الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } يُرَادُ بِاللَّفْظِ نَفْسُ الْفِعْلِ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ نَفْسُ الْقَوْلِ الَّذِي لَفَظَهُ اللَّافِظُ . وَهَذَا كَ " الْقُرْآنِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } وَالْقُرْآنُ هُنَا مَصْدَرٌ كَمَا فِي الْآيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِك ثُمَّ أَنْ تَقْرَأَهُ بِلِسَانِك فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فَاسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ . ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ . وَقَدْ يُرَادُ بِ " الْقُرْآنِ " نَفْسُ الْكَلَامِ الْمَقْرُوءِ كَمَا قَالَ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } وَقَوْلُهُ : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : فَقَوْلُ الْقَائِلِ لَفْظِي : هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ . إنْ أَرَادَ بِهِ الْمَصْدَرَ فَقَدْ أَخْطَأَ فَإِنَّ نَفْسَ حَرَكَاتِهِ لَيْسَتْ هِيَ كَلَامَ اللَّهِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ . وَإِنْ أَرَادَ " الثَّانِيَ " : كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَتْلُوهُ هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ النَّاسُ إذَا قَالُوا : الَّذِي يَقْرَأُ
الْقُرَّاءُ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي نَسْمَعُهُ مِنْ الْقُرَّاءِ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي يُقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ لَا يَقْصِدُ أَحَدٌ أَنْ يَجْعَلَ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ نَفْسَ كَلَامِهِ . ثُمَّ إذَا قَالَ الْقَائِلُ هَذَا فَقَدْ وَافَقَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } بَلْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : أَنَّ هَذَا الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ . تَارَةً يُسْمَعُ مِنْهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَتَارَةً يُسْمَعُ مِنْ الْمُتَلَقِّينَ عَنْهُ كَمَا سَمِعَهُ الصَّحَابَةُ مِنْ الرَّسُولِ فَهَذَا الَّذِي نَسْمَعُهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مُتَلَقًّى عَنْهُ مَسْمُوعًا مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ } . وَالنَّاسُ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ آمِرًا بِأَمْرِهِ مُخْبِرًا بِخَبَرِهِ مُبْتَدِئًا بِهِ لَا كَلَامُ مَنْ بَلَّغَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَأَدَّاهُ . فَالنَّاسُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَيْسَ هُوَ كَلَامَهُمْ ؛ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ يَقْرَءُونَهُ بِأَفْعَالِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ . وَإِذَا كَانَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلَامُ غَيْرِهِ إذَا رَوَاهُ النَّاسُ عَنْهُ وَبَلَّغُوهُ وَقَرَءُوهُ فَهُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِلَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعْنَاهُ وَتَكَلَّمَ بِهِ بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ مَعَ أَنَّ أَصْوَاتَ الرُّوَاةِ لَيْسَتْ صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَالْقُرْآنُ إذَا قَرَأَهُ النَّاسُ وَبَلَّغُوهُ بِأَصْوَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ : كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَسْمَعُوهُ مِنْ اللَّهِ ؛ بَلْ مِنْ الْخَلْقِ . وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ : أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ ؛ بَلْ قَوْلُ النَّاسِ لِمَا بُلِّغَ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ إنَّ هَذَا كَلَامُ فُلَانٍ حَقٌّ كَمَا اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ النَّاسِ ؛ لَكِنْ عَرَضَتْ شُبْهَةٌ لِكَثِيرِ مِنْ الْمُتَنَطِّعِينَ فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا إذَا سَمِعَ كَلَامَ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ فَظَنُّوا أَنَّهُ إذَا قَالَ : { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَمَاعِ مُوسَى كَلَامَ اللَّهِ . فَقَالَتْ " طَائِفَةٌ " الْمَسْمُوعُ أَصْوَاتُ الْعِبَادِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ فَلَا يَكُونُ الْمَسْمُوعُ كَلَامَ اللَّهِ . وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ " بَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَذَا مَخْلُوقٌ ؛ فَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ . وَقَالَتْ " طَائِفَةٌ " : بَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ .
وَهَذَا إذَا أَطْلَقُوهُ " مُجْمَلًا " فَهُوَ حَقٌّ ؛ لَكِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ : هَذَا لَفْظِي أَوْ تِلَاوَتِي أَوْ صَوْتِي ؛ فَلَفْظِي أَوْ تِلَاوَتِي أَوْ صَوْتِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ فَضَلُّوا كَمَا ضَلَّ غَيْرُهُمْ ؛ وَلَوْ اهْتَدَوْا لَعَلِمُوا أَنَّا إذَا قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَلَمْ نُشِرْ إلَيْهِ بِمَا امْتَازَ قَارِئٌ عَنْ قَارِئٍ إذَا كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ مَا يُسْمَعُ مِنْ كُلِّ قَارِئٍ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ صَوْتَ هَذَا الْقَارِئِ لَيْسَ هُوَ صَوْتَ هَذَا الْقَارِئِ فَقَدْ اتَّحَدَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ . وَاخْتَلَفَ مِنْ جِهَةِ أَصْوَاتِ الْقُرَّاءِ . وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ الْمُتَّحِدَةِ لَا بِاعْتِبَارِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَحْوَالُ الْقُرَّاءِ . وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَلَفْظُهُ هُوَ الْحُرُوفُ الْمَقْرُوءَةُ الْمَنْظُومَةُ . وَإِنْ كَانَتْ الْحُرُوفُ أَصْوَاتًا مُقَطَّعَةً أَوْ هِيَ أَطْرَافُ الْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ فَهِيَ مِنْ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ صُورَتِهَا الْخَاصَّةِ مِنْ التَّقْطِيعِ وَالتَّأْلِيفِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمَادَّةِ الصَّوْتِيَّةِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا جَمِيعُ الصَّائِتِينَ ؛ وَلِهَذَا مَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مِنْ بَلَاغَةٍ وَبَيَانٍ وَحُسْنِ تَأْلِيفٍ وَنَظْمٍ وَكَمَالِ مَعَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمُتَكَلِّمِ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ هُوَ لِمُجَرَّدِ صِفَاتِ الَّذِي بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : مَنْ قَالَ إنَّ مَذْهَبَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَوْ قَرِيبٌ أَوْ سَوَاءٌ مَعَهُ فَهُوَ جَاهِلٌ بِمَذْهَبِ الْفَرِيقَيْنِ ؛ إذْ الْجَهْمِيَّة
قَائِلُونَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَبِخَلْقِ جَمِيع . . . (1)
وَالْأَشْعَرِيُّ يَقُولُ بِقِدَمِ الْقُرْآنِ وَإِنَّ كَلَامَ الْإِنْسَانِ مَخْلُوقٌ لِلرَّحْمَنِ فَوَضَحَ لِلَّبِيبِ كُلٌّ مِنْ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ . فَيُقَالُ : لَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ كُلَّابٍ وَالْأَشْعَرِيِّ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمُثْبِتَةِ لِلصِّفَاتِ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ الْجَهْمِيَّة بَلْ وَلَا الْمُعْتَزِلَةِ بَلْ هَؤُلَاءِ لَهُمْ مُصَنَّفَاتٌ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَبَيَانِ تَضْلِيلِ مَنْ نَفَاهَا بَلْ هُمْ تَارَةً يُكَفِّرُونَ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ وَتَارَةً يُضَلِّلُونَهُمْ . لَا سِيَّمَا وَالْجَهْمُ هُوَ أَعْظَمُ النَّاسِ نَفْيًا لِلصِّفَاتِ بَلْ وَلِلْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى . قَوْلُهُ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْبَاطِنِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ حَتَّى ذَكَرُوا عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى اللَّهُ شَيْئًا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي يُسَمَّى بِهَا الْمَخْلُوقُ . لِأَنَّ ذَلِكَ بِزَعْمِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمُمْتَنِعِ . وَهَذَا قَوْلُ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ . وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُسَمِّيهِ إلَّا " قَادِرًا فَاعِلًا " ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ وَلَا فَاعِلٍ إذْ كَانَ هُوَ رَأْسَ الْمُجْبِرَةِ . وَقَوْلُهُ فِي الْإِيمَانِ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْمُرْجِئَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ الْإِيمَانَ إلَّا مُجَرَّدَ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ . وَ ابْنُ كُلَّابٍ " إمَامُ الْأَشْعَرِيَّةِ أَكْثَرُ مُخَالَفَةً لِجَهْمِ وَأَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ
مِنْ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ وَالْأَشْعَرِيُّ أَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ مِنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَانِي . وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَمْثَالُهُ أَقْرَبُ إلَى السَّلَفِ مِنْ أَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ نَفَوْا الصِّفَاتِ : كَالِاسْتِوَاءِ وَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ . ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلْ تَتَأَوَّلُ أَوْ تُفَوَّضُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ طَرِيقَيْنِ فَأَوَّلُ قَوْلَيْ أَبِي الْمَعَالِي هُوَ تَأْوِيلُهَا كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الْإِرْشَادِ " وَآخِرُ قَوْلَيْهِ تَحْرِيمُ التَّأْوِيلِ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي " الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ " وَاسْتَدَلَّ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ التَّأْوِيلَ لَيْسَ بِسَائِغِ وَلَا وَاجِبٍ . وَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ نَفْسُهُ وَأَئِمَّةُ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُمْ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَفِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَتَأَوَّلُهَا كَمَنْ يَقُولُ : اسْتَوَى بِمَعْنَى اسْتَوْلَى . وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِ كُلِّهَا كَ " الْمُوجَزِ الْكَبِيرِ " وَ " الْمَقَالَاتِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ " وَ " الْإِبَانَةِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَكَذَا نَقَلَ سَائِر النَّاسِ عَنْهُ حَتَّى الْمُتَأَخِّرُونَ كَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ يَنْقُلُونَ عَنْهُ إثْبَاتَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَلَا يَحْكُونَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ يَنْفِيهَا وَأَنَّ لَهُ فِي تَأْوِيلِهَا قَوْلَيْنِ : فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ ؛ وَلَكِنْ هَذَا فِعْلُ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِهِ كَأَبِي الْمَعَالِي وَنَحْوِهِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَدْخَلُوا فِي مَذْهَبِهِ أَشْيَاءَ مِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ .
وَ " الْأَشْعَرِيُّ " اُبْتُلِيَ بِطَائِفَتَيْنِ : طَائِفَةٌ تُبْغِضُهُ وَطَائِفَةٌ تُحِبُّهُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَكْذِبُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ : إنَّمَا صَنَّفَ هَذِهِ الْكُتُبَ تَقِيَّةً وَإِظْهَارًا لِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ . وَهَذَا كَذِبٌ عَلَى الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهُ قَوْلٌ بَاطِنٌ يُخَالِفُ الْأَقْوَالَ الَّتِي أَظْهَرَهَا وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ وَلَا غَيْرُهُمْ عَنْهُ مَا يُنَاقِضُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْمَوْجُودَةَ فِي مُصَنَّفَاتِهِ . فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ كَانَ يُبْطِنُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ دَعْوَى مَرْدُودَةٌ شَرْعًا وَعَقْلًا ؛ بَلْ مَنْ تَدَبَّرَ كَلَامَهُ فِي هَذَا الْبَابِ - فِي مَوَاضِعَ - تَبَيَّنَ لَهُ قَطْعًا أَنَّهُ كَانَ يَنْصُرُ مَا أَظْهَرَهُ ؛ وَلَكِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ وَيُخَالِفُونَهُ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ يَقْصِدُونَ نَفْيَ ذَلِكَ عَنْهُ لِئَلَّا يُقَالُ : إنَّهُمْ خَالَفُوهُ مَعَ كَوْنِ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ السُّنَّةِ قَدْ اقْتَدَوْا فِيهِ بِحُجَّتِهِ الَّتِي عَلَى ذِكْرِهَا يُعَوِّلُونَ وَعَلَيْهَا يَعْتَمِدُونَ . وَ " الْفَرِيقُ الْآخَرُ " : دَفَعُوا عَنْهُ لِكَوْنِهِمْ رَأَوْا الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ لَا يُظْهِرُونَ إلَّا خِلَافَ هَذَا الْقَوْلِ وَلِكَوْنِهِمْ اتَّهَمُوهُ بِالتَّقِيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ انْتَصَرَ لِلْمَسَائِلِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّتِي خَالَفَهُمْ فِيهَا الْمُعْتَزِلَةُ ؛ كَمَسْأَلَةِ " الرُّؤْيَةِ " وَ " الْكَلَامِ " وَإِثْبَاتِ " الصِّفَاتِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لَكِنْ كَانَتْ خِبْرَتُهُ بِالْكَلَامِ خِبْرَةٌ مُفَصَّلَةٌ وَخِبْرَتُهُ بِالسُّنَّةِ خِبْرَةٌ مُجْمَلَةٌ ؛ فَلِذَلِكَ وَافَقَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي بَعْضِ أُصُولِهِمْ الَّتِي الْتَزَمُوا لِأَجْلِهَا خِلَافَ السُّنَّةِ وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ تِلْكَ الْأُصُولِ وَبَيْنَ الِانْتِصَارِ
لِلسُّنَّةِ كَمَا فَعَلَ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ وَالصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالْمُخَالِفُونَ لَهُ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفَلَاسِفَةِ يَقُولُونَ : إنَّهُ مُتَنَاقِضٌ وَإِنَّ مَا وَافَقَ فِيهِ الْمُعْتَزِلَةَ يُنَاقِضُ مَا وَافَقَ فِيهِ أَهْلَ السُّنَّةِ كَمَا أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ يَتَنَاقَضُونَ فِيمَا نَصَرُوا فِيهِ دِينَ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ بَنَوْا كَثِيرًا مِنْ الْحُجَجِ عَلَى أُصُولٍ تُنَاقِضُ كَثِيرًا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ جُمْهُورُ الْمُخَالِفِينَ لِلْأَشْعَرِيِّ مِنْ الْمُثْبِتَةِ والْنُّفَاةِ يَقُولُونَ : إنَّمَا قَالَهُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ : مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ . وَلِهَذَا يَقُولُ أَتْبَاعُهُ : إنَّهُ لَمْ يُوَافِقْنَا أَحَدٌ مِنْ الطَّوَائِفِ عَلَى قَوْلِنَا فِي " مَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ " ؛ فَلَمَّا كَانَ فِي كَلَامِهِ شَوْبٌ مِنْ هَذَا وَشَوْبٌ مِنْ هَذَا : صَارَ يَقُولُ مَنْ يَقُولُ إنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ التَّجَهُّمِ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ قَوْلُ جَهْمٍ فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْكَلَامَ بِعِلْمِ وَعَدْلٍ وَإِعْطَاءَ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَتَنْزِيلَ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ . وَقَوْلُ جَهْمٍ هُوَ النَّفْيُ الْمَحْضُ لِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَقِيقَةُ قَوْلِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَمُنْحَرِفِي الْمُتَفَلْسِفَةِ : كالفارابي وَابْنِ سِينَا . وَأَمَّا مُقْتَصِدَةُ الْفَلَاسِفَةِ كَأَبِي الْبَرَكَاتِ صَاحِبِ الْمُعْتَبَرِ وَابْنِ رُشْدٍ الْحَفِيدِ - فَفِي قَوْلِهِمْ مِنْ الْإِثْبَاتِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ ؛ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ عَنْهُمْ إثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ
الْحُسْنَى وَإِثْبَاتُ أَحْكَامِ الصِّفَاتِ فَفِي الْجُمْلَةِ قَوْلُهُمْ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ جَهْمٍ وَقَوْلُ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو الْكُوفِيِّ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ . وَأَمَّا ابْنُ كُلَّابٍ والقلانسي وَالْأَشْعَرِيُّ فَلَيْسُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ هَؤُلَاءِ مَعْرُوفُونَ بالصفاتية مَشْهُورُونَ بِمَذْهَبِ الْإِثْبَاتِ ؛ لَكِنْ فِي أَقْوَالِهِمْ شَيْءٌ مِنْ أُصُولِ الْجَهْمِيَّة وَمَا يَقُولُ النَّاسُ إنَّهُ يُلْزِمُهُمْ بِسَبَبِهِ التَّنَاقُضُ وَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَإِنَّهُمْ قَالُوا مَا لَا يُعْقَلُ وَيَجْعَلُونَهُمْ مُذَبْذَبِينَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ فَهَذَا وَجْهُ مَنْ يَجْعَلُ فِي قَوْلِهِمْ شَيْئًا مِنْ أَقْوَالِ الْجَهْمِيَّة كَمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - كَانُوا يَقُولُونَ : افْتَرَقَتْ الْجَهْمِيَّة عَلَى " ثَلَاثِ فِرَقٍ " : فِرْقَةٌ يَقُولُونَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ . وَفِرْقَةٌ تَقِفُ وَلَا تَقُولُ مَخْلُوقٌ وَلَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَفِرْقَةٌ تَقُولُ : أَلْفَاظُنَا بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ إنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ افْتِرَاقَهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ " خَاصَّةً وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَالرُّؤْيَةَ وَالِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ وَجَعَلُوهُ مِنْ الْجَهْمِيَّة فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ : أَيْ أَنَّهُ وَافَقَ الْجَهْمِيَّة فِيهَا ؛ لِيَتَبَيَّنَ ضَعْفُ قَوْلِهِ لَا أَنَّهُ مِثْلُ الْجَهْمِيَّة وَلَا أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُهُمْ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَعْرِفُ مَا يَقُولُ . وَلِهَذَا عَامَّةُ كَلَامِ أَحْمَد إنَّمَا هُوَ يُجَهِّمُ اللَّفْظِيَّةَ لَا يَكَادُ يُطْلِقُ الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِهِمْ كَمَا يُطْلِقُهُ بِتَكْفِيرِ المخلوقية وَقَدْ نُسِبَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ : كَالْحُسَيْنِ الكرابيسي وَنُعَيْمِ
ابْنِ حَمَّادٍ الخزاعي والبويطي وَالْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيَّ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ الْبُخَارِيَّ .
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ " اللَّفْظَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ " نُسِبَ إلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي وَأَبِي حَاتِمٍ الرَّازِي ؛ بَلْ وَبَعْضُ النَّاسِ يَنْسُبُهُ إلَى أَبِي زُرْعَةَ أَيْضًا وَيَقُولُ إنَّهُ هُوَ وَأَبُو حَاتِمٍ هَجَرَا الْبُخَارِيَّ لَمَّا هَجَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذهلي وَالْقِصَّةُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ . وَبَعْدَ مَوْتِ أَحْمَد " وَقَعَ بَيْنَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ وَبَعْضِهِمْ وَبَيْنَ طَوَائِفَ مِنْ غَيْرِهِمْ بِهَذَا السَّبَبِ وَكَانَ أَهْلُ الثَّغْرِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد المصيصي شَيْخِ أَبِي دَاوُد يَقُولُونَ بِهَذَا . فَلَمَّا وَلِيَ صَالِحُ بْنُ أَحْمَد قَضَاءَ الثَّغْرِ : طَلَبَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ المروذي أَنْ يُظْهِرَ لِأَهْلِ الثَّغْرِ " مَسْأَلَةَ أَبِي طَالِبٍ " فَإِنَّهُ قَدْ شَهِدَهَا صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ابْنَا أَحْمَد والمروذي وفوران وَغَيْرُهُمْ . وَصَنَّفَ المروذي كِتَابًا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَرْسَلَ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُلَمَاءِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَوَافَقُوهُ . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَبَسَطَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ . وَمَعَ هَذَا فَطَوَائِفُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ وَإِلَى اتِّبَاعِ أَحْمَد كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ منده وَأَبِي نَصْرٍ السجزي وَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ
وَأَبِي الْعَلَاءِ الهمداني وَغَيْرِهِمْ يَقُولُونَ : لَفْظُنَا بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذَا قَوْلُ أَحْمَد . وَيُكَذِّبُونَ - أَوْ مِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ - بِرِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ وَيَقُولُونَ : إنَّهَا مُفْتَعَلَةٌ عَلَيْهِ أَوْ يَقُولُونَ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو نَصْرٍ السجزي فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ " الْمَشْهُورِ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِأَحْمَدَ وَأَخَصَّ النَّاسِ وَأَصْدَقَ النَّاسِ فِي النَّقْلِ عَنْهُ هُمْ الَّذِينَ رَوَوْا ذَلِكَ عَنْهُ ؛ وَلَكِنَّ أَهْلَ خُرَاسَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِأَقْوَالِ أَحْمَد مَا لِأَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ هُمْ أَخَصُّ بِهِ . وَأَعْظَمُ مَا وَقَعَتْ فِتْنَةُ " اللَّفْظِ " بِخُرَاسَانَ وَتَعَصَّبَ فِيهَا عَلَى الْبُخَارِيِّ - مَعَ جَلَالَتِهِ وَإِمَامَتِهِ - وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ قَامُوا عَلَيْهِ أَيْضًا أَئِمَّةٌ أَجِلَّاءٌ فَالْبُخَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَجَلِّ النَّاسِ . وَإِذَا حَسُنَ قَصْدُهُمْ وَاجْتَهَدَ هُوَ وَهْم أَثَابَهُ اللَّهُ وَإِيَّاهُمْ عَلَى حُسْنِ الْقَصْدِ وَالِاجْتِهَادِ . وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ أَوْ مِنْهُمْ بَعْضُ الْغَلَطِ وَالْخَطَأِ فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُمْ كُلِّهِمْ ؛ لَكِنَّ مِنْ الْجُهَّالِ مَنْ لَا يَدْرِي كَيْفَ وَقَعَتْ الْأُمُورُ حَتَّى رَأَيْت بِخَطِّ بَعْضَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَهُمْ عِلْمٌ وَدِينٌ يَقُولُ : مَاتَ الْبُخَارِيُّ بِقَرْيَةِ خرتنك فَأَرْسَلَ أَحْمَد إلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ يَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يُصَلُّوا عَلَيْهِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْكَذِبِ عَلَى أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ وَكَاذِبُهُ جَاهِلٌ بِحَالِهِمَا . فَإِنَّ الْبُخَارِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ بَعْدَ مَوْتِ أَحْمَد بخمسة عَشَرَ
سَنَةً فَإِنَّ أَحْمَد تُوَفِّي سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَكَانَ أَحْمَد مُكْرِمًا لِلْبُخَارِيِّ مُعَظِّمًا . وَأَمَّا تَعْظِيمُ الْبُخَارِيِّ وَأَمْثَالِهِ لَأَحْمَدَ فَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ . وَالْبُخَارِيُّ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ فِي " خَلْقِ الْأَفْعَالِ " أَنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَفْهَمُ كَلَامَ أَحْمَد . وَمِنْ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى الْمُنْتَسِبَةِ إلَى السُّنَّةِ وَأَتْبَاعِ أَحْمَد : أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني وَأَبُو بَكْرٍ البيهقي وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ يَقُولُ : إنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لَأَحْمَدَ وَإِنَّ قَوْلَهُمْ فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " مُوَافِقٌ لِقَوْلِ أَحْمَد . وَوَقَعَ بَيْنَ ابْنِ منده وَأَبِي نُعَيْمٍ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُشَاجَرَةٌ حَتَّى صَنَّفَ أَبُو نُعَيْمٍ كِتَابَهُ فِي " الرَّدِّ عَلَى الحروفية الْحُلُولِيَّةِ " وَصَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ كِتَابَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى " اللَّفْظِيَّةِ " . وَالْمُنْتَصِرُونَ لِلسُّنَّةِ - مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ : كَالْأَشْعَرِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَغَيْرِهِمْ - يُوَافِقُونَ أَحْمَد عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى مَنْ يَقُولُ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ وَعَلَى مَنْ يَقُولُ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَكِنْ يَجْعَلُونَ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ كَوْنَ الْقُرْآنِ لَا يُلْفَظُ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الطَّرْحُ وَالرَّمْيُ . ثُمَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ تَكَلُّمَ اللَّهِ بِالصَّوْتِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِذَلِكَ ؛ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَيُنْكِرُونَ مَعَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَقُولُ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْكَرَاهَةَ
فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الطَّرْحِ وَالرَّمْيِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ظَنُّوهُ . فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُنْكِرُوا قَوْلَ الْقَائِلِ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ لِكَوْنِ اللَّفْظِ الطَّرْحَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا أَنْكَرُوا إلَّا مُجَرَّدَ مَا يَتَصَرَّفُ مِنْ حُرُوفِ لَفَظَ يُلْفَظُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ التِّلَاوَةُ وَالْقِرَاءَةُ مَخْلُوقَةٌ وَعَلَى مَنْ قَالَ : تِلَاوَتِي وَقِرَاءَتِي غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ مَعَ جَوَازِ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ : قَرَأْت الْقُرْآنَ وَتَلَوْته . وَ " أَيْضًا " فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : لَفَظْت الْكَلَامَ وَتَلَفَّظْت بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَلَكِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ قَالُوا : مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِي أَوْ قِرَاءَتِي مَخْلُوقَةٌ فَهُوَ جهمي . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ لِأَنَّ " اللَّفْظَ " وَ " التِّلَاوَةَ " وَ " الْقِرَاءَةَ " يُرَادُ بِهِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَمَصْدَرُ قَرَأَ يَقْرَأُ قِرَاءَةً وَتَلَا يَتْلُو تِلَاوَةً وَمُسَمَّى الْمَصْدَرِ هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَحَرَكَاتُهُ لَيْسَ هُوَ بِقَدِيمِ بِاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا حَتَّى الْقَدَرِيَّةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . يَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِقَدِيمِ . وَيَقُولُونَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ . وَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ - كَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ - أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّ
أَقْوَالَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : مَا زِلْت أَسْمَعُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ : إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ . وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : مَنْ قَالَ إنَّ هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ : إنَّ سَمَاءَ اللَّهِ وَأَرْضَهُ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . وَقَدْ يُرَادُ بِالتِّلَاوَةِ وَالْقِرَاءَةِ وَاللَّفْظِ نَفْسُ الْقُرْآنِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ .
وَمَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ أَوْ قَدِيمَةٌ وَلَا قَالَ أَيْضًا أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّ الْمِدَادَ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . فَمَنْ قَالَ إنَّ شَيْئًا مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ أَوْ أَفْعَالِهِمْ أَوْ حَرَكَاتِهِمْ أَوْ مِدَادِهِمْ : قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ . وَقَدْ بَدَّعَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَمَرَ بِهَجْرِهِمْ إنْ لَمْ يَرْجِعُوا عَنْ بِدْعَتِهِمْ . وَ " مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ " قَدْ كَثُرَ فِيهَا اضْطِرَابُ النَّاسِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ حَيَّرَتْ عُقُولَ الْأَنَامِ . وَغَالِبُهُمْ يَقْصِدُونَ وَجْهًا مِنْ
الْحَقِّ وَيَعْزُبُ عَنْهُمْ وَجْهٌ آخَرُ وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ مَنْ أَشَدِّ الْكَلَامِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ : مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَعَلْقَمَةَ وَالْأُسُودِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِين وَغَيْرِهِمْ مِنْ التَّابِعِينَ . وَمِثْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَشَرِيكٍ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ وَمِثْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ تَابِعِي التَّابِعِينَ . وَهُمْ أَئِمَّةُ أَهْلِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي ثَنَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } . وَمَنْ تَدَبَّرَ كَلَامَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِمْ وَجَدَهُ أَشَدَّ الْكَلَامِ الْمُطَابِقِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَسْطَ هُنَا فَقَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ أَنَّ " الْكَلَامَ الْمَذْمُومَ " الَّذِي ذَمَّهُ السَّلَفُ هُوَ الْكَلَامُ الْبَاطِلُ الْمُخَالِفُ لِصَحِيحِ الْمَنْقُول وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ ؛ وَأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ لَا يَتَعَارَضُ وَلَا يَتَنَاقَضُ أَصْلًا فَلَا يَتَعَارَضُ دَلِيلَانِ يَقِينِيَّانِ أَصْلًا سَوَاءً كَانَا عَقْلِيَّيْنِ
أَوْ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً مِنْهُ ؛ لِاعْتِقَادِهِ فِي أَحَدِهِمَا أَنَّهُ يَقِينِيٌّ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَا جَمِيعًا غَيْرَ يَقِينِيَّيْنِ . وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَغَيْرِهِ كَثِيرٌ مِنْهُ يَكُونُ " اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ " مِثْلُ أَنْ يَقْصِدَ هَذَا حَقًّا فِيمَا يُثْبِتُهُ وَالْآخَرُ يَقْصِدُ حَقًّا فِيمَا نَقَضَهُ وَكِلَاهُمَا صَادِقٌ . لَكِنْ يَظُنَّانِ أَنَّ بَيْنَهُمَا نِزَاعًا مَعْنَوِيًّا وَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ النِّزَاعِ يَعُودُ إلَى إطْلَاقَاتٍ لَفْظِيَّةٍ لَا إلَى مَعَانٍ عَقْلِيَّةٍ وَأَحْسَنُ النَّاسِ طَرِيقَةً مَنْ كَانَ إطْلَاقُهُ مُوَافِقًا لِلْإِطْلَاقَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمَعَانِي الَّتِي يَقْصِدُهَا مَعَانٍ صَحِيحَةٌ تُطَابِقُ الشَّرْعَ وَالْعَقْلَ . . . (1) .
وَأَصْلُ مَنْشَأِ نِزَاعِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْبَابِ : أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ - مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - سَلَكُوا فِي إثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ طَرِيقًا مُبْتَدَعَةً فِي الشَّرْعِ مُضْطَرِبَةً فِي الْعَقْلِ وَأَوْجَبُوهَا وَزَعَمُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّانِعِ إلَّا بِهَا وَتِلْكَ الطَّرِيقُ فِيهَا مُقَدِّمَاتٌ مُجْمَلَةٌ لَهَا نَتَائِجُ مُجْمَلَةٌ فَغَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ سَالِكِيهَا فِي مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَمُقْتَضَى الْعَقْلِ فَلَمْ يَفْهَمُوا مَا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ وَلَمْ يُحَرِّرُوا مَا اقْتَضَتْهُ الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ
الصَّانِعِ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُدُوثِ الْعَالَمِ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِ الْأَجْسَامِ . قَالُوا : وَالطَّرِيقُ إلَى ذَلِكَ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِحُدُوثِ الْأَعْرَاضِ عَلَى حُدُوثِ مَا قَامَتْ بِهِ الْأَعْرَاضُ فَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَقَطْ وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِالْأَكْوَانِ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُمْ الِاجْتِمَاعُ وَالِافْتِرَاقُ وَالْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ . وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَجَّ بِالْأَعْرَاضِ مُطْلَقًا . وَمَبْنَى الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ ؛ لِامْتِنَاعِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . فَيَقُولُ لَهُمْ الْمُعَارِضُونَ - مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مُحْدَثَةٌ عَنْ عَدَمٍ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَفْلَاكَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ - حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ أَمْرٌ حَادِثٌ . فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ وَإِلَّا لَزِمَ تَرْجِيحُ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ . وَقَالَ لَهُمْ الْقَائِلُونَ بِحُدُوثِ الْأَفْلَاكِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَغَيْرِهِمْ : أَنْتُمْ أَثْبَتُّمْ حُدُوثَ الْعَالَمِ بِطَرِيقِ وَحُدُوثُ الْعَالَمِ لَا يَتِمُّ إلَّا مَعَ نَقِيضِ مَا أَثْبَتُّمُوهُ . فَمَا جَعَلْتُمُوهُ دَلِيلًا عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُدُوثِهِ ؛ بَلْ وَلَا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ . وَالدَّلِيلُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَلْزِمًا الْمَدْلُولَ ؛ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ تَحَقُّقِ الدَّلِيلِ تَحَقُّقُ الْمَدْلُولِ ؛ بَلْ هُوَ مُنَافٍ لِحُدُوثِ الْعَالَمِ مُنَاقِضٌ لَهُ وَهُوَ يَقْتَضِي امْتِنَاعَ حُدُوثِ الْعَالَمِ بَلْ امْتِنَاعِ حُدُوثِ
شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ . وَهَذَا يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَدُلَّ إلَّا عَلَى نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ وَنَقِيضِ مَا يَقُولُهُ كُلُّ عَاقِلٍ . فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ فِي الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ قِيلَ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ أَمْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَبْنَى دَلِيلِكُمْ عَلَى أَنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَأَنَّ الْإِرَادَةَ الْأَزَلِيَّةَ - الَّتِي نِسْبَتُهَا إلَى جَمِيعِ الْمُرَادَاتِ عَلَى السَّوَاءِ - رَجَّحَتْ مُرَادًا عَلَى مُرَادٍ بِلَا مُرَجِّحٍ غَيْرِ الْمُرَجِّحِ الَّذِي نِسْبَتُهُ إلَى جَمِيعِ الْمُرَجِّحَاتِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَتَفَاضَلُ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَرْجِيحِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عَلَى عَدَمِهِ بِلَا مُرَجِّحٍ أَوْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ بَاطِلٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ . وَلَوْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ لَبَطَلَ الدَّلِيلُ الَّذِي يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ فَإِنَّ مَبْنَى الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ تَرْجِيحَ الْحُدُوثِ عَلَى الْعَدَمِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحْدِثُ الْمُرَجِّحُ قَدْ حَدَثَ مِنْهُ مَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمُحْدَثِ الَّذِي جَعَلَهُ مَوْجُودًا وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ وُجُودُهُ كَانَ وُجُودُهُ جَائِزًا مُمْكِنًا : فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْوُجُودِ وَالْعَدَمِ . فَتَرْجِيحُ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ مُحْدِثٍ لَهُ فَكَلُّ
مَا أَمْكَنَ حُدُوثُهُ إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَهُ لَمْ يَحْصُلْ فَمَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ لَا مَحَالَةَ وَوَجَبَ وُجُودُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ؛ بَلْ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ مَعَ عَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فَمَا شَاءَ اللَّهُ حُدُوثَهُ كَانَ لَازِمَ الْحُدُوثِ وَاجِبَ الْحُدُوثِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ لَا بِنَفْسِهِ وَمَا لَمْ يَشَأْ حُدُوثَهُ كَانَ مُمْتَنِعَ الْحُدُوثِ لَازَمَ الْعَدَمِ وَاجِبَ الْعَدَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مَشِيئَةُ اللَّهِ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِحُدُوثِهِ . ثُمَّ إنَّ الْفَلَاسِفَةَ الدَّهْرِيَّةَ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ قَالُوا : مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الدَّلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ ؛ بَلْ يَقْتَضِي عَدَمَ الْحُدُوثِ ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْحَوَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ عَنْ ذَاتٍ لَمْ تَزَلْ مُعَطَّلَةً مِنْ الْفِعْلِ بَاطِلٌ فَيَكُونُ الْعَالَمُ قَدِيمًا وَعَبَّرُوا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كَوْنِهِ فَاعِلًا إنْ وُجِدَتْ فِي الْأَزَلِ لَزِمَ وُجُودُ الْفِعْلِ فِي الْأَزَلِ وَإِلَّا لَزِمَ تَخَلُّفُ الْمُقْتَضَى عَنْ الْمُقْتَضِي التَّامِّ . وَحِينَئِذٍ فَإِذَا وُجِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الْأَزَلِ فَوُجُودُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرٌ حَادِثٌ ؛ فَيَقْتَضِي أَمْرًا حَادِثًا وَإِلَّا لَزِمَ الْحُدُوثُ بِلَا مُحْدِثٍ وَحِينَئِذٍ فَيَلْزَمُ تَسَلْسُلُ الْحَوَادِثِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْحَادِثِ كَالْقَوْلِ فِي غَيْرِهِ . وَهَذَا مِمَّا تُنْكِرُهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَمُوَافِقُوهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ . قَالُوا : فَأَنْتُمْ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : إمَّا إثْبَاتِ التَّسَلْسُلِ فِي الْحَوَادِثِ وَإِمَّا إثْبَاتِ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ وَكِلَاهُمَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَكُمْ .
ثُمَّ زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَثْبَتَ مَا أَثْبَتَتْهُ الرُّسُلُ مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ وَبَيَّنَ خَطَأَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ الَّذِينَ خَالَفُوا السَّلَفَ وَالْأَئِمَّةَ بِابْتِدَاعِ بِدْعَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَبَيَّنَ أَنَّ ضَلَالَ الْفَلَاسِفَةِ - الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَمُخَالَفَتَهُمْ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ - أَعْظَمُ مِنْ ضَلَالِ أُولَئِكَ وَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ لَا يَحْتَاجُ إلَى الطَّرِيقِ الَّتِي سَلَكَهَا أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمُونَ بَلْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُدُوثِهِ بِطُرُقِ أُخْرَى عَقْلِيَّةٍ صَحِيحَةٍ لَا يُعَارِضُهَا عَقْلٌ صَرِيحٌ وَلَا نَقْلٌ صَحِيحٌ . وَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا سِوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ سَوَاءٌ سُمِّيَ جِسْمًا أَوْ عَقْلًا أَوْ نَفْسًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ . فَإِنَّ أُولَئِكَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنَّ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي حُجَّتِهِمْ إلَّا إثْبَاتُ حُدُوثِ أَجْسَامِ الْعَالَمِ قَالَتْ الْفَلَاسِفَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ - كالشَّهْرَستَانِي وَالرَّازِيَّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرِهِمْ - إنَّكُمْ لَمْ تُقِيمُوا دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَا سِوَى الْأَجْسَامِ . وَحِينَئِذٍ فَإِثْبَاتُ حُدُوثِ أَجْسَامِ الْعَالَمِ لَا يَقْتَضِي حُدُوثَ مَا سِوَى اللَّهِ إنْ لَمْ تُثْبِتُوا أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ جِسْمٌ وَأَنْتُمْ لَمْ تُثْبِتُوا ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا صَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - كالأرموي وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْل مِصْرَ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ القشيري - إلَى أَنَّ أَجْسَامَ الْعَالَمِ مُحْدَثَةٌ . وَأَمَّا الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ فَتَوَقَّفُوا عَنْ حُدُوثِهَا وَقَالُوا بِقِدَمِهَا
وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّهُ مُوجِبٌ بِالذَّاتِ لَهَا وَإِنَّهُ مُحْدِثٌ لِلْأَجْسَامِ بِسَبَبِ حُدُوثِ بَعْضِ التَّصَوُّرَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ لِلنُّفُوسِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَهَذَا الْقَوْلُ كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ فِي الشَّرْعِ : فَهُوَ أَيْضًا مَعْلُومُ الْبُطْلَانِ فِي الْعَقْلِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . فَنَقُولُ : الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَهَذَا . وَ " أَيْضًا " فَإِذَا كَانَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ كَانَ اخْتِصَاصُ حُدُوثِ أَجْسَامِ الْعَالَمِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ يَفْتَقِرُ إلَى مُخَصِّصٍ وَالْمُوجِبُ بِذَاتِهِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ مَا يَخْتَصُّ بِوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ ؛ إذْ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا بِذَاتِهِ ؛ وَلَجَازَ حُدُوثُ الْعَالَمِ عَنْهُ وَلِأَنَّ النُّفُوسَ الَّتِي تُثْبِتُهَا الْفَلَاسِفَةُ هِيَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ عَرَضٌ قَائِمٌ بِجِسْمِ الْفَلَكِ ؛ فَيَمْتَنِعُ وُجُودُهَا بِهِ بِدُونِ الْفَلَكِ وَعِنْدَ ابْنِ سِينَا وَطَائِفَةٍ أَنَّهَا جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِسْمِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالتَّصْرِيفِ . وَحِينَئِذٍ فَلَوْ وُجِدَتْ وَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْجِسْمِ لَمْ تَكُنْ نَفْسًا ؛ بَلْ كَانَتْ عَقْلًا فَعُلِمَ أَنَّ وُجُود النَّفْسِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْجِسْمِ . فَإِذَا قَالَ هَؤُلَاءِ : إنَّ النَّفْسَ أَزَلِيَّةٌ دُونَ الْأَجْسَامِ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ
بَاطِلًا بِصَرِيحِ الْعَقْلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ بِهِ قَائِلٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ هَؤُلَاءِ . وَإِنَّمَا أَلْجَأَ هَؤُلَاءِ إلَى هَذَا ظَنُّهُمْ صِحَّةَ دَلِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى حُدُوثِ الْأَجْسَامِ وَصِحَّةَ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ بِوُجُودِ مَوْجُودٍ وَمُمْكِنٍ غَيْرِ الْأَجْسَامِ وَإِثْبَاتَ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ ؛ فَلَمَّا بَنَوْا قَوْلَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ الْفَاسِدِ لِهَؤُلَاءِ وَلِهَؤُلَاءِ : لَزِمَ هَذَا مَعَ أَنَّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذَيْنِ ؛ فَإِنَّ عُمْدَةَ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى إبْطَالِ حَوَادِثَ لَا أَوَّلَ لَهَا . وَعُمْدَةُ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى أَنْ المؤثرية مِنْ لَوَازِمَ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا قَالُوا بِقِدَمِ نَفْسٍ لَهَا تَصَوُّرَاتٌ وَإِرَادَاتُ لَا تَتَنَاهَى : لَزِمَ جَوَازُ حَوَادِثَ لَا تَتَنَاهَى ؛ فَبَطَلَ أَصْلُ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ حُدُوثَ الْأَجْسَامِ ؛ فَكَانَ حِينَئِذٍ مُوَافَقَتُهُمْ الْمُتَكَلِّمِينَ بِلَا حُجَّةٍ عَقْلِيَّةٍ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْمُتَنَاقَضَيْنِ . وَأَبُو عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْخَطِيبِ وَأَمْثَالُهُ كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَلَمْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ الْمُتَنَاقِضَ وَلَمْ يَهْتَدُوا إلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانُوا يَذْكُرُونَ أُصُولَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَيُثْبِتُونَ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُقَلَاءِ يَلْتَزِمُونَهَا فَلَوْ تَفَطَّنُوا لِمَا يَقُومُ بِذَاتِ اللَّهِ مِنْ كَلَامِهِ وَأَفْعَالِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَدَوَامِ اتِّصَافِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ خَلَصُوا مِنْ هَذِهِ الْمَحَارَاتِ .
وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى بَعْضِ الطُّرُقِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى . فَنَقُولُ : مِنْ " الطُّرُقِ " الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا حُدُوثُ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ هِيَ أَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَ فِيمَا سِوَى اللَّهِ شَيْءٌ قَدِيمٌ لَكَانَ صَادِرًا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ مُوجِبَةٍ بِذَاتِهَا مُسْتَلْزِمَةٍ لِمَعْلُولِهَا سَوَاءً ثَبَتَ لَهُ مَشِيئَةٌ أَوْ اخْتِيَارٌ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ ؛ فَإِنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ الْمُمْكِنَ الَّذِي لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْأَزَلِ مُقْتَضٍ تَامٌّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَهُ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ : إنَّ الْقَدِيمَ الْأَزَلِيَّ صَادِرٌ عَنْ مُؤَثِّرٍ لَا يَلْزَمُهُ أَثَرُهُ فَلَا يَقُولُ : إنَّهُ صَادِرٌ عَنْ عِلَّةٍ غَيْرِ تَامَّةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِغَيْرِ مَعْلُولِهَا وَلَا يَقُولُ : إنَّهُ صَادِرٌ عَنْ مُوجِبٍ بِذَاتِهِ لَا يُقَارِنُهُ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ وَلَا يَقُولُ : إنَّهُ صَادِرٌ عَنْ فَاعِلٍ بِالِاخْتِيَارِ يُمْكِنُ أَنْ يَتَأَخَّرَ مَفْعُولُهُ ؛ فَإِنَّهُ إذَا أَمْكَنَ تَأَخُّرُ مَفْعُولِهِ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَدِيمُ الْأَزَلِيُّ قَدِيمًا أَزَلِيًّا فَيَكُونُ ثُبُوتُهُ فِي الْأَزَلِ مُمْكِنًا وَلَيْسَ فِي الْأَزَلِ مَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَهُ فِي الْأَزَلِ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُهُ فِي الْأَزَلِ . فَإِنَّ ثُبُوتَ الْمُمْكِنِ الْأَزَلِيِّ بِدُونِ مُقْتَضٍ تَامٍّ مُسْتَلْزِمٍ لَهُ مُمْتَنِعٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ . إذْ قَدْ عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْمُمْكِنَاتِ لَا يَكُونُ حَتَّى يَحْصُلَ الْمُقْتَضِي التَّامُّ الْمُسْتَلْزِمُ لِثُبُوتِهِ .
وَمَنْ نَازَعَ فِي هَذَا مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالَ إنَّهُ لَا يَنْتَهِي إلَى حَدِّ الْوُجُوبِ ؛ بَلْ يَكُونُ الْعَقْلُ بِالْوُجُودِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْعَدَمِ فَإِنَّهُ لَمْ يُنَازِعْ فِي أَنَّ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورُهُ الْمُعَيَّنُ أَزَلِيًّا مُقَارِنًا لَهُ ؛ بَلْ هَذَا مِمَّا لَمْ يُنَازِعْ فِيهِ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا غَيْرُهُمْ . فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَيْءٌ مِمَّا سِوَى اللَّهِ أَزَلِيًّا لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُؤَثِّرٌ تَامٌّ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ فِي الْأَزَلِ ؛ سَوَاءٌ سُمِّيَ عِلَّةً تَامَّةً أَوْ مُوجِبًا بِالذَّاتِ أَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِالْإِرَادَةِ وَأَنَّ مُرَادَهُ الْمُعَيَّنَ يَكُونُ أَزَلِيًّا مُقَارِنًا لَهُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ : ثُبُوتُ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا ؛ فَإِنَّهُ إنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً لِمَعْلُولِهَا ؛ فَيَمْتَنِعُ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِذَاتِهِ وَأَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ مُوجَبَهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِهِ ؛ فَإِنَّ الْمُوجِبَ بِالذَّاتِ لِشَيْءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُوجَبُ جَمِيعُهُ مُقَارِنًا لِذَاتِهِ وَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ هِيَ الَّتِي يُقَارِنُهَا مَعْلُولُهَا . وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا فَلَوْ تَأَخَّرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا لَمْ تَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً لِذَلِكَ الْمُسْتَأْخَرِ . وَالْفَلَاسِفَةُ يُسَلِّمُونَ أَنْ لَيْسَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ فِي الْأَزَلِ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ فَإِنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ . إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِأَمْرِ حَادِثٍ عَنْهُ غَيْرِ أَزَلِيٍّ .
وَإِنْ شِئْت قُلْت : يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِذَاتِهِ فِي الْأَزَلِ لِأَمْرِ حَادِثٍ لَيْسَ بِأَزَلِيِّ ؛ سَوَاءٌ كَانَ إيجَابُهُ بِوَاسِطَةِ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَإِنَّ تِلْكَ الْوَاسِطَةَ إنْ كَانَتْ أَزَلِيَّةً كَانَ اللَّازِمُ لَهَا أَزَلِيًّا وَإِنْ كَانَتْ حَادِثَةً كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا كَالْقَوْلِ فِي الْحَادِثِ بِتَوَسُّطِهَا وَهَذَا الَّذِي سَلَّمُوهُ مَعْلُومٌ أَيْضًا بِصَرِيحِ الْعَقْلِ فَالْمُقَدِّمَةُ بُرْهَانِيَّةٌ مُسَلَّمَةٌ ؛ لَكِنْ يَقُولُونَ : إنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ ؛ لِمَا هُوَ قَدِيمٌ كَالْأَفْلَاكِ عِنْدَهُمْ . وَلَيْسَ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحَوَادِثِ وَهَذَا أَيْضًا بَاطِلٌ . وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا يُقَالُ : إنَّهُ قَدِيمٌ كَالْأَفْلَاكِ إمَّا أَنْ يَجِبَ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلْحَوَادِثِ كَمَا يَقُولُونَ فِي الْفَلَكِ : إنَّهُ يَجِبُ لَهُ لُزُومُ الْحَرَكَةِ وَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَحَرِّكًا وَإِمَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحَوَادِثِ وَكَوْنُهُ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحَوَادِثِ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّ مَا قَارَنَتْهُ الْحَوَادِثُ وَلَمْ يَخْلُ مِنْهَا بَلْ هِيَ لَازِمَةٌ لَهُ امْتَنَعَ صُدُورُهُ عَنْ الْمُوجِبِ بِدُونِهَا وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ مُحَالٌ وَإِذَا كَانَتْ الْحَرَكَةُ لَازِمَةً لِلْفَلَكِ كَمَا يَقُولُونَ : فَوُجُودُ الْفَلَكِ بِدُونِ الْحَرَكَةِ مُحَالٌ فَالْمُوجِبُ بِذَاتِهِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلْفَلَكِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً مُوجِبَةً لِلَوَازِمِهِ وَعِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ بِحَرَكَتِهِ لَكِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لِلْحَوَادِثِ لَا الْحَرَكَةِ وَلَا غَيْرِهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ وُجُودُ مَعْلُولِهَا الَّذِي هُوَ مُوجَبُهَا وَمُقْتَضَاهَا
فِي الْأَزَلِ وَأَلَّا يَتَأَخَّرَ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِهَا وَمُقْتَضَاهَا وَمَعْلُولِهَا . وَالْحَرَكَةُ الَّتِي تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا قَدِيمًا ؛ بَلْ كُلٌّ مِنْهَا حَادِثٌ مَسْبُوقٌ بِآخَرَ ؛ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهَا مَعْلُولًا لِلْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ ؛ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ حَادِثٌ مِنْ الْحَوَادِثِ قَدِيمًا وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ مَجْمُوعِ الْحَوَادِثِ فِي الْأَزَلِ وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْحَوَادِثِ إلَّا مَعَ حَادِثٍ مِنْ الْحَوَادِثِ أَوْ مَعَ مَجْمُوعِ الْحَوَادِثِ وَإِذَا كَانَ كِلَاهُمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ قَدِيمًا فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءِ مِنْ الْحَوَادِثِ أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ الْحَوَادِثَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ قَدِيمَةٌ ؛ فَامْتَنَعَ صُدُورُ الْحَوَادِثِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا أَوْ مِنْ مَلْزُومَاتِهَا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ قَدِيمَةٍ ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ صَادِرًا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْفَلَكُ الْمُقَارِنُ لِلْحَوَادِثِ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً قَدِيمَةً . وَلَوْ كَانَ قَدِيمًا لَصَدَرَ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ قَدِيمَةٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِيمًا إلَّا إذَا كَانَ الْمُقْتَضِي التَّامُّ ثَابِتًا فِي الْأَزَلِ وَثُبُوتُ الْمُقْتَضِي التَّامِّ لَهُ مُمْتَنِعٌ كَمَا أَنَّ قِدَمَهُ مُمْتَنِعٌ . وَأَمَّا إنْ قِيلَ : أَنَّ الْقَدِيمَ شَيْءٌ غَيْرُ مُقَارِنٍ لِلْحَوَادِثِ وَلَا مُسْتَلْزِمٍ لَهَا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ : الْقَدِيمُ أَعْيَانٌ سَاكِنَةٌ هِيَ الْمَعْلُولُ الْأَوَّلُ فَيُقَالُ ذَلِكَ الْمَعْلُولُ إمَّا أَنْ يَجُوزَ حُدُوثُ حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إمَّا فِيهِ أَوْ عَنْهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ . وَإِمَّا أَلَّا يَجُوزَ .
فَإِنْ جَازَ حُدُوثُ حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ لَهُ امْتَنَعَ حُدُوثُ ذَلِكَ الْحَادِثِ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ - وَهُوَ الْمُوجِبُ بِالذَّاتِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ - وَلَا بُدَّ مِنْ مُحْدِثٍ وَالْمُحْدِثُ إنْ كَانَ سِوَى اللَّهِ فَالْقَوْلُ فِي حُدُوثِهِ إنْ كَانَ مُحْدَثًا أَوْ فِي حُدُوثِ ذَلِكَ الْإِحْدَاثِ لَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَالْقَوْلِ فِي حُدُوثِ ذَلِكَ الْحَادِثِ وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لَهُ ؛ إذْ الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ لِحَادِثِ - كَمَا بُيِّنَ - فَامْتَنَعَ ثُبُوتُ الْعِلَّةِ الْقَدِيمَةِ . وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الصَّانِعُ مُوجِبًا بِالذَّاتِ - فَلَا يَكُونُ عِلَّةً تَامَّةً - امْتَنَعَ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ الْعَالَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَدِيمٌ إلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ لَا يَجُوزُ حُدُوثٌ لِمَا فُرِضَ قَدِيمًا مَعْلُولًا لِلْأَوَّلِ ؛ فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِوُجُوهِ : " أَحَدُهَا " أَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ تَحْدُثُ لَهُ النِّسَبُ وَالْإِضَافَاتُ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . فَحُدُوثُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَوْلَى . " الثَّانِي " أَنَّ الْحَوَادِثَ مَشْهُودَةٌ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ وَهَذِهِ الْحَوَادِثُ صَادِرَةٌ عَنْ اللَّهِ : إمَّا بِوَسَطِ أَوْ بِغَيْرِ وَسَطٍ فَإِذَا كَانَتْ بِوَسَطِ فَتِلْكَ الْوَسَائِطُ حَدَثَتْ عَنْهَا أُمُورٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ . فَلَزِمَ حُدُوثُ الْأَحْوَالِ لِلْقَدِيمِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الصَّانِعَ أَوْ كَانَ هُوَ الْوَسَائِطَ لِلصَّانِعِ .
