كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قوله : { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } نصب « مِدْرَاراً » على الحالِ ، ولم يُؤنِّثْهُ وإن كان من مُؤثَّث لثلاثةِ أوجهٍ :
أحدها : أنَّ المراد بالسَّماء السحاب ، فذكَّر على المعنى .
الثاني : أنَّ مفعالاً للمبالغةِ فيستوي فيه المذكَّر والمؤنث ك : صَبُور ، وشكُور ، وفعيل .
الثالث : أنَّ الهاءَ حذفت من « مِفْعَال » على طريقِ النَّسَب قاله مكيٌّ ، وقد تقدَّم إيضاحه في الأنعام .
والمعنى : يُرسل عليكم المطر متتابعاً مرةً بعد أخرى في أوقات الحاجةِ . { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } أي : شدة مع شدَّتكم . وقيل : المراد بالقوَّة : المال وذلك أنَّ الله تعالى لمَّا بعث هوداً إليهم ، وكذَّبُوهُ حبس الله المطر عنهم ثلاث سنين ، وأعقم أرحام نسائهم ، فقال لهم هودٌ : إنْ آمنتم بالله أحْيَا اللهُ بلادَكم ورزقكم المالَ ، والولدَ ، فذلك قوله تعالى : { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } والمِدْرَارُ : بالكسر الكثير الدرّ وهو من أبنية المبالغة .
فإن قيل : إنَّ هوداً - عليه الصلاة والسلام - قال : لو اشتغلتم بعبادةِ الله لانفتحت عليكم أبوابُ الخيرات الدنيوية ، وليس الأمرُ كذلك لقوله - عليه الصلاة والسلام - « خُصَّ البلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأولياءِ ثُمَّ الأمثلِ ، فالأمْثل » فكيف الجمعُ بينهما؟ وأيضاً فقد جرتْ عادةُ القرآنِ بالتَّرغيب في الطَّاعاتِ بسبب ترتيب الخيرات الدنيويَّة ، والأخرويَّةِ عليها ، فأمَّا التَّرغيبُ في الطَّاعَاتِ لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها؛ فذلك لا يليقُ بالقرآن .
فالجوابُ : لمَّا كثر التَّرغيب في سعاداتِ الآخرة لم يتغيَّر بالتَّرغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفايةِ .
قوله : { إلى قُوَّتِكُمْ } يجوز أن يتعلق ب « يَزِدْكُم » على التَّضمين ، أي : يُضيف إلى قُوَّتكم قُوَّةً أخرى ، أو يجعل الجار والمجرور صفة ل « قُوَّة » فيتعلَّق بمحذوفٍ .
وقدَّرهُ أبو البقاءِ : « مُضافةً إلى قُوَّتِكُم » ، وهذا يأباهُ النحاةُ ، لأنَّهُم لا يقدِّرُون إلاَّ الكون المطلق في مثله ، أو تجعل « إلى » بمعنى « مع » أي : مع قُوَّتكم ، كقوله : { إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] .
ثم قال : { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } أي : ولا تدبروا مشركين مصرِّين على الكفر .
{ قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } ببرهانٍ وحُجَّةٍ واضحةٍ على ما تقول . والباء في « بيِّنَةٍ » يجوزُ أن تكون للتَّعدية؛ فتتعلَّق بالفعل قبلها أي ما أظهرت لنا بينةٌ قط .
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ؛ إذ التقديرُ : مُسْتقراً أو مُلتبساً ببيِّنةٍ .
قوله : { وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } أي : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك ، فيكون « عَنْ قَوْلِكَ » حالٌ من الضمير في « تَارِكي » ويجُوزُ أن تكون « عَنْ » للتَّعْليل كهي في قوله تعالى : { إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } [ التوبة : 114 ] ، أي : إلاَّ لأجل موعدةٍ . والمعنى هنا : بتاركي آلهتنا لقولك ، فيتعلَّق بنفس « تاركي » .
وقد أشَارَ إلى التعليل ابنُ عطية ، ولكنَّ المختار الأول ، ولم يذكُر الزمخشريُّ غيره .
قوله : { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } بمصدِّقين .
{ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء } الظَّاهر أن ما بعد « إلاَّ » مفعولٌ بالقول قبله ، إذ المرادُ : إن نقُولُ إلاَّ هذا اللفظ فالجملةُ محكيةٌ نحو قولك « ما قُلْتُ إلاَّ زيدٌ قائمٌ » . قوال أبُو البقاءِ : « الجملةُ مفسرةٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، التقدير : إن نقول إلاَّ قولاً هو اعتراكَ ، ويجُوزُ أن يكون موضعها نصباً ، أي : ما نذكر إلاَّ هذا القول » .
وهذا غيرُ مرضٍ؛ لأنَّ الحكاية بالقولِ معنى ظاهر لا يحتاج إلى تأويلٍ ، ولا إلى تضمين القولِ بالذِّكْرِ .
وقال الزمخشريُّ : « اعْتراكَ » مفعول « نَقُول » و « إلاَّ » لغوٌ ، أي : ما نقُولُ إلاَّ قولنا « اعْتَرَاكَ » . انتهى .
يعنى بقوله : « لغوٌ » أنَّهُ استثناءٌ مفرَّغ ، وتقديره بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب ، إذا ظاهرُهُ يقتضي أن تكون الجملةُ منصوبةً بمصدرٍ محذوفٍ ، ذلك المصدرُ منصوبٌ ب « تَقُول » هذا الظَّاهرُ .
ويقال : اعتراهُ يعتريه إذا أصابه ، وهو افتعل من عراه يَعْرُوه ، والأصلُ : اعترو مِنْ العَرْو ، مثل : اغتَزَو من الغَزْو ، فتحرَّك حرفُ العلَّة وانفتح ما قبله فقُلب ألفاً ، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ .
والمعنى : أنَّك شَتَمْتَ آلهتنا ، فجعلتكَ مجنوناً ، وأفسدت عقلك ، ثم قال لهم هودٌ : { إني أُشْهِدُ الله } على نفسي { واشهدوا } يا قومي { أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } من دُونهِ ، يعنى : الأوثان .
قوله : { أَنِّي برياء } يجوزُ أن يكون من بابِ الإعمال؛ لأنَّ « أشْهِدُ » يطلبه ، و « اشْهَدُوا » يطلبه أيضاً ، والتقديرُ : أشهدُ الله على أنِّي بريءٌ ، واشهدُوا أنتم عليه أيضاً ، ويكون من باب إعمال الثاني؛ لأنَّهُ لو أعمل الأول لأضمر في الثاني ، ولا غرو في تنازع المختلفين في التعدِّي واللزوم .
و « مِمَّا تُشْرِكُونَ » يجوز أن تكون « ما » مصدريةً ، أي : من إشراككم آلهةٌ من دُونه ، أو بمعنى « الَّذي » ، أي : من الذين تشركونه من آلهةٍ من دونه ، أي : أنتم الذين تجعلُونها شركاء .
وقوله : « جَمِيعاً » حالٌ من فاعل « فَكِيدُونِي » ، وأثبت سائرُ القرَّاء ياء « فَكِيدُونِي » في الحالين ، وحذفوها في المرسلات .
وهذا نظيرُ ما قاله نوح - عليه الصلاة والسلام - لقومه : { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } [ يونس : 71 ] إلى قوله : { وَلاَ تُنظِرُونَ } [ يونس : 71 ] .
وهذه معجزةٌ قاهرةٌ؛ لأنَّ الرَّجُل الواحدَ إذا أقبل على القوم العظام ، وقال لهم : بالغُوا في عداوتي ، وفي إيذائي ، ولا تؤجلون فإنَّه لا يقُولُ هذا إلاَّ إذا كان واثقاً من الله بأنَّهُ يحفظه ، ويصونه عن كيد الأعداءِ ، وهذا هو المراد بقوله : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ } أي : اعتمادي على الله ربِّي وربِّكُم .
{ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } قال الأزهريُّ : « النَّاصيةُ عند العربِ : مَنْبِتُ الشَّعر في مقدم الرأس ، ويسمَّى الشعر النَّابتُ هناك أيضاً ناصية باسم منبته » .
ونصَوْتُ الرَّجلَ : أخذتُ بناصيته ، فلامُها واو ، ويقال : ناصَاة بقلبِ يائها ألفاً ، وفي الأخْذِ بالنَّاصية عبارةٌ عن الغلبة والتَّسلُّط وإن لم يكن آخذاً بناصيته ، ولذلك كانُوا إذا منُّوا على أسيرٍ جزُّوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره ، والعربُ إذا وصفُوا إنساناً بالذلة ، والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلاَّ بيد فلان ، أي : إنَّه مطيعٌ له .
ومعنى « آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ » قال الضحاكُ : « مُحْيِيهَا ومُمِيتها » . وقال الفرَّاء : « مالكها والقادر عليها » وقال القتيبيُّ : « بقهرها » .
{ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } يعني : وإن كان ربِّي قادراً عليهم فإنه لا يظلمهم ، ولا يعملُ إلا بالإحسان والعدل ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
وقيل : معناه دين ربِّي صراط مستقيم . وقيل : فيه إضمار ، أي : إن ربي يحثكم ويحملكم على صراط مستقيم .
« فإن تولَّوْا » أي : تتولَّوا فحذف إحدى التَّاءين ، ولا يجُوزُ أن يكون ماضياً كقوله : « أبْلَغْتُكُم » ولا يجُوزُ أن يُدَّعى فيه الالتفات ، إذ هو ركاكةٌ في التَّركيب ، وقد جوَّز ذلك ابنُ عطية فقال : « ويُحْتَمل أن يكون » تَولَّوا « ماضياً ، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غيبةٍ إلى خطابٍ » .
قال شهابُ الدِّين : « ويجُوزُ أن يكون ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخر غير الالتفات : وهو أن يكون على إضمار القولِ ، أي : فقل لهم : قد أبْلَغْتَكم ، ويترجَّح كونه بقراءة عيسى الثقفي والأعرج » فإن تُولُّوا « بضمِّ التَّاءِ واللام ، مضارع » ولَّى « ، والأصل : تُوَلِّيُوا فأعِلّ .
وقال الزمخشريُّ : » فإن قلت : الإبلاغ كان قبل التَّولِّي ، فكيف وقع جزاءً للشَّرْطِ؟ .
قلت : معناه ، وإن تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريط في الإبلاغ ، وكنتم محجوبين بأنَّ ما أرسلتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلاَّ التَّكذيب « .
قوله : » وَيَسْتَخْلِفُ « العامَّةُ على رفعه استئنافاً . وقال أبو البقاءِ : هو معطوفٌ على الجوابِ بالفاءِ . وقرأ عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - بتسكينه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات .
والثاني : أن يكون مجزوماً عطفاً على الجواب المقترن بالفاءِ ، إذ محلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قوله : { فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] وقد تقدَّم تحقيقه ، إلاَّ أنَّ القراءتين ثمَّ في المتواتر .
والمعنى : إن تتولوا أهلككم الله ، ويستبدلُ قوماً غيركم أطوع منكم يُوحِّدُونه ويعبدُونهُ .
قوله : » ولا تَضُرُّونهُ « العامَّةُ : على النُّون؛ لأنَّه مرفوعٌ على ما تقدم ، وابن مسعودٍ بحذفها ، وهذا يُعيِّن أن يكون سكونُ » يَسْتَخْلف « جزماً ولذلك لم يذكر الزمخشريُّ غيره؛ لأنَّهُ ذكر جزم الفعلين ، ولمَّا لم يذكر أبو البقاءِ الجزم في » تَضُرُّونَهُ « جوَّز الوجهين في » يَسْتَخْلف « .
و « شيئاً » مصدرٌ ، أي : شيئاً من الضَّرر .
والمعنى : أنَّ إهلاككم لا ينقصُ من ملكه شيئاً ، لأنَّ وجودكم وعدمكم عنده سواء .
وقيل : لا تضرونهُ شيئاً بتوليكم وإعراضكم ، إنما تضرُّون أنفسكم { إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي : يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها . وقيل : يحفظني من شركم ومكركم . وقيل : حفيظ من الهلاكِ إذا شاء ، ويهلك إذا شاء .
قوله : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } أي : عذابنا ، وهو ما نزل بهم من الريحِ العقيمِ ، عذَّبهم الله بها سبع ليال ، وثمانية أيَّام ، تدخلُ في مناخرهم وتخرجُ من أدْبَارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صارُوا { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] .
{ نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ } وكانُوا أربعة آلاف « بِرَحْمَةٍ مِنَّا » بنعمة مِنَّا . وقيل : المراد بالرحمة : ما هداهُم إليه من الإيمان . وقيل : المرادُ أنَّهُ لا ينجو أحد ، وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلاَّ برحمةٍ من الله تعالى .
ثم قال : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } فالمرادُ بالنَّجاةِ الأولى : هي النَّجَاةُ من عذاب الدُّنيا ، والنَّجاةُ الثانية من عذاب القيامةِ .
والمرادُ بقوله : « ونَجَّيْنَاهُم » أي : حكمنا بأنَّهُم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ .
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
ولما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقال : { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } وهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال : سِيحُوا في الأرض فانظرُوا إليها واعتبروا .
قوله : « جَحَدُوا » جملةٌ مستأنفة سيقت للإخبار عنهم بذلك ، وليْسَتْ حالاً ممَّا قبلها ، و « جَحَدَ » يتعدَّى بنفسه ، ولكنه ضُمِّنَ معنى « كَفَر » ، فيُعدَّى بحرفه ، كما ضمَّن « كَفَر » معنى « جَحَدَ » فتعدَّى بنفسه في قوله بعد ذلك : « كَفَرُوا ربَّهُمْ » .
وقيل : إنَّ « كَفَر » ك « شَكَر » في تعدِّيه بنفسه تارةً وبحرفِ الجر أخرى .
واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاث صفاتٍ .
الأولى : قوله : { جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } أي : جحدوا دلائل المعجزات على الصِّدقِ ، أو حجدُوا دلائل المحدثات على وجودِ الصانع الحكيمِ .
والثانية : قوله : { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } ومعناه : أنهم إذا عصوا رسُولاً واحداً؛ فقد عصوا جميع الرُّسُلِ لقوله : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 258 ] .
والثالثة : قوله : { واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } والمعنى : أنَّ السَّفلة كانُوا يقلدون الرؤساء في قولهم { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ المؤمنون : 33 ] .
وتقدَّم اشتقاقُ « الجبّار » [ المائدة : 22 ] . والعَنِيدُ والعَنُود والمُعَاند : المنازع المعارض قاله أبو عبيدٍ وهو الطَّاغي المتجاوزُ في الظُّلم من قولهم : « عَنَدَ يَعْنِد » إذا حاد عن الحقِّ من جانبٍ إلى جانب . ومنه « عندي » الذي هو ظرف؛ لأنه في معنى جانب ، من قولك : عندي كذا ، أي : في جانبي .
ثم قال : { وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً } أي : أردفُوا لعنة تلحقهم ، وتصاحبهم في الدنيا وفي الآخرة . واللعنة : هي الإبعادُ ، والطَّردُ عن الرَّحمةِ .
ثم بيَّن السَّبب في نزول هذه الاحوال فقال : { ألاا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } أي : كفروا بربهم فحذف الباء . وقيل : هو من باب حذف المضافِ ، أي كفروا نعمة ربِّهم .
ثم قال : { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } قيل : بُعْداً من رحمةِ الله ، وقيل : هلاكاً . وللبعد معنيان :
أحدهما : ضدَّ القربِ ، يقال منه : بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْداً .
والآخر : بمعنى الهلاك فيقال منه : بَعِد يَبعِدُ بَعَداً وبَعُداً .
فإن قيل : اللعن هو البُعْدُ ، فلمَّا قال : { وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة } فما فائدةُ قوله : { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } ؟ .
فالجواب : كانوا عاديَيْن .
فالأولى هم قوم هود الذين ذكرهم الله في قوله { أَهْلَكَ عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] .
والثانية أصحاب إرم ذات العمادِ .
وقيل : المبالغة في التَّنْصيصِ تدلُّ على مزيد التأكيد .
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
قوله تعالى : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً } القصة .
الكلامُ على أوَّلها كالذي قبلها . والعامَّةُ على منع « ثمُود » الصَّرْف هنا لعلَّتين : وهما العلمية والتَّأنيث ، ذهبُوا به مذهب القبيلة ، والأعمش ويحيى بن وثاب صَرَفاه ، ذهبا به مذهب الحي ، وسيأتي بيان الخلافِ إن شاءَ الله تعالى .
قوله : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض } يجُوزُ أن تكون « مِنْ » لابتداءِ الغايةِ ، أي ابتداء إنشائكم منها إمَّا إنشاءُ أصلكم ، وهو آدم - صلوات الله وسلامه عليه - .
قال ابنُ الخطيب : « وفيه وجهٌ آخر وهو أقربُ منه؛ وذلك لأنَّ الإنسان مخلوقٌ من المنيّ ومن دم الطمث ، والمنيُّ إنما تولد من الدَّم ، فالإنسان مخلوق من الدَّم ، والدَّم إنما تولد من الأغذية ، والأغذيةُ إما حيوانية وإما نباتية ، والحيوانات حالها كحال الإنسان؛ فوجب انتهاء الكل إلى النبات والنبات أنما تولد من الأرض؛ فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض » .
أو لأن كل واحد خلق من تربته؛ أو لأن عذائهم وسبب حياتهم من الأرض .
وقيل : « من » بمعنى « في » ولا حاجة إليه .
قوله : { واستعمركم فِيهَا } أي جعلكم عمَّارها وسكانها . قال الضحاكُ : « أطَالَ أعماركم فيها » . وقال مجاهدٌ : أعمركم من العمرى . أي جعلها لكم ما عِشْتُمْ . وقال قتادةُ - رضي الله عنه - : « اسكنكم فيها » . قال ابنُ العربي : « قال بعضُ علمائنا : الاستعمارُ : طلبُ العمارة ، والطلب المعلق من الله - تعالى - على الوجوب ، قال القاضي أبو بكرٍ : تأتي كلمة استفعل في لسانِ العربِ على معانٍ منها : استفعل بمعنى : طلبُ الفعل كقوله : اسْتَحْمَلْتُه أي : طلبت من حملاناً ، وبمعنى اعتقد؛ كقوله : استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلاً ، أو وجدتُه سهلاً ، واستعظمتهُ أي : وجدته عظيماً ، وبمعنى أصبت كقوله : استجدته أي : أصبته جيداً ، وبمعنى » فَعَلَ « ؛ كقوله : قرَّ في المكانِ ، واستقر ، قالوا وقوله : [ { يَسْتَهْزِءُونَ } [ الأنعام : 5 ] و { يَسْتَسْخِرُونَ } [ الصافات : 14 ] منه ، فقوله تعالى : { واستعمركم فِيهَا } أي : خلقكم لعمارتها ، لا على معنى : استجدته واستسهلته ، أي : أصبته جيداً ، وسهلاً ، وهذا يستحيل ] في حقِّ الخالق ، فيرجع إلى أنَّه حلق لأنه الفائدة؛ وقد يعبّر عن الشيء بفائدته مجازاً ، ولا يصحّ أن يقال إنه طلبٌ من الله لعمارتها ، فإن هذا لا يجوز في حقه » ويصحُّ أن يقال : استدعى عمارتها ، وفي الآية دليل على الإسكان والعُمْرَى .
ثم قال : { فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } وقد تقدَّم تفسيره . { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } أي : أقربُ بالعلم والسمعِ « مجيب » دعاء المحتاجين بفضله ، ورحمته .
ولمَّا قرَّر صالح هذه الدلائل { قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا } أي : كُنَّا نَرْجُو أن تكون سيّداً فينا . وقيل : كُنَّا نَرْجُو أن تعُود إلى ديننا ، وذلك أنَّهُ كان رجلاً قوي الخاطر وكان من قبيلتهم ، فقوي رجاؤهُم في أن ينصر دينهم ، ويقرِّرُ طريقتهم ، فلمَّا دعاهم إلى الله وترك الأصنام زعموا أنَّ رجاءهم انقطع منه فقالوا : { أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } من الآلهة ، فتمسَّكُوا بطريق التقليد .
ونظير تعجُّبهم هذا ما حكاهُ الله - تعالى - عن كفَّار مكَّة في قولهم : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] .
قوله : { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ } مما تدعونا إليه مريب هذا هو الأصل ، ويجوز « وإنَّا » بنونٍ واحدةٍ مشدَّدة كما في السورة الأخرى [ إبراهيم : 9 ] . وينبغي أن يكون المحذوفُ النُّونَ الثَّانية من « إنَّ » ؛ لأنَّه قد عُهد حذفها دون اجتماعها مع « ن » ، فحذها مع « ن » أولى ، وأيضاً فإنَّ حذف بعض الأسماءِ ليس بسهلٍ وقال الفرَّاءُ : « مَنْ قال » إنَّنَا « أخرج الحرف على أصله؛ لأنَّ كتابة المتكلمين » نَا « فاجتمع ثلاثُ نونات ، ومن قال : » إنا « استثقل اجتماعها؛ فأسقط الثالثة ، وأبقى الأوليين » انتهى . وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك .
قوله : « مُرِيبٍ » اسم فاعل من « أرَاب » يجوز أن يكون متعدِّياً من « أرابهُ » ، أي : أوقعه في الرِّيبة ، أو قاصراً من « أرابَ الرَّجلُ » أي : صار ذا ريبة . ووصف الشَّكُّ بكونه مُريباً بالمعنيين المتقدمين مجازاً .
والشَّك : أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النَّفْي والإثبات ، والمُريب : هو الذي يظن به السوء والمعنى : أنَّهُ لَمْ يترجَّحْ في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغةٌ في تزييف كلامهِ .
