كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قال شهاب الدين : « وهذا الذي منع تسميته تعليقاً سماه به غيره ويجعلون تلك الجملة في محل ذلك الاسم الذي يتعدى إليه ذلك الفعل ، فيقولون في : » عَرفتُ أيُّهُمْ منطلقٌ « : إن الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافضِ؛ لأن » نظر « يتعدى به » .
فصل في اللام في قوله : ليبلوكم
قال الزَّجَّاجُ : اللام في « لِيَبْلوَكُمْ » تتعلق بخلقِ الحياة ، لا بخلق الموت .
وقال الفراء والزجاج أيضاً : لم تقع البلوى على « أي » لأن فيما بين البلوى و « أي » إضمار فعل كما تقول : « بَلوْتُكمْ لأنْظُر أيكم أطوع » ، ومثله قوله تعالى : { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } [ القلم : 40 ] ، أي : سلهم ، ثم انظر أيهم فأيهم ، رفع بالابتداء ، والمعنى : ليبلوكم ليعلم ، أو فينظر أيكم أحسن عملاً .
قال ابن الخطيب : « أيُّكُمْ » مبتدأ ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله .
فصل في الابتلاء
الابتلاءُ : هو التجربة ، والامتحان ، حتى يعلم أنه هل يطيع ، أو يعصي ، وذلك في حق العالم بجميع المعلومات مُحَال ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في قوله تعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [ البقرة : 124 ] .
والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر .
فصل في تفسير الآية
قال السديُّ في قوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي : أكثر للموت ذكراً وأحسن استعداداً وأشد خوفاً وحذراً .
وقال ابن عمر : « تلا النبي صلى الله عليه وسلم : { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك } حتَّى بلغ { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فقال : » أورعُ عن محَارمِ اللَّهِ ، وأسرعُ في طاعةِ اللَّهِ « » .
وقيل : يعاملكم معاملة المختبر ، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره ، وبالحياة ليبين شكره .
وقيل : خلق الله الموت للبعث ، والجزاء ، وخلق الحياة للابتلاء « وهُوَ العَزِيزُ » في انتقامهِ ممن عصاه « الغَفُورُ » لمن تاب .
فصل فيمن قالوا : إن فعل الله يكون لغرض
احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله : « ليَبْلُوكُمْ » قالوا : وهذه اللام للغرض كقوله تعالى { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، والجواب : أن الفعل في نفسه ليس بالابتلاء ، إلا أنه لما أشبه الابتلاء سمي به مجازاً ، فكذلك هاهنا ، إنه يشبه الغرض ، وإن لم يكن في نفسه غرضاً فقدم حرف الغرضِ .
قوله : { الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } .
يجوز أن يكون الموصول تابعاً للعزيز الغفُورِ ، نعتاً ، أو بياناً أو بدلاً .
وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ ، أو مفعول فعل مقدر .
وقوله : « طِباقَاً » صفة ل « سَبْعَ » ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه جمع طبق ، نحو : جبل وجبال .
والثاني : أنه جمع طبقة ، نحو : رحبة ورحاب .
والثالث : أنه مصدر طابق ، يقال : طَابَقَ مُطابَقَةَ وطِبَاقاً .
ثم إما أن تجعل نفس المصدر مبالغة ، وإما على حذف مضاف ، أي : ذات طباق ، وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر ، أي : طوبقت طباقاً . من قولهم : طابق الفعل ، أي : جعله طبقةً فوق أخرى .
روي عن ابن عباس : « طِبَاقاً » ، أي : بعضها فوق بعض ، والملتصق منها أطرافها .
قال القرطبيُّ : وقيل : مصدر بمعنى المطابقة ، أي : خلق سبع سمواتٍ ، ويطبقها تطبيقاً أو مطابقة على طوبقت طباقاً؛ لأنه مفعول ثان ، فيكون « خَلَقَ » بمعنى جعل وصيّر .
وقال أبان بن تغلب : سمعت بعض الأعراب يذم رجلاً ، فقال : شره طباق ، وخيره غير باق . ويجوز في غير القرآن « سَبْعَ سماواتٍ طباقٍ » بالخفض على النَّعت ل « سماواتٍ » نظيره : { وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ } [ يوسف : 42 ] .
فصل في الدلالة على القدرة
قال ابن الخطيب : دلّت هذه الآية على القدرة من وجوه .
أحدها : من حيث بقاؤها في جو الهواء متعلقة بلا عماد ولا سلسلة .
وثانيها : من حيث إن كل واحد منها اختصّ بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص .
وثالثها : أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة ، والبطء إلى جهة معينة .
ورابعها : كونها في ذواتها محدثة ، وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة .
قوله { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } . « تَفاوتٍ » هو مفعول « ترى » و « مِنْ » مزيدة فيه . وقرأ الأخوان : « تَفَوُّت » بتشديد الواو دون ألف .
قال القرطبيُّ : « وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه » .
والباقون : بتخفيفها بعد ألف ، وهما لغتان بمعنى واحد ، كالتعهُّد والتَّعاهد والتَّظاهر والتَّظهُّر والتَّصغُّر والتَّصاغُر والتَّحمُّل والتَّحامُل والتَّضاعف والتضعف والتَّباعد والتبعُّد ، قاله الفرَّاء .
وقال الأخفش : « تَفَاوُتٍ » أجود؛ لأنهم يقولون : تفاوت الأمر ، ولا يكادون يقولون : « تفوت » .
واختيار أبي عبيد : « تفوت » ، يقال : تفاوت الشيء إذا فات .
واحتج بما روي في الحديث : أنَّ رجُلاً تفوَّت على أبيهِ في مالهِ .
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر : « أمثلي يتفوت عليه في ماله » .
قال النحاس : وهذا مردود على أبي عبيد ، لأن « يتفوت » أي : يضاف في الحديث ، « تفاوُتٍ » في الآية أشبه ، كما يقال : تباين ، تفاوت الأمر إذا تباين ، أو تباعد ، أي : فات بعضها بعضاً نقله القرطبي .
وحكى أبو زيد : تفاوت الشَّيء تفاوُتاً بضم الواو وفتحها وكسرها .
[ والقياس ] : الضَّمُّ كالتقابل ، والفتح والكسر شاذان .
والتفاوت : عدم التناسب؛ لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر ، وهذ الجملة المنفية صفة لقوله : « طِبَاقاً » وأصلها : ما ترى فيهن ، فوضع مكان الضمير .
قوله : { ما ترى في خلقِ الرَّحمنِ } تعظيماً لخلقهن ، وتنبيهاً على سببب سلامتهن ، وهو أنه خلق الرحمن ، قاله الزمخشري .
وظاهر هذا أنها صفة ل « طِبَاقاً » ، وقام الظاهر فيها مقام المضمر ، وهذا إنما يعرف في خبر المبتدأ ، وفي الصلة على خلاف فيهما وتفصيل .
وقال أبو حيَّان : الظَّاهر أنه مستأنفٌ ، وليس بظاهر لانفلات الكلام بعضه من بعض ، و « خَلق » مصدر مضاف لفاعله والمفعول محذوف ، أي : في خلق الرحمن السماواتِ ، أو كل مخلوق ، وهو أولى ليعم ، وإن كان السياق مرشداً للأول .
فصل في معنى الآية
والمعنى ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج ، ولا تناقض ، ولا تباين ، بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها ، وإن اختلفت صوره وقيل : المراد بذلك السماوات خاصة ، أي : ما ترى في خلق السماوات من عيب ، وأصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئاً ، فيقع الخَلَل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس : من تفرق .
وقال السديُّ : « مِنْ تفَاوُتٍ » أي : من اختلاف ، وعيب بقول الناظر : لو كان كذا كان أحسن .
وقيل : « التفاوت » الفطور ، لقوله بعد ذلك : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } ، ونظيره قوله تعالى : { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ ق : 65 ] .
قال القفَّالُ - رحمه الله - : ويحتمل أن يكون المعنى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } في الدلالة على حكم الصانع ، وأنه لم يخلقها عبثاً .
فصل في الخطاب في الآية لمن؟
الخطاب في قوله تعالى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } إما للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل مخاطب ، وكذا القول في قوله { فارجع البصر } ، { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ } .
فصل فيما تدل عليه الآية
دلت هذه الآية على كمال علم اللَّه ، وذلك أن الحسّ دل على أن هذه السماوت السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان ، وكل فاعلٍ كان فعله محكماً متقناً ، فلا بد وأن يكون عالماً ، فدلت الآيةُ على كونه - تعالى - عالماً بالمعلومات بقوله : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } إشارة إلى كونها محكمة متقنة .
فصل فيمن اعتبر المعاصي ليست من خلق الله
احتج الكعبيُّ بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله ، قال : - لأنه تعالى - نفى التَّفاوت عن خلقهِ ، وليس المرادُ نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص ، والعيب ، فوجب حمله على نفي التفاوت بين خلقه من حيث الحكمة ، فدل من هذا الوجه على أنَّ أفعال العبادِ ليست من خلقه لما فيها من التَّفاوت الذي بعضه جهل ، وبعضه سفه . والجواب : أنا نحمله على أن لا تفاوت فيها بالنسبة إليه من حيث إنَّ الكُلَّ يصح عنه بحسب القدرة والإرادة والداعية ، وأنه لا يقبح منه شيء أصلاً .
فصل في السموات السَّبع
روى البغويُّ عن كعب - رضي الله عنه - أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية : مرمرة بيضاء ، والثالثة : حديد ، والرابعة ، صُفْرٌ ، وقال : نحاس ، والخامسة : فضّة ، والسادسة : ذهب ، والسَّابعة : ياقوتة حمراء ، وبين السماء السَّابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور .
قوله { فارجع البصر } . مسبب عن قوله { مَّا ترى } .
و « كرتَيْنِ » نصب على المصدر كمرتين ، وهو مثنّى لا يراد به حقيقته ، بل التكثير بدليل قوله : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : مزدجراً وهو كليل ، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ، ولا ثلاث ، وإنما المعنى كرات ، وهذا كقولهم : « لَبَّيْك وسعْديْكَ وحنَانيْكَ ، ودَوالَيْك ، وهَذَاذَيْكَ » لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد ، إنما يريدون التكثير أي : إجابة لك بعد أخرى . وإلا تناقض الغرض ، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة؛ كقوله : [ البسيط ]
4791 - لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وقَبْرٌ كانَ أكْرمَهُمْ .. . . .
أي : قبور كثيرة ليتم المدح .
وقال ابن عطية : « كَرَّتَيْنِ » معناه : مرتين ، ونصبها على المصدر .
وقيل : الأولى ليرى حسنها ، واستواءها ، والثانية لينظر كواكبها في سيرها ، وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط .
قوله : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } .
هذه الجملة يجوز أن تكون متعلقة لفعل محذوف يدلّ عليه « فارْجعِ البصَرَ » مضمناً معنى « انظُر »؛ لأنه بمعناه ، فيكون هو المعلق .
وأدغم أبو عمرو : لام « هَلْ » في التاء هنا وفي « الحَاقَّة » ، وأظهرهما الباقون ، وهو المشهور في اللغة .
والفطور : جمع فطرٍ ، وهو الشَّقُّ ، يقال : فطره فانفطر ، ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شقّ ، ومعناه : شق اللحم وطلع .
قال المفسرون : « الفُطُور » الصُّدوع والشُّقوق؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
4792 - شَقَقْتِ القَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ ... هَواكِ فَلِيطَ فالتأمَ الفُطُورُ
قوله : « ينقلبْ » .
العامة : على جزمه على جواب الأمرِ .
والكسائي في رواية برفعه . وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون حالاً مقدرة .
والثاني : أنه على حذف الفاءِ ، أي : فينقلب .
و « خَاسِئاً » حال وقوله : « وهُو حَسِيرٌ » حال ، إما من صاحب الأولى ، وإما من الضمير المستتر في الحال قبلها ، فتكون متداخلة . وقد تقدّمتا « خاسئاً » و « حسير » في « المؤمنين » و « الأنبياء » .
فصل في تفسير الآية
لما قال : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } كأنه قال بعده : ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك البصر الواحد ، ولا يعتمد عليه لاحتمال وقوع الغلطِ في النظرة الواحدة ، ولكن ارجع البصر ، واردد النظر مرة أخرى ، حتى يتيقّن لك أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتَّة .
قال القرطبي : أمر أن ينظر في خلقه ليعتبروا به ، ويتفكَّروا في قدرته ، فقال : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } أي : اردُدْ طرفك إلى السماء ، ويقال : قلَّب بصره في السماء ، ويقال : اجتهد بالنَّظر إلى السَّماء ، والمعنى متقارب ، وإنما قال : « فارْجع » - بالفاء - وليس قبله فعل مذكُور؛ لأنه قال : « مَا تَرَى » والمعنى : انظر ، ثم ارجع البصر هل ترى من فُطورٍ ، قاله قتادة .
قال مجاهد والضحاك : و « الفطور » الشقوق .
وقال قتادة : من خلل .
وقال السديُّ : من خروق .
وقال ابن عبَّاس : مِنْ وهَنٍ .
وقوله : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } في موضع المصدر؛ لأن معناه : رجعتين .
لأن الإنسان إذا نظر في الشَّيء مرتين ترى عينه ما لم تنظره مرة أخرى ، فأخبر تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرَّتين لا يرى فيها عيباً ، بل يتحيّر بالنظر إليها .
وقال ابن الخطيب : « معناه أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل ، والعيب ، بل يرجع إليك » خَاسِئاً « أي : مبعداً صاغراً عن أن يرى شيئاً من ذلك من قولك : خسأت الكلب إذا باعدته ، وطردته » .
وخسأ الكلب بنفسه ، يتعدى ولا يتعدَّى ، وانخسأ الكلب أيضاً ، وخسأ بصره أيضاً خَسْأً وخسوءاً ، أي : ستر .
قال ابن عبَّاسٍ : الخاسىء الذي لم يرَ ما يهوى .
وقال المبردُ هاهنا : الخاسىء المبعد المصغر .
وقوله : « وهُو حَسِيرٌ » أي : قد بلغ الغاية في الإعياء ، فهو بمعنى « فاعل » من الحسور الذي هو الإعياء ، ويجوز أن يكون مفعولاً من حسرهُ بعدُ الشيء وهو معنى قول ابن عبَّاسٍ؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
4793 - مَنْ مَدَّ طَرْفاً إلى ما فَوْقَ غَايَتِهِ ... إرتدَّ خَسْآنَ مِنهُ الطَّرْفُ قَدْ حُسِرَا
يقال : حسر بصره يحسر حسوراً ، أي : كلَّ وانقطع نظره من طول مدى ، وما أشبه ذلك ، فهو حسير ومحسور أيضاً .
قال الشاعر : [ الطويل ]
4794 - نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى ... فعَادَ إليَّ الطَّرْفُ وهوَ حَسِيرُ
وقيل هو النادم؛ قال : [ الرمل ]
4795 - مَا أنَا اليَوْمَ على شَيْءٍ خَلاَ ... يَا بْنَةَ القَيْنِ تولَّى بِحَسِرْ
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ } ، أي : السماء القربى؛ لأنها أقرب السماوات إلى النَّاس ، والمعنى : السَّماء الدُّنيا من النَّاس أي : الدنيا منكم لأنها « فعلى » تأنيث « أفعل » التفضيل ، « بِمصَابِيحَ » جمع مصباح وهو السِّراجُ ، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وسماها زينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح ، فكأنه قال : ولقد زيَّنَّا سقف الدارِ التي اجتمعتم فيها بمصابيح الأنوار .
قوله : { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } .
الضمير في « وَجَعَلْنَاهَا » يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أنه يعود على « مَصَابِيحَ » .
قيل : وكيفية الرَّجْم أن توجد نار من ضوء الكواكب يرمي بها الشيطانُ ، والكوكب في مكانه لا يرجم به . قاله أبو علي جواباً لمن قال : كيف تكون زينةً وهي رجوم لا تبقى؟ .
قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكوكب .
والثاني : أن الضمير يعود على السماء ، والمعنى : وجعلنا منها؛ لأن ذات السماء ليست للرجوم .
قاله أبو حيان . وفيه نظر لعدم عود الضمير على السَّماء .
قال القرطبي : والمعنى جعلنا شُهُباً ، فحذف المضاف ، بدليل قوله { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] ، قال : وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها .
قال المهدويُّ : وهذا على أن يكون الاستراق دون موضع الكوكب .
وقال القشيريُّ : وأحسن من قول أبي علي أن نقول : هي زينة قبل أن ترجم بها الشياطين .
والرجوم : جمع رجمٍ ، وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير .
ويجوز أن يكون باقياً على مصدريته ، ويقدر مضاف ، أي : ذات رجوم .
وجمع المصدر باعتبار أنواعه ، فعلى الأول يتعلق قوله : « للشَّياطينِ » بمحذوف على أنه صفة ل « رُجُوماً » .
وعلى الثاني : لا تعلق له؛ لأن اللام مزيدة في المفعول به ، وفيه دلالة حينئذ على إعمال المصدر منوناً مجموعاً .
ويجوز أن تكون صفة له أيضاً كالأول ، فيتعلق بمحذوف .
وقيل : الرجوم هنا الظنون ، والشياطين : شياطين الإنس .
كما قال : [ الطويل ]
4796 - . . ... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ
فيكون المعنى : جعلناها ظُنُوناً ورجوماً بالغيبِ ، لشياطين الإنس ، وهم الأحكاميون من المنجمين .
فصل في خلق النجوم
قال قتادةُ : خلق الله النُّجوم لثلاثٍ : زينة السَّماءِ ورجوماً للشياطين ، وعلاماتٍ يهتدى بها في البرِّ والبحرِ والأوقاتِ ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به ، وتعدى ، وظلم .
وقال محمد بن كعب : والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم ، ولكنهم يتَّخذون الكهانة ، ويتَّخذون النُّجوم علةً .
فصل
قال ابن الخطيب : ظاهر الآيةِ لا يدلّ على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا؛ لأن السماوات إذا كانت شفافة ، فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا ، أو في سماوات أخرى فوقها ، فهي ولا بُد أن تظهر في السَّماء الدنيا ، ولتلوح منها ، فعلى التقدير تكون السماء الدنيا متزينة ، واعلم أنَّ أصحاب الهيئةِ اتفقوا على أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن الذي فوق كرات السياراتِ ، واحتجوا أن بعض الثوابت في الفلك الثامن ، فيجب أن تكون كلها هناك .
وإنما قلنا : إن بعضها في الفلك الثامن ، لأن الكواكب القريبة من المنطقة تنكسف بهذه السيارات ، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة وإنما قلنا : إن الثوابت لما كانت في الفلك الثَّامن وجب أن تكون كلها هناك؛ لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة ، فلا بُدَّ وأن تكون مركوزةً في كرة واحدة .
قال ابن الخطيب : وهذه استدلالاتٌ ضعيفة؛ فإنه لا يلزم من كون بعض الثَّوابت فوق السيارة كون كلها هناك؛ لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر ، وتكون في النظر مساوية لكرة الثوابت ، وتكون الكواكب المركوزة فيها مقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية؛ إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة ، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون المصابيح مركوزة في سماء الدنيا ، فثبت بهذا ضعف مذاهب الفلاسفة .
فصل في سبب الرجوم
قال ابن الخطيب : يروى أن السبب في الرجوم أن الجن كانت تسمع خبر السماء فلما بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورجمت الشياطين ، فمن جاء منهم مسترقاً للسمع رمي بشهاب ، فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض ، فيلقيه إلى النَّاس ، فيختلط على النبي أمره ، ويرتاب النَّاس بخبره . ومن النَّاس من طعن في هذا من وجوه :
أحدها : أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة ، قالوا : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس إذا بلغ النَّار التي دون الفلك احترق بها ، فتلك الشعلة هي الشهاب .
وثانيها : أن الجن إذا شاهدوا جماعة منهم يسترقون ، فيحرقون إن امتنع أن يعودوا لذلك .
وثالثها : أن ثُخْنَ السماء مسيرة خمسمائة سنةٍ ، فالجن لا يقدرون على خرقها؛ لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور ، وثخنها يمنعهم من السمع لأسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم ، وإذا سمعوه من ذلك البعد ، فهم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض .
ورابعها : أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة ، إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ ، أو لأنهم نقلوها من وحي الله إليهم ، وعلى التقديرين ، فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يمكنوا الجن من معرفتها .
وخامسها : أن الشياطين مخلوقون من النار ، والنار لا تحرق النار ، بل تقويها .
وسادسها : إن كان هذا القذف لأجل النبوة فلم بقي بعدها؟ .
وسابعها : أن هذ الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض ، لأنا نشاهدها بالعين ، ومع البعد لا نشاهدها كما لا نشاهد حركات الكواكب .
وثامنها : إن كانت الشياطين ينقلون أخبار الملائكةِ عن المغيبات إلى الكهنة ، فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار ، حتى يتوصل الكفار بذلك إلى إلحاق الضرر بالمؤمنين؟ .
وتاسعها : لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء؟ .
والجواب عن الأول : أنا لا ننكر أن هذه الشُّهب كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن الثاني : أنه إذا جاء القدر عمي البصر ، فإذا قضى الله على طائفة منها بالحرق لطغيانها قيَّض الله لها من الدواعي ما يقدمها على العملِ المفضي إلى هلاكها .
وعن الثالث : أن نمنع كون ثخن الفلك ما ذكروه ، بأن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام .
وعن الرابع : ما روى الزهري عن علي بن الحسين ، عن علي بن أبي طالب قال : « بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في نفرٍ من أصحابه ، إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : مَا كُنْتُمْ تقُولُونَ فِي الجَاهليَّةِ إذَا حدث؟ قال : كنا نقول : يولد عظيم أو يموت عظيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » فإنَّها لا تُرْمَى لمَوْتِ أحدٍ ، ولا لِحياتهِ ، ولكِنَّ اللَّه - تعالى - إذا قَضَى الأمْرَ في السَّماءِ سبَّحتْ حملةُ العرشِ ، ثُمَّ يُسبِّحُ أهلُ كُلِّ سماءٍ ، وتسبِّحُ كُل سماءٍ ، حتى ينتهي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ ، ويَسْتخبرُ أهلُ السَّماءِ حملة العَرْشِ ماذا قال ربُّكُمْ؟ فيُخبرُونهُمْ ، ولا يَزالُ يَنْتَهِي ذلِكَ الخَبَرُ من سماءٍ إلى سماءٍ إلى أن يَنْتَهِي الخبرُ إلى هذه السَّماء فتَخْطَفُهُ الجِنُّ فَيُرمَونَ ، فمَا جَاءُوا به فَهُوَ حَقٌّ ، ولكنَّهم يزيدُون فِيهِ « » .
وعن الخامس : أنَّ نار النجومِ قد تكون أقوى من نارِ الجن .
وعن السادس : أنه - عليه الصلاة والسلام - أخبر ببطلان الكهانةِ ، فلو لم ينقطعوا لعادت الكهانة ، وذلك يقدح في خبر الرسولِ عليه الصلاة والسلام .
وعن السابع : أن البعد غير مانع من السماءِ عندنا .
وعن الثامن : لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة ، وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين .
وعن التاسع : أن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .
قوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } . لما ذكر منافع الكواكب ، وذكر من جملة تلك المنافع أنها رجوم للشياطين قال بعد ذلك : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } ، أي : وأعتدنا للشَّياطين بعد الإحراق بالشُّهب في الدنيا عذاب السَّعير في الآخرة ، وهو أشدُّ الحريقِ .
قال المبردُ : سعرت النَّار فهي مسعورة وسعير ، مثل قوله : مقتولة وقتيل .
وهذه الآية تدل على أن النَّار مخلوقة؛ لأن قوله : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } خبر عن الماضي .
قوله : { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ } خبر مقدم في قراءة العامة ، و « عذابُ جهنَّم » مبتدؤه .
وفي قراءة الحسن والأعرج والضحاك : بنصب « عَذَابَ » فيتعلق ب « أعْتَدْنَا » عطفاً على « لَهُمْ » و « عَذابَ السَّعيرِ » ، فعطف منصوباً على منصوب ، ومجروراً على مجرور ، وأعاد الخافض ، لأن المعطوف عليه ضمير .
والمخصوص بالذَّم محذوف ، أي : وبئس المصير مصيرهم ، أو عذاب جهنَّم ، أو عذاب السَّعير .
فصل في معنى الآية
والمعنى لكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم عذاب جهنم؛ ليبين أن الشياطين المرجومين مخصوصون بذلك ، ثم إنه - تعالى - وصف ذلك العذاب بصفات ، أولها قوله تعالى : { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً } يعني الكفار { إِذَآ أُلْقُواْ } طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة { سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً } أي : صوتاً .
قال ابن عباس : الشَّهيق لجهنم عند إلقاء الكُفار فيها كشهيق البغلةِ للشعير .
وقال عطاءٌ : الشَّهيق من الكُفَّار عند إلقائهم في النار .
وقال مقاتلٌ : سمعُوا لجهنم شهيقاً .
قال ابن الخطيب : ولعل المراد تشبيه صوت لهبِ النَّار بالشهيق ، وهو كصوت الحمار .
وقال المبرد : هو - والله أعلم - تنفس كتنفس التغيُّظ .
قال الزجاجُ : سمع الكُفَّار للنار شهيقاً ، وهو أقبح الأصوات .
وقيل : سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [ هود : 106 ] .
قوله : « لَهَا » متعلق بمحذوف على أنه حال من « شَهيقاً » لأنه في الأصل صفته ، ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي : سمعوا لأهلها ، وهي تَفُور : جملة حالية .
فصل في معنى الشهيق والزفير
قال القرطبيُّ : « والشهيق في الصدر ، والزفير في الحلق ، وقد مضى في سورة » هود « » .
وقوله : { وَهِيَ تَفُورُ } . أي : تغلي؛ ومنه قول حسَّان : [ الوافر ]
تَرَكْتُمْ قِدْركُمْ لا شيءَ فِيهَا ... وقِدْرُ القَوْمِ حَامِيَةٌ تَفورُ
قال مجاهد : تفور كما يفور الحب القليل في الماء الكثير .
وقال ابن عباس : تغلي بهم على المراجل ، وهذا من شدّة لهب النار من شدّة الغضب كما تقول : فلان يفور غيظاً .
قوله : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } .
قرأ العامة : « تَميَّزُ » بتاء واحدة مخففة ، والأصل « تتميَّز » بتاءين ، وهي قراءة طلحة .
والبزي عن ابن كثير : بتشديدها ، أدغم إحدى التاءين في الأخرى .
وهي قراءة حسنة لعدم التقاء الساكنين بخلاف قراءته { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] ، و { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] وبابه .
وأبو عمرو : يدغم الدَّال في التاء على أصله في المتقاربين .
وقرأ الضحاك : « تَمَايَزُ » والأصل : « تتمايزُ » بتاءين ، فحذف إحداهما .
وزيد بن علي : « تَمِيزُ » من « مَازَ » .
وهذا كله استعارة من قولهم : تميز فلان من الغيظ ، أي : انفصل بعضه من بعض من الغيظ ، فمن سببية ، أي : بسبب الغيظ ، ومثله في وصف كَلْب ، أنشد عروة : [ الرجز ]
4798 - . ... يَكَادُ أنْ يَخْرُجَ مِنْ إهَابِهِ
قال ابن الخطيب : ولعل سبب هذا المجاز أن دم القلب يغلي عند الغضب ، فيعظم مقداره ، فيزداد امتلاء العروق ، حتَّى تكاد تتمزَّق .
فإن قيل : النَّار ليست من الأحياء ، فكيف توصف بالغيظ؟ .
قال ابن الخطيب : والجواب : أن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة ، فلعل الله - تعالى - يخلق فيها وهي نار حياة ، أو يكون هذا استعارة يشبه صوت لهبها وسرعة مبادرتها بالغضبان وحركته ، أو يكون المراد الزبانية .
فصل في تفسير الآية
قال سعيد بن جبير { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } يعني تنقطع ، وينفصل بعضها من بعض .
وابن عباس والضحاك وابن زيد : تتفرق من الغيظ من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى .
قوله : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } . تقدم الكلام على « كُلَّمَا » . وهذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من ضمير جهنم .
والفَوْج : الجماعة من الناس ، والأفْوَاج : الجماعات في تفرقة ، ومنه قوله تعالى : { فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } [ النبأ : 18 ] والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ } وهم مالك ، وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } ، أي : رسول في الدنيا ينذركم هذا اليوم ، حتى تحذروا .
قال الزَّجَّاج : وهذا التوبيخُ زيادة لهم في العذاب .
قوله : { بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ } . فيه دليل على جواز الجميع بين حرف الجواب ، ونفس الجملة المجاب بها إذ لو قالوا : بلى ، لفهم المعنى ، ولكنهم أظهروه تحسراً وزيادة في تغميمهم على تفريطهم في قبُول قول النذير؛ فعطفوا عليه : « فكَذَّبْنَا » إلى آخره .
قوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } ظاهره أنه من مقول الكفار للنذير ، أي : قلنا : « مَا أنْزَلَ اللَّهُ من شَيءٍ » أي : على ألسنتكم إن أنتم يا معشر الرسل { إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } اعترفوا بتكذيب الرسلِ ، ثم اعترفوا بجهلهم ، فقالوا وهم في النار : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ } من النذر يعني : الرسل ما جاءوا به « أوْ نَعْقِلُ » عنهم .
وجوز الزمخشريُّ أن يكون من كلام الرُّسل للكفرةِ ، وحكاه الكفرة للخزنةِ ، أي : قالوا لنا هذا فلم نقبلهُ .
قال ابن الخطيب : يجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار ، أي : لما قالوا ذلك الكلام قالت الخزنة لهم : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } .
قوله : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير } .
قال ابن الخطيب : احتجّ بهذه الآية من قال : إنَّ الدين لا يتم إلا بالتعليم؛ لأنه قدم السمع على العقل ، فدل على أنه لا بد أولاً من إرشاد المرشد غلب عليه تأمل السامع فيما ندب العلم .
وأجيب : بأنه إنما قدم السمع؛ لأن الرسول إذا دعا ، فأول المراتب أنه يسمع كلامه ، ثم يتفكر فيه فلما كان السمع مقدماً على التعقل لا جرم قدم عليه في الذكر .
فصل فيمن فضل السمع على البصر
واحتج بهذه الآيةِ من قدم السمع على البصر ، قالوا : لأنه جعل للسمع مدخلاً في الخلاص من النار ، والفوز بالجنة ، والبصر ليس كذلك ، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر .
قوله « بِذنْبِهِمْ » وحَّده؛ لأنه مصدر في الأصل ، ولم يقصد التنويع بخلاف « بِذُنُوبِهِم » في موضع؛ ولأنه في معنى الجمع؛ ولأن اسم الجنس إذا أضيف عم .
فصل في المراد بالضلال الكبير
قال ابن الخطيب : يحتمل أن يكون المراد من الضَّلال الكبير ما كانوا عليه في الدنيا من ضلالهم ، ويحتمل أن يكون المراد بالضَّلال الهلاك ، ويحتمل أن يكون قد سمى عقاب الضلال باسمه .
فصل في الرد على المرجئة
احتجت المرجئةُ بهذه الآية على أنه لا يدخل النارَ إلا الكفار قالوا : لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا : فكذبنا النذير ، وهذا يدل على أن من لم يكذب الله ورسوله لا يلقى في النار ، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرَّ لا يدخل النار ، وأجاب القاضي عنه : بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المخوفة ، وكل من يدخل النار مخالف للدليل .
فصل في معرفة الله بعد ورود السمع
واحتج بهذه الآية من قال : إن معرفة الله ، وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع ، قالوا : لأنه تعالى إنما عذبهم؛ لأنه أتاهم النذير ، فدل على أنه لو لم يأتهم النذير لم يعذبوا .
قوله : { فَسُحْقاً } . فيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على المفعول به ، أي : ألزمهم الله سحقاً .
والثاني : أنه منصوب على المصدر ، تقديره : « أسحقهم الله سحقاً » فناب المصدر عن عامله في الدعاء نحو « جَدْعاً له ، وغفراً » فلا يجوز إظهار عامله .
واختلف النحاة : هل هو مصدر لفعل ثلاثي ، أم لفعل رباعي ، فجاء على حذف الزوائد .
فذهب الفارسي والزجاج إلى أنه مصدر « أسْحَقهُ اللَّهُ » أي : أبعده .
قال الفارسي : فكان القياس إسحاقاً ، فجاء المصدر على الحذف ، كقوله : [ الوافر ]
4799 - . ... وإنْ يَهْلِكْ فذلِكَ كانَ قَدْرِي
أي : تقديري .
والظاهر أن لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه سمع « سَحَقَهُ اللَّهُ » ثلاثياً؛ ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
4800 - يَجُولُ بأطْرَافِ البِلادِ مُغَرِّباً ... وتَسْحَقُهُ ريحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ
والذي يظهر أن الزجاج والفارسي إنما قالا ذلك فيمن يقول من العرب : أسحقه الله سحقاً .
وقرأ العامة : بضم وسكون .
والكسائي وآخرون : بضمتين .
وهما لغتان ، والأحسن أن يكون المثقل أصلاً للمخفف ، و « لأصْحابِ » بيان ك { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، وسقياً لَكَ .
وقال مكيٌّ : « والرفع يجوز في الكلام على الابتداء » .
أي : لو قيل : « فسحق » جاز ، لا على أنه تلاوة ، بل من حيث الصناعة ، إلاَّ أن ابن عطية قال ما يضعفه ، فإنه قال : « فسحقاً ، نصباً على جهة الدعاء عليهم ، وجاز ذلك فيه وهو من قبل الله - تعالى - من حيث إن هذا القول فيهم مستقر أزلاً ، ووجوده لم يقع ولا يقع إلا في الآخرة ، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى فيه كما تقول : سُحْقاً لزيد ، وبُعْداً له ، والنصب في هذا كله بإضمار فعل ، فأما ما وقع وثبت ، فالوجه الرفع ، كما قال تعالى { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ المطففين : 1 ] و { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] ، وغير هذا من الأمثلة » ، انتهى .
فضعف الرفع كما ترى؛ لأنه لم يقع ، بل هو متوقع في الآخرة .
فصل
قال المفسِّرون : { فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير } ، أي : فَبُعْداً لهم من رحمة الله .
وقال سعيد بن جبير ، وأبو صالح : هو واد في جهنَّم يقال له : السحق .
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
قوله : { إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } ، نظيره : { مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب } [ ق : 33 ] وقد مضى الكلام فيه . أي : يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو « بالغَيْبِ » وهو عذاب يوم القيامة « ويَخْشَوْنَهُ » في دار التكليف ، أي : يتقون جميع المعاصي .
قال ابن الخطيب : وفي الآية دليل على انقطاع وعيد الفساق ، لأن من جاء يوم القيامة مع هذه الخشية بفسق ، فله الأمران ، وانقطاع الثَّواب بالعقاب باطلٌ بالإجماع ، فتعين العكس .
{ لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وهو الجنَّة .
قوله : { لَهْم مَّغْفِرَةٌ } الأحسن أن يكون الخَبَرَ « لَهُمْ » و « مَغْفرةٌ » فاعل به ، لأن الخبر المفرد أصل ، والجار من قبيل المفردات ، أو أقرب إليها .
قوله : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ } .
اللفظ لفظ الأمر ، والمراد به الخبر ، يعني : إن أخفيتم كلامكم في أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم أو جهرتم به ، فإن اللَّه عليم بذات الصُّدور ، يعني بما في القلوب من الخير والشر .
قال ابن عباس : نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبيّّّّّ صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض : أسِرُّوا قولكم كي لا يسمع ربُّ محمدٍ ، فنزلت : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ } يعني وأسروا قولكم في أمر محمد .
وقيل : إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال ، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد ، فالحال واحدة في علمه تعالى بها ، فاحذروا من المعاصي سرًّا كما تحترزون عنها جَهْراً ، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم اللَّهِ تعالى : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } . ما فيها كما يسمى ولد المرأة جنيناً في بطنها .
قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } . في « مَنْ خَلَقَ » وجهان :
أحدهما : أنه فاعل « يَعْلَمُ » والمفعول محذوف ، تقديره : ألا يعلم الخالق خلقه ، وهذا هو الذي عليه جمهور الناسِ ، وبه بدأ الزمخشريُّ .
والثاني : أن الفاعل مضمر يعود على الباري تعالى ، و « مَنْ » مفعول به ، أي : لا يعلم الله من خلقه .
قال أبو حيَّان : والظَّاهر أن « مَنْ » مفعول ، والمعنى أينتفي علمه بمن خلقه ، وهو الذي لطف علمه ودقّ ، ثم قال : وأجاز بعض النحويين أن يكون « مَنْ » فاعلاً والمفعول محذوف ، كأنه قال : ألا يعلم الخالق سرَّكُم ، وجهركُم ، وهو استفهام معناه الإنكار .
قال شهاب الدينِ : « وهَذَا الوجهُ الذي جعله هو الظاهر يعزيه الناس لأهل الزَّيْغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى ، وقد أطنب مكي في ذلك ، وأنكر على القائل به ، ونسبه إلى ما ذكرت ، فقال : وقد قال بعض أهل الزيغِ : إن » مَنْ « في موضع نصب اسم للمسرين والمجاهرين ليخرج الكلام عن عمومه ، ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى ، ولو كان كما زعم لقال : ألا يعلم ما خلق؛ لأنه إنما يقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع ما ، ولو أتت » مَا « في موضع » مَنْ « لكان فيه أيضاً بيان العموم أن اللَّه خالق كل شيء من أقوال الخلق وأفعالهم أسروها ، أو أظهروها خيراً كانت ، أو شراً ، ويقوي ذلك { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ولم يقل : عليم بالمسرين والجاهرين ، ويكون » مَا « في موضع نصبٍ ، وإنما تخرج الآية من هذا العموم إذا جعلت » ما « في موضع نصب اسماً للأناسِ المخاطبين قبل هذه الآيةِ ، وقوله : { بِذَاتِ الصدور } يمنع من ذلك » انتهى .
قال شهاب الدين : ولا أدري كيف يلزم ما قاله مكي بالإعراب الذي ذكره ، والمعنى الذي أبداه ، وقد قال بهذا القول أعني الإعراب الثاني جماعة من المحققين ، ولم يبالوا بما ذكره لعدم إفهام الآية إياه .
قال الزمخشريُّ بعد كلام ذكره : ثم أنكر أن يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر « مَنْ خَلَقَ » الأشياء ، وحاله أنه اللطيف الخبير المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ، ويجوز أن يكون « مَنْ خَلقَ » منصوباً بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ، ثم قال : فإن قلت : قدرت في « ألاَ يَعْلَمُ » مفعولاً على معنى ألا يعلم ذلك المذكور ما أضمر في القلب ، وأظهر باللسان من خلق ، فهلاَّ جعلته مثل قولهم : هو يعطي ويمنع؟ وهلا كان المعنى : ألا يكون عالماً من هو خالق؛ لأن الخلق لا يصلحُ إلا مع العلم؟ قلت : أبت ذلك الحال التي هي قوله : { وَهُوَ اللطيف الخبير } لأنك لو قلت : ألا يكون عالماً من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحاً؛ لأن « ألاَ يَعْلَمُ » معتمد على الحال ، والشيء لا يوقف بنفسه ، فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء .
فصل في معنى الآية
معنى الآية : ألا يعلم السّر من خلق السر ، يقول : أنا خلقت السر في القلب ، أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد؟ .
قال أهل المعاني : إن شئت جعلته من أسماء الخالق - عزَّ وجلَّ - ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه ، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق ، والمعنى : ألا يعلم الله من خلق ، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بمن خلقه ، وما يخلقه .
قال ابن المسيِّب : بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير ، وقد عصفت الريحُ ، فوقع في نفس الرجل ، أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } ؟ .
وقال أبو إسحاق الإسفراييني : من أسماء صفات الذَّات ما هو للعلم ، منها « العَلِيمُ » ، ومعناه : تعميم جميع المعلومات ، ومنها « الخَبِيرُ » ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ومنها « الحَكِيمُ » ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف ، ومنها « الشَّهِيدُ » ، ويختص بأن يعلم الغائِب والحاضر ، ومعناه : ألاَّ يغيب عنه شيء ، ومنها « الحافظ » ويختص بأنه لا ينسى شيئاً ، ومنها « المُحصِي » ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور ، واشتداد الريح ، وتساقط الأوراق ، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة ، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق؟ وقد قال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } .
فصل
لما قال تعالى : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ذكر الدليل على أنه عالم ، فقال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } الآية ، والمعنى : أن من خلق لا بُدَّ وأن يكون عالماً بما يخلقه ، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد ، والقاصد إلى الشيء ، لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية .
قال ابن الخطيب : فنقول : لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها ، وهو غير عالم لأن التفاوت بين الحركةِ السريعةِ ، والبطيئة إنما هو لتحلُّل السَّكناتِ ، فالفاعل للحركة البطيئةِ قد يفعل حركة ، وسكوناً ، ولم يخطر بباله ذلك فَضْلاً عن كميته ، ولأن المتحرك لا يعرف عدد أجزاء الحركات إلاَّ إذا عرف عدد الأحياز التي هي بين مبدأ المسافة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بالجواهر المفردة التي تنتقل في تلك المسافة وعددها ، وذلك غير معلومٍ ، ولأنَّ النائم يتحرك مع عدم علمه؛ ولأن قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } إنما يتصل بما قبله لو كان خالقاً لكل ما يفعلونه سرًّا وجهراً ، وبما في الصدور .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجساد؟ .
فالجواب : أنه لا يجوز أن يكون المراد أن من فعل شيئاً يكون عالماً بشيء آخر .