وَإِنْ قِيلَ : الْقَدِيمُ هُوَ شَيْءٌ لَيْسَ بِوَاسِطَةِ فِي شَيْءٍ آخَرَ . قِيلَ : لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَابِلًا لِحُدُوثِ الْأَحْوَالِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ حُدُوثُ النِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ فَإِمْكَانُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَوْلَى وَإِذَا كَانَ قَابِلًا لَهَا أَمْكَنَ أَنْ تَحْدُثَ لَهُ الْأَحْوَالُ كَمَا تَحْدُثُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمْتَنِعُ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْهُ : إمَّا بِوَسَطِ وَإِمَّا بِغَيْرِ وَسَطٍ ؛ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ قَابِلًا وَصُدُورُ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ الصَّانِعِ مُمْكِنٌ أَمْكَنَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْهُ أَوْ فِيهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ . وَحِينَئِذٍ فَالْقَوْلُ فِي حُدُوثِهَا كَالْقَوْلِ فِي حُدُوثِ سَائِر مَا يَحْدُثُ عَنْهُ وَذَلِكَ مُحَالٌ مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمَعْلُومِهَا فَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْبُرْهَانُ الْبَاهِرُ أَنَّ كَوْنَ الْأَوَّلِ عِلَّةً تَامَّةً لِشَيْءِ مِنْ الْعَالَمِ - مُحَالٌ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْفَلَكِ وَغَيْرِهِ ؛ سَوَاءٌ قُدِّرَ ذَلِكَ الْغَيْرُ جِسْمًا أَوْ غَيْرَ جِسْمٍ وَسَوَاءٌ قُدِّرَ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَوَادِثِ فِيهِ أَوْ عَنْهُ - كَمَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ الدَّهْرِيَّةُ : كالفارابي وَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالُهُمَا وَسَلَفُهُمَا مِنْ الْيُونَانِ . فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : الْفَلَكُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَوَادِثِ الْقَدِيمَةِ وَالْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ عَنْهَا فَكُلٌّ مِنْهَا مُقَارِنٌ لِلْحَوَادِثِ لَا يَجُوزُ تَقَدُّمُهُ عَلَيْهَا مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ جَمِيعِهِ مَعْلُولًا لِلْمُوجِبِ بِذَاتِهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُوجِبَ بِذَاتِهِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ فِي الْأَزَلِ حَادِثٌ أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لِحَادِثِ بَطَلَ كَوْنُ صَانِعِ الْعَالَمِ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ وَمَتَى بَطَلَ كَوْنُهُ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِيمَا سِوَاهُ شَيْءٌ قَدِيمٌ بِعَيْنِهِ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مُحْدَثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ سَوَاءً قِيلَ
بِجَوَازِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ أَوْ قِيلَ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ . فَإِنَّهُ إنْ قِيلَ بِامْتِنَاعِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ لَزِمَ حُدُوثُ كُلِّ مَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِ دَوَامِ الْحَوَادِثِ فَكُلٌّ مِنْهَا حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَكُلٌّ مِنْ الْعَالَمِ مُسْتَلْزِمٌ لِحَادِثِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ وَكُلٌّ مِنْ الْعَالَمِ وَكُلُّ مَا كَانَ مَصْنُوعًا وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحَوَادِثِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ صَانِعُهُ عِلَّةً تَامَّةً قَدِيمَةً مُوجِبَةً لَهُ ؛ فَإِذَا امْتَنَعَ ذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَالَمِ مَا هُوَ قَدِيمٌ بِعَيْنِهِ . وَأَمَّا كَوْنُ الرَّبِّ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ أَوْ لَمْ يَزَلْ فَاعِلًا تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ بِمَشِيئَتِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - فَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ هُوَ الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ . وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِ الْفَلَاسِفَةِ أَبْطَلَ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ : أُولَئِكَ جَوَّزُوا حُدُوثَ الْحَوَادِثِ عَنْ ذَاتٍ لَمْ تَزَلْ غَيْرَ فَاعِلَةٍ وَلَا يَقُومُ بِهَا حَادِثٌ وَلَا يَصْدُرُ عَنْهَا حَادِثٌ وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ الْحَوَادِثُ الدَّائِمَةُ الْمُخْتَلِفَةُ تَصْدُرُ عَنْ هَذِهِ الذَّاتِ وَزِدْتُمْ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ عَنْهَا فَجَعَلْتُمُوهَا وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ أَوْ مَا يُشْبِهُ ذَلِكَ فَقَوْلُكُمْ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ عَنْهَا أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَة .
وَقُلْتُمْ : هُوَ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ يُقَارِنُهَا الْمَعْلُولُ الْأَزَلِيُّ فَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ صُدُورَ الْحَوَادِثِ الْمُخْتَلِفَةِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْبَسِيطَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا مُقْتَضَاهَا وَمَعْلُولُهَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا مِنْ صُدُورِ الْحَوَادِثِ عَنْ قَادِرٍ مُخْتَارٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ صَادِرَةً عَنْهُ فَإِنْ كَانَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ عَنْ الْقَدِيمِ الَّذِي لَمْ يَقُمْ بِهِ حَادِثٌ مُمْتَنِعًا فَقَوْلُكُمْ أَشَدُّ امْتِنَاعًا وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَقْرَبُ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ : إنْ اقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونُ لِلْحَوَادِثِ سَبَبٌ حَادِثٌ فَقَوْلُكُمْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لِلْحَوَادِثِ مُحْدَثٌ أَصْلًا وَالْحَوَادِثُ مَشْهُودَةٌ وَالْمُحْدِثُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ وُجُودِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَحْدَاثِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِحْدَاثِ وَذَلِكَ يَمْتَنِعُ صُدُورُهُ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ . فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُقَدَّمَاتِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْفَلَاسِفَةُ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ يُحْتَجُّ بِهَا بِعَيْنِهَا عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ ؛ فَإِنَّ مَبْنَى دَلِيلِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا وَأَنَّ الْبَارِي إنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لَزِمَ الْحُدُوثُ بِلَا سَبَبٍ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لَزِمَ مُقَارَنَةُ مَعْلُولِهِ ؛ فَيَلْزَمُ قِدَمُ الْعَالَمِ . أَمَّا كَوْنُهُ عِلَّةً تَامَّةً فَمُمْتَنِعٌ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ الْأَزَلِيَّةَ يُقَارِنُهَا مَعْلُولُهَا كُلُّهُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَعْلُولِهَا وَالْعَالَمُ لَا يَنْفَكُّ مِنْ حَوَادِثَ مُقَارَنَةٍ لَهُ بِالضَّرُورَةِ وَاتِّفَاقُ جَمَاهِيرِ الْعُقَلَاءِ وَمَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْحَوَادِثِ امْتَنَعَ كَوْنُهُ مَعْلُولَ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ ؛ لِامْتِنَاعِ كَوْنِ الْحَوَادِثِ حَادِثَةً
عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ فَإِنَّهُ مَا مِنْ حَادِثٍ إلَّا وَهُوَ مَسْبُوقٌ بِالْعَدَمِ فَلَيْسَ هُوَ عِلَّةً تَامَّةً لِشَيْءِ مِنْهَا وَمَا مِنْ زَمَنٍ يُقَدَّرُ إلَّا وَفِيهِ حَادِثٌ فَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ عِلَّةً تَامَّةً لَا فِي الْمَاضِي وَلَا الْمُسْتَقْبَلَ ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ ؛ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ كُلِّ مَا سِوَاهُ مُحْدَثًا سَوَاءً قِيلَ بِتَسَلْسُلِ الْحَادِثَةِ أَوْ لَمْ يُقَلْ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لَزِمَ الْحُدُوثُ بِلَا سَبَبٍ . فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ - تَقُومُ بِهِ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ بِقُدْرَتِهِ تَعَالَى - وَإِلَّا فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ قَادِرًا عَلَى الْفِعْلِ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَحِينَئِذٍ فَمَا حَصَلَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ يَكُونُ هُوَ السَّبَبَ لِمَا بَعْدَهُ . وَإِنْ قَالُوا : هَذَا يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْحَوَادِثِ بِهِ قِيلَ لَهُمْ أَوَّلًا : قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِالْقَدِيمِ جَائِزٌ عِنْدَكُمْ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ فَإِنَّمَا أَنْكَرَهُ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ مَا قَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ فَهُوَ حَادِثٌ فَإِنْ كَانَ هَذَا الِاعْتِقَادُ صَحِيحًا بَطَلَ قَوْلُكُمْ بِقِدَمِ الْأَفْلَاكِ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا بَطَلَتْ حُجَّةُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقَدِيمَ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ ؛ فَلَا يُمْكِنُكُمْ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنْ تَقُولُوا إنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ ؛ لَكِنْ أَنْتُمْ نَفَيْتُمْ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ وَقَوْلُكُمْ فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَدَلِيلُكُمْ عَلَيْهِ قَدْ بُيِّنَ فَسَادُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبُيِّنَ بُطْلَانُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ .
وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ بِحُدُوثِ الْعَالَمِ مُسْتَلْزِمًا لِإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَقِيَامِ الْأَفْعَالِ بِاَللَّهِ كَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلِيلِ حُدُوثِهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَأَنَّ مُحْدِثَهُ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهِ فَاعِلُ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَذَلِكَ مَا بَيْنَ مُوَافَقَةِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ لِلنَّقْلِ الصَّحِيحِ وَالْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ فِطَرِ الْعُقَلَاءِ وَمُنْتَهَى عَقْلِهِمْ تُوَافِقُ ذَلِكَ وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْخَطِيبِ الرَّازِي فِي كِتَابِهِ " الْأَرْبَعِينَ " فِي ضَبْطِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فِي إثْبَاتِ الْمَطَالِبِ الْعَقْلِيَّةِ . قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّ هَهُنَا " مُقَدِّمَتَيْنِ " يُفَرِّعُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْفَلَاسِفَةُ أَكْثَرَ مَبَاحِثِهِمْ عَلَيْهِمَا . " الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى " مُقَدِّمَةُ الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ كَقَوْلِهِمْ هَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَجِبُ إثْبَاتُهَا لِلَّهِ وَهَذِهِ الصِّفَةُ مِنْ صِفَاتِ النُّقْصَانِ فَيَجِبُ نَفْيُهَا عَنْ اللَّهِ وَأَكْثَرُ مَذَاهِبِ الْمُتَكَلِّمِينَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ . إلَى أَنْ قَالَ : " أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ " وَهِيَ مُقَدِّمَةُ الْوُجُوبِ ؛ وَالْإِمْكَانِ وَهَذِهِ
الْمُقَدِّمَةُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالْعُلُوِّ وَهِيَ غَايَةُ عُقُولِ الْعُقَلَاءِ . قَالُوا : الْوُجُودُ إمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا مُمْكِنٌ وَالْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَاجِبٍ وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ : إذْ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا لَافْتَقَرَ إلَى مُؤَثِّرٍ آخَرَ .
[ " أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى " وَهِيَ أَنَّهُ وَاجِبٌ لِذَاتِهِ : فَهَذَا لَهُ لَازِمَانِ : الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ الْكَثْرَةِ فِي حَقِيقَتِهِ ثُمَّ يَلْزَمُ فِي ذَاتِهِ أُمُورٌ : " أَحَدُهَا " أَنْ لَا يَكُونَ مُتَحَيِّزًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُتَحَيِّزٍ مُنْقَسِمٌ وَالْمُنْقَسِمُ لَا يَكُونُ فَرْدًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَحَيِّزًا لَمْ يَكُنْ فِي جِهَةٍ . وَ " ثَانِيهَا " أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبُ الْوُجُودِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا فِي التَّعْيِينِ وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ ؛ فَيَلْزَمُ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا فِي نَفْسِهِ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ فَرْدًا هَذَا خَالَفَ اللَّازِمَ الثَّانِيَ ؛ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ أَنْ لَا يَكُونُ حَالًّا وَلَا مَحَلًّا وَالْأَفْعَالُ الِافْتِقَارُ هِيَ . . . (1)
قُلْت : وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ : هَذَا هُوَ أَصْلُ الْفَلَاسِفَةِ فِي التَّوْحِيدِ الَّذِي نَفَوْا بِهِ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ] (*).
وَالْأَصْلُ الَّذِي بَنَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ ضَعِيفٌ جِدًّا وَإِنْ كَانَ اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ : وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الْوَاجِبَ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا . قَصَدُوا بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا حَيَاةٌ وَلَا كَلَامٌ يَقُومُ بِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ كَمَا يَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ إنَّهُ لَيْسَ لَهُ صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْقَدِيمُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ . وَلَفْظُ " الْوَاجِبُ وَالْقَدِيمُ " يُرَادُ بِهِ الْإِلَهُ الْخَالِقُ سُبْحَانَهُ الْوَاجِبُ الْوُجُودِ الْقَدِيمُ فَهَذَا لَيْسَ إلَّا وَاحِدًا وَيُرَادُ بِهِ صِفَاتُهُ الْأَزَلِيَّةُ وَهِيَ قَدِيمَةٌ وَاجِبَةٌ بِتَقَدُّمِ الْمَوْصُوفِ وَوُجُوبِهِ لَمْ يَجِبْ أَنْ تَكُونَ مُمَاثِلَةً لَهُ وَلَا تَكُونُ إلَهًا كَمَا أَنَّ صِفَةَ النَّبِيِّ لَيْسَتْ بِنَبِيِّ وَصِفَةَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ لَيْسَتْ بِإِنْسَانِ وَلَا حَيَوَانٍ وَكَمَا أَنَّ صِفَةَ الْمُحْدَثِ إنْ كَانَتْ مُحْدَثَةً فَمُوَافَقَتُهَا لَهُ فِي الْحُدُوثِ لَا يَقْتَضِي مُمَاثَلَتَهَا لَهُ وَمَا ذَكَرُوا مِنْ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ ضَعِيفَةٌ . فَإِذَا قَالُوا : لَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَاجِبٌ بِوُجُوبِ الْعَالِمِ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ . قِيلَ لَهُ : وَلِمَ قُلْتُمْ بِامْتِنَاعِ كَوْنِ الْوَاجِبِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ ؛ إذْ كَانَتْ الذَّاتُ الْوَاجِبَةُ إلَهًا وَاحِدًا مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ .
قَوْلُهُمْ : لَوْ كَانَ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا فِي التَّعْيِينِ وَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ غَيْرُ مَا بِهِ الِامْتِيَازُ ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا فِي نَفْسِهِ ؛ وَقَدْ فَرَضْنَاهُ ؛ فَرَدَّ هَذَا خَلْقٌ . يُقَالُ لَهُ فِي جَوَابِهِ قَوْلُ الْقَائِلِ اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ وَتَبَايَنَا فِي التَّعْيِينِ تُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي يَخْتَصُّ كُلًّا مِنْهُمَا شَارَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ أَمْ تُرِيدُ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ . وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لَا يُرِيدُهُ عَاقِلٌ . وَأَمَّا الثَّانِي فَيُقَالُ : اشْتِرَاكُهُمَا فِي الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ كَاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّعْيِينِ الْمُطْلَقِ الْكُلِّيِّ . فَإِنَّ هَذَا لَهُ تَعْيِينٌ يَخُصُّهُ وَالتَّعْيِينَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي مُطْلَقِ التَّعْيِينِ . وَكَذَلِكَ هَذَا لَهُ حَقِيقَةٌ تَخُصُّهُ وَهَذَا لَهُ حَقِيقَةٌ تَخُصُّهُ وَهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُطْلَقِ الْحَقِيقَةِ وَكَذَلِكَ لِهَذَا ذَاتٌ تَخُصُّهُ وَلِهَذَا ذَاتٌ تَخُصُّهُ وَهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُطْلَقِ الذَّاتِ . وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَسْمَاءِ الَّتِي تَعُمُّ بِالْإِطْلَاقِ وَتَخُصُّ بِالتَّقْيِيدِ كَاسْمِ الْمَوْجُودِ وَالنَّفْسِ وَالْمَاهِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ وَامْتَازَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِوُجُوبِهِ بِتَعْيِينِ يَخُصُّهُ . وَحِينَئِذٍ : فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالتَّعْيِينِ . فَقَوْلُ الْقَائِلِ : اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ وَتَبَايَنَا بِالتَّعْيِينِ الْخَاصِّ .
كَقَوْلِ الْقَائِلِ اشْتَرَكَا فِي التَّعْيِينِ الْمُطْلَقِ وَتَبَايَنَا بِالْوُجُوبِ الْخَاصِّ . وَمَعْلُومُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ سَوَاءٌ سُمِّيَ تَرْكِيبًا أَوْ لَمْ يُسَمَّ فَلَا يُمْكِنُ مَوْجُودٌ يَخْلُو عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْمُشَارَكَةِ وَالْمُبَايَنَةِ لَا وَاجِبٌ وَلَا غَيْرُهُ وَمَا كَانَ مِنْ لَوَازِمِ الْوُجُودِ كَانَ نَفْيُهُ عَنْ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ مُمْتَنِعًا . وَ " أَيْضًا " فَالْمُشْتَرَكُ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ لَا يَكُونُ كُلِّيًّا مُشْتَرَكًا إلَّا فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا شَيْءٌ يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ فِي الْخَارِجِ ؛ بَلْ كُلُّ مَا اتَّصَفَ بِهِ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتَّصِفْ الْآخَرُ بِعَيْنِهِ وَلَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ ؛ بَلْ لَا يُشَابِهُهُ فِيهِ أَوْ يُمَاثِلُهُ فِيهِ . وَإِذَا كَانَ الِاشْتِرَاكُ لَيْسَ إلَّا فِي مَا فِي الْأَذْهَانِ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُرَكَّبًا فِي مُشْتَرَكٍ وَمُمَيَّزٍ ؛ بَلْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مَوْصُوفًا بِصِفَةِ تَخُصُّهُ لَا يُشَابِهُهُ الْآخَرُ فِيهَا وَبِصِفَةِ يُشَابِهُهُ الْآخَرُ فِيهَا وَهَذَا لَا مَحْذُورَ فِيهِ . وَأَيْضًا فَيُقَالُ : هَذَا مَنْقُوضٌ بِالْوُجُودِ فَإِنَّ الْوُجُودَ الْوَاجِبَ وَالْمُمْكِنَ يَشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَيُبَايِنُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ بِخُصُوصِهِ ؛ فَيَلْزَمُ تَرْكِيبُ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ مِمَّا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَمِمَّا بِهِ الِامْتِيَازُ ؛ فَمَا كَانَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا كَانَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ . وَ " أَيْضًا " فَيُقَالُ : هَبْ أَنَّكُمْ سَمَّيْتُمْ هَذَا تَرْكِيبًا . فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ
هَذَا مُمْتَنِعٌ عَلَى مَوْجُودٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مُمْكِنًا ؟ مَعَ أَنَّ الْمُنَازِعَ يَقُولُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي نَفَيْتُمُوهُ وَسَمَّيْتُمُوهُ تَرْكِيبًا هُوَ لَازِمٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ . قَوْلُهُمْ : وَقَدْ فَرَضْنَاهُ فَرْدًا . قِيلَ : هَبْ أَنَّكُمْ فَرَضْتُمُوهُ كَذَلِكَ ؛ لَكِنَّ مُجَرَّدَ فَرْضِكُمْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فَرْدًا بِالْمَعْنَى الَّذِي ادَّعَيْتُمُوهُ إنْ لَمْ يَقُمْ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ .
وَسُئِلَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - : (*)
عَنْ بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ وَيَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا ؛ بِأَوْضَحِ عِبَارَةٍ وَأَبْيَنِهَا مِنْ أَنَّ مَا فِي الْمَصَاحِفِ هَلْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ الْقَدِيمُ ؟ أَمْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْهُ لَا نَفْسُهُ وَأَنَّهُ حَادِثٌ أَوْ قَدِيمٌ وَأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَرْفٌ وَصَوْتٌ ؟ أَمْ كَلَامُهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِهِ لَا تُفَارِقُهُ ؟ وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } حَقِيقَةٌ أَمْ لَا ؟ وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَجْرَى الْقُرْآنَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْهُ وَيَقُولُ أُؤمِنُ (1) بِهِ كَمَا أُنْزِلَ هَلْ يَكْفِيهِ ذَلِكَ فِي الِاعْتِقَادِ أَمْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّأْوِيلُ ؟
فَأَجَابَ :
الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ اعْتِقَادُهُ فِي ذَلِكَ وَغَيْرِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ وَذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَأَنَّهُ قُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ . لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ وَأَنَّهُ
{ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } . وَأَنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } وَأَنَّهُ فِي الصُّدُورِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عُقُلِهَا } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ } وَأَنَّ مَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ الَّذِي كَتَبَتْهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ ؛ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ } . فَهَذِهِ " الْجُمْلَةُ " تَكْفِي الْمُسْلِمَ فِي هَذَا الْبَابِ . وَأَمَّا تَفْصِيلُ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ النِّزَاعِ فَكَثِيرٌ مِنْهُ يَكُونُ كِلَا الْإِطْلَاقَيْنِ خَطَأً وَيَكُونُ الْحَقُّ فِي التَّفْصِيلِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مَعَ كُلٍّ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ نَوْعٌ مِنْ الْحَقِّ وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا يُنْكِرُ حَقَّ صَاحِبِهِ . وَهَذَا مِنْ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَنَهَى عَنْهُ فَقَالَ : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } وَقَالَ : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } وَقَالَ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } وَقَالَ : { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } .
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْزَمَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةَ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ . وَمَا تَنَازَعَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ وَتَفَرَّقَتْ فِيهِ إنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَفْصِلَ النِّزَاعَ بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَإِلَّا اسْتَمْسَكَ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَأَعْرَضَ عَنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا فَإِنَّ مَوَاضِعَ التَّفَرُّقِ وَالِاخْتِلَافِ عَامَّتُهَا تَصْدُرُ عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى . وَقَدْ بَسَطْت الْقَوْلَ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِبَيَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ . وَبَيَانُ مَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَالِاشْتِبَاهِ وَالْغَلَطِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ وَلَكِنْ نَذْكُرُ مِنْهَا جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً بِحَسَبِ حَالِ السَّائِلِ . وَالْوَاجِبُ أَمْرُ الْعَامَّةِ بِالْجُمَلِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الْخَوْضِ فِي التَّفْصِيلِ الَّذِي يُوقِعُ بَيْنَهُمْ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ مِنْ أَعْظَمِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ . وَالتَّفْصِيلُ الْمُخْتَصَرُ أَنْ نَقُولَ : مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَأَصْوَاتَ الْعِبَادِ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ فَهُوَ ضَالٌّ مُخْطِئٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَسَائِر عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ
عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إنَّ ذَلِكَ قَدِيمٌ لَا مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَلَا مَنْ غَيْرِهِمْ وَمَنْ نَقَلَ قِدَمَ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَنَحْوِهِمْ فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي هَذَا النَّقْلِ أَوْ مُتَعَمِّدٌ لِلْكَذِبِ ؛ بَلْ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ تَبْدِيعُ مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ : اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ . وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو بَكْرٍ المروذي - أَخَصُّ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد بِهِ - فِي ذَلِكَ رِسَالَةً كَبِيرَةً مَبْسُوطَةً وَنَقَلَهَا عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " الَّذِي جَمَعَ فِيهِ كَلَامَ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِي أَبْوَابِ الِاعْتِقَادِ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ إذْ ذَاكَ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مُعَارَضَةً لِمَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْإِمَامَ أَحْمَد فَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا وَبَدَّعَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ صَوْتَ الْعَبْدِ قَدِيمٌ وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَحْكِي عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ قَدِيمٌ وَجَمِيعُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَمَا عَلِمْت أَنَّ عَالِمًا يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا مَا يَبْلُغُنَا عَنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ : مِنْ الْأَكْرَادِ وَنَحْوِهِمْ " . وَقَدْ مَيَّزَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْكَلَامِ وَالْمِدَادِ فَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ
جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } فَهَذَا خَطَأٌ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ فِي الصُّدُورِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَعْلُومٌ بِالْقُلُوبِ وَأَنَّهُ مَتْلُوٌّ بِالْأَلْسُنِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَذْكُورٌ بِالْأَلْسُنِ وَأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ اللَّهَ مَكْتُوبٌ . وَجَعْلُ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي الصُّدُورِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْمَصَاحِفِ مِثْلَ ثُبُوتِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ؛ فَهَذَا - أَيْضًا - مُخْطِئٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ ثُبُوتِ الْأَعْيَانِ فِي الْمُصْحَفِ وَبَيْنَ ثُبُوتِ الْكَلَامِ فِيهَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ ؛ فَإِنَّ الْمَوْجُودَاتِ لَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ : مَرْتَبَةٌ فِي الْأَعْيَانِ وَمَرْتَبَةٌ فِي الْأَذْهَانِ وَمَرْتَبَةٌ فِي اللِّسَانِ وَمَرْتَبَةٌ فِي الْبَنَانِ . فَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الْعَيْنَ وَاللَّفْظُ يُطَابِقُ الْعِلْمَ وَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ . فَإِذَا قِيلَ : إنَّ الْعَيْنَ فِي كِتَابِ اللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الَّذِي فِي الزُّبُرِ إنَّمَا هُوَ الْخَطُّ الْمُطَابِقُ لِلَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ فَبَيْنَ الْأَعْيَانِ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ مَرْتَبَتَانِ وَهِيَ اللَّفْظُ وَالْخَطُّ وَأَمَّا الْكَلَامُ نَفْسُهُ فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُصْحَفِ مَرْتَبَةٌ بَلْ نَفْسُ الْكَلَامِ يُجْعَلُ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْحَرْفِ الْمَلْفُوظِ وَالْحَرْفِ الْمَكْتُوبِ فَرْقٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إلَّا إذَا أُرِيدَ أَنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ ذِكْرُهُ وَالْخَبَرُ عَنْهُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }
{ عَلَى قَلْبِكَ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } . { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ } . فَاَلَّذِي فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَخَبَرُهُ كَمَا فِيهَا ذِكْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَبَرُهُ كَمَا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ فِي الزُّبُرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } فَيَجِبُ الْفَرْقُ بَيْنَ كَوْنِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الزُّبُرِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْكَلَامِ نَفْسِهِ فِي الزُّبُرِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً } { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } . فَمَنْ قَالَ إنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ فَقَدْ أَخْطَأَ وَمَنْ قَالَ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّمَا فِيهِ الْمِدَادُ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ بَلْ الْقُرْآنُ فِي الْمُصْحَفِ كَمَا أَنَّ سَائِر الْكَلَامِ فِي الْوَرَقِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَيْهِ وَكَمَا هُوَ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ كُلَّ مَرْتَبَةٍ لَهَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا وَلَيْسَ وُجُودُ الْكَلَامِ فِي الْكِتَابِ كَوُجُودِ الصِّفَةِ فِي الْمَوْصُوفِ مِثْلُ وُجُودِ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ فِي مَحَلِّهِمَا حَتَّى يُقَالَ : إنَّ صِفَةَ اللَّهِ حَلَّتْ بِغَيْرِهِ أَوْ فَارَقَتْهُ وَلَا الْوُجُودُ فِيهِ كَالدَّلِيلِ الْمَحْضِ مِثْلُ وُجُودِ الْعَالَمِ الدَّالِّ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى حَتَّى يُقَالَ : لَيْسَ فِيهِ إلَّا مَا هُوَ عَلَامَةٌ عَلَى كَلَامِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛
بَلْ هُوَ قِسْمٌ آخَرُ وَمَنْ لَمْ يُعْطِ كُلَّ مَرْتَبَةٍ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِيهَا أَدَاةُ الظَّرْفِ حَقَّهَا فَيُفَرِّقُ بَيْنَ وُجُودِ الْجِسْمِ فِي الْحَيِّزِ وَفِي الْمَكَانِ وَوُجُودِ الْعَرَضِ بِالْجِسْمِ وَوُجُودِ الصُّورَةِ بِالْمِرْآةِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ بِالْعَيْنِ يَقَظَةً وَبَيْنَ رُؤْيَتِهِ بِالْقَلْبِ يَقِظَةً وَمَنَامًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ . وَكَذَلِكَ سُؤَالُ السَّائِلِ عَمَّا فِي الْمُصْحَفِ هَلْ هُوَ حَادِثٌ أَوْ قَدِيمٌ ؟ سُؤَالٌ مُجْمَلٌ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ الْقَدِيمِ أَوَّلًا لَيْسَ مَأْثُورًا عَنْ السَّلَفِ وَإِنَّمَا الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تُلِيَ وَحَيْثُ كُتِبَ وَهُوَ قُرْآنٌ وَاحِدٌ وَكَلَامٌ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الصُّوَرُ الَّتِي يُتْلَى فِيهَا وَيُكْتَبُ مِنْ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ وَمِدَادِهِمْ . فَإِنَّ الْكَلَامَ كَلَامُ مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا كَلَامُ مَنْ بَلَّغَهُ مُؤَدِّيًا فَإِذَا سَمِعْنَا مُحَدِّثًا يُحَدِّثُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مَعَ عِلْمِنَا أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ لَا صَوْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَكَذَا كُلُّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ مَنْ نَظْمٍ وَنَثْرٍ . وَنَحْنُ إذَا قُلْنَا : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لِمَا نَسْمَعُهُ مِنْ الْقَارِئِ وَنَرَى فِي الْمُصْحَفِ فَالْإِشَارَةُ إلَى الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ الْبَلَاغُ مِنْ صَوْتِ الْمُبَلِّغِ وَمِدَادِ الْكَاتِبِ .