قوله : { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً } تقدَّم نظيره [ يونس : 50 ] ، والمفعول الثَّاني هنا محذوف تقديره : أأعْصيه ويدل عليه « إنْ عَصَيْتُه » . وقال ابنُ عطيَّة : هي مِنْ رؤيةِ القَلْبِ ، والشَّرطُ الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مسدَّ مفعولين ل « أرَأيْتُم » .
قال أبُو حيَّان : « والذي تقرَّر أنَّ » أرَأيْتَ « ضُمِّن معنى » أخْبِرْنِي « ، وعلى تقدير أن لا يُضَمَّن ، فجملةُ الشَّرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولي » عَلِمْتُ « وأخواتها » .
قوله : { إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي } ورد بحرف الشَّك ، وكان على يقين تام في أمره إلاَّ أنَّ خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبُولِ؛ فكأنه قال : قدِّرُوا أنِّي على بيِّنةٍ من ربِّي وأنِّي نبيٌّ على الحقيقةِ ، وانظُرُوا إن تابعتكم ، وعصيتُ أمر ربِّي ، فمن يمنعني من عذابِ الله فما تزيدُونَنِي على هذا التقدير غير تَخْسِير .
قوله : « غَيْرَ تَخْسِير » الظاهرُ أنَّ « غَيْرَ » مفعولٌ ثانٍ ل « تَزِيدُونَنِي » .
قال أبُو البقاءِ : « الأقْوَى هنا أن تكُون » غير « استثناءً في المعنى ، وهو مفعولٌ ثانٍ ل » تَزِيدُونَنِي « ، أي : فمَا تَزِيدُونَنِي إلاَّ تَخْسِيراً .
ويجوز أن تكون « غير » صفةً لمفعولٍ محذوفٍ ، أي شيئاً غير تخسير ، وهو جيد في المعنى .
ومعنى التَّفْعِيل هنا النسبةُ ، والمعنى : غير أن أخسركُم ، أي : أنسبكم إلى التَّخْسير ، قال الزمخشريُّ .
قال الحسنُ بن الفضلِ : لم يكنْ صالح في خسارةٍ حتى قال : { فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } وإنَّما المعنى : فما تَزِيدُونَنِي بما تقُولُون إلا نسبتي إيَّاكم إلى الخسارةِ .
والتفسيقُ والتَّفْجِيرُ في اللغة : النسبة إلى الفِسْقِ والفُجُور ، فكذلك التَّخْسيرُ هو النسبة إلى الخُسرانِ .
وقيل : هو على حذف مضافٍ ، أي : غير بضارِّه تخسيركم ، قالهُ ابن عبَّاسٍ .
قوله تعالى : { وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } الآية .
« لَكُمْ » في محلِّ نصبٍ على الحالِ من « آيةً » ؛ لأنَّهُ لو تأخَّرَ لكان نَعْتاً لها ، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً .
قال الزَّمخشريُّ : فإن قلت : بِمَ تتعلَّقُ « لَكُمْ » ؟ قلتُ : ب « آيَةٌ » حالاً منها متقدمة ، لأنَّها لو تأخَّرت لكانت صفة لها ، فلما تقدَّمت انتصبت على الحالِ .
قال أبُو حيَّان : وهذا متناقضٌ لأنَّهُ من حيثُ تعلق « لكُم » ب « آية » كان معمولاً ل « آية » وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها ، لأنَّ الحال تتعلَّقُ بمحذوفٍ .
قال شهابُ الدِّين - رحمه الله - : ومثلُ هذا كيف يعترض به على مثلِ الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصود بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟ .
و « آيةً » نصب على الحالِ بمعنى علامة ، والنَّاصبُ لها : إمَّا « ها » التَّنبيه ، او اسمُ الإشارة ، لما تضمَّناهُ من معنى الفعل ، أو فعلٍ محذوف .
فصل
اعلم أنَّ العادة فيمن يدَّعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام لا بُدَّ وأن يطلبوا منه معجزة ، فطلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من صخرةٍ معينةٍ ، فدعا صالحٌ؛ فخرجت ناقة عشراء ، وولدت في الحال ولداً مثلها .
وهذه معجزة عظيمة من وجوه :
الأول : خلقُهَا من الصَّخْرة .
وثانيها : خَلْقُها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل .
وثالثها : خلقها على تلك الصُّورة دفعة واحدة من غير ولادة .
ورابعها : أنَّهُ كان لها شرب يوم .
وخامسها : أنه كان يحصلُ منها لبنٌ كثير يكفي الخلق العظيم .
ثم قال : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله } من العشب ، والنبات ، فليس عليكم مؤنتها .
وقرىء « تأكلُ » بالرفع : إمَّا على الاستئناف ، وإمَّا على الحالِ .
{ وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء } ، ولا تصيبوها بعقر « فيَأخُذَكُمْ » إن قتلتموها « عذابٌ قريبٌ » يريد اليوم الثالث .
{ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ } لهُم صالح : { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ } أي : في دياركم ، فالمراد بالدَّار : البلد ، وتُسَمَّى البلاد بالدِّيار ، لأنَّه يدار فيها ، أي : يتصرف ، يقال : ديار بكر أي : بلادهم .
وقيل : المراد بالدِّيار : دار الدُّنيا ، وقيل : هو جمع « دارة » كساحة وساحٍ وسُوحٍ ، وأنشد ابنُ أبي الصَّلْت : [ الوافر ]
2980- لَهُ دَاعٍ بِمَكَّة مُشْمَعِلٌّ ... وآخَرُ فوْقَ دَارَتِهِ يُنَادِي
فصل
قال القرطبيُّ : « استدلَّ العلماءُ بتأخير الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أنَّ المسافر إذا لمْ يُجمع على إقامة أربع ليالٍ قصر؛ لأنَّ الثلاثة أيام خارجة عن حكم الإقامة » .
والتَّمتع : التَّلذُّذ بالمنافع والملاذ . { ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } ، [ أي : غير كذب ] .
قوله : « مَكْذُوب » يجُوزُ أن يكون مصدراص على زنة مفعولٍ ، وقد جاء منه أليفاظ نحو : المَجْلود والمعقُول والمَيْسُور والمَفْتُون ، ويجوزُ أن يكون اسم مفعولٍ على بابه ، وفيه حينئذٍ تأويلان :
أحدهما : غير مكذوبٍ فيه ، ثم حذف حرف الجر فاتَّصل الضَّمير مرفُوعاً مستتراً في الصِّفة ومثله « يَوْمٌ مَشْهُودٌ » وقول الشاعر : [ الطويل ]
2981- ويَوْمَ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً ... قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نوافِلُه
والثاني : أنه جُعِل هو نفسُه غير مكذوب؛ لأنَّه قد وُفي به ، فقد صُدِّق .
فصل
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : « لمَّا أمهلهم ثلاثة أيَّام ، قالوا وما علامةُ ذلك؟ قال : تصبحوا في اليوم الأوَّلِ وجوهكم مصفرة ، وفي اليوم الثاني مُحْمَرة وفي اليوم الثالث مسودة ، ثم يأتيكم العذابُ في اليوم الرَّابع فكان كما قال » .
فإن قيل : كيف يُعقل أن تظهر هذه العلامات مطابقة لقول صالحٍ ، ثم يبقون مصرين على الكفر؟ فالجواب : ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حدِّ اليقينِ لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينيَّة قطعيَّة ، فقد انتهى الأمرُ إلى حدِّ الإلجاء ، والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول .
قوله { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } أي : عذابنا ، وتقدَّم الكلامُ على مثله .
قوله : { ومِنْ خِزْيِ } متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، أي : ونجَّيْنَاهم من خزي . وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : علام عطف؟ قلت : على « نَجَّيْنَا » ؛ لأنَّ تقديره : ونجَّيناهم من خزي يومئذٍ كما قال : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ هود : 58 ] أي : وكانت التنجيةُ من خزي . وقال غيرهُ : « إنَّه متعلقٌ ب » نَجَّيْنَا « الأول » .
وهذا لا يجُوزُ عند البصريين غير الأخفش؛ لأنَّ زيادة الواو غيرُ ثابتة .
وقرأ نافعٌ والكسائيُّ بفتح ميم « يومئذٍ » على أنَّها حركةُ بناءٍ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله : [ الطويل ]
2982- عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبَا ... فقُلْتُ ألمَّا أصْحُ والشَّيبُ وَازعُ
وقرأ الباقون : بخفض الميم .
فمن قرأ بالفتح فعلى أنَّ « يَوْم » مضاف إلى « إذْ » ، و « إذْ » مبني ، والمضاف إلى المبني يجوزُ جعله مبنياً ، ألا ترى أنَّ المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف فكذا ههنا ، وأمَّا الكسرُ : فالسَّبب فيه أنَّهُ يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر ، تقولُ : « جئتك إذ الشَّمس طالعة » ، فلمَّا قطع عنه المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثمَّ كسرت الذَّال لسكونها وسكون التنوين .
وأما قراءةُ الكسر فعلى إضافة « الخِزْيِ » إلى « اليوم » ، ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنيّاً لأنَّ إضافته غير لازمة .
وكذلك الخلافُ جارٍ في { سَأَلَ سَآئِلٌ } [ المعارج : 11 ] .
وقرأ طلحة وأبانُ بن تغلب بتنوين « خِزْي » و « يَوْمَئِذ » نصب على الظَّرف ب « الخِزْي » ، وقرأ الكوفيون ونافع في النَّمل { مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ } [ الآية : 89 ] بالفتح أيضاً ، والكوفيون وحدهم بتنوين « فَزَعٍ » ونصب « يَومئذ » به .
ويحتملُ في قراءة من نوَّن ما قبل « يومئذ » أن تكون الفتحةُ فتحة إعرابٍ ، أو فتحة بناء ، و « إذْ » مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض عنها التَّنوينُ تقديره : إذا جاء أمرنا .
وقال الزمخشريُّ : ويجوزُ أن يراد يومُ القيامة ، كما فُسِّرَ العذاب الغليظ بعذاب الآخرة .
قال أبُو حيان : وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذكرُ يومِ القيامة ، ولا ما يكونُ فيها ، فيكون هذا التَّنوين عوضاً عن الجملةِ التي تكون يومَ القيامةِ .
قال شهابُ الدِّينِ - رحمه الله - : قد تكونُ الدَّلالةُ لفظيةً ، وقد تكون معنويةً ، وهذه من المعنوية .
والخِزْي : الذّل العظيم حتى يبلغ حدَّ الفضيحة كما قال الله تعالى في المحاربين : { ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا } [ المائدة : 33 ] .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز } وإنَّما حسن ذلكن لأنَّه تعالى بيَّن أنه أوصل العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه ، وهذا لا يصحُّ إلاَّ من القادر الذي يقدر على قَهْرِ طبائع الأشياءِ ، فيجعل الشَّيء الواحد بالنِّسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً ، وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً .
قوله : { وَأَخَذَ الذين } : حُذِفت تاءُ التَّأنيث : إمَّا لكونِ المؤنث مجازياً ، أو للفصلِ بالمفعولِ أو لأنَّ الصَّيحة بمعنى الصياح ، والصَّيْحةُ : فعله يدل على المرَّة من الصِّياح ، وهي الصوتُ الشديدُ : صاح يصيح صِيَاحاً ، أي : صوَّت بقوة .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : المُرادُ الصَّاعقة . وقيل : صحية عظيمة هائلةٌ سمعوها فهلكوا جميعاً فأصبحوا جاثمين في دورهم .
وجثومهم : سقوطهم على وجوههم .
وقيل : الجثومُ : السُّكون ، يقالُ للطَّيْرِ إذا باتَتْ في أوكارها إنها جثمت ، ثم إنَّ العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموات .
فإن قيل : ما السَّببُ في كون الصَّيْحةِ موجبة للموت؟ .
فالجوابُ من وجوه : أحدها : أنَّ الصَّيحة العظيمة إنما تحدثُ عن سببٍ قوي يوجب تموج الهواء ، وذلك التموج الشديد ربما يتعدَّى إلى صمخ الإنسان فيُمزق غشاء الدِّماغِ فيورُ الموت .
وثانيها : أنَّه شيء مهب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النَّفسانية إذا قويت أوجبت الموت .
وثالثها : أنَّ الصَّيحة العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برقٌ شديدٌ محرق ، وذلك هو الصَّاعقة التي ذكرها ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - .
ثم قال تعالى : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } كأنَّهُم لم يُوجدوا . والمغنى المقام الذي يقيمُ الحي فيه يقال : غني الرَّجُلُ بمكان كذا إذا أقام به .
قوله : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ } قرأ حمزة وحفص هنا { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ } ، وفي الفرقان : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ } [ الآية : 38 ] وفي العنكبوت : { وَعَاداً وَثَمُودَ } [ الآية : 37 ] ، وفي النجم : { وَثَمُودَ فَمَآ أبقى } [ الآية : 51 ] جميعُ ذلك بمنع الصرف ، وافقهم أبو بكر على الذي في النَّجْم .
وقوله : { أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } منعه القراء الصرفَ إلاَّ الكسائيَّ فإنَّهُ صرفه ، وقد تقدَّم أنَّ من منع الصرف جعله اسماً للقبيلةِ ، ومن صرف جعله اسماً للحيِّ ، أو إلى الأبِ الأكبرِ؛ وأنشد على المنع : [ الوافر ]
2983- ونَادَى صالحٌ يَا ربِّ أنْزِلْ ... بآلِ ثمُودَ مِنْكَ غداً عَذَابَا
وأنشد على الصَّرف قوله : [ الطويل ]
2984- دَعَتْ أمُّ عَمْرٍو أمْرَ شرٍّ عَلِمْتُهُ ... بأرْضِ ثمُودٍ كُلِّهَا فأجَابَهَا
وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورةِ الأعراف .
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
قوله : { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى } القصة .
قال النحويون : دخلت كلمة « قَدْ » ها هنا لأنَّ السَّامع لقصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يتوقع قصة بعد قصة ، و « قَدْ » للتوقع ، ودخلت اللاَّم في « لَقَدْ » تأكيداً للخبر .
فصل
لفظ « رُسُلُنَا » جمع وأقله ثلاثة ، فهذا يدلُّ على أنهم كانوا ثلاثة ، والزَّائِدُ على هذا العددِ لا يثبتُ إلاَّ بدليل آخر ، وأجمعُوا على أنَّ الأصلَ فيهم كان جبريلُ - عليه السَّلامُ - .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - : « كانوا ثلاثة جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وهم المذكورون في الذَّاريات { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [ الذاريات : 24 ] وفي الحجر { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [ الحجر : 51 ] .
وقال الضحَّاكُ : » كانوا تسعة « . وقال محمد بن كعب - رضي الله عنه - » كان جبريل ومعه سبعة « وقال السُّديُّ : » أحد عشر ملكاً « وقال مقاتل : » كانوا اثني عشر ملكاً على صور الغلمان الوضاء وجوههم « .
» بالبشرى « بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل : بسلامة لوطٍ ، وأهلاك قومه .
قوله : { قَالُواْ سَلاَماً } : في نصبه وجهان :
أحدهما : أنَّه مفعولٌ به ، ثم هو محتملٌ لأمرينِ :
أحدهما : أن يراد قالوا هذه اللفظ بعينه ، وجاز ذلك لأنَّه يتضمَّن معنى الكلام .
الثاني : أنَّهُ أراد قالوا معنى هذا اللفظ ، وقد تقدَّم نحو ذلك في قوله تعالى : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] .
وثاني الوجهين : أن يكون منصوباً على المصدر بفعل محذوفٍ ، وذلك الفعلُ في محلِّ نصب بالقول ، تقديره : قالوا : سَلَّمْنَا سلاماً ، وهو من باب من ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه ، وهو واجب الإضمار .
قوله : » سَلاَمٌ « في رفعه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ مبتدأ وخبره محذوفٌ ، أي : سلامٌ عليكم .
والثاني : أنَّه خبر مبتدأ محذوف أي : أمْرِي أو قَوْلِي سلام .
وقد تقدَّم أنَّ الرفع أدلُّ على الثُّبوتِ من النَّصْبِ [ الفاتحة : 2 ] ، والجملة بأسرها - وإن كان أحد جزأيها محذوفاً - في محلِّ نصب بالقول؛ كقوله : [ الطويل ]
2985- إذَا ذَقْتُ فَاهَا قُلْتُ : طَعْمُ مُدَامَةٍ .. . .
وقرأ الاخوان : » قَالَ سِلْم « هنا وفي سورة الذَّاريات بكسر السين وسكون اللاَّم .
ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف ، قال الفرَّاءُ : » هُما لغتان كحِرْم وحَرَامٍ وحِلٍّ وحلالٍ « ؛ وأنشد [ الطويل ]
2986- مَرَرْنَا فَقُلْنَا : إيهِ سِلْمٌ فَسلَّمْتْ ... كَمَا اكْتَلَّ بالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوَائِحُ
يريد : سلامٌ؛ بدليل : فسلَّمَتْ .
وقال الفارسي : » السِّلْم « بالكسر ضد الحربِ ، وناسبَ ذلك لأنَّهم لمَّا امتنعوا من تناول ما قدَّمهُ إليهم ، أنكرهم ، وأوجس منهم خيفة ، فقال : أنا سِلْم ، أي : مُسَالمكم غيرُ محارب لكم ، فلم تمتنعوا من تناول طعامي؟
قال ابنُ الخطيب - رحمه الله - : وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلُّم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بهذا اللفظ بعد إحضار الطَّعام ، والقرآن يدل على أنَّ هذا الكلام قبل إحضار الطَّعام؛ لأنَّه تعالى قال : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } والفاءُ للتَّعقيب ، فدلَّ على أنَّ مجيئَهُ بالعجل الحنيذِ بعد السَّلام .
فصل
أكثر ما يستعمل « سلامٌ عليكم » منكّراً؛ لأنَّهُ في معنى الدُّعاءِ كقولهم : خير بين يديك .
فإن قيل : كيف جاز الابتداء بالنَّكرةِ؟ .
فالجوابُ : إذا وصفت جاز ، فإذا قلت : « سلامٌ عليكم » فالتَّنكير هُنا يدلُّ على الكمال والتَّمام ، فكأنه سلام كامل تام عليك ، ونظيره قوله تعالى : { سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } [ مريم : 47 ] وقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] وقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] .
وأما قوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] فالمراد منه الماهية والحقيقة .
قال ابنُ الخطيب : قوله : « سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ » أكملُ من قوله : « السَّلامُ عليْكُم » ؛ لأنَّ التَّنْكيرَ يُفيدُ المبالغة والتَّمام ، والتعريف لا يفيدُ إلاَّ الماهية .
قوله : « فَمَا لَبِثَ » يجُوزُ في « ما » هذه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّها نافيةٌ ، وفي فاعل « لَبِثَ » حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أنَّه ضميرُ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أي : فَمَا لَبِثَ إبراهيم ، وإن جاء على إسقاطِ الخافض ، فقدَّرُوه بالباء و ب « عَنْ » وب « في » ، أي : فمَا تأخَّر في أنْ ، أو بأن ، أو عن أن .
والثاني : أنَّ الفاعل قوله : « انْ جَاءَ » ، والتقدير : فَما لبثَ ، أي : ما أبْطَأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين .
وثاني الأوجه : أنَّها مصدريةٌ .
وثالثها : أنَّها بمعنى الذي . وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ ، وإن جاء خبرهُ على حذفِ مضاف تقديره : فلُبْثُه - أو الذي لبثه - قَدْرَ مجيئه .
قال القرطبيُّ : قوله : « أنْ جَاءَ » معناه : حتَّى جَاءَ .
والحَنِيذُ : المَشْوِيُّ بالرَّضْفِ في أخدود كفعل أهل البادية يشوون في حفرةٍ من الأرض بالحجارة المُحَمَّاة ، يقال : حَنَذْتُ الشَّاة أحْنِذُهَا حَنْذاً فهي حَنِيذ ، أي : مَحْنُوذة .
وقيل : حَنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم : حَنَذْتُ الفرس ، أي : سُقْتُه شَوْطاً أو شَوْطَيْن وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليعرق .
ثم قال : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ } أي : إلى العِجْلِ . وقال الفرَّاءُ : إلى الطَّعامِ وهو العجل .
قوله : « نَكِرَهُمْ » أي : أنكرهم ، فهما بمعنى واحد؛ وأنشدوا : [ البسيط ]
2987- وأنكَرَتْنِي ومَا كَانَ الذي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا
وفرَّق بعضهم بينهما فقال : الثلاثي فيما يُرَى بالبصرِ ، والرباعي فيما لا يُرَى من المعاني ، وجعل البيت من ذلك ، فإنَّها أنكرتْ مودَّتهُ وهي من المعاني التي لا تُرَى ، ونكِرَتْ شَيْبَتَهُ وصلعهُ ، وهما يُبْصرانِ؛ ومنه قول أبي ذؤيبٍ : [ الكامل ]
2988- فَنَكِرْتَهُ فَنَفَرْتُ وامْتَرَسَتْ بِهِ ... هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وهَادٍ جُرْشَعُ
والإيجاس : حديث النَّفس ، وأصله من الدُّخُول كأنَّ الخوف داخلهُ .
وقال الأخفش : « خَامَر قلبه » . وقال الفرَّاء : « اسْتَشْعَرَ وأحسَّ » .
والوَجَسُ : ما يَعْتَرِي النفس أوائل الفزع ، ووجس في نفسه كذا أي : خطر بها ، يَجِسُ وَجْساً ووُجُوساً ووَجِيساً ، ويَوْجَسُ ويَجِسُ بمعنى يسمعُ؛ وأنشدوا على ذلك وقله : [ الطويل ]
2989- وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوجُّسِ للسُّرَى ... لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ
و « خفية » مفعول به أي : أحس خيفة أو أضمر خيفة .