قوله : { وَهُوَ اللطيف الخبير } .
قيل : اللطيف : العالم .
وقيل : هو فاعل الأشياء اللطيفة التي يخفى علمها على أكثر الفاعلين ، ولهذا يقال : إن لُطْف الله تعالى بعباده عجيب ، والمراد به دقائق تدبيره لهم ، وهذا أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعد تكراراً .
قوله : { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } لما بين الدليل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً : يا فلانُ أنا أعلم سرك وعلانيتك ، فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك ، وكل هذا الخير الذي هيأته لك ، ولا تأمن تأديبي ، فكأنه تعالى يقول : يا أيها الكُفَّار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم ، فخافوني؛ فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم ، ولو شئت خسفت بكم .
والذَّلُولُ : المنقاد الذي يذلّ لك ، والمصدر الذل وهو اللين والانقياد ، أي : لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة .
وقيل : يثبتها بالجبالِ لئلا تزول بأهلها ، ولو كانت تتكفأ متمايلة لما كانت منقادة لنا .
وقيل : إشارة إلى التمكن من الزرعِ ، والغرس ، وشق العيون ، والأنهار ، وحفر الآبار ، وبناء الأبنية ، ولو كانت صلبة لتعذر ذلك .
وقيل : لو كانت مثل الذَّهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف ، وكانت تبرد جداً في الشتاء .
قوله : { فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا } . هذه استعارة حسنة جداً .
وقال الزمخشري : مثل لفرط التذليل ، ومجاوزته الغاية؛ لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير ، وأنهاه عن أن يطأه الراكب بقدمه ، ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك .
فصل في هذا الأمر
هذا أمر إباحة ، وفيه إظهار الامتنان .
وقيل : هو خبر بلفظ الأمر ، أي : لكي تمشوا في أطرافها ، ونواحيها ، وآكامها وجبالها .
وقال ابنُ عبَّاسٍ وقتادة وبشير بن كعب : « فِي منَاكبِهَا » في جبالها .
وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها : إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة . فقالت : مناكبها : جبالها ، فصارت حُرَّة ، فأراد أن يتزوجها ، فسأل أبا الدرداء ، فقال : « دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ » .
وقال مجاهد : في أطرافها ، وعنه أيضاً : في طرفها وفجاجها ، وهو قول السديِّ والحسن .
وقال الكلبيُّ : في جوانبها . ومنكبا الرجل : جانباه ، وأصل الكلمة : الجانب ، ومنه منكب الرجل والريح النكباء ، وتنكب فلان عن فلان .
يقول : امشُوا حيث أردتم ، فقد جعلتها لكم ذلولاً لا تمتنع .
وحكى قتادةُ عن أبي الجلد : أن الأرض من أربعة وعشرون ألف فرسخ ، فللسودان اثنا عشر ألفاً ، وللروم ثمانية آلافٍ ، وللفرس ثلاثة آلافٍ ، وللعرب ألفٌ .
قوله : { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } .
قال الحسن : ما أحله لكم .
وقيل : مما أنبته لكم .
وقيل : مما خلقه اللَّه لكم رزقاً من الأرض « وإليْهِ النُّشورُ » المرجع .
وقيل : معناه أن الذي خلق السماوات ولا تفاوت فيها ، والأرض ذلولاً قادر على أن ينشركم ، وإليه تبعثون من قبوركم .
قوله : { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء } .
تقدم اختلاف القراء في الهمزتين المفتوحتين نحو { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] تخفيفاً وتحقيقاً وإدخال ألف بينهما وعدمه في سورة « البقرة » .
وأن قنبلاً يقرأ هنا : بإبدال الهمزة الأولى واواً في الوصل « وإليْهِ النشورُ وأمنتُمْ » ، وهو على أصله من تسهيل الثانية بين بين ، وعدم ألف بينهما ، وأما إذا ابتدأ ، فيحقق الأولى ، ويسهل الثانية بين بين على ما تقدم ، ولم تبدل الأولى واواً ، لزوال موجبه وهو انضمام ما قبلها ، وهي مفتوحة نحو « مُوجِل ، ويُؤاخِذكُم » ، وقد مضى في سورة « الأعراف » عند قوله تعالى : { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ } [ الأعراف : 123 ] ، وإنما عددناه تذكيراً ، وبياناً .
قوله : { مَّن فِي السمآء } . مفعول « أأمِنْتُمْ » وفي الكلام حذف مضاف ، أي : أمنتم خالق السماوات .
وقيل : « فِي » بمعنى « على » ، أي : على السماء ، كقوله :
{ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] ، أي : على جذوع النخل .
وإنما احتاج القائل بهذين إلى ذلك؛ لأنه اعتقد أن « مَنْ » واقعة على الباري ، وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيّز لئلا يلزم التجسيم ، ولا حاجة إلى ذلك؛ فإن « مَنْ » هنا المراد بها : الملائكة سكان السماءِ ، وهم الذين يتولّون الرحمة والنقمة .
وقيل : خوطبوا بذلك على اعتقادهم؛ فإن القوم كانوا مجسمة مشبِّهة ، والذي تقدم أحسن .
قال ابن الخطيب : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين؛ لأن ذلك يقتضي إحاطة السَّماءِ به من جميع الجوانب ، فيكونُ أصغر منها ، والعرش أكبر من السماء بكثير ، فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش ، وهو باطل بالاتفاق ، ولأنه قال : { قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض } [ الأنعام : 12 ] فلو كان فيهما لكان مالكاً لنفسه ، فالمعنى : إما من في السموات عذابه ، وإما أن ذلك ما كانت العرب تعتقد ، وإما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض } [ الأنعام : 3 ] فإنَّ الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين ، والغرض من ذكر السَّماءِ تفخيم سلطان الله ، وتعظيم قدرته ، والمراد الملك الموكل بالعذاب ، وهو جبريلُ يخسفها بإذن الله .
قوله : { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض } و { أَن يُرْسِلَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنهما بدلان من { مَنْ فِي السماء } بدل اشتمال ، أي : أمنتم خسفه ، وإرساله .
قاله أبو البقاء .
والثاني : أن يكون على حذف « مِنْ » ، أي : أمنتم من الخسف والإرسال ، والأول أظهر .
فصل
قال القرطبيُّ : ويحتمل أن يكون المعنى : أمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون { فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أي : تذهب وتجيء ، والمور : الاضطراب بالذهاب والمجيء . قال الشاعر : [ الطويل ]
4801 - رَمَيْنَ فأقْصَدْنَ القُلُوبَ ولَنْ تَرَى ... دَماً مَائِراً إلاَّ جرى في الحيَازِمِ
جمع « حيزوم » وهو وسط الصدر .
وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض ، فهو المور .
قال ابن الخطيب : إن الله - تعالى - يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك ، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها ، فيذهبون والأرض فوقهم تمُور ، فتقلبهم إلى أسفل السافلين .
قال القرطبي : قال المحققُون : أمنتم من فوق السَّماء ، كقوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض } [ التوبة : 2 ] أي : فوقها لا بالمماسة والتحيُّز ، لكن بالقهر والتدبير .
وقيل : معناه : أمنتم من على السماء كقوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] ، أي : عليها ، ومعناه أنه مدبرها ، ومالكها كما يقال : فلان على « العراق » ، أي : وليها وأميرها ، والأخبار في هذا صحيحة ، وكثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ ، لا يدفعها إلا ملحد ، أو جاهل أو معاند ، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ، ووصفه بالعلو والعظمة ، لا بالأماكن والجهات والحدود؛ لأنها صفات الأجسامِ ، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء؛ لأن السماء مهبط الوحْي ، ومنزل القطر ، ومحل القدس ، ومعدن المطهرين من الملائكة ، وإليها ترفع أعمال العباد ، وفوقها عرشه وجنته كما جعل اللَّهُ الكعبة قبلة للصلاة ، فإنه خلق الملائكة وهو غير محتاجٍ إليها ، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ، ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان .
قوله { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } .
قال ابن عباس : أي : حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل .
وقيل : ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء ، لشدتها وقوتها .
وقيل : سحاب فيه حجارة .
قوله { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } .
قيل : هاهنا النذير : المنذر ، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك ، والمعنى : فستعلمون رسولي ، وصدقه ولكن حين لا ينفعكم ذلك .
وقيل : إنه بمعنى الإنذار ، والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول ، وكيف في قوله { كَيْفَ نَذِيرِ } [ ينبىء ] عن ما ذكرنا من صدق الرسول ، وعقوبة الإنذار .
وقد تقدم أن « نَذِير ، ونكير » مصدران بمعنى الإنذار؛ والإنكار .
وأثبت ورش ياء « نذيري » وقفاً ، وحذفها وصلاً ، وحذفها الباقون في الحالين .
قوله : { وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } . يعني كفار الأمم كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وغيرهم { فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } أي : إنكاري وتغييري : قاله الواحديُّ .
وقال أبو مسلم : النكير عقاب المنكر ، ثم قال : سقطت الياء من « نَذيرِي » ومن « نَكيرِي » حتى تشابه رءوس الآي المتقدمة عليها ، والمتأخرة عنها .
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ } .
لما ذكر ما تقدم من الوعيد ذكر البرهان على كمال قدرته ، وعلى إيصال جميع أنواع العذاب إليهم ، ومعناه كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور ، وصافاتٍ : أي : باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن .
قال شهاب الدين : « صافَّاتٍ » يجوز أن يكون حالاً من « الطَّير » ، وأن يكون حالاً من « فَوقَهُمْ » إذا جعلناه حالاً ، فتكون متداخلة ، و « فَوقَهُمْ » ظرف ل « صافَّاتٍ » أو ل « يَرَوا » .
قوله : « ويَقْبِضْنَ » عطف الفعل على الاسم؛ لأنه بمعناه ، أي : وقابضات ، فالفعل هنا مؤول بالاسم عكس قوله : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقد تقدم الاعتراض على ذلك .
وقول أبي البقاء : معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى ، أي : يصففن ويقبضن ، أي « صافَّاتٍ وقَابضاتٍ » لا حاجة إلى تقديره : يصففن ويقبضن؛ لأن الموضع للاسم فلا نؤوله بالفعل .
قال أبو حيان : « وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه ، ومثله قوله تعالى : { فالمغيرات صُبْحاً فَأَثَرْنَ } [ العاديات : 3 - 4 ] ، ومثل هذا العطف فصيحٌ وكذا عكسه إلاَّ عند السُّهيلي؛ فإنه قبيح؛ نحو قوله : [ الرجز ]
4802 - بَاتَ يُغشِّيهَا بعَضْبٍ بَاتِر ... يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وجَائرِ
أي : قاصد في أسواقها وجائر » .
وكذا قال القرطبيُّ : هو معطوف على « صافَّاتٍ » عطف المضارع على اسم الفاعل كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر : « بَاتَ يُغشِّيها » البيت .
قال شهاب الدين : هو مثله في عطف الفعل على اسم الفاعل إلا أن الاسم فيه مؤولٌ بالفعل عكس هذه الآية ، ومفعول « يقبِضنَ » محذوف ، أي : ويقبضن أجنحتهن .
قاله أبو البقاء ، ولم يقدر ل « صَافَّاتٍ » مفعولاً كأنه زعم أن الاصطفاف في أنفسها ، والظاهر أن المعنى : صافات أجنحتها وقابضات ، فالصف والقبض منها لأجنحتها .
ولذلك قال الزمخشري : « صافَّاتٍ » باسطات أجنحتهن ، ثم قال : فإن قلت : لم قال : ويقبضن ، ولم يقل : « قابضات »؟ .
قلت : لأن الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء ، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها ، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك ، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ، يكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح .
قوله « مَا يُمسِكُهُنَّ » . يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، وأن تكون حالاً من الضمير في « يَقْبِضنَ » قاله أبو البقاء . والأول أظهر .
وقرأ الزهريُّ : بتشديد السِّين .
فصل في معنى : يقبضن
قوله : « ويَقْبِضْنَ » .
أي : يضربن بها لجنوبهن .
قال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحية : صاف ، وإذا ضمها فأصاب جنبه قابض ، لأنه يقبضهما .
قال أبو خراش الشاعر : [ الطويل ]
4803 - يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فهو مُوائِلٌ ... يَحُثُّ الجَناحَ بالتَّبسُّطِ والقبْضِ
وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران .
وقوله « ما يُمسِكُهنَّ » أي : ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } .
قال ابن الخطيب : وفيه وجهان :
الأول : المراد من « البصير » كونه عالماً بالأشياء الدقيقة ، كما يقال : فلان له بصر في هذا الأمر ، أي : حذق .
والثاني : أن يجري اللفظ على ظاهره ، فتقول : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } فيكون رائياً لنفسه ، ولجميع الموجودات وهذا الذي يقوله أصحابنا : إنه تعالى شيء يصح أن يكون مرئياً ، وأن كل الموجودات كذلك ، فإن قيل : البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم ، يقال : فلان بصير بكذا إذا كان عالماً قلنا : لا نسلم ، فإنه يقال : إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات .
فصل
في قوله تعالى { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن } دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى ، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري له ، وقد نسبه للرحمن .
قوله : { أَمَّنْ هذا الذي } .
قرأ العامة : بتشديد الميم على إدغام ميم « أمْ » في ميم « مَنْ » و « أمْ » بمعنى « بَلْ » لأن بعدها اسم استفهام ، وهو مبتدأ ، خبره اسم الإشارة .
وقرأ طلحة : بتخفيف الأول وتثقيل الثاني .
قال أبو الفضل : معناه : أهذا الذي هو جند لكم ، أم الذي يرزقكم . و « يَنْصُركُمْ » صفة لجند .
فصل في لفظ جند
قال ابن عباس : « جُندٌ لَكُمْ » أي : حزب ومنعه لكم { يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن } ، فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه . ولفظ الجند يوحد ، ولهذا قال : هذا الذي هو جند لكم ، وهو استفهام إنكاري ، أي لا جند لكم يدفع عذاب الله من دون الرحمن ، أي : من سوى الرحمن { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ } من الشيطان يغرهم بأن لا عذاب ، ولا حساب .
قال بعض المفسرين : كان الكفار يمتنعون عن الإيمان ، ويعاندون الرسول - عليه الصلاة والسلام - معتمدين على شيئين :
أحدهما : قوتهم بعددهم ومالهم .
والثاني : اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات ، وتدفع عنهم جميع الآفات فأبطل الله عليهم الأول بقوله { أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ } الآية ، ورد عليهم الثاني بقوله : { أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ } الآية .
قوله { إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } شرط ، جوابه محذوف للدلالة عليه ، أي : أفمن يرزقكم غيره .
وقدّر الزمخشريٌّ شرطاً بعد قوله : { أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ } تقديره : « إن أرسل عليكم عذابه » ولا حاجة له صناعة .
فصل في معنى الآية
المعنى { أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُم } أي : يعطيكم منافع الدنيا .
وقيل : من آلهتكم « إنْ أمسَكَ » يعني الله تعالى رزقه وهذا مما لا ينكره ذو عقل ، وهو أنه تعالى إن أمسك أسباب الرزق كالمطر ، والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى : { بَل لَّجُّواْ } ، أي : تمادوا وأصروا « فِي عُتُوٍّ » طغيان « ونُفورٍ » عن الحق ، أو تباعد أو إعراض عن الحق .
قوله : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى } . « مُكِبًّا » حال من فاعل « يمشي » .
قال الواحديُّ : « أكب » ، مطاوع كبه ، يقال : كببته فأكب .
قال الزمخشريُّ : هو من الغرائب والشواذ ، ونحوه قشعت الريح السحاب فأقشع ، وما هو كذلك ولا شيء من بناء « أفعل » مطاوع ، بل قولك : أكب ، من باب « أنفض ، وألأم » ومعناه : دخل في الكب ، وصار ذا كب وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع .
ومطاوع « كب ، وقشع » انكب وانقشع .
قال أبو حيان : « ومُكِباً » حال من « أكب » وهو لا يتعدى ، و « كب » متعد ، قال تعالى { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } [ النمل : 90 ] والهمزة فيه للدخول في الشيء ، أو للصيرورة ، ومطاوع كب انكب ، تقول : كببته فانكب . قال الزمخشريُّ : « ولا شيء من بناء » أفعل « مطاوعاً ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه » انتهى .
وهذا الرجل يتبجح بكتاب سيبويه ، وكم من نص في كتاب سيبويه عمي بصره وبصيرته عنه حتى إن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلط الزمخشري فيه ، وما جهله من كتاب سيبويه . انتهى .
قال شهاب الدين : انظر إلى هذا الرجل كيف أخذ كلام الزمخشري الذي أسلفته عنه طرز به عبارته حرفاً بحرف ثم أخذ ينحي عليه بإساءة الأدب جزاء ما لقنه تلك الكلمات الرائقة ، وجعل يقول : إن مطاوع « كَبَّ » « انكب » لا « أكب » وأن الهمزة للصيرورة ، أو للدخول في الشيء ، وبالله لو بقي دهره غير ملقن إياها لما قالها أبداً ، ثم أخذ يذكر عن إنسان مع أبي القاسم كالسُّها مع القمر أنه غلطه في نصوص من كتاب سيبويه ، والله أعلم بصحتها : [ الوافر ]
4804 - وكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً ... وآفتُهُ من الفَهْمِ السَّقيم
وعلى تقدير التسليم ، فالفاضل من عدت سقطاته .
قال القرطبيُّ : يقال : أكب الرجل على وجهه فيما لا يتعدى بالألف ، فإذا تعدى قيل : كبه الله على وجهه بغير ألف ، وقوله : « أفَمنْ يَمْشي » هو المعادل ل { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً } .
وقال أبو البقاء : « وأهْدَى » خبر « مَنْ يَمِشِي » وخبر « من » الثانية محذوف .
يعني أن الأصل : أم من يمشي سوياً أهدى ، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن قولك : أزيد قائم ، أم عمرو لا يحتاج فيه من حيث الصناعة إلى حذف الخبر ، نقول : هو معطوف على « زيد » عطف المفردات ، ووحد الخبر لأن « أمْ » لأحد الشيئين .
فصل
قال المفسرون : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً } منكساً رأسه لا ينظر أمامه ، ولا يمينه ، ولا شماله ، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه { كَمنْ يَمْشي سويّاً } مُعتدِلاً ناظراً ما بين يديه ، وعن يمينه وعن شماله .
قال ابن عباسٍ : هذا في الدنيا ، ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى طريق ، فلا يزال ينكسه على وجهه ، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدي له .
قال قتادةُ : هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا ، يحشره الله يوم القيامة على وجهه .
وقال ابن عباس والكلبيُّ : عنى بالذي يمشي على وجهه أبا جهل ، وبالذي يمشي سوياً رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : أبو بكر .
وقيل : حمزة .
وقيل : عمار بن ياسر .
قال عكرمة : وقيل : هو عام في الكافر والمؤمن ، أي : إن الكافر لا يدري أعلى حق هو ، أم على باطل ، أي : هذا الكافر أهدى ، أم المسلم الذي يمشي سوياً معتدلاً يبصر الطريق ، وهو على صراطٍ مستقيمٍ وهو الإسلام .
قوله { قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ } . أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم أن الله خلقهم { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } يعني القلوب .
قوله « قَلِيلاً » . نعت مصدر محذوف ، أو حال من ضمير المصدر كما هو رأي سيبويه و « ما » مزيدة أي : تشكرون قليلاً ، والجملة من « تَشْكُرون » إما مستأنفة ، وهو الظاهر ، وإما حال مقدرة؛ لأنهم حال الجعل غير شاكرين .
والمراد بالقلة العدم ، أو حقيقتها ، أي : لا تشكرون هذه النعم ، ولا توحدون الله تعالى ، تقول : قلَّما أفعلُ كذا ، أي : لا أفعله .
قال ابن الخطيب : وذكر السمع والبصر والفؤاد هاهنا تنبيهاً على دقيقه لطيفة ، كأنه تعالى قال : أعطيتم هذه الأعضاء الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة ، فضيعتموها ولم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه ، فكأنكم ضيعتم هذه النعم ، وأفسدتم هذه المواهب ، فلهذا قال : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } .
قوله : { قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
قال ابن الخطيب : اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانِ أولاً ، ثم بصفات الإنسانِ ثانياً ، وهي السمع والبصر والعقل ، ثم بحدوث ذاته ثالثاً ، وهو قوله { قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض } واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر ليثبت ما ادعاه في قوله { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ولهذا ختم الآية بقوله { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } لأنه لما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة ، فلهذا ختمها بقوله { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
فصل في معنى « ذرأكم »
قال ابن عباسٍ : خلقكم في الأرض .
وقال ابن بحر : نشركم فيها ، وفرقكم فيها على ظهرها { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فيجازي كلاًّ بعمله .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، أي : متى يوم القيامة ومتى هذا العذابُ الذي تعدوننا به؟ .
قال أبو مسلم : إنه تعالى قال : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } بلفظ المستقبلِ ، وهذا يحتمل ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل ، ويحتمل الماضي ، والتقدير : وكانوا يقولون : متى هذا الوعد ، ولعلهم كانوا يقولون ذلك سخرية ، واستهزاء ، وكانوا يقولونه إيهاماً للضعفة ، ثم إنه تعالى أجاب عن هذا السؤالِ ، فقال { إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله } ، أي : قل لهم يا محمد : علم وقت قيام الساعة عند الله فلا يعلمه غيره ، نظيره : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي } [ الأعراف : 187 ] الآية { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : مخوف ومعلم لكم ، ثم إنه تعالى بين حالهم عند ذلك الوعد وهو قوله : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } ، أي : الموعود ، أو العذاب زلفة ، أي : قريباً ، فهو حال .
وقال القرطبيُّ : « مصدر ، بمعنى مزدلفاً ، أي : قريباً ، قاله مجاهد » .
ولا بد من حذف مضاف ، أي : ذا زلفة ، وجعل الزلفة مبالغة .
وقيل : « زُلْفَة » تقديره : مكاناً ذا زلفةٍ ، فينتصب انتصاب المصدرِ .
فصل في المراد بالعذاب .
قال الحسنُ : عياناً . وأكثر المفسرين على أن المراد عذابُ الآخرةِ .
وقال مجاهدٌ : عذاب يوم بدر .
وقيل : رأوا ما يوعدون من الحشر قريباً منهم ، لقوله { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
وقال ابن عباس : يعني علمهم الشيء قريباً .
قوله : « سِيئَتْ » ، الأصل : « ساء » أحزن وجوههم العذاب ، ورؤيته ، ثم بني للمفعول ، وساء هنا ليست المرادفة ل « بئس » كما تقدم مراراً .
وأشم كسرة السين الضم : نافع وابن عامر والكسائي ، كما فعلوا ذلك في { سياء بِهِمْ } [ هود : 87 ] في « هود » كما تقدم . والباقون : بإخلاص الكسر ، وتقدم تحقيق هذا وتصريفه في أول « البقرة » ، وأن فيه لغات عند قوله { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } [ البقرة : 11 ] .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس : « سِيْئَتْ » أي : اسودت وعليها الكآبة والغبرة .
يقال : ساء الشيءُ يسوء ، فهو مسيء إذا قبح ، وساء يساء إذا قبح ، وهو فعل لازم ومتعدّ ومعنى { سِيئَتْ وُجُوهُ } ، أي : قبحت ، بان عليها الكآبةُ ، وغشيها الكسوفُ والقترة وكلحوا .
قال الزجاج : تبين فيها السوء ، أي : ساءهم ذلك العذاب وظهر على وجوههم سمة تدل على كفرهم ، كقوله تعالى { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] .
قوله : { وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } ، أي : قال لهم الخزنة .
قال الفراء : « تفتعلون » من الدعاء . وهو قول أكثر العلماءِ ، أي : تتمنون ، وتسألون .
وقال ابن عباس : تكذبون ، وتأويله : هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأحاديث قاله الزجاج .
وقرأ العامة : بتشديد الدال مفتوحة .
فقيل : من الدعوى ، أي : تدعون أنه لا جنة ولا نار ، قاله الحسنُ .
وقيل : من الدعاء ، أي : تطلبونه وتستعجلونه .
وقرأ الحسنُ وقتادةُ وأبو رجاء والضحاك ، ويعقوب وأبو زيد وأبو بكر وابن أبي عبلة ونافع في رواية الأصمعي : بسكون الدالِ ، وهي مؤيدة للقول بأنها من الدعاء في قراءة العامة .
وقال قتادة : هو قولهم : { رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } [ ص : 16 ] .
وقال الضحاك : هو قولهم : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية .
وقال النحاس : تدَّعون ، وتدْعون ، بمعنى واحد ، كما يقال : قدر واقتدر ، وعدى واعتدى إلا أن في « افتعل » معنى شيء بعد شيء ، و « فَعَل » يصح للقيل والكثير .
قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله } . أي : قل لهم يا محمد ، يعني مشركي مكة وكانوا يتمنون موت محمد صلى الله عليه وسلم كما قال : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } [ الطور : 30 ] أرأيتم إن متنا ، أو رحمنا ، فأخرت آجالنا ، يعني أنا ومن معي من المؤمنين فمن يجيركم من عذاب الله؟ فلا حاجة لكم إلى التربص بنا ولا إلى استعجال قيام الساعة .
وأسكن الياء في « أهْلَكَنِي » ابن محيصن والمسيبي وشيبة والأعمش وحمزة وفتحها الباقون .
وكلهم فتح الياء في « ومَنْ مَعِيَ » إلا أهل الكوفة فإنهم سكنوها ، وفتحها حفص ، كالجماعة .
قوله : { قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } . قد تقدم لِمَ أخر متعلق الإيمان وقدم متعلق التوكل ، وأن التقديم يفيد الاختصاص .
قال القرطبيُّ : إنما قدم لوقوع « آمَنَّا » تعريضاً بالكافرين ، حين ورد عقب ذكرهم ، كأنه قيل : آمنا ولم نكفر كما كفرتم ، ثم قال : « وعَليْهِ تَوكَّلْنَا » خصوصاً لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم ، قاله الزمخشري .
وقرأ الكسائي : « فَسَيْعلمُونَ » بياء الغيبة نظراً إلى قوله « الكَافِرينَ » .
والباقون : على الخطاب ، إما على الوعيد وإما على الالتفات من الغيبة المرادة في قراءة الكسائي وهو تهديد لهم ، أي : فستعملون عند معاينة العذاب من الضال نحن ، أم أنتم .
قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } يا معشر قريش { إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } أي : غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء ، و « غَوْراً » خبر « أصْبَحَ » ، وجوز أبو البقاء : أن يكون حالاً على تمام « أصْبَحَ » ، لكنه استبعده .
وحكى أنه قرىء : « غُؤُوراً » - بضم الغين ، وهمزة مضمومة ، ثم واو ساكنة - على « فعول » وجعل الهمزة منقلبة عن واو مضمومة .
فصل في المراد بالماء
كان ماؤهم من بئرين : بئر زمزم وبئر ميمون { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } أي : جارٍ ، قاله قتادة والضحاك .
فلا بد لهم أن يقولوا : لا يأتينا به إلا الله تعالى ، فقل لهم : فلم تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم به .
يقال : غار الماء يغور غوراً : نضب ، والغور : الغائر ، وصف بالمصدر للمبالغة كما تقول : رجلٌ عدلٌ ، ورضى .
كما تقدم في سورة الكهف .
قال ابن عباسٍ : « بِماءٍ مَعينٍ » أي : ظاهر تراه العيون ، فهو مفعول .
وقيل : هو من معن الماءُ ، أي : كثر ، فهو على هذا « فَعِيل » .
وعن ابن عباس أيضاً : « فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ عذبٍ » .
روى أبو هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ سُورةً مِنْ كتابِ اللَّهِ ما هِيَ إلاَّ ثلاثُون آيَةً شَفَعتْ لرَجُلٍ فأخْرجتْهُ يَوْمَ القيامةِ مِن النَّارِ وأدْخلتْهُ الجَنَّةَ هِيَ سُورةُ تبَارَكَ » .
وعن عبد الله بن مسعود قال : إذا وضع الميت في قبره يؤت من قبل رجليه فيقال : ليس لكم عليه سبيل لأنه قد كان يقوم بي سورة « المُلْك » ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه : ليس لكم عليه سبيل كان يقرأ بي سورة « المُلك » ، ثم قال : هي المانعة من عذاب الله وهي في التوراة سورة الملك ، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ودِدْتُ أنَّ { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك } في قلبِ كُلِّ مُؤمِنٍ » .
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
قوله تعالى « ن » كقوله { ص والقرآن } [ ص : 1 ] ، وجواب القسم الجملة المنفية بعدها .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هو الحوت الذي على ظهره الأرض ، وهو قول مجاهدٍ ومقاتل والسدي والكلبي .
وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون ، فمارت الأرض فأثبتت بالجبال وإن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عباس : { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ } .
قال الواقديُّ : اسم النون ليوثا .
وقال كعب الأحبار : لوثوثا .
وعن علي : اسمه تلهوت .
وقيل : إنه أقسم بالحوت الذي ابتلع يونس - عليه الصلاة والسلام - .
وقيل : الحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه .
وقال الكلبي ومقاتل : اسم الحوت الذي على ظهر الأرض : البَهْمُوت .
قال الراجز : [ الرجز ]
4805 - مَا لِي أرَاكُمْ كُلَّكُمْ سُكُوتَا ... واللَّهُ ربِّي خَلقَ البَهْمُوتَا
وروى عكرمة عن ابن عباس : أن نون آخر حروف الرحمن .
وقيل : إنه اسم للدواةِ ، وهو أيضاً مروي عن ابن عباس .
قال القرطبيُّ : وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أوّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ القَلمَ ، ثُمَّ خلقَ النُّون ، وهي الدَّواةُ ، وذلك قوله تعالى » ن « والقلم » ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
4806 - إذَا مَا الشَّوْقُ يَبْرَحُ بِي إليْهِمْ ... وألفَى النُّون بالدَّمْعِ السِّجامِ
ويكون على هذا قسماً بالدواة والقلم ، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابةِ . فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق ، وتارة بالكتابة .
وقيل : النون لوح من نون تكتب فيه الملائكةُ ما يؤمرون به ، رواه معاوية بن قرة مرفوعاً .
وقيل : النون هو المداد الذي تكتب به الملائكة .
وقال عطاء وأبو العالية : هو افتتاح اسمه تعالى ناصر ونور ونصير ، وقال محمد بن كعب : أقسم الله - تعالى - بنصره للمؤمنين .
وقال جعفر الصادق : هو نهر من أنهار الجنَّة يقال له : نون .
وقيل : هو الحرف المعروف من حروف المعجم ، قاله القشيري .
قال : لأنه حرف لم يعرب فلو كان كلمة تامة أعرب به القلمُ ، فهو إذن حرف هجاء ، كما في أوائل السور .
قال الزمخشريُّ : « وأما قولهم : هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي ، أو شرعي ، ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً ، أو علماً ، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوينُ وإن كان علماً فأين الإعراب؟ وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام؛ لأنك إذا جعلته مقسماً به وجب إن كان جنساً أن تجره وتنونه ، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة ، كأنه قيل : ودواة والقلم ، وإن كان علماً أن تصرفه وتجره أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث ، وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان ، أو يجعل علماً للبهموت الذي يزعمون ، والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنَّة نحو ذلك » .
قال شهاب الدين : « وهذا الذي أورده أبو القاسم من محاسن علم الإعراب ، وقلَّ من يتقنه » .
وقال ابن الخطيب بعد ذكر القول بأنه آخر حروف اسم الرحمن : وهذا ضعيف ، لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية بل الحق هاهنا أنه اسم للسورة ، أو يكون الغرض منه التحدي ، وسائر الوجوه المذكورة في أول سورة البقرة .
فصل في قراءات « ن »
قرأ العامة : « نُونْ » ساكن النون كنظائره .
وأدغم ابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم بلا خلاف ، وورش بخلاف عنه النون في الواو ، وأظهرها الباقون .
قال الفراء : « وإظهارها أعجب إليَّ ، لأنها هجاء ، والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل » ونقل عمن أدغم الغنَّة ، وعدمها .
وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السِّمال وابن أبي إسحاقَ : بكسر النون .
وسعيد بن جبير وعيسى بخلاف عنه : بفتحها .
فالأولى على التقاء الساكنين ، ولا يجوز أن يكون مجروراً على القسم حذف حرف الجر وبقي عمله ، كقولهم « اللَّهِ لأفعلَنَّ » ، لوجهين :
أحدهما : أنه مختص بالجلالة المعظمة نادر فيما عداها .
والثاني : أنه كان ينبغي أن ينون ، ولا يحسن أن يقال : هو ممنوع الصرف اعتباراً بتأنيث السورة ، لأنه كان ينبغي ألاَّ يظهر فيه الجر بالكسر ألبتة .
وأما الفتح ، فيحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بناء ، وأوثر على الأصل للخفة ك « أين وكيف » .
الثاني : أن يكون مجروراً بحرف القسم المقدر على لغة ضعيفة ، وقد تقدم ذلك في قراءة « فالحقّ والحقِّ » [ ص : 84 ] ، بجرّ « الحقّ » ، ومنعت الصرف اعتباراً بالسورة .
والثالث : أن يكون منصوباً بفعل محذوف ، أي : ، اقرأوا نوناً ثم ابتدأ قسماً بقوله : « والقَلمِ » أو يكون منصوباً بعد حذف حرف القسم؛ كقوله : [ الوافر ]
-4807 . ... فَذَاكَ أمَانَةَ اللَّهِ الثَّريدُ
ومنع الصرف لما تقدم ، وهذا أحسن لعطف العلم على محله .
قوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } .
« ما » موصولة ، اسمية أو حرفية ، أي : والذي يسطرونه من الكتب ، وهم الكتَّاب والحفظة من الملائكة وسطرهم .
والضمير عائد على من يسطر لدلالة السياق عليه ولذكر الآلة المكتتب بها .
وقال الزمخشري يجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في « يَسْطُرونَ » لهم .
يعني فيصير كقوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] تقديره : أو كذي ظلمات فالضمير في « يغْشَاه » يعود على « ذي » المحذوف .
فصل في المراد بالقلم
في « القلم » المقسم به قولان :
أحدهما : أن المراد به الجنس ، وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض ، قال تعالى :
{ وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 3 ، 4 ، 5 ] ، ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق كما قال تعالى : { خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان } [ الرحمن : 3 ، 4 ] ، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر .
والثاني : أنه القلم الذي جاء في الخبر ، عن ابن عباسٍ : أول ما خلق الله القلم ثم قال له : اكتب قال : ما أكتب؟ قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عملٍ ، أو أجلٍ ، أو رزقٍ ، أو أثرٍ ، فجرى القلمُ بما هو كائن إلى يوم القيامة ، قال : ثم ختم في القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض .
وروى مجاهد ، قال : أول ما خلق الله القلم ، فقال : اكتب القدر ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه .
قال القاضي : هذا الخبر يجب حمله على المجاز؛ لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة ، ولا يجوز أن يكون حياً عاقلاً فيؤمر وينهى؛ فإن الجمع بين كونه حيواناً مكلفاً وبين كونه آلة للكتابة محال بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله تعالى { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ] فإنه ليس هناك أمر ، ولا تكليف ، وهو مجرد نفاذ القدرةِ في المقدور من غير منازعة ، ولا مدافعة .
وقيل : القلم المذكور هو العقل وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات ، قالوا : والدليل عليه أنه قد روي في الأخبار : أن أول ما خلق الله القلم .
وفي خبر آخر : أول ما خلق الله العقل ، فقال الجبار : ما خلقت خلقاً أعجب إلي منك ، وعزتي وجلالي لأكلمنك فيمن أحببت ولأبغضنك فيمن أبغضت ، قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكمل النَّاسِ عقلاً أطوْعهُمْ للَّهِ وأعْلمُهُمْ بطاعته .
وفي خبر آخر : أول ما خلق الله جوهرة ، فنظر إليها بعين الهيبة فذابت ، وسخنت ، فارتفع منها دخان وزبد ، فخلق من الدخان السموات ، ومن الزبد الأرض .
قالوا : فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد ، وإلا حصل التناقض .
قوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } ، أي : وما يكتبون ، يريد : الملائكة يكتبون أعمال بني آدم .
قال ابن عباس .
وقيل : وما يكتبون الناس ويتفاهمون به .
وقال ابن عباس : معنى { وَمَا يَسْطُرُونَ } وما يعملون .
؟؟؟؟قال ابن الخطيب : { وَمَا يَسْطُرُونَ } مع ما بعدهما في تقدير المصدر فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم ، فيكون القسم واقعاً بنفس الكتابةِ ، ويحتمل أن يكون المرادُ به المسطور والمكتوب ، فإن حمل القلم على كل قلم في مخلوقات الله تعالى ، فكأنه تعالى أقسم بكل قلم ، وبكل ما يكتب بكل قلم وقيل : المرادُ ما يسطرهُ الحفظة الكرام ، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه ، فيكون الضمير في « يَسْطرُونَ » لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ، وسطرهم ، أو مسطوراتهم ، وإن حمل على القلم المعين ، فيحتمل أن يكون المراد بقوله « ومَا يَسْطُرونَ » ، أي : وما يسطرون فيه ، وهو اللوح المحفوظ ولفظ الجمع في قوله « يَسْطُرونَ » ليس المراد منه الجمع بل التعظيم ، ويكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من جميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة .
قوله { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } .
قد تقدم الكلام على نظيره في « الطُّور » في قوله { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ } [ الطور : 29 ] .
إلا أن الزمخشري قال هنا : « فإن قلت : بم تتعلق الباء في » بِنعْمَةِ ربِّك « وما محله؟ قلت : متعلق بمجنون منفياً كما يتعلق بعاقل مثبتاً كقولك : أنت بنعمة ربِّك عاقل ، مستوياً في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك : ضرب زيد عمراً ، وما ضرب زيد عمراً ، فعمل الفعل منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً ، ومحله النصب على الحال كأنه قال : ما أنت مجنوناً منعماً عليك بذلك ، ولم تمنع الباء أن يعمل » مَجْنُون « فيما قبله ، لأنها زائدة لتأكيد النفي » .
قال أبو حيَّان : « وما ذهب إليْهِ الزمخشريُّ ، من أن الباء يتعلق بمجنون ، وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل ، وذلك أنه إذا تسلط النفي في محكوم به ، وذلك له معمول ، ففي ذلك طريقان :
أحدهما : أن النفي يسلط على المعمول فقط .
والآخر : أن يسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه ، ببيان ذلك أن تقول : ما زيد قائم مسرعاً ، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه ، فيكون قد قام غير مسرع ، والوجه الآخر : أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه ، أي : لا قيام ، فلا إسراع ، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري ، بل يؤدي إلى ما لا يجوز النطق به في حق المعصوم » انتهى .
واختار أبو حيان أن يكون « بِنعمَةِ » قسماً معترضاً به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم .
وقال ابن عطية : « بنِعْمةِ ربِّك » اعتراض ، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل ، قال : ولم يبين ما تتعلق به الباء في « بِنعْمَةِ » .
قال شهاب الدين : والذي تتعلق به الباء في هذا النحو معنى مضمون الجملة نفياً وإثباتاً كأنه قيل : انتفى عنك ذلك بحمد الله ، والباء سببية ، وثبت ذلك الفضل بحمد الله تعالى ، وأما المثال الذي ذكره ، فالباء تتعلق فيه بلفظ « فاضل » وقد نحا صاحب « المُنَتخَب » إلى هذا فقال : المعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك .
وقيل : معناه مَا أنْتَ مجنُونٌ والنعمة لربك ، كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي : والحمد لله؛ وقول لبيد : [ الطويل ]
4808 - وأفْرِدْتُ في الدُّنْيَا بفقْدِ عشِيرَتِي ... وفَارقَنِي جارٌ بأربدَ نَافِعُ
أي وهو أربد ، وهذا ليس بتفسير إعراب بل تفسير معنى .
فصل في إعراب الآية
قوله تعالى : { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } . هذا جواب القسم ، وهو نفي .
قال الزجاج : « أنت » هو اسم « مَا » و « مَجْنُون » الخبر ، وقوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } كلام وقع في الوسط ، أي : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل .
روى ابن عباس : أنه صلى الله عليه وسلم غاب عن خديجة إلى حراء ، وطلبته ، فلم تجده ، فإذا به ووجهه متغير بلا غبار ، فقالت : ما لك؟ .
فذكر جبريل - عليه السلام - وأنه قال له : { اقرأ باسم رَبِّكَ } [ العلق : 1 ] ، فهو أول من نزل من القرآن ، قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض ، فتوضأ ، وتوضأت ، ثم صلى ، وصليت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة - يا محمد - فذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لخديجة ، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل - وهو ابن عمها - وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية ، فسألته فقال : أرسلي إليّ محمداً ، فأرسلته فقال : هل أمرك جبريل - عليه السلام - أن تدعو أحداً؟ فقال : لا فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ، ثم مات قبل دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش ، فقالوا : إنه مجنون ، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون ، وهو خمس آياتٍ من أول هذه السورة ، قال ابن عباسٍ : أول ما نزل قوله تعالى : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ } [ الأعلى : 1 ] ، وهذه الآية هي الثانية ، نقله ابن الخطيب .
وذكر القرطبيُّ : أن المشركين كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : مجنون به شيطان وهو قوله { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] فأنزل الله تعالى رداً عليهم وتكذيباً لقولهم { فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } [ الطور : 29 ] أي : برحمة ربك ، والنعمة هاهنا الرحمة . وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربِّك عليك بالإيمان والنبوة .
قال القرطبي : « ويحتمل أن النعمة - هاهنا - قسم ، تقديره : ما أنت ، ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم » وقد تقدم .