فَمَنْ قَالَ : صَوْتُ الْقَارِئِ وَمِدَادُ الْكَاتِبِ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَقَدْ أَخْطَأَ وَهَذَا الْفَرْقُ الَّذِي بَيَّنَهُ الْإِمَامُ أَحْمَد لِمَنْ سَأَلَهُ وَقَدْ قَرَأَ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَقَالَ : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ : نَعَمْ . فَنَقَلَ السَّائِلُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَدَعَا بِهِ وَزَبَرَهُ زَبْرًا شَدِيدًا وَطَلَبَ عُقُوبَتَهُ وَتَعْزِيرَهُ وَقَالَ : أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَالَ : لَا وَلَكِنْ قُلْت لِي لَمَّا قَرَأْت { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } هَذَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . قَالَ : فَلِمَ تَنْقُلُ عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْهُ . فَبَيَّنَ الْإِمَامُ أَحْمَد أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ لِمَا سَمِعَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ الْمُؤَدِّينَ : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ . فَالْإِشَارَةُ إلَى حَقِيقَتِهِ الَّتِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ كُنَّا إنَّمَا سَمِعْنَاهَا بِبَلَاغِ الْمُبَلِّغِ وَحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ ؛ فَإِذَا أَشَارَ إلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ لَفْظِهِ أَوْ صَوْتِهِ أَوْ فِعْلِهِ وَقَالَ : هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقَدْ ضَلَّ وَأَخْطَأَ . فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . فَالْقُرْآنُ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا أَنَّ سَائِر الْكَلَامِ فِي الصُّحُفِ وَلَا يُقَالُ : إنَّ شَيْئًا مِنْ الْمِدَادِ وَالْوَرَقِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ بَلْ كُلُّ وَرَقٍ وَمِدَادٍ فِي الْعَالَمِ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَيُقَالُ أَيْضًا : الْقُرْآنُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَيَتَبَيَّنُ هَذَا الْجَوَابُ بِالْكَلَامِ عَلَى " الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ " وَهِيَ قَوْلُهُ :
إنَّ كَلَامَ اللَّهِ هَلْ هُوَ حَرْفٌ وَصَوْتٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّ إطْلَاقَ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا خَطَأٌ وَهِيَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُوَلَّدَةِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ لَمَّا قَالَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِ - كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاَلَّذِي لَمْ يُنَزِّلْهُ وَالْكَلِمَاتِ الَّتِي كَوَّنَ بِهَا الْكَائِنَاتِ وَالْكَلِمَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَخَبَرِهِ لَيْسَتْ إلَّا مُجَرَّدَ مَعْنًى وَاحِدٍ هُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِاَللَّهِ إنْ عُبِّرَ عَنْهَا بالعبرانية كَانَتْ التَّوْرَاةَ وَإِنْ عُبِّرَ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَتْ الْقُرْآنَ وَإِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٌ لَهَا لَا أَقْسَامٌ لَهَا وَإِنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا اللَّهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهَا وَلَيْسَتْ مِنْ كَلَامِهِ ؛ إذْ كَلَامُهُ لَا يَكُونُ بِحَرْفِ وَصَوْتٍ . عَارَضَهُمْ آخَرُونَ مِنْ الْمُثْبِتَةِ فَقَالُوا : بَلْ الْقُرْآنُ هُوَ الْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ وَتَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِالْحُرُوفِ الْمِدَادَ وَبِالْأَصْوَاتِ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ . وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ فِي " كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " وَغَيْرِهِ وَسَائِر الْأَئِمَّةِ قَبْلَهُمْ وَبَعْدَهُمْ - أَتْبَاعُ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَهُوَ
أَنَّ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَلَامًا لِغَيْرِهِ ؛ وَلَكِنْ أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَلَيْسَ الْقُرْآنُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْمَعْنَى وَلَا لِمُجَرَّدِ الْحَرْفِ ؛ بَلْ لِمَجْمُوعِهِمَا وَكَذَلِكَ سَائِر الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ الْحُرُوفَ فَقَطْ ؛ وَلَا الْمَعَانِي فَقَطْ . كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ الْمُتَكَلِّمَ النَّاطِقَ لَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الرُّوحِ وَلَا مُجَرَّدَ الْجَسَدِ ؛ بَلْ مَجْمُوعُهُمَا . وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَأَصْوَاتِ الْعِبَادِ لَا صَوْتِ الْقَارِئِ وَلَا غَيْرِهِ . وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ . فَكَمَا لَا يُشْبِهُ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَحَيَاتُهُ عِلْمَ الْمَخْلُوقِ وَقُدْرَتَهُ وَحَيَاتَهُ : فَكَذَلِكَ لَا يُشْبِهُ كَلَامُهُ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ وَلَا مَعَانِيهِ تُشْبِهُ مَعَانِيَهُ وَلَا حُرُوفُهُ تُشْبِهُ حُرُوفَهُ وَلَا صَوْتُ الرَّبِّ يُشْبِهُ صَوْتَ الْعَبْدِ فَمَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ أَلْحَدَ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ . وَقَدْ كَتَبْت فِي الْجَوَابِ الْمَبْسُوطِ الْمُسْتَوْفِي : مَرَاتِبَ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ تَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ إلَّا فِي نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ تُفِيضُ عَلَيْهِمْ الْمَعَانِيَ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ فَيَصِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ حُرُوفًا كَمَا أَنَّ مَلَائِكَةَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ مَا يَحْدُثُ فِي نُفُوسِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الصُّوَرِ النُّورَانِيَّةِ وَهَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ فَيْلَسُوفِ قُرَيْشٍ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ : { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْقُرْآنَ تَصْنِيفُ
الرَّسُولِ الْكَرِيمِ ؛ لَكِنَّهُ كَلَامٌ شَرِيفٌ صَادِرٌ عَنْ نَفْسٍ صَافِيَةٍ . وَهَؤُلَاءِ هُمْ الصَّابِئَةُ ؛ فَتَقَرَّبَتْ مِنْهُمْ الْجَهْمِيَّة . فَقَالُوا : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يَتَكَلَّمُ وَلَا قَامَ بِهِ كَلَامٌ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ مَا يَخْلُقُهُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ فَأَخَذَ بِبَعْضِ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ الصفاتية . فَقَالُوا : بَلْ نِصْفُهُ وَهُوَ الْمَعْنَى كَلَامُ اللَّهِ وَنِصْفُهُ وَهُوَ الْحُرُوفُ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الصفاتية الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . هَلْ يُقَالُ : إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ ؟ أَمْ يُقَالُ : يَتَكَلَّمُ إذَا شَاءَ وَيَسْكُتُ إذَا شَاءَ ؟ . عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي ذَلِكَ وَفِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنَحْوِهِمَا ذَكَرَهُمَا الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيَّ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ . وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ بَيْنَ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ وَفِرَقِ الْفُقَهَاءِ : مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ ؛ بَلْ وَبَيْنَ فِرَقِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفَلَاسِفَةِ فِي جِنْسِ هَذَا الْبَابِ . وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعًا لِبَسْطِ ذَلِكَ . هَذَا لَفْظُ الْجَوَابِ فِي الْفُتْيَا الْمِصْرِيَّةِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُ -
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .
أَمَّا بَعْدُ فَهَذَا " فَصْلٌ فِي نُزُولِ الْقُرْآنِ " وَلَفْظُ " النُّزُولِ " حَيْثُ ذُكِرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَسَّرُوا النُّزُولَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ مَا هُوَ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفُ لِاشْتِبَاهِ الْمَعْنَى فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَصَارَ ذَلِكَ حُجَّةً لِمَنْ فَسَّرَ نُزُولَ الْقُرْآنِ بِتَفْسِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ . فَمِنْ الْجَهْمِيَّة مَنْ يَقُولُ : أَنْزَلَ بِمَعْنَى خَلَقَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } أَوْ يَقُولُ : خَلَقَهُ فِي مَكَانٍ عَالٍ ثُمَّ أَنْزَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ .
وَمِنْ الْكُلَّابِيَة مَنْ يَقُولُ نُزُولُهُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ بِهِ وَإِفْهَامِهِ لِلْمَلَكِ أَوْ نُزُولِ الْمَلَكِ بِمَا فَهِمَهُ . وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ بَاطِلٌ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ . وَ " الْمَقْصُودُ هُنَا " ذِكْرُ النُّزُولِ . فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ : النُّزُولُ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ " : نُزُولٌ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ مِنْهُ وَنُزُولٌ مُقَيَّدٌ بِأَنَّهُ مِنْ السَّمَاءِ وَنُزُولٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا . فَالْأَوَّلُ لَمْ يَرِدْ إلَّا فِي الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى { نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَفِيهَا قَوْلَانِ : " أَحَدُهُمَا " لَا حَذْفَ فِي الْكَلَامِ بَلْ قَوْلُهُ : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ } مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ { مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَ " الثَّانِي " أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هَذَا { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ } وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ :
{ حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } وَكَذَلِكَ { حم } { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } { حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } وَالتَّنْزِيلُ بِمَعْنَى الْمُنَزَّلِ تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَهُوَ كَثِيرٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ السَّلَفُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ مِنْهُ بَدَأَ . قَالَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ : وَإِلَيْهِ يَعُودُ أَيْ : هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ . وَقَالَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ مِنْهُ أَيْ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ مُبْتَدَأً مُنَزَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ ؛ بَلْ هُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمِنْ اللَّهِ بَدَأَ لَا مِنْ مَخْلُوقٍ فَهُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ لِخَلْقِهِ . وَأَمَّا النُّزُولُ " الْمُقَيَّدُ " بِالسَّمَاءِ فَقَوْلُهُ : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ } وَالسَّمَاءُ اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ مَا عَلَا فَإِذَا قُيِّدَ بِشَيْءِ مُعَيَّنٍ تَقَيَّدَ بِهِ ، فَقَوْلُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ السَّمَاءِ مُطْلَقٌ أَيْ فِي الْعُلُوِّ ؛ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ { أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ } وَقَوْلُهُ { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ } أَيْ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ السَّحَابِ وَمِمَّا يُشْبِهُ نُزُولَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ : { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } فَنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ هُوَ نُزُولُهُمْ بِالْوَحْيِ مَنْ أَمْرِهِ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } يُنَاسِبُ قَوْلَهُ : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } { أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } فَهَذَا شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ }
وَأَمَّا " الْمُطْلَقُ " فَفِي مَوَاضِعَ . مِنْهَا : مَا ذَكَرَهُ مِنْ إنْزَالِ السَّكِينَةِ ؛ بِقَوْلِهِ : { فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ . وَمِنْ ذَلِكَ " إنْزَالُ الْمِيزَانِ " ذَكَرَهُ مَعَ الْكِتَابِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَدْلُ وَعَنْ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ . وَكَذَلِكَ الْعَدْلُ وَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْعَدْلُ مُنَزَّل فِي الْقُلُوبِ وَالْمَلَائِكَةُ قَدْ تَنْزِلُ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ كَقَوْلِهِ : { إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } فَذَلِكَ الثَّبَاتُ نَزَلَ فِي الْقُلُوبِ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ السِّكِّينَةُ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِّلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ } فَاَللَّهُ يُنَزِّلُ عَلَيْهِ مَلَكًا وَذَلِكَ الْمَلَكُ يُلْهِمُهُ السَّدَادَ وَهُوَ يَنْزِلُ فِي قَلْبِهِ . وَمِنْهُ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْأَمَانَةَ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ } وَالْأَمَانَةُ هِيَ الْإِيمَانُ أَنْزَلَهَا فِي أَصْلِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَهُوَ كَإِنْزَالِ الْمِيزَانِ وَالسِّكِّينَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ } الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ فَذَكَرَ أَرْبَعَةً غِشْيَانَ
الرَّحْمَةِ وَهِيَ أَنْ تَغْشَاهُمْ كَمَا يَغْشَى اللِّبَاسُ لَابِسَهُ وَكَمَا يَغْشَى الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ وَاللَّيْلُ النَّهَارَ . ثُمَّ قَالَ : { وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السِّكِّينَةُ } وَهُوَ إنْزَالُهَا فِي قُلُوبِهِمْ { وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ } أَيْ جَلَسَتْ حَوْلَهُمْ { وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ } مِنْ الْمَلَائِكَةِ . وَذَكَرَ اللَّهُ الْغِشْيَانَ فِي مَوَاضِعَ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } وَقَوْلِهِ : { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا } وَقَوْلِهِ : { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } وَقَوْلِهِ : { أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } هَذَا كُلُّهُ فِيهِ إحَاطَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَذَكَرَ تَعَالَى إنْزَالَ النُّعَاسِ فِي قَوْلِهِ : { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ } هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ . وَقَالَ فِي يَوْمِ بَدْرٍ : { إذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ } وَالنُّعَاسُ يَنْزِلُ فِي الرَّأْسِ بِسَبَبِ نُزُولِ الْأَبْخِرَةِ الَّتِي تَدْخُلُ فِي الدِّمَاغِ فَتَنْعَقِدُ فَيَحْصُلُ مِنْهَا النُّعَاسُ . وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ - مِنْهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد - جَعَلُوا النُّزُولَ وَالْإِتْيَانَ وَالْمَجِيءَ حَدَثًا يُحْدِثُهُ مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَذَاكَ هُوَ إتْيَانُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ عَلَى الْعَرْشِ فَقَالُوا اسْتِوَاؤُهُ فِعْلٌ يَفْعَلُهُ فِي الْعَرْشِ يَصِيرُ بِهِ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ
يَقُومُ بِالرَّبِّ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ خَالَفُوهُمْ . وَقَالُوا : الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ لَا يَجِيءُ شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ إلَّا بِمَجِيءِ شَيْءٍ فَإِذَا قَالُوا : جَاءَ الْبَرْدُ أَوْ جَاءَ الْحَرُّ فَقَدْ جَاءَ الْهَوَاءُ الَّذِي يَحْمِلُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَهُوَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا . وَإِذَا قَالُوا : جَاءَتْ الْحُمَّى فَالْحُمَّى حَرٌّ أَوْ بَرْدٌ تَقُومُ بِعَيْنِ قَائِمَةٍ بِسَبَبِ أَخْلَاطٍ تَتَحَرَّكُ وَتَتَحَوَّلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ فَيَحْدُثُ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ بِذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَرَضِ الَّذِي يَحْدُثُ بِلَا تَحَوُّلٍ مِنْ حَامِلٍ مِثْلُ لَوْنِ الْفَاكِهَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فِي هَذَا : جَاءَتْ الْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ وَالْخُضْرَةُ بَلْ يُقَالُ : أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وَأَخْضَرُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْزَالُهُ تَعَالَى الْعَدْلَ وَالسَّكِينَةَ وَالنُّعَاسَ وَالْأَمَانَةَ - وَهَذِهِ صِفَاتٌ تَقُومُ بِالْعِبَادِ - إنَّمَا تَكُونُ إذَا أَفْضَى بِهَا إلَيْهِمْ فَالْأَعْيَانُ الْقَائِمَةُ تُوصَفُ بِالنُّزُولِ كَمَا تُوصَفُ الْمَلَائِكَةُ بِالنُّزُولِ بِالْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ فَإِذَا نَزَلَ بِهَا الْمَلَائِكَةُ قِيلَ إنَّهَا نَزَلَتْ . وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَلَ غَيْرُ الْمَلَائِكَةِ كَالْهَوَاءِ الَّذِي نَزَلَ بِالْأَسْبَابِ فَيُحْدِثُ اللَّهُ مِنْهُ الْبُخَارَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ النُّعَاسُ فَكَانَ قَدْ أَنْزَلَ النُّعَاسَ سُبْحَانَهُ بِإِنْزَالِ مَا يَحْمِلُهُ . وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ الْحَدِيدِ وَالْحَدِيدُ يُخْلَقُ فِي الْمَعَادِنِ . وَمَا يُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
نَزَلَ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ حَدِيدٍ السِّنْدَانُ وَالْكَلْبَتَانِ وَالْمِنْقَعَةُ وَالْمِطْرَقَةُ وَالْإِبْرَةُ فَهُوَ كَذِبٌ لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ . وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ وَالْمَاءَ وَالنَّارَ وَالْمِلْحَ } حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ فِي إسْنَادِهِ سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ مِنْ الْكَذَّابِينَ الْمَعْرُوفِينَ بِالْكَذِبِ . قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : هُوَ سَيْفُ بْنُ مُحَمَّدٍ ابْنُ أُخْتِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ يَرْوِي عَنْ الثَّوْرِيِّ وَعَاصِمٍ الْأَحْوَلِ وَالْأَعْمَشِ قَالَ أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ كَذَّابٌ يَضَعُ الْحَدِيثَ وَقَالَ مَرَّةً : لَيْسَ بِشَيْءِ وَقَالَ يَحْيَى : كَانَ كَذَّابًا خَبِيثًا وَقَالَ مَرَّةً لَيْسَ بِثِقَةِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد كَذَّابٌ وَقَالَ زَكَرِيَّا السَّاجِي يَضَعُ الْحَدِيثَ وَقَالَ النِّسَائِيُّ : لَيْسَ بِثِقَةِ وَلَا مَأْمُونٍ وَقَالَ الدارقطني ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ . وَالنَّاسُ يَشْهَدُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآلَاتِ تُصْنَعُ مِنْ حَدِيدِ الْمَعَادِنِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ مَعَهُ جَمِيعُ الْآلَاتِ فَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ لِلْعِيَانِ . وَإِنْ قِيلَ بَلْ نَزَلَ مَعَهُ آلَةٌ وَاحِدَةٌ وَتِلْكَ لَا تُعْرَفُ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا لِسَائِرِ النَّاسِ ثُمَّ مَا يَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآلَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ حَدِيدٌ مَوْجُودٌ يُطْرَقُ بِهَذِهِ الْآلَاتِ وَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ الْحَدِيدَ صُنِعَتْ مِنْهُ هَذِهِ الْآلَاتُ مَعَ أَنَّ
الْمَأْثُورَ : { أَنَّ أَوَّلَ مَنْ خَطَّ وَخَاطَ إدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ } وَآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَخِطْ ثَوْبًا فَمَا يَصْنَعُ بِالْإِبْرَةِ . ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ فَكَانَ الْمَقْصُودُ الْأَكْبَرُ بِذِكْرِ الْحَدِيدِ هُوَ اتِّخَاذُ آلَاتِ الْجِهَادِ مِنْهُ كَالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ وَالنَّصْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ الَّذِي بِهِ يُنْصَرُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ لَمْ تَنْزِلْ مِنْ السَّمَاءِ . فَإِنْ قِيلَ نَزَلَتْ الْآلَةُ الَّتِي يُطْبَعُ بِهَا قِيلَ فَاَللَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الْمُتَقَدِّمَةِ وَالْآلَةُ وَحْدَهَا لَا تَكْفِي بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مَادَّةٍ يُصْنَعُ بِهَا آلَاتُ الْجِهَادِ ؛ لَكِنَّ لَفْظَ النُّزُولِ أَشْكَلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ حَتَّى قَالَ قُطْرُبُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَاهُ جَعَلَهُ نُزُلًا كَمَا يُقَالُ أَنْزَلَ الْأَمْرَ عَلَى فُلَانٍ نُزُلًا حَسَنًا أَيْ جَعَلَهُ نُزُلًا . قَالَ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ النُّزُلَ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يُؤْكَلُ لَا عَلَى مَا يُقَاتَلُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ } وَالضِّيَافَةُ سُمِّيَتْ نُزُلًا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الضَّيْفَ يَكُونُ رَاكِبًا فَيَنْزِلُ فِي مَكَانٍ يُؤْتَى إلَيْهِ بِضِيَافَتِهِ فِيهِ فَسُمِّيَتْ نُزُلًا لِأَجْلِ نُزُولِهِ وَنَزَلَ بِبَنِي فُلَانٍ ضَيْفٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } لِأَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا فِي السَّفِينَةِ وَسُمِّيَتْ الْمَوَاضِعُ الَّتِي يَنْزِلُ بِهَا الْمُسَافِرُونَ مَنَازِلَ لِأَنَّهُمْ يَكُونُونَ رُكْبَانًا فَيَنْزِلُونَ وَالْمُشَاةُ تَبَعٌ لِلرُّكْبَانِ وَتُسَمَّى الْمَسَاكِنُ مَنَازِلَ .
وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ نُزُولَ الْحَدِيدِ بِمَعْنَى الْخَلْقِ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَعَادِنِ وَعَلَّمَهُمْ صَنْعَتَهُ فَإِنَّ الْحَدِيدَ إنَّمَا يُخْلَقُ فِي الْمَعَادِنِ وَالْمَعَادِنُ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْجِبَالِ فَالْحَدِيدُ يُنَزِّلُهُ اللَّهُ مِنْ مَعَادِنِهِ الَّتِي فِي الْجِبَالِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ بَنُو آدَمَ وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } . وَهَذَا مِمَّا أَشْكَلَ أَيْضًا . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : جَعَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : خَلَقَ لِكَوْنِهَا تُخْلَقُ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّ بِهِ يَكُونُ النَّبَاتُ الَّذِي يَنْزَلُ أَصْلُهُ مِنْ السَّمَاءِ وَهُوَ الْمَاءُ وَقَالَ قُطْرُبُ : جَعَلْنَاهُ نُزُلًا . وَلَا حَاجَةَ إلَى إخْرَاجِ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الْمَعْرُوفِ لُغَةً ؛ فَإِنَّ الْأَنْعَامَ تَنْزِلُ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا وَمِنْ أَصْلَابِ آبَائِهَا تَأْتِي بُطُونَ أُمَّهَاتِهَا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ : قَدْ أَنْزَلَ الْمَاءَ وَإِذَا أَنْزَلَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ غَالِبُ إنْزَالِهِ وَهُوَ عَلَى جَنْبٍ إمَّا وَقْتَ الْجِمَاعِ وَإِمَّا بِالِاحْتِلَامِ فَكَيْفَ بِالْأَنْعَامِ الَّتِي غَالِبُ إنْزَالِهَا مَعَ قِيَامِهَا عَلَى رِجْلَيْهَا وَارْتِفَاعِهَا عَلَى ظُهُورِ الْإِنَاثِ وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ النُّزُولَ فِيمَا خَلَقَ مِنْ السُّفْلَيَاتِ فَلَمْ يَقُلْ أَنَزَلَ النَّبَاتَ وَلَا أَنْزَلَ الْمَرْعَى وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ فِيمَا يُخْلَقُ فِي مَحَلٍّ عَالٍ وَأَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَالْحَدِيدِ وَالْأَنْعَامِ . وَقَالَ تَعَالَى { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا } الْآيَةَ وَفِيهَا قِرَاءَتَانِ إحْدَاهُمَا بِالنَّصْبِ فَيَكُونُ لِبَاسُ التَّقْوَى أَيْضًا
مُنَزَّلًا . وَإِمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَلَا وَكِلَاهُمَا حَقٌّ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ خَلَقْنَاهُ وَقِيلَ أَنْزَلْنَا أَسْبَابَهُ وَقِيلَ أَلْهَمْنَاهُمْ كَيْفِيَّةَ صَنْعَتِهِ وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ ضَعِيفَةٌ ؛ فَإِنَّ النَّبَاتَ الَّذِي ذَكَرُوا لَمْ يَجِئْ فِيهِ لَفْظُ أَنْزَلْنَا وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي كُلِّ مَا يُصْنَعُ أَنْزَلْنَا فَلَمْ يَقُلْ : أَنْزَلْنَا الدُّورَ وَأَنْزَلْنَا الطَّبْخَ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَهُوَ لَمْ يَقُلْ إنَّا أَنْزَلْنَا كُلَّ لِبَاسٍ وَرِيَاشٍ وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الرِّيشَ وَالرِّيَاشَ الْمُرَادُ بِهِ اللِّبَاسُ الْفَاخِرُ كِلَاهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ مِثْلُ اللُّبْسِ وَاللِّبَاسِ وَقَدْ قِيلَ : هُمَا الْمَالُ وَالْخِصْبُ وَالْمَعَاشُ وَارْتَاشَ فُلَانٌ حَسُنَتْ حَالَتُهُ . وَالصَّحِيحُ أَنَّ " الرِّيشَ " هُوَ الْأَثَاثُ وَالْمَتَاعُ قَالَ أَبُو عُمَرَ وَالْعَرَبُ تَقُولُ : أَعْطَانِي فُلَانٌ رِيشَهُ أَيْ كُسْوَتَهُ وَجِهَازَهُ . وَقَالَ غَيْرُهُ : الرِّيَاشُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْأَثَاثُ وَمَا ظَهَرَ مِنْ الْمَتَاعِ وَالثِّيَابِ وَالْفُرُشِ وَنَحْوِهَا وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْمَالِ وَالْمُرَادُ بِهِ مَالٌ مَخْصُوصٌ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ : جَمَالًا ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ رِيشِ الطَّائِرِ وَهُوَ مَا يَرُوشُ بِهِ وَيَدْفَعُ عَنْهُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَجَمَالُ الطَّائِرِ رِيشُهُ وَكَذَلِكَ مَا يَبِيتُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مِنْ الْفُرُشِ وَمَا يَبْسُطُهُ تَحْتَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَالْقُرْآنُ مَقْصُودُهُ جِنْسُ اللِّبَاسِ الَّذِي يُلْبَسُ عَلَى الْبَدَنِ وَفِي الْبُيُوتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } الْآيَةَ فَامْتَنَّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْ الْأَنْعَامِ فِي اللِّبَاسِ وَالْأَثَاثِ وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - مَعْنَى إنْزَالِهِ ؛ فَإِنَّهُ يُنَزِّلُهُ
مِنْ ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَهُوَ كُسْوَةُ الْأَنْعَامِ مِنْ الْأَصْوَافِ وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ بَنُو آدَمَ مِنْ اللِّبَاسِ وَالرِّيَاشِ . فَقَدْ أَنْزَلَهَا عَلَيْهِمْ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ كِسْوَتُهُمْ مِنْ جُلُودِ الدَّوَابِّ فَهِيَ لِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَأَعْظَمُ مِمَّا يُصْنَعُ مِنْ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إنْعَامَهُ عَلَى عِبَادِهِ فَذَكَرَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أُصُولَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَعِيشُ بَنُو آدَمَ إلَّا بِهَا وَذَكَرَ فِي أَثْنَائِهَا تَمَامَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَطِيبُ عَيْشُهُمْ إلَّا بِهَا فَذَكَرَ فِي أَوَّلِهَا الرِّزْقَ الَّذِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ وَذَكَرَ مَا يَدْفَعُ الْبَرْدَ مِنْ الْكُسْوَةِ بِقَوْلِهِ : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ثُمَّ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ ذَكَرَ لَهُمْ الْمَسَاكِنَ وَالْمَنَافِعَ الَّتِي يَسْكُنُونَهَا : مَسَاكِنُ الْحَاضِرَةِ وَالْبَادِيَةِ وَمَسَاكِنُ الْمُسَافِرِينَ فَقَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } الْآيَةَ ثُمَّ ذَكَرَ إنْعَامَهُ بِالظِّلَالِ الَّتِي تَقِيهِمْ الْحَرَّ وَالْبَأْسَ فَقَالَ : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } إلَى قَوْلِهِ : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } . وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَا يَقِي مِنْ الْبَرْدِ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ وَذَلِكَ فِي أُصُولِ النِّعَمِ ؛ لِأَنَّ الْبَرْدَ يَقْتُلُ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَعِيشَ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ بِلَا دِفْءٍ بِخِلَافِ الْحَرِّ فَإِنَّهُ أَذًى لَكِنَّهُ لَا يَقْتُلُ كَمَا يَقْتُلُ الْبَرْدُ فَإِنَّ الْحَرَّ قَدْ يُتَّقَى بِالظِّلَالِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهِمَا وَأَهْلُهُ أَيْضًا لَا يَحْتَاجُونَ إلَى وِقَايَةٍ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَرْدُ ؛ بَلْ أَدْنَى وِقَايَةٍ تَكْفِيهِمْ وَهُمْ فِي اللَّيْلِ وَطَرَفَيْ النَّهَارِ
لَا يَتَأَذَّوْنَ بِهِ تَأَذِّيًا كَثِيرًا ؛ بَلْ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ أَحْيَانًا حَاجَةً قَوِيَّةً فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } . وَلَا حَذْفٌ فِي اللَّفْظِ وَلَا قُصُورٌ فِي الْمَعْنَى كَمَا يَظُنُّهُ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ حَقَائِقَ مَعَانِي الْقُرْآنِ ؛ بَلْ لَفْظُهُ أَتَمُّ لَفْظٍ وَمَعْنَاهُ أَكْمَلُ الْمَعَانِي ؛ فَإِذَا كَانَ اللِّبَاسُ وَالرِّيَاشُ يَنْزِلُ مِنْ ظُهُورِ الْأَنْعَامِ وَكُسْوَةُ الْأَنْعَامِ مُنَزَّلَةً مِنْ الْأَصْلَابِ وَالْبُطُونِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ الْجِهَتَيْنِ فَإِنَّهُ عَلَى ظُهُورِ الْأَنْعَامِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَنُو آدَمَ حَتَّى يَنْزِلَ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ لَفْظُ نُزُولٍ إلَّا وَفِيهِ مَعْنَى النُّزُولِ الْمَعْرُوفِ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ وَلَا تَعْرِفُ الْعَرَبُ نُزُولًا إلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ أُرِيدُ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى لَكَانَ خِطَابًا بِغَيْرِ لُغَتِهَا ثُمَّ هُوَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَعْرُوفِ لَهُ مَعْنًى فِي مَعْنًى آخَرَ بِلَا بَيَانٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ بِمَا ذَكَرْنَا ؛ وَبِهَذَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ بَيَّنَهُ وَجَعَلَهُ هُدًى لِلنَّاسِ وَلْيَكُنْ هَذَا آخِرَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } فَسَمَّاهُ هُنَا كَلَامَ اللَّهِ وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ ؟ فَإِنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ يَقُولُ بِالْعِبَارَةِ يَدَّعُونَ أَنَّ هَذَا حُجَّةٌ لَهُمْ ثُمَّ يَقُولُونَ : أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقِيقَةً مِنْ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَتَقُولُونَ : إنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَتَسْمَعُونَهُ مِنْ وَسَائِطَ بِأَصْوَاتِ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؟ وَتَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ صِفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ ؛ فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ والاتحادية وَإِنْ قُلْتُمْ : غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا وَنَحْنُ نَطْلُبُ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ جَوَابًا نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، هَذِهِ الْآيَةُ حَقٌّ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ وَلَيْسَتْ
إحْدَى الْآيَتَيْنِ مُعَارِضَةً لِلْأُخْرَى بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ لِقَوْلِ بَاطِلٍ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْآيَتَيْنِ قَدْ يَحْتَجُّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ عَلَى قَوْلٍ بَاطِلٍ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ التَّالِي الْمُبَلِّغِ وَأَنَّ مَا يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ فِي السُّنَنِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْقِفِ وَيَقُولُ : أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لَأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي ؟ فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ : { الم } { غُلِبَتِ الرُّومُ } { فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } قَالُوا لَهُ هَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك ؟ فَقَالَ : لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا بِكَلَامِ صَاحِبِي ؛ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا } { وَبَنِينَ شُهُودًا } { وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا } { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } { كَلَّا إنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا } { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } { إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } { ثُمَّ نَظَرَ } { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } { فَقَالَ إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } { إنْ هَذَا إلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } " فَمَنْ قَالَ : إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ كَانَ قَوْلُهُ مُضَاهِيًا لِقَوْلِ الْوَحِيدِ الَّذِي أَصْلَاهُ اللَّهُ سَقَرَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ لِعَامَّةِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ كَالْمُبَلِّغِ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } إذَا سَمِعَهُ النَّاسُ مِنْ الْمُبَلِّغِ قَالُوا : هَذَا حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَوْ قَالَ الْمُبَلِّغُ هَذَا كَلَامِي وَقَوْلِي لَكَذَّبَهُ النَّاسُ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْكَلَامَ كَلَامٌ لِمَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا مُنْشِئًا ؛ لَا لِمَنْ أَدَّاهُ رَاوِيًا مُبَلِّغًا . فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا مَعْلُومًا فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ فِي تَبْلِيغِ كَلَامِ الْخَالِقِ الَّذِي هُوَ أَوْلَى أَنْ لَا يُجْعَلَ كَلَامًا لِغَيْرِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا . وَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ فَقَالَ : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ : { حم } { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } { حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } . فَجِبْرِيلُ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ جَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَشَرِ وَاَللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنْ النَّاسِ وَكِلَاهُمَا مُبَلِّغٌ لَهُ كَمَا قَالَ : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وَقَالَ : { إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ } وَهُوَ مَعَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدِ فِيهِ إلَّا التَّبْلِيغُ وَالْأَدَاءُ كَمَا أَنَّ الْمُعَلِّمِينَ لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَالتَّالِينَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ إلَّا ذَلِكَ لَمْ يُحْدِثُوا شَيْئًا مِنْ حُرُوفِهِ وَلَا مَعَانِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } . كَانَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ يَزْعُمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعَلَّمَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ بِمَكَّةَ إمَّا عَبْدٌ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَإِمَّا غَيْرُهُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ فَقَالَ تَعَالَى : { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ } أَيْ يُضِيفُونَ إلَيْهِ التَّعْلِيمَ لِسَانٌ { أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا الْكَلَامُ عَرَبِيٌّ ؟ وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ الَّذِي تَعَلَّمَهُ مَنْ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُحْدِثَ لِحُرُوفِهِ وَنَظْمِهِ ؛ إذْ يُمْكِنُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَلَقَّى مِنْ الْأَعْجَمِيِّ مَعَانِيَهُ وَأَلَّفَ هُوَ حُرُوفَهُ وَبَيَانُ أَنَّ هَذَا الَّذِي تَعَلَّمَهُ مِنْ غَيْرِهِ نَزَلَ بِهِ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّك بِالْحَقِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ مُنَزَّلٌ مِنْ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يُنَزِّلْ مَعْنَاهُ دُونَ حُرُوفِهِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ كَمَنْ بَلَّغَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ أَوْ أَنْشَدَ شِعْرَ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَنْشَدَ مُنْشِدٌ قَوْلَ لَبِيَدِ :
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ أَوْ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حَيْثُ قَالَ : شَهِدْت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا أَوْ قَوْلَهُ : وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ إذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنْ الْفَجْرِ سَاطِعٌ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ إذَا اُسْتُثْقِلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعٌ وَهَذَا الشِّعْرُ قَالَهُ مَنْشَئِهِ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ وَمَعْنَاهُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ ثُمَّ إذَا أَنْشَدَهُ الْمُنْشِدُ وَبَلَّغَهُ عَنْهُ عُلِمَ أَنَّهُ شَعْرُ ذَلِكَ الْمُنْشِئِ وَكَلَامُهُ وَنَظْمُهُ وَقَوْلُهُ مَعَ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَنْشَدَهُ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ وَصَوْتِ نَفْسِهِ وَقَامَ بِقَلْبِهِ مِنْ الْمَعْنَى نَظِيرُ مَا قَامَ بِقَلْبِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْ الْمُنْشِدِ هُوَ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْمُنْشِئِ وَالشِّعْرُ شِعْرُ الْمُنْشِئِ لَا شِعْرُ الْمُنْشِدِ - وَالْمُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَوَى قَوْلَهُ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } بَلَّغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهِ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ وَلَيْسَ صَوْتُ الْمُبَلِّغِ صَوْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَرَكَتُهُ كَحَرَكَتِهِ وَالْكَلَامُ كَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا كَلَامُ الْمُبَلِّغِ لَهُ عَنْهُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْلُومًا مَعْقُولًا فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مَا يَقْرَأُ الْقَارِئُ إذَا قَرَأَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } أَنْ يُقَالَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِئِ وَإِنْ كَانَ الصَّوْتُ صَوْتَ الْقَارِئِ . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ صَوْتُ اللَّهِ فَهُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ قَائِلٌ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَبَدَّعُوهُ كَمَا جَهَّمُوا مَنْ قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ . وَقَالُوا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَيْفَ تَصَرَّفَ فَكَيْفَ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِهِ قَدِيمٌ أَوْ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ ؟ فَابْتِدَاعُ هَذَا وَضَلَالُهُ أَوْضَحُ . فَمَنْ قَالَ إنَّ لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَوْ صَوْتَهُ أَوْ فِعْلَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ ضَالٌّ مُبْتَدِعٌ . وَهَؤُلَاءِ قَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ { حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وَيَقُولُونَ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَنَحْنُ لَا نَسْمَعُ
إلَّا صَوْتَ الْقَارِئِ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ فَإِنَّ سَمَاعَ كَلَامِ اللَّهِ بَلْ وَسَمَاعَ كُلِّ كَلَامٍ يَكُونُ تَارَةً مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَكُونُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ لَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ كَلَّمَنَا بِالْقُرْآنِ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ أَوْ إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جَهْلًا وَضَلَالًا . وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّا نَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَمِعَهُ الصَّحَابَةُ مِنْهُ لَكَانَ ضَلَالُهُ وَاضِحًا فَكَيْفَ مَنْ يَقُولُ أَنَا أَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ كَمَا سَمِعَهُ مُوسَى وَإِنْ كَانَ اللَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا بِصَوْتِ سَمِعَهُ مُوسَى فَلَيْسَ صَوْتُ الْمَخْلُوقِينَ صَوْتًا لِلْخَالِقِ . وَكَذَلِكَ مُنَادَاتُهُ لِعِبَادِهِ بِصَوْتِ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قُرِبَ وَتَكَلُّمُهُ بِالْوَحْيِ حَتَّى يَسْمَعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ صَوْتَهُ كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ وَالْآثَارُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا أَنَّ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ هِيَ صِفَةُ الْخَالِقِ ؛ بَلْ وَلَا مِثْلُهَا بَلْ فِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ صِفَةِ الْخَالِقِ وَبَيْنَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ فَلَيْسَ كَلَامُهُ مِثْلَ كَلَامِهِ وَلَا مَعْنَاهُ مِثْلُ مَعْنَاهُ وَلَا حَرْفُهُ مِثْلُ حَرْفِهِ وَلَا صَوْتُهُ مِثْلُ صَوْتِهِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عِلْمُهُ مِثْلَ عِلْمِهِ وَلَا قُدْرَتُهُ مِثْلَ قُدْرَتِهِ وَلَا سَمْعُهُ مِثْلَ سَمْعِهِ وَلَا بَصَرُهُ مِثْلَ بَصَرِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ .
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي فِطَرِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ الْفَرْقُ بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ كَانَ ظُهُورُ هَذَا الْفَرْقِ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ أَوْضَحَ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِطْنَابِ . وَقَدْ بَيَّنَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ - كَالْإِمَامِ أَحْمَد وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِهِ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ - مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ وَصَوْتِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مَا لَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } فَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ . فَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ فِي التَّكْوِيرِ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ فَأَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ مِنْ الْبَشَرِ تَارَةً وَإِلَى الرَّسُولِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ تَارَةً بِاسْمِ الرَّسُولِ وَلَمْ يَقُلْ : إنَّهُ لَقَوْلُ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ لِأَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ
عَنْ غَيْرِهِ لَا مُنْشِئٌ لَهُ مِنْ عِنْدِهِ { مَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ } فَكَانَ قَوْلُهُ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَتَبْلِيغُ رَسُولٍ أَوْ مُبَلَّغٌ مِنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ أَوْ جَاءَ بِهِ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَوْ مَسْمُوعٌ عَنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ ؛ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَنْشَأَهُ أَوْ أَحْدَثَهُ أَوْ أَنْشَأَ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ أَحْدَثَهُ رَسُولٌ كَرِيمٌ إذْ لَوْ كَانَ مُنْشِئًا لَمْ يَكُنْ رَسُولًا فِيمَا أَنْشَأَهُ وَابْتَدَأَهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ رَسُولًا فِيمَا بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى الْقُرْآنِ مُطْلَقًا . وَ ( أَيْضًا فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الرَّسُولَيْنِ أَنْشَأَ حُرُوفَهُ وَنَظْمَهُ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ الْآخَرُ هُوَ الْمُنْشِئَ الْمُؤَلِّفَ لَهَا فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ إضَافَتُهُ إلَى الرَّسُولِ لِأَجْلِ إحْدَاثِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ . وَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ هُنَا لِأَجْلِ إحْدَاثِ الرَّسُولِ لَهُ أَوْ لِشَيْءِ مِنْهُ لَجَازَ أَنْ نَقُولَ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ وَهَذَا قَوْلُ الْوَحِيدِ الَّذِي أَصْلَاهُ اللَّهُ سَقَرَ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَالْوَحِيدُ جَعَلَ الْجَمِيعَ قَوْلَ الْبَشَرِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ قَوْلُ الْبَشَرِ وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ . فَيُقَالُ لَهُمْ : هَذَا نِصْفُ قَوْلِ الْوَحِيدِ ثُمَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى . وَهُوَ أَنَّ مَعَانِيَ هَذَا النَّظْمِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ
ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ وَتَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بالعبرانية كَانَ تَوْرَاةً وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بالسريانية كَانَ إنْجِيلًا وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ ؛ فَإِنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عَرَّبْنَاهَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ إذَا تَرْجَمْنَاهُ بالعبرانية لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهُ مَعْنَى التَّوْرَاةِ . وَ ( أَيْضًا فَإِنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَإِنَّمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ وَمُسَمَّى كَلَامِ اللَّهِ كَمَا تَشْتَرِكُ الْأَعْيَانُ فِي مُسَمَّى النَّوْعِ فَهَذَا الْكَلَامُ وَهَذَا الْكَلَامُ وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ اشْتِرَاكَ الْأَشْخَاصِ فِي أَنْوَاعِهَا كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ وَهَذَا الْإِنْسَانُ وَهَذَا الْإِنْسَانُ يَشْتَرِكُونَ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ هُوَ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ كَلَامٌ وَاحِدٌ هُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَهُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ . وَمَنْ خَالَفَ هَذَا كَانَ فِي مُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ مِنْ جِنْس مَنْ قَالَ : إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ . فَاضْرِبْ بِكَلَامِ الْبِدْعَتَيْنِ رَأْسَ قَائِلِهِمَا وَأَلْزِمْ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ : صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ .
وَبِسَبَبِ هَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ الْحَمْقَاوَيْنِ ثَارَتْ الْفِتَنُ وَعَظُمَتْ الْإِحَنُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ قَدْ يُفَسِّرُونَهُمَا بِمَا قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَمَا فَسَّرَ مَنْ قَالَ : إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ بَعْضَهُ قَدِيمٌ : أَنَّ الْقَدِيمَ ظَهَرَ فِي الْمُحْدَثِ مِنْ غَيْرِ حُلُولٍ فِيهِ . وَأَمَّا " أَفْعَالُ الْعِبَادِ " فَرَأَيْت بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَزْعُمُ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِيمٌ وَالْقَدَرَ قَدِيمٌ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْمَشْرُوعِ الَّذِي هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ وَبَيْنَ الْمَقْدُورِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقَاتُهُ . وَالْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ نَوْعَانِ لِلْكَلَامِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ لَيْسَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٍ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ - فَمَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٍ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعًا لَهُ فَقَدْ خَالَفَ ضَرُورَةَ الْعَقْلِ ؛ وَهَؤُلَاءِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ ؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ وَالْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ ؛ فَإِنَّ انْقِسَامَ " الْمَوْجُودِ " إلَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَالْقَائِمِ بِغَيْرِهِ كَانْقِسَامِ " الْكَلَامِ " إلَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ أَوْ إلَى الْإِنْشَاءِ وَالْإِخْبَارِ أَوْ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ - فَمَنْ قَالَ الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ فَهُوَ كَمَنْ قَالَ الْوُجُودُ وَاحِدٌ هُوَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ أَوْ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ . وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَةً هَذَا تَؤُولُ إلَى تَعْطِيلِ الْخَالِقِ فَحَقِيقَةُ
هَذَا تَؤُولُ إلَى تَعْطِيلِ كَلَامِهِ وَتَكْلِيمِهِ . وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي أَنْكَرَ الْخَالِقَ وَتَكْلِيمَهُ لِمُوسَى ؛ وَلِهَذَا آلَ الْأَمْرُ بِمُحَقِّقِ هَؤُلَاءِ إلَى تَعْظِيمِ فِرْعَوْنَ وَتَوَلِّيهِ وَتَصْدِيقِهِ فِي قَوْلِهِ : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } بَلْ إلَى تَعْظِيمِهِ عَلَى مُوسَى وَإِلَى الِاسْتِحْقَارِ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . ( وَأَيْضًا فَيُقَالُ : مَا تَقُولُ فِي كَلَامِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ - كَمَا قَدْ يُنْقَلُ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَيُسْمَعُ مِنْ الرُّوَاةِ أَوْ الْمُبَلِّغِينَ - إنَّ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْمُبَلِّغِ بِصَوْتِ الْمُبَلِّغِ هُوَ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ أَوْ كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ ؟ فَإِنْ قَالَ : كَلَامُ الْمُبَلِّغِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كَلَامًا لِكُلِّ مَنْ سُمِعَ مِنْهُ فَيَكُونُ الْقُرْآنُ الْمَسْمُوعُ كَلَامَ أَلْفِ أَلْفِ قَارِئٍ لَا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ } وَنَظَائِرُهُ كَلَامَ كُلِّ مَنْ رَوَاهُ لَا كَلَامَ الرَّسُولِ وَحِينَئِذٍ فَلَا فَضِيلَةَ لِلْقُرْآنِ فِي { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَوْلُ كُلِّ مُنَافِقٍ قَرَأَهُ وَالْقُرْآنُ يَقْرَؤُهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا ؛ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا } وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَكُونُ الْقُرْآنُ قَوْلَ بَشَرٍ وَاحِدٍ بَلْ قَوْلَ أَلْفِ أَلْفِ بَشَرٍ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ . وَفَسَادُ هَذَا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَاضِحٌ . وَإِنْ قَالَ : كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ لِلْقُرْآنِ لَيْسَ الْقُرْآنُ كَلَامَهُ وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ ؛ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الرَّسُولُ الْمَلَكُ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ شَيْطَانٌ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ تَبْلِيغُ مَلَكٍ كَرِيمٍ ؛ لَا تَبْلِيغُ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } إلَى قَوْلِهِ : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } . وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّسُولَ الْبَشَرِيَّ الَّذِي صَحِبْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِمُتَّهَمِ . وَذَكَرَهُ بِاسْمِ " الصَّاحِبِ " لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النِّعْمَةِ بِهِ عَلَيْنَا إذْ كُنَّا لَا نُطِيقُ أَنْ نَتَلَقَّى إلَّا عَمَّنْ صَحِبْنَاهُ وَكَانَ مِنْ جِنْسِنَا كَمَا قَالَ تَعَالَى { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } وَقَالَ { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } وَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي مِنْ أَنْفُسِنَا وَالرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ أَنَّهُمَا مُبَلِّغَانِ فَكَانَ فِي هَذَا تَحْقِيقُ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ . فَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ يُقَالُ : إنَّهُ مَجْنُونٌ أَوْ مُفْتَرٍ نَزَّهَهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى قَالَ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا
مَا تَذَكَّرُونَ } { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ لَا لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ فَإِنَّهُ قَالَ : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } فَجَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وَبَيْنَ قَوْلِهِ : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إلَى وَاحِدٍ فَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ لَمْ يَكُنْ تَنْزِيلًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ بَلْ كَانَ يَكُونُ تَنْزِيلًا مِنْ الرَّسُولِ . وَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي هَذَا عَائِدًا إلَى غَيْرِ مَا يَعُودُ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْآخَرُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الضَّمِيرَيْنِ وَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ - فَقُلْ لَهُ : هَذَا الَّذِي تَقْرَؤُهُ أَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِبَارَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الرَّسُولُ الْمَلَكُ أَوْ الْبَشَرُ عَلَى زَعْمِك ؟ أَمْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ ؟ فَإِنْ جَعَلْت هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ جَازَ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ جِبْرِيلَ أَوْ الرَّسُولِ عِبَارَةً عَنْ عِبَارَةِ اللَّهِ وَحِينَئِذٍ فَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا ؛ فَإِنَّهُ مَتَى قَالَ إنَّ مُحَمَّدًا سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ جَمِيعَهُ وَجِبْرِيلَ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ جَمِيعَهُ وَالْمُسْلِمُونَ سَمِعُوهُ مِنْ الرَّسُولِ جَمِيعَهُ فَقَدْ قَالَ الْحَقَّ - وَبَعْدَ هَذَا فَقَوْلُهُ عِبَارَةٌ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّبْلِيغِ وَالْمُبَلَّغِ عَنْهُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ . وَإِنْ قُلْت : لَيْسَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ بَلْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ فَقَدْ جَعَلْت مَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلِّغِ هُوَ بِعَيْنِهِ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلَّغِ
عَنْهُ إذْ جَعَلْت هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا عِبَارَةَ جِبْرِيلَ فَحِينَئِذٍ هَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ قَوْلِك . وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْقَوْلِ بِالْعِبَارَةِ " أَنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ " هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي الْإِسْلَامِ : إنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ . وَحُرُوفُهُ لَيْسَتْ كَلَامَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِنِصْفِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَة وَنِصْفِ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةَ فِي ذَلِكَ وَأَثْبَتَ الْعُلُوَّ لِلَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَمُبَايَنَتَهُ الْمَخْلُوقَاتِ وَقَرَّرَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا هُوَ أَكْمَلُ مِنْ تَقْرِيرِ أَتْبَاعِهِ بَعْدَهُ . وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيمَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ هَلْ يُقَالُ لَهُ حِكَايَةٌ عَنْهُ أَمْ لَا ؟ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا : هُوَ حِكَايَةٌ عَنْهُ فَقَالَ ابْنُ كُلَّابٍ : الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ ؛ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ . فَجَاءَ بَعْدَهُ " أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ " فَسَلَكَ مَسْلَكَهُ فِي إثْبَاتِ أَكْثَرِ الصِّفَاتِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ أَيْضًا وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ إنَّ هَذَا حِكَايَةٌ وَقَالَ : الْحِكَايَةُ إنَّمَا تَكُونُ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ فَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ ؛ وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ قَوْلَنَا أَنْ نَقُولَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعِبَارَةِ فَأَنْكَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَيْهِمْ عِدَّةَ أُمُورٍ .
أَحَدُهَا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْمَعْنَى كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَكَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ : هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ هُوَ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَإِذَا قَامَ الْكَلَامُ بِمَحَلِّ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إذَا قَامَا بِمَحَلِّ كَانَ هُوَ الْعَالِمَ الْقَادِرَ وَكَذَلِكَ " الْحَرَكَةُ " . وَهَذَا مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ - قَالُوا لَهُمْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْكَلَامُ كَلَامَ ذَلِكَ الْجِسْمِ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ فَكَانَتْ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةَ : { إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } فَقَالَ أَئِمَّةُ الْكُلَّابِيَة إذَا كَانَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ مَخْلُوقًا لَمْ يَكُنْ كَلَامَ اللَّهِ فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ : بَلْ نَقُولُ الْكَلَامُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ وَبَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ فَقَالَ لَهُمْ الْمُحَقِّقُونَ : فَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ حُجَّتِكُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ ؛ فَإِنَّكُمْ إذَا سَلَّمْتُمْ أَنَّ مَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا يُمْكِنُ قِيَامُهُ بِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ أَمْكَنَ الْمُعْتَزِلَةَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ . ( الثَّانِي قَوْلُهُمْ : إنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَهُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ : هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ .
الثَّالِثُ أَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ وَمَا بَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ لِأُمَّتِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ . وَ " مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ " لَهَا طَرَفَانِ ( أَحَدُهُمَا تَكَلُّمُ اللَّهِ بِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ الطَّرَفَيْنِ ( وَالثَّانِي تَنْزِيلُهُ إلَى خَلْقِهِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا سَهْلٌ بَعْدَ تَحْقِيقِ الْأَوَّلِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ وَبَيَّنَّا مَقَالَاتِ أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَمَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَمَأْخَذَ كُلِّ طَائِفَةٍ وَمَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ إبْطَالَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِذَاتِهِ كَلَامٌ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ عَنْهُ وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ هَلْ يَتَعَلَّقُ الْكَلَامُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ لَا ؟ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَأَنَّ قَوْلَ السَّلَفِ مِنْهُ بَدَأَ لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ فِي غَيْرِهِ ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بَلْ وَسَائِر صِفَاتِهِ لَا تُفَارِقُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ ذَاتَ اللَّهِ كَلَامُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ صِفَاتِهِ بَلْ قَالُوا : مِنْهُ بَدَأَ أَيْ : هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ قَالُوا بَدَأَ مِنْ الْمَخْلُوقِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ . وَقَوْلُهُمْ : إلَيْهِ يَعُودُ . أَيْ : يُسْرَى عَلَيْهِ فَلَا يَبْقَى فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ وَلَا فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا الْجَوَابُ عَنْ مَسَائِلِ السَّائِلِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَتَقُولُونَ إنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً وَتَسْمَعُونَهُ مِنْ وَسَائِطَ بِأَصْوَاتِ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ ؟ فَيُقَالُ لَهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْقَدَمِ وَالْفَرْقِ . فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ سَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ - كَسَمَاعِ الصَّحَابَةِ مِنْهُ - وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَكُلٌّ مِنْ السَّامِعِينَ سَمِعَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ شِعْرَ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الشُّعَرَاءِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَمَنْ سَمِعَهُ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْهُ يَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَهُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ شِعْرُ حَسَّانٍ لَا شِعْرُ غَيْرِهِ وَالْإِنْسَانُ إذَا تَعَلَّمَ شِعْرَ غَيْرِهِ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّاعِرَ أَنْشَأَ مَعَانِيَهُ وَنَظَمَ حُرُوفَهُ بِأَصْوَاتِهِ الْمُقَطَّعَةِ وَإِنْ كَانَ الْمُبَلِّغُ يَرْوِيهِ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ وَأَصْوَاتِ نَفْسِهِ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مَعْقُولًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ بَيْنَ سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً وَسَمَاعِهِ بِوَاسِطَةِ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ ؟ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ صَوْتُ الرَّبِّ فَهُوَ إلَى تَأْدِيبِ الْمَجَانِينِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى خِطَابِ الْعُقَلَاءِ وَكَذَلِكَ مَنَّ تَوَهَّمَ أَنَّ الصَّوْتَ قَدِيمٌ أَوْ أَنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ فَهَذَا لَا يَقُولُهُ ذُو حِسٍّ سَلِيمٍ ؛ بَلْ مَا بَيْنَ لَوْحَيْ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ ثَابِتٌ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ فَمَنْ قَالَ : إنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ كَلَامُ غَيْرِهِ فَهُوَ مُلْحِدٌ مَارِقٌ . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَارَقَ ذَاتَه وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ كَمَا كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ أَوْ أَنَّ الْمِدَادَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ فَهُوَ أَيْضًا مُلْحِدٌ مَارِقٌ ؛ بَلْ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ يُكْتَبُ فِي الْأَوْرَاقِ وَهُوَ لَمْ يُفَارِقْ ذَوَاتَهُمْ فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ مِثْل هَذَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَ " الشُّبْهَةُ " تَنْشَأَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُقَيَّدِ . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ رَأَيْت الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْهِلَالَ إذَا رَآهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ " وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْمُطْلَقَةُ " وَقَدْ يَرَاهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ فَهَذِهِ " رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ " فَإِذَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ رَأَيْته أَوْ مَا رَأَيْته حُمِلَ عَلَى مَفْهُومِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ وَإِذَا قَالَ : لَقَدْ رَأَيْت الشَّمْسَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ مَعَ التَّقْيِيدِ وَاللَّفْظُ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ
بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ فَإِذَا وَصَلَ بِالْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ التَّخْصِيصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ كَقَوْلِهِ : { أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } كَانَ هَذَا الْمَجْمُوعُ دَالًّا عَلَى تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ . وَمَنْ قَالَ إنَّ هَذَا مَجَازٌ فَقَدْ غَلِطَ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَمَا يَقْتَرِنُ بِاللَّفْظِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ هِيَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الْكَلَامُ مَعَهَا مَعْنَيَيْنِ وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ مَفْهُومِهِمَا بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ وَهَذَا مَجَازٌ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ وَهُوَ مُسْتَنَدُ مَنْ أَنْكَرَ الْمَجَازَ فِي اللُّغَةِ أَوْ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَلَمْ يُعْرَفْ لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَد فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا كَتَبَهُ مِنْ " الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّة " هَذَا مِنْ مَجَازِ الْقُرْآنِ . وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " مَجَازِ الْقُرْآنِ " ثُمَّ إنَّ هَذَا كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ مِمَّا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ وَيَسُوغُ فَهُوَ مُشْتَقٌّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَوَازِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ عَقْدٌ لَازِمٌ وَجَائِزٌ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ جَعَلَهُ مِنْ الْجَوَازِ الَّذِي هُوَ الْعُبُورُ مِنْ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ إلَى مَعْنَى الْمَجَازِ ثُمَّ إنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَشِيعُ وَيَشْتَهِرُ حَتَّى يَصِيرَ حَقِيقَةً .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : رَأَيْت الشَّمْسَ أَوْ الْقَمَرَ أَوْ الْهِلَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ فَالْعُقَلَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ وَبَيْنَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ : مَا رَأَى ذَلِكَ ؛ بَلْ رَأَى مِثَالَهُ أَوْ خَيَالَهُ أَوْ رَأَى الشُّعَاعَ الْمُنْعَكِسَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا لِمَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَيَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ حَقِيقَةٌ مُقَيَّدَةٌ وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي } هُوَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ فِي الْمَنَامِ حَقًّا فَمَنْ قَالَ : مَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ حَقًّا فَقَدْ أَخْطَأَ وَمَنْ قَالَ : إنَّ رُؤْيَتَهُ فِي الْيَقَظَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالرُّؤْيَةِ بِالْوَاسِطَةِ الْمُقَيَّدَةِ بِالنَّوْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ وَلِهَذَا يَكُونُ لِهَذِهِ تَأْوِيلٌ وَتَعْبِيرٌ دُونَ تِلْكَ . وَكَذَلِكَ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَنَامِ هُوَ سَمَاعٌ مِنْهُ فِي الْمَنَامِ وَلَيْسَ هَذَا كَالسَّمَاعِ مِنْهُ فِي الْيَقَظَةِ وَقَدْ يَرَى الرَّائِي فِي الْمَنَامِ أَشْخَاصًا وَيُخَاطِبُونَهُ وَالْمَرْئِيُّونَ لَا شُعُورَ لَهُمْ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالَهُمْ وَلَكِنْ يُقَالُ : رَآهُمْ فِي الْمَنَامِ حَقِيقَةً فَيُحْتَرَزُ بِذَلِكَ عَنْ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ حَدِيثُ النَّفْسِ . فَإِنَّ " الرُّؤْيَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ " رُؤْيَا بُشْرَى مِنْ اللَّهِ وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ . وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
وَلَكِنَّ الرُّؤْيَا يَظْهَرُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْيَقَظَةِ مَا لَا يَظْهَرُ فِي غَيْرِهَا فَكَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ مُطْلَقَةً وَتَكُونُ مُقَيَّدَةً بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ الْمَرْئِيَّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمِرْآةِ فَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً مُسْتَدِيرَةً رَأَى كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ مُسْتَطِيلَةً رَأَى كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي " السَّمَاعِ " يُفَرَّقُ بَيْنَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنْهُ وَمَنْ سَمِعَهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ الْمَقْصُودُ سَمَاعُ كَلَامِهِ كَمَا أَنَّ هُنَاكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَقْصِدُ رُؤْيَةَ نَفْسِ النَّبِيِّ ؛ لَكِنْ إذَا كَانَ بِوَاسِطَةِ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْوَاسِطَةِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَصْوَاتِ الْمُبَلِّغِينَ كَمَا يَخْتَلِفُ الْمَرْئِيُّ بِاخْتِلَافِ الْمَرَايَا - قَالَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } . فَجَعَلَ " التَّكْلِيمَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ " الْوَحْيُ الْمُجَرَّدُ وَالتَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالتَّكْلِيمُ بِوَاسِطَةِ إرْسَالِ الرَّسُولِ كَمَا كَلَّمَ الرُّسُلَ بِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ وَكَمَا نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُنَافِقِينَ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَنَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَإِخْبَارُهُ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ فَهَذَا فِي تَكْلِيمٍ مُقَيَّدٍ بِالْإِرْسَالِ وَسَمَاعُنَا لِكَلَامِهِ سَمَاعٌ مُقَيَّدٌ بِسَمَاعِهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ لَا مِنْهُ وَهَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مُبَلَّغًا عَنْهُ مُؤَدًّى عَنْهُ وَمُوسَى سَمِعَ كَلَامَهُ مَسْمُوعًا مِنْهُ لَا مُبَلَّغًا
عَنْهُ وَلَا مُؤَدًّى عَنْهُ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْمَعْنَى زَاحَتْ الشُّبْهَةُ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ وَيُخْبِرُ عَنْ رَبِّهِ وَيَحْكِي عَنْ رَبِّهِ فَهَذَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ عَنْ رَبِّهِ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي قَالَهُ رَاوِيًا حَاكِيًا عَنْهُ . فَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ " حِكَايَةٌ " : إنَّ مُحَمَّدًا حَكَاهُ عَنْ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَأَدَّاهُ عَنْ اللَّهِ لَكَانَ قَدْ قَصَدَ مَعْنًى صَحِيحًا ؛ لَكِنْ يَقْصِدُونَ - مَا يَقْصِدُهُ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ فُلَانٌ يَحْكِي فُلَانًا أَيْ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ وَهُوَ - أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ فَهَذَا بَاطِلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } . وَنُكْتَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَقْصُودَةِ لَا بِالْوَسَائِلِ الْمَطْلُوبَةِ لِغَيْرِهَا . فَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُ الرَّائِي أَنْ يَرَى الْوَجْهَ مَثَلًا فَرَآهُ فِي الْمِرْآةِ حَصَلَ مَقْصُودُهُ وَقَالَ رَأَيْت الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ انْعِكَاسِ الشُّعَاعِ فِي الْمِرْآةِ - وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَسْمَعَ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُ الَّذِي أَلَّفَ أَلْفَاظَهُ وَقَصَدَ مَعَانِيَهُ فَإِذَا سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ وَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ مَنْ غَيْرِهِ هُوَ بِوَاسِطَةِ صَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّائِتِينَ . وَالْقُلُوبُ إنَّمَا تُشِيرُ إلَى الْمَقْصُودِ لَا إلَى مَا ظَهَرَ بِهِ الْمَقْصُودُ كَمَا فِي " الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى " فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ جَاءَ زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ إلَّا الْإِخْبَارَ بِالْمَجِيءِ عَنْ " الْمُسَمَّى "
وَلَكِنْ بِذِكْرِ الِاسْمِ أَظْهَرَ ذَلِكَ . فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ هُوَ لَفْظُ زَيْدٍ أَوْ لَفْظُ عَمْرٍو كَانَ مُبْطِلًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْقَائِلُ : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَالْمَقْصُودُ هُنَا الْكَلَامُ نَفْسُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا ظَهَرَ وَسُمِعَ بِوَاسِطَةِ حَرَكَةِ التَّالِي وَصَوْتِهِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَحَرَكَتُهُ كَانَ مُبْطِلًا ؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَرَأَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَسَأَلَهُ هَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ ؟ فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ - خَطَأً مِنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَاسْتَدْعَاهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ أَنَا قُلْت لَك : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنْ قَرَأْت عَلَيْك : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } وَقُلْت لَك : هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَقُلْت : نَعَمْ قَالَ فَلِمَ تَحْكِي عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْ ؟ لَا تَقُلْ هَذَا ؛ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ - وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ حَكَاهَا عَبْدُ اللَّهِ وَصَالِحٌ وَحَنْبَلٌ والْمَرْوَزِي وفوران وَبَسَطَهَا الْخَلَّالُ فِي " كِتَابِ السُّنَّةِ " وَصَنَّفَ الْمَرْوَزِي فِي " مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ " مُصَنَّفًا ذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَد مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَدَقِّهِ ؛ فَإِنَّ الْإِشَارَةَ إذَا أَطُلِقَتْ انْصَرَفَتْ إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ ؛ لَا إلَى
مَا وَصَلَ بِهِ إلَيْنَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ . فَإِذَا قِيلَ : لَفْظِي جَعَلَ نَفْسَ الْوَسَائِطِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا أَنَّ مَنْ رَأَى وَجْهًا فِي مِرْآةٍ فَقَالَ أَكْرَمَ اللَّهُ هَذَا الْوَجْهَ وَحَيَّاهُ أَوْ قَبَّحَهُ كَانَ دُعَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَوْجُودِ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي رَأَى بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ لَا عَلَى الشُّعَاعِ الْمُنْعَكِسِ فِيهَا وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْقَمَرَ فِي الْمَاءِ فَقَالَ : قَدْ أَبْدَرَ أَوْ لَمْ يُبْدِرْ فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْقَمَرُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَا خَيَالُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ رَجُلًا فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ أَوْ رَجُلٌ فَاسِقٌ عُلِمَ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الشَّخْصُ الْمُسَمَّى بِالِاسْمِ ؛ لَا نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ النَّاطِقِ - فَلَوْ قَالَ : هَذَا الصَّوْتُ أَوْ صَوْتِي بِفُلَانِ صَالِحٌ أَوْ فَاسِقٌ فَسَدَ الْمَعْنَى وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ وَضَارِبٌ يَضْرِبُهُ وَعَلَيْهِ فَرْوَةٌ فَأَوْجَعَهُ بِالضَّرْبِ فَقَالَ لَهُ : لَا تَضْرِبْنِي فَقَالَ : أَنَا مَا أَضْرِبُك وَإِنَّمَا أَضْرِبُ الْفَرْوَةَ فَقَالَ : إنَّمَا يَقَعُ الضَّرْبُ عَلَيَّ فَقَالَ هَكَذَا إذَا قُلْت : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَالْخَلْقُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْقُرْآنِ . يَقُولُ : كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضَّرْبِ بَدَنُك وَاللِّبَاسُ وَاسِطَةٌ فَهَكَذَا الْمَقْصُودُ بِالتِّلَاوَةِ كَلَامُ اللَّهِ وَصَوْتُك وَاسِطَةٌ فَإِذَا قُلْت : مَخْلُوقٌ وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمَقْصُودِ كَمَا إذَا سَمِعْت قَائِلًا يَذْكُرُ رَجُلًا فَقُلْت : أَنَا أُحِبُّ هَذَا وَأَنَا أُبْغِضُ هَذَا انْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَى الْمُسَمَّى الْمَقْصُودِ بِالِاسْمِ لَا إلَى صَوْتِ الذَّاكِرِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَيْفَمَا
تَصَرَّفَ ؛ بِخِلَافِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ . فَإِنَّهُ مَنْ نَفَى عَنْهَا الْخَلْقَ كَانَ مُبْتَدِعًا ضَالًّا .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : تَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ صِفَةُ اللَّهِ وَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ والاتحادية وَإِنْ قُلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا . فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ سَهُلَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ فَإِنَّ مَنْشَأَ الشُّبْهَةِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ : هَذَا كَلَامُ اللَّهِ يَجْعَلُ أَحْكَامَهُ وَاحِدَةً سَوَاءٌ كَانَ كَلَامُهُ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ كَلَامُهُ مُبَلَّغًا عَنْهُ . وَمِنْ هُنَا تَخْتَلِفُ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ . " طَائِفَةٌ " قَالَتْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَذَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مَخْلُوقَةٌ فَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ . وَ " طَائِفَةٌ " قَالَتْ هَذَا مَخْلُوقٌ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ فَهَذَا لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ . وَ " طَائِفَةٌ " قَالَتْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقِ وَهَذَا أَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا ؛ فَأَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ .
وَمَنْشَأُ ضَلَالِ الْجَمِيعِ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي هَذَا . فَأَنْتَ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي تَسْمَعُهُ مِنْ قَائِلِهِ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ وَهُوَ كَلَامُ حَكِيمٍ وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعْته مِنْ نَاقِلِهِ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ وَهُوَ كَلَامُ حَكِيمٍ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ وَتَقُولُ أَيْضًا : إنَّ هَذَا صَوْتٌ حَسَنٌ وَهَذَا كَلَامٌ مِنْ وَسَطِ الْقَلْبِ ثُمَّ إذَا سَمِعْته مِنْ النَّاقِلِ تَقُولُ : هَذَا صَوْتٌ حَسَنٌ أَوْ كَلَامٌ مِنْ وَسَطِ الْقَلْبِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُنَاكَ بَلْ أَشَارَ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا مِنْ صَوْتِهِ وَقَلْبِهِ وَإِلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا مِنْ صَوْتِهِ وَقَلْبِهِ وَإِذَا كُتِبَ الْكَلَامُ فِي صَفْحَتَيْنِ كَالْمُصْحَفَيْنِ تَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا هَذَا قُرْآنٌ كَرِيمٌ وَهَذَا كِتَابٌ مَجِيدٌ وَهَذَا كَلَامُ اللَّهِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ ثُمَّ تَقُولُ هَذَا خَطٌّ حَسَنٌ وَهَذَا قَلَمُ النَّسْخِ أَوْ الثُّلُثِ وَهَذَا الْخَطُّ أَحْمَرُ أَوْ أَصْفَرُ وَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْ الْمُصْحَفَيْنِ عَنْ الْآخَرِ . فَإِذَا مَيَّزَ الْإِنْسَانُ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ بِهَذَا وَهَذَا تَبَيَّنَ الْمُتَّفَقَ وَالْمُفْتَرِقَ وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بِهِ وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ وَمَنْ قَالَ : هَذَا مَخْلُوقٌ وَأَشَارَ بِهِ إلَى مُجَرَّدِ صَوْتِ الْعَبْدِ وَحَرَكَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ الَّذِي تَعَلَّمَ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ غَيْرِهِ وَبَلَّغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ مَخْلُوقٌ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَضَلَّ .
وَيُقَالُ لِهَذَا : هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ هَذَا الْقَارِئُ فَهَبْ أَنَّ الْقَارِئَ لَمْ تُخْلَقْ نَفْسُهُ وَلَا وُجِدَتْ لَا أَفْعَالُهُ وَلَا أَصْوَاتُهُ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ نَفْسُهُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ يَعْدَمُ بِعَدَمِهِ وَيَحْدُثُ بِحُدُوثِهِ ؟ فَإِشَارَتُهُ بِالْخَلْقِ إنْ كَانَتْ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَصْوَاتِهِ فَالْقُرْآنُ غَنِيٌّ عَنْ هَذَا الْقَارِئِ وَمَوْجُودٌ قَبْلَهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدِمِ هَذَا عَدَمُهُ وَإِنْ كَانَتْ إلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ لِأُمَّتِهِ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ فَذَاكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ كَلَامًا لِمَحَلِّهِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَلَامًا لِلَّهِ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ كَلَامًا كَانَ كَلَامَهُ كَانَ مَا أَنَطَقَ بِهِ كُلَّ نَاطِقٍ كَلَامَهُ مِثْلُ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ وَالْحَصَى وَشَهَادَةِ الْجُلُودِ بَلْ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ وَهَذَا قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ وَمِنْ قَالَ : الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ - إمَّا أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ بِشَيْءِ أَصْلًا فَيَجْعَلُ الْعِبَادَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَكْمَلَ مِنْهُ وَشَبَّهَهُ بِالْأَصْنَامِ وَالْجَمَادَاتِ وَالْمَوَاتِ : كَالْعِجْلِ الَّذِي لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا فَيَكُونُ قَدْ فَرَّ عَنْ إثْبَاتِ
صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ حَذَرًا فِي زَعْمِهِ مِنْ التَّشْبِيهِ فَوَصَفَهُ بِالنَّقْصِ وَشَبَّهَهُ بِالْجَامِدِ وَالْمَوَاتِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ : هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ وَعَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَهَذَا الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ وَنَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ . هَذِهِ مَفْهُومُهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي فِطَرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ ؛ فَإِنَّ مَنْ يَنْقُلُ كَلَامَ غَيْرِهِ وَيَكْتُبُهُ فِي كِتَابٍ قَدْ يَزِيدُ فِيهِ وَيَنْقُصُ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مُكَاتَبَاتِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهَا - فَإِذَا جَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ فَقِيلَ : هَذَا الَّذِي فِيهِ كَلَامُ السُّلْطَانِ بِعَيْنِهِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ : يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ الْكَاتِبُ وَلَا نَقَصَ . وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ كَلَامَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ تَصْنِيفِهِ قِيلَ : هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ : يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ } . فَقَوْلُهُ فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ يُبَلِّغُهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ الَّتِي سَمِعَهُ بِهَا وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَأْتِي بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ لَا يَزِيدُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ فَيَكُونُ قَدْ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ . فَالْمُسْتَمِعُ لَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ يَسْمَعُهُ كَمَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ قَدْ سَمِعَ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَهُ . وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِهِ
لَا يُرِيدُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ صَوْتُهُ وَحَرَكَاتُهُ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِ عَاقِلٍ ابْتِدَاءً وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسِ يُلْجِئُ أَصْحَابَهُ إلَى " الْقَرْمَطَةِ " فِي السَّمْعِيَّاتِ وَ " السَّفْسَطَةِ " فِي الْعَقْلِيَّاتِ . وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى فِطْرَتِهِمْ لَكَانَتْ صَحِيحَةً سَلِيمَةً فَإِذَا رَأَى النَّاسُ كَلَامًا صَحِيحًا فَإِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامِ وَسُمِعَ مِنْهُ وَنُقِلَ عَنْهُ أَوْ كَتَبَهُ فِي كِتَابٍ لَا يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ نَفْسَ مَا قَامَ بِالْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي قَلْبِهِ وَالْأَلْفَاظِ الْقَائِمَةِ بِلِسَانِهِ فَارَقَتْهُ وَانْتَقَلَتْ عَنْهُ إلَى الْمُسْتَمِعِ وَالْمُبَلِّغِ عَنْهُ وَلَا فَارَقَتْهُ وَحَلَّتْ فِي الْوَرَقِ ؛ بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ مَا قَامَ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ هُوَ نَفْسُ الْمِدَادِ الَّذِي فِي الْوَرَقِ ؛ بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ أَلْفَاظِهِ الَّتِي هِيَ أَصْوَاتُهُ هِيَ أَصْوَاتُ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ فَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ لَا يَقُولُهَا عَاقِلٌ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ إذَا سُمِعَ وَبُلِّغَ أَوْ كُتِبَ فِي كِتَابٍ فَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ وَبُلِّغَ عَنْهُ أَوْ كَتَبَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا كَتَبَ التَّوْرَاةَ لِمُوسَى وَكَمَا كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَكَمَا كَتَبَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي مَصَاحِفِهِمْ . وَإِذَا كَانَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ مَخْلُوقٍ فَبَلَّغَهُ عَنْهُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ؛ بَلْ شِعْرُ مَخْلُوقٍ كَمَا يُبَلَّغُ شِعْرُ حَسَّانٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَلَبِيدٍ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الشُّعَرَاءِ وَيَقُولُ النَّاسُ : هَذَا شِعْرُ حَسَّانٍ بِعَيْنِهِ وَهَذَا هُوَ نَفْسُ شِعْرِ حَسَّانٍ . وَهَذَا شِعْرُ لَبِيَدِ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ :
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ
وَمَعَ هَذَا فَيَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ رُوَاةَ الشِّعْرِ وَمُنْشِدِيهِ لَمْ يَسْلُبُوا الشُّعَرَاءَ نَفْسَ صِفَاتِهِمْ حَتَّى حَلَّتْ بِهِمْ بَلْ وَلَا نَفْسُ مَا قَامَ بِأُولَئِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ كَأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ حَلَّتْ بِالرُّوَاةِ وَالْمُنْشِدِينَ فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي كَلَامَهُ أَوْ غَيْرَ كَلَامِهِ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَأَنَّ مَا قَامَ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ كَحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ هِيَ صِفَاتُ الْبَارِي حَلَّتْ فِيهِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ بَلْ يُمَثِّلُونَ الْعِلْمَ بِنُورِ السَّرَّاجِ يَقْتَبِسُ مِنْهُ الْمُتَعَلِّمُ وَلَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَ الْعَالِمِ كَمَا يَقْتَبِسُ الْمُقْتَبِسُ ضَوْءَ السِّرَاجِ فَيُحْدِثُ اللَّهُ لَهُ ضَوْءًا كَمَا يُقَالُ : إنَّ الْهَوَى يَنْقَلِبُ نَارًا بِمُجَاوَرَةِ الْفَتِيلَةِ لِلْمِصْبَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَغَيَّرَ تِلْكَ النَّارُ الَّتِي فِي الْمِصْبَاحِ وَالْمُقْرِئُ وَالْمُعَلِّمُ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُ الْعِلْمَ وَلَمْ يَنْقُصْ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْءٌ ؛ بَلْ يَصِيرُ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ مِثْلَ مَا عِنْدَهُ . وَلِهَذَا يُقَالُ : فُلَانٌ يَنْقُلُ عِلْمَ فُلَانٍ وَيَنْقُلُ كَلَامَهُ وَيُقَالُ : الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ عِنْدَ فُلَانٍ صَارَ إلَى فُلَانٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ : نَقَلْت مَا فِي الْكِتَابِ وَنَسَخْت مَا فِي الْكِتَابِ أَوْ نَقَلْت الْكِتَابَ أَوْ نَسَخْته وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ أَنَّ نَفْسَ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ عَدِمَتْ مِنْهُ وَحَلَّتْ فِي الثَّانِي ؛ بَلْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ مِنْ الْكُتُبِ وَنَقْلِهَا مِنْ جِنْسِ نَقْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي الثَّانِي
مِثْلُ مَا فِي الْأَوَّلِ فَيَبْقَى الْمَقْصُودُ بِالْأَوَّلِ مَنْقُولًا مَنْسُوخًا وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَوَّلُ بِخِلَافِ نَقْلِ الْأَجْسَامِ وَتَوَابِعِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا نُقِلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ زَالَ عَنْ الْأَوَّلِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ لَهَا وُجُودٌ فِي أَنْفُسِهَا وَهُوَ وُجُودُهَا الْعَيْنِيُّ وَلَهَا ثُبُوتُهَا فِي الْعِلْمِ ثُمَّ فِي اللَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ ثُمَّ فِي الْخَطِّ . وَهَذَا الَّذِي يُقَالُ : وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ وَوُجُودٌ فِي الْبَنَانِ : وُجُودٌ عَيْنِيٌّ وَوُجُودٌ عِلْمِيُّ وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ ؛ وَلِهَذَا افْتَتَحَ اللَّهُ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } فَذَكَرَ الْخَلْقَ عُمُومًا وَخُصُوصًا ثُمَّ ذَكَرَ التَّعْلِيمَ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ وَاللَّفْظُ يُطَابِقُ الْعِلْمَ وَالْعِلْمُ هُوَ الْمُطَابِقُ لِلْمَعْلُومِ . وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ كَالْأَعْيَانِ فِي الْوَرَقِ فَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } كَقَوْلِهِ : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } فَجَعَلَ إثْبَاتَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فِي الْمَصَاحِفِ كَإِثْبَاتِ الرَّسُولِ فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا غَلَطٌ : إثْبَاتُ الْقُرْآنِ كَإِثْبَاتِ اسْمِ الرَّسُولِ هَذَا كَلَامٌ وَهَذَا كَلَامٌ وَأَمَّا إثْبَاتُ اسْمِ الرَّسُولِ فَهَذَا كَإِثْبَاتِ الْأَعْمَالِ أَوْ كَإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ فِي
زُبُرِ الْأَوَّلِينَ قَالَ تَعَالَى { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } فَثُبُوتُ الْأَعْمَالِ فِي الزُّبُرِ وَثُبُوتُ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ هُوَ مِثْلُ كَوْنِ الرَّسُولِ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ؛ وَلِهَذَا قَيَّدَ سُبْحَانَهُ هَذَا بِلَفْظِ " الزُّبُرِ " وَ " الْكُتُبُ " زُبُرٌ . يُقَالُ زَبَرْت الْكِتَابَ إذَا كَتَبْته وَالزَّبُورُ بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَيْ الْمَكْتُوبُ فَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَيْسَ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَكِنْ ذِكْرُهُ كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا نَفْسُهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ وَلَكِنْ ذِكْرُهُ فَثُبُوتُ الرَّسُولِ فِي كُتُبِهِمْ كَثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي كُتُبِهِمْ ؛ بِخِلَافِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَفِي الْمَصَاحِفِ ؛ فَإِنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ أُثْبِتَ فِيهَا فَمَنْ جَعَلَ هَذَا مِثْلَ هَذَا كَانَ ضَلَالُهُ بَيِّنًا وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَ ( الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ نَفْسَ الْمَوْجُودَاتِ وَصِفَاتِهَا إذَا انْتَقَلَتْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ حَلَّتْ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الثَّانِي وَأَمَّا الْعِلْمُ بِهَا وَالْخَبَرُ عَنْهَا فَيَأْخُذُهُ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ مَعَ بَقَائِهِ فِي الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي عِنْدَ الثَّانِي هُوَ نَظِيرُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ ؛ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْعِلْمَيْنِ وَاحِدًا فِي نَفْسِهِ صَارَتْ وَحْدَةُ الْمَقْصُودِ تُوجِبُ وَحْدَةَ التَّابِعِ لَهُ وَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ غَرَضٌ فِي تَعَدُّدِ التَّابِعِ كَمَا فِي الِاسْمِ مَعَ الْمُسَمَّى ؛ فَإِنَّ اسْمَ الشَّخْصِ وَإِنْ ذَكَرَهُ أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ وَدَعَا بِهِ أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ لِمُسَمَّى وَاحِدٍ فَإِذَا قَالَ الْمُؤَذِّنُ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ ذَلِكَ هَذَا الْمُؤَذِّنُ وَهَذَا الْمُؤَذِّنُ وَقَالَهُ غَيْرُ الْمُؤَذِّنِ فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْمَكْتُوبَ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَاسْمُ رَسُولِهِ كَمَا أَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . وَإِذَا قَالَ : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } وَقَالَ : { ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ } وَقَالَ : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وَقَالَ : { بِسْمِ اللَّهِ } فَفِي الْجَمِيعِ الْمَذْكُورِ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَإِنَّ تَعَدُّدَ الذِّكْرِ وَالذَّاكِرِ فَالْخَبَرُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُخْبِرِ الْوَاحِدِ مِنْ مُخْبِرِهِ وَالْأَمْرُ الْوَاحِدُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْآمِرِ الْوَاحِدِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ لِمُسَمَّاهُ هَذَا فِي الْمُرَكَّبِ نَظِيرُ هَذَا فِي الْمُفْرَدِ وَهَذَا هُوَ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَبِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ تَعَدَّدَ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ الِاسْمَ وَالْخَبَرَ وَتَعَدَّدَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَسَائِر صِفَاتِهِمْ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنْ قُلْتُمْ : إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ والاتحادية فَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ . مِثَالُهُ مِثَالُ رَجُلٍ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِلُّ بِذَاتِهِ فِي بَدَنِ الَّذِي يَقْرَأُ حَدِيثَهُ فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَالُوا إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ فِي بَدَنِ غَيْرِهِ فَقَالَ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ : إنَّ الْمُحَدِّثَ يَقْرَأُ كَلَامَهُ وَإِنَّ مَا يَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ .
وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ زَيْدٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَهَذَا الَّذِي سَمِعْنَاهُ كَلَامُ زَيْدٍ وَلَا يَسْتَجِيزُ الْعَاقِلُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ فِي هَذَا الْمُتَكَلِّمِ أَوْ فِي هَذَا الْوَرَقِ . وَقَدْ نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي الصُّدُورِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عُقُلِهَا } وَقَوْلِهِ : { الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ } وَأَمْثَالِ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ عَاقِلٍ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ اللَّهُ فِي صُدُورِنَا وَأَجْوَافِنَا وَلِهَذَا لَمَّا ابْتَدَعَ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ الصُّورِيُّ بِأَنَّ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ فِي صُدُورِنَا فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى فَقِيلَ لَأَحْمَدَ قَدْ جَاءَتْ جهمية رَابِعَةٌ أَيْ : جهمية الخلقية وَاللَّفْظِيَّةِ والواقفية وَهَذِهِ الرَّابِعَةُ - اشْتَدَّ نَكِيرُهُ لِذَلِكَ وَقَالَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْجَهْمِيَّة . وَهُوَ كَمَا قَالَ . فَإِنَّ " الْجَهْمِيَّة " لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَنْكَرُ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ فِي الصُّدُورِ وَلَا يُشَبِّهُ هَذَا بِقَوْلِ النَّصَارَى بِالْحُلُولِ إلَّا مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ ؛ فَإِنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ ؛ الْأَبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ اللَّاهُوتُ تَدَرَّعَتْ النَّاسُوتَ وَهُوَ عِنْدُهُمْ إلَهٌ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَيَقُولُونَ : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا كَانُوا مُتَنَاقِضِينَ فَإِنَّ الَّذِي تَدَرَّعَ الْمَسِيحَ إنْ كَانَ هُوَ الْإِلَهَ الْجَامِعَ لِلْأَقَالِيمِ فَهُوَ الْأَبُ نَفْسُهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ صِفَةً مِنْ
صِفَاتِهِ فَالصِّفَةُ لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ وَلَيْسَتْ إلَهًا وَالْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ إلَهٌ وَلَوْ قَالَ النَّصَارَى إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي صَدْرِ الْمَسِيحِ كَمَا هُوَ فِي صُدُورِ سَائِر الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِمْ مَا يُنْكَرُ . فَالْحُلُولِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ بِهَذَا الِاسْمِ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ كَمَا قَالَتْ النَّصَارَى وَالْغَالِيَةُ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغُلَاةُ أَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ أَوْ يَقُولُونَ بِحُلُولِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَسِيحِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا أَوْ قَالَ : وُجُودُهُ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ . فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْ كَلَامَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَلَّغَتْهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يُسَمَّى حُلُولًا وَمَنْ سَمَّاهُ حُلُولًا لَمْ يَكُنْ بِتَسْمِيَتِهِ لِذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْحَقَائِقِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُفَارَقَةَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ لَهُ وَانْتِقَالَهَا إلَى غَيْرِهِ فَكَيْفَ صِفَةُ الْخَالِقِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْحُلُولِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي إثْبَاتِ لَفْظِ الْحُلُولِ وَنَفْيِهِ عَنْهُ هَلْ يُقَالُ : إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ حَالٌّ فِي الصُّدُورِ ؟ وَهَلْ يُقَالُ : كَلَامُ النَّاسِ الْمَكْتُوبُ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ حَالٌّ فِي قُلُوبِ حَافِظِيهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ؟ فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ نَفَتْ الْحُلُولَ كَالْقَاضِي
أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِهِ وَقَالُوا : ظَهَرَ كَلَامُ اللَّهِ فِي ذَلِكَ وَلَا نَقُولُ : حَلَّ ؛ لِأَنَّ حُلُولَ صِفَةِ الْخَالِقِ فِي الْمَخْلُوقِ أَوْ حُلُولَ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ مُمْتَنِعٌ . وَطَائِفَةٌ أَطْلَقَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ كَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الهروي - الْمُلَقَّبِ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ - وَغَيْرِهِ وَقَالُوا : لَيْسَ هَذَا هُوَ الْحُلُولُ الْمَحْذُورُ الَّذِي نَفَيْنَاهُ . بَلْ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ اللَّهَ فِي الصَّحِيفَةِ أَوْ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ كَذَلِكَ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَهُ حَالٌّ فِي ذَلِكَ دُونَ حُلُولِ ذَاتِهِ وَطَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ كَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ قَالُوا : لَا نُطْلِقُ الْحُلُولَ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يُوهِمُ انْتِقَالَ صِفَةِ الرَّبِّ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَنَفْيُ ذَلِكَ يُوهِمُ نَفْيَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إلَى الْخَلْقِ فَنُطْلِقُ مَا أَطْلَقَتْهُ النُّصُوصُ وَنُمْسِكُ عَمَّا فِي إطْلَاقِهِ مَحْذُورٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَالِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ إنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ وَإِنْ قُلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا فَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقَالَةَ الْمُنْكَرَةَ هُنَا تَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ فَإِذَا زَالَتْ لَمْ يَبْقَ مُنْكَرٌ .
أَحَدُهَا : مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ غَيْرُ اللَّهِ كَجِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ وَاَللَّهُ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ .
الثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ
الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَإِنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ لَا بِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي فَيُجْعَلُ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدًا وَكَذَلِكَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ كَمَنْ يَقُولُ إنَّ مَعَانِيَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ فَمَعْنَى الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّحِيمِ وَالْحَكِيمِ مَعْنًى وَاحِدٌ فَهَذَا إلْحَادٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ . ( الثَّالِثُ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَا بَلَّغَتْهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ مِنْ الْمَعْنَى وَالْأَلْفَاظِ لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ التَّالِينَ لَا كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ بِأَيِّ عِبَارَةٍ عُبِّرَ عَنْهَا . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ بَلَّغَهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ تَارَةً يُسْمَعُ مِنْ اللَّهِ وَتَارَةً مِنْ رُسُلِهِ مُبَلِّغِينَ عَنْهُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ وَكَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ بِهِ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ وَلَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا وَلَوْ قَرَأَهُ النَّاسُ وَكَتَبُوهُ وَسَمِعُوهُ . وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ وَسَائِر صِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَإِذَا نَفَى الْحُلُولَ وَأَرَادَ بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْمَوْصُوفِ لَا تُفَارِقُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَقَدْ أَصَابَ فِي هَذَا الْمَعْنَى ؛ لَكِنْ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُؤْمِنَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ هُوَ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ وَلَكِنْ بَلَّغَتْهُ عَنْهُ رُسُلُهُ وَإِذَا كَانَ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ يُبَلَّغُ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَلَامُهُ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ وَمَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ تُفَارِقْ ذَاتَه فَالْعِلْمُ بِمِثْلِ هَذَا فِي كَلَامِ الْخَالِقِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } وَهُوَ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَالْعِلْمُ لَا يَكُونُ إلَّا حَقًّا . وَقَالَ تَعَالَى : { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } { حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } { حم } { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى } وَنَحْوَ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ
مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْ شَيْءٍ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ إلَّا كَلَامُهُ ؛ بِخِلَافِ نُزُولِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَطَرِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ عَنْ السَّلَفِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ ؛ فَإِنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ يَقُولُ إنَّهُ خُلِقَ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا فَمِنْ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ نَزَلَ وَبَدَأَ لَمْ يَنْزِلْ مِنْ اللَّهِ فَإِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ يُنَاقِضُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَزَلَ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ ؛ وَلِهَذَا فَسَّرَ الْإِمَامُ أَحْمَد قَوْلَهُ " مِنْهُ بَدَأَ " أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَقَالَ أَحْمَد : كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنِ عَنْهُ . وَ " أَيْضًا " فَلَوْ كَانَ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ ؛ بَلْ كَانَ يَكُونُ كَلَامًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فِيهِ وَكَذَلِكَ سَائِر مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالرِّضَى وَالْغَضَبِ وَالْمَقْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ الرَّبُّ تَعَالَى مُتَّصِفًا بِهِ بَلْ كَانَ يَكُونُ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ ؛ فَإِنَّ الْمَعْنَى إذَا قَامَ بِمَحَلِّ كَانَ صِفَةً لِذَلِكَ الْمَحَلِّ وَلَمْ يَكُنْ صِفَةً لِغَيْرِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمَخْلُوقُ أَوْ الْخَالِقُ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ مَوْجُودَةٍ قَائِمَةٍ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِطْرِيٌّ فَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ الْأَفْعَالِ اللَّازِمَةِ يَمْتَنِعُ أَنْ يُوصَفَ الْمَوْصُوفُ بِأَمْرِ لَمْ يَقُمْ بِهِ . وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ .
وَلَمْ يَقُلْ السَّلَفُ : إنَّ النَّبِيَّ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ قُلْت : أَقْرَأُ عَلَيْك وَعَلَيْك أُنْزِلَ ؟ قَالَ إنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْت عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْت إلَى هَذِهِ الْآيَةِ { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } قَالَ : حَسْبُك فَنَظَرْت فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ مِنْ الْبُكَاءِ } . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِ وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وَقَالَ تَعَالَى { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ - وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ وَهُوَ جِبْرِيلُ - مِنْ اللَّهِ بِالْحَقِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وقَوْله تَعَالَى { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } وَقَوْلِهِ : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ الرَّبُّ فَعَلَهُ بِمَلَائِكَتِهِ . فَإِنَّ لَفْظَ ( نَحْنُ هُوَ لِلْوَاحِدِ الْمُطَاعِ الَّذِي لَهُ أَعْوَانٌ يُطِيعُونَهُ فَالرَّبُّ تَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهَا تُطِيعُهُ الْمَلَائِكَةُ أَعْظَمَ مِمَّا يُطِيعُ الْمَخْلُوقُ أَعْوَانَهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ أَحَقُّ بِاسْمِ " نَحْنُ " وَ " فَعَلْنَا " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يُسْتَعْمَلُ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَك كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا } . وَقَالَ سَعِيد بْنُ جُبَيْرٍ : أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } قَالَ : جَمْعُهُ لَك فِي صَدْرِك وَتَقْرَؤُهُ { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } فَإِذَا قَرَأَهُ رَسُولُنَا وَفِي لَفْظٍ : فَإِذَا قَرَأَهُ جِبْرِيلُ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أَيْ نَقْرَؤُهُ . فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ " .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْوَاعَ تَكْلِيمِهِ لِعِبَادِهِ فِي قَوْلِهِ { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ التَّكْلِيمَ تَارَةً يَكُونُ وَحْيًا وَتَارَةً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى وَتَارَةً يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِي الرَّسُولُ بِإِذْنِ اللَّهِ مَا يَشَاءُ وَقَالَ تَعَالَى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } فَإِذَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولًا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُكَلِّمُ بِهِ عِبَادَهُ فَيَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَيُنَبِّئُهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } وَإِنَّمَا نَبَّأَهُمْ بِوَاسِطَةِ الرَّسُولِ وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَالرَّسُولُ أَمَرَ أُمَّتَهُ بِالتَّبْلِيغِ عَنْهُ . فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَ الْمُسْلِمِينَ : { لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ فَرُبَّ حَامِلٍ غَيْرُ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ }
وَفِي السُّنَنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ فَيَقُولُ أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي } وَكَمَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يَقُلْ وَاحِدًا مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ " الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ " وَلَا غَيْرِهِمْ ؛ بَلْ الْآثَارُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَمَّا ظَهَرَ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ قَالُوا رَدًّا لِكَلَامِهِ : إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ مُفْتَرًى كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ النَّاسِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ مُفْتَرًى بَلْ هَذَا كُفْرٌ ظَاهِرٌ يَعْلَمُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهُ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَرَدَّ السَّلَفُ هَذَا الْقَوْلَ كَمَا تَوَاتَرَتْ الْآثَارُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ وَصَنَّفُوا فِي ذَلِكَ مُصَنَّفَاتٍ مُتَعَدِّدَةً وَقَالُوا : مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ . وَأَوَّلُ مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَالَ مَخْلُوقٌ : الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ وَصَاحِبُهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَوَّل مَنْ عُرِفَ أَنَّهُ قَالَ هُوَ قَدِيمٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كُلَّابٍ ثُمَّ افْتَرَقَ الَّذِينَ شَارَكُوهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ وَمَعْنَى الْقُرْآنِ كُلِّهِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِر كُتُبِ اللَّهِ وَكَلَامُهُ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْوَاحِدُ الَّذِي لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَتَبَعَّضُ وَالْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ
بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ . وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ : هَذَا الْقَوْلُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ فَإِنَّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّ مَعْنَى " آيَةِ الْكُرْسِيِّ " لَيْسَ مَعْنَى " آيَةِ الدَّيْنِ " وَلَا مَعْنَى { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } مَعْنَى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } فَكَيْفَ بِمَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ كُلِّهِ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَخِطَابِهِ لِمَلَائِكَتِهِ وَحِسَابِهِ لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ حُرُوفٌ أَوْ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِهِ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا . وَكِلَا الْحِزْبَيْنِ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ يَقُولُ : يَا نُوحُ يَا إبْرَاهِيمُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ كَمَا قَدْ بَسَطْت أَقْوَالَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ بِوَاحِدِ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ وَلَا حِكَايَةٌ لَهُ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَقُولَ : إنَّ صَوْتِي بِهِ قَدِيمٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ بَلْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَالنَّاسُ يَقْرَءُونَهُ بِأَصْوَاتِهِمْ وَيَكْتُبُونَهُ بِمِدَادِهِمْ وَمَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُسَافِرُوا
بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ } { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } وَالْمِدَادُ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ وَالصَّوْتُ الَّذِي يُقْرَأُ بِهِ هُوَ صَوْتُ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ وَصَوْتُهُ وَحَرَكَاتُهُ وَسَائِر صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ فَالْقُرْآنُ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ كَلَامُ الْبَارِي وَالصَّوْتُ الَّذِي يَقْرَأُ بِهِ الْعَبْدُ صَوْتُ الْقَارِئِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ " فَبَيَّنَ أَنَّ الْأَصْوَاتَ الَّتِي يُقْرَأُ بِهَا الْقُرْآنُ أَصْوَاتُنَا وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ : يُحَسِّنُهُ الْإِنْسَانُ بِصَوْتِهِ كَمَا قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ عَلِمْت إنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا } . فَكَانَ مَا قَالَهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُ الْعَبْدِ مُوَافِقًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } وَقَالَ تَعَالَى : " { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } فَفَرَّقَ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَب بِهِ كَلِمَاتُهُ وَبَيْنَ كَلِمَاتِهِ فَالْبَحْرُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمِدَادِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ الْكَلِمَاتُ
مَخْلُوقٌ وَكَلِمَاتُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } فَالْأَبْحُرُ إذَا قُدِّرَتْ مِدَادًا تَنْفَدُ وَكَلِمَاتُ اللَّهِ لَا تَنْفَدُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا كَيْفَ شَاءَ وَبِمَا شَاءَ كَمَا ذَكَرَتْ الْآثَارُ بِهَذِهِ الْمَعَانِي عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا . هَذَا وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالنِّدَاءِ فِي أَكْثَرِ مِنْ عَشَرَةِ مَوَاضِعَ فَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ نِدَاءَهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَةِ " طَه " وَ " مَرْيَمَ " وَ " اُلْطُسْ الثَّلَاثِ " وَفِي سُورَةِ " وَالنَّازِعَاتِ " وَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَادَاهُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَقَالَ تَعَالَى { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } { إذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إذْ نَادَيْنَا } وَاسْتَفَاضَتْ الْآثَارُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُنَادِي بِصَوْتِ : نَادَى مُوسَى
وَيُنَادِي عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَوْتِ وَيَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ بِصَوْتِ وَلَمْ يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَتَكَلَّمُ بِلَا صَوْتٍ أَوْ بِلَا حَرْفٍ وَلَا أَنَّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِصَوْتِ أَوْ بِحَرْفِ كَمَا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إنَّ الصَّوْتَ الَّذِي سَمِعَهُ مُوسَى قَدِيمٌ وَلَا إنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ قَدِيمٌ وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ : إنَّ هَذِهِ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ هِيَ الصَّوْتُ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ ؛ بَلْ الْآثَارُ مُسْتَفِيضَةٌ عَنْهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي يَتَكَلَّمُ اللَّهُ بِهِ وَبَيْنَ أَصْوَاتِ الْعِبَادِ . وَكَانَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ يَعُدُّونَ مَنْ أَنْكَرَ تَكَلُّمَهُ بِصَوْتِ مِنْ الْجَهْمِيَّة كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد لَمَّا سُئِلَ عَمَّنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ جهمية إنَّمَا يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ . وَذَكَرَ بَعْضَ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَكَلَّمُ بِصَوْتِ . وَقَدْ ذَكَرَ مَنْ صَنَّفَ فِي السُّنَّةِ . . . (1) مِنْ ذَلِكَ قِطْعَةً وَعَلَى ذَلِكَ تَرْجَمَ عَلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ " مِمَّا يُبَيِّنُ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّوْتَيْنِ آثَارًا مُتَعَدِّدَةً . وَكَانَتْ مِحْنَةُ الْبُخَارِيِّ مَعَ أَصْحَابِهِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذهلي وَغَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَحْمَد بِسِنِينَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحْمَد فِي الْبُخَارِيِّ إلَّا بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ . وَمَنْ نَقَلَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي الْبُخَارِيِّ بِسُوءِ فَقَدْ افْتَرَى عَلَيْهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الكرجي فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ ( الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ قَالَ سَمِعْت الْإِمَامَ أَبَا مَنْصُورٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَد يَقُولُ : سَمِعْت أَبَا حَامِدٍ الإسفراييني يَقُولُ : مَذْهَبِي وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ : مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَالْقُرْآنُ حَمَلَهُ جِبْرِيلُ مَسْمُوعًا مِنْ اللَّهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ وَالصَّحَابَةُ سَمِعُوهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي نَتْلُوهُ نَحْنُ بِأَلْسِنَتِنَا وَفِيمَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ وَمَا فِي صُدُورِنَا : مَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا وَمَحْفُوظًا وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهُ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ كُلُّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَمَنْ قَالَ : مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ عَلَيْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ . وَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ هَلْ يُقَالُ إنَّهُ مَخْلُوقٌ ؟ وَلَمَّا حَدَثَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ أَنْكَرَتْ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ أَنْ يُقَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَقَالُوا : مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ إنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . وَأَمَّا صَوْتُ الْعَبْدِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَإِنَّ الْمُبَلِّغَ لِكَلَامِ غَيْرِهِ بِلَفْظِ صَاحِبِ الْكَلَامِ إنَّمَا بَلَّغَ غَيْرَهُ كَمَا يُقَالُ : رَوَى الْحَدِيثَ بِلَفْظِهِ وَإِنَّمَا يُبَلِّغُهُ بِصَوْتِ نَفْسِهِ لَا بِصَوْتِ صَاحِبِ الْكَلَامِ . وَ " اللَّفْظُ " فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ لَفَظَ يَلْفِظُ لَفْظًا وَكَذَلِكَ " التِّلَاوَةُ "
وَالْقِرَاءَةُ " مَصْدَرَانِ ؛ لَكِنْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْكَلَامِ الْمَلْفُوظِ الْمَقْرُوءِ الْمَتْلُوِّ وَهُوَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ فِي إطْلَاقِهِمْ فَإِذَا قِيلَ : لَفْظِي أَوْ اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ أَشْعَرَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ وَيَلْفِظُ بِهِ مَخْلُوقٌ وَإِذَا قِيلَ : لَفْظِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ أَشْعَرَ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا يُضَافُ إلَيْهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَصَوْتُهُ وَحَرَكَتُهُ مَخْلُوقَانِ لَكِنَّ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي يَقْرَؤُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَ " التِّلَاوَةُ " قَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ الْكَلَامِ الَّذِي يُتْلَى وَقَدْ يُرَادُ بِهَا نَفْسُ حَرَكَةِ الْعَبْدِ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مَجْمُوعُهُمَا . فَإِذَا أُرِيدَ بِهَا الْكَلَامُ نَفْسُهُ الَّذِي يُتْلَى فَالتِّلَاوَةُ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا حَرَكَةُ الْعَبْدِ فَالتِّلَاوَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْمَتْلُوُّ وَإِذَا أُرِيدَ بِهَا الْمَجْمُوعُ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِلْفِعْلِ وَالْكَلَامِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا الْمَتْلُوُّ وَلَا أَنَّهَا غَيْرُهُ . وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ يُرِيدُ بِالتِّلَاوَةِ مُجَرَّدَ قِرَاءَةِ الْعِبَادِ وَبِالْمَتْلُوِّ مُجَرَّدَ مَعْنًى وَاحِدٍ يَقُومُ بِذَاتِ الْبَارِي تَعَالَى ؛ بَلْ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بِحُرُوفِهِ وَمَعَانِيهِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ لَا لِجِبْرِيلَ وَلَا لِمُحَمَّدِ وَلَا لِغَيْرِهِمَا ؛ بَلْ قَدْ كَفَّرَ اللَّهُ مَنْ جَعَلَهُ قَوْلَ الْبَشَرِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَضَافَهُ تَارَةً إلَى رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ وَتَارَةً إلَى رَسُولٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } { تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ تَعَالَى :
{ إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } { ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } { وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } { فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ } { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ . وَأَضَافَهُ سُبْحَانَهُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِاسْمِ رَسُولٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ رَسُولٌ فِيهِ لَمْ يُحْدِثْ هُوَ شَيْئًا مِنْهُ . إذْ لَوْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ رَسُولًا فِيمَا أَحْدَثَهُ بَلْ كَانَ مُنْشِئًا لَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُضِيفُهُ إلَى رَسُولٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ تَارَةً وَمِنْ الْبَشَرِ تَارَةً فَلَوْ كَانَتْ الْإِضَافَةُ لِكَوْنِهِ أَنْشَأَ حُرُوفَهُ لَتَنَاقَضَ الْخَبَرَانِ فَإِنَّ إنْشَاءَ أَحَدِهِمَا لَهُ يُنَاقِضُ إنْشَاءَ الْآخَرِ لَهُ . وَقَدْ كَفَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ فَمَنْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ قَوْلُ بِشْرٍ أَوْ مَلَكٍ فَقَدْ كَذَبَ وَمَنْ قَالَ إنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ مِنْ الْبَشَرِ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ بَلَّغَهُ عَنْ مُرْسِلِهِ لَيْسَ قَوْلًا أَنْشَأَهُ فَقَدْ صَدَقَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ جِبْرِيلَ أَحْدَثَ أَلْفَاظَهُ وَلَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهَا فِي الْهَوَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا إنَّ جِبْرِيلَ أَخَذَهَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بَلْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ هِيَ مِنْ أَقْوَالِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ . وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى تَنَازُعِ الْمُبْتَدِعِينَ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ وَبُيِّنَ فَسَادُ أَقْوَالِهِمْ وَأَنَّ الْقَوْلَ السَّدِيدَ هُوَ قَوْلُ
السَّلَفِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ وَإِنْ كَانَ عَامَّةُ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْكِتَابِ لَمْ يَعْرِفُوا الْقَوْلَ السَّدِيدَ قَوْلَ السَّلَفِ ؛ بَلْ وَلَا سَمِعُوهُ وَلَا وَجَدُوهُ فِي كِتَابٍ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي يَتَدَاوَلُونَهَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَدَاوَلُونَ الْآثَارَ السَّلَفِيَّةَ وَلَا مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا بِتَحْرِيفِ بَعْضِ الْمُحَرِّفِينَ لَهَا وَلِهَذَا إنَّمَا يَذْكُرُ أَحَدُهُمْ أَقْوَالًا مُبْتَدَعَةً : إمَّا قَوْلَيْنِ وَإِمَّا ثَلَاثَةً وَإِمَّا أَرْبَعَةً وَإِمَّا خَمْسَةً وَالْقَوْلُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَدَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا يَذْكُرُهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُهُ ؛ وَلِهَذَا تَجِدُ الْفَاضِلَ مِنْ هَؤُلَاءِ حَائِرًا مُقِرًّا بِالْحَيْرَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ سَبَقَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَلِفِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا قَالُوهُ قَوْلًا صَحِيحًا . وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَ الْأَقْوَالَ " الْجَهْمِيَّة الْمَحْضَةُ الْنُّفَاةِ " الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ فَكَانُوا يَقُولُونَ أَوَّلًا : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَكَلَّمُ بَلْ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ وَجَعَلَ غَيْرَهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ وَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى } وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ إذَا بَقِيَ ثُلْثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ } مَعْنَاهُ أَنَّ مَلَكًا يَقُولُ ذَلِكَ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ : نَادَى السُّلْطَانُ أَيْ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي عَنْهُ فَإِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ وَيَتَكَلَّمُ . قَالُوا هَذَا مَجَازٌ ؛ كَقَوْلِ الْعَرَبِيِّ :
امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قطني .