فصل
اعلم أنَّ الأضياف إنَّما امتنعوا عن الطَّعام؛ لأنهم ملائكةٌ ، والملائكةُ لا يأكلون ، ولا يشربون ، وإنَّما أتوهُ في صورة الأضياف ، ليَكونوا على صفة يحبها؛ لأنه كان يحب الضيافة ، وأمَّا إبراهيم ، فإما أن يقال : إنه ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقدُ أنهم من البشر ، أو يقال : إنَّه كان عالماً بأنهم ملائكة ، فعلى الأول فسببُ خوفه أمران :
أحدهما : أنَّهُ كان ينزل في طرف من الأرض بعيداً عن النَّاس ، فلما امتنعوا عن الأكل ، خاف أن يريدوا به مكروهاً .
والثاني : أنَّ من لا يعرفه إذا حَضَر ، وقدَّم إليه طعاماً ، فإن أكل حصل الأمن ، وإن لم يأكل ، حصل الخوفُ .
وإن كان عارفاً بأنَّهم ملائكة ، فسبب خوفه أمران :
أحدهما : أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه .
والثاني : أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه .
والأول أقرب؛ لأنَّهُ سارع إلى إحضار الطعام ، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك ، ولما استدلَّ بترك الأكل على حصول الشَّرِّ ، وأيضاً : فإنَّهُ رآهم في صورة البشر ، قالوا : لا تخف يا إبراهيم ، إنَّا ملائكة الله ، أرسلنا إلى قوم لوط .
فصل
في هذه القصَّة دليل على تعجيل قرى الضيف ، وعلى تقديم ما يتيسَّر من الموجود في الحال ، ثم يُتبِعُهُ بغيره ، إن كان له جدةٌ ، ولا يتكلَّف ما يَضُرُّ به ، والضيافة من مكارم الأخلاق ، وإبراهيم أوَّل من أضاف ، وليست الضيافةُ بواجبة عند عامة أهل العلم؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : « مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ ، فلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ » .
وإكرام الجار ليس بواجب ، فكذلك الضَيْفُ ، وفي الضيافة الواجبة يقولُ - عليه الصلاة والسلام - : « لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ . »
وقال ابن العربيِّ : وقد قال قَوْمٌ : إنَّ الضيافة كانَتْ واجبةً في صدْر الإسلام ، ثم نُسِخَتْ .
فصل
اختلفوا في المخاطب بالضِّيافة ، فذهب الشافعيُّ ، ومحمد بنُ عبد الحكم إلى أنَّ المخاطب بها أهل الحضر والبادية . وقال مالكٌ : ليس على أهل الحضر ضيافة .
قال سُحْنُون : إنَّما الضِّيافةُ على أهْلِ القُرى ، وأمَّا أهل الحضر ، فالفُنْدُق ينزل فيه المسافرُ؛ لما روى ابنُ عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الضِّيافةُ عَلَى أهْلِ الوَبَرِ ، ولَيْسَتْ عَلَى أَهْلِ المَدَرِ » .
قال القرطبيُّ : « قال أبوعمر بن عبد البرِّ : وهذا حديثٌ لا يصحُّ » قال ابنُ العربي : « الضيافة حقيقة فرض على الكفاية » .
فصل
ومن أدب الضيافة أن يبادرَ المضيف بالأكل؛ لأنَّ كرامةَ الضَّيْفِ التعجيل بتقديم الضِّيافة ، كما فعل إبراهيمُ - عليه الصلاة والسلام - ولما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم فإذا أكل المضيف ، طاب نفس الضَّيف للأكل .
قوله : { وامرأته قَآئِمَةٌ } في محلِّ نصب على الحالِ من مرفوع : « أرْسِلْنَا » .
وقال أبو البقاءِ : من ضمير الفاعل في « أرْسِلْنَا » . وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة ، إذ مفعول مَا لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ لا يطلقُ عليه فاعلٌ على المَشْهُورِ ، وعلى الجملةِ فجعلها حالاً غير واضح بل هي استئناف إخبار ، ويجوزُ جعلها حالاً من فاعل « قالُوا » أي : قالوا ذلك في حال قيام امرأته ، وهي ابنة عم إبراهيم .
وقوله : « وَهِي قَائمةٌ » أي تخدمُ الأضياف؛ وإبراهيم جالس معهم ، يؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود : « وامرأته قائمةٌ وهو قاعِدٌ » .
قوله : « فَضَحِكَتْ » العامَّةُ على كسر الحاء وقرأ محمد بن زياد الأعرابي - رجل من مكة - بفتحها وهي لغتان ، يقال : ضَحِكَ وضَحَكَ ، وقال المهدويُّ : « الفتح غير معروف » ، والجمهورُ على أنَّ الضَّحكَ على بابِهِ .
واختلف المفسِّرون في سببه فقال القاضي : إنَّ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لما خاف قالت الملائكة { لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } فعظم سرورها بسبب سرورهِ ، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان ، فكان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم « لا تَخَفْ » فكان كالبشارة فقيل لها : نجعل هذه البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أوَّلِ العُمر إلى هذا الزَّمان ، وقيل : لمَّا كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لكفرهم وعملهم الخبيث ، فلما أخبروا أنهم جاءوا لإهلاكهم ، لحقها السُّرور ، فضحكت .
وقيل : بشَّرُوها بحصول مطلق الولد فضَحِكَتْ إمَّا تعَجُّباً فإنَّهُ يقالُ : إنَّها كانت في ذلك الوقت بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ابن مائة سنة ، وإمَّا على سبيل السُّرور ، ثم لمَّا ضحكت بشَّرها الله - تعالى - بأنَّ ذلك الولد هو إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب .
وقيل : إنَّها ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر حال ما كان معه حشمه وخدمه .
وقيل : هذا على التقديم والتأخير تقديره : وامرأته قائمة فبشَّرناها بإسحاق ، فضحكت سروراً بتلك البشارة ، فقدَّم الضَّحكَ ، ومعناه التَّأخير ، يقالُ ضحكت الأرنب ، بمعنى : حَاضَتْ .
وقال مجاهدٌ وعكرمة : « ضَحِكَتْ » بمعنى : حَاضَتْ . وأنكره أبو عبيدة ، وأبو عبيد ، والفرَّاء .
قال ابنُ الأنباري : « هذه اللُّغة إن لم يَعْرِفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم ، حكى اللُّيثُ - رحمه الله - في هذه الآية » فَضَحِكَتْ « طمثت ، وحكى الأزهريُّ - عن بعضهم - أنَّ أصلهُ : من ضحاك الطَّلعةِ ، يقال : ضَحِكَت الطلعة إذا انشقت ، وأنشدوا : [ المتقارب ]
2990- وضِحْكُ الأرَانبِ فَوْقَ الصَّفَا ... كَمِثْلِ دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا
وقال آخر : [ الطويل ]
2991- وعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكاً في لُبانةٍ ... ولَمْ يَعْدُ حقّاً ثَدْيُهَا أن تُحَلَّمَا
أي : حَائِضاً .
وضَحِكت الكافُورَةُ : تَشَقَّقَتْ . وضَحِكَت الشَّجَرةُ : سَالَ صَمْغُهَا ، وضَحِكَ الحَوْضُ : امتلأ وفاض وظاهرُ كلام أبي البقاءِ أن « ضَحَكَ » بالفتح مختصٌّ بالحيْضِ فإنَّه قال : « بِمَعْنَى حَاضَتْ يقال : ضَحَكَت الأرنب بفتح الحَاء » .
قوله : { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } قرأ ابنُ عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء ، والباقون برفعها .
فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها ، هل الفتحةُ علامةُ نصبٍ أو علامة جرٍّ؟ والقائلون بأنَّها علامةُ نصب اختلفوا ، فقيل : هو منصوبٌ عطفاً على قوله : « إسْحَاق » . قال الزمخشريُّ : كأنَّهُ قيل : وَوَهَبْنَا لهُ إسحاقَ ، ومنْ وراءِ إسْحَاق يعقوب على طريقة قوله : [ الطويل ]
2992- مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً ... ولا نَاعبٍ .
يعنى أنَّهُ عطف على التَّوهم فنصب ، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر « ليس » فجرَّ ، ولكنه لا ينقاس .
وقيل : منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، أي : وَوَهَبْنَا يعقوب وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة ورجَّحه الفارسي .
وقيل : هو منصوبٌ عطفاً على محلِّ « بإسحاقَ » ؛ لأنَّ موضعهُ نصب كقوله : « وَأَرْجُلَكُمْ » بالنصب عطفاً على { بِرُؤُوسِكُمْ } [ المائدة : 6 ] .
والفرقُ بين هذا والوجه الأول : أنَّ الأول ضمَّن الفعل معنى : « وَهَبْنَا » توهُّماً ، وهنا باقٍ على مدلوله من غير توهُّم .
ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على « بإسحاقَ » والمعنى : أنَّها بُشِّرت بهما .
وفي هذا الوجه والذي قبله بحثٌ : وهو الفَضْلُ بالظَّرْفِ بين حرف العطف ، والمعطوف ، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النِّساءِ .
ونسب مكي الخفض للكسائي ثم قال : « وهو ضعيفٌ إلاَّ بإعادة الخافض؛ لأنَّك فصلت بين الجار والمجرور بالظَّرف » . قوله : « بإعادة الخافض » ليس ذلك لازماً ، إذ لو قدِّم ولم يفصلْ لم يلتَزِم الإتيان به .
وأمَّا قراءةُ الرَّفْع ففيها أوجه :
أحدها : أنَّه مبتدأ وخبره الظَّرف السَّابق فقدره الزمخشريُّ « موجود أو مولود » وقدَّره غيره ب : كائن ولمَّا حكى النَّحاسُ هذا قال : « الجملة حالٌ داخلةٌ في البشارة أيك فبشَّرناها بإسحاق مُتَّصلاً به يعقُوبُ » .
والثاني : أنَّه مرفوعٌ على الفاعلية بالجارِّ قبله ، وهذا يجيء على رأي الأخفش .
والثالث : أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ أي : ويحدث من وراء إسحاق يعقوب ، ولا مدخل له في البشارة .
والرابع : أنه مرفوعٌ على القَطْع يَعْنُونَ الاستئناف ، وهو راجعٌ لأحَدِ ما تقدَّم من كونه مبتدأ وخبراً ، أو فاعلاً بالجارِّ بعدهُ ، أو بفعل مقدر .
وفي لفظ « وَرَاء » قولان :
أظهرهما : وهو قولُ الأكثرين أنَّ معناه « بَعْد » أي : بعد إسحاق يعقوب ولا مدخل له في البشارة .
والثاني : أنَّ الوراء : ولد الولد .
فصل
ذكر المفسِّرون أنَّ « إسحاق » ولدَ ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة وكان عمر أمه سارة حين بُشِّرَتْ به تسعين سنة . وذكر أهلُ الكتاب أنَّ إسحاق لمَّا تزوج ربقة بنت شاويل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة ، وأنَّها كانت عَاقِراً فدعا الله لها فحملتْ فولدت غلامين تَوْءَمَيْنِ؛ أولهما سمَّوهُ عيصو ، وتسمية العرب « العِيصَ » وهو والدُ الرُّوم الثانية ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسمَّوهُ يعقوب ، وهو إسرائيل الذي ينسبُ إليه بنو إسرائيل .
قوله : { قَالَتْ ياويلتا } الظَّاهرُ كون الألف بدلاً من ياء المتكلم ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في روايةٍ ، وبها قرأ الحسن « يَا وَيْلَتِي » بصريح الياء . وقيل : هي ألف الندبة ، ويوقفُ عليها بهاء السَّكْتِ . وكذلك الألف في « يَا وَيْلَتَا » و « يَا عَجَبَا » .
قال القفال - رحمه الله - : أصلُ الوَيْل هو الخِزْيُ ، ويقال : وَيلٌ لفلان ، أي الخزي والهلاك .
[ قال سيبويه : « وَيْح » زجر لمنْ أشرف على الهلاكِ ، و « وَيْل » ] لمن وقع فيه .
قال الخليلُ : ولَمْ أسْمَعْ على مثاله إلاَّ « وَيْح » ، و « وَيْد » ، و « وَيْه » ، وهذه كلمات متقاربة في المعنى .
قوله : « أَأَلِدُ » قرأ ابنُ كثير ونافع وأبو عمر « آلد » بهمزة ومدة ، والبقاون : بهمزتين بلا مدٍّ وقوله : { وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً } الجملتان في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل « ألِدُ » أي : كيف تقعُ الولادة في هاتينِ الحالتين المنافيتين لها؟ .
والجمهورُ على نصب « شَيْخاً » وفيه وجهان :
المشهورُ أنَّهُ حالٌ ، والعاملُ فيه : إمَّا التَّنْبيهُ وإما الإشارةُ . وإمَّا كلاهما .
والثاني : أنه منصوبٌ على خبر التَّقريب عند الكوفيين ، وهذه الحالُ لازمةٌ عند من لا يَجْهَل الخبر ، وأمَّا من جهله فهي غير لازمة .
وقرأ ابنُ مسعُود والأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود « شَيْخٌ » بالرَّفْع ، وذكروا فيه أوجهاً : إمَّا خبرٌ بعد خبر ، أو خبران في معنى خبر واحد نحو : هذا حلو حامض ، أو خبر « هَذَا » و « بَعْلي » بيانٌ ، أو بدلٌ ، أو « شيخٌ » بدلٌ من « بَعْلي » ، أو « بَعْلِي » مبتدأ و « شَيْخٌ » خبره ، والجملة خبر الأول ، أو « شَيْخٌ » خبر مبتدأ مضمر أي : هو شيخٌ .
والشَّيْخُ يقابله عجوزٌ ، ويقال : شَيْخَة قليلاً؛ كقوله : [ الطويل ]
2993- وتَضْحَكُ مِنِّ ] شَيْخَةٌ عَبْشمِيَّةٌ .. . .
وله جموعٌ كثيرة ، فالصَّريحُ منها : أشياخ وشُيُوخ وشِيخان ، وشِيخَة عند من يرى أنَّ فعلة جمعٌ لا اسم جمع كغِلْمَة وفِتْيَة .
ومن أسماءِ جمعه : مَشِيخَة وشِيَخَة ومَشْيُوخاً .
وبَعْلُهَا : زوجها ، سُمِّي بذلك لأنَّهُ قيِّمُ أمرها .
قال الواحدي : وهذا من لَطِيفِ النَّحو وغامضه فإنَّ كلمة « هذا » للإشارة ، فكان قوله { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } قائمٌ مقام أن يقال : أشير إلى بَعْلِي حال كونه شَيْخاً .
والمقصُودُ : تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشَّيْخُوخة .
ثم قال : { إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } .
فإن قيل : كيف تعجَّبَتْ من قُدْرَةِ الله - تعالى - والتَّعجُّبُ من قدرةِ الله يدلُّ على الجهْلِ بقُدْرةِ الله تعالى؛ وذلك يوجبُ الكُفْرَ؟ .
فالجواب : أنَّها إنَّما تعجبت بحسب العُرْفِ والعادة لا بحسب القدرة ، فإنَّ الرَّجُلَ المسلم لو أخبره رجلٌ آخرُ صادقٌ بأنَّ الله - تعالى - يقلبُ هذا الجبل إبْرِيزاً ، فلا شكَّ أنه يتعجب نظراً إلى العادةِ لا استنكاراً للقدرةِ .
ثم قالت الملائكةُ : { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } أي : لا تعجبي مِنْ أمْرِ الله ، فإنَّ الله إذا أراد شيئاً كان .
قوله : { رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } أي : بيت إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - والمعنى : رحمةُ الله عليكم متكاثرة ، وبركاته عندكم متواليةٌ متعاقبة ، وهي النبوة ، والمعجزات القاهرةُ ، فإذا خرق الله العادةَ في تخصيصكُم بهذه الكراماتِ العاليةِ الرَّفيعةِ ، فلا تعجبي من ذلك . وقيل : هذا على معنى الدُّعاءِ من الملائكة .
وقيل : على معنى الخَيْرِ والرَّحْمَةِ والنعمة . و « البركاتُ » جمع البركة وهي ثبوت الخَيْرِ .
فإن قيل : ما الحكمةُ في إفرادِ الرَّحمةِ وجمع البركات ، وكذلك إفراد السَّلام في التشهد وجمع البركات؟ .
فالجواب : قد تقدَّم في سورة البقرة عند قوله : { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] .
وقال ابن القيِّم - هنا - إنَّ السلام إمَّا مصدرٌ محضٌ ، فهو شيءٌ واحدٌ ، فلا معنى لجَمْعِهِ ، وإمَّا اسمٌ من أسماء الله - تعالى - فيستحيل أيضاً جمعه ، وعلى التقديرين لا سبيل لجمعه .
وأمَّا الرَّحمةُ فمصدرٌ كما تقدَّم ، وأمَّا البركةُ : فإنها لمَّا كانت تتجدَّدُ شيئاً بعد شيءٍ كان لفظ الجمع أولى بها؛ لدلالتها على المعنى المقصود بها ، ولهذا جاءت في القرآن كهذه الآية ، وكذلك السَّلام في التشهُّدِ ، وهو قوله : السَّلام عليكم أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته .
وقوله : « عَلَيْكُم » حكى سيبويه « عَلَيْكم » بكسر الكافِ لمجاورتها الياء نقله القرطبي وفيه دليل على أنَّ الأزواجَ من أهلِ البيتِ .
قوله : « أهْلَ البيتِ » في نصبه وجهان :
أحدهما : أنه مُنَادَى .
والثاني : أنه منصوبٌ على المدح . وقيل : على الاختصاص ، وبين النَّصبين فرقٌ : وهو أنَّ المنصوب على المدح لفظٌ والمنصوبُ على الاختصاصِ لا يكونُ إلا لمدحٍ ، أو ذمٍّ ، لكن لفظه لا يتضمَّنُ بوضعه المدحَ ، ولا الذَّم؛ كقوله : [ الرجز ]
2994- بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ ... كذا قاله أبو حيَّان ، واستند إلى أنَّ سيبويه جعلهما في بابين ، وفيه نظرٌ . ثم قال : إنه حميدٌ مجيدٌ ، فالحميد : المحمود ، والمجيدُ : فعيل ، مثال مبالغة من مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجَادَة ، ويقال : مَجُد ك : شَرُف وأصله : الرِّفْعَة .
وقيل : من مَجَدتِ الإبلُ تَمْجُدُ مَجَادَةً ومَجْداً ، أي : شَبِعَتْ؛ وأنشدوا لأبي حيَّة النَّمَيْرِي : [ الوافر ]
2995- تَزيدُ على صواحبها وليْسَتْ ... بِمَاجِدةِ الطَّعامِ ولا الشَّرابِ
[ أي ] : ليست بكثيرة الطَّعام ولا الشَّرابِ .
وقيل : مَجَد الشَّيءُ : أي : حَسُنَتْ أوصافُهُ .
وقال الليثُ - رحمه الله - : « أمْجَدَ فلانٌ عطاءهُ ومجَّدهُ أي : كثَّرَهُ » .
والمجيدُ : المَاجدُ ، وهو ذُو الشَّرفِ والكرمِ .
قوله : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع } ، أي : الفزعُ؛ قال الشَّاعرُ : [ الطويل ]
2996- إِذَا أخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ أمْسَكَتْ ... بِمَنْكِبِ مِقدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا
يقال : رَاعَهُ يَرُوعُه ، أي : أفزعهُ؛ قال عنترةُ : [ الكامل ]
2997- ما رَاعَنِي إِلاَّ حَمُولةُ أهْلِهَا ... وسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حبَّ الخِمْخِمِ
وارتاع : افتعل منه؛ قال النابغة : [ البسيط ]
2998- فارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كلاَّبٍ فَبَاتَ لَهُ ... طَوْعَ الشَّوامِتِ مِنْ خَوْفٍ ومِنْ صَرَدِ
وأمَّا الرُّوعُ - بالضمِّ - فهي النَّفْسُ لأنَّها محلُّ الرَّوْعِ . ففرَّقُوا بين الحالِّ والمَحَلِّ؛ وفي الحديث : « إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي » .
قوله : { وَجَآءَتْهُ البشرى } عطف على « ذَهَبَ » ، وجوابُ « لمَّا » على هذا محذوفٌ أي : فلمَّا كان كيت وكيت اجترأ على خطابهم ، أو فطن لمجادلتهم ، وقوله : « يَجَادِلُنَا » على هذا جملةٌ مستأنفةٌ ، وهي الدَّالَّةُ على ذلك الجواب المحذوف .
وقيل : تقديرُ الجواب : أقبل يُجَادلنا ، أو أخذ يُجَادلُنَا ، ف « يُجَادِلُنَا » على هذا حالٌ من فاعل « أقبل » .
وقيل : جوابها قوله : « يُجَادلُنَا » وأوقع المضارع موقع الماضي .
وقيل : الجوابُ قوله : { وَجَآءَتْهُ البشرى } والواوُ زائدةٌ . وقيل : « يُجَادِلُنَا » حال من « إبراهيم » ، وكذلك قوله : { وَجَآءَتْهُ البشرى } و « قَدْ » مقدرةٌ . ويجُوزُ أن يكون « يُجَادِلُنَا » حالاً من ضمير المفعول في « جَاءءَتْهُ » . و « فِي قَوْمِ لُوطٍ » أي : في شأنهم .
قوله : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع } .
هذا أوَّلُ قصة قوم لوط ، والمعنى : أنَّهُ لمَّا زال الخوف وحصل السُّرورُ بسبب مجيء البُشْرَى بحصول الولد ، أخذ يُجَادلنا أي : رسلنا ، بمعنى : يكلمنا؛ لأنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لا يجادل ربه ، إنَّما يسأله ويطلب إليه بدليل مدحه عقيب الآية بقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } ولو كان جدلاً مذموماً لما مدحه بهذا المَدْح العظيم ، وكانت مجادلته أن قال للملائكة : أرأيتم لو كان في مدائنِ لوطٍ خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا : لا .
قال : أو أربعون . قالوا : لا .
قال : أو ثلاثون . قالوا لا . حتَّى بلغ العشرة .
قالوا : لا . قال : أرأيتم لو كان فيها رجلٌ مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا . فعند ذلك { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته } [ العنكبوت : 32 ] .
ثم قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } .
والحليم : الذي لا يتعجَّلُ بمكافأة من يؤذيه ، ومن كان كذلك فإنَّه يتأوَّهُ إذا شاهد وصول الشَّدائد إلى الغير فلمَّا رأي مجيء الملائكة لإهلاك قوم لُوط عظم حزنهُ ، وأخذ يتأوَّهُ فوصفه ، الله - تعالى - بأنَّهُ مُنِيبٌ؛ لأنَّ من ظهرت منه هذه الشفقة العظيمةُ على الخلق فإنَّهُ يتُوبُ ويرجع إلى الله - تعالى عزَّ وجلَّ - في إزالة ذلك العذابِ ، أو يقال : من كان لا يَرْضَى بوقوع غيره في الشَّدائد ، فبأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها أولى ، ولا طريق لتخليصِ النَّفْسِ من عذاب الله والوقوع فيه إلا بالتوبةِ والإنابةِ ، فقالت الرُّسُلُ عند ذلك لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - : { يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هاذآ } أي : أعرض عن هذا المقال ، ف { إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ } ، أي : عذابُ ربِّك وحُكم ربِّك { إِنَّهُمْ آتِيهِمْ } : نازلٌ بهم { عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } ، أي : غير مصروف عنهم .
قوله : { آتِيهِمْ عَذَابٌ } يجوز أن يكون جملة من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبراً ل « إنَّهُمْ » ، ويجوز أن يكون « آتِيهِمْ » الخبر « عَذابٌ » المبتدأ ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوصفِ ، ولتنكير « آتِيهِمْ » ؛ لأنَّ إضافته غيرُ محصنةٍ .
ويجُوزُ أن يكون « آتِيهِمْ » خبر « إنَّ » ، و « عذابٌ » فاعلٌ به ، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عمرو بن هرم « وإنَّهُمْ أتاهُمْ » بلفظ الفعل الماضي .
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
قوله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً } قال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - : انطلقُوا من عند إبراهيم إلى « لُوطٍ » [ و ] بين القريتين أربعة فراسخَ ، ودخلوا عليه على صورة غلمان مرد حسان الوجوه .
قوله : { سياء بِهِمْ } فعلٌ مبنيٌّ للمفعول ، والقائمُ مقامَ الفاعل ضمير « لُوطٍ » من قولك : « سَاءَنِي كَذا » أي : حصل لي سُوءٌ ، و « بِهِمْ » متعلقٌ به ، أي : بسببهم ، يقال : سؤته فسيء كما يقال : سَرَرْتُه فَسُرَّ ، ومعناهُ : سَاءَهُ مَجِيئُهم وسَاءَ يَسُوءُ فعل لازم .
قال الزجاجُ : « أصله » سُوىءَ بِهِمْ « إلاَّ أنَّ الواو أسكنت ونقلت كسرتها إلى السين » .
و « ذَرْعاً » نصبٌ على التَّمييز ، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير يذرع بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه ، اشتقاقاً من الذِّراع ، تُوسِّع فيه فوضع موضع الطَّاقة والجهد . فقيل : ضاقَ ذَرْعُه ، أي طاقته؛ قال : [ البسيط ]
2999- . . ... فاقْدِرْ بِذرْعِكَ وانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ
وقد يقعُ الذِّراعُ موقعهُ؛ قال : [ الوافر ]
3000- إذَا التَّيَّازُ ذُو العضلاتِ قُلْنَا ... إلَيْكَ إلَيْكَ ضَاقَ بِهَا ذِرَاعا
قيل : هو كنايةٌ عن ضيق الصَّدْرِ .
وقوله : « عَصِيبٌ » العَصِبُ والعَصبْصَبُ والعَصُوب : اليومُ الشَّديدُ الكثيرُ الشَّرَّ ، الملتفُّ بعضه ببعض قال : [ الوافر ]
3001- وكُنْتَ لِزازَ خَصْمِكَ لَمْ أعَرِّدْ ... وَقَدْ سَلكُوكَ في يومٍ عَصِيبِ
وعن أبي عبيدة : « سُمِّي عصيباً؛ لأنَّه يعصبُ النَّاسَ بالشَّرِّ » . كأنَّه عصب به الشَّر والبلاء أي : حشدوا والعِصَابةُ : الجماعةُ من النَّاس سُمُّوا بذلك لإحاطتهم إحاطة العصابة .
والمعنى : أنَّ لوطاً لمَّا نظر إلى حسن وجوههم ، وطيب روائحهم ، أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشةِ ، وعلم أنَّه سيحتاجُ إلى المدافعة عنهم ، فلذلك ضاق بهم ذَرْعاً أي : قَلْباً .
يقال : ضَاقَ ذَرْعُ فلان بكذا ، إذا وقع في مكروهٍ ، ولا يطيقُ الخُروج منه .
قوله : { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ } « يُهْرَعُونَ » في محلِّ نصب على الحال . والعامَّةُ على « يُهْرَعُونَ » مبنياً للمفعول . وقرأ فرقة بفتح الياء مبنيّاً للفاعل من لغة « هَرَع » والإهراعُ : الإسْراعُ .
ويقالُ : هو المَشْيُ بين الهرولة والجمز .
وقال الهرويُّ : هَرَعَ وأهرع : استحث .
وقيل : « الإهراعُ : هو الإسْرَاع مع الرّعدة » .
قيل : هذا من باب ما جاء بصيغةِ الفاعلِ على لفظِ المفعولِ ، ولا يعرف له فاعل نحو : أولع فلان ، وأرْعِدَ زَيْدٌ ، وزُهي عمرٌو من الزهو .
وقيل : لا يجوزُ ورود الفاعل على لفظ المفعول ، وهذه الأفعالُ عرف فاعلوها . فتأويلُ أولع فلانٌ أي : أولعهُ حبُّه ، وأرْعدَ زيدٌ أي : أرعده غضبه ، وزُهي عَمْرٌو أي : جعله ما لهُ زاهياً ، وأهرع خوفه ، أو حرصه .
فصل
روي أنَّه لمَّا دخلت الملائكةُ دار لوط - عليه السلام - مضت امرأته فقالت لقومه : دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن منهم وجوهاً ولا أطيب منهم رائحة ف « جَاءَهُ قَوْمُهُ » مسرعين { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } أي : من قبل مجيئهم إلى لوطٍ كانوا يأتون الرِّجال في أدبارهم ، فقال لهم لوطٌ - عليه السلام - : حين قصدوا أضيافه فظنوا أنهم غلمان { ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } يعني : بالتزويج .
قوله : { هؤلاء بَنَاتِي } جملةٌ برأسها ، و { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } جملةٌ أخرى ، ويجُوزُ أن يكون « هؤلاءِ » مبتدأ ، و « بَنَاتِي » بدلٌ أو عطفُ بيان ، وهُنَّ مبتدأ ، و « أطْهَرُ » خبره ، والجملة خبر الأول . ويجوز أن يكون « هُنَّ » فصلاً ، و « أطْهَرُ » خبر : إمَّا ل « هَؤلاءِ » ، وإمَّا ل « بَنَاتِي » والجملةُ خبر الأوَّلِ .
وقرأ الحسنُ وزيدُ بنُ عليّ ، وسعيدُ بنُ جبير ، وعيسى بن عمر ، والسُّدي « أطْهَرَ » بالنَّصْب ، وخُرِّجَتْ على الحالِ ، فقيل : « هؤلاءِ » مبتدأ ، و « بَنَاتِي هُنَّ » جملة في محلِّ خبره ، و « أطْهَرَ » حال ، والعاملُ : إمَّا التَّنبيهُ وإمَّا الإشارةُ .
وقيل : « هُنَّ » فصلٌ بين الحالِ وصاحبها ، وجعل من ذلك قولهم : « أكثر أكْلِي التفاحة هي نضيجةً » ومنعه بعضُ النحويين ، وخرج الآية على أنَّ « لَكُم » خبر « هُنَّ » فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنويِّ ، وخرَّج المثل المذكور على أنَّ « نَضِيجَةٌ » منصوبة ب « كَانَ » مضمرة .
فصل
قال قتادةُ - رحمه الله - : « المرادُ بناته لصلبه » ، وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزاً كما زوَّج النبي - صلوات الله البرّ الرحيم وسلامه عليه دائماً أبداً - ابنته من عُتْبة بن أبي لهبٍ ، وزوج ابنته الأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي ، وكانا كافرين .
وقال الحسنُ بن الفضل : عرض بناته عليهم بشرط الإسلام .
وقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير : أراد نساءهم ، وأضاف إلى نفسه؛ لأنَّ كُلَّ نبيٍّ أبو أمته وفي قراءة أبي بن كعب « { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [ الأحزاب : 6 ] وهو أب لهم » وهذا القول أولى؛ لأنَّ إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفُجَّار أمر مستعبدٌ لا يليقُ بأهل المروءةِ ، فكيف بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -؟ وأيضاً فبناته من صلبه لا تكفي للجمع العظيم ، أمَّا بناتُ أمته ففيهن كفاية للكُلِّ ، وأيضاً : فلم يكن له إلاَّ بنتان ، وإطلاق البنات على البنتين لا يجوز؛ لما ثبت أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة؛ وقال بعضهم ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق .
فإن قيل : ظاهرُ قوله : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } يقتضي كون عملهم طاهراً ، ومعلوم أنَّهُ فاسدٌ؛ ولأنه لا طهارة في نكاح الرَّجُل .
فالجوابُ : هذا جارٍ مجرى قولنا : الله أكبرُ ، والمرادُ : أنَّهُ كبيرٌ ، وكقوله : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } [ الصافات : 62 ] ولا خير فيها ، ولمَّا قال أبو سفيان يوم أحد اعْلُ هُبَلُ اعلُ هُبَلُ ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعلى وأجلُّ ولا مقاربة بين الله والصنم .
قوله : { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } قرأ أبُو عمرو ونافع بإثبات ياء الإضافة في « تُخْزُونِ » على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليها .
والضَّيفُ في الأصل مصدرٌ كقولك : رجالٌ صومٌ ، ثم أطلق على الطَّارق لميلانه إلى المُضِيف ، ولذلك يقعُ على المفردِ والمذكر وضدِّيهما بلفظٍ واحدٍ ، وقد يثنى فيقال : ضيفان ، ويجمع فيقال : أضياف وضُيُوف كأبيات وبُيُوت وضيفان كحوض وحِيضان .
والضَّيف قائمٌ هنا مقام الأضياف ، كما قام الطفل مقام الأطفال في قوله : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } [ النور : 32 ] .
فصل
قال ابنُ عباسٍ : المرادُ : خافوا الله ، ولا تفضحوني في أضيافي ، يريد : أنَّهُم إذا هجمُوا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحةُ .
وقيل : معناه لا تخجلوني فيهم؛ لأنَّ مضيف الضَّيْفِ يلحقهُ الخجلُ من كُلِّ فعل قبيحٍ يتوجه إلى الضَّيف ، يقال : خزي الرجل إذا استحيا .
ثم قال : { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } أي : صالح سديدٌ يقول الحق ، ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي . وقال عكرمةُ : رجل يقول : لا إله إلاَّ الله .
وقال ابن إسحاق : رجل يأمُرُ بالمعروفِ ، وينهى عن المنكر .
{ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ } يا لوطُ { مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } ، أي : لسن أزواجاً لنا فنستحقهنّ بالنكاح . قيل : ما لنا في بناتك من حاجةٍ ، ولا شهوةٍ . وقيل : { مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ، ونحنُ لا نجيبك إلى ذلك ، فلا يكون لنا فيهن حقٌّ .
قوله : « مِنْ حقٍّ » يجوز أن يكون مبتدأ ، والجارُّ خبره ، وأن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على نفي ، و « مِنْ » مزيدةٌ على كلا القولين .
قوله : « ما نُرِيدُ » يجُوزُ أن تكون « ما » مصدرية ، وأن تكون موصولة بمعنى « الَّذي » . والعلم عرفانٌ؛ فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي : لتعرف إرادتنا ، أو الذي نريده . ويجوزُ أن تكون « ما » استفهامية ، وهي معلقة للعلم قبلها .
والمعنى : إنك لتعلم ما نريد من إتيان الرِّجال .
قوله : « لَوْ أنَّ » جوابها محذوفٌ تقديره : لفعلتُ بكم وصنعتُ كقوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ } [ الرعد : 31 ] قوله : « أَوْ آوِي » يجوز أن يكون معطوفاً على المعنى ، تقديره : أو أنِّي آوي ، قاله أبُو البقاءِ ويجوزُ أن يكون معطوفاً على « قُوَّةً » ؛ لأنه منصوبٌ في الأصل بإضمارِ أن فلمَّا حذفت « أنْ » رفع الفعلُ كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] .
واستضعف أبو البقاءِ هذا الوجه بعدم نصبه . وقد تقدَّم جوابه . ويدلُّ على اعتبار ذلك قراءةُ شيبة ، وأبي جعفر : « أوْ آوِيَ » بالنصب كقوله : [ الطويل ]
3002- ولوْلاَ رجالٌ منْ رِزَامٍ أعِزَّةٍ ... وآلُ سُبَيْعٍ أو أسُوءكَ عَلْقَمَا
وقولها : [ الوافر ]
3003- للُبْسُ عَبَاءَةٍ وتقرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ
ويجوز أن يكون عطف هذه الجملةِ الفعلية على مثلها إن قدَّرت أنَّ « أنَّ » مرفوعة بفعل مقدرٍ بعد « لَوْ » عند المبرد ، والتقدير : ول يستقر - أو يثبت - استقرار القوة أوْ آوي ، ويكون هذان الفعلان ماضيي المعنى؛ لأنَّهما تقلب المضارع إلى المُضيِّ .
وأمَّا على رأي سيبويه في كون أنَّ « أنَّ » في محلِّ الابتداء ، فيكون هذا مستأنفاً .
وقيل : « أوْ » بمعنى « بل » وهذا عند الكوفيين .
و « بِكُمْ » متعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من « قُوَّة » ، إذ هو في الأصلِ صفةٌ للنكرة ، ولا يجوزُ أن يتعلق ب « قُوَّةً » لأنها مصدرٌ .
والرُّكْنُ بسكون الكافِ وضمها الناحية من جبلٍ وغيره ، ويجمع على أركان وأرْكُن؛ قال : [ الرجز ]
3004- وَزَحْمُ رُكْنَيْكَ شَدِيدُ الأرْكُنِ ... فصل
المعنى : لو أنَّ لي قوة البدنِ ، أو القوَّة بالأتباع ، وتسمية موجب القوة بالقوَّة جائز قال تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل } [ الأنفال : 60 ] والمراد السلاح . { أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } أي : موضع حصين ، وقيل : أنضم إلى عشيرةٍ مانعةٍ .
فإن قيل : كيف عطف الفعل على الاسم؟ .
فالجوابُ قد تقدَّم .
قال أبُو هريرة - رضي الله عنه - : « ما بعث الله بعده نبيّاً إلاَّ في منعة من عشيرته » . « وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : » يَرْحَمُ اللهُ لُوطاً لقد كَانَ يَأوي إلى رُكْنٍ شديدٍ « .
قال ابنُ عبَّاسٍ والمفسِّرُون - رضي الله عنهم - : أغلق لوطٌ بابه ، والملائكة معه في الدَّار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراءِ البابِ ، وهم يُعَالجُونَ سور الجدار ، فلما رأت الملائكةُ ما يلقى لوطٌ بسببهم : { قَالُواْ يالوط } إنَّ ركنك شديدٌ { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ } بسوءٍ ومكروه فإنا نحولُ بينهم وبين ذلك ، فافتح الباب ، ودعنا وإيَّاهم؛ ففتح الباب ودخلوا ، واستأذن جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - ربه - عزَّو جلَّ - في عقوبتهم فأذن لهُ - فقام في الصُّورة اليت يكون فيها؛ فنشر جناحيه ، وعليه وشاح من دُرٍّ منظوم ، وهو براق الثَّنايا ، أجلى الجبين ، ورأسه مثل المرجان كأنَّه الثلج بياضاً ، وقدماه إلى الخضرة ، فضرب بجناحيه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطَّريق ، فانصرفوا وهم يقولون : النَّجاة النَّجاة في بيت لوطٍ أسحرُ قوم في الأرض ، سحرونا ، وجَعلوا يقولون : يا لوطُ كما أنت حتى تصبح ، وسترى ما تلقى منَّا غداً ، فقال لوطٌ للملائكةِ : متى موعد هلاكهم؛ فقالوا : الصُّبح ، قال : أريدُ أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن ، فقالوا { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } .
قوله : « فَأَسْرِ » قرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ : ( فأسر بأهلك ) هنا وفي الحجر ، وفي الدخان ( فاسر بعبادي ) ، وقوله : ( أن اسر ) في طه والشعراء ، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط درجاً وتثبتُ مكسورة ابتداء .
والباقُون : « فأسْرِ » بهمزة القطع تَثْبتُ مفتوحةً درجاً وابتداء ، والقراءتان مأخوذتان من لغتي هذا الفعل فإنَّهُ يقال : سَرَى ، ومنه { والليل إِذَا يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] ، وأسْرَى ، ومنه : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ } [ الإسراء : 1 ] وهل هما بمعنى واحدٍ أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ فقيل : هما بمعنى واحدٍ ، وهو قولُ أبي عبيدٍ .
وقيل : أسْرَى لأولِ الليل ، وسرى لآخره ، وهو قولُ اللَّيْثِ - رحمه الله - وأمَّا « سَارَ » فمختص بالنَّهار ، وليس مقلُوباً من « سَرَى » .
فإن قيل « السُّرى » لا يكون إلاَّ بالليل ، فما الفائدةُ في قوله : { بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } قال : هو آخر الليل سحر وقال قتادةُ : بعد طائفة من اللَّيلِ .
وتقدم في سورة يونس .
ثم قال : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } في الالتفات وجهان :
أحدهما : نظر الإنسان إلى ما وراءه ، فيكونُ المرادُ أنه كان لهم في البلد أموال نهوا عن الالتفات إليها .
والثاني : أنَّ المراد بالالتفات الانصرافُ؛ كقوله تعالى : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } [ يونس : 78 ] أي : لتصرفنا والمراد نهيهم عن التَّخلُّفِ .
قوله : { إِلاَّ امرأتك } قرأ ابنُ كثير ، وأبو عمرو برفع « امْرأتُكَ » والباقون بنصبها . وفي هذه الآية كلامٌ كثيرٌ . أمَّا قراءةُ الرَّلإع ففيها وجهان :
أشهرهما - عند المعربين - أنَّه على البدل من « أحد » وهو أحسنُ من النَّصب ، لأنَّ الكلام غيرُ موجب .
وهذا الوجهُ ردَّهُ أبو عبيد بأنه يلزمُ منه أنَّهُم نُهُوا عن الالتفاتِ إلاَّ المرأة ، فإنَّها لم تُنْه عنه ، وهذا لا يجُوزُ ، ولوْ كان الكلامُ « ولا يَلْتَفِت » برفع « يَلْتَفتْ » يعني على أن تكون « لا » نافيةً ، فيكون الكلامُ خبراً عنهم بأنَّهُم لم يلتفتُوا إلاَّ امرأته فإنَّها تلتفتُ لكان الاستثناء بالبدليَّة واضحاً ، لكنَّهُ لم يقرأ برفع « يَلْتَفِتُ » أحد .
واستحسن ابنُ عيطة هذا الإلزامَ من أبي عبيدٍ .
وقال : « إنَّه واردٌ على القول باستثناءِ المرأة من » أحد « سواءً رفعت المرأة أو نصبتها » .
وهذا صحيحٌ ، فإنَّ أبا عبيد لم يُرد الرفع لخصوصِ كونه رفعاً ، بل لفسادِ المعنى ، وفسادُ المعنى دائر مع الاستثناء من « أحد » ، وأبو عبيد يخرِّجُ النصب على الاستثناء من « بِأَهْلِكَ » ولكنَّهُ يلزمُ من ذلك إبطالُ قراءة الرَّفع ، ولا سبيل إلى ذلك لتواتُرها .
وقد انفصل المبرِّدُ عن هذا الإشكال الذي أورده أبو عبيد بأنَّ النَّهْيَ في اللفظ ل « أحَد » وهو في المعنى للوط - عليه الصلاة والسلام - ، إذ التقدير : لا تدعْ منهم أحداً يلتفتُ ، كقولك لخادمك : « لا يَقُمْ أحَدٌ » النَّهْيُ ل « أحد » وهو في المعنى للخادم ، إذ المعنى : لا تدعْ أحداً يقومُ .
فآل الجوابُ إلى أنَّ المعنى لا تدعْ أحداً يلتفتُ إلاَّ امرأتك فدعها تلتفتُ ، هذا مقتضى الاستثناء كقولك : « لا تدَعْ أحَداً يقوم إلاَّ زيداً معناه : فدعهُ يقوم . وفيه نظرٌ ، إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا .
والثاني : أنَّ الرفع على الاستثناءِ المنقطع .
وقال أبو شامة : قراءةُ النَّصب أيضاً من الاستثناء المنقطع ، فالقراءتان عنده على حدِّ سواء ، ولنسرُدْ كلامه قال : » الذي يظهرُ أنَّ الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع ، لم يقصدْ به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيين عن الالتفات ، ولكن استؤنف الإخبار عنها ، فالمعنى : لكن امرأتكَ يجري لها كذا وكذا ، ويؤيدُ هذا المعنى أنَّ مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجرِ ، وليس فيها استثناءٌ ألبتَّة ، قال تعالى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } [ الحجر : 65 ] الآية .
فلم تقع العنايةُ في ذلك إلاَّ بذكر من أنجاهم الله تعالى ، فجاء شرح حالِ امرأته في سورة [ هود ] تبعاً لا مقصوداً بالإخراج ممَّا تقدَّم ، وإذا اتَّضح هذا المعنى عُلم أنَّ القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع ، وفيه النصبُ والرفعُ ، فالنَّصب لغةُ أهلِ الحجاز ، وعليه الأكثر ، والرَّفعُ لغةُ تميم ، وعليه اثنان من القراء « .
قال أبُو حيَّان : » هذا الذي طوَّل به لا تحقيق فيه ، فإنَّه إذا لم يقصد إخراجها من المأمُور بالإسراء بهم ، ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ ، وجعل اسثناءً منقطعاً ، كان من المنقطع الذي لمْ يتوجَّهْ عليه العاملُ بحالٍ ، وهذا النَّوعُ يجبُ فيه النَّصْبُ على كلتا اللغتين وإنَّما تكون اللغتان فيما جاز توُّهُ العامل عليهن وفي كلا النوعين يكون ما بعد « إلاَّ » من غير الجنس المستثنى ، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنَّهُ يتوجَّه عليه العاملُ وهو أنه قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ؛ فكان يجبُ فيه إذ ذاك النَّصْبُ قولاً واحداً .
قال شهابُ الدِّين : « أمَّا قوله : » إنَّه لم يتوجَّه عليه العامل « ليس بمسلَّم ، بل يتوجَّهُ عليه في الجملة ، والذي قاله النُّاة ممَّا لم يتوجَّه عليه العاملُ من حيثُ المعنى نحو : ما زاد إلاَّ ما نقص ، وما نفع إلاَّ ما ضرَّ ، وهذا ليس من ذاك ، فكيف يعترض به على أبي شامة؟ » .
وأمَّا النصب ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ مستثنى من « بأهلكَ » ، واستشكلُوا عليه إشكالاً من حيث المعنى : وهو أنه يلزمُ ألاَّ يكون سرى بها ، لكن الفرض أنه سرى بها يدلُّ عليه أنَّها التفتت ، ولو لم تكن معهم لما حسن الإخبار عنها بالالتفات ، فالالتفاتُ يدل على كونها سرت معهم قطعاً .
وقد أجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها ، ولكن لمَّا سرى هو وبنتاه تبعتهم فالتفتت ، ويؤيِّد أنَّه استثناء من الأهل ما قرأ به عبدالله وسقط من مصحفه ، « فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقطْعٍ من اللَّيْلِ إلاَّ امرأتك » ولم يذكر قوله { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } .
والثاني : أنَّهُ مستثنى منْ « أحد » وإن كان الأحسنُ الرّفع إلاَّ أنَّهُ جاء كقراءة ابن عامرٍ : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] ، بالنَّصْبِ مع تقدُّم النفي الصَّريح .
وهناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن هنا .
والثالث : أنه مستثنى منقطعٌ على ما تقدَّم عن أبي شامة .
وقال الزمخشري : « وفي إخراجها مع أهله روايتان ، روي أنَّه أخرجها معهم ، وأمر أن لا يلتفت منهم أحدٌ إلاَّ هي ، فلمَّا سمعتْ هدَّة العذاب التفتت وقالت : يا قوماه ، فأدركها حجرٌ فقتلها ، وروي أنه أمر بأن يخلِّفها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها ، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين » .
قال أبُو حيَّان : « وهذا وهمٌ فاحشٌ ، إذْ بَنَى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنَّه سرى بها أو لم يسر بها وهذا تكاذبٌ في الإخبار ، يستحيلُ أن تكون القراءتان - وهما من كلام الله تعالى - يترتبان على التَّكاذُبِ » .
قال شهابُ الدِّين : « وحاش لله أن تترتب القراءتان على التَّكاذُبِ ، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ ، الفرض أنَّهُ قد جاء القولان في التفسير ، ولا يلزم من ذلك التَّكاذبُ؛ لأنَّ من قال إنَّه سرى بها يعني أنَّها سرتْ هي بنفسها مصاحبةً لهم في أوائل الأمر ، ثمَّ أخذها العذابُ فانقطع سُراها ، ومن قال إنَّه لم يسر بها ، أي : لَمْ يأمرها ، ولم يأخذها ، وأنَّهُ لم يدُم سراها معهم بل انقطع فصحَّ أن يقال : إنَّهُ سرى بها ولم يَسْرِ بها ، وقد أجاب النَّاسُ بهذا ، وهو حسنٌ » .
وقال أبو شامة : « ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبَّه عليه اختلاف القراءتين فكأنَّهث قيل : فأسر بأهلك إلاَّ امرأتك ، وكذا روى أبو عبيد وغيره أنها في مصحف عبد الله هكذا ، وليس فيها : » ولا يلتفتْ منكمْ أحَدٌ « فهذا دليلٌ على استثنائها من السُّرَى بهم ثم كأنه سبحانه وتعالى قال : فإن خرجتْ معكم وتَبعتْكُم - غير أن تكون أنت سريتَ بها - فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرها ، فإنَّها ستلتفت فيصيبها ما أصاب قومها ، فكانت قراءة النَّصب دالَّة على المعنى المتقدم ، وقراءةُ الرَّفعِ دالَّةٌ على المعنى المتأخر ، ومجموعهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح » .
وهو كلامٌ حسنٌ شاهدٌ لما ذكرته .
قوله : { إِنَّهُ مُصِيبُهَا } الضَّميرُ ضمير الشَّأنِ ، « مُصِيبُهَا » خبرٌ مقدَّم ، و « مَا أصَابَهُمْ » مبتدأ مؤخَّر وهو موصولٌ بمعنى « الذي » ، والجملة خبرُ « إنَّ » ؛ لأنَّ ضمير الشَّأنِ يُفسَّر بجملةٍ مصرَّحٍ بجزأيها .
وأعرب أبو حيان : « مُصِيبُهَا » مبتدأ ، و « مَا أصَابهُمْ » الخبر وفيه نظرٌ من حيثُ الصَّناعة : فإنَّ الموصول معرفة ، فينبغي أن يكون المبتدأ : « مُصِيبُهَا » نكرةً؛ لأنه عاملٌ تقديراً فإضافتهُ غير محضةٍ ، ومن حيث المعنى : إنَّ المراد الإخبار عن الذي أصابهم أنه مُصيبها من غير عكس ويجوز عند الكوفيين أن يكون « مُصِيبُهَا » مبتدأ ، و « ما » الموصولةُ فاعلٌ لأنَّهم يجيزون أن يفسَّر ضميرُ الشَّأن بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو : « إنَّهُ قائمٌ أبواك » .
قوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ } أي : موعد إهلاكهم . وقرأ عيسى بن عمر « الصُّبُح » بضمتين فقيل : لغتان ، وقيل : بل هي إتباعٌ ، وقد تقدَّم البحثُ في ذلك [ الأنعام : 96 ] .
قوله : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } قيل : المراد حقيقتهُ ، وقيل : المرادُ بالأمر العذابُ ، قال بعضهم : لا يمكن حملهُ هنا على العذاب؛ لأن قوله : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا } ، فالجعل هو العذاب فكان الأمر شرطاً ، والعذاب الجزاءُ ، والشرط غير الجزاء ، فالأمر غير العذاب ، فدلَّ على أن الأمر هو ضدُّ النهي؛ ويدل على ذلك قول الملائكة : { إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } [ هود : 70 ] فدل على أنَّهم أمروا بالذهاب إلى قوم لوط بإيصال العذاب إليهم .
فإن قيل : لو كان كذلك ، لقال : « فلما جاء أمرنا ، جعلوا عاليها سافلها » ، لأن الفعل صدر عن المأمور .
فالجواب : أن فعل العبد فعل الله تعالى ، وأيضاً : فالذي وقع إنَّما وقع بأمْر الله ، وبأقداره ، فلا يمتنع إضافته إلى الله تعالى؛ فكما يحسُنُ إضافتهُ إلى المباشرين ، يحسنُ إضافته إلى المسَبِّب .
قوله : { عَالِيَهَا سَافِلَهَا } مفعولا الجعل الذي بمعنى التَّصْيير ، و « سِجِّيلٍ » قيل : هو في الأصل مركَّب من « سنك وكل » وهو بالفارسيَّة حجر وطين فعُرِّب ، وغُيِّرت حروفهُ ، كما عرَّبُوا الدِّيباج والدِّ ] وان والاستبرق . وقيل : « سِجِّيل » اسمٌ للسَّماء ، وهو ضعيفٌ أو غلطٌ ، لوصفه ب « مَنْضُودٍ » . وقيل : من أسْجَلَ ، أي : أرسل فيكون « فِعِّيلاً » ، وقيل : هو من التسجيل ، والمعنى : أنه ممَّا كتب الله وأسجل أن يُعذَّب به قوم لوط ، وينصرُ الأول تفسيرُ ابن عبَّاسٍ أنَّهُ حجرٌ وطين كالآجر المطبوخ وعن أبي عبيدة هو الحجر الصُّلب . وقيل : « سِجِّيل » موضع الحجارةِ ، وهي جبالٌ مخصوصة . قال تعالى : { مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] .
قال الحسن : كان أصل الحجر هو الطين فشددت .
و « مَنضُودٍ » صفةٌ ل « سِجِّيلٍ » . والنَّضد : جعلُ بعضهُ فوق بعضٍ ، ومنه { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } [ الواقعة : 29 ] أي : متراكب ، والمراد وصفُ الحجارة بالكثرة .
« مُسَوَّمَةً » نعتٌ ل « حِجَارة » ، و حينئذ يلزمُ تقدُّمُ الوصف غير الصَّريح على الصَّريح لأنَّ « مِنْ سِجِّيل » صفةٌ ل « حِجَارة » ، والأولى أن يجعل حالاً من « حِجَارة » ، وسوَّغ مجيئها من النكرة تخصُّص النكرة بالوصف .
والتَّسْويم : العلامةُ . قيل : عُلِّم على كُلِّ حجرٍ اسمُ من يرمي به وتقدَّم اشتقاقُه في آل عمران [ 14 ] في قوله : { والخيل المسومة } وقال الحسنُ والسديُّ : كان عليها أمثال الخواتيم . قال أبو صالحٍ : رأيتُ منها عند أم هانىء ، وهي حجارة فيها خطوط حمرٌ على هيئة الجَزْع . وقال ابنُ جريجٍ : كان عليها سيماء لا تشبه حجارة الأرض .
و « عِنْدَ » إمَّا منصوبٌ ب « مُسَوَّمَةً » ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ ل « مُسَوَّمَةً » .
وقله : « ومَا هِيَ » الظَّاهرُ عودُ هذا الضمير على القرى المهلكة . وقيل : يعودُ على الحِجَارة وهي أقربُ مذكور . وقيل : يعودُ على العُقوبةِ المفهومة من السِّياقِ ، ولَمْ يُؤنِّثْ « بِبَعيدٍ » إمَّا لأنَّهُ في الأصل نعتٌ لمكانٍ محذوف تقديره : وما هي بمكانٍ بعيدٍ بل هو قريبٌ ، والمرادُ به السَّماء أو القُرَى المهلكة ، أي : وما تلك القرى المهلكة من كفَّار مكة - ببعيدٍ؛ لأنَّ تلك القرى في الشَّام ، وهي قريب من مكَّة ، وإمَّا لأنَّ العقوبة والعقاب واحدٌ ، وإمَّا لتأويل الحجارة بعذابٍ أو بشيءٍ بعيدٍ ، والمراد بالآية كفار مكة ، أي أنه تعالى يرميهم بهذه الحجارة .
قال أنس بن مالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عن هذا فقال : « مَا مِنْ ظالمٍ إلاَّ وهو بمعرض حجرِ يسقطُ عليه من ساعةٍ إلى ساعةٍ » .
وقال قتادةُ وعكرمةُ : يعنى ظالمي هذه الأمة ، والله ما أجار اللهُ منها ظالماً . روي : أنَّ الحجر اتَّبع شُذَّاذهم ومسافريهم أين كانوا في البلادِ ، ودخل رجلٌ منهم الحرم ، فكان الحجرُ معلقاً بين السَّماء والأرض أربعين يوماً حتى خرج؛ فأصابه فأهلكه .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
قوله تعالى : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } القصة .
أي : وأرسلنا إلى ولد مدين وهو اسم ابن إبراهيم - عليه السلام - ، ثم صار اسماً للقبيلةِ .
وقال كثير من المفسِّرين : مَدْيَنُ اسم مدينة ، وعلى هذا فتقديره : وأرسلنا إلى أهل مدين ، فحذف « أهل » ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] أي : أهل القرية .
واعلم أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التَّوحيد ، ولذلك قال شعيبٌ - عليه الصلاة والسلام - : { ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } ثم بعد الدَّعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم ، فالأهم ، ولما كان المتعادُ في أهل مدينَ البَخْسَ في المكيالِ والميزان ، دعاهم إلى تركِ هذه العادة ، فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } .
قوله : « وَلاَ تَنْقُصُوا » : « نَقَصَ » يتعدَّى لاثنين ، إلى أولهما بنفسه ، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ؛ وقد يحذفُ؛ تقولُ : نَقَصْتُ زيْداً من حقِّه ، وحقَّهُ ، وهو هنا كذلك ، إذ المرادُ : ولا تنْقصُوا النَّاس من المكيالِ ، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى .
والمعنى : لا تُقَلِّلُوا وتُطَفِّفُوا ويجُوز أن يكون « المِكْيَال » مفعولاً أول ، والثاني محذوفٌ ، وفي ذلك مبالغة ، والتقدير : ولا تنقصُوا المكيال والميزان حقَّهما الذي وجب لهما ، وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما .
قوله تعالى : { إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } قال ابنُ عبَّاسٍ : موسرين في نعمة . وقال مجاهدٌ : كانوا في خصب وسعةٍ؛ فحذَّرهم زوال النعمة ، وغلاء الأسعار ، وحلول النقمة إنْ لم يتُوبُوا .
{ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } يحيطُ بكم فيهلككم .
قال ابنُ عبَّاسٍ : أخافُ : أي : أعلم .
وقال غيره : المراد الخوف؛ لأنه يجوز أن يتركُوا ذلك العمل خشية حُصُولِ العذابِ .
قوله : « محيطٍ » صفة لليوم ، ووصف به من قولهم : أحاط به العدوُّ ، وقوله : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [ الكهف : 42 ] .
قال الزمخشري : إنَّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغُ من وصفِ العذاب بها قال : لأنَّ اليوم زمانٌ يشتمل على الحوادث ، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمُعَذَّبِ ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه .
وزعم قومٌ : أنه جُرَّ على الجوار؛ لأنَّهُ في المعنى صفةٌ للعذاب ، والأصلُ : عذاب يوم مُحيطاً وقال آخرون : التقدير : عذابُ يومٍ محيطٍ عذابُه . قال أبو البقاءِ : وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطاً قد جرى على غير من هو له ، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف .
واختلفوا في المراد بهذا العذاب : فقيل : عذاب يوم القيامةِ . وقيل : عذاب الاستئصال في الدنيا؛ كما هُو في حق سائر الأمم .
والأقربُ دخولُ كل عذاب فيه ، وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدَّائرة بما فيها .
قوله : { وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط } أي : بالعدل .
فإن قيل : وقع التَّكرار ههنا من ثلاثة أوجه ، فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } ثم قال { أَوْفُواْ المكيال والميزان } ، وهو عين الأول ، ثم قال : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } ، وهو عين الأوَّل ، فما فائدة التَّكرارِ؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : أن القوم كانوا مُصرِّين على ذلك العمل ، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد ، والتكرارُ يفيد التَّأكيد وشدّة العناية والاهتمام .
الثاني : قوله : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } نهي عن التنقيص ، وقوله : { أَوْفُواْ المكيال والميزان } أمر بإيفاء العدل ، والنَّهْي عن الشيء أمر بضده ، وليس لقائل أن يقول النَّهي ضد الأمر ، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه ، لأنَّا نقول : الجوابُ من وجهين :
أحدهما : أنَّهُ تعالى جمع بين الأمر بالشَّيء ، وبين النهي عن ضده للمبالغة ، كما تقولُ : صل قرابتك ، ولا تقطعهم؛ فدلَّ هذا الجمعُ على غاية التَّأكيد .
وثانيهما : ألا نُسَلم أنَّ الأمر كما ذكرتم؛ لأنَّهُ يجُوزُ أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصلِ المعاملة ، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقِّ ، ليدلَّ ذلك على أنَّهُ تعالى لم يمنع من المعاملات ، ولم ينه عن المبايعات ، وإنَّما منع في الآية الأولى من التَّنقِيصِ ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء ، وأما قوله ثالثاً : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } فليس بتكرير لأنَّهُ تعالى خصَّ المنع في الآية الأولى بالنُّقصان في المكيالِ والميزان . ثم إنَّهُ تعالى عمَّ الحكم في جميع الأشياء ، فدل ذلك على أنها غير مكررة ، بل في كل واحدة فائدة زائدة .
الوجه الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان } وفي الثانية قال : { أَوْفُواْ المكيال والميزان } والإيفاءُ : عبارة عن الإتيان به على الكمالِ والتَّمام ، ولا يحصلُ ذلك إلاَّ إذا أعطى قدراً زائداً على الحق ، ولهذا المعنى قال الفقهاءُ : إنَّهُ تعالَى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصلُ إلاَّ عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرَّأس .
فالحاصلُ : أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النُّقصان ، وفي الثانية أمَرَ بإعطاء شيءٍ مِنْ الزيادة ، فكأنَّه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً ليحصل له تلك الزيادة ، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج مالهُ من غير العوض .
وقوله : « بالقسط » يعني : بالعدلِ ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقِّ بحيث يحصلُ معه اليقين بالخُروجِ عن العهدةِ ، فالأمرُ بإيتاء الزِّيادةِ على ذلك غيرُ حاصل .
والبخس : هو النَّقْضُ .
ثم قال : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } .
فإن قيل : العثوُّ : الفسادُ التَّامُّ ، فقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } جار مجرى قولك : ولا تفسدُوا في الأرض مفسدين .
فالجوابُ من وجوه :
الأول : أن من سعى في إيصال الضَّرر إلى الغير ، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } ولا تسعوا في إفسادِ مصالح الغير ، فإنَّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم .
والثاني : أن يكون المرادُ من قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } مصالح الأديان والشرائع .
ثم قال : { بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } العامَّة على تشديد ياء « بقيَّة » . وقرأ إسماعيلُ بن جعفر - من أهل المدينة - بتخفيفها قال ابنُ عطيَّة : « هي لغةٌ » .
وهذا لا ينبغي أن يقال ، بل يقال : إنْ لم يقصد الدَّلالةُ على المبالغة جيء بها مخففة وذلك أنَّ « فِعَل » بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصِّفة منه : « فَعِل » بكسر العين نحو : سَجيَت المرأة فهي سجيَة فإن قصدت المبالغة قيل : سجيَّة ، لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك « بقيَّة وبقِية » أي : بالتَّشديد والتَّخفيف .
قال المفسِّرون « بقيَّةُ اللهِ » هي تقواه . قال ابنُ عباسٍ : ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيلِ والوزن خيرٌ ممَّا تأخذونه بالتطفيف . وقال مجاهدٌ : « بقيَّةُ اللهِ » يعنى طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل؛ لأنَّ منفعة الطَّاعة تبقى أبداص .
قوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قال ابنُ عطيَّة - رحمه الله - : « وجوابُ هذا الشَّرط متقدِّمٌ » يعنى : على مذهب من يراهُ لا على مذهب جمهور البصريِّين .
وإنَّما شرط الإيمان لكونه خيراً لهُمْ؛ لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرِّين بالثَّواب والعقابِ عرفوا أنَّ السَّعي في تحصيل الثَّواب وفي الحذر من العقابِ خير لهم من السَّعي في تحصيل ذلك القليل .
والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فدلَّ ظاهرُ الآية على أنَّ من لم يحترز عن هذا التطفيف لا يكون مُؤمناً .
قوله : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : إنِّي نصحتكم ، وأرشدتكم إلى الخير ، وما عليّ منعكم من هذا الفعل القبيح . وقيل : لمَّا قال لهم : إنَّ البخس والتطفيف يزيل النعم عنكم ، وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة؛ قالوا له : { أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } قرأ حمزةُ والكسائيُّ وحفص عن عاصم ، « أصلاتُكَ » بغير واو . والباقون بالواو على الجمع .
قوله : { أَوْ أَن نَّفْعَلَ } العامَّةُ على نون الجماعةِ ، أو التعظيم في « نَفْعلُ » و « نشاءُ » .
وقرأ زيد بنُ عليّ ، وابنُ أبي عبلة والضحاك بنُ قيس بتاءِ الخطاب فيهما . وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء ، فمن قرأ بالنون فيهما عطفه على مفعول « نَتْرُكَ » وهو « ما » الموصولةُ ، والتقدير : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبدُ آباؤنا ، أو أنْ نتركَ أن نفعل في أموالنا ما نشاءُ ، وهو بخسُ الكيل والوزن المقدَّم ذكرهما . و « أوْ » للتنويع أو بمعنى الواو ، قولان ، ولا يجوز عطفه على مفعول « تأمُركَ » ؛ لأنَّ المعنى يتغيَّرُ ، إذ يصير التقديرُ : أصلواتُك تأمُرك أن تفعل في أموالنا .
ومن قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكون معطوفاً على مفعول « تأمُركَ » ، وأن يكون معطوفاً على مفعول « نترك » ، والتقديرُ : أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاءُ أنت ، أو أن نترك ما يعبدُ آباؤنا ، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت .
ومن قرأ بالنُّون في الأوَّلِ وبالتَّاءِ في الثاني كان : « أن تفعل » معطوفاً على مفعول : « تأمُرُكَ » فقد صار ذلك ثلاثة أقسام ، قسمٍ يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول : « نَتْرُكَ » وهي قراءةُ النُّونِ فيهما ، وقسم يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول « تأمُرك » ، وهي قراءةُ النُّون في « نفعلُ » والتاء في « تشاء » ، وقسمٍ يجوزُ فيه الأمْران وهي قراءةُ التاء فيهما .
والظَّاهرُ من حيثُ المعنى في قراءة التَّاء فيهما ، أو في « تشاء » أنَّ المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يامرهم بهما .
وقال الزمخشريُّ : « المعنى : تأمرك بتكليف أن نترك ، فحذف المضاف لأنَّ الإنسان لا يؤمرُ بفعل غيره » .
واعلم أنَّ قوله : { أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد . وقوله : { أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس .
فصل
قيل : المرادُ بالصلاة هنا الدِّين والإيمان؛ لأنَّ الصلاة أظهر شعائر الدين؛ فجعلوا ذكر الصَّلاة كناية عن الدِّين . وقيل : أصل الصلاة الاتِّباعُ ، ومنه أخذ المصلِّي من خيل المسابقة ، وهو الذي يتلو السابق؛ لأنَّ رأسه يكون على صلوي السَّباق ، وهما ناحيتا الفخذين ، والمعنى : دينُك يأمرك بذلك . وقيل : المرادُ هذه الأفعال المخصوصة ، روي أنَّ شُعَيْباً كان كثير الصَّلاةِ ، وكان قومه إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكُون ، فقصدوا بقولهم : أصلاتُكَ تأمرك السخرية والاستهزاء .
{ إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } .
قال ابن عباس : أرادوا السَّفيه الغاوي؛ لأنَّ العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون : للديغ سليم ، وللفلاة مفازة .
وقيل : قالوه على وجهِ الاستهزاء ، كما يقال للبخيل الخسيس « لو رآكَ حاتمٌ ، لسجد لك » ، وقيل : الحليم ، الرشيد بزعمك .
وقيل : على الصِّحَّة أي : إنَّكَ يا شعيبُ فينا حليم رشيد لا يحصل بك شقّ عصا قومك ، ومخالفة دينهم ، وهذا كما قال قومُ صالح : { قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا } [ هود : 62 ] .
قوله : « أَرَأَيْتُمْ » قد تقدَّم مراراً [ يونس : 50 ] . وقال الزمخشريُّ هنا : فإنْ قلت : أين جوابُ « ارأيْتُم » وما له لم يثبتْ كما ثبت في قصَّة نوح ، وصالح؟ قلتُ جوابهُ محذوفٌ ، وإنَّما لم يثبتْ؛ لأنَّ إثباته في القصتين دلَّ على مكانه ، معنى الكلام ينادي عليه ، والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين من ربِّي ونبيّاً على الحقيقة ، أيصحُّ أن لا آمركم بترك عبادةِ الأوثان والكفِّ عن المعاصي ، والأنبياءُ لا يبعثُون إلاَّ لذلك؟ .
قال أبُو حيَّان : وتسميةُ هذا جواباً ل « أرَأيتُمْ » ليس بالمصطلح ، بل هذه الجملةُ التي قدَّرها في موضع المفعول الثّضاني ل « أرَأَيْتُم » لأنَّ « أرَأَيْتُمْ » إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّت إلى مفعولين ، والغالبُ في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقدُ منها ، ومن المفعول الأوَّل في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العربِ : « أرأيتك زيداً ما صنع » وقال الحوفيُّ : « وجوابُ الشَّرط محذوفٌ لدلالة الكلام على تقديره : أأعدلُ عمَّا أنا عليه » .
وقال ابنُ عطيَّة : « وجوابُ الشَّرط الذي في قوله : » إنْ كُنتُ « محذوفٌ تقديره أضلُّ كما ضللتُمْ ، أو أترك تبليغ الرسالة ، ونحو هذا ممَّا يليقُ بهذه المُحاجَّة » .
قال أبُو حيان : وليس قوله : « أضَلَّ » جواباً للشَّرط؛ لأنَّه إن كان مثبتاً فلا يمكنُ أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشَّرط ، وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني ل « أرأيْتُمْ » وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ يدلُّ عليه الجملة السَّابقة مع متعلَّقها .
فصل
المعنى { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } بصيرة وبيان من ربِّي { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } حلالاً .
قيل : كان شعيب كثير المالِ الحلال .
وقيل : الرزق الحسنُ : العلم والمعرفة أي : لما أتاني جميع هذه السَّعادات ، فهل ينبغي لي مع هذه النعم أن أخُونَ في وحيه ، أو أنْ أخالفَ أمره ونهيه ، وإذا كان العزّ من الله ، والإذلال من الله ، وذلك الرزقُ إنَّما حصل من عند الله فأنا لا أبالي بمخالفتكم ، ولا أفرحُ بموافقتكم ، وإنَّما أكون على تقرير بدين الله وإيضاح شرائعه .
قوله : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ } قال الزمخشريُّ : خالفني فلان إلى كذا : إذا قصده وأنت مُولِّ عنه ، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده ، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقولُ : « خالفَنِي إلى الماءِ » ، يريد أنه ذاهب إليه وارداً ، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً ، ومنه قوله تعالى : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتُكم عنها لأستبدَّ بها دُونَكُم .
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ معنى حسنٌ لطيف ، ولم يتعرَّض لإعراب مفراداته؛ لأن بفهم المعنى يفهم الإعراب .
فيجوزُ أن يكون قوله : « أنْ أخَالِفَكُمْ » في موضع مفعول ب « أُرِيدُ » ، أي : وما أريد مُخالفتكُم ، ويكون « فاعل » بمعنى « فعل » نحو : جاوتُ الشَّيء وجُزْته ، أي : وما أريد أن أخالفكم ، أي : أكون خلفاً منكم .
وقوله : { إلى مَآ أَنْهَاكُمْ } يتعلَّق ب « أخَالِفَكُمْ » ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال ، أي : مائلاً إلى ما أنهاكم عنه ، ولذلك قدَّر بعضهم محذوفاً يتعلَّقُ به هذا الجارُّ تقديره : وأميل إلى أن أخالفكم ، ويجُوزُ أن يكون « أنْ أخالِفكثمُ » مفعولاً من أجله ، وتتعلق « إلى » بقوله « أريدُ » بمعنى : وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه .
ولذلك قال الزجاج : وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه .
ويجوزُ أن يرادَ بأن أخالفكم معناه من المخالفةِ ، وتكون في موضع المفعول به ب « أُرِيد » ، ويقدَّر مائلاً إلى .
والمعنى : وما أريدُ فيما آمركم به وأنهاكم عنه : { إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت } .
قوله : { مَا استطعت } يجوزُ ما « مَا » هذه الوجوه :
أحدهما : أن تكون مصدرية ظرفية أي : مدة استطاعتي .
والثاني : أن تكون « ما » موصولة بمعنى « الذي » بدلاً من « الإصلاح » والتقديرُ : إن أريدُ إلاَّ المقدارَ الذي أستطيعه من الصَّلاح .
الثالث : أن يكون على حذفِ مضاف ، أي : إلاَّ الإصلاحَ إصلاحَ ما استطعتُ ، وهو أيضاً بدلٌ .
الرابع : أنَّها مفعول بها بالمصدر المعرَّف ، أي : إنَّ أريدُ إلاَّ أن أصلح ما استطعت إصلاحُه؛ كقوله : [ المتقارب ]
3006- ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعداءَهُ ... يَخَالُ الفِرَارَ يُراخِي الأجَلْ
ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشريُّ ، إلاَّ أنَّ إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين ، ممنوعٌ إعمالهُ في المفعول به عند الكوفيين ، وتقدَّم الجارَّان في « عليهِ » و « إليهِ » للاختصاص أي : عليه لا على غيره ، وإليه لا إلى غيره .
فصل
اعمل أنَّ القوم كانوا قد أقرُّوا إليه بأنَّهُ حليمٌ رشيدٌ؛ لأنَّهُ كان مشهوراً بهذه الصفة ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم : إنَّكُم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلاَّ في الإصلاح وإزالة الفسادِ ، فلمَّا أمرتكم بالتَّوحيدِ وترك إيذاء النَّاس؛ فاعلموا أنَّهُ دينٌ حق وأنه لي غرضي منه إيقاع الخصومة ، وإثارة الفتنةِ ، فأنتُم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق ، ولا أسْعَى إلاَّ إلى ما يوجب الصلاح بقدر جهدي وطاقتي ، وذلك هو الإبلاغ والإنذار وأما الإجبارُ على الطَّاعة فلا أقدرُ عليه ، ثمَّ أكَّد ذلك بقوله : { وَمَا توفيقيا إِلاَّ بالله } والتوفيق تسيهل سبيل الخير « عليْهِ توكَّلْتُ » اعتدمت « وإلَيْهِ أنيبُ » أرجع فيما ينزله علي من النَّوائِبِ ، وقيل : في المَعَادِ .
قوله : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } العامَّةُ على فتح ياءِ المضارعة من « جرم » ثلاثيًّا . وقرأ الأعمشُ وابنُ وثابٍ بضمها من « أجرم » وقد تقدَّم [ هود 22 ] أنَّ « جَرَمَ » يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل : كسب ، فيقال : جَرَمَ زيدٌ مالاً نحو : كَسَبَهُ ، وجرمْتُه ذَنْباً ، أي : كسبته إياه فهو مثلُ كسب؛ وأنشد الزَّمشري على تعدِّية لاثنين قوله : [ الكامل ]
3007- ولَقَدْ طَعَنْتُ أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزارضةُ بعدهَا أنْ يَغْضَبُوا
فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول .
والثاني : هو « أنْ يصيبكُم » أي : لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابة العذاب وقد تقدًَّم أنَّ جَرَمَ وأجْرم بمعنى ، أو بينهما فرق .
ونسب الزمخشريُّ ضمَّ الياءِ من أجرم لابن كثير .
والعامَّةُ أيضاً على ضمِّ لام « مِثْلُ » رفعاً على أنَّه فاعل « يُصِيبَكُم » وقرأ مجاهدٌ والجحدريُّ بفتحها وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّها فتحةُ بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة ، وإنَّما بُني على الفتح؛ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله تعالى :
{ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] وكقوله : [ البسيط ]
3008- لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ ... حضمَامَةٌ في غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ
وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدة في الأنعام [ الأنعام : 94 ] .
والثاني : أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة لإعراب ، والفاعل على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام ، أي : يصيبكم العذاب إصابة مثل ما أصاب .
فصل
والمعنى : لا يكسبنكم « شِقَاقِي » خلافي : « أنْ يُصِيبكم » عاب الاستئصال في الدنيا « مِثْلُ ما أصَابَ قوم نُوح » من الغرقِ ، وقوم هود من الريح ، وقوم صالح من الصَّيْحة والرَّجْفةِ ، وقوم لوط من الخسْفِ .
قوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } أتى ب « بَعِيد » مفراداً وإن كان خبراً عن جمع لأحد أوجهٍ : إمَّا لحذف مضاف تقديره : وما إهلاك قوم ، وإمَّا باعتبار زمانٍ ، أي : بزمانً بعيد ، فإنَّ إهلاك قوم لُوط أقرب الإهلاكات التي عرفها النَّاس في زمان شعيب ، وإمَّا باعتبار مكان ، أي : بمكان بعيد؛ لأنَّ بلاد قوم لوطٍ قريبة من مدين ، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرهمان أي : بشيءٍ بعيد ، كذا قدّره الزمخشريُّ ، وتبعه أبو حيَّان ، وفيه إشكالٌ من حيثُ إنَّ تقديرهُ بزمانٍ يلزم منه الإخبارُ بالزَمان عن الجُثَّةِ . وقال الزمخشريُّ أيضاً ويجوز أن يُسَوِّي في « قَرِيب » و « بَعِيد » و « قَلِيل » و « كَثير » بين المذكِّر والمؤنَّث لورودها على زنةِ المصادر التي هي كالصَّهيل ، والنَّهيق ونحوهما .
ثم قال : { واستغفروا رَبَّكُمْ } أي : من عبادة الأوثان ، ثُمَّ تُوبُوا إلى الله - عزَّ وجلَّ من البَخْس والنُّقصان { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ } بأوليائه : « وَدُودٌ » الوَدُود : بناءُ مبالغة من ودَّ الشيء يوَدُّدُ وُدًّا ، وودَاداً ، ووِدَادَةً ووَدَادَةً أي : أحبًّه وآثره .
والمشهورُ « وَدِدْت » بكسر العين ، وسمع الكسائي « وَدَدْت » بفتحها ، والوَدُودُ بمعنى فاعل أي : يَوَدّ عباده ويرحمهم .
وقيل : بمعنى مفعولٍ بمعنى أنَّ عبادهُ يحبُّونه ويُوادُّون ألياءهُ ، فهم بمنزلة « المُوادِّ » مجازاً .
قال ابنُ الأنباري : الوَدُودُ- في أسماءِ الله تعالى- المُحِبُّ لعبادِهِ ، من قولهم : وَدِدْتُ الرَّجُلَ أوَدُّهُ .
قال الأزهريُّ - في « شرح كتاب أسماء الله الحسنى » - : ويجوزُ أن يكون « وَدُوداً فعُولاً بمعنى مفعول ، أي : إنَّ عبادهُ الصَّالحين يودونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق .
قال ابن الخطيب : واعلم أنَّ هذا التَّرتيب الذي رعاه شعيبٌ في ذكره الوجوه الخمسة ترتيبٌ لطيفٌ .
لأنَّهُ ذكر أولاً أنَّ ظهور البيِّنةِ له وكثرة الإنعام عليه في الظَّاهر والباطن يمنعه من الخيانة في وحي الله ، ويصده عن التَّهاون في تبليغه .
ثم بيًَّن ثانياً أنَه مواظب على العمل بهذه الدَّعوة ، ولو كانت باطلةً لما اشتغل هو بها مع اعترافهم بكون حَلِيماً رشيداً .
ثم بيَّن صحته بطريق آخر ، وهو أنَّه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلح ، والصَّلاح وإخفاء موجبات الفتنِ ، فلو كانت هذه الجعوة باطلة لما اشتغل بها ، ثمَّ لمَّا بيَّن صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال : لا تحملكم عداوتي على مذهبٍ ودين تقعُون بسببه في العذاب الشَّديد من الله ، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين ، ثم إنََّه لمَّا صحَّح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله : { ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } ثم بيَّن لهم أنَّ سبق الكفر والعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم ن الإيمان والطَّاعة؛ لأنَّه تعالى رحيمٌ ودودٌ يقبلُ الإيمان من الكافر والفاسق؛ لأنَّ رحمته بعباده وحبه لهم يوجبُ ذلك ، وهذا تقرير في غاية الكمال .
قوله : { قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } .
قيل : المعنى : ما نفقه كثيراً ممَّا تقولُ؛ لأنَّهُم كانوا لايلقون إليه أفهامهم لشدَّة نفورهم من كلامه ، كقوله : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [ الأنعام : 25 ] وقيل : إنَّهم فهموه ، ولكنَّهم ما أقامُوا له وزناً ، فذكروا هذا الكلام على سبيل الاستهانة ، كقول الرَّجل لمنْ لم يعْبَأ بحديثه : ما أدري ما تقولُ .
وقيل : ما ندري حصة الدَّليل الذي ذكرته على صحَّةِ التوحيد والنُّبوةِ والبعث ، وما جيبُ من ترك الظُّلمِ والسرقة .
فصل
استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الفقه : اسمٌ لعلم مخصوص ، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه؛ لأنه أضاف الفقه إلى القولِ ، ثم صار اسماً لنوع مُعيَّن من علوم الدين ، وقيل : إنَّه اسم لملطلق الفهم ، يقال : اوتي فلانٌ فقهاً في الدِّين ، أي : فَهْماً . قال عليه الصلاة والسلام : « يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ » أي : يفهمه تأويله .
ثم قال : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } قيل : الضَّعيفُ الذي تعذر عليه منعُ القوم عن نفسه .
وقيل : هو الأعمى بلغة حمير وهذا ضعيفٌ؛ لنه ترك للظاهر بغير دليل ، وأيضاً فقوله : « فِينَا » يُبءطل هه الوجوه؛ لأنَّهم لو قالوا : إنَّا لنراك أعْمَى فِينَا كمان فاسداً؛ لأنَّ الأعمى أعْمَى فيهم وفي غيرهم ، وأيضاً قولهم بعد ذلك « ولَوْلاَ رهْطُكَ لرجَمْناكَ » فنفوا عنه القُوَّة التي أثبتوها في رهطه وهي النُّصرة؛ فوجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النُّصرة .
واستدلّ بعضُ العلماءِ بهذه الآية على تجويزِ العمى على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- . وذلك اللَّفظ لا يدلُّ عليه ، لما بيَّناه .
قال بعضُ المعتزلةِ : لا يجوزُ العَمَى على الأنبياء ، فإنَّ الأعْمَى لا يمكنه التَّجوز عن النَّجاسات ، ولأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً؛ فلأنْ يُمْنَع من النبوَّةِ أوْلَى .
قوله : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } جماعةُ الرجل . وقيل : الرَّهْط والرَّاهط لما دُون العشرة من الرَّجالِ ، ولا يقعُ الرَّهْطُ ، والعَصَب ، والنَّفَر ، إلاَّ على الرِّجالِ .
وقال الزمخشريُّ : « من الثَّلاثة إلى العشرة ، وقيل : إلى السِّبعةِ » ، ويجمع على « أرْهُط » و « أرْهُط » على « أرَاهِط » ؛ قال : [ مجزوء الكامل ]
3009- يا بُؤسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي ... وَضَعَتْ أرَاهِطَ فاسْتَراحُوا
قال الرُّمَّانِيُّ : وأصلُ الكلمة من الرَّهْط ، وهو الشدُّ ، ومنه « التَّرْهيطُ » وهو شدَّة الأكل والرَّاهِطَاء اسم لجحر من جِحَرة اليَرْبُوع؛ لأنَّه يتوثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولاده .
فصل
المعنى : ولولا حرمة رهطك عندنا لكونهم على ملتنا لرجمناك .
والرَّجْمُ في اللغة : عبارة عن الرّمي ، وذلك قد يكونُ بالحجارة عند قصد القتل ، ولمَّا كان هذا الرَّجم سبباً للقتل سموا القتل رَجْماً ، وقد يكون بالقول الذي هو القَذْفُ كقوله تعالى : { رَجْماً بالغيب } [ الكهف : 22 ] وقوله : { وَيَقْذِفُونَ بالغيب } [ سبأ : 53 ] ، وقد يكُونُ بالشَّتم واللعن ، ومنه الشيطان الرجيم ، وقد يكون بالطرد ، قال تعالى : { رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] فعلى هذه الوجوه يكون المعنى : لقتلناك ، أو لشتمناك وطردناك .
قوله : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } قال الزمخشريُّ « وقد دلّ إيلاءُ ضميره حرف النَّفي على أنَّ الكلام واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنَّهُ قيل : وما أنت بعزيز علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا؛ فلذلك قال في جوابهم : » أرَهْطي أعزُّ عليْكُم مِنَ اللَّهِ « ولو قيلَ : » ومَا عَزَزْتَ عليْنَا « لم يصحَّ هذا الجوابُ » .
والمعنى : أنك لمَّ لمْ تكن علينا عزيزاً ، سهل علينا الإقدامُ على قتلك وإيذائك .
واعلم أنَّ الوجوه التي ذكروها ليست مانعةً لما قرره شعيبٌ من الدَّلائل ، بل هي جارية مجرة مقابلة الدلي والحدة بالشتم والسَّفاهة .
قوله : { ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً }
اعمل أنَّهم لمَّا خوَّفُوه بالتقتل ، وزعمُوا أنهم إنَّما تركوا قتله رعاية لجانب قومه .
قال : أنتم تزعمون أنَّكم تركتم قَتْلي إكارماً لرَهْطِي ، فالله تعالى أولى أنْ يتبع أمرهُ ، أي : حفظكم إيَّاي رعاية لأمر الله أولى من حفظكم إيَّاي رعياة لحقِّ رهطي .
قوله : { واتخذتموه } يجوزُ أن تكون المتعدية لاثنين .
أوهما : « الهاء »
والثاني : « ظِهْرِيًّا » ويجوز أن يكون الثاني هو الظَّرفُ و « ظِهْريًّا » حالٌ ، وأن تكون المتعدية لواحدة؛ فيكون « ظِهْرِيًّا » حالاً فقط .