فصل
قال ابن الخطيب : اعلم أنه تعالى وصفه - هاهنا - بصفات ثلاث :
الأولى : نفي الجنون عنه ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها ، لأن قوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } يدل على أن نعم اللَّه تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة ، والعقل الكامل ، والسيرة المرضية ، والبراء من كل عيب ، والاتصاف بكل مكرمة ، وإذا كانت هذه النعم ظاهرة محسوسة ووجودها ينافي حصول الجنونِ ، فالله تعالى نبه على أن هذه الحقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم : « إنه مجنُون » .
الصفة الثانية : قوله : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي : ثواباً على ما تحملت غير منقوص ولا مقطوع منه ، يقال : منَّ الشيء إذا ضعف ، ويقال : مننت الحبل إذا قطعته ، وحبل منين إذا كان غير متين .
قال لبيدٌ : [ الكامل ]
4809 - . . ... غُبْسٌ كَواسِبُ مَا يُمَنُّ طَعَامُهَا
أي : لا يقطع ، يصف كلاباً ضارية ، ونظيره قوله تعالى { غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] ، وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : « غَيْرَ مَمْنُونٍ » أي : غير محسوب عليك ، قالت المعتزلة : لأنك تستوجبه على [ عملك ] ، وجوابهم : إن حملهم على هذا يقتضي التكرار ، لأن قوله « أجراً » يفيده ، وقال الحسنُ : غير مكدر بالمن .
وقال الضحاك : أجراً بغير عمل ، واختلفوا في هذا الأجرِ على أي شيء حصل؟ فقيل : معناه إن لك على احتمال هذا الطعن ، والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً .
وقيل : إن لك في إظهار النبوةِ ، والمعجزات في دعاء الخلق إلى الله تعالى وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم فلا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم فإن لك بسببه المنزلةَ العالية .
الصفة الثالثة : قوله : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } .
قال ابن عباس ومجاهدٌ : « على خُلقٍ » على دين عظيمٍ من الأديان ، ليس دين أحب إلى الله ، ولا أرضى عنده منه .
وروى مسلم عن عائشة : أن خلقه كان القرآن .
وقال علي - رضي الله عنه - : هو أدب القرآن .
وقيل : رفقه بأمته ، وإكرامه إياهم .
وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر اللَّهِ ، وينتهي عنه مما نهى الله عنه .
وقيل : إنَّك على طبع كريم .
وقال الماوردي : حقِيقَةُ الخُلقِ في اللُّغةِ ما يأخذُ بِهِ الإنسانُ في نفْسِهِ من الأدبِ يُسَمَّى خُلُقاً ، لأنَّه يصير كالخلقة فيه فأما ما طُبع عليه من الأدبِ فهو الخِيمُ ، فيكون الخلق : الطبع المتكلف ، والخِيم : الطبع الغريزي .
قال القرطبي : « ما ذكره مسلم في صحيحه عن عائشة أصح الأقوالِ ، وسئلت أيضاً عن خلقه - عليه الصلاة والسلام - فقرأت { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] إلى عشر آياتٍ » .
قال ابن الخطيب : وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيبِ وإلى كل ما يتعلق بها ، وكانت شديدة النفرة من اللذات البدنية ، والسعادات الدنيوية بالطبع ، ومقتضى الفطرة ، وقالت : مَا كَانَ أحدٌ أحْسنَ خُلُقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعاه أحدٌ من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك ، ولذلك قال الله تعالى { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي الحظ الأوفر .
وقال الجنيد : سمى خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام - : « إنَّ اللَّه بَعَثنِي لأتمِّمَ مكارِمَ الأخْلاق » .
فصل
قال ابن الخطيب : قوله : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } كالتفسير لما تقدم من قوله تعالى : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب وخطأ؛ لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه ، وإذا كان موصوفاً بتلك الأخلاق والأفعال ، لم يجز إضافة الجنون إليه؛ لأن أخلاق المجانين سيئة ، ولما كانت أخلاقه الحميدة صلى الله عليه وسلم كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ، ولهذا قال :
{ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين } [ ص : 86 ] أي : لست مكلفاً فيما يظهر لكم من الأخلاق ، لأنه تعالى قال : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] فهذا الهدي الذي أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالاقتداءِ به ليس هو معرفة الله تعالى؛ لأن ذلك تقليداً ، وهو غير لائق بالرسول صلى الله عليه وسلم وليس هو الشرائع؛ لأن شريعته كشرائعهم ، فتعين أن يكون المراد منه أمره صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء فيما اختص به من الخلقِ الكريمِ ، وكان كل واحد منهم مختصاً بنوع واحدٍ ، فلما أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بالكل ، فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقاً فيهم ، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحدٍ من الأنبياء قبله - لا جرم - وصف الله خلقه بأنه عظيم ، وكلمة « عَلَى » للاستعلاءِ فدل اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاقِ ، ومستول عليها ، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الحميدة كالمولى بالنسبة إلى العبد ، وكالأمير بالنسبة إلى المأمور .
وقد ورد أحاديث كثيرةٌ صحيحةٌ في مدح الخلق الحسن ، وذم الخلق السّيّىء .
قوله : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } .
قال ابن عباس : معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة .
وقيل : فسترى وترون يوم القيامة حتى يتبين الحق والباطل .
وقيل : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } في الدنيا كيف تكون عاقبة أمرك وأمرهم فإنك تصير معظماً في القلوب ، ويصيرون ذليلين ملعونين ويستولى عليهم بالقتل والنهب .
قال مقاتل بن حيان : هذا وعيد العذاب ببدر .
قوله { بِأَيِّكُمُ المفتون } فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن الباء مزيدة في المبتدأ ، والتقدير : أيكم المفتون ، فزيدت كزيادتها في نحو « بحسبك زيد » ، وإلى هذا ذهب قتادة وأبو عبيدة معمر بن المثنى .
إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في « حَسْبُك » فقط .
الثاني : أن الباء بمعنى « فِي » فهي ظرفية ، كقولك : « زيْدٌ بالبصرةِ » أي : فيها ، والمعنى : في أي فرقة ، وطائفة منكم المفتون : أي المجنون في فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار؟ وإليه ذهب مجاهد والفراء .
ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة : « فِي أيكمُ » .
والثالث : أنه على حذف مضاف ، أي « بأيكم فتن المفتون » فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وإليه ذهب الأخفش . وتكون الباء سببية .
والرابع : أن المفتون مصدر جاء على « مفعول » ك « المعقول » و « الميسور » ، والتقدير : « بأيكمُ المفْتُونُ » .
فعلى القول الأول يكون الكلام تاماً عند قوله : « ويُبْصرُونَ » ، ويبتدأ بقوله « بأيكمُ المفتُونُ » .
وعلى الأوجه بعده تكون الباء متعلقة بما قبلها ، ولا يوقف على « يُبْصِرُونَ » .
وعلى الأوجه الأول الثلاثة يكون « المَفْتُونُ » اسم مفعول على أصله ، وعلى الوجه الرابع يكون مصدراً ، وينبغي أن يقال : إن الكلام إنما يتم على قوله « المَفْتُونُ » سواء قيل : بأن الباء مزيدة أم لا ، لأن قوله { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } معلق بالاستفهام بعده ، لأنه فعل بمعنى الرؤية البصرية تعلق على الصحيحِ ، بدليل قولهم : أما ترى أن برق هاهنا ، فكذلك الإبصار ، لأنه هو الرؤية بالعين ، فعلى القول بزيادة الباء ، تكون الجملة الاستفهامية في محل نصب؛ لأنها واقعة موضع مفعول الإبصار .
فصل
قال القرطبيُّ : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } بأيكم المفتون ، الذي فتن بالجنون ، كقوله تعالى : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] و { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] ، وهو قول قتادة وأبي عبيدة كما تقدم وقيل : الباء ليست مزيدة ، والمعنى « بأيكم المفتون » أي : الفتنة ، وهو مصدر على وزن المفعول ويكون المعنى : المفتون ، كقولهم : ما لفلان مجلود ولا معقول ، أي : عقل ولا جلادة ، قاله الحسن والضحاك وابن عباس .
قال الراعي : [ الكامل ]
4810 - حَتَّى إذَا لَمْ يَتركُوا لِعظامِهِ ... لَحْماً ولا لفُؤادِهِ مَعْقُولا
أي عقلاً ، والمفتون المجنون الذي فتنه الشيطانُ .
وقيل : المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار ، إذا حميته ، قال تعالى { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] أي : يعذبون وقيل : المفتون : الشيطان؛ لانه مفتون في دينه ، وكانوا يقولون : إن به شيطاناً ، وعنوا بالمجنون هذا فقال الله تعالى لهم : فسيعلمون غداً بأيهم [ المجنون ] أي : الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل .
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } . أي : إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } ، أي : الذين هم على الهدى ، فيجازي كلاًّ غداً .
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
قوله : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } نهاه عن ممايلة المشركين وكانوا يدعونه إلى أن يكف عنهم ليكفوا عنه ، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر ، وقال تعالى : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [ الإسراء : 74 ] وقيل : فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث ، نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه .
قوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } .
المشهور في قراءة الناس ومصاحفهم : « فَيُدهِنُونَ » بثبوت نون الرفع وفيه وجهان : أحدهما : أنه عطف على « تُدهِنُ » فيكون داخلاً في حيز « لَوْ » .
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : فهم يدهنون .
وقال الزمخشريُّ : « فإن قلت : لم رفع » فَيُدْهنُونَ « ولم ينصب بإضمار » أن « وهو جواب التمني؟ .
قلت : قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يدهنون ، كقوله : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } [ الجن : 13 ] على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ ، أو ودوا إدهانك ، فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك قال سيبويه : وزعم هارون أنها في بعض المصاحف : ودُّوا لو تُدهِنُ فيُدْهِنُوا » انتهى .
وفي نصبه على ما وجد في بعض المصاحف وجهان :
أحدهما : أنه عطف على التوهم ، كأنه توهم أن نطق ب « أنْ » فنصب الفعل على هذا التوهم وهذا إنما يجيء على القول بمصدرية « لَوْ » ، وفيه خلاف تقدم تحقيقه في « البقرة » .
والثاني : أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهوم من « ودّ » .
والظاهر أن « لَوْ » حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأن جوابها محذوف ومفعول الودادة أيضاً محذوف ، تقديره : ودوا إدهانك ، فحذف إدهانك ، لدلالة « لَو » وما بعدها عليه وتقدير الجواب : لسروا بذلك .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسديُّ : ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم ، وعن ابن عباس أيضاً : ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك .
وقال الفراء والكلبي : لو تلين فيلينون لك . والإدهان : التليين لمن لا ينبغي له التليين . قاله الفراء والليث .
وقال مجاهدٌ : ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك .
وقال الربيع بن أنس : ودوا لو تكذب ، فيكذبون .
وقال قتادة : ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبوا .
وقال الحسنُ : ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم ، وعنه أيضاً : ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم .
وقال زيد بن أسلم : ودّوا لو تنافق وترائي ، فينافقون ويراءون .
وقيل : ودُّوا لو تضعف فيضعفون . قاله أبو جعفر .
وقال القتيبي : ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم ، وعنه : طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة .
وهذان القولان الأخيران هما المتقدمان في معنى { لَوْ تَكْفُرُونَ } [ النساء : 89 ] ومعنى : لو تصانعهم وقال ابن العربي : ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوالٍ ، كلها دعاوى على اللغة والمعنى ، وأمثلها قولهم « ودُّوا لو تكذبُ فيكذبون ، ودوا لو تكفر فيكفرون » .
وقال القرطبيُّ : كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى ، فإن الإدهان اللين والمصانعة .
وقيل : المقاربة في الكلام والتليين في القول ، وقال المفضل : النفاق وترك المناصحةِ ، فهي على هذا الوجه مذمومة ، وعلى الوجه الأول غير مذمومة وكل شيء منها لم يكن .
وقال المبردُ : أدهن في دينه ، وداهن في أمره أي : خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر .
وقال قوم : داهنت بمعنى واريت ، وأدهنت بمعنى غششت ، قاله الجوهري ، وقوله « فيُدْهِنُونَ » ساقه على العطف ، ولو جاء به جواباً للنهي لقال : « فيُدْهِنُوا » ، وإنما أراد أنهم تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك عطفاً لا جزاء عليه ولا مكافأة ، وإنما هو تمثيل وتنظير .
قوله : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } .
قال السديُّ والشعبي وابن إسحاق : يعني الأخنس بن شريق .
وقال مجاهدٌ : يعني الأسود بن عبد يغوث ، أو عبد الرحمن بن الأسود .
وقال مقاتل : يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صلى الله عليه وسلم مالاً ، وحلف أنه يعطيه إن رجع عن دينه .
وقال ابن عباس : هو أبو جهل بن هشام .
والحلاف : الكثير الحلف . و « المَهين » قال مجاهد : هو الضعيف القلب .
وقال ابن عباس : هو الكذاب ، والكذاب مهين .
وقال الحسن وقتادة : هو المكثار في الشر .
وقال الكلبي : المهين : الفاجر .
وقال عبد الله : هو الحقير .
وقال ابن بحر : هو الذليل .
وقال الرماني : هو الوضيع لإكثاره من القبيح .
وهو « فعيل » من المهانة بمعنى القلة ، وهي هنا القلة في الرأي والتمييز ، أو هو « فعيل » بمعنى « مُفْعَل » والمعنى « مُهَان » .
قوله { هَمَّازٍ } ، الهماز : مثال مبالغة من الهمز ، وهو في اللغة الضرب طعناً باليد والعصا ، واستعير للمغتاب الذي يغتاب الناس كأنه يضربهم بإيذائه .
قال ابن زيد : الهمَّاز : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللمّاز : باللسان .
وقيل الهمَّاز الذي يذكر الناس في وجوههم ، واللمَّازُ : الذي يذكرهم في مغيبهم .
وقال مقاتل بالعكس ، وقال مرة : هما سواء ، ونحوه عن ابن عباس وقتادة .
قال الشاعر : [ البسيط ]
4811 - تُدْلِي بودٍّ إذَا لاقَيْتنِي كَذِباً ... وإنْ تغَيَّبْتُ كُنْتَ الهَامِزَ اللُّمَزَهْ
والنميم : قيل : هو مصدر النميمة .
وقيل : هو جمعها أي اسم جنس ك « تمرةٍ وتمرٍ » ، وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه ، ويحرش بين الناس .
وقال الزمخشري : والنميم والنميمة : السعاية ، وأنشدني بعض العرب : [ الرجز ]
4812 - تَشَبَّبِي تَشَبُّبَ النَّميمهْ ... تَمْشِي بِهَا زَهْراً إلى تَمِيْمَه
والمشاء : مثال مبالغة من المشي ، أي : يكثر السعاية بين الناس ليفسد بينهم ، يقال : نَمَّ يَنِمُّ نميماً ونَمِيمَة ، أي : يمشي ويسعى بالفسادِ .
وقال عليه الصلاة والسلام : « لا يَدخُلُ الجَنَّة نَمَّامٌ » .
والعتل : الذي يعتل الناس ، أي : يحملهم ، ويجرهم إلى ما يكرهون من حبس وضربٍ ومنه : { خُذُوهُ فاعتلوه } [ الدخان : 47 ] .
وقيل : العتل : الشديد الخصومة .
وقال أبو عبيدة : هو الفاحش اللئيم .
وأنشد :
4813 - بِعُتُلٍّ مِنَ الرِّجالِ زَنِيمٍ ... غيْرِ ذِي نَجْدةٍ وغَيْرِ كَريمِ
وقيل : الغليظ الجافي .
ويقال : عَتَلْتُه وعَتنتُهُ باللام والنون . نقله يعقوب .
وقيل : العتل : الجافي الشديد في كفره .
وقال الكلبيُّ والفراء : هو الشديد الخصومة بالباطل .
قال الجوهري : ويقال : عَتَلْتُ الرجل أعْتِلُهُ وأعْتُلُهُ إذا جذبته جذباً عنيفاً . ورجل مِعْتَل - بالكسر - ، والعَتَل أيضاً : الرمح الغليظ ، ورجل عَتِلٌ - بالكسر - بين العتل ، أي سريع إلى الشَّر ويقال : لا أنعتل معك ، أي : لا أبرح مكاني .
وقال عبيد بن عمير : العتل : الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة ، يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفاً .
والزنيم : الدعي بنسب إلى قوم ليس منهم .
قال حسانُ رضي الله عنه : [ الطويل ]
4814 أ- زَنِيمٌ تَداعَاهُ الرِّجالُ زِيادَةً ... كَمَا زيدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكَارعُ
وقال أيضاً : [ الوافر ]
4814 ب - زَنِيمُ ليسَ يُعْرَفُ مَنْ أبُوهُ ... بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسب لَئِيمُ
وقال أيضاً : [ الطويل ]
4815 - وأنْتَ زَنِيمٌ نيطَ في آلِ هَاشمٍ ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكبِ القَدَحُ الفَرْد
وأصله : من الزنمةِ ، وهي ما بقي من جلد الماعز معلقاً في حلقها يترك عند القطع ، فاستعير للدعي ، لأنه كالمعلق بما ليس منه .
فصل فيمن هو الحلاف المهين
تقدم القول في « الحلاف المَهين » ، عن الشعبي والسديِّ وابن إسحاقَ : أنه الأخنس بن شريق ، وعلى قول غيرهم : أنه الأسود بن عبد يغوث ، أو عبد الرحمن بن الأسود ، أو الوليد بن المغيرة ، أو أبو جهل بن هشام ، وتقدم تفسير « الهَمَّاز والمشَّاء بنميمٍ » .
وأما قوله « منَّاعٍ للخَيْرِ » أي : للمال أن ينفق في وجوهه .
وقال ابن عباس : يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته .
قيل : كان للوليد بن المغيرة عشرةٌ من الولد ، وكان يقول لهم ولأقاربه : من تبع منكم محمداً منعته رفدي .
وقال الحسنُ : يقول لهم : من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً .
وقوله « مُعْتَدٍ » أي : على الناس في الظلم ، متجاوز للحد ، صاحب باطل ، وقوله « أثيمٍ » أي : ذا إثمٍ ، ومعناه « أثُوم » ، فهو « فعيل » بمعنى « فَعُول » .
قال البغوي : « أثيم فاجر » . وأما العتل فتقدم الكلام عليه في اللغة .
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « ألاْ أخْبرُكمْ بأهْلِ الجنَّةِ؟ قالوا : بَلَى ، قال : كُلُّ ضعيفٍ مُتضعَّفٍّ ، لَوْ أقسمَ على اللَّهِ لأبرَّهُ ، ألا أخْبركُمْ بأَهْلِ النَّارِ؟ قالوا : بَلَى ، قال : كُل عُتُلٍّ جواظٍ مستكبرٍ »
وفي رواية : « كُلُّ جوَّاظٍ زَنيمٍ مُستَكْبرٍ » .
« الجوَّاظ » الجموع المنوع .
وقيل : الكثير اللحم ، المختال في مشيته .
وقيل : القصير البطين .
وذكر الماورديُّ عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يَدخُل الجنَّة جوَّاظ ولا جَعْظَرِي ولا العُتلُ الزَّنِيمُ » .
وقال صلى الله عليه وسلم : « الجوَّاظ : الذي جمع ومنع ، والجعظري : الفظ الغليظ المتكبر » .
قال ابن الأثير : « وقيل : هو الذي ينتفخ بما ليس عنده ، وفيه قصر » .
قال القرطبيُّ : وقال - عليه الصلاة والسلام - : « الشَّدِيدُ الخُلقِ ، الرَّحيبُ الجوْفِ ، المصحُّ الأكولُ ، الشَّروبُ ، الواجدُ للطعامِ ، الظَّلُومُ للنَّاسِ » .
وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « تَبْكِي السَّماءُ على رجُلٍ أصحَّ اللَّهُ جِسْمهَ ورحَبَ جوفه ، وأعطاهُ من الدُّنْيَا بعضاً ، فكانَ للنَّاسِ ظلُوماً ، فذلك العُتُلَّ الزَّنِيمُ » .
وقوله « بَعْدَ ذلِكَ » أي مع ذلك ، يريد ما وصفناه به « زنيم » وتقدم معنى الزنيم . وعن ابن عباس : أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة .
وروى عنه ابن جبير : أنه الذي يعرف بالشر ، كما تعرف الشاة بزنمتها .
وقال عكرمة : هو الذي يعرف بلؤمه ، كما تعرف الشاة بزنمتها .
وقيل : إنه الذي يعرف بالأبنة ، وهو مروي عن ابن عباس ، وعنه : إنه الظلوم .
وقال مجاهدٌ : « زَنِيمٍ » كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام له أصبع زائدة .
وعنه أيضاً وسعيد بن المسيب وعكرمة : هو ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم .
وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم ، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده .
قال الشاعر : [ الوافر ]
4816 - زَنِيمٌ ليْسَ يُعرفُ من أبُوهُ ... بَغِيُّ الأمِّ ذُو حسبٍ لَئِيم
قيل : بغتْ أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية ، وهذا لأن الغالب أن المنطقة إذا خبثت خبث الولدُ ، كا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يَدْخلُ الجنَّة ولدُ زِنَا ، ولا ولَدُ وَلدِهِ » .
وقال عبد الله بن عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنَّ أوْلادَ الزِّنَا يُحشَرُونَ يومَ القِيامةِ في صُورةِ القِرَدةِ والخَنازِيرِ » .
وقالت ميمونة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تَزالُ أمَّتِي بخيْرٍ ، مَا لَمْ يَفْشُ فِيهِمْ ولدُ الزِّنَا ، فإذا فَشَى فيهِمْ ولدُ الزِّنَا أوشَكَ أنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بعذابٍ » .
وقال عكرمة : إذا كثر ولد الزنا قحط المطر .
قال القرطبي : ومعظم المفسرين على أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يطعم أهل منى حيساً ثلاثة أيام ، وينادي ألا لا يوقدن أحدكم تحت بُرمةٍ ، ألا لا يدخلن أحد بكُراع ، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة ، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفاً ، أو أكثر ، ولا يعطي المسكين درهماً واحداً؛ فقيل : « منَّاعٍ للخَيرِ » ، وفيه نزل :
{ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة } [ فصلت : 6 ، 7 ] .
وقال محمد بن إسحاق : نزلت في الأخنس بن شريق؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة ، فلذلك سمي زنيماً . وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : في هذه الآية نُعت ، فلم يعرف ، حتى قتل زنيم فعرف ، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها .
قال ابن قتيبة : لا نعلم أن الله وصف أحداً ، ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة وألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة .
فصل
قرأ الحسن : « عُتُلٌّ » بالرفع ، أي هو عتل .
وحقه أن يقرأ ما بعده بالرفع أيضاً ، لأنهم قالوا في القطع : إنه يبدأ بالإتباع ، ثم بالقطع من غير عكس ، وقوله : « بَعْدَ ذلِكَ » أي : بعدما وصفناه به .
قال ابن عطية : فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصفِ لا في حصول تلك الصفات في الموصوف ، وإلا فكونه عتلاًّ هو قبل كونه صاحب خير يمنعه .
وقال الزمخشريُّ : « بَعْدَ ذَلِكَ » أي : بعدما عد له من المثالب ، والنقائصِ ، ثم قال : جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه ، لأنه إذا غلظ وجفا طبعه قسا قلبُه واجترأ على كل معصية .
ونظير قوله : { بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين } [ البلد : 17 ] .
قوله : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } .
العامة : على فتح همزة « أن » ثم اختلفوا بعد ، فقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر وأضاف القرطبي معهم أبا جعفر وأبا حيوة والمغيرة والأعرج : بالاستفهام .
وباقي السبعة بالخبر .
والقارئون بالاستفهام على أصولهم من تحقيق ، وتسهيل ، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه ، ولا بد من بيان ذلك فنقول : قرأ حمزة وأبو بكر وذكر القرطبي معهم المفضل : بتحقيق الهمزتين ، وعدم إدخال ألف بينهما ، وهذا هو أصلهما .
وقرأ ابن ذكوان : بتسهيل الثانية ، وعدم إدخال ألف .
وهشام بالتسهيل المذكور إلا أنه أدخل ألفاً بينهما .
فقد خالف كل منهما أصله ، أما ابن ذكوان فإنه يحقق الهمزتين فقد سهل الثانية هنا ، وأما هشام فإن أصله أن يجري في الثانية من هذا النحو وجهين من التحقيق كرفيقه ، والتسهيل وقد التزم التسهيل هنا ، وأما إدخال الألف فإنه فيه على أصله ، كما تقدم أول البقرة .
وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه : « إن » بكسر الهمزة على الشرط .
فأما قراءة « أنْ » - بالفتح - على الخبر ، ففيه أربعة أوجه :
أحدها : أنها « أن » المصدرية في موضع المفعول به مجرورة بلام مقدرة ، واللام متعلقة بفعل النهي ، أي : ولا تطع من هذه صفاته ، لأن كان متمولاً وصاحب بنين .
الثاني : أنها متعلقة ب « عُتُل » وإن كان قد وصف .
قاله الفارسي .
وهذا لا يجوز عند البصريين ، وكأن الفارسي اغتفره في الجار .
الثالث : أن يتعلق ب « زَنِيمٍ » ، ولا سيما عند من يفسره بقبيح الأفعال .
الرابع : أن يتعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده من الجملة الشرطية تقديره لكونه متمولاً ، مستظهراً بالبنين كذب بآياتنا ، قاله الزمخشريُّ .
قال : ولا يعمل فيه ، قال : الذي هو جواب « إذا » لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ، ولكن ما دلت عليه الجملةُ من معنى التكذيب .
وقال مكيٌّ ، وتبعه أبو البقاء : « لا يجوز أن يكون العامل » تُتْلَى « لأن ما بعد » إذَا « لا يعمل فيما قبلها ، لأن » إذَا « تضاف إلى الجمل ، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف » انتهى .
وهذا يوهم أن المانع من ذلك ما ذكره فقط ، والمانع أمرٌ معنوي ، حتى لو فقد هذا المانع الذي ذكره لامتنع من جهة المعنى ، وهو لا يصلح أن يعلل تلاوة آياتِ اللَّهِ عليه بكونه ذا مالٍ وبنين .
وأما قراءة « آنْ كان » على الاستفهام ، ففيها وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما قبله ، أي : أتطيعه لأن كان ، أو الكون طواعية لأن كان .
والثاني : أن يتعلق بمقدر يدل عليه ما بعده ، أي : لأن كان كذب وجحد .
وأما قراءة « إنْ كَانَ » - بالكسر - فعلى الشرط ، وجوابه مقدر ، تقديره : إن كان كذا يكفر ويجحد ، دل عليه ما بعده .
وقال الزمخشريُّ : والشرط للمخاطب ، أي : لا تطع كل حلاف شارطاً يساره ، لأنه إن أطاع الكافر لغنائه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحو صرف الشرط للمخاطب صرف الترجي إليه في قوله { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] .
وجعله أبو حيَّان من دخول شرط على شرط ، يعني « إن ، وإذا » إلا أنه قال : ليسا من الشروط المترتبة الوقوع . وجعل نظير ذلك قول ابن دُريْدٍ : [ الرجز ]
4817 - فإن عَثَرتُ بعْدها إنْ وألَتْ ... نَفْسِيَ مِنْ هَاتَا فَقُولاَ لاَ لَعَا
قال : « لأن الحامل على تدبر آياتِ اللَّهِ كونه ذا مالِ وبنينَ ، وهو مشغول القلب بذلك غافل عن النظر قد استولت عليه الدُّنيا وأنظرته » .
وقرأ الحسن بن أبزى : بالاستفهام ، وهو استفهام تقريعٍ وتوبيخٍ ، على قوله حين تليت عليه آيات الله : { أَسَاطِيرُ الأولين } .
فصل في توجيه قراءة الآية
قال القرطبيُّ : فمن قرأ بهمزة مُطوَّلةٍ ، أو بهمزتين محققتين ، فهو استفهام والمراد به التوبيخ ، ويحسن له أن يقف على « زَنِيمٍ » ، ويبتدىء « أنْ كَانَ » على معنى : لأن كان ذا مال وبنين تطيعه ، ويجوز أن يكون التقدير : لأن كان ذا مال وبنين يكفر ويستكبر ، ودل عليه ما تقدم من الكلامِ ، فصار كالمذكور بعد الاستفهام ، ومن قرأ « أن كَانَ » بغير استفهام ، فهو مفعول من أجله ، والعامل فيه فعل مضمر والتقدير : يكفر لأن كان ذا مال وبنين ، ودل على هذا الفعل : { إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } ولا يعمل في « أن » : « تُتْلَى » ولا « قَالَ » ، لأن ما بعد « إذَا » لا يعمل فيما قبلها؛ لأن « إذَا » تضاف إلى الجمل التي بعدها ، ولا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف و « قال » جواب الجزاء ، ولا يعمل فيما قبل الجزاء ، إذ حكم العامل أن يكون قبل المعمول فيه ، وحكم الجواب أن يكون بعد الشرط ، فيكون مقدماً مؤخراً في حالة واحدةٍ ، ويجوز أن يكون المعنى : لا تطعه لأن كان ذا يسار وعدد .
قال ابن الأنباريُّ : ومن قرأ بلا استفهام لم يحسن أن يقف على « زَنيمٍ » لأن المعنى : لأن كان ذا مالٍ كان ، ف « أنْ » متعلقة بما قبلها .
وقال غيره : يجوز أن يتعلق بقوله « مشَّاءٍ بنمِيمٍ » ، والتقدير : يمشي بنميم ، لأن كان ذا مال وبنين ، وأجاز أبو علي أن يتعلق ب « عُتُلٍّ » ومعنى « أسَاطيرُ الأوَّليْنَ » أباطيلهم ، وتُرهاتُهُم .
قوله : « سَنَسِمُهُ » . أي : نجعل له سمة ، أي : علامة يعرف بها .
قال جرير : [ الكامل ]
4818 - لمَّا وضَعْتُ عَلى الفَرَزْدَقِ مِيسَمِي ... وعَلَى البَعيثِ جَدَعْتُ أنْفَ الأخْطَلِ
والخرطوم : الأنف ، وهو هنا عبارة عن الوجه كله من التعبير عن الكل بالجزء؛ لأنه أظهر ما فيه وأعلاه ، والخرطوم أيضاً : الخمر ، وكأنه استعاره لها لأن الشنتمري قال : هي الخمر أول ما يخرج من الدَّن؛ فجعلت كالأنف لأنه أول ما يبدو من الوجه فليست الخرطومُ الوجه مطلقاً ، ومن مجيء الخرطوم بمعنى الخمر ، قول علقمة بن عبدة : [ البسيط ]
4819 - قَدْ أشْهَدَ الشَّرْبَ فِيهِمْ مِزْهَرٌ رَنِمٌ ... والقَوْمُ تَصْرعُهُمْ صَهْبَاءُ خرْطُومُ
وأنشد نضر بن شميل : [ البسيط ]
4820 - تَظَلُّ يَومَكَ في لَهْوٍ وفِي طَرَبٍ ... وأنْتَ باللَّيْلِ شَرَّابُ الخَراطِيمِ
فصل في تفسير « سنسمه »
قال ابن عباس : « سَنَسِمُهُ » سنحطمه بالسَّيفِ ، قال : وقد حطم الذي نزلت فيه يوم بدرِ بالسيف ، فلم يزل محطوماً إلى أن مات .
وقال قتادةُ : سنسمهُ يوم القيامة على أنفه سِمَةً يعرفُ بها ، يقال : وسمه وسماً وسمة إذا أثرت فيه بسمة وكيّ .
قال الضحاك : سنكويه على وجهه ، وقد قال الله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] فهي علامة ظاهرة ، وقال تعالى : { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } [ طه : 102 ] وهذه علامة أخرى ظاهرة . وأفادت هذه الآية علامة ثالثة ، وهي الوسم على الأنف بالنار ، وهذا كقوله : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } [ الرحمن : 41 ] .
قاله الكلبي وغيره وقال أبو العالية ومجاهدٌ : { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } أي على أنفه ، ويسودُّ وجهه في الآخرة ، فعرف بسواد وجهه .
قال القرطبيُّ : « والخرطوم : الأنف من الإنسان ، ومن السباع موضع الشفة ، وخراطيم القوم : سادتهم » .
قال الفراء : وإن كان الخرطومُ قد خُصَّ بالسِّمة فإنَّهُ في الوجه لأن بعض الشيء يعبر به عن الكل .
وقال الطبريُّ : نبين أمره تبياناً واضحاً ، فلا يخفى عليهم كما لا تخفى السِّمةُ على الخراطيم .
وقال : المعنى : سنلحق به عاراً وسبة حتى يكون كمن وسم على أنفه .
قال القتيبي : تقول العرب للرجل يُسَبُّ سبة سوءٍ قبيحة باقية قد وسم ميسم سوء ، أي : ألصق به عار لا يفارقه ، كما أن السمة لا يمحى أثرها .
وهذا كلهُ نزل في الوليد بن المغيرة ، ولا شك أنَّ المبالغة العظيمة في ذمه بقيت على وجه الأرض الدهر ، ولا يعلم أن اللَّه تعالى بلغ من ذكر عيوب أحد ما بلغ منه ، فألحق به عاراً لا يفارقه في الدنيا والآخرة كالوسم على الخرطوم .
وقيل : ما ابتلاه اللَّهُ به في الدنيا في نفسه؛ وأهله وماله من سوء ، وذل وصغار ، قاله ابن بحر .
وقال النضر بن شميل : المعنى سنحده على شرب الخمر ، والخرطوم : الخمر ، وجمعه : خراطيم ، وأنشد البيت المتقدم .
قال ابن الخطيب : « وهذا تعسفٌ » .
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
قوله { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة } . يريد أهل مكة ، والابتلاء : الاختبار . والمعنى : أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا ، فلما بطروا وعادوا محمداً صلى الله عليه وسلم ابتليناهم بالجوع والقحط كما بلونا أصحاب الجنَّة المعروف خبرها عندهم ، وذلك أنها كانت بأرض اليمن بالقرب منهم على فراسخ من « صنعاء » ، ويقال : بفرسخين ، كانت لرجل يؤدي حقَّ الله منهما ، فلما مات صارت إلى ولده ، فمعنوا الناس خيرها ، وبخلوا بحق الله فيها؛ فأهلكها الله من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بها .
قال الكلبيُّ : كان بينهم وبين « صنعاء » فرسخان ابتلاهم اللَّهُ بأن أحرق جنتهم .
وقيل : جنة بصوران على فراسخ من صنعاء ، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى - عليه الصلاة والسلام - بيسير .
وقيل : كانوا من بني إسرائيل .
وقيل : وكانوا من ثقيف ، وكانوا بخلاء ، وكانوا يجذون النخل ليلاً من أجل المساكين ، فأرادوا حصاد زرعها ، وقالوا : { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } فغدوا عليها فإذا هي قد اقتلعت من أصلها { فَأَصْبَحَتْ كالصريم } أي : الليل ، ويقال أيضاً للنهار : صريم ، فإن كان أراد الليل ، فلاسوداد مواضعها وكأنهم وجدوا مواضعها حمأة ، وإن كان أراد بالصريم النهار ، فلذهاب الشجر والزَّرْع وخلو الأرض منه ، وكان الطائف الذي طاف عليها جبريل - عليه السلام - فاقتلعها .
فقيل : إنه طاف بها حول البيت ثم وضعها حيثُ مدينة الطائف اليوم ، ولذلك سميت الطائف ، وليس في أرض الحجازِ بلدة فيها الماء ، والشجر [ والزرع ] والأعناب غيرها .
وقال البكريُّ في المعجم : سميت الطائف ، لأن رجلاً من العرب يقالُ له : الدَّمُون ، بَنَى حائطاً ، وقال : إني قد بنيت لكم حائطاً حول بلدكم ، فسميت الطائف . والله أعلم .
قوله « إذ أقْسَمُوا » ، أي : حلفوا فيما بينهم « ليَصْرِمُنَّهَا » أي : ليجذُّنها « مُصْبحِيْنَ » أي : وقت الصباح قبل أن يخرج المساكين « ولا يَسْتَثْنُونَ » ، أي : لم يقولوا : إن شاء الله .
قوله : « مُصْبحِيْنَ » حال من فاعل « ليَصْرمُنَّها » وهو من « أصبح » التامة ، أي داخلين في الصباح ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] وقوله : إذا سمعت بِسُرَى القين فاعلم بأنه مصبح والكاف في « كما » في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف ، أي : بلوناهم ابتلاء كما بلونا ، و « ما » مصدرية ، أو بمعنى « الذي » و « إذَا » منصوبة ب « بَلَوْنَا » و « ليَصْرمُنَّهَا » جواب للقسم ، وجاء على خلاف منطوقهم ، ولو جاء لقيل : « لنَصْرمُنَّهَا » بنون المتكلم .
قوله : { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } .
هذه مستأنفة ، ويضعف كونها حالاً من حيث إن المضارع المنفي ب « لا » كالمثبت في عدم دخول الواو عليه وإضمار مبتدأ قبله ، كقولهم : « قمت وأصك عينه » مستغنى عنه .
ومعنى : « لا يَسْتثْنُونَ » لا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم للمساكين ، من الثني ، وهو الكف والرد؛ لأنَّ الحالف إذا قال : واللَّهِ لأفعلن كذا إلا أن يشاء اللَّهُ غيره فقد رد انعقاد تلك اليمين .
وقيل : المعنى : لا يستثنون عزمهم عن الحرماتِ .
وقيل : لا يقولون ، إن شاء الله .
قال الزمخشريُّ : وسمي استثناء وهو شرط؛ لأن معنى : لأخرجن إن شاء الله ، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد .
قوله { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ } . أي هلاك ، أو بلاء طائف ، والطائف غلب في الشر .
قال الفراء : هو الأمر الذي يأتي ليلاً .
ورد عليه بقوله { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان } [ الأعراف : 201 ] وذلك لا يختص بليلٍ ، ولا نهارٍ .
وقرأ النخعيُّ : « طَيْفٌ » .
قوله « مِن ربِّك » . يجوز أن يتعلق ب « طاف » وأن يتعلق بمحذوف صفة ل « طَائِفٌ » .
قوله : { فَأَصْبَحَتْ كالصريم } . والصرام : جذاذ النخلِ ، وأصل المادة الدلالة على القطع ، ومنه الصُّرم ، والصَّرْم - بالضم والفتح - وهو القطيعة؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4821 - أفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هذا التَدلُّلِ ... وإنْ كنتِ قَدْ أزمَعْتِ صَرْمِي فأجْملِي
ومنه الصريمة ، وهي قطعة منصرمة عن الرمل لا تنبت شيئاً؛ قال : [ البسيط ]
4822 - وبالصَّريمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ ... عَافٍ تَغَيَّرَ ، إلاَّ النُّؤيُ والوتِدُ
والصارم : القاطع الماضي ، وناقة مصرمة : انقطع لبنها ، وانصرم الشهر والسنة ، أي : قرب انفصالهما ، وأصرم زيد : ساءت حاله ، كأنه انقطع سعده .
فقوله « كالصَّريمِ » . قيل : هي الأشجار المنْصَرِم حملها .
وقال ابن عباس : كالليل؛ لأنه يقال له : الصريم ، لسواده ، والصريم أيضاً : النهار وقيل : الصُّبحُ؛ لأنه انصرم من الليلة ، قاله الأخفش . فهو من الأضداد .
وقال شمر : الصريم الليل ، والصريم النهار .
وقيل : الصريم : رملة معروفة باليمنِ لا تنبت شيئاً .
وقال الثوريُّ : كالزرع المحصود ، فالصريم بمعنى المصروم ، أي : المقطوع ما فيه .
وقال الحسنُ : صرم عنها الخير ، أي : قطع ، فالصريم مفعول أيضاً .
وقال المؤرج : كالرملة انصرمت من معظم الرمل ، يقال : صريمة وصرائم ، فالرملة لا تنبت شيئاً ينتفع به .
وقيل : سمي الليل صريماً؛ لأنه يقطع بظلمته عن التصرف ، ولهذا يكون « فَعِيْل » ، بمعنى « فاعل » .
قال القشيريُّ : وفي هذا نظر؛ لأن النهار يسمى صريماً ، ولا يقطع عن التصرف .
وقيل : سمي الليل صريماً؛ لأنه يصر نور البصر ويقطعه .
فصل في بيان أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان .
قال القرطبيُّ : في الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان . لأنهم عزموا على أن يفعلوا ، فعوقبوا على فعلهم؛ ونظيره قوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :
« إذَا التَقَى المُسلِمَانِ بِسيْفِهِمَا فالقَاتِلُ والمَقْتُولُ في النَّارِ ، قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : إنَّه كَانَ حريصاَ على قَتْلِ صاحِبهِ » وقد مضى في آل عمران عند قوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ } [ آل عمران : 135 ] .
قوله : { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } .
قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض : { اغدوا على حَرْثِكُمْ } يعني بالحرث الثِّمار والزروع والأعناب ، ولذلك قال : « صَارمِيْنَ » ، لأنهم أرادوا قطع الثمار من الأشجار .
« أن اغْدُوْا » يجوز أن تكون المصدرية ، أي : تنادوا بهذا الكلام ، وأن تكون المفسرة ، لأنه تقدمها ما هو بمعنى القول .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : هلاَّ قيل : اغدوا إلى حرثكم ، وما معنى على؟ .
قلت : لما كان الغدو إليه ليصرموه ، ويقطعوه كان غدواً عليه كما تقول : غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم : يغدى عليهم بالجفنة ويراح » انتهى .