وَقَالَتْ (1) : اتِّسَاعُ بَطْنِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَلَمَّا عَرَفَ السَّلَفُ حَقِيقَتَهُ وَأَنَّهُ مُضَاهٍ لِقَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الْمُعَطِّلَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَكَلَّمْ وَإِنَّمَا أَضَافَتْ الرُّسُلُ إلَيْهِ الْكَلَامَ بِلِسَانِ الْحَالِ كَفَّرُوهُمْ وَبَيَّنُوا ضَلَالَهُمْ وَمِمَّا قَالُوا لَهُمْ : إنَّ الْمُنَادِيَ عَنْ غَيْرِهِ - كَمُنَادِي السُّلْطَانِ - يَقُولُ : أَمَرَ السُّلْطَانُ بِكَذَا خَرَجَ مَرْسُومُهُ بِكَذَا لَا يَقُولُ إنِّي آمُرُكُمْ بِكَذَا وَأَنْهَاكُمْ عَنْ كَذَا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى { إنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } وَيَقُولُ تَعَالَى إذَا نَزَلَ ثُلْثَ اللَّيْلِ الْغَابِرُ { مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ } وَإِذَا كَانَ الْقَائِلُ مَلِكًا قَالَ - كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ - { إذَا أَحَبَّ اللَّهَ الْعَبْدَ نَادَى فِي السَّمَاءِ يَا جِبْرِيلُ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ وَيُنَادِي فِي السَّمَاءِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ } فَقَالَ جِبْرِيلُ فِي نِدَائِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ } وَفِي نِدَاءِ الرَّبِّ يَقُولُ { مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ يَأْمُرُ مُنَادِيًا فَيُنَادِي قِيلَ هَذَا لَيْسَ فِي الصَّحِيحِ فَإِنْ صَحَّ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ بِأَنْ يُنَادِيَ هُوَ وَيَأْمُرَ مُنَادِيًا يُنَادِي . أَمَّا أَنْ يُعَارَضَ بِهَذَا النَّقْلِ النَّقْلُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَفِيضُ الَّذِي اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى صِحَّتِهِ وَتَلَقِّيه بِالْقَبُولِ مَعَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَقُولُ : { مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ } فَلَا يَجُوزُ . وَكَذَلِكَ جَهْمٌ كَانَ يُنْكِرُ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُسَمِّيهِ شَيْئًا وَلَا حَيًّا وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ . قَالَ : لِأَنَّهُ إذَا سُمِّيَ بِاسْمِ تَسَمَّى بِهِ الْمَخْلُوقُ كَانَ تَشْبِيهًا وَكَانَ جَهْمٌ " مُجْبِرًا " يَقُولُ : إنَّ الْعَبْدَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَلِهَذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سَمَّى اللَّهَ قَادِرًا ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَادِرِ . ثُمَّ إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ دَخَلُوا فِي مَذْهَبِ جَهْمٍ فَأَثْبَتُوا أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُثْبِتُوا صِفَاتِهِ وَقَالُوا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَقَدْ يَذْكُرُونَ إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً لِئَلَّا يُضَافُ إلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ غَيْرُ مُتَكَلِّمٍ لَكِنْ مَعْنَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَلَقَ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ فَمَذْهَبُهُمْ وَمَذْهَبُ الْجَهْمِيَّة فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ هُوَ مُتَكَلِّمٌ حَقِيقَةً وَأُولَئِكَ يَنْفُونَ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا حَقِيقَةً . وَحَقِيقَةُ قَوْلِ الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهُ غَيْرُ
مُتَكَلِّمٍ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَلَا مُرِيدٌ إلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَلَا مُحِبٌّ وَلَا رَاضٍ وَلَا مُبْغِضٌ وَلَا رَحِيمٌ إلَّا مَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِرَادَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالرِّضَى وَالْبُغْضُ وَالرَّحْمَةُ وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّنْ انْتَسَبَ فِي الْفِقْهِ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ . وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ لَا فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ وَلَا فِي الْقَدْرِ وَلَا الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَلَا إنْفَاذِ الْوَعِيدِ . ثُمَّ تَنَازَعَ الْمُعْتَزِلَةُ والْكُلَّابِيَة فِي حَقِيقَةِ " الْمُتَكَلِّمِ " فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ : الْمُتَكَلِّمُ مَنْ فَعَلَ الْكَلَامَ وَلَوْ أَنَّهُ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِهِ لِيَقُولُوا إنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ مُتَكَلِّمٌ بِهِ . وَقَالَتْ الْكُلَّابِيَة : الْمُتَكَلِّمُ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَكَلِّمًا بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَا فَعَلَ فِعْلًا أَصْلًا بَلْ جَعَلُوا الْمُتَكَلِّمَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَيَاتُهُ بِمَشِيئَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ وَلَا حَاصِلَةً بِفِعْلِ مِنْ أَفْعَالِهِ . وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَتْبَاعُهُمْ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فَالْمُتَكَلِّمُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ مَنْ قَامَ بِهِ الْكَلَامُ وَتَكَلَّمَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ . لَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْكَلَامُ وَلَا يُعْقَلُ مُتَكَلِّمٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ فَكَانَ كُلٌّ مِنْ تينك الطَّائِفَتَيْنِ الْمُبْتَدِعَتَيْن أَخَذَتْ بَعْضَ وَصْفِ الْمُتَكَلِّمِ : الْمُعْتَزِلَةُ أَخَذُوا أَنَّهُ فَاعِلٌ والْكُلَّابِيَة أَخَذُوا أَنَّهُ مَحَلُّ الْكَلَامِ ثُمَّ زَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّهُ يَكُونُ فَاعِلًا لِلْكَلَامِ فِي غَيْرِهِ وَزَعَمُوا هُمْ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْكُلَّابِيَة كَأَبِي الْحَسَنِ
وَغَيْرِهِ أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَقُومُ بِهِ الْفِعْلُ وَكَانَ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ وَقَالُوا لَا يَكُونُ الْفَاعِلُ إلَّا مَنْ قَامَ بِهِ الْفِعْلُ وَأَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ " إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا إنَّ الْفَاعِلَ لَا يَقُومُ بِهِ الْفِعْلُ وَقَالُوا مَعَ ذَلِكَ إنَّ اللَّهَ فَاعِلُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ كَأَبِي الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا وَإِنَّ جَمِيعَ مَا يَخْلُقُهُ الْعَبْدُ فِعْلٌ لَهُ وَهُمْ يَصِفُونَهُ بِالصِّفَاتِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ وَيُقَسِّمُونَ صِفَاتِهِ إلَى صِفَاتِ ذَاتٍ وَصَفَاتِ أَفْعَالٍ مَعَ أَنَّ الْأَفْعَالَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْمَفْعُولَاتُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْهُ فَلَزِمَهُمْ أَنْ يُوصَفَ بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَالْقَبَائِحِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ فَكَانَ هَذَا تَنَاقُضًا مِنْهُمْ تَسَلَّطَتْ بِهِ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ . وَلَمَّا قَرَّرُوا مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى إذَا قَامَ بِمَحَلِّ اُشْتُقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ وَلَمْ يُشْتَقَّ لِغَيْرِهِ مِنْهُ اسْمٌ كَاسْمِ الْمُتَكَلِّمِ نَقَضَ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ ذَلِكَ بِاسْمِ الْخَالِقِ وَالْعَادِلِ فَلَمْ يُجِيبُوا عَنْ النَّقْضِ بِجَوَابِ سَدِيدٍ . وَأَمَّا السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ فَأَصْلُهُمْ مُطَّرِدٌ . وَمِمَّا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مَا احْتَجَّ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ } . قَالُوا وَالْمَخْلُوقُ لَا يُسْتَعَاذُ بِهِ فَعُورِضُوا بِقَوْلِهِ { أَعُوذُ بِرِضَاك مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِك مِنْ عُقُوبَتِك وَبِك
مِنْك } فَطَرَدَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَصْلَهُمْ وَقَالُوا مُعَافَاتُهُ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ وَأَمَّا الْعَافِيَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي النَّاسِ فَهِيَ مَفْعُولُهُ . وَكَذَلِكَ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ الْقَائِمَةُ بِهِمْ مُفَعْوِلَةٌ لَهُ لَا نَفْسُ فِعْلِهِ وَهِيَ نَفْسُ فِعْلِ الْعَبْدِ وَكَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِ أُولَئِكَ نَفْيَ فِعْلِ الرَّبِّ وَنَفْيَ فِعْلِ الْعَبْدِ . فَتَسَلَّطَتْ عَلَيْهِمْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي " مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْقَدْرِ " تَسَلُّطًا بَيَّنُوا بِهِ تَنَاقُضَهُمْ كَمَا بَيَّنُوا هُمْ تَنَاقُضَ الْمُعْتَزِلَةِ . وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُخْتَلِفِينَ الَّذِينَ أَقْوَالُهُمْ بَاطِلَةٌ فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِ كُلِّ طَائِفَةٍ بَيَانُ فَسَادِ قَوْلِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى فَيَعْرِفُ الطَّالِبُ فَسَادَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَلَا تَجِدُ الْحَقَّ إلَّا مُوَافِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تَجِدُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ إلَّا مُوَافِقًا لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ فَيَكُونُ مِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ وَمِمَّنْ لَهُ قَلْبٌ يَعْقِلُ بِهِ وَأُذُنٌ يَسْمَعُ بِهَا بِخِلَافِ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } . وَقَدْ وَافَقَ الْكُلَّابِيَة عَلَى قَوْلِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَمِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَلَيْسَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ
وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ . وَحَدَثَ مَعَ الْكُلَّابِيَة وَنَحْوِهِمْ طَوَائِفُ أُخْرَى مَنْ الكَرَّامِيَة وَغَيْرِ الكَرَّامِيَة مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ فَقَالُوا : إنَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَكَلِّمٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ كَلَامًا قَائِمًا بِذَاتِهِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِحُرُوفِ وَأَصْوَاتٍ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لِيَتَخَلَّصُوا بِذَلِكَ مِنْ بِدْعَتَيْ الْمُعْتَزِلَةِ والْكُلَّابِيَة ؛ لَكِنْ قَالُوا إنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُ فِي الْأَزَلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ ؛ بَلْ صَارَ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ سَبَبٍ أَوْجَبَ إمْكَانَ الْكَلَامِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْقَوْلُ مِمَّا وَافَقَ الكَرَّامِيَة عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِهِمْ . وَهَذَا مِمَّا شَارَكُوا فِيهِ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ مُمْكِنًا لَهُ فِي الْأَزَلِ ثُمَّ صَارَ مُمْكِنًا لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُمْتَنِعًا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ سَبَبٍ أَوْجَبَ إمْكَانَهُ ؛ لَكِنْ الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةَ يَقُولُونَ إنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَلَامٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَامَ بِهِ كَلَامٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ لَقَامَتْ بِهِ الْحَوَادِثُ قَالُوا : وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ . قَالَتْ الْجَهْمِيَّة . وَالْمُعْتَزِلَةُ . لِأَنَّ الْحَوَادِثَ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْأَعْرَاضَ . وَعِنْدَهُمْ لَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ قَالُوا لِأَنَّ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَلَيْسَ هُوَ بِجِسْمِ ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ وَمَا لَا يَخْلُو مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ .
وَقَالَتْ الْكُلَّابِيَة : بَلْ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحَوَادِثُ وَنَحْنُ لَا نُسَمِّي الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا ؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ عِنْدَنَا لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى بَاقِيَةٌ . وَقَالُوا : وَأَمَّا الْحَوَادِثُ فَلَوْ قَامَتْ بِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْقَابِلَ لِلشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْهُ وَمِنْ ضِدِّهِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ . فَقَالَ الْجُمْهُورُ الْمُنَازِعُونَ لِلطَّائِفَتَيْنِ : أَمَّا قَوْلُ أُولَئِكَ : إنَّهُ لَا تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ ؛ لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَلَيْسَ بِجِسْمِ فَتَسْمِيَةُ مَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ عَرَضًا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ وَكَذَلِكَ تَسْمِيَةُ مَا يُشَارُ إلَيْهِ جِسْمًا اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ أَيْضًا وَ " الْجِسْمُ " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْبَدَنُ وَهُوَ الْجَسَدُ كَمَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو فَلَفْظُ الْجِسْمِ يُشْبِهُ لَفْظَ الْجَسَدِ وَهُوَ الْغَلِيظُ الْكَثِيفُ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ هَذَا جَسِيمٌ وَهَذَا أَجْسَمُ مِنْ هَذَا أَيْ أَغْلَظُ مِنْهُ . قَالَ تَعَالَى { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } وَقَالَ تَعَالَى { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } ثُمَّ قَدْ يُرَادُ بِالْجِسْمِ نَفْسُ الْغِلَظِ وَالْكَثَافَةِ وَيُرَادُ بِهِ الْغَلِيظُ الْكَثِيفُ . وَكَذَلِكَ النُّظَّارُ يُرِيدُونَ بِلَفْظِ " الْجِسْمِ " تَارَةً الْمِقْدَارَ وَقَدْ يُسَمُّونَهُ الْجِسْمَ التَّعْلِيمِيَّ وَتَارَةً يُرِيدُونَ بِهِ الشَّيْءَ الْمُقَدَّرَ وَهُوَ الْجِسْمِيُّ الطَّبِيعِيُّ وَالْمِقْدَارُ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْمُقَدَّرِ كَالْعَدَدِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الْمَعْدُودِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا
فِي الْأَذْهَانِ دُونَ الْأَعْيَانِ . وَكَذَلِكَ السَّطْحُ وَالْخَطُّ وَالنُّقْطَةُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْمَحَلِّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ . قَالُوا وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَى الْجِسْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الْمُشَارِ إلَيْهِ فَإِنَّ الرُّوحَ الْقَائِمَةَ بِنَفْسِهَا لَا يُسَمُّونَهَا جِسْمًا بَلْ يَقُولُونَ خَرَجَتْ رُوحه مِنْ جِسْمِهِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ جِسْمٌ وَرُوحٌ وَلَا يُسَمُّونَ الرُّوحَ جِسْمًا وَلَا النَّفَسَ الْخَارِجَ مِنْ الْإِنْسَانِ جِسْمًا لَكِنْ أَهْلُ الْكَلَامِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ يُسَمَّى جِسْمًا كَمَا اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ يُسَمَّى جَوْهَرًا ثُمَّ تَنَازَعُوا فِي أَنَّ كُلَّ مَا يُشَارُ إلَيْهِ هَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ الْفَرْدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ أَوْ لَيْسَ مُرَكَّبًا لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ الْجِسْمُ عِنْدَنَا هُوَ الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ أَوْ هُوَ الْمَوْجُودُ لَا الْمُرَكَّبُ . قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ فَإِذَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ نفاة الصِّفَاتِ : إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِجِسْمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمِ قِيلَ لَهُمْ : إنْ أَرَدْتُمْ بِالْجِسْمِ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ جَوَاهِرَ فَرْدَةٍ أَوْ مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ لَمْ نُسَلِّمْ لَكُمْ " الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى " وَهِيَ قَوْلُكُمْ : إنَّ الصِّفَاتِ لَا تَقُومُ إلَّا بِمَا هُوَ كَذَلِكَ قِيلَ لَكُمْ إنَّ الرَّبَّ تَعَالَى قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَالْعِبَادُ يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَيَقْصِدُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى سُبْحَانَهُ وَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ بِأَبْصَارِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا كَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ
الْبَدْرِ فَإِنْ قُلْتُمْ : إنَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ جِسْمٌ وَهُوَ مُحْدَثٌ - كَانَ هَذَا بِدْعَةً مُخَالِفَةً لِلُّغَةِ وَالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَإِنْ قُلْتُمْ : نَحْنُ نُسَمِّي مَا هُوَ كَذَلِكَ جِسْمًا وَنَقُولُ إنَّهُ مُرَكَّبٌ قِيلَ تَسْمِيَتُكُمْ الَّتِي ابْتَدَعْتُمُوهَا هِيَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ وَمَنْ عَمِدَ إلَى الْمَعَانِي الْمَعْلُومَةِ بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَسَمَّاهَا بِأَسْمَاءِ مُنْكَرَةٍ لِيُنَفِّرَ النَّاسَ عَنْهَا قِيلَ لَهُ : النِّزَاعُ فِي الْمَعَانِي لَا فِي الْأَلْفَاظِ وَلَوْ كَانَتْ الْأَلْفَاظُ مُوَافَقَةً لِلُّغَةِ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ مِنْ ابْتِدَاعِهِمْ ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي يُعْلَمُ ثُبُوتُهَا بِالشَّرْعِ وَالْعَقْلِ لَا تُدْفَعُ بِمِثْلِ هَذَا النِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ الْبَاطِلِ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ كُلَّ مَا كَانَ تَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ وَتُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَيْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُرَكَّبًا مِنْ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ أَوْ مِنْ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ فَهَذَا مَمْنُوعٌ ؛ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُقَلَاءِ : مِنْ النُّظَّارِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ . قَالَ الْجُمْهُورُ : وَأَمَّا تَفْرِيقُ الْكُلَّابِيَة بَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَالْمَعَانِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ - الَّتِي تُسَمِّي الْحَوَادِثَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الصِّفَاتِ أَعْرَاضًا لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ - فَيُقَالُ : قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ الْعَرَضَ الَّذِي هُوَ السَّوَادُ وَالْبَيَاضُ وَالطُّولُ وَالْقِصَرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنْ جَمِيعِ
الطَّوَائِفِ ؛ بَلْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالِاضْطِرَارِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْمُسَمِّي لِلصِّفَاتِ أَعْرَاضًا فَهَذَا أَمْرٌ اصْطِلَاحِيٌّ لِمَنْ قَالَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ عُرْفَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَا عُرْفَ سَائِر أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحَقَائِقُ الْمَعْلُومَةُ بِالسَّمْعِ وَالْعَقْلِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهَا اخْتِلَافُ الِاصْطِلَاحَاتِ بَلْ يُعَدُّ هَذَا مِنْ النِّزَاعَاتِ اللَّفْظِيَّةِ وَالنِّزَاعَاتُ اللَّفْظِيَّةُ أَصْوَبُهَا مَا وَافَقَ لُغَةَ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ وَالسَّلَفِ فَمَا نَطَقَ بِهِ الرَّسُولُ وَالصَّحَابَةُ جَازَ النُّطْقُ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا لَمْ يَنْطِقُوا بِهِ فَفِيهِ نِزَاعٌ وَتَفْصِيلٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ . وَأَمَّا قَوْلُ " الْكُلَّابِيَة " مَا يَقْبَلُ الْحَوَادِثَ لَا يَخْلُو مِنْهَا وَمَا لَمْ يَخْلُ مِنْ الْحَوَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ . فَقَدْ نَازَعَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ فِي كِلَا الْمُقَدِّمَتَيْنِ حَتَّى أَصْحَابُهُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ نَازَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ وَاعْتَرَفُوا بِبُطْلَانِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا سَلَفُهُمْ عَلَى نَفْيِ حُلُولِ الْحَوَادِثِ بِهِ وَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالشِّيعَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَحَدَثَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مَنْ السالمية وَغَيْرِهِمْ - مِمَّنْ هُوَ مَنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَمِنْهُمْ كَثِيرٌ مِمَّنْ هُوَ يَنْتَسِبُ إلَى
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَكَثُرَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ - فَقَالُوا بِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَة وَبِقَوْلِ الْكُلَّابِيَة : وَافَقُوا هَؤُلَاءِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ قَدِيمٌ وَوَافَقُوا أُولَئِكَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَأَحْدَثُوا قَوْلًا مُبْتَدَعًا - كَمَا أَحْدَثَ غَيْرُهُمْ - فَقَالُوا : الْقُرْآنُ قَدِيمٌ وَهُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِنَفْسِ اللَّهِ تَعَالَى أَزَلًا وَأَبَدًا . وَاحْتَجُّوا عَلَى أَنَّهُ قَدِيمٌ بِحُجَجِ الْكُلَّابِيَة وَعَلَى أَنَّهُ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ بِحُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ . فَلَمَّا قِيلَ لَهُمْ : الْحُرُوفُ مَسْبُوقَةٌ بَعْضُهَا بِبَعْضِ فَالْبَاءُ قَبْلَ السِّينِ وَالسِّينُ قَبْلَ الْمِيمِ وَالْقَدِيمُ لَا يُسْبَقُ بِغَيْرِهِ وَالصَّوْتُ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ فَضْلًا عَنْ قِدَمِهِ قَالُوا : الْكَلَامُ لَهُ وُجُودٌ وَمَاهِيَّةٌ كَقَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْمَاهِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ . قَالُوا : وَالْكَلَامُ لَهُ تَرْتِيبٌ فِي وُجُودِهِ وَتَرْتِيبٌ مَاهِيَّةٌ الْبَاءُ لِلسِّينِ بِالزَّمَانِ هِيَ فِي وُجُودِهِ وَهِيَ مُقَارِنَةٌ لَهَا فِي مَاهِيَّتِهَا لَمْ تَتَقَدَّمْ عَلَيْهَا بِالزَّمَانِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً بِالْمَرْتَبَةِ كَتَقَدُّمِ بَعْضِ الْحُرُوفِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى بَعْضٍ . فَإِنَّ الْكَاتِبَ قَدْ يُكْتَبُ آخِرُ الْمُصْحَفِ قَبْلَ أَوَّلِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِذَا كَتَبَهُ كَانَ أَوَّلُهُ مُتَقَدِّمًا بِالْمَرْتَبَةِ عَلَى آخِرِهِ . فَقَالَ لَهُمْ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ هَذَا مِمَّا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالِاضْطِرَارِ ؛ فَإِنَّ الصَّوْتَ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ وَدَعْوَى وُجُودِ مَاهِيَّةِ غَيْرِ الْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ دَعْوَى
فَاسِدَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَالتَّرْتِيبُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ تَرْتِيبٌ لِلْحُرُوفِ الْمِدَادِيَّةِ وَالْمِدَادُ أَجْسَامٌ فَهُوَ كَتَرْتِيبِ الدَّارِ وَالْإِنْسَانِ وَهَذَا أَمْرٌ يُوجَدُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهُ مَعَ الثَّانِي بِخِلَافِ الصَّوْتِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ الْجُزْءُ الثَّانِيَ مِنْهُ حَتَّى يُعْدَمَ الْأَوَّلُ كَالْحَرَكَةِ فَقِيَاسُ هَذَا بِهَذَا قِيَاسٌ بَاطِلٌ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُطْلِقُ لَفْظَ الْقَدِيمِ وَلَا يَتَصَوَّرُ مَعْنَاهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَعْنِي بِالْقَدِيمِ إنَّهُ بَدَأَ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ ؛ لَكِنَّ الَّذِينَ نَازَعُوا هَلْ هُوَ قَدِيمٌ أَوْ لَيْسَ بِقَدِيمِ لَمْ يَعْنُوا هَذَا الْمَعْنَى فَمَنْ قَالَ لَهُمْ : إنَّهُ قَدِيمٌ وَأَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ أَرَادَ مَعْنًى صَحِيحًا لَكِنَّهُ جَاهِلٌ بِمَقَاصِدِ النَّاسِ مُضِلٌّ لِمَنْ خَاطَبَهُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُبْتَدِعٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ . ثُمَّ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ : إنَّ الْحُرُوفَ الْقَدِيمَةَ وَالْأَصْوَاتَ لَيْسَتْ هِيَ الْأَصْوَاتَ الْمَسْمُوعَةَ مِنْ الْقُرَّاءِ وَلَا الْمِدَادَ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ يُسْمَعُ مِنْ الْقَارِئِ شَيْئَانِ : الصَّوْتُ الْقَدِيمُ وَهُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي وُجُودِ الْكَلَامِ . وَالصَّوْتُ الْمُحْدَثُ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ الْمِدَادُ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ مَخْلُوقٌ ؛ لَكِنَّ الْحُرُوفَ الْقَدِيمَةَ لَيْسَتْ هِيَ الْمِدَادَ ؛ بَلْ الْأَشْكَالُ وَالْمَقَادِيرُ الَّتِي تَظْهَرُ بِالْمِدَادِ وَقَدْ تُنْقَشُ فِي حَجَرٍ وَقَدْ تُخْرَقُ فِي وَرَقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ أَنْ يُقَالَ فِي الْمِدَادِ إنَّهُ قَدِيمٌ أَوْ
مَخْلُوقٌ وَقَدْ يَقُولُ لَا أَمْنَعُ عَنْ ذَلِكَ بَلْ أَعْلَمُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ لَكِنْ أَسَدُّ بَابَ الْخَوْضِ فِي هَذَا وَهُوَ مَعَ هَذَا يَهْجُرُ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِالْحَقِّ وَمَنْ يُبَيِّنُ الصَّوَابَ الْمُوَافِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِصَرِيحِ الْمَعْقُولِ وَمَعَ دَفْعِهِ لِلشَّنَاعَاتِ الَّتِي يُشَنِّعُ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ . وَخَوْضُ النَّاسِ وَتَنَازُعُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا ذِكْرُ قَوْلٍ مُخْتَصَرٍ جَامِعٍ يُبَيِّنُ الْأَقْوَالَ السَّدِيدَةَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَانَ عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الَّتِي حَيَّرَتْ عُقُولَ الْأَنَامِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْأَنَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة :
عَنْ قَوْمٍ يَقُولُونَ : كَلَامُ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ قَدِيمٌ - سَوَاءٌ كَانَ صِدْقًا أَوْ كَذِبًا فُحْشًا أَوْ غَيْرَ فُحْشٍ نَظْمًا أَوْ نَثْرًا - وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِهِمْ فِي الْقِدَمِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الثَّوَابِ . وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ - بَلْ أَكْثَرُهُمْ - : أَصْوَاتُ الْحَمِيرِ وَالْكِلَابِ كَذَلِكَ وَلَمَّا قُرِئَ عَلَيْهِمْ مَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ تَأَوَّلُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : بِأَنَّ أَحْمَد إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ فَهَلْ هَؤُلَاءِ مُصِيبُونَ أَوْ مُخْطِئُونَ ؟ وَهَلْ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى زَجْرُهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَكْفُرُونَ بِالْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ الَّذِي نُقِلَ عَنْ أَحْمَد حُقٌّ كَمَا زَعَمُوا أَمْ لَا ؟.
فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ هَؤُلَاءِ مُخْطِئُونَ فِي ذَلِكَ خَطَأً مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالُوا مُنْكِرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا ؛ بَلْ كُفْرًا وَمُحَالًا يَجِبُ نَهْيُهُمْ عَنْهُ وَيَجِبُ عَلَى وُلَاةِ الْأُمُورِ عُقُوبَةُ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ جَزَاءً بِمَا