ويجوز في « وَراكُم » أن يكون ظرفاً للاتخاذ ، وأن يكون حالاً من ظِهْريًّا « ، والضمير في » اتِّخَذْتُمُوهُ « يعودُ على الله؛ لأنَّهم يجهلون صفاته ، فجعلوه أي : جعلوا أوامره ظِهْريًّا ، أي : منبوذةً وراء ظهورهم .
والظَّهْرِيُّ : هو المنسوبُ إلى » الظَّهْر « والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبةِ إلى » أمْس « ، » وإمْسِيّ « بكسر الهمزة ، وإلى الدَّهْر : دُهْرِيّ بضم الدَّالِ .
وقي : الضَّميرُ يعودُ على العصيان ، أي : واتخذتم العصيان عوناً على عداوتِي ، فالظَّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعين المُقَوِّي .
ثم قال : { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : عالم بأحوالكم ، فلا يخفى عليه شيء منها .
قوله تعالى : { وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } الآية .
المكانةُ : الحالةُ التي يتمكن بها صاحبها من عمله ، أي اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة ، وكل ما في وسعكم ، وطاقتكم من إيصال الشر إليَّ فإني أيضاً عاملٌ بقدر ما آتانِي الله من القدرة . « سَوْفَ تَعْلَمُونَ » أيُّنا الجاني على نفسه ، والمخطي في فعله .
قوله : { مَن يَأْتِيهِ } تقدَّم نظيرهُ في قصة نوح . قال ابنُ عطيَّة - بعد أن حكى عن الفرَّاء أن تكون موصولة مفعولةً ب « تَعْلَمُون » - : « والأوَّلُ أحسنُ » ثم قال : « ويقْضَى بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة » .
وهي قوله : { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } .
قال أبُو حيَّان : « لا يتعيَّن ذلك ، إن من الجائزِ أن تكون الثَّانية استفهاميَّة أيضاً معطوفةً على الاستفهاميَّة قبلها ، والتقديرُ : سوف تعلمُونَ أيُّنَا يأتيه عذابٌ ، وأيُّنَا هو كاذبٌ » .
قال الزمشخريُّ : فإن قُلت : أيُّ فرقٍ بين إدخالِ الفاءِ ونزعها في « سَوْفَ تَعْلَمُونَ » ؟ .
قلت : إدخالُ الفاءِ وصلٌ ظاهرة بحرفٍ موضوع للوصل ، ونزْعُهَا وصلٌ خفيُّ تقديريٌ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسُؤالٍ مقدَّر كأنهم قالوا : فماذا يكون إذا عملنا نحنُ على مكانتنا ، وعملت أنت عما مكانتك؟ فقيل سوف تعلمُون ، فوصل تارةً بالفاءِ ، وتارةً بالاستئناف للتَّفنُّن في البلاغةِ ، كما هو عادةُ البُلغاءِ من العربِ ، وأقوى الوصلين وأبلغُهُما الاستئنافُ « .
ثم قال : { وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي : وانتظرُوا العذاب إنّي معكُم منتظرٌ . والرقيب : بمعنى الرَّاقب من رقبه كالضَّريب والصَّريم بمعنى الضَّارب والصَّارم ، أو بمعنى المراقب ، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمترفع .
قوله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } الآية .
قال الزمخشريُّ : فإن قتل : ما بالُ ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو ، والسَّاقتان الوسطيان بالفاءِ؟ قلت : قد وقعت الوسيطان بعد ذكر الوعدِ ، وذلك قوله : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } [ هود : 81 ] { ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقولُ : » وعدته فلما جاء المعيادُ كان كَيْتَ وكَيْتَ « ، وأمَّا الأخريان فلم تقعا بتلك المنزلة ، وإنَّما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تعطفها بحرف الجمع على ما قبلهما ، كما تُعطفُ قصةٌ على قصَّةٍ » .
قوله : { نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } .
روى الكلبي عن ابن عبَّاس قال : لَمْ يُعذب الله أمتين بعذاب واحدٍ إلاَّ قوم شعيب وقوم مصالح ، فأمَّا قوم صالح؛ فأخذتم الصحيةُ من تحتهم ، وقوم شعيبٍ أخذتهم من فوقهم .
وقوله : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } يحتملُ أن يكون المرادُ منه ، ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصَّيْحة ، ويحتمل أن يكون المرادُ من الأمر العذاب ، وعلى التدقرين فأخبر الله أنّه نجَّى شُعَيْباً ومن معه من المؤمنين .
وفي وله : { بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } وجهان :
الأول : أنَّه تعالى إنَّما خلَّصه من ذلك العذاب لمحض رحمته ، تنبيهاً على أنَّ كلَّ ما يصل إلى العبد ليس إلاَّ بفضلِ الله ورحمته .
والثاني : أنَّ المراد من الرَّحمةِ الإيمان والطَّاعة وهي أيضاً وهي أيضاً ما حصلت إلاَّ بتوفيق الله .
ثم قال : { وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } وعرَّف « الصَّيحة » بالألف واللاَّم إشارة إلى المعهود السَّابق وهي صيحةُ جبريل { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } تقدم الكلام على ذلك [ هود : 67 ، 68 ] وإنَّما ذكر هذه اللفظة ، وقاس حالهم على ثمود؛ لأنه تعالى عذَّبهم بمثل عذاب ثمود .
قوله : { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } العامَّةُ : على كسر العين من « بَعِدَ يَبْعَد » بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك؛ قال : [ الطويل ]
3010- يقُولُون لا تَبعَدوَهُم يَدْفنُونهُ ... ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُواري الصَّفَائِحُ
أرادت العربُ أن تفرقَ بين المعنيين بتغيير فقالوا : « بَعْد » بالضمِّ ضد القرب ، و « بَعِد » بالكسر ضد السَّلامة ، والمصدرُ البَعَدُ بالفتح في العين .
وقرأ السُّلمي وأبو حيوة « بَعْدت » بالضم أخذه من ضدِّ القرب؛ لأنَّهُم إذا هلكوا فقد بعدوا ، ومن هذا قولُ الشَّاعر : [ الكامل ]
3011- مَنْ كَانَ بَيْنَكَ في التُّرابِ وبَيْنَهُ ... شِبْرانِ فهُوَ بغايةِ البُعْدِ
وقال النَّحَّاسُ : المعروفُ في اللغةِ : بَعِدَ يَبْعَد بَعَداً وبُعْداً ، وإذا هلك ، وبَعْد يَبْعُدُ في ضدِّ القُرْب .
وقال ابنُ قتيبة : بَعِدَ يَبْعد إذا كان بعده هلكهة ، وبَعُد يَبءعُد إذا نأى فهو موافقٌ للنحاس .
وقال المهدوي : « بَعُد » يستعمل في الخَيْرِ والشّر ، و « بَعِد » في الشرِّ خاصة .
وقال ابنُ الأنباري : مِنَ العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاكِ والبُعْدِ والذي هو ضدُّ القرب ، فيقولُ فيهماك بَعُدَ يَبْعثدُ ، وبَعِدَ يَبْعَدُ؛ وأنشدوا قول مالكٍ : [ الطويل ]
3012- يقُولُونَ لا تَبْعَدْ وهُمْ يَدْفِنُونِني ... وأيْنَ مَكَانَ البُعْدِ إلاَّ مَكَانِيَا
قيل : يروى « لا تَبْعُدْ » بالوجهين .
وفي هذه الآية نوعٌ من علم البيان يسمَّى الاستطراد ، وهو أن تمدحَ شيئاً أوتذُمَّه ، ثم تأتي آخر الكلام بشيءٍ هو غرضكَ في أوَّلِه ، قالوا : ولم يَأتِ في القرآن غيره ، وأنشدوا في ذلك قول حسان : [ الكامل ]
3013- إنْ كُنْتِ كاذِبَة الذي حَدَّثْتِنِي ... فَنَجَوْتِ مَنْجى الحَارِثِ بن هشام
تَرَك الأحِبَّةَ أن يَقاتِلَ دونَهُمْ ... ونَجَا بِرَأسِ طِمِرَّة ولِجَامِ
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } القصة .
قيل : المراد ب « الآيات » التَّوارة مع ما فيها من الشَّرائع والأحكام ، ومن السُّلطان المبين المعجزات الباهرةِ .
وقيل : المرادُ ب « الآيات » المعجزات ، وبالسُّلطانِ الحجَّة كقوله : { إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ } [ يونس : 68 ] وقوله : و { مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [ يوسف : 40 ] وقيل : المرادُ بالسلطان المبين : العصا؛ لأنَّها أبهرُ الآيات ، وذلك أنَّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات ، وهي : العصا ، واليدُ البيضاءُ ، والطُّوفان ، والجرادُ والقُمَّلُ ، والضَّفادعُ ، والدمُ ونقصٌ من الثمرات والأنفس ، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبل وفلق البحر واختلفوا في تسمية الحُجَّة بالسلطان ، فقيل : لأنَّ صاحب الحُجَّة يقهر من لا حجَّة له عند النَّظر كما يقهر السُّلطان غيره .
وقال الزَّجّاج : السُّلطان هو الحُجَّةُ ، وسُمِّي السلطان سلطاناً؛ لأنه حُجَّة الله في أرضه ، واشتقاقه من السَّليط الذي يُستضاء به ، ومنه قيل للزَّيت السَّليط . وقيل : مشتقٌ من التَّسليط ، والعلماءُ سلاطين بسبب كمالهم في القُوَّةِ العلميَّةِ ، والملوك سلاطين بسبب قدرتهم ومكنتهم ، إلاَّأنَّ سلطنة العلماءِ أكمل ، وأبقى من سلطنة الملوك؛ لأنَّ سلطنة العلماءِ لا تقبل النَّسخ والعَزْل ، وسلطنة الملوك تقبلهما ، وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنةِ ، وسلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء .
فإن قيل : إذا حملتم الآيات على المعجزات والسُّلطان على الدَّلائل ، ولامُبين أيضاً معناه كونه سبباً للظهورن فما الفرقُ بين هذه المراتبِ الثَّلاثِ؟ .
فالجوابُ : أنَّ الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظَّنْ ، وبين الدَّلائل التي تفيد اليقينَ ، وأمَّا السُّلطانُ فهو اسمٌ لما يُفيد القطع واليقين .
وكانت معجزةُ موسى هكذا ، فلا جرم وصفها الله تعالى بأنَّها سلطانٌ مبين .
ثم قال : { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : جماعته . { فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْن } قيل : أمره إياهم بالكفر بموسى ، وقيل : الأمر الطريق .
ثم قال : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي : بمُرشدٍ إلى خيرٍ .
وقيل : ذو رشد؛ لأنَّهُ كان دهريًّا نافياً للصَّانع وللمعاد ، فلهذا كان خالياً عن الرشد بالكليَّةِ .
ثم وصفه فقال : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة } يقالُ : قدمَ فلانٌ فلاناً بمعى تقدَّمهُ ، ومنه قادمة الرَّجُل كما يقالُ : قدَّمهُ بمعنى تقدَّمهُ ، ومنه : مقدَّمة الجيش .
والمعنى : أنَّ فرعون كان قُدوةً لقومه في الضَّلال حال ما كانوا في الدنيا ، وكذلك مقدمهم إلى النَّار ، وهم يتبعونه ويجُوزُ أن يكون معنى قوله : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي : وما أمره بصالحٍ حميد العاقبةِ ، ويكون قوله : « يَقْدمُ قومُه » تبييناً لذلك وإيضاحاً ، أي : كيف يكون أمره رشيداً مع أنَّ عاقبته هكذا؟ .
قوله : { فَأَوْرَدَهُمُ } يجوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب الإعمال ، وذلك أنَّ « يقدمُ » يصلح أن تسلَّط على « النَّارِ » بحرف الجر ، أي : يقدمُ قومه إلى النَّار ، وكذا : « أوْرَدهُم » يصحُّ تسلّثطه عليها أيضاً ، ويكون قد أعمل الثاني للحذفِ من الأوَّل ، ولو أعمل الأوّل لتعدَّى ب « إلى » ولأضمر في الثاني ، ولا محلَّ ل « أوْرَدَ » لاستئنافه ، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى؛ لأنَّهُ عطف على هو نص في الاستقبال .
والهمزةُ في « أوْرَدَ » للتعدية؛ لأنَّه قبلها يتعدَّى لواحدٍ ، قال تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] .
وقيل : أوقع المستقبل بلفظ الماضي هنا لتحققه . وقيل : بل هو ماض على حقيقته ، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنَه أوردهم في الدُّنيا النَّار . قال تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] وقيل : أوردهم موجبها وأسبابها ، وفيه بعدٌ لأجْلِ العطف بالفاءِ .
والوِرْد : يكون مصدراً بمعنى الوُرُود ، ويكون بمعنى الشيء المُورَد كالطِّحن والرِّعي .
ويُطلق ايضاً على الواردِ ، وعلى هذا إنْ جعلت الورد مصدراً أو بمعنى الوارد فلا بدَّ من حذفِ مضاف تقديرهُ : وبئس مكانُ الورد المورود ، وهو النَّارُ ، وإنَّما احتيج إلى هذا التقدير؛ لأنَّ تَصَادُقَ فاعل « نِعْمَ » و « بِئْسَ » ومخصوصهما شرطٌ ، لا يقال : نِعْمَ الرَّجُلُ الفرس . وقيل : بل المورود صفة للوردِ ، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ تقديره : بئس الوردُ المورود النَّارُ ، جوَّز ذلك أبُو البقاءِ ، وابنُ عطيَّة ، وهو ظاهر كلام الزمخشري .
وقيل : التقديرُ : بئس القومُ المورودُ بهم هم ، فعلى هذا « الورد » المرادُ به الجمعُ الواردُون ، قال تعالى : { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } [ مريم : 86 ] والمورود صفةٌ لهم ، والمخصوصُ بالذَّمِّ الضميرُ المحذوف وهو « هم » ، فيكونُ ذلك للواردين لا لموضع الورد كذا قالهُ أبو حيَّان وفيه نظرٌ من حيث إِنَّه : كيف يراد بالورد الجمع الواردُون ، ثم يقولُ : والمورودُ صفةٌ لهم؟ .
وفي وصف مخصوص « نِعمَ » و « بِئْسَ » خلافٌ بين النَّحويين منعه ابن السَّراج وأبو علي .
قال الواحديُّ : لفظ « النار » مؤنث ، ينبغي أن يقال : وبئست الورد المورود ، إلاَّ أنَّ لفظ « الورد » مذكر؛ فكان التَّذكيرُ والتَّأنيثُ جائزين ، كما تقولُ : نعم المنزلُ دارك ، ونعمت المنزل دارك ، فمن ذكَّر عن المنزل ومن أنَّث عن الدَّار .
فصل
والمعنى : أدخلهم النَّار وبئس المدخلُ المدخولُ؛ وذلك لأنَّ الورد إنَّما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد ، والنَّار ضدُّه .
ثم قال : { وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً } أي : أنَّ اللَّعن من الله ، والملائكة ، والأنبياء ملتصقٌ بهم في الدُّنيا والآخرة لا يزولُ عنهم ، كقوله : { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين } [ القصص : 42 ] .
ثم قال : { بِئْسَ الرفد المرفود } والكلامُ فيه كالذي قبله . وقوله : { وَيَوْمَ القيامة } عطفٌ على موضع « في هَذِه » والمعنى : أنَّهُم ألحِقُوا لعنةً في الدُّنيا وفي الآخرة ، ويكونُ الوقف على هذا تامًّا ، ويبتدأ بقوله « بِئْس » .
وزعم جماعةٌ أنَّ التَّقسيم : هو أنَّ لهم في الدُّنيا لعنةً ، ويوم القيامةِ بِئْس ما يرفدُون به ، فهي لعنةٌ واحدةٌ أولاً ، وقبح إرفاد آخراً . وهذا لايصحُّ؛ لأنه يُؤدّي إلى إعمال « بِئْسَ » فيما تقدم عليها ، وذلك لا يجُوزُ لعدم تصرُّفها؛ أمَّا لو تأخَّر لجاز؛ كقوله : [ الكامل ]
3014- ولَنْعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنتَ إذَا ... دُعِيِتْ نَزالِ ولُجَّ في الذُّعْر
وأصلُ الرِّفْد كمال قال الليثُ : العطاءُ والمعونةُ ، ومنه رفاده قريش ، رَفَدْتُه أرْقِدهُ رِفْداً بكسر الرَّاء وفتحها : أعْطَيته وأعنته . وقيل بالفت مصدر ، وبالكسر اسم ، كأنَّهُ نحو : الرِّعْي والذِّبْح ويقال : رفَدْت الحائِطَ ، أي : دَعَمْتُه ، وهو من معنى الإعانةِ .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
قوله : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ } الآية .
« ذلك » إشارة إلى الغائبِ ، والمرادُ منه ههنا الإشارة إلى القصص المتقدمة ، وهي حاضرة إلاَّ أنَّ الجواب عنه تقدَّم في قوله : { ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] .
ولفظ « ذلك » إشارة إلى الواحد والجماعة ، كقوله : { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] .
ويحتمل أن يكون ذلك الذي ذكرناهُ هو كذا وكذا .
قال الزمخشريُّ : « ذلك » مبتدأ ، و « نقُصُّهُ عليْكَ » خبرٌ بعد خبر ، أي ذلك المذكور بعض أنباء القرى مقصوص عليك وقال شهابُ الدِّين : يجُوزُ أن يكون « نَقُصُّه » خبراً و « مِنْ أنباء » حال ، ويجوزُ العكسُ ، قيل : وثمَّ مضافٌ محذوف ، أي من أنباءِ أهل القرى ، ولذلك أعاد الضمير عليهم في قوله : « ومَا طَلمْنَاهُم » .
ثم قال : ويجُوزُ في « ذلك » أوجه :
أحدهما : أنَّه مبتدأ كما تقدم [ هود : 49 ] .
والثاني : أنَّهُ منصوبٌ بفعلٍ مقدر يفسِّره « نَقُصُّه » فهو من باب الاشتغال ، أي : نقُصُّ ذلك في حال كونه من أنباء القرآن وقد تقدَّم في قوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ } [ يوسف : 44 ] أوجه ، وهي عائدةٌ هنا .
قوله : { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } « حصيدٌ » مبتد محذوفُ الخبر ، لدلالة خبر الأوَّلِ عليه ، أي : ومنها حصيد ، وهذا لضرورة المعنى .
و « الحَصِيدُ » بمعنى المحصودِ ، وجمعه : حَصْدَى وحِصَادٌ مثل : مريضٌ ومَرْضَ ومِرَاضٌ ، وهذا قول الأخفشِ ، ولكن باب « فَعِيل » ، و « فَعْلَى » أن يكون في العقلاء؛ نحو : قَتِيل وقَتْلَى . والضميرُ في « مِنْهَا » عائدٌ على القرى ، شبه ما بقي من آثار القرى وجدارنها بالزرع القائم على ساقة ، وما عقا منها وبطل بالحصيد .
والمعنى : أنَّ تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر ألبتَّة .
قال بعضُ المفسرين : القائمُ : العامر ، والحصيدُ : الخرابُ : وقيل : القائمُ ما بقيت حيطانه ، وسقطت سقوفهن وحصيد : انمحى أثره . وقال ماقتلٌ : قائم يرى له أثر ، وحصيد لا يرى له أثر .
ثم قال : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } بالعذاب والإهلاك : { ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ } بالكُفْر والمعصية وقيل : الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله ، بل هو عدلٌ وحكمةٌ؛ لأنَّ القوم أولاً أنفسهم بإقدامهم على الكفر والمعاصي ، فاستوجبوا بتلك الأعمالِ من الله العذاب .
وقال ابن عباس : وما نقصناهم في الدنيا من النعم والرزق ، ولكن نُقِصُوا حظ أنفسهم حيثُ استخفُّوا بحقوقِ الله تعالى .
{ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ } أي : ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء ألبتة .
قوله : { لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ } أي : عذاب ربك .
قال الزمخشريُّ : « لمَّا » منصوب ب « أغْنَتْ » وهو بناءً منه على أنَّ « لمَّا » ظرفية .
والظَّاهر أنَّ « مَا » نافية ، أي : لم تُغْن . ويجوز أن تكون استفهاميةً ، و « يَدْعُونَ » حكاية حال ، أي : التي كانُوا يدعُون ، و « مَا زادُهُمْ » الضًَّميرُ المرفوع للأصنام ، والمنصوبُ لعبدتها وعبَّر عنهم بواو العقلاء؛ لأنهم نزَّلُوهم منزلتهم .
والتَّتبِيْتُ : التَّخسيرُ ، يقالُ : تبَّ الرجلُ غيره إذا أوقعه في الخسران . يقال تَبَّبَ غيره وتبَّ هو بنفسه ، فيستعمل لازماً ومتعدياً ، ومنه « تَبَّتْ يدا أبيِي لهبٍ وتبَّ » .
وتَبَّيْتُهُ تَتْبِيباً ، أي : خسَّرته تَخْسِيراً قال لبيدٌ :
3105- ولقَدْ بَلِيتُ وكُلُّ صاحبِ جدَّةٍ ... لِبِلًى يعُودُ وذاكُمُ التَّتْبِيبُ
وقيل : التَّتْبيب : التَّدْمير . والمعنى : أنَّ الكفار يعتقدون في الأصنام أنها تنفعُ وتدفع المضار ، ثم أخبر أنَّهُم عند الحاجِة إلى المُعين ما وجدُوا فيها شيئاً لا جلب نفعٍ ، ولا دفع ضرٍر ، وإنَّما وجدُوا ضدَّ ذلك ، وهذا أعظم الخسران .