فجعل « غَدَا » متعدياً في الأصل ب « إلى » فاحتاج إلى تأويل تعديه ب « عَلَى » ، وفيه نظر؛ لورود تعديه ب « عَلَى » في غير موضع؛ كقوله : [ الوافر ]
4823 - وقَدْ أغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ ... نَشَاوَى واجِدينَ لَمَا نَشَاءُ
وإذا كانوا قد عدوا مرادفه ب « عَلَى » فليعدوه بها ، ومرادفه « بكر » تقول : بكرتُ عليه و « غدوتُ عليه » بمعنى واحد؛ قال : [ الطويل ]
4824 - بَكَرْتُ عَليْهِ غُدْوةً فَرأيْتُهُ ... قُعُوداً إليْهِ بالصَّريمِ عَواذِلُه
قوله { إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } . جوابه محذوف ، أي فاغدوا و « صارمين » : قاطعين حادين .
وقيل : ماضين العزم من قولك : سيف صارم .
قوله { فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } . أي : يتشاورون فيما بينهم ، والمعنى يخفون كلامهم ، ويسرونه لئلا يعلم بهم أحد ، قاله عطاء وقتادة .
وهو من خفت يخفت إذا سكت ، ولم يبين .
قال ابن الخطيب : « وخَفَى وخَفَت ، كلاهما في معنى الكتم ، ومنه الخمود والخفاء » .
وقيل : يخفون أنفسهم من الناس ، حتى لا يروهم ، وكان أبوهم يخبر الفقراء والمساكين فيحضروا وقت الحصاد والصرام .
وقوله : { وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } جملة حالية من فاعل « انْطَلقُوا » .
قوله : { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } .
« أنْ » مفسرة ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : يتخافتون بهذا الكلام ، أي : يقوله بعضهم لبعض : { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } .
قال ابن الخطيب : والنهي للمسكين عن الدخول نهيٌ لهم عن تمكينه منه ، أي : لا تمكنوه من الدخول .
وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة : « لا يدْخُلنَّهَا » بإسقاط « أنْ » إما على إضمار القولِ كمذهب البصريين ، وإما على إجراء « يَتَخافتُونَ » مجراه كقول الكوفيين .
قوله : { وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ } .
يجوز أن يكون « قَادِريْنَ » حالاً من فاعل « غَدَوْا » و « عَلى حَرْدٍ » متعلق به وأن يكون « على حَردٍ » هو الحال و « قَادِريْنَ » إما حال ثانية ، وإما حال من ضمير الحالِ الأول .
والحرد : قيل : الغضب والحنق . قاله السديُّ وسفيان .
وأنشد للأشهب بن رميلة : [ الطويل ]
4825 - أسُودُ شَرًى لاقَتْ أسُودَ خَفيَّةٍ ... تَساقَوْا على حَرْدٍ دِماءَ الأسَاوِدِ
قيل : ومثله : [ الرجز ]
4826 - إذَا جِيادُ الخَيْلِ جَاءتْ تَرْدِي ... مَملُوءةً مِنْ غضَبٍ وحَرْدِ
عطف لما تغاير اللفظان؛ كقوله : [ الوافر ]
4827 - .. وألْفَى قوْلهَا كذِباً ومَيْنَا
قال أبو عبيدة والقتيبي : « عَلى حَرْدٍ » على منع من حاردت الناقة حراداً ، أي : قل لبنها .
والحرود من النوق القليلة الدر ، وحاردت السَّنةُ : قل مطرها ، وخيرها .
ويقال : حرد - بالكسر - يحرد حرداً ، وقد تفتح فيقال : حَرَدَ فهو حردان وحارد ، وليوث حوارد .
وقيل : الحرد ، والحرود : الانفراد ، يقال : حَرَدَ - بالفتح - يَحْرُدُ - بالضم - حروداً وحرداً ، أي : انعزل . ومنه كوكب حارد ، أي : منفرد .
قال الأصمعي : هي لغة هذيل .
وقال القرطبيُّ : يقال : حرد يحرد حروداً ، أي : تنحى عن قومه ، ولم يخالطهم .
وقال أبو زيدٍ : رجل حريد من قوم حرداء ، وقد حَرَدَ يَحْرِدُ حُرُوداً إذا ترك قومه ، وتحول عنهم .
قال الأصمعي : رجل حريد ، أي : فريد وحيد ، قال : والمنفرد والمنحرد في لغة هذيل وأنشد لأبي ذؤيب : [ البسيط ]
4828 - .. كأنَّهُ كَوكَبٌ في الجَوِّ مُنْحِرِدُ
ورواه أبو عمرو : بالجيم ، قال : وهو سهيل .
وقيل : الحردُ القصد ، يقال : حَرَد يحْرِدُ - بالكسر - حرداً ، قصداً ، تقول : حردت حردك ، أي : قصدت قصدك؛ قال الراجز : [ الرجز ]
4829 - أقْبَلَ سَيْلٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّه ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّةِ المُغِلَّهْ
وقال قتادة ومجاهدٌ : « عَلى حَرْدٍ » ، أي : على جد وجهد .
وقال القرطبيُّ ومجاهد وعكرمة : أي : على أمر مجتمع قد أسموه بينهم .
قال البغويُّ : « وهذا معنى القصدِ » .
وقال الحسنُ : على حاجةٍ وفاقةٍ .
وقيل : الحرد اسم جنتهم بعينها ، قاله السديُّ .
وقال الأزهريُّ : حرد اسم قريتهم . وفيهما بعد . و « قَادِريْنَ » إما من القدرة وهو الظاهرُ ، وإما من التقدير ، وهو التضييق ، أي : مضيقين على المساكين .
وقرأ العامة : بالإسكان .
وقرأ أبو العالية وابن السميفع : بالفتح ، وهما لغتان .
فصل في تفسير « قادرين »
قال الفرَّاء : ومعنى « قادرين » قد قدروا أمرم ، وبنوا عليه .
وقال قتادة : قادرين على جنتهم عند أنفسهم .
وقال الشعبيُّ : قادرين على المساكين .
وقيل : معناه من الوجود ، أي : منعوا وهم واجدون .
ومعنى الآيةِ : وغدوا ، وكانوا عند أنفسهم ، وفي ظنهم أنهم قادرون على منع المساكينَ .
قوله { فَلَمَّا رَأَوْهَا } . يعني الجنة محترقة ، لا شيء فيها قد صارت كالليل الأسود ينظرون إليها كالرماد أنكروها ، وشكوا فيها ، وقال بعضهم لبعض : « إنَّا لضالُّونَ » أي : ضللنا الطريق إلى جنتنا ، ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي ، قالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنعنا الفقراء ، قاله قتادة .
وقيل : « إنَّا لضالُّون » عن الصَّواب في غدونا على نية منع المساكين ، فلذلك عوقبنا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : حرمنا جنتنا بما صنعنا .
روى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » إيَّاكم والمَعاصِي إنَّ العَبْدَ ليذْنبُ الذَّنْبَ فيُحرَمُ بِهِ رِزْقاً كان هُيِّىء له « ثم تلا : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } » الآيتين .
قوله : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } ، يعني أعدلهم ، وأفضلهم وأعقلهم { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ : لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } أي : هلا تستثنون ، وكان استثناؤهم تسبيحاً . قاله مجاهدٌ وغيره ، وهذا يدل على أن هذا الأوسط كان يأمرهم بالاستثناء ، فلم يطيعوه .
قال أبو صالحٍ : كان استثناؤهم سبحان الله ، فقال لهم : « هَلاَّ تسبِّحُونَ اللَّهَ » ، أي تقولون : سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم .
وقال النحاس : أصل التسبيحِ التنزيه لله - عز وجل - ، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء اللَّهُ؛ لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته .
وقال ابن الخطيب : التسبيحُ عبارة عن تنزيهه عن كل سوء فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله تعالى ، لوجب عود النقص إلى قدرة الله تعالى ، فقولك : « إن شاء الله » مزيل هذا النقص ، فكان ذلك تسبيحاً .
وقيل : المعنى : هلاَّ تَسْتغفرونهُ من فِعْلكُم ، وتتوبون إليه من خبث نيتكم .
قيل : إنَّ القوم لمَّا عزموا على منع الزكاةِ واغتروا بالمال والقوة ، قال لهم أوسطهم : توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذابِ ، فلما رأوا العذاب ذكرهم أوسطهم كلامهُ الأول ، وقال : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } فحينئذ اشتغلوا بالتوبة وقالوا : { ِسُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } قال ابن عباس في قولهم سبحان ربنا أي نستغفر ربنا من ذنوبنا لأنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا المساكين .
وقال الحسنُ : هذا التسبيحُ هُو الصَّلاةُ كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة ، وإلا لكانت ناهية لهم [ عن الفحشاء والمنكر ، ولكانت داعية لهم ] إلى أن يواظبوا على ذكر الله ، وعلى قول إن شاء الله .
قوله { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } . أي : يلوم بعضهم بعضاً ، يقول هذا لهذا : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ، ويقول ذلك لهذا : أنت خوفتنا بالفقر ، ويقول الثالث لغيره : أنت رغبتني في جمع المال ، ثم نادوا على أنفسهم بالوَيْلِ فقالوا : { ياويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي : عاصين بمنع حق الفقراءِ ، وترك الاستثناء .
وقال ابنُ كيسان : طغينا نعم اللَّهِ ، فلم نشكرهَا كما شكرها آباؤنا من قبل { عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ } تعاقدوا وقالوا : إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعنّ كما صنع آباؤنا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله من ليلتهم ما هو خير منها .
قرىء : « يبدلنا » بالتخفيف والتشديد ، وهما لغتانِ .
وقيل : التبديلُ تغير الشيء ، أو تغير حاله وعين الشيء قائم ، والإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه ، ثم قال : { إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } أي : طالبون منه الخير راجعون لعفوه .
قال المفسرون : إن الله أمر جبريل عليه السلام أن يقتلع تلك الجنة ، بزغر من أرض الشام ، ويأخذ من أرض الشام جنة ، فيجعلها مكانها .
وقال ابن مسعود : إن القوم لما أخلصوا وعرف الله منهم صدقهم أبدلهم اللَّهُ جنة يقال لها : الخيوان فيها عنب يحمل البغل منها عنقوداً واحداً .
وقال أبو خالد اليماني : دخلت تلك الجنة ، فرأيت كُلَّ عنقودٍ منها كالرَّجلِ الأسودِ القائمِ .
وقال الحسنُ : قول أهل الجنة : { إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } لا أدري إيماناً كان ذلك منهم ، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابهم الشدة . فتوقف في كونهم مؤمنين .
وسئل قتادةُ عن أهل الجنَّة ، أهم من أهل الجنَّة أم من أهل النَّارِ؟ .
قال : لقد كلفتني تعباً .
والأكثرون يقولون : إنهم تابوا وأخلصوا . حكاه القشيري .
قوله : { كَذَلِكَ العذاب } . مبتدأ وخيره مقدم ، أي : مثل ذلك العذاب عذاب الدنيا وأما عذاب الآخرة فأكبر منه { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
قال ابنُ زيدٍ : « كذَلكَ العَذابُ » أي : عذاب الدنيا وهلاك الأموال .
وقيل : هذا وعظٌ لأهل مكة بالرجوعِ إلى اللَّه لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم أي : كفعلنا بهم نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا { وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
قال ابنُ عباسٍ : هذا مثل لأهل مكة حين خرجوا إلى بدر ، وحلفوا ليقتلنَّ محمداً ، وأصحابه ، وليرجعوا إلى أهل مكة ، حتى يطوفوا بالبيت ، ويشربوا الخمر ، وتضرب القيانُ على رءوسهم ، فأخلف الله ظنهم ، وقتلوا وأسروا وانهزموا كأهل هذه الجنة لما خرجوا عازمين على الصرم ، فخابوا .
فصل في العبرة من هذه الآية بضرب المثل
قال ابن الخطيب : قوله تعالى { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } [ القلم : 14 - 15 ] ، والمعنى : لأجل أن أعطاه الله المال والبنين كفر بالله ، كلا ، بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء ، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه ، بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذه المعصيةِ اليسيرةِ دمر الله جنتهم ، فكيف حال من عاند الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصرَّ على الكفر والمعصيةِ .
فصل في بيان هل كان الحق واجباً عليهم أم لا؟
قيل : إن الحق الذي منعه أهل الجنَّة المساكين كان واجباً عليهم ، ويحتمل أنه كان تطوعاً ، والأول أظهر .
وقيل : السورة مكية ، فبعد حمل الآية على ما أصاب أهل مكة من القحطِ ، وعلى قتال بدر .
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
قوله : { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم } ، أي : جناتٌ ليس فيها إلا النعيمُ الخالصُ لا يشوبه ما ينغصُه كما يشوب جناتِ الدنيا .
قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية ، قال كفَّارُ مكة للمسلمين : إن الله تعالى فضَّلنا عليكم في الدنيا فلا بد وأن يُفضِّلنا عليكم في الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيلُ ، فلا أقل من المساواةِ . فأجاب الله عن هذا الكلام بقوله : { أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين } ، أي : إن التسوية بين المُطيع والعاصي غيرُ جائزة ثم وبَّخهُمْ فقال : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاءِ مفوضٌ إليكم حتى تحكموا فيه .
قوله : « عِندَ ربِّهِمْ » . يجوز أن يكون منصوباً بالاستقرار ، وأن يكون حالاً من « جنَّاتِ » .
فصل في رد كلام القاضي
قال القاضي : في الآية دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي ، والفاسق لما كان مجرماً ، وجب أن لا يكون مسلماً .
وأجيب بأنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلاً للمجرم ، ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور ، فإنهما متماثلان في الجوهرية ، والجسمية ، والحدوث ، والحيوانية ، وغيرها من الأمور الكثيرة ، بل المراد : إنكارُ استوائهما في الإسلام والجرم ، أو في آثارِ هذين الأمرينِ ، فالمراد : أن يكون إنكار أثر الإسلام مساوياً لأثر جرم المجرم عند الله ، وهذا لا نزاع فيه ، فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع فيه كونه مسلماً ومجرماً؟ .
فصل في رد كلام الجبائي
قال الجبائيُّ : دلت الآية على أن المجرم لا يكون ألبتةَ في الجنةِ؛ لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما في الثواب ، بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم ، إذا كان المجرمُ أطول عمراً من المسلم ، وكانت طاعته غير محبطةٍ . والجوابُ : هذا ضعيفٌ ، لأنا بينا التسوية في درجة الثوابِ ، ولعلهما لا يستويان فيه بل يكون ثواب المسلمِ الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى ، على أنا نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة ، لأن حمل الجمع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق مشهور في اللغة والعرفِ .
قوله : { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ } . أي : ألكم كتاب تجدون فيه المطيع كالعاصِي . وهذا كقوله { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ } [ الصافات : 156 - 157 ] .
قوله : { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ } .
العامة على كسر الهمزة ، وفيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها معمولة ل « تَدْرُسُونَ » ، أي : تدرسون في الكتاب أن لكم ما تحتاجونه ، فلما دخلت اللامُ كسرت الهمزة ، كقولك : علمت أنك عاقل - بالفتح - وعلمت إنك لعاقل - بالكسر - .
والثاني : أن تكون على الحكايةِ للمدروسِ كما هو ، كقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين }
[ الصافات : 78 ، 79 ] ، قالهما الزمخشري .
وفي الفرق بين الوجهين عسرٌ ، قال : « وتخير الشيء واختاره ، أخذ خيره ، كتنخله وانتخله ، أخذ منخوله » .
الثالث : أنها على الاستئناف على معنى « إن كَان لَكُمْ كتابٌ فلكُمْ متخير » .
قال القرطبي : تم الكلام عند قوله « تَدْرسُونَ » ثم ابتدأ فقال : { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لمَا تَخَيَّرُونَ } أي : إن لكم في هذا الكتاب إذن ما تخيرون ، أي : ليس لكم ذلك ، والكناية في « فِيْهِ » الأولى والثانية راجعة إلى الكتاب .
وقرأ طلحة والضحاك : « أنَّ لَكُمْ » بفتح الهمزة . وهو منصوب ب « تَدْرسُونَ » إلا أن فيه زيادة لام التأكيد ، وهي نظير قراءة { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام } [ الفرقان : 20 ] بالفتح .
وقرأ الأعرج وابن هرمز : « أإنَّ لَكُمْ » في الموضعين ، يعني « أإنَّ لكُمْ فيْهِ لمَا تخيَّرُونَ » « أإنَّ لَكُمْ لمَا تَحْكُمونَ » بالاستفهام فيهما جميعاً .
ثم إنه تعالى زاد في التوبيخ فقال : { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ } ، أي : عهود ومواثيق { عَلَيْنَا بَالِغَةٌ } مؤكدة والبالغة المؤكدة بالله تعالى ، أي : أم لكم عهود على الله تعالى استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة .
قال ابن الخطيب : والمعنى : أم ضمنا لكم ، وأقسمنا لكم بأيمان مغلطة متناهية في التوكيد .
قوله : « بَالِغَةٌ » .
العامة على رفعها نعتاً ل « أيْمَانٌ » و { إلى يَوْمِ القيامة } متعلق بما تعلق به « لَكُمْ » زمن الاستقرار أي كائنة لكم إلى يوم ، أو « ببالغة » ، أي : تبلغ إلى ذلك اليوم ، وتنتهي إليه .
وقرأ زيد بن علي والحسن : بنصبها .
فقيل : على الحال من « أيْمَانٌ » لأنها تخصصت بالعمل ، أو بالوصف .
وقال القرطبيُّ : « على الحال من الضمير في » لَكُمْ « لأنه خبر عن » أيمانٌ « ففيه ضمير منه ، وإما من الضمير في » عليْنَا « إن قدرت » علينا « وصفاً للأيمان لا متعلقاً بنفس الأيمانِ؛ لأن فيه ضميراً منه كما يكون إذا كان خبراً عنه .
وقيل : من الضمير في » علينا إن قدرت علينا « وصفاً للأيمان » .
وقوله : { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } . أي : لأنفسكم من الخير والكرامة .
قوله : { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } ، جواب القسم في قوله : « أيْمانٌ » لأنها بمعنى أقسام .
قوله : { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } . أي : سل - يا محمد - هؤلاء المتقولين عليَّ : أيهم كفيل بما تقدم ذكره ، والزعيم : الكفيل والضمين ، قاله ابن عباس وقتادة ، لقوله تعالى : { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } [ يوسف : 72 ] .
وقال ابنُ كَيْسَان : الزعيم هنا : القائم بالحجة والدعوى .
وقال الحسن : الزعيم : الرسول .
قوله : « أَيُّهم » متعلق ب « سَلْهُمْ » و « بذلك » متعلق ب « زعيمٌ » ، أي : ضمين وكفيل وقد تقدم أن « سَألَ » تعلق لكونه سبباً في العلم ، وأصله أن يتعدى ب « عَنْ » ، أو الباء كقوله :
{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] ، وقوله : [ الطويل ]
4830 - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّساءِ . . .
والجملة في موضع نصب بعد إسقاط الخافض كما تقدم تقريره .
قوله : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } . هذه قراءة العامة .
وقرأ عبد الله : { أم لهم شرك فليأتوا بشركهم } بلفظ المصدرِ .
قال القرطبيُّ : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } ، أي : ألهم ، والميم صلة ، ومعنى : شركاءُ ، أي : شهداء { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ } يشهدون على ما زعموا { إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } في دعواهم .
وقيل : فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم ، فهو أمر تعجيز .
وقال ابن الخطيب : « في تفسيره وجهان :
الأول : أن المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء لله ويعتقدون أن أولئك شركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب ، والخلاص من العقابِ ، وإنما إضاف الشركاء إليهم؛ لأنهم جعلوها شركاء للَّهِ ، كقوله : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ } [ الروم : 40 ] .
الثاني : أم لهم أناسٌ يشاركونهم في هذا المذهب ، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين فليأتوا بهم إن كانوا صادقينَ في دعواهم ، والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي ، ولا دليل من كتاب يدرسونه ، فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القولِ ، فدل ذلك على بطلانه » .
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
ثم إنه تعالى لما أبطل قولهم شرح بعده عظمة يوم القيامة ، وهو قوله :
{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } « يَوْمَ » منصوب بقوله « فليَأتُوا » أي : فليأتوا بشركائهم يوم يكشفُ عن ساق ليشفع الشركاء لهم وحينئذ لا يوقف على « صَادِقينَ » .
أو بإضمارِ « اذْكُرْ » فيكون مفعولاً به ، أو بمحذوفٍ وهو ظرف ، أي : يوم يكشف يكون كيت وكيت . أو ب « خَاشِعةً » . قاله أبو البقاء .
و « عَنْ ساقٍ » قائم مقام الفاعل .
وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة : « تكشف » بالتاء من فوق مبنياً للفاعل ، أي : الشدة والساعة . وعنه أيضاً كذلك : مبنياً للمفعول .
وهي مشكلة ، لأن التأنيث لا معنى له هاهنا إلا أن يقال : إن المفعول مستتر ، أي : تكشف هي ، أي : الشدة ، ويتعلق « عَنْ ساقٍ » بمحذوف ، أي : تكشف عن ساقها .
ولذلك قال الزمخشري : « وتكشف » بالتاء مبنياً للفاعل والمفعول جميعاً ، والفعل للساعة ، أو الحال : أي يشتد الحال ، أو الساعة .
وقرىء : « ويُكشِفُ » - بضم التاء أو الياء وكسر الشين - من « أكشف » إذا دخل في الكشف ، وأكشف الرجل إذا انقلبت شفته العليا لانكشاف ما تحتها . ويقال له أيضاً : أخلع وكشف الساق كناية عن الشدة .
قال الراجز : [ الرجز ]
4831 - عَجِبْتُ مِنْ نَفْسِي ومِنْ إشْفَاقِهَا ... ومِنْ طِرَادِي الطَّيْرَ عَنْ أرْزَاقِهَا
في سَنةٍ قَدْ كشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا ... حَمْرَاءِ َبْرِي اللَّحْمَ عَنْ عُراقِهَا
وقال حاتم الطائيُّ : [ الطويل ]
4832 - أخُو الحَرْبِ إنْ عَضَّتْ به الحَرْبُ عضَّهَا ... وإنْ شَمَّرْتَ عَنْ سَاقهَا الحَرْبُ شَمَّرَا
وقال الآخر : [ مجزوء الكامل ]
4833 - كَشفَتْ لَهُمْ عَنْ سَاقِهَا ... وبَدَا مِنَ الشَّرِّ البَواحُ
وقال الراجز : [ الرجز ]
4834 أ - قَدْ شَمرَتْ عَنْ سَاقِهَا فشُدُّوا ... وجَدَّتِ الحَرْبُ بِكُمْ فَجِدُّوا
وقال الآخر : [ السريع ، أو الرجز ]
4834 ب - صَبْراً أُمامُ إنَّهُ شَرُّ بَاقْ ... وقَامتِ الحَرْبُ بِنَا على سَاقْ
قال الزمخشريُّ : الكشفُ عن الساق والإبداء عن الخدام مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدراتِ عن سوقهن في الهرب وإبداء خدامهن عند ذلك؛ قال حاتم :
4835أ - أخو الحَرْبِ . .. . . .
وقال ابن قيس الرُّقيَّاتِ : [ الخفيف ]
4835 ب - تُذِهِلُ الشَّيْخَ عنْ بنيهِ وتُبْدِي ... عَنْ خِدَامِ العَقيلَةُ العَذْراءُ
انتهى .
فصل في « الساق »
قال ابن عباس في قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } ، قال : كرب وشدة .
وعن مجاهد : شدة الأمر وحده .
وروى مجاهد عن ابن عباس قال : أشد ساعةٍ في القيامة .
وقال أبو عبيدة : إذا اشتد الأمر ، أو الحرب قيل كشف الأمر عن ساقه .
والأصل فيه : أن من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجد ، شمر عن ساقه ، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة .
وقيل : ساق الشيء : أصله الذي به قوامه كساق الشجرة ، وساق الإنسان ، أي : يوم يكشفُ عن أصل الأمر ، فتظهر حقائق الأمور ، وأصلها .
وقيل : يكشف عن ساق جهنم .
وقيل : عن ساق العرش .
وقيل : يريد وقت اقتراب الأجل وضعف البدن ، أي : يكشف المريض عن ساقه ليبصر ضعفه ، ويدعوه المؤذنون إلى الصلاة ، فلا يمكنه أن يقوم ، ويخرج .
فصل في تأويل « الساق »
قال القرطبيُّ : فأما ما روي الله تعالى يكشف عن ساقه ، فإنه - عز وجل - يتعالى عن الأعضاء ، والأبعاض ، وأن ينكشف ، ويتغطى ، ومعناه أن يكشف عن العظيم من أمره وقيل : « يكشف عن نوره عز وجل » .
؟؟؟وروى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { عَنْ سَاقٍ } قال : يكشف عن نورٍ عظيمٍ يخِرُّونَ لهُ سُجَّداً .
وروى أبو بردة عن أبي موسى قال : حدثني أبي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامةِ مثِّل لِكُلِّ قَوْمٍ مَا كَانُوا يَعْبدُونَ فِي الدُّنيَا فيَذْهبُ كُل قَوْمٍ إلى مَا كَانُوا يَعَبْدُون ويبقى أهلُ التَّوحيدِ ، فيقال لهم : ما تَنْتَظِرُونَ ، وقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ ، فيقولون : لنَا رَبٌّ كنَّا نَعْبدُهُ في الدُّنيَا ، ولَمْ نَرَهُ ، قال : وتعْرِفُونهُ إذَا رأيتمُوهُ؟ فيقولون : نَعَم ، فيُقَالُ لَهُمْ : فَكيْفَ تعرفونه ، ولَمْ تَرَوهُ؟ قالوا : إنه لا شبيهَ لَهُ ، فيكشفُ لَهُم الحجابُ ، فينْظُرونَ إلى اللَّهِ تعالى ، فيخِرُّونَ لَهُ سُجَّداً ، ويبقى أقوامٌ ظُهُورُهُمْ كَصَياصِي البَقرِ ، فينْظرُونَ إلى اللَّهِ تعالى فيريدون السُّجُودَ ، فلا يَسْتطِيْعُونَ ، فَذلكَ قوله تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } فيقول الله تعالى : عبادي ارفعوا رءوسكم ، فقد جعلت بدل كل رجل منكم رجلاً من اليهود والنصارى في النار » ، قال أبو بردةُ : فحدثت بهذا الحديث عمر بن عبد العزيز فقال : الله الذي لا إله إلا هو لقد حدثك أبوك بهذا الحديث؟ فحلف له ثلاثة أيمانٍ ، فقال عمر : سمعتُ في أهل التوحيد حديثاً هو أحب إليَّ من هذا .
قوله { خَاشِعَةٌ } . حال من مرفوع « يُدْعَونَ » و « أبْصَارهُمْ » فاعل به ، ونسب الخشوع للأبصار وإن كانت الأعضاء كُلها كذلك لظهور أثره فيها .
وقوله : « وهُمْ سَالِمُونَ » . حال من مرفوع « يُدعَونَ » الثانية .
ومعنى { خَاشِعَةٌ أَبْصَارُهُمْ } ، أي : متواضعةٌ « تَرْهقُهُمْ ذلَّةٌ » وذلك أن المؤمنين يرفعون رءوسهم ، ووجوههم أشد بياضاً من الثلج ، وتسود وجوه الكافرين والمنافقين حتى ترجع أشد سواداً من القار .
فصل في تقرير كلام أهل اللغة في الساق
قال ابن الخطيب بعد أن حكى أقوال أهلِ اللغةِ في الكشف عن الساق : واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعماله في الشدة مجاز ، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلامِ إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة ، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى يستحيل أن يكون جسماً ، فيجب حينئذٍ صرف هذا اللفظ إلى المجاز .
واعلم أن صاحب الكشَّاف أورد هذا التأويل في معرض آخر ، فقال : الكشف عن السَّاق مثلٌ في شدَّة الأمر ، فمعنى { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } يوم يشتد ، ويتعاظم ، ولا كشف ثمَّ ولا ساقَ ، كما تقول : الشحيح يده مغلولة ، ولا يد ثمَّ ، ولا غل ، وإنما هو مثل في البخلِ ، ثم أخذ يعظم علم البيانِ ويقول : لولاه ما وقفنا على هذه الأسرارِ ، وأقولُ : إما أن يدعي أنه يجوز صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل ، أو تقول : لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة ، والأول باطل بالإجماع ، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفةِ في أمر المعاد ، فإنهم يقولون في قوله : { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ الحج : 23 ] ليس هناك أنهار ولا أشجار ، وإنما هو مثل للّذة والسعادة ويقولون في قوله تعالى : { اركعوا واسجدوا } [ الحج : 77 ] وليس هناك ركوع ولا سجود وإنما هو مثل للتعظيم ، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع ، وفساد الدينِ ، وأما من قال : إنه لا يصار إلى التأويل ، إلا عند قيام الدليل على أنه لا يجوز حمله على ظاهره ، فهذا قولُ كُلِّ أحد من المتكلمين ، فأين الدقائق التي استند هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطةِ علم البيان ، ثم إن قال بعد أن حكى القول بأن المراد بالساق جهنم ، أو ساق العرش ، أو ساق ملك عظيم إن اللفظ لا يدل إلا على ساق ، وأما أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه ، ثم ذكر حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم « أنَّهُ تعالى يتَمثَّلُ للخَلْق يَوْمَ القِيامةِ حِيْنَ يَمُرُّ المُسْلمُونَ فيقول : مَنْ تَعْبُدُونَ؟ فيقولون : نَعْبُدُ اللَّهَ فيُشْهدُهمْ مرَّتينِ ، أو ثلاثاً ، ثُمَّ يقُولَ : هَلْ تَعْرفُون ربَّكُمْ؟ فيقولون : لَوْ عرَّفنَا نَفسَهُ عرفْناهُ ، فعِنْدَ ذلِكَ يُكْشَفُ عن سَاقٍ فَلا يَبْقَى مُؤمِنٌ إلاَّ خَرَّ للَّه ساجِداً ، ويَبْقَى المُنافِقُونَ ظُهُورهُمْ كالطَّبَقِ الوَاحدِ ، كأنَّما فيهَا السَّفافِيدُ » .
قال : واعلم أن هذا القول باطل لوجوه :
أحدها : أن الدلائل دلت على أن كل جسم متناهي وكل متناهٍ محدث ، وأنّ كلَّ جسم ممكن وكل ممكن محدث .
وثانيها : أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف أنها ساق مخصوصة معهودة عنده ، وهي ساق الرحمن ، أما إذا أجملت ففائدة التنكير : الدلالة على التعظيم ، كأنه قال : يوم يكشف عن شدة ، وأي شدة لا يمكن وصفها .
وثالثها : أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق ، وإنما يحصل بكشف الوجه ، ثم حكى قول أبي مسلم : بأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة؛ لأنه تعالى قال في وصفه : { وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود } ويوم القيامة ليس فيها تعبد ، ولا تكليف ، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه ، كقوله تعالى :
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 22 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } [ الأنعام : 158 ] الآية لأنه الوقت الذي لا تنفع نفساً إيمانها ، وإما حال المرض والهرم والعجز ، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها ، وهو لا يستطيع الصلاة { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سَالِمُونَ } مما بهم الآن من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت ، أو من العجز والهرم ، ونظير هذه الآية { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } [ الواقعة : 83 ] . ثم قال : واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قال أبو مسلم ، ثم قال : فأما قوله : « إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل في الدنيا والتكاليف زائلة يوم القيامة » .
فجوابه : أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتخجيل فلم قلت : إن ذلك غير جائزٍ .
قوله { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود } في الدنيا { وَهُمْ سَالِمُونَ } معافون أصحاء .
قال إبراهيم التيمي : أي : يدعون بالأذان ، والإقامة ، فيأبون .
وقال سعيد بن جبيرٍ : كانوا يسمعون حيّ على الفلاح ، فلا يجيبون ، وهم سالمون أصحاء .
وقال كعبُ الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات .
وقيل : أي : بالتكليف الموجه عليهم في الشرع .
قوله : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث } ، أي : فدعني والمكذبين بالقرآن وخلّ بيني وبينهم .
وقال الزجاجُ : لا تشغل بالك به كِلْهُ إليّ ، فإني أكفيك أمره .
و « مَنْ » منصوب إما نسقاً على ضمير المتكلم ، أو مفعول معه ، وهو مرجوح؛ لإمكان النسق من غير ضعف ، وتقدم إعراب ما بعده .
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف مما عنده ، وفي قدرته من القهر ، يقال : ذَرْنِي وإياه أي كِلْهُ إليّ ، فأنا أكفيكه .
قال السديُّ : والمراد بالحديث القرآن .
وقيل : يوم القيامةِ ، وهذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
قوله : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : سنأخذهم على غفلة ، وهم لا يعرفون ، فعذبوا يوم بدر .
وقال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعم ، وننسيهم الشكر .
وقال الحسن : كم مستدرجٍ بالإحسان إليه ، وكم مفتون بالثناء عليه ، وكم مغرورٍ بالستر عليه .
وقال أبو روق : كلما أحدثوا الخطيئة جددنا لهم نعمة ، وأنسيناهم الاستغفار .
قال ابن عباسٍ : سنمكر بهم ، وروي أن رجلاً من بني إسرائيل قال : يا ربِّ ، كم أعصيك وأنت لا تعاقبني ، فأوحى اللَّهُ إلى نبي زمانهم أن قُلْ له : كَمْ مِنْ عقُوبَةٍ لِي عليكَ وأنْتَ لا تَشْعرُ أنَّ جُمُودَ عَيْنِك ، وقساوة قلبك استدراجٌ منِّي ، وعقُوبةٌ لو عقَلْتَ .
والاستدراج : ترك المعالجة ، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدريج .
ومنه قيل : درجات ، وهي منزلة واستدرج فلان فلاناً ، أي : استخرج ما عنده قليلاً قليلاً ، ويقال : درجه إلى كذا ، واستدرجه بمعنى أدناه على التدريج ، فتدرج .
ومعنى الآية : إنا لما أنعمنا عليهم اعتقدوا أن ذلك الإنعام تفضيل لهم على المؤمنين ، وهو في الحقيقة يسبب هلاكهم .
قوله : { وَأُمْلِي لَهُمْ } أي : أمهلهم ، وأطيل لهم المدة ، كقوله { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] والملاوة : المدة من الدهر ، وأملى الله له ، أي : أطال له ، والملوان : الليل والنهار .
وقيل : { وَأُمْلِي لَهُمْ } ، أي : لا أعاجلهم بالموت ، والمعنى واحد ، والملا مقصور : الأرضِ الواسعة سميت بها لامتدادها { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي : إن عذابي لقوي شديد؛ فلا يفوتني أحد ، وسمى إحسانه كيداً كما سماه استدراجاً في صورة الكيدِ ووصفه بالمتانة لقوة أثر استحسانه في السبب للهلاك .
فصل في إرادة الكائنات
قال ابن الخطيبِ : تمسك الأصحاب بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات ، لأن هذا الاستدراج والكيد إن لم يكن لهما أثر في الطغيان ، فليسا بكيد ، ولا استدراج ، وإن كان لهما أثر فيه لزم أن يكون الحق سبحانه مريداً له ، لأن من فعل شيئاً لحصول شيء وأكده وقواه لا بد وأن يكون مريداً لحصول ذلك الشيء .
أجاب الكعبيُّ : بأن المراد استدراجهم إلى الموتِ ، أي : يخفى عنهم زمن الموت من حيثُ لا يعلمون ، وهو مقتضى الحكمة ، وإلا لكان فيه إغراء بالمعاصي ، لأنهم لو عرفوا الوقت الذي يموتون فيه أقدموا على المعاصي ، ثم صاروا مفتنين .
وأجاب الجبائيُّ : بأن معنى قوله : { سَنَسْتَدْرِجُهُم } أي : إلى العذاب { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } في الآخرة ، { وَأُمْلِي لَهُمْ } في الدنيا توكيداً للحجة عليهم { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } فأمهله ، وأزيح الأعذار عنه { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] ، ويدل على هذا قوله قبل ذلك : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث } ولا شك أن هذا التهديد إنما هو بعذاب الآخرة ، فوجب أن يكون الاستدراج والكيد المذكور عقيبه هو عذاب الآخرة وأجاب الأصحاب : أن هنا الإمهال إذا كان مؤدياً إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضياً بذلك الطغيان .
قوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } . عاد الكلام إلى ما تقدم من قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } أي : أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله ، والمغرم : الغرامة فهم من غرامة ذلك مثقلُون ، أي : يثقل حمل الغرامات عليهم في بذل المال ، فيثبطهم ذلك عن الإيمان .
والمعنى : ليس عليهم كلفة في متابعتك ، بل يستولون بالإيمان على خزائن الأرض ويصلون إلى جنات النعيم .
قوله : { أَمْ عِندَهُمُ الغيب } ، أي : علم ما غاب عنهم { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } .
وقيل : أينزل عليهم الوحي بهذا الذي يقولون ، وعن ابن عباسٍ : الغيب هنا هو اللوح المحفوظُ ، فهم يكتبون منه ثوابَ ما هم عليه من الكفر ، ويخاصمونك به ، ويكتبون أنهم أفضل ، وأنهم لا يعاقبون .
وقيل : « يَكْتُبونَ » أي : يحكمون ما يريدون ، وهذا استفهام على سبيل الإنكار .
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
قوله { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي : لقضاء ربِّك ، والحكم هنا القضاء .
وقيل : اصبر على ما حكم به عليك ربُّك من تبليغ الرسالةِ .
وقال ابنُ بَحْرٍ : فاصبر لنصر ربك .
وقيل : منسوخ بآية السيف { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } يعني يونس - عليه السلام - أي : لا تكن مثله في الغضب ، والضجر ، والعجلة .
وقال قتادة : إن الله تعالى يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ويأمره بالصبر ، ولا يعجل كما عجل يونس - عليه الصلاة والسلام - . وقد مضى الفرق بين « ذي » و « صاحب » في « يونس » .
قوله : { إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ } .
« إذْ » منصوب بمضاف محذوف ، أي : ولا يكن حالك كحاله ، أو قصتك كقصته في وقت ندائه ، ويدل على المحذوف أن الذوات لا ينصبُّ عليها النهي على أحوالها ، وصفاتها .
وقوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } . جملة حالية من الضمير في « نَادَى » .
والمكظوم : الممتلىء حزناً وغيظاً ، ومنه كظم السقاء إذا ملأه .
قال ذو الرمة : [ البسيط ]
4836 - وأنْتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حَزَناً ... عَانِي الفُؤادِ قَريحُ القَلْبِ مَكْظُومُ
فصل في دعاء يونس
« إذْ نَادَى » ، أي : حين دعا من بطن الحوتِ ، فقال : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] .
قال القرطبي : ومعنى { وَهُوَ مَكْظُومٌ } أي : مملوء غمًّا .
وقيل : كرباً ، فالأول قول ابن عباس ومجاهد ، والثاني : قول عطاء وأبي مالك ، قال الماورديُّ : والفرق بينهما أن الغمَّ في القلب ، والكرب في الأنفاس .
وقيل : « مَكْظُومٌ » محبوس ، والكظم : الحبس ومنه قولهم : كَظَمَ غَيْظَهُ ، أي : حبس غضبه ، قاله ابن بحر .
وقيل : « إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس ، قاله المُبرِّدُ » .
والمعنى : لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر ، والمغاضبة ، فتبتلى ببلائه .
قوله : { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } .
قال ابن الخطيب : لِمَ لَمْ يَقُلْ : تداركته نعمة؟ وأجاب : بأنه إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في « تَدَاركَهُ » . ولأن التأنيث غير حقيقي .
وقرأ أبيّ وعبد الله بن عباس : « تَدارَكتْهُ » بتاء التأنيث لأجل اللفظِ .
والحسن وابن هرمز والأعمش : « تَدّارَكهُ » - بتشديد الدال - .
وخرجت على الأصل : تتداركه - بتاءين - مضارعاً ، فأدغم ، وهو شاذ؛ لأن الساكن الأول غير حرف لين؛ وهي كقراءة البزي { إذْ تَلَّقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] ، و { ناراً تَلَّظَّى } [ الليل : 14 ] ، وهذا على حكاية الحال ، لأن المقصد ماضيه ، فإيقاع المضارع هنا للحكاية ، كأنه قال : لولا أن كان يقال فيه : تتداركه نعمة .
قوله : { نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ } .
قال الضحاكُ : النعمة هنا : النبوة .
وقال ابن جبيرٍ : عبادته التي سلفت .
وقال ابن زيدٍ : نداؤه بقوله { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين }
[ الأنبياء : 87 ] .
وقال ابن بحرٍ : إخراجه من بطن الحوتِ .
وقيل : رحمة من ربِّه ، فرحمه وتاب عليه .
قوله : { لَنُبِذَ بالعرآء } ، هذا جواب « لَوْلاَ » ، أي : لنبذ مذموماً لكنه نبذ سقيماً غير مذموم .
وقيل : جواب « لَولاَ » مقدر ، أي : لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوتِ .
ومعنى : « مَذْمُوم » ، قال ابن عباس : مُليمٌ .
وقال بكر بن عبد الله : مُذنِبٌ .
وقيل : مبعدٌ من كل خير . والعراء : الأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل ، ولا شجر يستر .
وقيل : لولا فضلُ الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، ثم نبذ بعراء القيامة مذموماً ، يدل عليه قوله تعالى { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143 ، 144 ] .
فصل في عصمة الأنبياء
قال ابن الخطيب : هل يدل قوله « وهُوَ مَذمُومٌ » على كونه فاعلاً للذنب؟ قال : والجوابُ من ثلاثة أوجه :
الأول : أن كلمة « لولا » دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل .
الثاني : لعل المراد من المذموميةِ ترك الأفضلِ ، فإن حسنات الأبرارِ سيئات المقربين .
