشَّرْعُ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْقَدَرِ وَالْمَقْدُورِ وَالشَّرْعِ وَالْمَشْرُوعِ ؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ الَّذِي هُوَ أَمْرُ اللَّهِ وَنَهْيُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا الْأَفْعَالُ الْمَأْمُورُ بِهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهَا فَلَا رَيْبَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ ؛ وَكَذَلِكَ الْقَدَرُ الَّذِي هُوَ عِلْمُهُ وَمَشِيئَتُهُ وَكَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَمَّا الْمُقَدَّرَاتُ : الْآجَالُ وَالْأَرْزَاقُ وَالْأَعْمَالُ فَكُلُّهَا مَخْلُوقَةٌ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَقَائِلِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ كُلُّهُمْ بَرِيئُونَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُبْتَدَعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ لَا مَعْنَى قَائِمٌ بِالذَّاتِ وَلَا إنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ وَلَا تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ بِحَرْفِ قَدِيمٍ ؛ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَإِنَّ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَكَلَامُهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ . كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } وَهُوَ قَدِيمٌ بِمَعْنَى : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ ؛ لَا بِمَعْنَى أَنَّ الصَّوْتَ الْمُعَيَّنَ قَدِيمٌ كَمَا بَسَطْت الْكَلَامَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى : مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلْهُ فَيْضًا مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عَلَى
النُّفُوسِ ، كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّابِئَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ وَهُوَ أَفْسَدُ الْأَقْوَالِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ بَائِنًا عَنْهُ : كَقَوْلِ الْجَهْمِيَّة والنجارية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَعْنًى قَدِيمٌ قَائِمٌ بِالذَّاتِ : كَقَوْلِ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ : كَقَوْلِ ابْنِ سَالِمٍ وَطَائِفَة وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ تَكَلَّمَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا : كَقَوْلِ ابْنِ كَرَّامٍ وَطَائِفَةٍ . وَالصَّوَابُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ : كَمَا قَدْ بَسَطْت أَلْفَاظَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَمَّا ظَهَرَتْ الْمِحْنَةُ كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ : كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَكَانَتْ " الْجَهْمِيَّة " مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ . يَقُولُونَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ وَكَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ الْقَطَّانُ لَهُ فَضِيلَةٌ وَمَعْرِفَةٌ رَدَّ بِهَا عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ نفاة الصِّفَاتِ وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ نَفْسَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ ؛ وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ شُبْهَةِ الْجَهْمِيَّة كُلَّ التَّخَلُّصِ ؛ بَلْ ظَنَّ أَنَّ الرَّبَّ لَا يَتَّصِفُ بِالْأُمُورِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا يُحِبُّ الْعَبْدَ وَيَرْضَى عَنْهُ بَعْدَ إيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ وَلَا يَغْضَبُ عَلَيْهِ وَيَسْخَطُ بَعْدَ كُفْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ ؛ بَلْ مُحِبًّا رَاضِيًا أَوْ غَضْبَانَ سَاخِطًا عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمُوتُ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا . وَلَا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ بَعْدَ كَلَامٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ }
وَقَالَ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مَآخِذِ اخْتِلَافِ الْمُسْلِمِينَ فِي مِثْلِ " هَذِهِ الْمَسَائِلِ " وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالْوَاجِبُ أَنْ نُثْبِتَ مَا أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَنَنْفِيَ مَا نَفَى الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . وَاللَّفْظُ الْمُجْمَلُ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يُطْلَقُ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ بِهِ كَمَا إذَا قَالَ الْقَائِلُ : الرَّبُّ مُتَحَيِّزٌ أَوْ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ أَوْ هُوَ فِي جِهَةٍ أَوْ لَيْسَ فِي جِهَةٍ قِيلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُجْمَلَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَلَمْ يَنْطِقْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بِإِثْبَاتِهَا وَلَا نَفْيِهَا . فَإِنْ كَانَ مُرَادُك بِقَوْلِك إنَّهُ يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ وَلَيْسَ هُوَ بِقُدْرَتِهِ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَحَمَلَتَهُ وَلَيْسَ هُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى الْكَبِيرُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَيْسَ هُوَ مُتَحَيِّزًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَإِنْ كَانَ مُرَادُك أَنَّهُ بَائِنٌ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ عَالٍ عَلَيْهَا فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مِثْلُ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ وَكَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ صَحِيحُ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحُ الْمَعْقُولِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ . وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْجِهَةِ " إنْ أَرَادَ بِالْجِهَةِ أَمْرًا مَوْجُودًا يُحِيطُ بِالْخَالِقِ أَوْ
يَفْتَقِرُ إلَيْهِ فَكُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ . وَاَللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ فَقِيرٌ إلَيْهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ فَهَذَا صَحِيحٌ . سَوَاءٌ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجِهَةِ أَوْ بِغَيْرِ لَفْظِ الْجِهَةِ .
وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْجَبْرِ " إذَا قَالَ : هَلْ الْعَبْدُ مَجْبُورٌ أَوْ غَيْرُ مَجْبُورٍ ؟ قِيلَ : إنْ أَرَادَ بِالْجَبْرِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَشِيئَةٌ ؛ أَوْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ ؛ أَوْ لَيْسَ لَهُ فِعْلٌ ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهُوَ يَفْعَلُهَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَإِنْ أَرَادَ بِالْجَبْرِ أَنَّهُ خَالِقُ مَشِيئَتَهُ وَقُدْرَتَهُ وَفِعْلَهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ ذَلِكَ كُلِّهِ . وَإِذَا قَالَ : الْإِيمَانُ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ قِيلَ لَهُ : مَا تُرِيدُ " بِالْإِيمَانِ " ؟ أَتُرِيدُ بِهِ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ كَقَوْلِهِ ( لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَ " إيمَانُهُ " الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُهُ الْمُؤْمِنُ فَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ تُرِيدُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَصِفَاتِهِمْ فَالْعِبَادُ كُلُّهُمْ مَخْلُوقُونَ وَجَمِيعُ أَفْعَالِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ وَلَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَلَا يَقُولُ هَذَا مَنْ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ فَإِذَا حَصَلَ الِاسْتِفْسَارُ وَالتَّفْصِيلُ ظَهَرَ الْهُدَى وَبَانَ السَّبِيلُ وَقَدْ قِيلَ أَكْثَرُ اخْتِلَافِ الْعُقَلَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِ الْأَسْمَاءِ وَأَمْثَالِهَا مِمَّا كَثُرَ فِيهِ تَنَازُعُ النَّاسِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ إذَا فُصِلَ فِيهَا الْخِطَابُ ظَهَرَ الْخَطَأُ مِنْ الصَّوَابِ . وَالْوَاجِبُ عَلَى الْخَلْقِ أَنَّ مَا أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَثْبَتُوهُ وَمَا نَفَاهُ الْكِتَابُ
وَالسُّنَّةُ نَفَوْهُ وَمَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ اسْتَفْصَلُوا فِيهِ قَوْلَ الْقَائِلِ ؛ فَمَنْ أَثْبَتَ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ نَفَى مَا نَفَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ أَثْبَتَ مَا نَفَاهُ اللَّهُ أَوْ نَفَى مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ فَقَدْ لَبَّسَ دِينَ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ فَيَجِبُ أَنْ يَفْصِلَ مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ فَيَتَّبِعَ الْحَقَّ وَيَتْرُكَ الْبَاطِلَ وَكُلَّمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ أَيْضًا لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ فَإِنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ لَا يُخَالِفُ النَّقْلَ الصَّحِيحَ كَمَا أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ لَا يُخَالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّ تَنَاقُضَ ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
" الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِيمَانِ سُنَّةٌ " عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَالَتْ الْمُرْجِئَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ : لَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِ بَلْ هُوَ شَكٌّ ؛ وَ " الِاسْتِثْنَاءُ أَنْ يَقُولَ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ مُؤْمِنٌ أَرْجُو أَوْ آمَنْت بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ أَوْ إنْ كُنْت تُرِيدُ الْإِيمَانَ الَّذِي يَعْصِمُ دَمِي فَنَعَمْ وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ثُمَّ هُنَا " ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ " إمَّا أَنْ يُقَالَ : الِاسْتِثْنَاءُ وَاجِبٌ فَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ وَغَيْرِهِ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَيَجُوزُ الْقَطْعُ بِاعْتِبَارِ آخَرَ وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : كِلَاهُمَا جَائِزٌ بِاعْتِبَارِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ سُنَّةٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ جَائِزٌ رَدًّا عَلَى مَنْ نَهَى عَنْهُ فَإِذَا قُلْنَا هُوَ وَاجِبٌ فَمَأْخَذُ الْقَاضِي أَنَّهُ لَوْ جَازَ الْقَطْعُ عَلَى أَنَّا مُؤْمِنُونَ لَكَانَ ذَلِكَ قَطْعًا عَلَى أَنَّا فِي الْجَنَّةِ لَأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى الْوَعْدِ بِالْجَنَّةِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ الْمُوَافَاةَ بِالْإِيمَانِ وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ ،
وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمُوَافَاةِ وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ . وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : هَلَّا وَكَلَ الْأُولَى كَمَا وَكَلَ الْآخِرَةَ . يُرِيدُ بِذَلِكَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ عِنْدَهُ : إنِّي مُؤْمِنٌ فَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ قَالَ : فَسَلُوهُ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ ؟ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ : اللَّهُ أَعْلَمُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَهَلَّا وَكَلْت الْأُولَى كَمَا وَكَلْت الثَّانِيَةَ . " قُلْت " : وَيُسْتَدَلُّ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِ عُمَرَ : مَنْ قَالَ إنَّهُ مُؤْمِنٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ فَهُوَ فِي النَّارِ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ وَلَمَّا اسْتَدَلَّ الْمُنَازِعُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمُسْتَقْبَلِ يَشُكُّ فِي وُقُوعِهِ قَالَ : الْجَوَابُ إنَّ هُنَا مُسْتَقْبَلًا يَشُكُّ فِي وُقُوعِهِ وَهُوَ الْمُوَافَاةُ بِالْإِيمَانِ ؛ وَالْإِيمَانُ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضِ فَهُوَ كَالْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ . " قُلْت " : فَحَقِيقَةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِلْعِبَادَةِ مِنْ أَوَّلِ الدُّخُولِ فِيهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ عَلَيْهِ فَإِذَا انْتَقَضَ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ أَوَّلِهَا كَالْحَدَثِ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ وَالْوَطْءِ فِي آخِرِ الْحَجِّ وَالْأَكْلِ فِي آخِرِ النَّهَارِ ؛ وَقَوْلُ مُؤْمِنٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي فِعْلَ الْإِيمَانِ كُلِّهِ كَقَوْلِ مُصَلٍّ وَصَائِمٍ وَحَاجٍّ ؛ فَهَذَا مَأْخَذُ الْقَاضِي . وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَهَا فِي الْمُعْتَمَدِ " مَسْأَلَةَ الْمُوَافَاةِ " وَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِهَا وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا ؛ وَبِالْعَكْسِ ؛ هَلْ يَتَعَلَّقُ رِضَا اللَّهِ وَسَخَطُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَبُغْضُهُ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ أَوْ بِمَا يُوَافِي بِهِ . وَالْمَسْأَلَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالرِّضَا وَالسَّخَطِ : هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ مُحْدَثٌ ؟
وَالْمَأْخَذُ الثَّانِي : أَنَّ الِاسْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقْتَضِي الْكَمَالَ ؛ وَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْمُتَكَلِّمِ كَمَا [ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : أَدْرَكْت ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ كُلَّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَقُولُ إنَّ إيمَانِي كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ ] (1) فَإِخْبَارُ الرَّجُلِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَامِلُ الْإِيمَانِ خَبَرٌ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ الْمُنَزَّلِ : أَنَّ الْمُرْجِئَةَ تَقُولُ إنَّ حَسَنَاتِهَا مَقْبُولَةٌ وَأَنَا لَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ وَهَذَا مَأْخَذٌ يَصْلُحُ لِوُجُوبِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهَذَا الْمَأْخَذُ الثَّانِي لِلْقَاضِي فَإِنَّ الْمُنَازِعَ احْتَجَّ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ . قَالَ : وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِسْلَامَ مُجَرَّدُ الشَّهَادَتَيْنِ وَقَدْ أَتَى بِهِمَا وَالْإِيمَانُ أَقْوَالٌ وَأَعْمَالٌ لِقَوْلِهِ { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا } وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ . " الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ " : أَنَّ ذَلِكَ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ } وَهَذَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِحْبَابِ وَإِلَّا فَإِخْبَارُ الرَّجُلِ بِصِفَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا جَائِزٌ وَإِنْ كَانَتْ مَدْحًا وَقَدْ يَصْلُحُ لِلْإِيجَابِ قَالَ الْأَثْرَمُ فِي " السُّنَّةِ " : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ : مَا أَدْرَكْت أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا وَلَا بَلَغَنِي إلَّا عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ الْأَثْرَمُ سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ مَا تَقُولُ فِيهِ ؟ قَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَعِيبُهُ . . . (2) فَأَسْتَثْنِي مَخَافَةً وَاحْتِيَاطًا لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ عَلَى الشَّكِّ إنَّمَا يُسْتَثْنَى لِلْعَمَلِ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : قَالَ اللَّهُ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } أَيْ إنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لِغَيْرِ شَكٍّ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } أَيْ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي هَذَا وَقَدْ اسْتَثْنَى وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نُبْعَثُ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْقَبْرِ } وَذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنِّي وَاَللَّهِ لَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ } قَالَ هَذَا كُلُّهُ تَقْوِيَةٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ . قُلْت لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : فَكَأَنَّك لَا تَرَى بَأْسًا أَنْ لَا يُسْتَثْنَى فَقَالَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ : الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فَهُوَ أَسْهَلُ عِنْدِي ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ إنَّ قَوْمًا تَضْعُفُ قُلُوبُهُمْ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ فَتَعَجَّبَ مِنْهُمْ وَذَكَرَ كَلَامًا طَوِيلًا تَرَكْته . فَكَلَامُ أَحْمَد يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ وَهَذَا " الْمَأْخَذُ الثَّانِي " وَأَنَّهُ لِغَيْرِ شَكٍّ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ يُشْبِهُ " الثَّالِثَ " وَيَقْتَضِي أَنْ يَجُوزَ تَرْكُ الِاسْتِثْنَاءِ وَأَمَّا جَوَازُ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنِّي مُؤْمِنٌ فَيَصِحُّ إذَا عَنَى أَصْلَ الْإِيمَانِ دُونَ كَمَالِهِ وَالدُّخُولَ فِيهِ دُونَ تَمَامِهِ كَمَا يَقُولُ : أَنَا حَاجٌّ وَصَائِمٌ لِمَنْ شَرَعَ فِي ذَلِكَ وَكَمَا يُطْلِقُهُ فِي قَوْلِهِ آمَنْت بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَفِي قَوْلِهِ : إنْ كُنْت تَعْنِي كَذَا وَكَذَا أَنَّ جَوَازَ إخْبَارِهِ بِالْفِعْلِ يَقْتَضِي جَوَازَ إخْبَارِهِ بِالِاسْمِ مَعَ الْقَرِينَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا رُوِيَ عَنْ صَاحِبِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الَّذِي قَالَ " أَنَا مُؤْمِنٌ حَقًّا " وَفِي حَدِيثِ الْوَفْدِ الَّذِينَ قَالُوا : " نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ " وَإِنْ كَانَ فِي الْإِسْنَادَيْنِ نَظَرٌ .