الثالث : لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة ، لقوله « فاجْتبَاهُ رَبُّهُ » والفاء للتعقيب .
قيل : إن هذه الآية نزلت بأحدٍ حين حل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل فأراد أن يدعو على الذين انهزموا .
وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف .
قوله : { فاجتباه رَبُّهُ } ، أي : فاصطفاه واختاره . { فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } .
قال ابن عباس : رد الله إليه الوحي ، وشفعه في نفسه ، وفي قومه ، وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألفٍ ، أو يزيدون .
فصل فيمن قال : إن يونس لم يكن نبياً قبل واقعة الحوت
قال ابن الخطيب : قال قوم : لعل صاحب الحوتِ ما كان رسولاً قبل هذه الواقعة ، ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولاً ، وهو المرادُ من قوله { فاجتباه رَبُّهُ } والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا هذا القول ، لأن الاحتباس في بطن الحوت ، وعدم موته هناك لما لم يكن هناك إرهاص ، ولا كرامة ، فلا بد وأن تكون معجزة ، وذلك يقتضي أنه كان رسولاً في تلك الحال .
فصل في خلق أفعال العباد
قال ابن الخطيب : احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله : { فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } وهذا يدل على أن الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه .
قال الجبائيُّ : يحتمل أن يكون معنى « جعلهُ » أنه أخبر بذلك ، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح ، إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني .
والجواب : أن ذلك مجاز ، والأصل في الكلامِ الحقيقة .
قوله : { وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ } « إنْ » المخففة من الثقيلة : « ليُزلقُونَكَ » ، أي : يغتالونك بأبصارهم ، قرأها نافع : بفتح الياء ، والباقون : بضمها .
فأما قراءة الجماعة : فمن أزلقه ، أي : أزال رجله ، فالتعدية بالهمزة من أزلق يزلق .
وأما قراءة نافع ، فالتعدية بالحركة ، يقال : زَلِقَ - بالكسر - وزلقتُه - بالفتح ، ونظيره : شترت عينه - بالكسر - وشترها الله - بالفتح . [ وقد تقدم لذلك أخوات ] .
وقيل : زلقه وأزلقه - بمعنى واحد - إزلاقاً ، إذا نحاه وأبعده ، وأزلق برأسه يزلقه زلقاً ، إذا حلقه .
قال القرطبي : « وكذلك أزلقه ، وزلقهُ تزليقاً ، ورجل زلقٌ وزُملق - مثال هُدَبِد - وزمالِق وزملِق - بتشديد الميم - وهو الذي ينزل قبل أن يجامع ، حكاه الجوهري وغيره » .
والباء في « بأبْصارهِمْ » إما للتعدية كالداخلة على الآلة ، أي : جعلوا أبصارهم كالآلة المزلقة لك ك « عملت بالقدوم » ، وإما للسببية ، أي : بسبب عيونهم .
وقرىء : « ليُزْهقونَكَ » من زهقت نفسه ، وأزهقها .
ثم فيه وجوه :
أحدها : أنهم من شدة تحديقهم ، ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة ، والبغضاء يكادون يزلقون قدمك من قولهم : نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني ، أنشد ابن عباسٍ لما مر بأقوام حددوا النظر فيه : [ الكامل ]
4837 - نَظَرُوا إليَّ بأعْيُنٍ مُحَمَرَّةٍ ... نَظَرَ التيُوسِ إلى شِفارِ الجَازِرِ
فصل في المراد بالنظر
أخبر الله تعالى بشدة عداوتهم للنبي صلى الله عليهم وسلم وأرادوا أن يصيبوه بالعين ، فنظر إليه قوم من قريش وقالوا : ما رأينا مثله ، ولا مثل حججه .
وقيل : كانت العين في بني أسد ، حتى إن البقرة السمينة ، أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول : يا جارية ، خذي المكتل والدرهم ، فأتنا بلحم هذه الناقة فما تبرح حتى تقع الناقة للموت فتنحر .
وقال الكلبيُّ : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئاً يومين أو ثلاثة ثم يرجع جانب الخباء ، فتمر به الإبل والغنم ، فيقول : لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه فلا تذهب قليلاً حتى تسقط منها طائفة هالكة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعين ، فأجابهم ، فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم أنشد : [ الكامل ]
4838 - قَدْ كَانَ قَوْمُكَ يَحْسبُونَكَ سيِّداً ... وإخَالُ أنَّك سَيِّدٌ مَعْيُونُ
فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم ونزلت هذه الآية .
وذكر الماورديُّ : أن العرب كانوا إذا أراد أحدهم أن يصيب أحداً يعني في ماله ونفسه يجوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله ، فيقول : بالله ما رأيتُ أقوى منه ، ولا أشجع ، ولا أكبر منه ، ولا أحسن فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
قال القشيريُّ : وفي هذا نظرٌ؛ لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغضِ ، ولهذا قال : « ويقولون : إنه لمجْنُونٌ » أي : ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن .
قال القرطبيُّ : أقوال المفسرين واللغويين تدل على ما ذكرنا ، وأن مرادهم بالنظر إليه قتله ، ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة حتى يهلك .
فمعنى الكلمة إذاً التنحية والإزالة ، وذلك لا يكون في حق النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهلاكه وموته .
قال الهرويُّ : أراد ليغتالونك بعيونهم ، فيزيلونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك .
وقال ابن عباس : ينفذونك بأبصارهم ، يقال : زلق السَّهم ، وزهق إذا نفذ ، وهو قول مجاهد أي : ينفذونك من شدة نظرهم .
وقال الكلبي : يصرعونك ، وعنه أيضاً والسُّدي وسعيد بن جبير : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة .
وقال العوفي : يرمونك .
وقال المؤرج : يزيلونك .
وقال النضر بن شميل والأخفش : يفتنونك .
وقال الحسن وابن كيسان : ليقتلونك كما يقال : صرعني بطرفه ، وقتلني بعينه .
قوله : { لَمَّا سَمِعُواْ الذكر } من جعلها ظرفية جعلها منصوبة ب « يُزْلقُونكَ » ، ومن جعلها حرفاً جعل جوابها محذوفاً للدلالة ، أي : لما سمعوا الذِّكر كادوا يزلقونك ، ومن جوز تقديم الجواب ، قال : هو هنا متقدم .
والمراد بالذكر القرآن ، ثم قال : { وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } وهو على ما افتتح به السُّورة ، ثم قال : « ومَا هُوَ » يعني : القرآن .
{ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِين } أي : الذين يزعمون أنه دلالة جنونه إلا ذكر للعالمين تذكير لهم ، وبيان لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد .
وقال الحسنُ : دَوَاء إصابةِ العيْنِ أنْ يَقْرَأ الإنسانُ هذه الآية .
وقيل : وما محمدٌ إلا ذكر للعالمين يتذكرون به .
وقيل : معناه شرف ، أي : القرآن ، كقوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] والنبي صلى الله عليه وسلم شرف للعالمين أيضاً شرفوا باتباعه والإيمان به .
عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرأ سُورَةَ القلمِ أعْطَاهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - ثوابَ الذينَ حسَّنَ اللَّهُ أخلاقهم » .
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
قوله تعالى : { الحاقة مَا الحآقة } .
« الحاقة » مبتدأ ، و « ما » مبتدأ ثانٍ ، و « الحاقة » خبره ، والجملة خبر الأول؛ لأن معناها « ما هي » واللفظُ استفهام ، ومعناها التفخيم والتعظيم لشأنها .
قال ابن الخطيب : وُضِعَ الظاهرُ موضع المضمرِ؛ لأنه أهولُ لها ، ومثله { القارعة مَا القارعة } [ القارعة : 1 ، 2 ] وقد تقدَّم تحريرُ هذا في « الواقعةِ » .
و « الحاقَّة » فيها وجهان :
أحدهما : انه وصف اسم فاعل بمعنى أنها تبدي حقائق الأشياء .
وقيل : إن الأمر يحق فيها فهي من باب « ليل نائم ، ونهار صائم » قاله الطبري .
وقيل : سميت حاقة؛ لأنها تكون من غير شكٍّ لأنها حقَّت فلا كاذبة لها .
وقيل : سميت القيامة بذلك؛ لأنها أحقت لأقوامٍ الجنَّة ، وأحقَّت لأقوامٍ النَّار .
وقيل : من حق الشيء : ثبت فهي ثابتة كائنة .
وقيل : لأنها تحق كل محاق في دين الله أي : تغلبه ، من حاققته ، فحققته أحقه أي : غلبته .
وفي « الصحاح » : وحاقه ، أي : خاصمه ، وادعى كل واحد منهما الحقَّ ، فإذا غلبه قيل : حقه ، ويقال : ما له فيه حقٌّ ، ولا حقاق أي : خصومة ، والتحاق : والتخاصم ، والاحتقاق : الاختصام ، والحاقَّةُ والحقُّ والحقةُ ثلاثُ لغاتٍ بمعنًى .
وقال الكسائيُّ والمؤرج : الحاقَّةُ : يوم الحقِّ .
والثاني : أنه مصدر ك « العاقبة » و « العافية » .
قوله « ما الحَاقَّةُ » في موضع نصب على إسقاط الخافض ، لأن « أدرى » بالهمزة يتعدى لاثنين ، للأول : بنفسه ، والثني : ب « الباء » ، قال تعالى : { وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } [ يونس : 16 ] ، فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة لها كانت في موضع المفعولِ الثاني ، ودون الهمزة تتعدى لواحدٍ ب « الباء » نحو : « دريت بكذا » أو يكون بمعنى « علم » فيتعدّى لاثنين .
فصل في معنى « ما أدراك » .
معنى « ما أدراك » ، أي شيء أعلمك ما ذاك اليوم ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بالقيامة ، ولكن لا علم له بكونها وصفتها ، فقيل ذلك تفخيماً لشأنها ، كأنك لست تعلمُها ، ولم تعاينها .
وقال يحيى بن سلام : بلغني أنَّ كل شيء في القرآن « ومَا أدْراكَ » فقد أدراه وعلمه ، وكل شيء قال : « ومَا يُدْريكَ » فهو مما لم يعلمهُ .
وقال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه : « وما أدْراكَ » فإنه أخبر به ، وكل شيء قال فيه : « وما يُدريْكَ » ، فإنه لم يخبر به .
قوله : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة } .
« القارعةُ » القيامة ، سميت بذلك [ لأنها ] تقرعُ قلوب العبادِ بالمخافةِ .
وقيل : لأنها تقرع الناس بأهوالها يقال : أصابتهم قوارعُ الدهرِ ، أي : أهواله وشدائده وقوارضُ لسانه؛ جمع قارضة ، وهي الكلمة المؤذيةُ ، وقوارعُ القرآن : الآيات التي يقرؤها الإنسانُ إذا قُرعَ من الجن والإنس نحو آية « الكرسي » كأنَّه يقرع الشيطان .
وقال المبرِّد : القارعة مأخوذةٌ من القرعة من رفع قومٍ وحطِّ آخرين .
وقوارعُ القيامة : انشقاقُ السماءِ ، وانفطارها ، والأرض والجبال بالدكِّ والنسف ، والنجوم بالطَّمس والانكدار .
وإنما قال : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة } ، ولم يقل : بها ليدل على أنَّ معنى القرع حاصل في الحاقَّةِ ، فيكون ذلك زيادة على وصف شدتها ، ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك بذكر من كذب بها ، وما حل بهم بسبب التكذيبِ تذكيراً لأهل « مكةَ » وتخويفاً لهم من عاقبةِ تكذيبهم .
وقيل : عنى بالقارعةِ : العذاب الذي نزل بهم في الدنيا ، وكان نبيُّهم يخوفهم بذلك ، فيكذبونه وثمودُ قوم صالح ، وكانت منازلهم ب « الحجر » فيما بين « الشام » و « الحجاز » .
قال ابن إسحاق : هو وادي « القرى » ، وكانوا عرباً ، وأما عادٌ فقوم هود ، وكانت منازلهم ب « الأحقاف » ، و « الأحقاف » : الرمل بين « عمان » إلى « حَضْرمَوْتَ » و « اليمن » كله ، وكانوا عرباً ذوي بسطةٍ في الخلق وقد تقدم ذلك في « الأحقاف » .
قوله : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } . هذه قراءةُ العامةِ .
وقرأ زيدُ بن عليٍّ : « فَهَلكُوا » مبنياً للفاعل .
وقوله : « بالطاغية » فيه إضمار أي : بالفعلة الطَّاغية .
وقال قتادةُ : بالصَّيحةِ الطاغية المتجاوزةِ للحدِّ ، أي : لحد الصيحاتِ من الهولِ ، كما قال : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر } [ القمر : 31 ] .
و « الطغيانُ » : مجاوزة الحدِّ ، ومنه { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ } [ الحاقة : 11 ] ، أي : جاوز الحدَّ .
وقال ابن زيدٍ : بالرجل الطَّاغية ، وهو عاقرُ الناقةِ ، و « الهاء » فيه للمبالغة على هذه الأوجه صفة .
والمعنى : أهلكوا بما أقدم عليه طاغيهم من عقر الناقة وكان واحداً ، وإنما هلك الجميعُ؛ لأنهم رضوا بفعله ، ومالئوه .
وقيل له : طاغية كما يقال : فلان راويةٌ وداهيةٌ وعلامةٌ ونسابةٌ .
ويحتمل أن يقال : بسبب الفِرقةِ الطاغيةِ ، وهم : التسعة رهطٍ ، الذين كانوا يفسدون في الأرض ، ولا يصلحون ، وأحدهم عاقرُ الناقة .
وقال الكلبيُّ : « بالطَّاغيةِ » : بالصَّاعقةِ .
وقال مجاهدٌ : بالذُّنوبِ .
وقال الحسنُ : بالطُّغيانِ فهي مصدرٌ ك « العاقبة » و « الكاذبة » ، أي : أهلكُوا بطغيانهم وكفرهم ، وبوضحه : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [ الشمس : 11 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ ، قال : وقد طعنوا فيه بوجهين :
الأول : قال الزجاجُ : إنه لما ذكر في الجملة الثانية نوع الشيءِ الذي وقع به العذابُ ، وهو قوله تعالى : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } وجب أن يكون الحال في الجملة الأولى كذلك حتى تحصل المناسبةُ .
والثاني : قال القاضي : لو كان المرادُ ما قالوه لكان من حق الكلام أن يقال : أهْلِكُوا لها ولأجلِها .
ف « الباء » للسببية على الأقوال إلاَّ على قولِ قتادة ، فإنها فيه للاستعانة ك « عملتُ بالقدوم » .
قوله : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } . أي : باردة تحرق ببردها كإحراق النار مأخوذٌ من الصَّرصر وهو البردُ . قاله الضحاك .
وقيل : إنَّها لشديدةُ الصوتِ .
وقال مجاهد : إنَّها لشديدة السُّمومِ ، و « عَاتِية » عتت على خُزَّانها فلم تطعهم ، ولم يطيقوها من شدة هبوبها غضبت لغضبِ اللَّهِ .
وقال عطاء عن ابن عباسٍ : عتت على عادٍ فقهرتهم ، فلم يقدروا على ردِّها بحيلة من استناد إلى جبل ، بل كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم .
وروى سفيانُ الثوريُّ عن موسى بن المسيِّب عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا أرسَلَ اللَّهُ من نسمةٍ من ريْحٍ بمِكْيالٍ ولا قطرة من مَاءٍ إلاَّ بمكيَالٍ إلا يَوْمَ عادٍ ويَوْمَ قوْم نُوحٍ فإنَّ المَاءَ يوْمَ قوْمِ نُوحٍ طَغَى على الخزان فلمْ يكُنْ لهُمْ عليهِ سبيلٌ » ، [ { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } الآية والرِّياح لمّا كَانَ يَوْمُ عادٍ غشَتْ على الخزائنِ ولمْ يكُنْ لهُمْ عليْهَا سبيلٌ ] ، ثم قرأ : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } .
وقيل : إنَّ هذا ليس من العتو الذي هو عصيانٌ ، إنَّما هو بلوغُ الشيء وانتهاؤه ، ومنه قولهم : عتا النَّبْتُ ، أي : بلغ منتهاه وجفَّ ، قال تعالى : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] ، أي : بالغة منتهاها في القوّة والشدّة .
قوله : { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ } ، أي : أرسلها وسلَّطها عليهم ، والتسخيرُ استعمال الشيء بالاقتدار .
وقال الزجاج : أقامها عليهم .
والجملة من قوله : « سخَّرها » يجوز أن تكون صفة ل « رِيْح » ، وأن تكون حالاً منها لتخصيصها بالصفة ، أو من الضمير في « عاتية » ، وأن تكون مستأنفةً .
قال ابنُ الخطيب : وعندي أنَّ فيه لطيفة ، وذلك أن في الناس من قال : إن تلك الرياحَ إنما اشتدت؛ لاتصال فلكي نجومي اقتضى ذلك ، فقوله : « سخَّرهَا » فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب ، وأن ذلك إنَّما حصل بتقدير الله وقدرته ، فإنه لولا هذه الدقيقةُ لمَا حصل منه التخويفُ ، والتحذيرُ عن العقابِ .
وقوله : { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ } الفائدة فيه أنه - تعالى - لو لم يذكر ذلك لما كان مقدارُ زمان ذلك العذاب معلوماً ، فلما قال : { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } احتمل أن يكون متفرقاً في هذه المدةِ ، فأزال هذا الظنَّ بقوله : « حُسُوماً » أي : مُتتابِعَةٌ مُتواليةٌ .
فصل في تعيين الأيام المذكورة في الآية
قال وهبٌ : هي الأيامُ التي تسميها العرب أيام العجوزِ ، ذاتُ بردٍ ورياحٍ شديدةٍ .
وقيل : سمِّيت عجوزاً لأنها في عجزِ الشتاءِ .
وقيل : لأن عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً ، فتبعتها الريح فقتلتها في اليومِ الثامنِ من نزول العذاب ، وانقطع العذابُ .
قوله : « حُسُوْماً » . فيه أوجهٌ :
أحدها : أن ينتصب نعتاً لما قبلها .
الثاني : أن ينتصب على الحالِ ، أي : ذات حُسُوم .
وقرأ السدِّي : « حَسُوماً » - بالفتح - حالاً من الريح ، أي : سخرها عليهم مستأصلة .
الثالث : أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها ، أي : تحسمهم حُسوماً .
الرابع : أن يكون مفعولاً له .
ويتضح ذلك بقول الزمخشريِّ : « الحُسُوْم » : لا يخلو من أن يكون جمع « حاسم » ك « شاهد » و « شهود » ، أو مصدراً « كالشَّكور » ، « والكفُور » ، فإن كانت جمعاً ، فمعنى قوله : « حُسُوْماً » أي : نحساتٌ حسمتْ كلَّ خيرٍ ، واستأصلت كُلَّ بركةٍ ، أو متتابعة هبوب الريح ما خفضت ساعة تمثيلاً لتتابعها بتتابُعِ فعل الحاسمِ في إعادة الكيِّ على الدَّاء كرَّة بعد اخرى حتى ينحسمَ .
وإن كان مصدراً فإما أن ينتصب بفعله مضمراً ، أي : تحسمهم حُسوماً بمعنى استأصل استئصالاً ، أو تكون صفة كقولك : ذات حسومٍ ، أو يكون مفعولاً له ، أي : سخرها عليهم للاستئصال .
قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي الشاعر : [ الوافر ]
4839 - فَفرَّقَ بَيْنَ بيْنِهمُ زمانٌ ... تَتَابعَ فيهِ أعْوَامٌ حُسُومُ
انتهى . وقال المبرِّدُ : الحُسومُ : الفصلُ ، حسمتُ الشَّيء من الشيء فصلتهُ منه .
ومنه الحسام .
قال الشاعر : [ المتقارب ]
4840 - فأرْسلْتُ رِيحاً دَبُوراً عَقِيماً ... فَدارَتْ عَليْهِمْ فكَانَتْ حُسُومَا
وقال الليثُ : هي الشُّؤمُ ، يقال : هذه ليالي الحسوم ، أي : تحسم الخير عن أهلها : لقوله تعالى : { في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] ، وهذان القولان يرجعان إلى القول الأول؛ لأن الفصل قطعٌ وكذلك الشُّؤم لأنه يقطع الخير .
قال ابنُ زيدٍ : حَسَمتْهُمْ فلم تُبْقِ منهم أحداً ، وعنه أيضاً : أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها؛ لأنها بدأ طلوع الشمس أول يوم ، وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم .
واختلف في أولها : فقال السدِّي : غداة يوم الأحدِ .
وقال الربيع بن أنس : غداة يوم الجمعة وقال يحيى بن سلام : غداة يوم الأربعاء ، وهو يوم النحس المستمر .
قيل : كان آخر أربعاء في السَّنة ، وآخرها يوم الأربعاء ، وهي في « آذار » من أشهر السريانيين ، ولها أسماء مشهورة ، قال فيها ابن أحمر : [ الكامل ]
4841 - كُسِعَ الشِّتاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْرِ ... أيَّامِ شَهْلتِنَا مع الشَّهْرِ
فإذَا انْقَضَتْ أيَّامُهَا ومضَتْ ... صِنٌّ وصِنَّبرٌ مَعَ الوَبْرِ
وبآمِرٍ وأخِيهٍ مُؤتَمِرٍ ... ومُعَلِّلٍ وبِمُطفِىء الجَمْرِ
ذهَبَ الشِّتاءُ مُولِّياً عَجِلاً ... وأتَتْكَ واقِدَةٌ من النَّجْرِ
وقال آخر : [ الكامل ]
4842 ... - كُسِيَ الشِّتاءُ بِسبْعَةٍ غُبْرِ
بالصِّنِّ والصِّنَّبْرٍ والوبْرِ ... وبآمرٍ وأخِيهِ مُؤتَمِرٍ
ومُجَلِّلٍ وبِمُطْفِىء الجَمْرِ ... قوله : { فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى } أي : في تلك الليالي والأيَّام « صرعى » جمع صريع ، وهي حال نحو : « قتيل وقتلى ، وجريح وجرحى » .
والضمير في « فيها » للأيام والليالي كما تقدم ، أو للبيوت أو للريح ، والأول أظهرُ لقُربهِ؛ ولأنه مذكور .
قوله : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ } . أي : أصول نخلٍ ، و « كأنهم أعجازُ » حال من القوم ، أو مستأنفة .
وقرأ أبو نهيك : « أعْجُز » على وزن « أفْعُل » نحو : « ضَبْع وأضْبُع » .
وقرىء : « نخيل » حكاه الأخفشُ .
وقد تقدَّم أن اسم الجنس يذكَّر ويؤنَّثُ ، واختير هنا تأنيثُه للفواصلِ ، كما اختير تذكيره لها في سورة « القمر » .
وقال أبو الطُّفيل : أصول نخل خاوية ، أي : بالية .
وقيل : خاليةُ الأجوافِ لا شيء فيها .
قال القرطبيُّ : وقد قال تعالى في سورة « القمر » : { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] فيحتمل أنَّهم شُبِّهُوا بالنخل التي صُرعت من أصلها وهو أخبار عن عظم أجسامهم ، ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع ، أي : أنَّ الريح قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية ، أي : أن الرِّيح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف .
وقال ابن شجرة : كانت الريحُ تدخل في أفواههم فتخرجُ ما في أجوافهم من الحشوِ من أدبارهم ، فصاروا كالنخل الخاوية .
وقال يحيى بن سلام : إنما قال : الخاوية ، لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية .
قوله : { فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } .
أدغم اللام في التاء أبو عمرو وحده ، وتقدم في « الملك » .
و « مِنْ بَاقِيَة » مفعوله ، و « مِنْ » مزيدة ، والهاء في « بَاقِية » قيل : للمبالغة ، فيكون المراد ب « الباقية » : البقاءُ ، ك « الطاغية » بمعنى الطُّغيان ، أي : من باقٍ .
والأحسنُ أن يكون صفةً لفرقةٍ ، أو طائفةٍ ، أو نفس ، أو بقية ونحو ذلك .
وقيل : فاعلة بمعنى المصدر ك « العافية » و « العاقبة » .
قال المفسرون : والمعنى هل ترى لهم أحداً باقياً .
قال ابن جريجٍ : كانوا سبعَ ليالٍ وثمانية أيَّام أحياء في عذابِ الله من الريح ، فلما أمسوا في اليوم الثامنِ ماتوا فاحتملتهم الريحُ ، فألقتهم في البحر ، فذلك قوله : { فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } وقوله : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } [ الأحقاف : 25 ] .
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
قوله : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } .
قرأ أبو عمرو والكسائيُّ : بكسر القاف ، وفتح الباء ، أي : ومن هو في جهته ، ويؤيده قراءةُ أبي موسى : « ومن تلقاه » .
وقرأ أبيٌّ وعبد الله : « ومنْ مَعَه » .
والباقون : بالفتحِ والسكونِ على أنه ظرف ، أي : ومن تقدمه .
والقراءة الأولى اختارها أبو عبيدة ، وأبو حاتم اعتباراً بقراءة أبيّ ، وعبد الله .
قوله : { والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ } .
« المؤتفكات » : أهل قرى لوط .
وقراءة العامة : بالألف .
وقرأ الحسن والجحدريُّ : « والمُؤتَفكةُ » على التوحيد .
قال قتادةُ : إنما سُمِّيتْ قرى لوط « مُؤتفِكَات » لأنَّها ائتفكت بهم ، أي : انقلبت .
وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظيِّ قال : خمس قريات : « صبعة ، وصعرة وعمرة ، ودوما ، وسدوم » ، وهي القرية العظمى .
وقوله : « بالخاطئة » . إما أن تكون صفة ، أي : بالفعلة ، أو الفعلات الخاطئة ، وهي المعصية والكفر .
وقال مجاهد : بالخطايا كانوا يفعلونها .
وقال الجرجاني : بالخطأ العظيمِ ، فيكون مصدراً ك « العاقبة » و « الكاذبة » .
قوله : { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } إن عاد الضمير إلى فرعون ، ومن قبله ، فرسول ربِّهم موسى - عليه الصلاة والسلام - .
وإن كان عائداً إلى أهلِ المؤتفكاتِ ، فرسولُ ربِّهم لوط عليه الصلاة والسلام .
قال الواحديُّ : والوجه أن يقال : المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله : « فَعَصَوْا » فيكون كقوله : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ]
قال القرطبي : وقيل : « رسول » بمعنى رسالة ، وقد يعبر عن الرسالة بالرسول ، كقوله : [ الطويل ]
4843 - لَقَدْ كَذَبَ الواشُونَ ما بُحْتُ عِندهُمْ ... بِسِرِّ ولا أرْسلتُهُمْ بِرسُولِ
قوله : { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } ، أي : عالية زائدة على الأخذات ، وعلى عذاب الأمم ، يقال : ربا الشيء يربوا إذا زاد ، ومنه الرِّبا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطي .
والمعنى : أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار ، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القُبحِ على أفعال سائرِ الكفار .
وقيل : إن عقوبة آل فرعون في الدنيا متعلقة بعذاب الآخرة ، لقوله : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدُّنيا ، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو . ثم ذكر قصة قومِ نوح ، وهي قوله :
{ إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } ، أي : ارتفع وعلا .
وقال عليٌّ رضي الله عنه : طَغَى على خُزَّانه من الملائكة غضباً لربِّه ، فلم يقدروا على حبسه .
قال المفسرون : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً .
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه : طغى الماءُ زمن نوحٍ على خزانه ، فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج ، وليس من الماء قطرة تنزل قبله ، ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم ، وقد تقدم مرفوعاً أوَّل السورةِ ، والمقصود من ذكر قصص هذه الأممِ ، وذكر ما حل بهم من العذاب ، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسولِ ، ثم منَّ عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله : « حَمَلْناكُم » أي : حملنا آباءكم ، وأنتم في أصلابهم ، « فِي الجَاريَةِ » أي : في السفن الجاريةِ ، والمحمولُ في الجارية إنَّما هو نوحٌ وأولاده ، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك .
والجارية من أسماء السفينة ، ومنه قوله تعالى : { وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام } [ الرحمن : 24 ] ، وغلب استعمالُ الجاريةِ في السفينة؛ كقوله في بعض الألغاز : [ البسيط ]
4844 - رَأيْتُ جَاريَةٌ في بَطْنِ جَارِيَةٍ ... فِي بَطْنِهَا رجُلٌ في بطْنهِ جَمَلُ
قوله : { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } ، أي : سفينة نوح - عليه الصلاة والسلام - جعلها الله تذكرة وعظةً لهذه الأمةِ حتى أدركها أوائلهم . في قول قتادة .
قال ابن جريجِ : كانت ألواحُهَا على الجوديِّ ، والمعنى : أبقيتُ لكم الخشباتِ حتى تذكروا ما حلَّ بقوم نوحٍ ، وأنجى الله أباكم ، وكم من سفينةٍ هلكت وصارت تراباً ، ولم يبق منها شيءٌ ، وهذا قولُ الفرَّاءِ .
قال ابنُ الخطيبِ : وهذا ضعيفٌ ، بل الصوابُ ما قاله الزجاج : أن الضمير في قوله : « لنجعلها » يعود إلى « الواقِعَة » التي هي معلومةٌ ، وإن كانت هنا غير مذكورةٍ ، والتقدير : لنجعل نجاةَ المؤمنين وإغراق الكافرين عظةً ، وعبرةً ، ويدل على صحته قوله : { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } فالضمير في قوله : « وتَعِيهَا » لا يمكن عوده إلى السفينة ، فكذا الضمير الأول .
قوله : « وتَعِيهَا » العامة : على كسر العين وتخفيف التاء ، وهو مضارع « وَعَى » منصوب عطفاً على « لنجْعَلهَا » .
وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون عنه وقنبل ، قال القرطبي : وحميد والأعرج بإسكانها تشبيهاً له ب « رحم ، وشهد » وإن لم يكن منه ، ولكن صار في اللفظ بمنزلة الفعل الحلقي العين .
قال ابن الخطيب : وروى عن ابن كثيرٍ إسكان العين ، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلةٍ واحدةٍ ، فحذف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من « فَخْذ وكَبْد وكَتْف » ، وإنما فعل ذلك؛ لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل ، فأشبه ما هو من نفس الكلمة ، وصار كقول من قال : وَهْو وَهْي ، ومثل ذلك { وَيَتَّقْهِ } [ النور : 52 ] في قراءة من سكَّن القاف .
وروي عن حمزة : إخفاء الكسرة .
وروي عن عاصم وحمزة : بتشديد « الياء » .
وهو غلط عليهما ، وإنما سمعهما الراوي يثبتان حركة الياء ، فظنَّها شدة .
وقيل : أجريا الوصل مجرى الوقف فضعِّف الحرفُ ، وهذا لا ينبغي أن يلتفت إليه .
وروي عن حمزة أيضاً ، وموسى بن عبد الله العبسي : « وتعِيهَا » بسكون « الياء » .
وفيه وجهان : الاستئناف ، والعطف على المنصوب ، وإنما سكنا « الياء » استثقالاً للحركة على حرف العلة ، كقراءة :
{ تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] .
فصل في « وعى »
قال الزَّجَّاجُ : يقال : وعيتُ كذا ، أي : حفظتُه في نفسي ، أعيه وعْياً ووعيتُ العلمَ ، ووعيتُ ما قلته كله بمعنى ، وأوعيت المتاع في الوعاء .
قال الزجاجُ : يقال لكل ما حفظته في غير نفسك : أوعيتُه - بالألف - ولما حفظته في نفسك : وعيته ، بغير ألف .
قال ابن الخطيب : واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قومٍ من الغرقِ في السَّفينة ، وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم ، ونفاذ مشيئته ، ونهاية حكمته ، ورحمته ، وشدة قهره .
« روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزول هذه الآية : » سَألْتُ اللَّه أنْ يَجْعلهَا أذنَكَ يا عليُّ « ، قال علي رضي الله عنه : » فما نَسِيتُ شيئاً بعد ذلك « » .
فإن قيل : لِمَ قال : « أذُنٌ واعِيَةٌ » على التوحيد والتنكير؟ .
فالجوابُ : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلةٌ ، ولتوبيخ الناس بقلة من يَعِي منهم ، والدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعيت وعقلتْ عن الله ، فهي السَّواد الأعظم عند الله ، وأن سواها لا يلتفت إليهم ، وإن امتلأ العالمُ منهم .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } [ ق : 37 ] .
قال قتادة : الأذُنُ الواعيةُ أذنٌ عقلتْ عن الله تعالى ، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل .
قوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } .
لما حكى هذه القصص الثلاثة ونبَّه بها على ثبوت القدرة والحكمة للصانع ، فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة ، ويثبت القدرة إمكان وقوع الحشر ، ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة ، فذكر أولاً مقدماتها ، فقال : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } .
قوله : « واحدةٌ » تأكيد ، و « نَفْخَةٌ » مصدر قام مقام الفاعل .
وقال ابنُ عطية : « لما نُعِتَ صحَّ رفعهُ » انتهى .
ولو لم يُنعتْ لصحَّ رفعه؛ لأنه مصدر مختص لدلالته على الوحدة ، والممنوع عند البصريين إنما هو إقامة المبهمِ ، نحو : « ضَرَبَ » .
والعامةُ على الرفع فيهما .
وقرأ أبو السّمال : بنصبهما ، كأنه أقام الجارَّ مقام الفاعلِ ، فترك المصدر على أصله ، ولم يؤنث الفعل وهو : « نُفِخَ »؛ لأن التأنيث مجازي وحسَّنه الفصل انتهى .
فصل في النفخة الأولى
قال ابن عباس : هي النفخة الأولى لقيام الساعة ، فلا يبقى أحد إلا مات .
قال ابن الخطيب : لأن عندها يحصل خرابُ العالمِ .
فإن قيل : لم قال بعد ذلك { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية؟ .
قلت : جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النَّفختان ، والصَّعقة والنشور ، والوقوف ، والحساب ، فكذلك { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } كقوله : « جئتُه عام كذا » وإنَّما كان مجيئُك في وقتٍ واحدٍ من أوقاته .
وقيل : إنَّ هذه النَّفخة هي الأخيرةُ .
وقال : { نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } ، أي : لا تثنَّى .
قال الأخفشُ : ووقع الفعلُ على النَّفخة ، إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع ، فقيل : نفخة .
قوله : { وَحُمِلَتِ الأرض } ، قرأ العامة : بتخفيف « الميم » .
أي : وحملتها الريحُ ، أو الملائكةُ ، أو القدرةُ ، أي : رفعتْ من أماكنها ، « فَدُكَّتا » ، أي : فُتَّتَا وكسِّرتا ، { دَكَّةً وَاحِدةً } أي : الأرض والجبالُ؛ لأن المراد الشيئان المتقدمان ، كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
ولا يجوزُ في « دكَّةً » إلا النصبُ؛ لارتفاع الضمير في « دُكَّتَا » .
وقال الفرَّاءُ : لم يقلْ : « فَدُكِكْنَ »؛ لأنه جعل الجبال كلها كالجملةِ الواحدة [ والأرض كالجملة الواحدة ] ومثله : { أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً } [ الأنبياء : 30 ] ، ولم يقل : « كُنَّ » .
وهذا الدَّكُّ ، كالزلزلةِ لقوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] .
وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنَّها تحمل الأرض والجبال ، أو بملك من الملائكة ، أو بقدرة الله ، « فَدُكَّتَا » ، أي : جملة الأرض ، وجملة الجبال تضرب بعضها في بعض حتى تندق وتصير { كَثِيباً مَّهِيلاً } [ المزمل : 14 ] ، و { هَبَآءً مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 6 ] .
والدَّكُّ أبلغُ من الدَّق وقيل : « دُكَّتا » أي : بُسطتا بسطةً واحدةً ، ومنه اندكَّ سنامُ البعير ، إذا انفرش في ظهره .
وقرأ ابن عامرٍ في رواية ، والأعمش ، وابن أبي عبلة وابن مقسم : « وحُمِّلت » - بتشديد الميم - .
فجاز أن يكون التشديد للتكثير ، فلم يكسب الفعل مفعولاً آخر .
وجاز أن يكون للتعدية فيكسبه مفعولاً آخر ، فيحتمل أن يكون الثاني محذوفاً ، والأول هو القائمُ مقام الفاعلِ تقديره : وحُمِّلت الأرض والجبال ريحاً تفتتها ، لقوله : { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] .
وقيل : التقدير : حملنا ملائكة ، ويحتمل أن يكون الأول هو المحذوف ، والثاني هو القائم مقام الفاعل .
قوله : « فيَومئذٍ » منصوب ب « وقعت » ، و « وقَعَتِ الواقِعَةُ » لا بُدَّ فيه من تأويلٍ ، وهو أن تكون « الوَاقعةُ » صارت علماً بالغلبةِ على القيامة ، أو الواقعة العظيمة ، وإلاَّ فقام القائمُ لا يجوز ، إذ لا فائدة فيه ، وتقدم هذا في قوله : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } [ الواقعة : 1 ]
والتنوين في « يومئذٍ » للعوضِ من الجملة ، تقديره : يومئذٍ نُفِخَ في الصُّوْرِ .
فصل في معنى الآية
المعنى قامت القيامة الكبرى { وانشقت السمآء } أي : انصدعت وتفطرت .
وقيل : انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] { فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } ، أي : ضعيفة مسترخيةٌ ساقطةٌ { كالعهن المنفوش } [ القارعة : 5 ] بعد ما كانت محكمةً .
يقال : وهى البناء يَهِي وهْياً ، فهو واهٍ إذا ضعف جدّاً .
ويقال : كلامٌ واهٍ أي : ضعيف .
فقيل : إنَّها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهْي ، ويكون ذلك لنزولِ الملائكةِ .
وقيل : لهولِ يوم القيامةِ .
وقال ابن شجرة : « واهية » أي : متخرقة ، مأخوذ من قولهم : وهى السِّقاءُ ، إذا انخرق .
ومن أمثالهم : [ الرجز ]
4845 - خَلِّ سَبيلَ مَنْ وهَى سِقاؤهُ ... ومَنْ هُرِيقَ بالفَلاةِ مَاؤهُ
أي : من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه .
{ والملك على أَرْجَآئِهَآ } . لم يردْ به ملكاً واحداً ، بل المراد الجنس والجمع . « على أرجائها » « الأرجاء » في اللغة : النواحي والأقطار بلغة « هُذَيْل » ، واحدها : « رجا » مقصور وتثنيته « رجوان » ، مثل « عصا ، وعصوان » ، قال الشاعر : [ الوافر ]
4846 - فَلاَ يُرْمَى بِيَ الرَّجوانِ أنَّي ... أقَلُّ القَوْمِ مَنْ يُغْنِي مَكانِي
وقال آخر : [ الطويل ]
4847 - كَأنْ لَمْ تَرَي قَبْلِي أسِيراً مُقَيَّداً ... ولا رَجُلاً يُرْمَى بِهِ الرَّجوانِ
و « رجاء » هذا يكتب بالألف عكس « رَجَا »؛ لأنه من ذوات الواو ، ويقال : « رجا » ، ورجوانِ ، والجمع : « الأرجاء » ، ويقال ذلك لحرفي البئر وحرف القبر وما أشبهه .
فصل في تفسير الآية
قاب ابن عباس : على أطرافها حين تنشق .
قال الماورديُّ : ولعله قول مجاهد وقتادة ، وحكاه الثعلبي عن الضحاك ، قال : على أطرافها مما لم تنشقّ منها .
وقال سعيد بن جبيرٍ : المعنى والملك على حافات الدنيا ، أي : ينزلون إلى الأرض ، ويحرسون أطرافها .
وقال : إذا صارت السماءُ قطعاً ، تقف الملائكةُ على تلك القطعِ التي ليست مُتشققة في أنفسها .
فإن قيل : الملائكةُ يمُوتُونَ في الصَّعقةِ الأولى ، لقوله تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } [ الزمر : 68 ] فكيف يقال : إنهم يقفون على أرجاء السماء؟ .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ، ثم يموتون .
والثاني : المراد الذين استثناهم في قوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } [ الزمر : 68 ] [ النمل : 87 ] .
فإن قيل : إنَّ الناس إذا رأوا جهنَّم هالتهم ، فندُّوا كما تندُّ الإبلُ ، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلاَّ رأوا ملائكة ، فيرجعون من حيثُ جاءوا .
وقيل : { على أَرْجَآئِهَآ } ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النَّارِ من السَّوق إليها ، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة ، وهذا كلُّه راجعٌ إلى قول ابن جبير ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] .
قوله : { على أَرْجَآئِهَآ } ، خبر المبتدأ ، والضمير للسماء ، وقيل : للأرضِ ، على ما تقدم .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما الفرق بين قوله : « والمَلَكُ » وبين أن يقال : « والمَلائِكَةُ »؟
قلت : الملكُ أعمُّ من الملائكةِ ، ألا ترى إلى قولك : « ما من ملك إلاَّ وهو ساجدٌ » أعم من قولك : « ما مِنْ ملائكةٍ » انتهى .
قال أبو حيَّان : ولا يظهر أنَّ الملك أعمُّ من الملائكةِ ، لأن المفرد المحلَّى بالألف واللام ، قُصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلَّى ، ولذلك صح الاستثناءُ منه ، فقصاراه أن يكون كالجمع المُحَلَّى بهما ، وأما دعواه أنه أعم منه ، بقوله : « ألا ترى » إلى آخره ، فليس دليلاً على دعواه؛ لأن « مِنْ ملكٍ » نكرةٌ مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها « مِن » المخلصة للاستغراق ، فشملت كل ملكٍ فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفرد فيه ، فانتفى كل فردٍ فرد ، بخلاف « مِنْ ملائِكةِ » ، فإن « مِنْ » دخلت على جمع منكَّر ، فعمّ في كل جمع جمع من الملائكةِ ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ من الملائكة ، لو قلت : « ما في الدار من رجال » جاز أن يكون فيها واحدٌ ، لأن النفي إنما انسحب على جمع ، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفردُ ، والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه « مِنْ » وإنَّما جِيءَ به مفرداً؛ لأنه أخفُّ ، ولأن قوله : { على أَرْجَآئِهَآ } يدلُّ على الجمع؛ لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون « على أرجائِهَا » في وقتٍ واحدٍ بل أوقات ، والمراد - والله أعلم - أن الملائكة على أرجائها إلاَّ أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات .
وقال شهاب الدين : إنَّ الزمخشريَّ منزعهُ في هذا ما تقدم عنه في أواخر سورة « البقرة » عند قوله : { وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] فليرجع ثمَّة .
وأما قول أبي حيان : « ما مِنْ رجالٍ » أن النفي منسحبٌ على رُتَب الجمع ، ففيه خلاف ، والتحقيق ما ذكره .
قوله : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } .
الضمير في « فَوقَهُمْ » يجوز أن يعود على « الملائكة » بمعنى كما تقدم ، وأن يعود على الحاملين الثمانية .
وقيل : إنَّ حملة العرشِ فوقَ الملائكةِ الذينَ في السماء على أرجائها .
وقيل : يعود على جميع العالم ، أي : أن الملائكة تحمل عرش الله فوق العالم كلِّه .
فصل في هؤلاء الثمانية
قال ابن عباس : ثمانية صنوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله .
وقال ابن زيد : هم ثمانية أملاكٍ .
وعن الحسن : الله أعلمُ كم هم ثمانية ، أم ثمانية آلاف ، أو ثمانية صفوف . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « أَنَّ حَمَلةَ العَرْشِ اليَوْم أربعةُ أوعالٍ ، فإذَا كان يومُ القيامةِ أيدهُم اللَّهُ بأربَعة آخرين ، فكانُوا ثَمانيَةً » خرَّجَهُ الماورديُّ مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم . ورواه العباسُ بنُ عبد المطّلب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « هُمْ ثَمانِيَةُ أملاكٍ على صورةِ الأوعالِ ، لكلِّ ملكٍ منهُم أربعةُ أوجهٍ : وجهُ رجُلٍ ، ووجهُ أسدٍ ، ووجهُ ثورٍ ، ووجهُ نسْرٍ ، وكلُّ وجهٍ مِنْهَا يسألُ اللَّهَ الرِّزقَ لذلك الجِنْسِ » .
فإن قيل : إذا لم يكنْ فيهم صورةُ وعلٍ ، فكيف سُمُّوا أوعالاً؟ .
فالجواب : أنَّ وجْهَ الثَّور إذا كانت له قرون الوعْلِ أشبه الوعْلَ .
وفي الخبرِ : « أنَّ فَوْقَ السَّماءِ السَّابعةِ ثمانيةَ أوْعالٍ بينَ أظلافهِنَّ ورُكبهنَّ مثلُ ما بَيْنَ سماءٍ إلى سماءٍ ، وفوقَ ظُهورهِنَّ العَرْشُ » ذكره القشيريُّ ، وخرَّجهُ الترمذيُّ من حديث العباس بن عبد المُطلبِ .
وفي حديث مرفوع : « أنَّ حَمَلَةَ العرْشِ ثَمَانيَةُ أمْلاكٍ؛ على صُوَرِ الأوعالِ ، ما بين أظْلافهَا إلى رُكَبِهَا مسِيْرةُ سبعِينَ عاماً للطَّائرِ المُسْرعِ » .
ورُوي أنَّ أرجلهنَّ في السَّماءِ السَّابعةِ .
فصل في إضافة العرش إلى الله
إضافة العرش إلى الله - تعالى - كإضافة البيت إليه ، وليس البيتُ للسكنِ ، فكذلك العرشُ ، ومعنى « فوقهم » أي : فوق رءوسهم .
قال ابنُ الخطيب : قالت المشبِّهةُ : لو لم يكن اللَّهُ في العرشِ لكان حملُ العرش عبثاً لا فائدة فيه ، لا سيما قد أكَّد ذلك بقوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } ، والعرش إنَّما يكونُ لو كان الإلهُ حاضراً في العرش .
وأجاب : بأنه لا يمكن أن يكون المراد أنَّ الله - تعالى - جالس في العرش؛ لأن كل من كان حاملاً للعرش؛ كان حاملاً لكل ما كان في العرش فلو كان الإلهُ على العرش لزم أن يكون الملائكة حاملين لله تعالى ، وذلك محالٌ؛ لأنه يقتضي احتياج الله إليهم ، وأن يكونوا أعظم قدراً من الله ، وكل ذلك كفرٌ ، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل ، فنقول : السببُ في هذا الكلام هو أنه - تعالى - خاطبهم بما يتعارفونه ، فخلق لنفسه بيتاً يزورونه ليس أنه يسكنه - تعالى الله عن ذلك - وجعل في ركن البيت حجراً ، هو يمينه في الأرض إذْ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم ، وجعل على العبادِ حفظةً لا لأن النسيان يجوزُ عليه سبحانه ، وكذلك أنَّ الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس على سريره ، ووقفت الأعوانُ حوله ، فسمى الله يوم القيامة عرشاً ، وحفَّت به الملائكة لا لأنه يقعد عليه ، أو يحتاجُ إليه ، بل كما قلنا في البيت والطَّواف .
قوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } هو جواب « إذَا » من قوله : « فَإذَا نُفِخَ » . قاله أبو حيَّان .
وفيه نظرٌ ، بل جوابها ما تقدم من قوله : « وقَعَتِ الواقِعَةُ » و « تُعْرضُونَ » على هذا مستأنفة .
قوله : { لاَ تخفى } .
قرأ الأخوان : بالياء من تحت؛ لأن التأنيث مجازي ، كقوله : { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة } [ هود : 67 ] .
واختاره أبو عبيد؛ لأنه قد حال بين الفعل والاسم المؤنث الجار والمجرور .
والأخوان : على أصلهما في إمالة الألف .
وقرأ الباقون : « لا تَخْفَى » بالتاء من فوق للتأنيث اللفظي والفتح وهو الأصل ، واختاره أبو حاتم .
فصل في العرض على الله
قال القرطبيُّ : هذا هو العرضُ على الله ، ودليله : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً } [ الكهف : 48 ] وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً ، بل ذلك العرضُ عبارةٌ عن المحاسبة والمساءلة وتقدير الأعمال عليهم للمجازاة .
قال صلى الله عليه وسلم : « يُعْرَضُ النَّاسُ يوم القِيامةِ ثلاثَ عَرضَاتٍ ، فأما عَرْضتانِ فَجِدالٌ ، ومعَاذِيرٌ وأما الثَّالثةُ فعند ذلك تَطِيْرُ الصُّحُفُ في الأيْدِي فآخِذٌ بيَمِينِهِ وآخِذٌ بِشمالهِ » .
وقوله : { لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } .
قال ابن شجرة : أي : هو عالم بكل شيء من أعمالكم ، ف « خَافِيَة » على هذا بمعنى « خفيَّة » كانوا يخفونها من أعمالهم ، ونظيره قوله تعالى : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ } [ غافر : 16 ] .
قال ابن الخطيب : فيكون الغرضُ المبالغة في التهديدِ ، يعني : « تُعرَضُون على من لا يخفى عليه شيء » .
وقيل : لا يخفى عليه إنسان لا يحاسب .
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : لا يَخْفَى المُؤمِنُ من الكافر ، ولا البَرُّ من الفاجرِ .
وقيل : لا يتسر منكم عورة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « يُحْشرُ النَّاسُ حُفاةً عُراةً » .
قوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } ، وهذا دليلٌ على النجاة .
قال ابن عباسٍ : أول من يُعْطَى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمرُ بن الخطاب ، وله شعاعٌ كشعاع الشمس ، وقيل له : فأين أبو بكر ، فقال : هيهات ، زفَّته الملائكةُ إلى الجنَّة .
قال القرطبي : وقد ذكرناه مرفوعاً من حديث زيد بن ثابت بلفظه ، ومعناه في كتاب « التذكرة » .
قوله : « هَاؤمَ » ، أي : خذوا { اقرؤا كِتَابيَهْ } يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائلِ الفرح .
قال الشاعر : [ الوافر ]
4848 - إذَا مَا رايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... لقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ
وقال : [ الطويل ]
4849 - أبِينِي أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي ... فأفْرَحُ أمْ صيَّدْتِنِي بِشمَالِكِ
وقال ابن زيدٍ : معنى : « هَاؤمُ » : تعالوا ، فتتعدى ب « إلى » .
وقال مقاتلُ : « هَلُمَّ » .
وقيل : خذوا ، ومنه الحديث في الربا : « إلا هَاء وهَاءَ » ، أي : يقول كل واحد لصاحبه : خُذْ ، وهذا هو المشهورُ .
وقيل : هي كلمةٌ وضعت لأجابة الدَّاعي عند الفرح ، والنَّشاط .
وفي الحديث : « أنَّه نَاداهُ أعرَابِيٌّ بصَوْتٍ عَالٍ ، فأجَابَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم » هَاؤمُ « يطول صوته . » .
وقيل : معناها « اقصدوا » .
وزعم هؤلاء أنها مركبة من هاء التنبيه ، وأموا ، من الأم ، وهو القصدُ ، فصيره التخفيف والاستعمال إلى « هاؤم » .
وقيل : « الميمُ » ضميرُ جماعةِ الذكور .
وزعم القتيبي : أنَّ « الهمزة » بدلٌ من « الكاف » .
فإن عنى أنها تحلُّ محلَّها فصحيح ، وإن عنى البدل الصناعي فليس بصحيح .
فقوله : « هاؤم » يطلب مفعولاً يتعدى إليه بنفسه إن كان بمعنى : « خُذْ » أو « اقْصِد إليّ » إن كان بمعنى : « تَعَالَوْا » ، و « اقرأوا » يطلبه أيضاً ، فقد تنازعا في : « كِتَابِيَه » وأعمل الثاني للحذف من الأول .
وقد تقدم تحقيق هذا في سورة « الكهف » .
وفيها لغاتٌ : وذلك أنها تكون فعلاً صريحاً ، وتكون اسم فعل ، ومعناها في الحالين : « خذ » فإن كانت اسم فعلٍ ، وهي المذكورة في الآية الكريمة ، ففيها لغتان : المدّ والقصر تقول : « هَا درهماً يا زيدُ ، وهاء درهماً » ، ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ ، ويتصل بهما كافُ الخطاب ، اتصالها بإسم الإشارة ، فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي ضميره ، نحو : « هَاكَ ، هَاكِ ، هاءَكَ » إلى آخره .
وتخلف كافُ الخطابِ همزة « هاءَ » مصرفة تصرف كاف الخطاب ، فتقول : « هَاءَ يا زيدُ ، هاءِ يا هندُ ، هاؤم ، هاؤن » وهي لغةُ القرآن .
وإذا كانت فعلاً صريحاً؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاثة لغاتٍ :
إحداها : أن يكون مثل « عَاطَى يُعَاطِي » ، فيقال : « هاء يا زيدُ ، هائِي يا هندُ ، هائيَا يا زيدان أو يا هنداتُ ، هاءوا يا زيدون ، هائين يا هنداتُ » .
الثانية : أن تكون مثل : « هَبْ » فيقال : « هَأ ، هِىء ، هَاءَا ، هِئُوا ، هِئْنَ » ، مثل : « هَبْ ، هِبِي ، هِبَا ، هِبُوا ، هِبْنَ » .
الثالثة : أن تكون مثل : « خَفْ » أمراً من الخوف ، فيقال : « هَأْ ، هَائِي ، هَاءَا ، هَاءُوا ، هَأنَ » ، مثل : « خَفْ ، خَافِي ، خَافَا ، خَافُوا ، خفْنَ » .
قوله : « كتابيه » . منصوب ب « هاؤم » عند الكوفيين ، وعند البصريين ب « اقرأوا »؛ لأنه أقربُ العاملين ، والأصل « كتابي » فأدخل « الهاء » لتبين فتحة « الياءِ » و « الهاء » في « كتابيه » و « حسابيه » و « سلطانيه » و « ماليه » للسكتِ ، وكان حقُّها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً ، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف ، أو وصل بنية الوقف في « كتابيه » و « حسابيه » اتفاقاً ، فأثبت « الهاء » .
وكذلك في « مَاليَه » و « سلطانيه » و { مَا هِيَهْ } [ القارعة : 10 ] في القارعة ، عند القُرَّاء كلهم إلا حمزة ، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاث وصلاً ، وأثبتها وقفاً؛ لأنها في الوقف يحتاج إليها؛ لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه ، وفي الوصل يستغنى عنها .
فإن قيل : فَلِمَ لم يفعل ذلك في « كتابيه » و « حسابيه »؟ .
فالجواب : أنه جمع بين اللغتين ، هذا في القراءات السبعِ .
وقرأ ابن محيصن : بحذفها في الكلم كلِّها وصلاً ووقفاً إلا في « القارعة » ، فإنه لم يتحقق عنه فيها نقل .
وقرأ الأعمشُ ، وابن أبي إسحاق : بحذفها فيهن وصلاً ، وإثباتها وقفاً .
وابن محيصن : يسكنُ الهاء في الكلم المذكورة بغيرها .
والحق أنها قراءةٌ صحيحةٌ ، أعني ثبوت هاء السكتِ وصلاً؛ لثبوتها في خط المصحف الكريم ، ولا يلتفت إلى قول الزهراوي إن إثباتها في الوصل لحن لا أعلم أحداً يجيزه . وقد تقدم الكلام على هاء السكت في البقرة والأنعام .
قوله : { إنِّي ظَنَنتُ } .
قال ابن عباس : أي : أيقنتُ وعلمتُ .
وقيل : ظننتُ أن يؤاخذني الله بسيئاتي إن عذبني فقد تفضَّل علي بعفوه ، ولم يؤاخذني بها .
قال الضحاك : كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك .
وقال مجاهد : ظَنُّ الآخرة يقين وظَنُّ الدنيا شَكٌّ .
وقال الحسن في هذه الآية : إنّ المؤمن من أحسن الظَّن بربّه فأحسن العمل ، وإن المنافق أساء الظن بربه ، فأساء العمل .
وقوله : { أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } ، أي : في الآخرة ، ولم أنكرْ البعث ، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب؛ لأنه تيقّن أن الله يحاسبه ، فعمل للآخرة .
قوله : { رَّاضِيَةٍ } ، فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه على المجاز جعلت العيشة راضية؛ لمحلها في مستحقيها ، وأنها لا حال أكمل من حالها ، والمعنى في عيش يرضاه لا مكروه فيه .
الثاني : أنه على النَّسب ، أي : ذات رضا ، نحو : « لابنٌ وتامرٌ » لصاحب اللَّبن والتَّمْرِ والمعنى : ذات رضا يرضى بها صاحبها .
الثالث : قال أبو عبيدة والفراء : إنه مما جاء فيه « فاعل » بمعنى مفعول نحو : { مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] ، أي : مدفوق ، كما جاء مفعول بمعنى فاعل ، كقوله : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] ، أي : ساتراً .
فصل في تنعم أهل الجنة .
قال عليه الصلاة والسلام : « إنَّهُم يَعِيشون فلا يَمُوتُون أبداً ، ويصحُّونَ فلا يَمْرضُونَ أبداً ، وينعَمُونَ فلا يَرَوْنَ بأساً أبَداً ويَشِبُّونَ فلا يَهْرمُونَ أبداً » .
قوله : { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } ، أي : عظيمةٌ في النفوس ، { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } ، القطوف جمع : قطف ، وهو فعل بمعنى مفعول ، ك « الدِّعْي » و « الذِّبْح » ، وهو ما يَجتنِيهِ الجاني من الثِّمار ، و « دَانِيَةٌ » ، أي : قريبة التناولِ يتناولها القائم ، والقاعد ، والمضطجع .
والقِطْف - بكسر القاف - وهو ما يقطفُ من الثِّمار ، والقَطْفِ - بالفتح - المصدر ، والقِطَاف - بالفتح والكسر - وقت القطف .
{ كُلُواْ } ، أي : يقال لهم : كلوا واشربوا ، وهذا أمر امتنان ، لا أمرُ تكليف .
وقوله : « هنيئاً » قد تقدم في أول النساء وجوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوفٍ ، أي : « أكْلاً هنيئاً وشُرْباً هنيئاً » ، وأن ينتصب على المصدر بعامل من لفظه مقدر ، أي : « هَنِئْتُم بذلك هَنِيئاً » . و « الباء » في « بما أسْلفتُمْ » سببية ، و « ما » مصدرية أو اسمية ، ومعنى « هَنِيئاً » ، لا تكدير فيه ولا تنغيص ، « بما أسْلَفْتُم » قدمتم من الأعمال { فِي الأيام الخالية } ، أي : في الدنيا .
قالت المعتزلةُ : وهذا يدل على أنَّ العمل يوجبُ الثوابَ ، وأن الفعل للعبدِ ، وقال : « كُلُوا » بعد قوله : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } لقوله : { فأما من أوتي كتابه } ، و « من » تتضمنُ معنى الجمعِ .
فصل فيمن نزلت فيه الآية
ذكر الضحاكُ : أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي .
وقال مقاتل : والآية التي قبلها في أخيه الأسود بن عبد الأسد في قول ابن عبَّاس والضحاك .
قال الثعلبي : ويكون هذا الرجل ، وأخوه سبب نزول هذه الآيات ، ويعم المعنى جميع أهل الشقاوةِ ، والسعادة ، بدليل قوله تعالى : { كُلُواْ واشربوا } .
وقيل : إنَّ المراد بذلك كل من كان متبوعاً في الخير والشر يدعو إليه ، ويأمر به .
قوله : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله يخجل منها ويقول : { ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } ثُم يتمنَّى الموت ، ويقول : { ياليتها كَانَتِ القاضية } .
فالضَّميرُ في « لَيْتهَا » قيل : يعود إلى الموتةِ الأولى ، وإن لم تكن مذكورة ، إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة .
و « القَاضِيَة » : القاطعةُ من الحياة ، قال تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } [ الجمعة : 10 ] ، ويقال : قُضِيَ على فلان ، إذا مات ، والمعنى : يا ليتها الموتة التي كانت القاطعة لأمري ، ولم أبْعَثْ بعدها ، ولم ألقَ ما وصلت إليه .
قال قتادة : يتمنى الموت ، ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت ، وشرٌّ من الموت ما يطلب منه الموت؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
4850 - وشَرٌّ مِنَ الموْتِ الذي إنْ لَقيتُهُ ... تَمَنَّيتُ مِنْهُ المَوْتَ ، والمَوْتُ أعْظَمُ
وقيل : يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب ، والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليَّ .
قوله : { مَآ أغنى عَنِّي } ، يجوزُ أن يكون نفياً ، وأن يكون استفهام توبيخٍ لنفسه ، أي : أيُّ شيءٍ أغنى عني ما كان لي من اليسار .
{ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } قال ابن عباس : هلكتْ عنِّي حُجَّتِي ، والسلطانُ : الحجةُ التي كنتُ أحتجُّ بها ، وهو قول مجاهدٍ وعكرمة والسُّدي والضَّحاك .
وقال مقاتل : ضلت عني حجّتي حين شهدت عليه الجوارح .
وقال ابن زيد : يعني مُلكي وتسلّطي على الناس ، وبقيت ذليلاً فقيراً ، وكان مُطاعاً في أصحابه .
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
قوله : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } ، كقوله : { كُلُواْ واشربوا } [ الحاقة : 24 ] في إضمار القولِ ، يقال ذلك لخزنةِ جهنَّم ، والغلُّ : جمعُ اليدين إلى العُنُق ، أي : شدوه بالأغلالِ .
{ ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ } ، أي : اجعلوه يصلى الجحيمَ ، وهي النارُ العظمى؛ لأنه كان يتعاظمُ في الدنيا .
وتقديمُ المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم .
ولذلك قال الزمخشريُّ : « ثُمَّ لا تصلوه إلا الجَحيم » قال أبو حيان : « وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحُذاقِ النُّحاةِ » ، وقد تقدمت هذه المسألةُ متقنة ، وأنَّ كلام النحاة لا يأبى ما قاله .
قوله : { ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً } ، في محل جر صفة ل « سِلْسِلَة » و « في سِلْسِلة » متعلق ب « اسْلُكُوه » ، و « الفاء » لا تمنع من ذلك .
و « الذِّراع » مؤنث ، ولذلك يجمع على « أفْعُل » وسقطت « التاء » من عدده .
قال الشاعر : [ الرجز ]
4851 - أرْمِي عَليْهَا وهْيَ فَرْعٌ أجْمَعُ ... وهْيَ ثَلاثُ أذْرُعٍ وإصْبَعُ
وذكر السبعين دون غيرها من العدد ، قيل : المرادُ به التكثير ، كقوله : { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } [ التوبة : 10 ] .
وقيل : المراد حقيقة العدد .
قال ابن عباسٍ : سبعون ذراعاً بذراع الملكِ .
وقال نوف البكالي : سبعون ذراعاً ، كل ذراع سبعون باعاً ، كل باع كما بينك وبين « مكّة » وكان في رحبة « الكوفة » .
وقال الحسنُ : الله أعلم أي ذراعٍ .
وزعم بعضهم أنَّ في قوله : « فِي سِلْسلَةٍ » « فاسْلُكوهُ » قلباً ، قال : لأنه نُقِلَ في التفسير أنَّ السلسلة تدخل من فيه ، وتخرج من دبره ، فهي المسلوكُ فيه لا هو المسلوكُ فيها ، والظاهر أنَّه لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه روي أنها لطولها ، تجعل في عنقه ، وتلتوي عليه ، حتى تحيط به من جميع جهاته ، فهو المسلوكُ فيها لإحاطتها به .
وقال الزمخشريُّ : والمعنى في تقديم السِّلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التًّصلية ، أي : لا تسلكوه إلا في هذه السلسة ، وثم للدلالة على التفاوتِ لما بين الغلِّ والتصليةِ بالجحيم وما بينها ، وبين السلك في السلسلة ، لا على تراخي المدة .
وناعه أبو حيان في إفادة تقديم الاختصاص كعادته ، وجوابه ما تقدم .
ونازعه أيضاً في أن « ثُمَّ » للدلالةِ على تراخي الرُّتْبةِ .
وقال مكيٌّ : التراخي الزماني بأن يُصلى بعد أن يسلك ، ويسلك بعد أن يُؤخذ ويغلي بمهله بين هذه الأشياء . انتهى .
وفيه نظرٌ من حيثُ إن التوعد بتوالي العذاب آكد ، وأقطع من التوعد بتغريقه .
قوله : { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } .
« الحضُّ » : الحثُّ على الفعل والحرص على وقوعه ، ومنه حروفُ التحضيض المبوب لها في النحو؛ لأنَّه يطلب بها وقوع الفعل وإيجاده ، فبيَّن تعالى أنه عذِّب على تركِ الإطعامِ ، وعلى الأمر بالبخلِ كما عذِّب بسبب الكُفْرِ .
قال ابن الخطيب : وفي الآية دليلُ على أنَّ الكُفَّار مخاطبون بالفروع .
كان أبو الدرداء يحض امرأته على الإطعام ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان ، أفلا نخلع نصفها الثاني بالإطعام .
وقيل : المراد قول الكفار : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] .
وأصل « طعام » أن يكون منصوباً بالمصدر المقدر ، والطعام عبارةٌ عن العين ، وأضيف للمسكين للملابسةِ التي بينهما ، ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام ، فموضع « المسكين » نصب ، والتقدير : على إطعام المطعم المسكين ، فحذف الفاعل ، وأضيف المصدر إلى المفعول .
قوله : { فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ } في خبر « ليس » وجهان :
أحدهما : « له » .
والثاني : هاهنا ، وأيهما كان خبراً تعلق به الآخر ، أو كان حالاً من « حميم » ، ولا يجوز أن يكون « اليوم » خبراً ألبتة؛ لأنه زمان والمخبر عنه جثة .
ومنع المهدوي أن يكون « هاهُنَا » خبراً ، ولم يذكر المانع .
وقد ذكره القرطبي فقال : « لأنه يصير المعنى : ليس هاهنا طعام إلا من غسلين ، ولا يصح ذلك؛ لأن ثمَّ طعاماً غيره » . انتهى وفي هذا نظر؛ لأنا لا نسلم أولاً أن ثمَّ طعاماً غيره ، فإن أورد قوله : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } [ الغاشية : 6 ] فهذا طعام آخر غير الغسلين .
فالجواب : أن بعضهم ذهب إلى أن الغسلين هو الضريع بعينه ، فسمَّاه في آية « غسليناً » وفي أخرى « ضريعاً » .
ولئن سلمنا أنهما طعامان ، فالحصر باعتبار الآكلين ، يعني : أنَّ هذا الآكل انحصر طعامه في الغسلين ، فلا ينافي أن يكون في النار طعام آخر .
وإذا قلنا : إن « له » الخبر ، وأن « اليوم » ، و « هاهنا » متعلقان بما تعلق هو به ، فلا إشكال ، وكذلك إذا جعلنا « هاهنا » هو الخبر ، وعلقنا به الجار والظرف ، ولا يضرّ كون العامل معنوياً للاتساع في الظروف وحروف الجر .
وقوله : { إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } ، صفة ل « طعام » ، دخل الحصر على الصفة ، كقولك : « ليس عندي إلا رجلٌ من بني تميم » .
والمراد ب « الحميم » : الصديق ، فعلى هذا الصفة مختصة بالطَّعام ، أي : ليس له صديق ينفعه ، ولا طعام إلا من كذا .
وقيل : التقدير : ليس له حميم إلاَّ من غسلين ولا طعام . قاله أبو البقاء .
فجعل « مِنْ غسْلِين » صفة ل « الحميم » ، كأنه أراد الشَّيء الذي يحم به البدن من صديد النَّار .
وقيل : من الطعام والشَّراب؛ لأن الجميع يطعم ، بدليل قوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] .
فعلى هذا يكون { إلاَّ من غسلين } صفة ل « حميم » ول « طعام » ، والمرادُ بالحميم : ما يشرب ، أي : ليس له طعام ، ولا شراب إلا غسليناً .
أما إذا أريد بالحميم : الصديد فلا يتأتَّى ذلك .
وعلى هذا الذي ذكرنا ، فيه سؤالٌ ، وهو أن يقال : بأي شيء تعلَّق الجارُّ والظرفان؟ والجواب : إنَّها تتعلق بما تعلق به الخبرُ ، أو يجعل « له » أو « هاهنا » حالاً من « حميم » ويتعلق « اليوم » بما تعلق به الحال ، ولا يجوز أن يكون « اليوم » حالاً من « حميم » ، و « له » و « هاهنا » متعلقان بما تعلق به الحال؛ لأنه ظرف زمان ، وصاحبُ الحال جثة ، وهذا موضعٌ حسنٌ مفيدٌ .
و « الغِسْلين » : « فِعْلين » من الغُسَالة ، فنُونُه وياؤه زائدتان .
قال أهل اللغة : هو ما يجري من الجراح إذا غسلت .
قال المفسرون : هو صديدُ أهل النَّارِ .
وقيل : شجر يأكلونه .
وعن ابن عباس : لا أدري ما الغِسْلينُ .
وسمي طعاماً؛ لقيامه مقامه فسمي طعاماً؛ كقوله : [ الوافر ]
4852 - . ... تَحِيَّةُ بَينِهمْ ضَرْبٌ وجِيعُ
قوله : { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } . صفة ل « غسلين » .
والعامةُ : يهمزون « الخاطئون » ، وهم اسم فاعل من « خَطَأ يَخْطأ » إذا فعل غير الصواب متعمداً ، والمخطىءُ من يفعله غير متعمد .
وقرأ الحسنُ والزهريُ والعتكي وطلحة : « الخَاطِيُون » بياء مضمومة بدل الهمزة .
وقرأ ناقع في رواية وشيبة : بطاء مضمومة دون همزة .
وفيها وجهان :
أحدهما : أنه كقراءة الجماعةِ إلا أنه خفف بالحذف .
والثاني : أنه اسم فاعل من « خَطَا يَخْطُوا » إذا اتبع خطوات غيره ، فيكون من قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } [ البقرة : 168 ] ، قاله الزمخشريُّ .
وقد تقدم أول الكتاب أن نافعاً يقرأ : « الصَّابيون » بدون همز ، وكلام الناس فيها .
وعن ابن عباس : ما الخاطُون ، كلنا نخطُو .
وروى عنه أبو الأسود الدؤليُّ : ما الخاطُون إنما هو الخاطئون ، وما الصَّابون إنما هو الصَّابئون ، ويجوز أن يراد الذين يتخطون الحقَّ إلى الباطل ويتحدون حدود الله .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } .
قد تقدم مثله في آخر الواقعة ، إلا أنه قيل هاهنا : إن « لا » نافية لفعل القسم ، وكأنه قيل : لا احتياجَ أن أقسمُ على هذا؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مستغنٍ عن القسم ، ولو قيل به في الواقعة لكان حسناً .
واعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلالة على إمكان القيامةِ ، ثم على وقوعها ، ثم ذكر أحوال السُّعداءِ ، وأحوال الأشقياء ، ختم الكلام بتعظيم القرآنِ ، فقال : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ } .
وقيل : المراد : أقسم ، و « لا » صلةٌ ، والمعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون ، فعمَّ جميع الأشياء على الشمول؛ لأنها لا تخرجُ عن قسمين : مبْصر وغير مبصر ، فقيل : الخالقُ والخلقُ ، والدنيا والآخرة ، والأجسام والأرواح ، والإنس والجنُّ ، والنعم الظاهرة ، والباطنة .
وإن لم تكن « لا » زائدة ، فالتقدير : لا أقسم على أنَّ هذا القرآن قول رسولٍ كريم - يعني « جبريل » ، قاله الحسن والكلبي ومقاتل - لأنه يستغنى عن القسم لوضوحه .
وقال مقاتل : سببُ نزولِ هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إنَّ محمداً ساحرٌ .
وقال أبو جهل : شاعر وليس القرآن من قول النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عقبة : كاهن ، فقال الله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ } أي : أقسم .
وإن قيل : « لا » نافية للقسم ، فجوابه كجواب القسم .
« إنه » يعني القرآن { لقول رسول كريم } يعني جبريل . قاله الحسن والكلبي ومقاتل ، لقوله : { لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ } [ التكوير : 19 ، 20 ] .
وقال الكلبي أيضاً والقتبي : الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم لقوله : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } ، وليس القرآن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو من قول الله - عز وجل - ونسب القول إلى الرسولِ ، لأنه تاليه ومبلغه والعامل به ، كقولنا : هذا قول مالك .
فإن قيل : كيف يكونُ كلاماً لله تعالى ، ولجبريل ، ولمحمد عليهما الصلاة والسلام؟
فالجواب : أن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسةٍ ، فالله سبحانه أظهره في اللوح المحفوظ ، وجبريلُ بلغه لمحمدٍ - عليهما الصلاة والسلام - ومحمد صلى الله عليه وسلم بلغه للأمة .
قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ } هو جوابُ القسمِ ، وقوله : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ } معطوف على الجواب ، فهو جواب . أقسم على شيئين : أحدهما : مثبت ، والآخر : منفي ، وهو من البلاغة الرائعة .
قوله : { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } ، { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } .
انتصب « قليلاً » في الموضعين نعتاً لمصدر ، أو زمان محذوف ، أي : إيماناً أو زماناً قليلاً ، والنَّاصبُ : « يؤمنون » و « تذكرون » و « ما » مزيدةٌ للتوكيدِ .
وقال ابن عطية : ونصب « قليلاً » بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه : « تؤمنون » ، و « ما » يحتملُ أن تكون نافية ، فينتفى إيمانهم ألبتة ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، وتتصف بالقلة ، فهو الإيمان اللغوي؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرةٍ لا تغني عنهم شيئاً ، إذ كانوا يصدقون أن الخيرَ والصلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو حقّ وصواب .
قال أبو حيَّان : أما قوله : « قليلاً نصب بفعل » إلى آخره ، فلا يصح؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه « تؤمنون » إما أن تكون « ما » نافية - كما ذهب إليه - أو مصدرية ، فإن كانت نافية فذلك الفعل المُضْمَر الدال عليه « تؤمنون » المنفي ب « ما » يكون منفياً ، فيكونُ التقدير : ما تؤمنون قليلاً ما تُؤمنون ، والفعل المَنْفِي ب « ما » لا يجوز حذفه ، ولا حذف ما ، لا يجوز « زيداً ما أضربُه » على تقدير : « ما أضْربُ زيداً ما أضربه » ، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفعٍ ب « قليلاً » على الفاعلية ، أي : قليلاً إيمانكم ، ويبقى « قليلاً » لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له ، وإما في موضع رفعٍ على الابتداء؛ فيكون مبتدأ لا خبر له ، لأن ما قبلهُ منصُوبٌ .
قال شهابُ الدين : لا يُريد ابن عطية بدلالةِ « تؤمنون » على الفعل المحذوف الدلالة في باب الاشتغال ، حتى يكون العامل الظاهر مفسراً للعامل المضمر ، بل يريد مجرّد الدلالة اللفظية ، فليس ما أورده أبو حيان عليه من تمثيله بقوله : « زيداً ما أضربه » أي : « ما أضرب زيداً ما أضربُه » وأما الردُّ الثاني فظاهرٌ ، وقد تقدم لابن عطية هذا القولُ في أول سورة « الأعراف » فَليُلتَفَتْ إليه .
وقال الزمخشريُّ : « والقّلةُ في معنى العدم ، أي : لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتَّة » .
قال أبو حيَّان : ولا يُرادُ ب « قليلاً » هنا النفي المحض كما زعم ، وذلك لا يكون إلاَّ في « أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدٌ » ، وفي « قل » نحو « قَلَّ رجلٌ ذلك إلا زيدٌ » وقد يستعمل في « قليلة » ، و « قليلة » إذا كانا مرفوعين ، نحو ما جوزوا في قول الشاعر : [ الطويل ]
4853 - ... قَلِيلٌ بِهَا الأصْوَاتُ إلاَّ بُغامُهَا
أما إذا كان منصوباً نحو : « قليلاً ضربت ، أو قليلاً ما ضربت » على أن تكون « ما » مصدرية ، فإن ذلك لا يجوزُ؛ لأنه في « قليلاً ضربت » منصوب ب « ضربت » ، ولم تستعمل العرب « قليلاً » ، إذا انتصب بالفعل نفياً ، بل مقابلاً لكثير ، وأما في « قليلاً ما ضربت » على أن تكون « ما » مصدريةٌ ، فتحتاج إلى رفع « قليل »؛ لأن « ما » المصدرية في موضع رفع على الابتداء .
انتهى ما رد به عليه .
قال شهاب الدين : « وهذا مجرد دعوى » .
وقرأ ابنُ كثيرٍ وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان : « يؤمنون ، يذكرون » بالغيبة حملاً على « الخاطئون » والباقون : بالخطاب ، حملاً على « بما تبصرون » .
وأبيّ : وتتذكرون « بتاءين » .
فصل في القرآن الكريم
قوله : { وما هو بقول شاعرٍ } ؛ لأنه مباينٌ لصنوفِ الشعر كلِّها ، { ولا بقول كاهنٍ } ؛ لأنه ورد بسبِّ الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئاً على من سبِّهم .
وقوله : { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } ، المراد بالقليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا : الله .
وقيل : إنهم قد يؤمنون في قلوبهم إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً ، ولا يتممون الاستدلال ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } [ المدثر : 18 ] إلا أنه في آخرِ الأمرِ قال : { إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [ المدثر : 24 ] .
وقال مقاتل : يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله تعالى ، والمعنى لا يؤمنون أصلاً ، والعربُ يقولون : قلّ ما تأتينا ، يريدون لا تأتينا .
قوله : { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين } ، هذه قراءةُ العامة ، أعني الرَّفع على إضمار مبتدأ ، أي : هو تنزيلٌ وتقدم مثله .
وأبو السِّمال : « تنزيلاً » بالنصب على إضمار فعل ، أي : نزل تنزيلاً .
قال القرطبي : وهو عطفٌ على قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } أي : إنه لقول رسول كريم ، وهو تنزيل من رب العالمين .
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
قوله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ } ، هذه قراءةُ العامَّة ، « تَفعَّل » من القول مبنيًّا للفاعل .
قال الزمخشريُّ : « التقوُّلُ ، افتعالُ القولِ؛ لأن فيه تكلُّفاً من المفتعل » .
وقرأ بعضهم : « تُقُوِّلَ » مبنياً للمفعول .
فإن كان هذا القارىءُ رفع ب « بَعْضَ الأقاويل » فذاك ، وإلا فالقائم مقام الفاعل الجار ، وهذا عند من يرى قيام غير المفعول به مع وجوده .
وقرأ ذكوانُ وابنه محمد : « يَقُولُ » مضارع « قَالَ » .
و « الأقاويل » جمعُ : « أقوال » ، و « أقوال » جمع : « قول » ، فهو نظير : « أبَاييت » جمع : « أبياتٍ » جمع « بيتٍ » .
وقال الزمخشريُّ : وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً ، كقولك : « الأعاجيب » و « الأضاحيك » ، كأنها جمع « أفعولة » من القول .
والمعنى : لو نسب إلينا قولاً لم نقله « لأخذْنَا مِنْهُ باليَميْنِ » أي : لأخذناه بالقوة ، و « الباء » يجوز أن تكون على أصلها غير مزيدة ، والمعنى لأخذناه بقوة منا ف « الباء » حالية ، والحالُ من الفاعل ، وتكون « من » في حكم الزائدةِ ، واليمينُ هنا مجاز عن القوة والغلبة؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه .
قال القتبي : وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد .
ومنه قول الشماخ : [ الوافر ]
4854 - إذَا ما رايةٌ رُفِعتْ لمَجْدٍ ... تلقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ
قال أبو جعفر الطبري : هذا الكلام مخرج مخرج الإذلال ، على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب .
ويجوز أن تكون الباءُ مزيدةً ، والمعنى : لأخذنا يمينه ، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبراً يؤخذ بيمينه ، ويضرب بالسَّيف ، في جيده موجهة ، وهو أشد عليه .
قال الحسن : لقطعْنَا يدهُ اليمنى .
وقال نفطويه : المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف .
وقال السدِّي ومقاتل : والمعنى : انتقمنا منه بالحقِّ؛ واليمين على هذا بمعنى الحق ، كقوله تعالى : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } [ الصافات : 28 ] أي : من قبل الحق .
قوله : { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } . وهو العِرْق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قُطعَ مات صاحبُه .
قاب أبو زيد : وجمعه الوُتْن ، وثلاثة أوتِنَة ، والموتُون الذي قُطِعَ وتينُه .
وقال الكلبي : هو عِرْق بين العلباء والحُلْقوم ، وهما علباوان ، وإن بينهما العِرْق .
والعِلْباء : عصب العنق .
وقيل : عرق غليظ تصادفه شفرة النَّاحر .
قال الشماخُ : [ الوافر ]
4855 - إذَا بلَّغَتنِي وحَملْتِ رحْلِي ... عرَابَةُ فاشْرقِي بِدمِ الوتِينِ
وقال مجاهد : هو حبل القلب الذي في الظهر ، وهو النخاع ، فإذا انقطع بطلت القوى ، ومات صاحبه .
وقال محمدُ بن كعب : إنه القلبُ ومراقه ، وما يليه .
وقال عكرمة : إنَّ الوتينَ إذا قُطعَ لا إن جَاعَ عرف ولا إن شَبعَ عرف .
قال ابن قتيبة : ولم يرد أنا نقطعه بعينه ، بل المراد أنه لو كذب لأمتناه فكان كمن قُطِعَ وتينه .
ونظيرهُ قوله صلى الله عليه وسلم : « مَا زَالَتْ أكْلَةُ خيْبَر تُعاودُنِي ، فهذا أوَانُ انقِطَاعِ أبْهَرِي » « والأبَهَرُ » : عِرْقٌ متصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبُه ، فكأنه قال : هذا أوانُ يقتلني السُّم ، وحينئذ صرتُ كمن انقطع أبهره .
قوله : { فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } .
في « حاجزين » وجهان :
أحدهما : أنه نعت ل « أحد » على اللفظ ، وإنما جمع المعنى ، لأن « أحداً » يعُمُّ في سياق النفي كسائر النكراتِ الواقعة في سياق النَّفْي ، قاله الزمخشري والحوفيُّ .
وعلى هذا فيكون « مِنْكُم » خبراً للمبتدأ ، والمبتدأ في « أحد » زيدت فيه « مِنْ » لوجود شرطها .
وضعفه أبو حيَّان : بأن النفي يتسلَّط على كينونته « منكم » ، والمعنى إنما هو على نفي الحجز عما يراد به .
والثاني : أن يكون خبراً ل « ما » الحجازية ، و « من أحد » اسمها ، وإنما جُمِع الخبرُ لما تقدم و « منكم » على هذا حالٌ ، لأنه في الأصل صفة ل « أحد » أو يتعلق ب « حاجزين » ولا يضر ذلك لكون معمول الخبر جاراً ، ولو كان مفعولاً صريحاً لامتنع ، لا يجوز : « ما طعامك زيداً آكلاً » ، أو متعلق بمحذوف على سبيل البيان ، و « عنه » يتعلق ب « حاجزين » على القولين ، والضمير للمقتول ، أو للقتل المدلول عليه بقوله : « لأخذْنَا ، لقطعنا » .
قال القرطبيُّ : المعنى فما منكم قوم يحجزون عنه لقوله تعالى { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] هذا جمع لأن « بين » لا تقع إلا على اثنين فما زاد ، قال عليه الصلاة والسلام : « لَمْ تحلَّ الغَنائِمُ لأحدٍ سُودِ الرُّءوسِ قَبْلكُمْ » .
لفظه واحد ، ومعناه الجمع ، و « من » زائدة .
والحَجْز : المنع ، و « حَاجزيْنَ » يجوز أن يكون صفة ل « أحد » ، على المعنى كما تقدم ، فيكون في موضع جر ، والخبر « منكم » ، ويجوز أن يكون منصوباً ، على أنه خبر ، و « منكم » ملغى ، ويكون متعلقاً ب « حاجزين » ، ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا ، كما لم يمتنع الفصل به في « إنَّ فيك زيداً راغبٌ » .
قوله : { وَإِنَّهُ } . يعني : القرآن { لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } ، أي : الخائفين الذين يخشون الله ، ونظيره { فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
وقيل : المراد محيمد صلى الله عليه وسلم أي : هو تذكرة ورحمة ونجاة .
{ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ } .
قال الربيع : بالقرآن ، { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ } يعني : القرآن { عَلَى الكافرين } إمَّا يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به ، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين به ، أو حين لم يقدروا على معارضته حين تحدَّاهم أن يأتوا بسورة مثله .
والحسرة : الندامة .
وقيل : « إنه لحسرة » يعني : التكذيب به ، لدلالة مكذبين على المصدر دلالة « السَّفيه » فيه في قوله : [ الوافر ]
4856 - إذَا نُهِيَ السَّفيهُ جَرَى إليْهِ ... وخَالفَ ، والسَّفيهُ إلى خِلافِ
أي : إلى السَّفهِ .
فصل فيمن استدل بالآية على أن الكفر ليس من الله
قال ابنُ الخطيب : وللمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية ، على أنَّ الكُفر ليس من الله؛ لأنه وصف القرآن بأنه تذكرةٌ للمتقين ، ولم يقل : إنه ضلالٌ للمكذبين؛ بل نسب الضَّلال إليهم بقوله : { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } .
والجوابُ : ما تقدم .
قوله : { وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين } يعني : القرآن العظيم ، تنزيل من الله - عز وجل - فهو كحق اليقينِ .
وقيل : حقًّا يقيناً لا بطلان فيه ، ويقيناً لا ريب فيه ، ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخرة للتأكيد ، قاله ابن الخطيب .
وقال القرطبيُّ : قال ابنُ عبَّاسٍ : إنما هو كقولك : عينُ اليقينِ ومحضُ اليقينِ ، ولو كان اليقينَ نعتاً لم يجز أن يضاف إليه ، كما لا تقول : هذا رجل الظريف .
وقيل : أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين .
وقوله : { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } .
قال ابن عبَّاس : أي : فَصَلِّ لربِّك وقيل : نزِّه اللَّه عن السوءِ والنقائصِ ، إما شُكْراً على ما جعلك أهْلاً لإيحائه إليك ، وإمَّا تنزيهاً له عن الرضا بأن يُنسبَ إليه الكذبُ من الوَحْي .
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورةَ الحَاقَّةِ حَاسَبَهُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - حِسَاباً يَسِيراً » .
وعن فُضالةَ بنِ شريك ، عن أبي الزاهرية قال : سمعته يقول : « مَنْ قَرَأ إحدى عَشْرَةَ آيةً من سُورةِ الحاقَّةِ ، أجِير من فِتْنَةِ الدَّجَّالِ؛ ومنْ قَرَأها ، كَانَ لَهُ نُوراً مِنْ فَوْقِ رَأسِهِ إلى قَدَمَيْهِ » .
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
قوله تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } .
قرأ نافع وابن عامرٍ : « سَالَ سَائِلٌ » بغير همز .
والباقون : بالهمز ، فمن همز ، فهو من السؤال ، وهي اللغةُ الفاشيةُ .
ثم لك في « سأل » وجهان :
أحدهما : أن يكون قد ضمن معنى « دعا » فلذلك تعدَّى بالباءِ ، كما تقول : دعوتُ بكذا ، والمعنى : دعا داعٍ بعذابٍ .
والثاني : أن يكون على أصله ، والباء بمعنى « عن » ، كقوله : [ الطويل ]
4856 م - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ .
{ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] وقد تقدم تحقيقه .
والأول أولى لأن التجوزَ في الفعل أولى منه في الحرف لقوته .
وأما القراءةُ بالألف ففيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنها بمعنى قراءة الهمزة ، وإنما خففت بقلبها ألفاً ، وليس بقياس تخفيف مثلها ، بل قياس تخفيفها ، جعلها بَيْنَ بَيْنَ ، والباء على هذا الوجه كما في الوجه الذي تقدم .
الثاني : أنَّها من « سَالَ يَسالُ » مثل : خَافَ يخافُ ، وعين الكلمة واو .
قال الزمخشريُّ : « وهي لغةُ قريش ، يقولون : سلت تسال ، وهما يتسايلان » .
قال أبو حيَّان : وينبغي أن يتثبت في قوله : « إنها لغةُ قريش »؛ لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز ، أو أصله الهمز ، كقراءة من قرأ { وسَلُوا } [ النساء : 32 ] ، إذ لا يجوز أن يكون من « سَالَ » التي يكون عينها واواً ، إذ كان يكون « وسالوا الله » مثل « خافوا » فيبعد أن يجيء ذلك كلُّه على لغةِ غير قريش ، وهم الذين نزل القرآنُ بلغتهم إلا يسيراً فيه لغة غيرهم ، ثم جاء في كلام الزمخشري : وهما « يتسايلان » بالياء ، وهو وهم من النُّساخ ، إنما الصواب : يتساولان - بالواو - لأنه صرح أولاً أنه من السؤال ، يعني بالواو الصريحة .
وقد حكى أبو زيد عن العرب : إنهما يتساولان .
الثالث : إنها من السَّيلان ، والمعنى : « سال » واد في جهنم ، يقال له : سايل ، وهو قول زيد بن ثابت .
فالعين ياء ، ويؤيده قراءة ابن عباس : « سال سيل » .
قال الزمخشريُّ : « والسَّيل مصدر في معنى السَّائل ، كالغَوْر بمعنى الغَائِر ، والمعنى : اندفع عليهم وادي عذاب » ، انتهى .
والظاهر الوجه الأول لثبوت ذلك لغة مشهورة ، قال : [ البسيط ]
4857 - سَالَتْ هُذيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحشَةً ... ضَلَّتْ هُذِيْلٌ بِمَا سَالتْ ولمْ تُصِبِ
وقرأ أبيُّ بن كعب وعبد الله : « سَال سَالٍ » مثل « مَال » .
وتخريجها : أن الأصل : « سائل » فحذفت عينُ الكلمة ، وهي الهمزة ، واللام محل الإعراب ، وهذا كما قيل : هذا شاكٍ في شائك السِّلاح . وقد تقدم الكلام على مادة السؤال أول سورة « البقرة » فليلتفت إليه .
و « الباء » تتعلق ب « سال » من السيلان تعلقها ب « سأل » لِمَا يزيد .
وجعل بعضهم الباءَ متعلقة بمصدر دلَّ عليه فعل السؤالِ ، كأنه قيل : ما سؤالهم؟ .
فقيل : سؤالهم بعذاب ، كذا حكاه أبو حيَّان عن ابن الخطيب .
ولم يعترضه ، وهذا عجيب ، فإنَّ قوله أولاً : إنه متعلق بمصدر دل عليه فعل السؤال ينافي تقديره بقوله : « سؤالهم بعذاب »؛ لأن الباء في هذا التركيب المقدَّر تتعلق بمحذوف؛ لأنها خبر المبتدأ بالسؤال .
وقال الزمخشريُّ : « وعن قتادة سأل سائل عن عذاب الله بمن ينزل وعلى من يقع فنزلت ، و » سأل « على هذا الوجه مضمن معنى عني واهتم ، كأنه قيل : اهتم مهتم بعذاب واقعٍ » .
فصل في تفسير السؤال
قال القرطبيُّ : الباء يجوز أن تكون بمعنى « عن » والسؤالُ بمعنى الدعاء ، أي دعا داع بالعذاب ، عن ابن عباس وغيره ، يقال : دعا على فلان بالويلِ ودعا عليه بالعذاب .
ويقال : دعوتُ زيداً ، أي التمستُ إحضاره ، والمعنى التمس ملتمسٌ عذاباً للكافرين ، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامةِ ، وعلى هذا فالباءُ زائدةٌ كقوله تعالى : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] ، وقوله تعالى : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 23 ] ، فهي تأكيد ، أي : سأل سائل عذاباً واقعاً .
« لِلكَافِرينَ » أي : على الكافرين .
قيل : هو النضر بن الحارث حيثُ قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، فنزل سؤاله ، وقتل يوم « بدر » صبراً هو وعقبة بن أبي معيط ، لم يقتل صبراً غيرهما ، قاله ابن عباس ومجاهد .
وقيل : « إنَّ السائل هنا هو الحارثُ بن النعمان الفهري ، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه : » مَنْ كُنْتُ مَولاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ « ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ، ثم قال : يا محمدُ ، أمرتنا عن الله ، أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنَّك رسول الله ، فقبلناه منك ، وأن نصلي خمساً ، ونزكي أموالنا ، فقبلناه منك ، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام ، فقبلناه منك ، وأن نحج ، فقبلناه منك ، ثُمَّ لم ترض بهذا ، حتى فضَّلت ابن عمك علينا ، أفهذا شيءٌ منك أم من الله؟ .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » واللَّهِ الَّذي لا إِلهَ إلاَّ هُوَ ، ما هُوَ إلاَّ مِنَ اللَّه « فولى الحارث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذابٍ أليم ، فوالله ما وصل إلى ناقته ، حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه ، فخرج من دبره فقتله ، فنزلت { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } » .
وقال الربيع : السائل هنا أبو جهلٍ وهو القائل ذلك .
وقيل : إنه قول جماعة من كفار قريش ، وقيل : هو نوح - عليه الصلاة والسلام - سأل العذاب على الكافرين .
وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بالعقاب ، وطلب أن يوقعه بالكفار ، وهو واقع بهم لا محالة ، وامتد الكلام إلى قوله تعالى { فاصبر صَبْراً جَمِيلاً } [ المعارج : 5 ] ، أي : لا تستعجل فإنه قريب ، وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره الله بالصبر الجميلِ .
وقال قتادة : الباءُ بمعنى « عَنْ » ، فكأن سائلاً سأل عن العذاب بمن وقع ، أو متى يقع ، قال الله تعالى : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } ، أي : فاسأل عنه ، وقال علقمةُ : [ الطويل ]
4858 - فإن تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ . . . .
أي : عن النِّساء ، فالمعنى : سلوني بمن وقع العذاب ، ولمن يكون ، فقال الله تعالى : { لِّلْكَافِرِينَ } وقال أبو عليّ وغيره : وإذا كان من السؤال ، فأصله أن يتعدَّى إلى مفعولين ، ويجوز الاقتصار على أحدهما وإذا اقتصر على أحدهما ، جاز أن يتعدى إليه بحرف الجر ، فيكون التقدير : سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب .
قوله : { لِّلْكَافِرِينَ } . فيه أوجه :
أحدها : أن يتعلق ب « سأل » مضمناً معنى « دعا » كما تقدم ، أي : دعا لهم بعذاب واقع .
الثاني : أن يتعلق ب « واقع » واللام للعلة ، أي نازل لأجلهم .
الثالث : أن يتعلق بمحذوف ، صفة ثانية ل « عذاب » أي كائن للكافرين .
الرابع : أن يكون جواباً للسائل ، فيكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو للكافرين .
الخامس : أن تكون « اللام » بمعنى « على » ، أي : واقع على الكافرين .
ويؤيده قراءة أبيّ : « على الكافرين » ، وعلى هذا فهي متعلقة ب « واقع » لا على الوجه الذي تقدم قبله .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : بِمَ يتصل قوله : « للكافرين »؟ .
قلت : هو على القول الأول متصل ب « عذاب » صفة له أي بعذاب واقع كائن للكافرين ، أو بالفعل أي دعا للكافرين بعذاب واقع أو بواقع ، أي : بعذاب نازل لأجلهم .
وعلى الثاني : هو كلام مبتدأ جواب للسائل ، أي : هو للكافرين انتهى .
قال أبو حيَّان : وقال الزمخشري : أو بالفعل ، أي : دعا للكافرين ، ثم قال : وعلى الثاني ، وهو ثاني ما ذكر في توجيهه للكافرين ، قال : هو كلام مبتدأ ، وقع جواباً للسائل ، أي : هو للكافرين ، وكان قد قرر أن « سأل » في معنى « دعا » فعدي تعديته ، كأنه قال : دعا داعٍ بعذاب ، من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، ومنه قوله تعالى : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } [ الدخان : 55 ] انتهى ، فعلى ما قرره ، أنه متعلق ب « دَعَا » يعني « بسأل » ، فكيف يكون كلاماً مبتدأ جواباً للسائل ، أي : هو للكافرين ، هذا لا يصح .
قال شهاب الدين : وقد غلط أبو حيان في فهمه عن أبي القاسم قوله : وعلى الثاني إلى آخره ، فمن ثم جاء التخليط الذي ذكره الزمخشريُّ ، إنما عنى بالثاني قوله عن قتادة : سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع ، فنزلت ، و « سأل » على هذا الوجه مضمن معنى « عني واهتم » ، فهذا هو الوجه الثاني المقابل للوجه الأول ، وهو أن « سأل » يتضمن معنى « دَعَا » ، ولا أدري كيف تخبط حتى وقع ، ونسب الزمخشري إلى الغلط ، وأنه أخذ قول قتادة والحسن وأفسده ، والترتيب الذي رتّبه الزمخشري ، في تعلق « اللام » من أحسن ما يكون صناعة ومعنى .
قال القرطبي : وقال الحسن : أنزل اللَّهُ تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } ، وقال : لمن هو؟ فقال : « للكافرين » ، فاللام في « لِلكَافِريْنَ » متعلقة ب « واقع » .
وقال الفرَّاءُ : التقدير : بعذابٍ للكافرين واقع ، فالواقع من نعت العذاب ، فاللام دخلت للعذاب لا للواقع .
أي : هذا العذاب للكافرين في الآخرة ، لا يدفعه عنهم أحدٌ .
وقيل : إن اللام بمعنى « على » أي : واقع على الكافرين كما في قراءة أبَيِّ المتقدمة .
وقيل : بمعنى « عَنْ » أي : ليس له دافع عن الكافرين .
قوله : { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } .
يجوز أن يكون نعتاً آخر ل « عذاب » ، وأن يكون مستأنفاً ، والأول أظهر .
وأن يكون حالاً من « عَذاب » لتخصصه ، إما بالعمل وإما بالصفة ، وأن يكون حالاً من الضمير في « للكافرين » إن جعلناه نعتاً ل « عَذاب » .
قوله : { مِّنَ الله } يجوز أن يتعلق ب « دَافِعٌ » بمعنى ليس له دافع من جهته ، إذا جاء وقته ، وأن يتعلق ب « واقع » ، وبه بدأ الزمخشري ، أي : واقع من عنده .
وقال أبو البقاء : ولم يمنع النفي من ذلك؛ لأن « لَيْسَ » فعل .
كأنه استشعر أن ما قبل النفي لا يعمل فيما بعده .
وأجاب : بأنَّ النفي لما كان فعلاً ساغ ذلك .
قال أبو حيَّان : والأجود أن يكون « مِنَ اللَّهِ » متعلقاً ب « وَاقع » ، و { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } جملة اعتراض بين العامل ومعموله . انتهى .
وهذا إنما يأتي على البدل ، بأنَّ الجملة مستأنفةٌ ، لا صفة ل « عذاب » ، وهو غير الظاهر كما تقدم لأخذ الكلام بعضه بحجزة بعض .
قوله : « ذي » صفة لله ، ومعنى : « ذِي المَعارِج » ، أي : ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم؛ لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة ، قاله ابن عباس وقتادة .
« فالمعارج » ، مراتبُ إنعامه على الخلق .
وقيل : ذي العظمة والعلو .
وقال مجاهدٌ : هي معارج السماءِ .
وقيل : هي السموات .
قال ابن عباس : أي : ذي السموات ، سمَّاها معارج الملائكةِ ، لأن الملائكةَ تعرج إلى السماءِ ، فوصف نفسه بذلك .
وقيل : « المعارج » الغرف ، أي : أنه ذو الغرف ، أي : جعل لأوليائه في الجنة غرفاً .
وقرأ عبد الله : « ذِي المعاريج » بالياء .
يقال : معرج ، ومعراج ، ومعارج ، ومعاريج مثل مفتاح ومفاتيح .
والمعارج : الدرجات ومنه : { وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } [ الزخرف : 33 ] وتقدم الكلام على المعارج في « الزخرف » .
قوله : { تَعْرُجُ } . العامة : بالتاء من فوق .
وقرأ ابن مسعود ، وأصحابه ، والسلمي ، والكسائي : بالياء من تحت .
وهما كقراءتي : « فَنَادَاهُ المَلائِكَةُ ونَادَتْهُ » [ آل عمران : 39 ] ، « تَوَفَّاهُ وَتَوَفَّتْهُ » [ الأنعام : 61 ] .
وأدغم أبو عمرو : الجيم في التاء .
واستضعفها بعضهم من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء .
وأجيب عن ذلك بأنها قريبة من الشين؛ لأن النقص الذي في الشين يقرِّبها من مخرج التاء ، والجيم تدغم في الشين لما بينهما من التقارب ، في المخرج والصفة ، كما تقدم في { أَخْرَجَ شَطْأَهُ } [ الفتح : 29 ] فحُمِلَ الإدغام في التاء ، على الإدغام في الشين ، لما بين الشين والتاء من التقارب .
وأجيب أيضاً : بأنَّ الإدغام يكون لمجرد الصفات ، وإنْ لم يتقاربا في المخرج ، والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشّدة .
والجملة من « تعرج » مستأنفة .
قوله : « والرُّوحُ » من باب عطف الخاص على العام ، إن أريد بالروح جبريل ، أو ملك آخر من جنسهم ، وأخر هنا وقدم في قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } [ النبأ : 38 ] ؛ لأن المقامَ هنا يقتضي تقدم الجمع على الواحد ، من حيثُ إنه مقامُ تخويفٍ ، وتهويل .
فصل في تحرير معنى الآية
{ تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ } ، أي : تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم .
قال ابن عبَّاسِ : الروح : جبريلُ - عليه السلام - لقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] .
وقيل : هو ملكٌ آخر ، عظيمُ الخلقةِ .
وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله ، كهيئة الناس وليس بالناس .
وقال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين تقبض .
قوله : « إليه » ، أي : إلى المكان الذي هو محلهم ، وهو في السماء؛ لأنه محلُّ برِّه وكرامته وقيل : هو كقول إبراهيم { إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي } [ الصافات : 99 ] ، أي : إلى الموضع الذي أمرني به .
وقيل : « إليه » إلى عرشه .
قال شهاب الدين : الضمير في « إليْهِ » ، الظاهر عوده على الله تعالى .
وقيل : يعود على المكان لدلالة الحال والسياق عليه .
قوله : « في يوم » ، فيه وجهان :
أظهرهما : تعلقه ب « تَعْرجُ » .
والثاني : أنه يتعلق ب « دافع » .
وعلى هذا فالجملة من قوله : « تعرجُ الملائكةُ » معترضة ، و « كَانَ مقداره » صفةٌ ل « يوم » .
قال ابن الخطيب : الأكثرون على أنَّ قوله : « فِي يَوْمٍ » صلة قوله : « تَعْرُجُ » ، أي : يحصل العروج في مثل هذا اليوم .
وقال مقاتل : بل هذا من صلة قوله : « بعَذابٍ واقع » [ وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : سأل سائل بعذاب واقع ] ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
وعلى التقدير الأول ، فذلك اليوم ، إما أن يكون في الآخرة ، أو في الدنيا . وعلى تقدير أن يكون في الآخرة ، فذلك الطول إما أن يكون واقعاً ، وإما أن يكون مقدراً ، فإن كان معنى الآية : إن ذلك العُروجَ يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنةٍ ، وهو يوم القيامة ، وهذا قول الحسن ، قال : وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط؛ إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية ، ولنفيت الجنة والنار عند انتهاء تلك الغاية ، وهذا غير جائز ، بل المراد : أن موقفهم للحساب حين يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدُّنيا بعد ذلك يستقر أهل النار في النار ، نعوذ بالله منها .
فصل في الاحتجاج لهذا القول
قال القرطبي : واستدل النحاس على صحة هذا القول بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا مِنْ رجُلٍ لَمْ يُؤدِّ زكَاةَ مالِه إلاَّ جعلَ لَهُ شُجَاعاً مِنْ نَارٍ تُكْوَى بِهِ جبْهَتُهُ وظَهْرُهُ وجَنْبَاهُ يَوْمَ القِيامَةِ في يَوْمٍ كَانَ مقْدارهُ خَمْسينَ ألْفَ سَنةٍ حتَّى يقْضِيَ الله بَيْنَ النَّاسِ » وهذا يدل على أنه يوم القيامةِ .
وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا ما قدر ما بين ظهر يومنا وعصره .
وروي هذا المعنى مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين » ولذلك سمى نفسه { سَرِيعُ الحساب } [ المائدة : 40 ] ، و { أَسْرَعُ الحاسبين } [ الأنعام : 62 ] ، وإنما خاطبهم على قدر فهم الخلائقِ ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن ، وكما يرزقهم في ساعة يحاسبهم في لحظة ، قال تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] .
والمعنى : لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله ، لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة .
قال البغوي : هذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل .
قال عطاء : ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا .
واعلم أنَّ هذا الطول ، إنَّما يكون في حق الكافرِ ، وأما في حق المؤمن فلا ، لما روى أبو سعيد الخدري أنه قال : « قِيْلَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أطولَ هذا اليوم؟ فقال : » والذي نَفْسي بِيَدهِ إنَّهُ ليَخِفُّ على المؤمنِ حتَّى إنَّهُ يكُونُ أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيهَا في الدُّنْيَا « » .
وقال بعضهم : إنَّ ذلك ، وإن طال ، فيكون سبباً لمزيد السرورِ والراحة لأهل الجنة ، ويكون سبباً لمزيد الحزنِ والغمِّ لأهل النار .
وأجيب : بأنَّ الآخرة دارُ جزاءٍ ، فلا بد وأن يحصل للمثابين ثوابهم ، ودارُ الثوابِ هي الجنةُ لا الموقف ، فإذاً لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار .
وقيل : هذه المدة على سبيل التقدير لا على التحقيق ، أي : تعرج الملائكةُ في ساعة قليلة ، لو أراد أهل الدنيا العروج إليها كان مقدار مدَّتهم خمسين ألف سنةٍ .
وعن مجاهد والحسن وعكرمة : هي مدة إقامة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنةٍ ، وهو قول أبي مسلمٍ .
فإن قيل : كيف الجمعُ بين هذه ، وبين قوله في سورة « السَّجدة » : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ السجدة : 5 ] وقد قال ابن عباس : هي أيام سمَّاها الله تعالى هو أعلم بها ، وأنا أكره أن أقول فيها ما لا أعلم؟ .
فالجوابُ : يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنةٍ ، ومن أعلى سماءِ الدنيا إلى الأرض ألف سنةٍ؛ لأن عرض كل سماءٍ خمسمائة ، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة ، فقوله : { في يَوْمٍ } يريد : في يوم من أيام الدنيا ، وهو مقدار ألف سنةٍ لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا ، ومقدار خمسين ألف سنةٍ لو صعدوا إلى أعلى العرش .
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
قوله : { فاصبر صَبْراً جَمِيلاً } قال ابن الخطيب : هذا متعلق ب « سألَ سَائلٌ »؛ لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاءِ برسول الله صلى الله عليه وسلم والتعنُّت فأمر بالصبر .
ومن قَرَأ : « سَالَ سَائِل » ، وسيل فالمعنى جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك ، والصَّبرُ الجميلُ هو الذي لا جزع فيه ، ولا شكوى لغير الله .
وقيل : أن يكون صاحب مصيبة في القوم لا يدرى من هو .
قال ابنُ زيدٍ والكلبيُّ : هذه الآيةُ منسوخة بالأمر بالقتال .
قوله : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً } .
الضميرُ في « إنَّهُمْ » لأهل « مكة » ، وفي « يَرونَهُم ، ونَرَاه » لليوم إن أريد به يوم القيامة .
قال القرطبيُّ : أي : نعلمه؛ لأن الرؤية إنما تتعلقُ بالموجودِ ، كقولك : الشافعي يرى في هذه المسألةِ كذا .
وقال الأعمشُ : يرون البَعْثَ بعيداً؛ لأنهم لا يؤمنون به ، كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة كمن يقول لمن يناظره : هذا بعيدٌ لا يكون .
وقيل : الضمير يعودُ إلى العذاب بالنار ، أي : غير كائن ، « ونراه قريباً » لأن ما هو آت ، فهو قريب .
قوله : { يَوْمَ تَكُونُ } ، فيه أوجه :
أحدها : أنه متعلق ب « قريباً » وهذا إذا كان الضمير في « نراه » للعذاب ظاهراً .
الثاني : أنه يتعلق بمحذوف يدل عليه « واقع » ، أي : يقع يوم يكون .
الثالث : أنه يتعلق بمحذوفٍ مقدر بعده ، أي : يوم يكون كان وكيت وكيت .
الرابع : أنه بدل من الضمير في « نَرَاهُ » إذا كان عائداً على يومِ القيامةِ .
الخامس : أنَّه بدل عن « فِي يَوْمٍ » ، فيمن علقه ب « واقع » . قاله الزمخشري .
وإنَّما قال : فيمن علقه « بِواقعٍ » لأنه إذا علق ب « تَعْرُجُ » في أحد الوجهين استحال أن يبدل عنه هذا لأن عروج الملائكة ليس هو في هذا اليوم الذي تكون السماء كالمُهْلِ ، والجبال كالعِهْنِ ، ويشغل كل حميمٍ عن حميمه .
قال أبو حيان : « ولا يجوز هذا » يعني : إبداله من « في يوم » قال : لأن « فِي يَوْمٍ » وإن كان في موضع نصبٍ لا يبدل منه منصوب؛ لأن مثل هذا ليس بزائد ، ولا محكوم له بحكم الزائد ، ك « رُّبَّ » وإنما يجوز مراعاة الموضع في حرف الجر الزائد؛ كقوله : [ الكامل ]
4859 - أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيدٍ ... إلاَّ يَداً ليْسَتْ لَهَا عَضُدُ
ولذلك لا يجوز « مررتُ بزيد الخياط » على موضع « بزيد » ولا « مررتُ بزيد وعمراً » ، ولا « غضب على زيد وجعفراً » ولا « مررت بزيد وأخاك » على مراعاة الموضع .
قال شهاب الدين : قد تقدم أن قراءة { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [ المائدة : 6 ] من هذا الباب فمن نصب الأرجل فليكن هذا مثله .
ثم قال أبو حيَّان : فإن قلت : الحركة في « يوم » تكون حركة بناء لا حركة إعرابٍ ، فهو مجرور مثل « فِي يَوْمٍ » .
قلتُ : لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين؛ لأنه أضيف إلى مُعرب ، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين فيتمشى كلامُ الزمخشريِّ على مذهبهم إن كان استحضره وقصده انتهى .
قال شهاب الدين : إن كان استحضره فيه تحامل على الرجل ، وأي كبير أمر في هذا حتى لا ييستحضر مثل هذا . وتقدم الكلام على المهل في « الدخان » .
قوله : { وَتَكُونُ الجبال كالعهن } .
قيل : « العِهْنُ » هو الصُّوف مطلقاً ، وقيل : يقدر كونه أحمر وهو أضعف الصوف ، ومنه قول زهير : [ الطويل ]
4860 - كَأنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ ... يَزَالُ بِه حَبُّ الفَنَا لمْ يُحَطَّمِ
الفتات : القطع ، والعِهْنُ : الصُّوف الأحمر ، واحده عهنة .
وقيل : يقيد كونه مصبوغاً ألواناً ، وهذا أليق بالتشبيه؛ لأن الجبال متلونة ، كما قال تعالى : { جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ } [ فاطر : 27 ] .
والمعنى : أنها تلين بعد شدة ، وتتفرق بعد الاجتماع .
وقيل : أول ما تتفرق الجبال تصير رمالاً ثم عِهْناً منفوشاً ، ثم هباءً مَنْثُوراً .
قوله : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } .
قرأ العامة : « يَسْألُ » مبنياً للفاعل ، والمفعول الثاني محذوف ، فقيل : تقديره : لا يسأله نصره ، ولا شفاعته لعلمه أنَّ ذلك مفقود .
وقيل : لا يسأله شيئاً من حمل أو زادٍ .
وقيل : « حَمِيْماً » منصوب على إسقاط الخافض ، أي : عن حميم ، لشغله عنه . قاله قتادة . لقوله تعالى : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] .
وقرأ أبو جعفر ، وأبو حيوة ، وشيبة ، وابن كثير في رواية قال القرطبيُّ : والبزي عن عاصم : « يُسْألُ » مبنياً للمفعول .
فقيل : « حميماً » مفعول ثان لا على إسقاط حرف ، والمعنى : لا يسأل إحضاره .
وقيل : بل هو على إسقاط « عَنْ » ، أي : عن حميم ، ولا ذو قرابة عن قرابته ، بل كل إنسان يُسأل عن عمله ، نظيره : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } [ المدثر : 38 ] .
قوله : { يُبَصَّرُونَهُمْ } عدي بالتضعيف إلى ثان ، وقام الأول مقام الفاعل ، وفي محل هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها في موضع الصفة ل « حَمِيم » .
والثاني : أنها مستأنفة .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما موقع « يُبصَّرُونهُم »؟
قلت : هو كلام مستأنف ، كأنه لمَّا قال : { لاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } قيل : لعله لا يبصره ، فقال : « يُبَصَّرُونهُم » ، ثم قال : ويجوز أن يكون « يبصرُونهُم » صفة ، أي : حميماً مبصرين معرفين إياهم انتهى .
وإنما اجتمع الضميران في « يبصرُونهُم » وهما للحميمين حملاً على معنى العمومِ؛ لأنهما نكرتان في سياق النفي .
وقرأ قتادةُ : « يُبصِرُونهُمْ » مبنياً للفاعل ، من « أبصَرَ » ، أي : يبصر المؤمن الكافر في النار .
فصل في قوله تعالى يبصرونهم
« يُبصَّرُونهُم » ، أي : يرونهم ، يقال : بصرت به أبصر ، قال تعالى : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } [ طه : 96 ] ، ويقال : « بصَّرَني زيدٌ بكذا » فإذا حذفت الجار قلت : بصَّرني زيدٌ ، فإذا بنيت الفعل للمفعول ، وقد حذفت الجارَّ ، قلت : بصرت زيداً ، فهذا معنى : « يُبَصَّرونهُمْ » أي : يعرف الحميمُ الحميمَ حين يعرفه ، وهو مع ذلك ، لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه ، فيبصر الرجلُ أباه ، وأخاه ، وقرابته ، وعشيرته ، فلا يسألهُ ، ولا يكلمه؛ لاشتغالهم بأنفسهم .
وقال ابن عبَّاس : يتعارفون ساعة ، ثم لا يتعارفون بعد ذلك .
وقال ابن عباس أيضاً : يُبْصِرُ بعضهم بعضاً ، فيتعارفون ثم يفرُّ بعضهم من بعضٍ ، فالضمير في « يُبَصَّرونهُم » على هذا للكافر ، والهاءُ والميم للأقرباء .
وقال مجاهدُ : المعنى : يُبَصِّرُ الله المؤمنين الكفَّار في يوم القيامةِ ، فالضمير في « يُبَصَّرونهم » للمؤمنين ، والهاءُ والميمُ للكفار .
وقال ابنُ زيدٍ : المعنى : يُبصِّرُ الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدُّنيا ، فالضميرُ في « يُبَصَّرونَهُم » للتابعين ، والهاءُ والميم للمتبوعين .
وقيل : إنه يُبصِرُ المظلومُ ظالمه ، والمقتولُ قاتله .
وقيل : إن الضمير في « يُبصَّرونَهم » يرجع إلى الملائكة ، أي : يعرفون أحوال الناس ، فيسوقون كلَّ فريقٍ إلى ما يليق بهم ، وتمَّ الكلامُ عند قوله : « يُبصَّرُونَهُم » . قوله : « يَوَدُّ المُجرِمُ » ، أي : يتمنَّى الكافرُ { لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ } ، أي : من عذاب جهنم ، وقيل : المرادُ بالمجرم كلُّ مذنب ، وتقدم الكلام على قراءتي « يَومئذٍ » فتحاً وجرًّا في « هود » والعامة : على إضافة « عَذابِ » ل « يَومِئذٍ » .
وأبو حيوة : بتنوين « عذابٍ » ، ونصب « يَومئذٍ » ، على الظرف .
قال ابنُ الخطيب : وانتصابه بعذاب؛ لأن فيه معنى تعذيب .
وقال أبو حيَّان هنا : « والجمهور يكسرها - أي : ميم يومئذ - والأعرج وأبو حيوة : يفتحها » انتهى .
وقد تقدم أنَّ الفتح قراءةُ نافع ، والكسائي .
قوله : { وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ } .
قال ثعلب : الفصيلةُ : الآباء الأدنون .
وقال أبو عبيدة : الفخذ .
وقال مجاهد وابن زيدٍ : عشيرته الأقربون .
وقد تقدم ذكر ذلك عند قوله : « شعوباً وقبائل » .
وقال المُبرِّدُ : الفصيلةُ : القطعةُ من أعضاء الجسدِ ، وهي دون القبيلةِ ، وسُمِّيت عترةُ الرجلِ فصيلته تشبيهاً بالبعض منه .
قال ابنُ الخطيبِ : فصيلة الرجل : أقرباؤه الأقربون الذين فصل عنهم ، وينتمي إليهم؛ لأن المراد من الفصيلة المفصولة؛ لأن الولد يكون مفصولاً من الأبوين ، قال عليه الصلاة والسلام : « فَاطِمَةُ قِطعَةٌ منِّي » فلما كان مفصولاً منهما ، كانا أيضاً مفصولين منه ، فسُمِّيا فصيلة لهذا السببِ .
وكان يقالُ للعباس رضي الله عنه : فصيلةُ النبي صلى الله عليه وسلم لأن العمَّ قائم مقام الأب .
وقوله : « التي تؤويه » ، أي : ينصرونه .
وقال مالك : أمُّه التي تربيه ، حكاه الماورديُّ ، ورواه عنه أشهبُ .
قال شهاب الدين : ولم يبدله السوسي عن أبي عمرو ، قالوا : لأنه يؤدي إلى لفظ هو أثقل منه ، والإبدال للتخفيف .
وقرأ الزهريُّ : « تؤويهُ ، وتُنجِيهُ » بضم هاء الكناية ، على الأصل .
و « ثُمَّ نُنجِيْهِ » عطف على « يَفْتَدِي » فهو داخلٌ في خبر « لَوْ » وتقدم الكلامُ فيها ، هل هي مصدريةٌ أم شرطيةٌ في الماضي ، ومفعول « يَوَدُّ » محذوف ، أي : يودُّ النَّجاة .
وقيل : إنها هنا بمعنى « أن » وليس بشيء ، وفاعل « ينجيه » إما ضميرُ الافتداء الدالُّ عليه « يَفْتَدي » ، أو ضمير من تقدم ذكرهم ، وهو قوله : { وَمَن فِي الأرض } .
و { مَن فِي الأرض } مجرور عطفاً على « بَنِيْهِ » وما بعده ، أي : يودُّ الافتداء بمن في الأرض أيضاً و « حميماً » إما حال ، وإما تأكيد ، ووحد باعتبار اللفظ .
فصل فيما يترتب على معنى « فصيلته » من أحكام
إذا وقف على فصيلته ، أو أوصى لها فمن ادعى العموم حمله على عشيرته ، ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء الأدنى فالأدنى ، والأول أكثر في النطقِ ، قاله القرطبي و « تؤويه » تضمه وتؤمنهُ من خوف إن كان به ، { وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } ، أي : ويود لو فدي بهم لافتدى « ثُمَّ يُنجِيْهِ » أي : ويخلصه ذلك الفداءُ ، فلا بُدَّ من هذا الإضمار ، كقوله : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } [ الأنعام : 121 ] أي : وإن أكلهُ لفسقٌ .
وقيل : « يَودُّ المُجرمُ » يقتضي جواباً بالفاء كقوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] .
والجوابُ في هذه الآية « ثُمَّ يُنجِيهِ » لأنَّها من حروف العطف ، أي يودُّ المجرم لو يفتدي ، وينجيهِ الافتداءُ .
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
قوله : « كلا » . ردعٌ وزجرٌ .
قال القرطبيُّ : « وإنما تكون بمعنى » حقًّا « ، وبمعنى » لا « وهي هنا تحتمل الأمرين ، فإذا كانت بمعنى » حقًّا « فإن تمام الكلام » ينجيه « وإذا كانت بمعنى » لا « كان تمامُ الكلام عليها . إذ ليس ينجيه من عذاب الله إلا الافتداءُ » .
قوله : { إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً } في الضَّمير ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه ضميرُ النارِ ، وإن لم يجر لها ذكرٌ لدلالة لفظ عذابٍ عليها .
والثاني : أنه ضميرُ القصةِ .
الثالث : أنه ضميرٌ مبهمٌ يترجم عنه الخبرُ ، قاله الزمخشريُّ . وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } [ الأنعام : 29 ] .
فعلى الأول يجوز في « لَظَى ، نزَّاعةً » أوجه :
أحدها : أن يكون « لَظَى » خبر « إن » أي إن النار لظى ، و « نزاعة للشوى » خبر ثان ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي هي نزاعة ، أو تكون « لَظَى » بدلاً من الضمير المنصوب و « نزَّاعةً » خبر « إنَّ » .
وعلى الثاني : تكون « لَظَى نزَّاعةً » جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبراً ل « إنَّ » ، مفسرة لضمير القصةِ ، وكذا على الوجه الثالثِ .
ويجوز أن تكون « نزَّاعةً » صفة ل « لَظَى » إذا لم نجعلها علماً ، بل بمعنى اللهبِ ، وإنما أنِّثَ النعتُ ، فقيل : « نزَّاعةً » لأن اللهب بمعنى النارِ ، قاله الزمخشريُّ .
وفيه نظرٌ؛ لأن « لَظَى » ممنوعةٌ من الصرف اتفاقاً .
قال أبو حيان بعد حكايته الثالث عن الزمخشري : « ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر ، وليس هذا من المواضع التي يُفسِّر فيها المفرد الضمير ، ولولا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصةِ لحملت كلامه عليه » .
قال شهاب الدين : متى جعله ضميراً مبهماً ، لزم أن يكون مفسراً بمفردٍ ، وهو إما « لَظَى » على أن تكون « نزَّاعةً » خبر مبتدأ مضمر ، وإما « نزَّاعةٌ » على أن تكون « لَظَى » بدلاً من الضمير وهذا أقربُ ، ولا يجوز أن تكون « لَظَى ، نزَّاعةٌ » مبتدأ وخبر ، والجملة خبر ل « إنَّ » على أن يكون الضميرُ مبهماً ، لئلاَّ يتحد القولان ، أعني هذا القول ، وقول : إنَّها ضميرُ القصةِ ولم يُعهد ضميرٌ مفسرٌ بجملة إلا ضمير الشأنِ والقصةِ .
وقرأ العامة : « نزَّاعةٌ » بالرفع .
وقرأ حفص ، وأبو حيوة والزَّعفرانِيُّ ، واليَزيديُّ ، وابنُ مقسم : « نزَّاعةً » بالنصب . وفيها وجهان :
أحدهما : أن ينتصب على الحال ، واعترض عليه أبو علي الفارسي ، وقال : حمله على الحال بعيدٌ ، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال .
قال القرطبيُّ : « ويجوز أن يكون حالاً على أنه حالٌ للمكذبين بخبرها » .
وفي صاحبها أوجه :
أحدها : أنه الضمير المستكنُّ في « لَظَى »؛ وإن كانت علماً فهي جاريةٌ مجرى المشتقات ك « الحارث والعباس » ، وذلك لأنها بمعنى التلظِّي ، وإذا عمل العلم الصريح والكنية في الظرف ، فلأن يعمل العلم الجاري مجرى المشتقات في الأحوال أولى ، ومن مجيء ذلك قوله : [ السريع أو الرجز ]
4861 - أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَان ... ضمنه بمعنى أنا المشهور في بعض الأحيان .
الثاني : أنَّه فاعل « تَدعُو » وقدمت حاله عليه ، أي : تدعو حال كونها نزَّاعةً .
ويجوز أن تكون هذه الحالُ مؤكدةً ، لأنَّ « لَظَى » هذا شأنها ، وهو معروف من أمرها ، وأن تكون مبنيةً؛ لأنه أمرٌ توقيفيّ .
الثالث : أنه محذوف هو والعامل تقديره : تتلظَّى نزاعة ، ودل عليه « لَظَى » .
الثاني من الوجهين الأولين : أنها منصوبة على الاختصاص ، وعبَّر عنه الزمخشريُّ بالتهويل . كما عبَّر عن وجه رفعها على خبر ابتداء مضمر ، والتقدير : أعني نزاعةٌ وأخصُّها .
وقد منع المبردُ نصب « نزَّاعة » ، قال : لأن الحال إنما يكون فيما يجوز أن يكون وألاّ يكون و « لَظَى » لا تكون إلا نزَّاعةً ، قاله عنه مكِّيٌّ .
وردَّ عليه بقوله تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً } [ البقرة : 91 ] ، { وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } [ الأنعام : 126 ] قال : فالحق لا يكون إلا مصدقاً ، وصراط ربِّك لا يكونُ إلاَّ مستقيماً .
قال شهاب الدين : المُبرِّدُ بني الأمر على الحال المبنيةِ ، وليس ذلك بلازم؛ إذ قد وردت الحال مؤكدة كما أورده مكيٌّ ، وإن كان خلاف الأصلِ ، واللظى في الأصل : اللهب ، ونقل علماً لجهنم ، ولذلك منع من الصرف .
وقيل : هو اسم للدَّركة الثانية من النارِ ، والشَّوى : الأطراف جمع شواة ، ك « نوى ، ونواة »؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
4862 - إذَا نَظرَتْ عَرفْتَ النَّحْرَ مِنْهَا ... وعَيْنَيْهَا ولمْ تَعْرفْ شَواهَا
يعني : أطرافها .
وقيل : الشَّوى : الأعضاء التي ليست بمقتل ، ومنه : رماه فأشواه ، أي لم يُصِبْ مقتله ، وشوى الفرس : قوائمه ، لأنه يقال : عَبْلُ الشَّوى .
وقيل : الشَّوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس؛ وأنشد الأصمعي : [ مجزوء الكامل ]
4863 - قَالتْ قُتَيْلَةُ : مَا لَهُ ... قَدْ جُلِّلتْ شَيْباً شَواتُه
وقيل : هو جلد الإنسان ، والشَّوى أيضاً : رُذال المال ، والشيء اليسير .
فصل في معنى الآية
قال ثابت البناني والحسن : « نزَّاعةً للشَّوى » : أي لمكارم وجهه . وعن الحسن أيضاً : إنه الهام .
وقال أبو العالية : لمحاسن وجهه .
وقال قتادة : لمكارم خلقته وأطرافه .
وقال الضحاك : تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئاً .
وقال الكسائي : هي المفاصل .
وقيل : هي القوائم والجلود .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
4864 - سَلِيمُ الشَّظَى ، عَبْلُ الشَّوى ، شَنِجُ النَّسَا ... لَهُ حَجَباتٌ مُشرفاتٌ على الفَالِ
قوله : { تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ } .
يجوز أن يكون خبراً ل « إنَّ » أو خبراً لمبتدأ محذوف ، أو حال من « لَظَى » أو من « نزَّاعةً » على القراءتين فيها؛ لأنها تتحملُ ضميراً .
فصل في المراد بالآية
المعنى : تدعُو « لَظَى » من أدبر في الدنيا عن الطَّاعة لله « وتولَّى » عن الإيمان ودعاؤها أن تقول : يا مشرك إليَّ يا كافر إليَّ .
وقال ابن عباس : تدعُو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح : إليَّ يا كافر ، إليَّ يا منافق ، ثم تلتقطهم كما تلتقط الطَّير الحبَّ .
وقال ثعلبٌ : « تَدعُو » ، أي : تهلك ، تقول العربُ : دعاك الله ، أي : أهلكك اللَّهُ .
وقال الخليلُ : إنَّه ليس كالدُّعاء « تعالوا » ولكن دعوتها إياهم تمكنها منهم ، ومن تعذيبهم .
وقيل : الدَّاعي : خزنة جهنَّم أضيف دعاؤهم إليها .
وقيل : هو ضرب مثل ، أي : أنها تدعوهم بلسان الحال ، أي : إنَّ مصير من أدبر ، وتولى إليها ، فكأنَّها الدَّاعية لهم .
ومثله قول الشاعر : [ الكامل ]
4865 - ولقَدْ هَبَطْنَا الوادِيِيْنِ فَوادِياً ... يَدْعُو الأنيسَ بِهِ الغضِيضُ الأبْكَمُ
الغضيضُ الأبكمُ : الذباب ، وهو لا يدعو ، وإنَّما طنينه نبَّه عليه فدعا له .
قال القرطبيُّ : « والقولُ الأولُ هو الحقيقةُ لظاهر القرآنِ ، والأخبار الصحيحة » .
قال القشيريُّ : ودعا لَظَى بخلقِ الحياةِ فيها حين تدعُو ، وخوارقُ العادةِ غداً كثيرة .
قوله : { وَجَمَعَ فأوعى } . أي : جمع المال فجعله في وعاءٍ ، ومنع منه حق الله تعالى ، فكان جموعاً منوعاً .
قال ابن الخطيب : « جَمَعَ » إشارة إلى حبّ الدنيا ، والحِرْص عليها ، « وأوْعَى » إشارة إلى الأمل ، ولا شكَّ أنَّ مجامع آفات الدين ليست إلاَّ هذه .
وقيل : « جَمَعَ » المعاصي « فأوْعَى » أي : أكثر منها حتى أثقلتهُ ، وأصرَّ عليها ، ولم يَتُبْ منها .
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
قوله : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } .
قال الضحاك : المرادُ بالإنسان هنا الكافر .
وقيل : عام لأنه استثنى منه المصلين ، فدلَّ على أن المراد به الجنس ، فهو كقوله : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ } [ العصر : 2 ، 3 ] . و « هَلُوعاً » حال مقدرة .
والهلع مُفسَّر بما بعده ، وهو قوله « إذَا ، وإذَا » .
قال ثعلبٌ : سألني محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع؟ .
فقلت : قد فسَّره اللَّهُ ، ولا يكون أبينَ من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خيرٌ بخل به ومنعه . انتهى .
وأصله في اللغة على ما قال أبو عبيد : أشدّ الحرص وأسوأ الجزع ، وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة وغيرهما .
وقد هَلِع - بالكسر - يهلع هلعاً وهلاعاً فهو هلع وهالع وهلوع ، على التكثير .
وقيل : هو الجزع والاضطرابُ السريع عند مسِّ المكروه ، والمنع السَّريعُ عند مسِّ الخير من قولهم : « ناقةٌ هلوَاع » ، أي : سريعة السير ، قال المفسرون : معناه : أنه لا يصبر في خير ولا شر ، حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي .
روى السدِّي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : الهِلوَاع ، الحريصُ على ما لا يحل له .
وقال عكرمة : هو الضَّجور .
وقال الضحاك : هو الذي لا يشبع .
والمَنُوع : هو الذي إذا أصاب حق المال منع منه حق الله تعالى .
وقال ابن كيسان : خلق اللَّهُ الإنسان يحبّ ما يسرُّه ، ويرضيه ، ويهربُ مما يكرهه ، ثم تعبّده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكرهُ .
وقال أبو عبيدة : الهِلواعُ الذي إذا مسَّهُ الخيرُ لم يشكر ، وإذا مسَّهُ الضُّرُّ لم يَصْبِرْ .
وقال عليه الصلاة والسلام : « شَرُّ مَا أعْطِي العَبْدُ شُحُّ هَالِعٌ ، وجُبْنٌ خَالِعٌ » .
والعرب تقول : ناقةٌ هلواعة ، وهلواع إذا كانت سريعة السَّير خفيفة؛ قال : [ الكامل ]
4866 - صَكَّاءُ ذِعلِبةٌ إذَا استَدْبَرْتَهَا ... حَرَجٌ إذَا اسْتقَبلْتَهَا هِلواعُ
الذِّعِلب والذِّعلِبَة : النَّاقةُ السَّريعةُ .
فصل في إعراب الآية
« جزُوْعاً ، ومَنُوعاً » فيهما ثلاثةٌ أوجهٍ :
أحدها : أنهما منصوبان على الحال من الضمير في « هَلُوعاً » ، وهو العاملُ فيهما ، والتقدير : هَلُوعاً حال كونه جَزُوعاً ، وقت مسِّ الشَّرِّ ، ومنوعاً وقت مس الخير ، والظَّرفان معمولان لهاتين الحالتين .
وعبَّر أبو البقاء عن هذا الوجه بعبارة أخرى فقال : « جَزُوعاً » حال أخرى ، والعاملُ فيها « هَلُوعاً » .
فقوله : « أخْرَى » يوهم أنها حالٌ ثانية وليست متداخلة لولا قوله : والعامل فيها هلوعاً .
والثاني : أن يكونا خبرين ل « كان » ، أو « صار » مضمرة ، أي : إذا مسَّه الشَّرُّ كان ، أو صار جَزُوعاً ، وإذا مسَّه الخيرُ كان أو صار منوعاً ، قاله مكيٌّ .
وعلى هذا ف « إذا » شرطية ، وعلى الأول ظرف محض ، العامل فيه ما بعده كما تقدم .
الثالث : أنَّهما نعتٌ ل « هَلُوعاً » ، قاله مكيٌّ ، إلاَّ أنَّه قال : وفيه بعد؛ لأنك تنوي به التقديم بعد « إذا » انتهى .
وهذ الاستبعادُ ليس بشيء ، فإنَّه غايةُ ما فيه تقديمُ الظرف على عامله .
وإنَّما المحذورُ تقديمه معمول النعت على المنعوت .
فصل في كلام القاضي
قال القاضي : قوله تعالى { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } نظير قوله : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] ، وليس المرادُ أنَّه مخلوقٌ على هذه الصفة؛ لأن الله - تعالى - ذمَّه عليها ، والله - تعالى - لا يُذمُّ فعله ، ولأنه استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك الخصلةِ المذمومةِ ، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى ، لما قدروا على تركها .
قال ابن الخطيب : واعلم أنَّ الهلع لفظ واقع على أمرين :
أحدهما : الحالةُ النفسانيةُ التي لأجلها يقدم الإنسانُ على إظهار الجزع والفزع .
والثاني : تلك الأفعالُ الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالةِ النفسانيةِ ، فلا شك أنَّها تحدثُ بخلق الله - تعالى - لأنَّ من خُلقتْ نفسه على تلك الحالةِ لا يُمكِنهُ إزالةُ تلك الحالةِ من نفسه ، بل الأفعال الظَّاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدامُ عليها فهي أمورٌ اختياريةٌ .
وأما الحالةُ النفسانيةُ التي هي الهلع في الحقيقة ، فهي مخلوقةٌ على سبيل الاضطرار .
فصل في المراد بالشر والخير في الآية
قوله : { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } .
قيل : المرادُ بالخيرِ والشر : الغِنَى والفقرُ ، أو الصحةُ والمرض ، والمعنى : أنَّه إذا صار فقيراً أو مريضاً أخذ في الجزعِ والشكايةِ ، وإذا صار غنياً ، أو صحيحاً أخذ في منعِ المعروف ، وشحَّ بمالِه .
فإن قيل : حاصلُ هذا الكلام أنَّه نُفُورٌ عن المضار لطلب الراحة ، وهذا هو اللائقُ بالعقل ، فلم ذمَّهُ الله عليه .
فالجوابُ : إنَّما ذمَّهُ اللَّهُ عليه لقصور نظرهِ على الأمورِ العاجلةِ ، والواجبُ عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حالٍ .
قوله : { إِلاَّ المصلين } .
قال النخعيُّ : المرادُ ب « المصلين » : الذين يؤدونَ الصلاة المكتوبة .
وقال ابن مسعودٍ : هم الذين يصلونها لوقتها ، فأمَّا تركها فكفرٌ .
وقيل : هم الصحابة وقيل : هم المؤمنون عامّةً .
قوله : { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } أي : على مواقيتها .
وقال عقبة بن عامر : الذين إذا صلُّوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً .
و « الدائم » الساكن ، ومنه : « نهى عن البول في الماء الدائم » ، أي : الساكن .
وقال ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التَّطوع منها .
فإن قيل : كيف قال : { على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } وقال في موضع آخر : { على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [ المؤمنون : 9 ] .
قال ابن الخطيب : دوامُهم عليها ألا يتركوها في وقتٍ من الأوقاتِ ، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها ، حتى يأتي بها على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها ، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجدِ الشريفةِ والاجتهاد في تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة ، وألاّ يلتفت يميناً ولا شمالاً ، وأن يكون حاضر القلب فاهماً للأذكار ، مطلعاً على حكم الصَّلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلواتِ .
قوله : { والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } .
قال قتادة وابن سيرين : يريد الزكاة المفروضة .
وقال مجاهد : سوى الزكاة ، وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : صلة الرَّحمِ وحمل الكل .
والأول أصح؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم ، والمعلوم هو المقدر ، وسوى الزكاة ليس بمعلوم إنما هو قدرُ الحاجةِ ، وذلك يقل ويكثرُ .
وقال ابنُ عباسٍ : من أدَّى زكاة مالهِ فلا جناح عليه أن لا يتصدق ، وأيضاً فالله - تعالى - استثناهُ ممن ذمَّه ، فدلَّ على أنَّ الذي لا يُعْطِي هذا الحقَّ يكونُ مذموماً ، ولا حقَّ على هذه الصفةِ إلا الزكاة .
وقوله : { لِّلسَّآئِلِ والمحروم } . تقدَّم في الذَّاريات .
قوله : { والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين } [ المعارج : 26 ] ، أي : بيوم الجزاء ، وهو يوم القيامة ، أي : يؤمنون بالبعث ، والنشور .
{ والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } ، أي : خائفون ، والإشفاق : الخوف إما من تركِ واجبٍ ، وإما من فعلِ محظورٍ ، ثم أكَّد ذلك الخوف بقوله :
{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } .
قال ابن عباسٍ : لمن أشرك أو كذَّب أنبياءه .
وقيل : لا يأمنه أحدٌ ، بل الواجبُ على كل أحد أن يخافه ويشفق منه .
{ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون } تقدَّم تفسيرهُ في سورة « المؤمنون » [ المؤمنين : 5 ، 6 ، 7 ] .
{ والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } تقدَّم أيضاً [ المؤمنين : 8 ] .
وقرىء : « لأمَانتِهِم » على التوحيد ، وهي قراءةُ ابن كثير وابن محيصن .
ف « الأمانة » اسم جنسٍ تدخل فيها أماناتُ الدينِ ، فإنَّ الشرائعَ أماناتٌ ائتمنَ اللَّهُ عليها عباده ، ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع ، وقد مضى ذلك .
قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } .
قرأ حفص : « بِشَهادَاتِهِمْ » جمعاً ، اعتباراً بتعدد الأنواع ، والباقون : بالإفراد ، أو المرادُ الجنس .
قال الواحديُّ : والإفرادُ أولى؛ لأنه مصدرٌ ، فيفرد كما تفرد المصادرُ ، وإن أضيف إلى الجمع ك { لَصَوْتُ الحمير } [ لقمان : 19 ] ومن جمع ذهب إلى اختلافِ الشَّهاداتِ .
قال أكثرُ المفسرينَ : يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد يقومون بها عند الحُكَّام ، ولا يكتمونها .
وقال ابن عبَّاس : بشهادتهم : أن الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله .
قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } .
قال قتادةُ : على وضوئها وركوعها وسجودها ، فالدوام خلاف المحافظة فدوامهم عليها محافظتهم على أدائهِا لا يخلُّون بها ، ولا يشتغلون عنها بشيءٍ من الشواغل ، ومحافظتهم عليها أن يُراعُو إسباغَ الوضوءِ لها ، ومواقيتها ، ويقيموا أركانها ، ويكملوها بسننها ، وآدابها ، ويحفظونها من الإحباط باقتراف المآثمِ ، فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات ، والمحافظة على أحوالها ، ذكره القرطبيُّ .
ثم قال : { أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } ، أي : أكرمهم الله فيها ، بأنواع الكرامات .
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
قوله : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } .
روي أنَّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون كلامه ، ويستهزئون به ويكذبونه ، ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنَّة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فلندخلنَّها قبلهم ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : { أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ } .
وقال أبو مسلمٍ : ظاهر الآية يدل على أنهم هم المنافقون ، فهم الذين كانوا عنده ، وإسراعهم المذكور هو الإسراعُ في الكفر ، لقوله تعالى : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } [ آل عمران : 176 ] .
و « الإهْطَاعُ » : الإسراعُ .
قال الأخفش : « مُهْطعيْنَ » ، أي : مُسرِعيْنَ ، قال : [ الوافر ]
4867 - بِمكَّةَ أهْلُهَا ولقَدْ أرَاهُمْ ... إليْهِ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ
والمعنى : ما بالهُمْ يسرِعُونَ إليْكَ ، ويجلسُونَ حولك ، ويعملون بما تأمُرهُمْ .
وقيل : ما بالهم يسرعون في التكذيب لك .
وقيل : ما بالُ الذين كفروا يسرعون إلى السَّماع منك ليعيبوكَ ويستهزئوا بك .
وقال عطيةُ : « مُهْطِعيْنَ » : مُعْرضِيْنَ .
وقال الكلبيُّ : ناظرين إليك تعجُّباً .
وقال قتادةُ : مادّين أعناقهم مديمي النظر إليك ، وذلك من نظر العدو ، وهو منصوبٌ على الحال .
قال القرطبيُّ : نزلت في جميع المنافقين المستهزئين ، كانوا يحضرونه - عليه الصلاة والسلام - ولا يؤمنون به ، و « قبلك » ، أي : نحوك .
قوله : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ } .
أي : عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقاً حلقاً وجماعات .
قوله : « عِزيْنَ » ، حالٌ من « الَّذين كَفرُوا » .
وقيل : حال من الضمير في « مُهْطعِينَ » فيكونُ حالاً متداخلة ، و « عَن اليَميْنِ » ، يجوز أن يتعلق ب « عزين »؛ لأنَّه بمعنى متفرقين . قاله أبو البقاء .
وأن يتعلق ب « مُهْطِعيْنَ » أي : مسرعين عن هاتين الجهتين ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال ، أي : كائنين عن اليمين . قاله أبو البقاء .
و « عَزِيْنَ » جمع عزة ، والعِزَة : الجماعة . قال مكيٌّ .
قال مكيٌّ : « وإنما جمع بالواو والنون؛ لأنه مؤنث لا يعقل؛ ليكون ذلك عوضاً مما حذفَ منه » .
قيل : إن أصله : عزهة ، كما أنَّ أصل سنة : سنهة ، ثم حذفت الهاء ، انتهى .
قال شهاب الدين : قوله : لا يعقل سَهْو ، لأن الاعتبار بالمدلولِ ، ومدلوله - بلا شك - عقلاء . واختلفوا في لام « عِزَة » على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنَّها « واو » من : « عزوته أعزوه » ، أي : نسبته ، وذلك أنَّ المنسوبَ مضمومٌ إلى المنسوب إليه ، كما أنَّ كلَّ جماعةٍ مضموم بعضها إلى بعض .
الثاني : أنَّها « ياء » ، إذ يقال « عَزيتُه » - بالياء - أعزيه بمعنى عزوته ، فعلى هذا في لامها لغتانِ .
الثالث : أنَّها هاءٌ ، وتجمع تكسيراً على « عِزَهٍ » نحو كسرة وكِسَر ، واستغني بهذا التكسير عن جمعها بالألف والتاء ، فلم يقولوا : « عزات » كما لم يقولوا في « شفة وأمة : شفَات ولا أمات » استغناء ب « شِفَاه وإماء » .
وقد كثر ورودُه مجموعاً ب « الواو » والنون؛ قال الراعي : [ الكامل ]
4868 - أخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إنَّ عَشِيرَتِي ... أمْسَى سَرَاتُهُم عِزينَ فُلُولاَ
وقال الكميت : [ الوافر ]
4869 - ونَحْنُ وجنْدَلٌ بَاغٍ تَركْنَا ... كَتَائِبَ جَنْدلٍ شتَّى عِزينَا
وقال عنترةُ : [ الوافر ]
4870 - وقِرْنٍ قَدْ تَركْتُ لِذِي وليٍّ ... عليْهِ الطَّيْرُ كالعُصَبِ العِزينِ
وقال آخر : [ الوافر ]
4871 - تَرانَا عِنْدَهُ واللِّيلُ دَاجٍ ... عَلى أبْوَابِهِ حِلقاً عِزينَا
وقال الشاعرُ : [ الوافر ]
4872 - فَلَمَّا أن أتَيْنَ على أضَاخٍ ... تَركْنَ حَصاهُ أشْتَاتاً عِزينَا
والعزة لغةً : الجماعة في تفرقة ، قاله أبو عبيدة .
ومنه حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم « أنه خرج إلى أصحابه فرآهم حلقاً ، فقال : » مَا لِي أراكُمْ عِزيْنَ ، ألا تصفُّونَ كما تُصَفُّ المَلائِكةُ عِندَ ربِّهَا « ، قالوا : وكيف تصف الملائكةُ؟ قال : » يتمون الصف الأول فيتراصون في الصف « » .
وقال الأصمعيُّ : العِزُونَ : الأصنافُ ، يقال : في الدَّار عزون ، أي : أصناف .
وفي « الصِّحاح » : « العِزَةُ » الفرقة من الناس .
وقيل : العِزَة : الجماعةُ اليسيرةُ كالثلاثة والأربعة .
وقال الراغبُ : « وقيل : هو من قولهم : عَزَا عزاء فهو عز إذا صبر ، وتعزَّى : تصبَّر ، فكأنَّها اسم للجماعة التي يتأسَّى بعضها ببعض » .
قال القرطبيُّ : ويقال : عِزُونَ ، وعُزُون - بالضم - ولم يقولوا : عزات ، كما قالوا : ثبات ، قيل : كان المستهزئون خمسة أرهُطٍ .
وقال الأزهريُّ : وأصلها من قولهم : عَزَا فلانٌ نفسه إلى بني فلانٍ يعزوها عزواً إذا انتمى إليهم ، والاسم : « العَزْوَة » ، كلُّ جماعةٍ اعتزوها إلى آخر واحد .
قوله : { أَن يُدْخَلَ } .
العامة : على بنائه للمفعول .
وزيد بن علي ، والحسن ، وابن يعمر ، وأبو رجاء ، وعاصم في رواية ، قال القرطبي : وطلحة بن مصرف ، والأعرج على بنائه للفاعل .
فصل في تعلق الآية بما بعدها
لما قال المستهزئون : إن دخل هؤلاء الجنَّة كما يقولُ محمدٌ فلندخلنَّها قبلهم ، أجابهم الله - تعالى - بقوله : { كَلاَّ } لا يدخلونها ، ثم ابتدأ فقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أي : أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نُطفةٍ ، ثم من علقة ، ثم كما خلق سائر جنسهم ، فليس لهم فضلٌ يستوجبون به الجنة ، وإنما يستوجب بالإيمان ، والعمل الصالح ، ورحمة الله تعالى .
وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمينَ ويتكبرون عليهم ، فقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّمَّا يَعْلَمُونَ } ، أي : من القذر ، فلا يليقُ بهم هذا التكبرُ .
وقال قتادة في هذه الآيةِ : إنَّما خلقت يا ابن آدم من قذرٍ فاتَّقِ اللَّهَ .
وروي أنَّ مطرف بن عبد الله بن الشِّخيرِ ، رأى المهلَّب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خَزّ وجُبة خَزّ ، فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله؟ .
فقال له : أتعرفني ، قال : نعم ، أوّلك نطفةٌ مذرةٌ ، وآخرك جيفةٌ قذرةٌ ، وأنت تحمل العذرةَ ، فمضى المهلَّب وترك مشيته .
قال ابن الخطيب : ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً :
أحدها : لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث ، فكأنه قيل لهم : كلا إنكم منكرون للبعث فمن أين تطمعون بدخولِ الجنَّة .
وثانيها : أنَّ المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين - كما تقدّم - فقال تعالى : إنَّ هؤلاء المستهزئين مخلوقون مما خلقوا ، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار؟ .
وثالثها : أنَّهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة ، ولم يتصفوا بالإيمانِ ، والمعرفةِ ، فكيف يليق بالحكمة إدخالهم الجنة؟ .
وقيل : معنى قوله : { خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } ، أي : مراحل ما يعلمون وهو الأمر والنَّهي والثوابُ والعقابُ .
كقول الأعشى : [ المتقارب ]
4873 - أأزْمَعْتَ من آلِ لَيْلَى ابْتِكَارا ... وشَطَّتْ على ذِي هَوَى أنْ تُزَارَا
أي : من أجل ليلى .
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } . قد تقدَّم .
وقرأ جماعة : « فلأقسم » دون ألفٍ .
{ بِرَبِّ المشارق والمغارب } ، قرأ العامةَ : بجمع « المشارق ، والمغارب » .
والجحدري وابن محيصن وأبو حيوة ، وحميد : بإفرادهما ، وهي مشارقُ الشمس ومغاربها .
وقوله : « إنَّا لقَادِرُونَ » ، جواب القسم : { على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } أي : نقدر على إهلاكهم ، وإذهابهم ، والإتيان بخير منهم ، { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } ، أي : لا يفوتنا شيء ، ولا يعجزنا أمرٌ نريده .
قوله : { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } ، أي : اتركهم يخوضُوا في أباطيلهم ، ويلعبوا في دنياهم على جهة الوعيد ، واشتغل أنت بما أمرت به . وقد تقدم تفسيره في سورة « الطور » .
واختلفوا فيما وصف الله به نفسه بالقدرة عليه ، هل خرج إلى الفعل أم لا؟ .
فقيل : بدل بهم الأنصار والمهاجرين .
وقيل : بدل الله كفر بعضهم بالإيمان .
وقيل : لم يقع هذا التبديلُ ، وإنما ذكر الله ذلك تهديداً لهم لكي يؤمنوا .
قوله : { حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ } .
قرأ ابن محيصن ومجاهد وأبو جعفر : « يَلْقُوا » مضارع « لَقى » ، والمعنى : أنَّ لهم يوماً يلقون فيه ما وعدوا ، وهذه الآية منسوخةٌ بآية السَّيف ، ثُمَّ ذكر ذلك اليوم فقال :
{ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث } ، يجوز أن يكون بدلاً من « يومهم » أو منصوب بإضمار « أعني » .
ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون خبر ابتداءٍ مضمر ، وبني على الفتح ، وإن أضيف إلى معرب ، أي : هو يوم يخرجون ، كقوله : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ } [ المائدة : 119 ] . وتقدم الكلام عنه مشبعاً .
والعامة : على بناء « يَخْرجُونَ » للفاعل .
وقرأ السلميُّ والمغيرة ، وروي عن عاصمٍ : بناؤه للمفعول .
قوله : « سِراعاً » ، حال من فاعل « يَخْرجُونَ » ، جمعُ سِرَاع ك « ظِرَاف » في « ظَريف » ، و « كأنَّهُمْ » حال ثانية منه ، أو حال من ضمير الحال ، فتكونُ متداخلة .
والأجداثُ : القبور ، ونظيره : { فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } [ يس : 51 ] ، أي : سِرَاعاً إلى إجابة الدَّاعي .
قوله : { إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } . متعلق بالخبر .
والعامَّة : على « نَصْبٍ » بالفتح ، وإسكان الصاد .
وابن عامر وحفص : بضمتين .
وأبو عمران [ الجوني ] ومجاهد : بفتحتين .
والحسن وقتادة وعمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهم : بضم النون ، وإسكان الصاد .
؟؟؟فالأولى : هو اسم مفرد بمعنى العلمِ المنصوب الذي يُسْرعُ الشخصُ نحوه .
وقال أبو عمرو : هو شَبكةُ الصَّائدِ ، يُسْرِع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته .
وأمَّا الثانية ، فتحتملُ ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة .
وأنشد للأعشى : [ الطويل ]
4874 - وذَا النُّصُبِ المَنْصُوبِ لا تَعْبُدَنَّهُ ... لِعاقِبَةٍ واللَّهَ ربَّك فاعْبُدَا
يعني : إيَّاك وذا النُّصُبِ .
الثاني : إنَّه جمعُ « نِصَاب » ك « كُتُب » و « كِتَاب » .
الثالث : أنَّه جمع « نَصْب » نحو : « رَهْن ورُهُن ، وسَقْف وسُقُف » وهذا قول أبي الحسن .
وجمع الجمع : أنصاب .
وقال النحاسُ : وقيل : نُصُبٌ ونَصْبٌ ، بمعنى واحد ، كما قيل : عُمْر وعُمُر وأسُد وأسْد جمع أسَد .
وأما الثالثة : ففعلٌ بمعنى مفعول ، أي : منصوب كالقَبضِ والنَّقضِ .
والرابعة : تخفيفٌ من الثانية ، والنصب أيضاً : الشر والبلاء ، ومنه قوله تعالى : { أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ ص : 41 ] .
؟؟؟؟؟؟؟فصل في معنى قوله : نصب
قال ابن عباس : « إلى نصب » ، أي إلى غاية ، وهي التي ينتهي إليها بصرُك .
وقال الكلبيُّ : هو شيءٌ منصوب علمٌ أو رايةٌ .
وقال الحسنُ : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمسُ إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أوَّلهم على آخرهم .
و « يُوفضُونَ » : يُسْرعُونَ .
وقيل : يستبقون .
وقيل : يسعون .
وقيل : ينطلقون ، وهي متقاربة ، والإيفاض : الإسراع؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
4875 - فَوَارسُ ذبْيانَ تَحْتَ الحَدِي ... دِ كالجِنِّ يُوفِضْنَ منْ عَبْقَرِ
وعبقر : موضع تزعم العرب أنه من أرض الجنِّ؛ قال لبيد : [ الطويل ]
4876 - . . ... كُهُولٌ وشُبَّانٌ كجِنَّةِ عَبقَرِ
وقال الآخر : [ الرجز ]
4877 - لأنْعَتَنْ نَعَامَةً مِيفَاضَا ... وقال الليثُ : وفضَتِ الإبل تَفضِي وفُضاً ، وأوفضها صاحبُها ، فالإيفاض متعد ، والذي في الآية لازم يقال : وفض وأوفض ، واستوفض بمعنى : أسْرَع .
قوله : { خَاشِعَةً } . حال إما من فاعل « يُوفِضُونَ » وهو أقرب ، أو من فاعل « يَخرُجونَ » وفيه بعدٌ منه ، وفيه تعدد الحال لذي حالٍ واحدةٍ ، وفيه الخلافُ المشهورُ .
و « أبْصارُهُمْ » فاعل ، والمعنى : ذليلةٌ خاضعةٌ لا يعرفونها لما يتوقعونه من عذاب الله .
قوله : { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } ، قرأ العامةُ ، بتنوين « ذلَّة » ، والابتداء ب « ذلِكَ اليَوْمَ » ، وخبره « الَّذي كَانُوا » .
وقرأ يعقوب والتمَّارُ : بإضافةِ « ذلَّة » إلى « ذلك » وجر « اليَوْم »؛ لأنه صفةٌ ، و « الَّذِي » نعتٌ لليومِ .
و « تَرهَقُهمْ » يجوز أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً من فاعل « يُوفضُونَ » أو « يَخرُجُونَ » ، ولم يذكر مكي غيره .
ومعنى : « ترهَقهُمْ » ، أي : يغشاهم الهوانُ والذلة .
قال قتادة : هو سوادُ الوُجوهِ .
والرَّهقُ : الغشيان : ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام ، يقال : رهقه - بالكسر - يرهقه رهقاً ، أي : غشيه .
ومنه قوله تعالى : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } [ يونس : 26 ] .
{ ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ } ، أي : يوعدونه في الدنيا أنَّ لهم فيه العذاب ، وأخرج الخبر بلفظ الماضي؛ لأن ما وعد الله به ، فهو حقٌّ كائنٌ لا محالةَ .
روى الثَّعلبيُّ عن أبيِّ بن كعبٍ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورَةَ سأل سَائلٍ ، أعْطاهُ اللَّهُ ثَوابَ الَّذينَ لأمَانَاتِهِمْ وعهْدِهِمْ راعثونَ ، والَّذينَ هُمْ على صَلأتِهِمْ يُحَافِظُونَ » .
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
قوله تعالى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } .
روى قتادة عن ابن عبَّاسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « أوَّل نبيٍّ أرسِلَ نوحٌ عليه الصلاة والسلام ، وأرسِلَ إلى جَميعِ أهْلِ الأرضِ » .
ولذلك لمَّا كفروا ، أغرق الله أهل الأرض جميعاً ، وهو نوح بنُ لامك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه الصلاة والسلام .
قال وهبٌ : وكلهم مؤمنون ، أرسل إلى قومهِ وهو ابنُ خمسين سنة .
وقال ابن عبَّاسٍ : أربعين سنة .
وقال عبد الله بن شداد : بعث وهو ابنُ ثلاثمائة وخمسين سنة .
قوله : { أَنْ أَنذِرْ } .
يجوز أن تكون المفسرة ، فلا يكونُ لها موضع من الإعراب؛ لأن في الإرسال معنى الأمر فلا حاجة إلى إضمار الباءِ ، ويجوز أن تكون المصدرية ، أي : أرسلناه بالإنذار .
قال الزمخشريُّ : والمعنى : أرسلناه بأن قلنا له : أنذر ، أي : أرسلناه بالأمر بالإنذار . انتهى .
وهذا الذي قدره حسنٌ جدّاً ، وهو جواب عن سؤال تقدَّم في هذا الكتاب ، وهو قولهم : فإنَّ « أنْ » المصدرية يجوز أن توصل بالأمر مشكل؛ لأنه ينسبكُ منها وما بعدها مصدر ، وحينئذ فتفوت الدلالة على الأمر؛ ألا ترى أنَّك إذا قدَّرت « كتبت إليهم بأن قم كتبت إليه القيام » تفوت بالدلالة على الأمر حال التصريح بالمصدر ، فينبغي أن يقدر كما قاله الزمخشريُّ ، أي : كتبت إليه بأن قلتُ له : قُمْ ، أي : كتبتُ إليه بالأمر بالقيامِ .
وقال القرطبي : « أي : بأن أنذر قومكَ ، فموضع » أن « نصب بإسقاط الخافض » .
وقرأ عبد الله : « أنذر قومك » بغير « أن » بمعنى : « قلنا له : أنذر قومك » . وقد تقدم معنى الإنذار في سورة « البقرة » .
وقوله : { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
قال ابن عبَّاسٍ : يعني عذاب النَّار في الآخرة .
وقال الكلبيُّ : هو الطوفان .
وقيل : أنذرهم بالعذاب على الجملة إن لم يؤمنوا ، فكان يدعو قومه وينذرهم ، فلا يجيبونه كما تقدَّم .
{ قَالَ ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ، أي : مخوف مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه .
قوله : { أَنِ اعبدوا الله } ، إما أن تكون تفسيرية ل « نَذِيْر » أو مصدرية ، والكلامُ فيها كالكلام في أختها كما تقدم ، والمعنى : وَحِّدوا اللَّه واتَّقُوه ، أي : خافوه « وأطِيعُونِ » فيما آمركم به؛ فإنِّي رسول الله إليكم .
{ يَغْفِرْ لَكُم } جزم « يَغْفِرْ » لجواب الأمر .
قوله : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } . في « مِنْ » هذه أوجه :
أحدها : أنَّها تبعيضية .
الثاني : أنَّها لابتداء الغايةِ .
الثالث : أنَّها لبيان الجنسِ ، وهو مردود لعدم تقدم ما تبينُه .
الرابع : أنَّها مزيدةٌ . قال ابن عطية : وهو مذهب كوفيٌّ .
قال شهاب الدين : ليس مذهبهم ذلك؛ لأنهم يشترطون تنكير مجرورها ، ولا يشترطون غيره . والأخفش لا يشترط شيئاً ، فزيادتُها هنا ماشٍ على قوله لا على قولهم .
قال القرطبي : وقيل : لا يصح كونها زائدة؛ لأن « مِنْ » لا تزاد في الواجب ، وإنما هي هنا للتبعيض ، وهو بعض الذنوب ، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين .
وقال زيد بن أسلم : المعنى يُخرِجُكم من ذنوبكم .
وقال ابن شجرة : المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها .
قوله : { وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ } .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف قال : « يُؤخِّركُمْ » مع إخبارهِ بامتناع تأخيره؟ .
قلتُ : قضى الله أنَّ قوم نوحٍ إن آمنوا عمَّرهُم ألف سنةٍ ، وإن بقُوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة ، قيل لهم : إن آمنتم أخِّرتُم إلى الأجلِ الأطولِ ، ثم أخبرهُم أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخَّرُ انتهى .
وقد تعلَّق بهذه الآية من يقول بالأجلين وتقدم جوابه .
وقال ابن عباسٍ : أي : يُنْسِىءُ في أعماركم ، ومعناه : أنَّ الله - تعالى - كان قضى قبل خلقهم ، إنْ هم آمنوا بارك في أعمارهم وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب .
وقال مقاتل : يؤخركم إلى منتهى أعماركم في عافية فلا يعاقبكم بالقحطِ وغيره ، فالمعنى على هذا : يؤخركم من العقوبات والشدائد إلى آجالكم .
وقال الزجاج : « أي يؤخركم عن العذاب ، فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب » .
وعلى هذا قيل : أجل مسمى عندكم تعرفونه لا يميتكم غَرْقاً ولا حَرْقاً ولا قَتْلاً ، ذكره الفراء . وعلى القول الأول أجل مسمى عند الله .
قوله : { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } ، أي : إذا جاء الموتُ لا يؤخَّر بعذاب كان ، أو بغير عذاب ، وأضاف الأجلَ إليه سبحانه؛ لأنه الذي أثبته ، وقد يضاف إلى القوم كقوله تعالى : { إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } [ يونس : 49 ] ؛ لأنه مضروبٌ لهم ، و « لَوْ » بمعنى « إنْ » أي : إن كنتم تعلمون .
وقال الحسن : معناه : لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يُؤخَّرُ .
وعلى هذا يكون جوابُ « لَوْ » محذوفاً تقديره : لبادرتم إلى ما أمركم به أو لعلمتم كما قال الحسن .
قوله : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } ، وهذان ظرفان ل « دَعوْتُ » ، والمراد : الإخبار باتصال الدعاء وأنَّه لا يفتر عن ذلك وقيل : معناه سراً وجهراً { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } ، أي : تباعداً من الإيمان ، وهذا استثناء مفرغ وهو مفعول ثان .
وقراءة العامة : بفتح الياء من « دُعَائِي » .
وأسكنها الكوفيُّون ، ويعقوب والدوري عن أبي عمرو .
قوله : { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } ، أي : إلى سبب المغفرةِ ، وهي الإيمانُ بك والطاعة لك { جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ } لئلاَّ يسمعُوا دُعائِي { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } أي : غطُّوا بها وجوههم لئلاَّ يرون .
قال ابن عبَّاسٍ : جعلوا ثيابهم على رءوسهم لئلاَّ يسمعوا كلامي ، فاستغشاءُ الثِّياب إذن زيادة في سدِّ الآذان حتى لا يسمعوا ، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت ، أو ليعرفوه إعراضهم عنه .
وقيل : هو كنايةٌ عن العداوةِ ، يقال : لبس فلانٌ ثياب العداوةِ « وأصَرُّوا » على الكفر فلم يتوبوا ، « واسْتَكْبَرُوا » عن قبول الحق ، وهو قولهم : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] .
قوله : « لِتَغْفِرَ » ، يجوز أن تكون للتعليل ، والمدعو إليه محذوفٌ ، أي : دعوتهم للإيمان بك لأجلِ مغفرتك لهم ، وأن تكونَ لام التَّعديةِ ، ويكون قد عبَّر عن السبب بالمسبب ، الذي هو حظهم ، والأصل دعوتهم للتوبة التي هي سببٌ في الغفران .
و « جَعلُوا » ، هو العامل في « كُلَّمَا » وهو خبر « إنِّي » .
قوله : « جِهَاراً » ، يجوز أن تكون مصدراً من المعنى؛ لأنَّ المعنى يكون جهاراً وغيره ، فهو من باب « قعد القُرفُصَاء » ، وأن يكون المرادُ ب « دعوتهم » : جاهرتهم . وأن يكون نعت مصدر محذوف أي : دعاء جهاراً .
وأن يكون مصدراً في موضع الحالِ ، أي : مجاهراً ، أو ذا جهارٍ ، أو جعل نفس المصدر مبالغة .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : ذكر أنه دعاهم ليلاً ونهاراً ، ثم دعاهم جهاراً ، ثُمَّ دعاهم في السرِّ والعلن فيجب أن يكون ثلاث دعواتٍ مختلفاتٍ ، حتى يصح العطفُ .
قلتُ : قد فعل - عليه السلام - كما يفعل الذي يأمُر بالمعروفِ ، وينهى عن المنكرِ في الابتداء بالأهون ، والترقي إلى الأشدِّ فالأشدِّ ، فافتتح في المناصحة بالسرِّ فلما لم يقبلوا ثَنَّى بالمجاهرة ، فلمَّا لم يقبلوا ثلَّث بالجمع بين السرِّ والإعلان ، ومعنى » ثُمَّ « للدلالة على تباعد الأحوال؛ لأن الجهاد إذا غلظ من الإسرار ، والجمعُ بين الأمرين ، أغلظُ من إفراد أحدهما » .
وقال أبو حيان : « وتكرر كثيراً له أنَّ » ثُمَّ « للاستبعاد ، ولا نعلمه لغيره » .
وقوله : « اسْتِكبَاراً » . قال القرطبيُّ : تفخيم .
فصل في معنى الآية
معنى : « جِهَاراً » ، أي : مظهراً لهم الدعوة ، وهو منصوب ب « دَعوْتهُمْ » بنصب المصدر .
{ ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } .
أي : لم أبقِ مجهوداً .
وقال مجاهد - رضي الله عنه - : معنى « أعْلَنْتُ » صِحْتُ ، { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } بالدعاءِ عن بعضهم من بعض .
وقيل : « أسْرَرْتُ لهم » أتيتُهم في منازلهم وكلُّ هذا من نوح - عليه الصلاة والسلام - مبالغةٌ في الدعاءِ ، وتلطف في الاستدعاءِ .
وفتح الياء من « إنِّي أعلنْتُ » ، الحرميون وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون .
قوله : { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ } ، أي سلوه المغفرة لذنوبكم بإخلاص الإيمان { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } وهذا منه - تعالى - ترغيبٌ في التوبة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « الاسْتغفَارُ مَمحاةٌ للذنُوبِ » .