قوله : { وكذلك } خبرٌ مقدَّم ، و « أخْذُ » مبتدأ مؤخر ، والتقدير : ومثلُ ذلك الأخْذِ أي : أخْذِ الله الأمم السَّالفة أخذُ ربك .
و « إذا ظرفُ متحِّض ، ناصبه المصدر قبله ، وهو قريبٌ من حكاية الحالِ ، والمسألةُ من بابِ التنازع فإنَّ الأخذ يطلب » القُرَى « ، و » أخْذ « الفعل أيضاً يطلبها ، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأوَّلِ .
وقرأ عاصمٌ وأبو رجاء والجحدريُّ » أَخَذَ ربك ، إذا أخذَ « جعلهُما فعلين ماضيين ، و » رَبُّك « فاعل وقرأ طحلةُ بن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهُ ب » إذَا « .
قال ابن عطيَّة وهي قراءةٌ متمكنة المعنى ، ولكن قراءة الجماعةِ تُعْطِي الوعيد ، واستمراره في الزَّمانِ ، وهوالباب في وضع المستقبل موضع الماضي .
وقوله : » وهِيَ ظالمةٌ « جملةٌ حاليّة . والضميرُ في » وهِيَ ظالمةٌ « عائد إلى القُرَى ، وهو في الحقيقة عائد إلى أهلها ، كقوله : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً } [ الأنبياء : 11 ] { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [ القصص : 58 ] .
ثم لمَّا بيَّن كيفية أخذ الأمم الظَّالمة أكَّده بقوله : { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } فوصف ذلك العذاب بالإيلامِ وبالشدَّةِ .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
ثم قال : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } قال القفال : تقرير الكلام أن يقال : إنَّ هؤلاء إنَّما عذبُوا في الدُّنيا لتكذيبهم الأنبياء ، وإشراكهم بالله ، فإذا عُذِّبوا في الدُّنيا على ذلك وهي دارُ العملِ ، فلأنْ يُعذَّبُوا عليه في الآخرة التي هي دارُ الجزاءِ ، كان أولى . وهذا قولُ كثير من المفسِّرين .
قال ابنُ الخطيب : وعلى هذا الوجه الذي ذكره القفالُ يكونُ ظهور عذاب الاستئصال في الدُّنيا دليلاً على أنَّ القول بالقيامة والبعث حقٌّ ، وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ العلم بأنَّ القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بعذاب الاستئصال ، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال؛ لأنَّ القفال يجعل العمل بعذابِ الاستئصال أصلاً للعلم بأنَّ القيامة حق؛ فبطل ما ذكره القفالُ ، والأصوبُ عندي أن يقال : العلم بأنَّ القيامة حق موقوف على العلم بأنَّ لوجود السموات والأرض فاعل مختار لا موجب بالذَّاتِ ، وما لم يعلم الإنسان أنَّ إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكمنات ، وأنَّ جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرض لا تحصلُ إلا بتكوينه وقضائه ، لا يمكنه أن يعتبر بعذابِ الاسئصال؛ لأنَّ الذين يذهبون إلى انَ المؤثَر في وجود هذا العالم موجبٌ بالذَّات ، لا فاعلٌ مختارٌ ، يزعمون أنَّ هذه الأحوال التي ظهرت في أيَّام الأنبياء؛ كالغرق ، والخسق ، والمسخ ، والصَّيْحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب وإيصال بعضها ببعض ، وإذا كان الأمرُ كذلك ، فحينئذٍ لا تكون حصولها دالاًّ على صدق الأنبياء .
فأما المؤمن بالقيامة؛ فلا يتم له ذلك الإيمانُ إلا إذا اعتقد أنَّ إله العالم فاعل مختار ، وأنه عالمٌ بجمعي الجزيئات ، وإذا كذلك لزم القطعُ بأن حدوث هذه الوقائع العظيمة إنَّما كان بسبب أنَّ إله العالم خلقها وأوجدها لا بسبب طوالع الكواكب واتصالاتها ، وحينئذ يسمع هذه القصص ، ويستدلّ بها على صدق الأنبياء؛ فثبت بذلك صحة قوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } .
قوله تعالى : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ } « ذلك » : إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بالسياق من قوله : { عَذَابَ الآخرة } و « مَجْموعٌ » صفةٌ ل « اليوم » جرت على غير من هي له ، فلذلك رفعت الظَّاهر وهو « الناس » وهذا هو الإعراب نحو : « مَررْتُ برجُلٍ مضروبٍ غلامهُ » .
وأعرب ابن عطيَّة « النَّاس » مبتدأ مؤخراً ، و « مَجْمُوعٌ » خبره مقدماً عليه . وفيه ضعف إذ لو كان كذلك لقيل : مجموعون ، كما يقالُ : النَّاسُ قائمون ومضربون ، ولا لليوم ، أي : النَّاس مجموع له ، و « مَشْهُودٌ » متعيِّنق لأن يكون صفة فكذلك ما قبله .
وقوله : { مَّشْهُودٌ } من باب الاتِّساعِ في الظرف بأن جعلهُ مشهوداً ، وإنَّما هو مشهودٌ فيه؛ وهو كقوله : [ الطويل ]
3016- ويَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً ... قَليلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهالِ نَوافِلُهْ
والأصلُ : مشهودٌ فيه ، وشهدْنَا فيه ، فاتُّسِع فيه بأنْ وصل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة ، كما يصلُ إلى المفعول به .
قال الزمخشريُّ : « فإن قتل : أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله؟ قلت : لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنَّهُ لا بدَّ أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع النَّاس له ، وأنَّه هو الموصوفُ بذلك صفة لازمة » قال ابنُ عبَّاسٍ : يشهده البر والفاجرُ . وقيل : يشهده أهلُ السموات وأهلُ الأرضِ .
قوله : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ } الضَّميرُ يعود على « يَوْم » .
وقال الحوفيُّ : « على الجزاءِ » وقرأ الأعمش : « ومَا يُؤخِّره » - بالياء - أي : الله تعالى « إلاَّ لأجَلٍ معدُودٍ » وكل ما له عدد ، فهو متناهٍ ، وكل ما كان متناهياً ، فلا بُدَّ أن ينفي ، فتأخير القيامة ينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم اله القيامة فيه ، وكُلُّ ما هو آتِ قريب .
قوله : { يَوْمَ يَأْتِ } قرأ أبو عمرو والكسائيُّ ونافعٌ « يَأتِي » بإثبات الياءِ وصْلاً وحذفها وقْفاً .
وقرأ ابنُ كثير بإثباتها وصْلاً ووقفاً وباقي السبعة : قرءوا بحذفها وصلاً ووقْفاً .
وقد وردتْ المصاحفُ بإثباتها وحذفها : ففي مصحف أبيّ إثباتُها ، وفي مصحق عثمان حذفها ، وإثباتها هو الوجه؛ لأنَّها لامُ الكلمة ، وإنَّما حذفُوها في القوافي ، والفواصل ، لأنَّها محلُّ وقوف وقالوا : لا أدْرِ ، ولا أبَالِ .
وقال الزمخشريُّ « والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرةٌ في لغةِ هذيلٍ » .
وأنشد ابنُ جريرٍ في ذلك : [ الرجز ]
3017- كَفَّاكَ كَفٌّ ما تُليقُ دِرْهَمَا ... جُوداً وأخْرَى تُعْطِ بالسِّيْفِ الدَّما
والنّاصبُ لهذا الظرف فيه أوجه :
أحدها : أنه « لا تكلَّمُ » والتقديرُ : لا تكلَّمُ نفسٌ يوم يأتي ذلك اليوم . وهذا معنى جيد لا حاجة إلى غيره .
الثاني : أن ينتصب ب « اذْكُر » مقدراً .
والثالث : أن نتصب بالانتهاءِ المحذوف في وله : { إِلاَّ لأَجَلٍ } أي : ينتهي الأجل يوم يأتي .
والرابع : أنَّهُ منصوبٌ ب « لا تكلَّمُ » مقدَّراً ، ولا حاجة إليه .
والجملةُ من قوله : « لا تكلَّمُ » في محلِّ نصب على الحال من ضمير اليوم المتقدم في « مَشْهُود » أو نعتاً له لأنه نكرة . والتقدير : لا تكلَُّ نفسٌ فيه إلاَّ بإذنه ، قاله الحوفيُّ .
وقال ابن عطيَّة : « لا تكلَّمُ نفسٌ » يصحُّ أن تكون جملة في موضع الحال من الضَّمير الذي في « يَأتِ » وهو العائدُ على قوله : { وَذَلِكَ يَوْمٌ } ، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره : لا تكلمُ نفسٌ فيه ، ويصحُّ أن يكون قوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } صفةً لقوله : { يَوْمَ يَأْتِ } .
وفاعل « يَأتِ » فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّهُ ضميرُ « يَوْم » المتقدِّم .
والثاني : أنَّه ضمير الله تعالى كقوله :
{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله } [ البقرة : 210 ] وقوله : « أوْ يَأتِي ربُّكَ » .
والضميرُ في قوله : « فَمِنْهُمْ الظاهرُ عودهُ على » النَّاس « في قوله : { مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } وجعله الزمخشريُّ عائداً على أهل الموقف وإن لمْ يذكرُوا ، قال : لأن ذلك معلومٌ ، ولأنَّ قوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } يدلُّ عليه » وكذا قال ابنُ عطية .
وقوله : { وَسَعِيدٌ } خبره محذوف : أي : ومنهم سعيدٌ ، كقوله : { ذَمِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } [ هود : 100 ] .
فصل
هذه الآية توهم المناقضة لقوله { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] ولقوله { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35- 36 ] وقوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
والجواب : قال بعضهم : إنَّهُ حيثُ ورد المنعُ من الكلامِ ، فهو محمولٌ على الجوابات الصَّحيحة؛ قال تعالى : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] وقيل : إنَّ ذلك اليوم يوم طويل ، وله مواقف ، ففي بضعها يجادلُون عن أنفسهم ، وفي بعضها يختم على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم .
وقيل : ورد المنع عن الكلام مطلقاً ، وورد مقيداً بالإذن فيحمل المطلق على المقيِّد .
قوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } قال الزمخشريُّ : الضميرُ في قوله : « مِنْهُمْ » لأهل الموقف ولمْ يذكرُوا؛ لأنَه مفهومٌ ، ولأنَّ قوله : { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } يدلُّ عليه؛ ولأنه مذكورٌ في قوله : { مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } .
واستدلَّ القاضي بهذه الآية على فساد القول بأنَّ أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النَّارِ .
وجوابه : أنَّ الأطفال والمجانين أيضاً خارجون عن هذا التَّقسيم؛ لأنَّهُم لا يحاسبُون ، فلم لا يجوزُ أيضاً أن يقال : إنَّ أصحاب الأعراف خارجون عنه أيضاً؛ لأنهم لا يحاسبون لأنَّ الله - تعالى - علم من حالهم أنَّ ثوابهم يساوي عذابهم ، فلا فائدة في حسابهم .
واستدلَّ القاضي أيضاً بهذه الآية على أنَّ كلَّ من حضر عرضه القيامة فلا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو عذابه ، فأمَّا من كان ثوابه مساوياً لعقابه ، فإنَّه وإن كان جائزاً في العقل ، إلا أن هذا النص يدلُّ على انَّهُ غيرُ موجودٍ .
وأجيب بأنَّ تخصيص هذين القسمين بالذِّكر لا يدلُّ على نفي القسم الثالث؛ لأنَّ أكثر الآيات مشتملةٌ على ذكر المؤمن والكافر ، وليس فيه ذك ثالث لا يكون مؤمناً ولا كافراً مع أنَّ القاضي أثبته ، فإذا لم يلزمْ من عدم ذكر الثالث عدمه فكذلك لا يلزمُ من عدم ذكر هذا الثالث عدمه .
فصل
« روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه - قال : خرجناعلى جنازة ، فبينما نحنُ بالبقيع إذْ خرج رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وبيده مخصرةٌ ، فجاء ، فجلس ، ثم نكت بها الأرض ساعة ، ثم قال : » ما مِنْ نفس منفُوسةٍ إلاَّ قد كُتِبَ مكانُها من الجنّة ، أو النَّار ، وإلاَّ قد كُتبتْ شقيَّةً ، أو سعيدةً « قال : فقال رجلٌ : أفلا نتكلُ على كتابنا يا رسول الله وندعُ العمل؟ قال : » لا ، ولكن اعملوا فكُلٌّ ميسرٌ لما خلق لهُ ، وأمَّا أهلُ الشقاء فسييسرون لعمل أهل الشقاء ، وأمَّا أهلُ السَّعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة «
ثم تلا : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } [ الليل : 5- 10 ] .
قوله : { فَأَمَّا الذين شَقُواْ } الجمهورُ على فتح الشين؛ لأنَّهُ من « شَقى » فعلٌ قاصر وقرأ الحسن بضمها فاستعمله متعدِّياً ، فيقال : شقاهُ الله ، كما يقالُ : أشقاء الله وقوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } في هذه الجملة احتمالان :
أحدهما : أنَّها مستأنفةٌ ، كأنَّ سائلاً سأل حين أخبر أنَّهُم في النَّار : ماذا يكون لهم؟ فقيل : لهم كذا .
والثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أنَّهُ الضميرُ في الجرِّ والمجرور وهي « فَفِي النَّار » .
الثاني : أنها حالٌ من « النَّار » و « الزَّفير » بمنزلة ابتداء صوت الحمار ، والشّهيق « آخره قال رؤبة : [ الرجز ]
3018- حَشْرَجَ في الصَّدْرِ صَهِيلاً أوْ شَهَقْ ... حتَّى يُقالَ نَاهِقٌ وما نَهَقْ
وقال ابن فارس : الزَّفيرُ ضد الشَّهيق؛ لأنَّ الشَّهيق ردُّ النَّفَس والزَّفير : إخراجُ النَّفس من شدَّة الحزنِ مأخوذة من الزَّفْرِ وهو الحِمْل على الظَّهْرِ ، لشدَّته .
وقال الزمخشري نحوه؛ وأنشد للشَّمَّاخِ : [ الطويل ]
3019- بَعِيدٌ مَدَى التَّطْريبِ أوَّلْ صوْتِهِ ... زفيرٌ ويتلوهُ شهيقٌ مُحَشْرِجُ
وقيل الشَّهيقُ : النَّفس الممتدُّ ، مأخوذٌ من قولهم : » جبلٌ شاهقٌ أي : عالٍ « .
وقال اللَّيْثُ : الزَّفير : أن يملأ الرَّجُلُ صدرهُ حال كونه في الغمِّ الشَّديد من النَّفس ويخرجهُ ، والشَّهيق أن يخرج ذلك النَّفس ، وهو قريبٌ من قولهم : تنفَّس الصعداء .
قال ابن الخطيب : إنَّ الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلبن فتقوى الحرارةُ وتعظم ، وعند ذلك يحتاجُ الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء بارداً حتى يقوى على تريوح تلك الحرارة ، فلهذا السَّببب يعظم في ذلك الوقتِ استدخال الهواء في داخل الصَّدْرِ ، وحينئذٍ يرتفع صدره ، ولمَّا كانت الحرارةُ الغريزيةُ ، ولاروح الجوانيُّ محصُوراً في داخل القلبِ؛ أستولت البرودةُ على الأعضاءِ الخارجة؛ فرُبَّما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهوى فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر .
فعلى قول الأطباء : الزَّفير : هو استدخالُ الهواءِ الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيهن والشَّهيق : هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطَّبيعة في إخراجه ، وكلُّ من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد .
وقال أبُو العالية والربيع بن أنس : الزَّفير في الحلق ، والشَّهيق في الصدر وقيل : الزَّفيرُ للحمار والشهيق للبغل . وقال ابن عباس : الزَّفيرُ الصوت الشديد ، والشَّهيق الصوت الضعيف وقال الضحاك ومقاتلٌ : الزَّفير أول صوت الحمار والشهيق آخره ، إذا ردَّهُ في صدره وقال الحسنُ : الزَّفيرُ لهيبُ جهنّم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلُوا إلى أعلى جهنم ، وطمعوا في أن يخرجوا منها ضبربتهُم الملائكة بمقامع من حديد وردوهم إلى الدرك الأسقل من جهنَّم ، وهو قوله تعالى :
{ كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [ السجدة : 20 ] فارتفاعهم في النَّار وهو الزَّفير ، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق .
وقال أبو مسلم : الزَّفيرُ ما يجتمع في الصَّدْرِ من النَّفس عند البكاء الشَّديد فيقطع النفس ، والشهيقُ هو الصَّوت الذي يظهرُ عند اشتداد الكرب ، وربما تبعه الغشية ، وربما حصل عقيبه الموت . وروي عن ابن عبَّاس في قوله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } أي : ندامةً ونفساً عالياً وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع .
قوله : { خَالِدِينَ } منصوبٌ على الحال المقدرة .
قال شهاب الدِّينِ : « ولا حاجَة إلى قولهم » مقدّرة « ، وإنَّما احتاجُوا إلى التقدير في مثل قوله : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] ؛ لأنَّ الخلود بعد الدُّخول ، بخلافه هنا » .
قوله : { مَا دَامَتِ } « ما » مصدرية ظرفية ، أي : مدَّة دوامهما . و « دَامَ » هنا تامةٌ ، لأنَّها بمعنى : بَقِيت .
فصل
اختلفوا في تأويل هذا ، قالت طائفة منهم الضحَّاك : المعنى ما دامت سمواتْ الجنَة والنَّار وأرضهما ، والسماء كل ما علاك وأظلك ، والأرض ما استقر عليه قدمك ، قال تعالى : « وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حين نشاء » وقيل : أراد السِّماء والأرض المعهودتين في الدنيا؛ وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده ، كقولهم : « لا آتيك ما جنَّ ليلٌ ، أو سَالَ سيلٌ ، وما اختلفَ اللَّيلُ والنهار » .
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- : أنَّ جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نُور العرش ، وأنَّ السموات والأرض في الآخرة تردَّان إلى النور الذي أخذتا منه ، فهما دائمتنان أبداً في نور العرش .
فصل
قال ابن الخطيب : قال قوم : إنَّ عذاب الكفَّار منقطعٌ ، وله نهاية ، واحتجُّوا بالقرآن والمعقول ، أما القرآنُ فبآيات منها هذه الآيةن والاستدلال بها من وجهين :
أحدهما : قوله : { مَا دَامَتِ السماوات والأرض } يدل على أنَّ مدة عقابهم مساوية لمدَّة بقاءِ السموات والأرض ، ثم توافقنا على أنَّ مدة بقاءِ السموات والأرض متناهية؛ فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة .
والثاني : قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } استثناءٌ من مدَّةِ عقابهم ، وذلك يدلُّ على أنَّ زوال ذلك العقاب في وقت هذا الاستثناء ، ومنها قوله تعالى : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } [ النبأ23 ] بيَّن تعالى أنَّ لبثهم في ذلك العقاب لا يكون إلاَّ أحقاباً ، والأحقابُ معدودة .
وأمَّا العقلُ فمن وجهين :
الأول : أنَّ معصية الكافر متناهيةٌ ، ومقابلة الجرم المتناهي بعذابٍ لا نهاية له ظلم وإنَّهُ لا يجوزُ .
الثاني : أنَّ ذلك العقاب ضرر خال عن النَّفع فيكون قبيحاً .
بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يجوزُ أن يرجع إلى الله تعالى تعاليه عن النَّفع والضَّرر ، ولا إلى ذلك العقاب؛ لأنَّهُ في حقِّه ضربٌ محض ، ولا إلى غيره؛ لأن أهل الجنَّة مشغولون بلذاتهم ، فلا فائدة لهم في الالتذاذِ بالعقابِ الدَّائم في حقِّ غيرهم؛ فثبت أنَّ ذلك العذاب ضرر خال عن جميع النَّفْعِ؛ فوجب أن لا يجوز
وهذا قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهم- وذهب إلي الحسنُ البصريُّ وحمَّادُ بنُ سلمة وبه قال عليُّ بن طلحة وجماعة من المفسِّرين ، رواه عنهم ابنُ تيمية .
وأما الجمهورُ الأعظمُ من الأمَّةِ ، فقد اتفقوا على أنَّ عذاب الكافر دائمُ ، وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسُّكِ بهذه الآيةِ ، فذكروا جوابين :
أحدهما : قالوا المرادُ سماوات الآخرة وأرضها ، قالوا : والدليلُ على أنَّ في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] وقوله : { وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ } [ الزمر : 74 ] وأيضاً : لا بدَّ لأهْل الآخرة ممَّا يقلهم ويُظلهم؛ وذلك هو الأرض والسَّموات .
ولقائل أن يقول : التشبيه إنما يصحُّ ويجوزُ إذا كان حال المشبه به مقرراً معلوماً ، فيشبه غيره به تأكيداً لثبوت الحكم المشبه ، ووجود السَّموات والأرض في الآخرة غير معلوم ، وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلاَّ أنذَ بقاءهما على وجه لا يفنى ألبتَّة غير معلوم ، فإذا كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدَّوام بهما كلاماً عديم الفائدة : أقصى ما في الباب أن يقال : لمَّا ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة ، وثبت دوامهما؛ وجب الاعترافُ به ، وحينئذٍ يحسُنُ التَّشبيه ، إلاّ أنَّا نقُولُ : لمَّا كان الطَّريقُ في إثبات دوام سموات أهل الآخرة ، ودوام أرضهم هو السَّمعُ ، ثُمَّ السمعُ دالَّ على دوام عقاب الكافر ، فحينئذ الدَّليلُ الذي دلَّ على ثبوت الحم في الأصل حال بعينه في الفرع ، وفي هذه الصورة أجمعُوا على أنَّ القياس ضائعٌ والتَّشبيه باطلٌ ، فكذا ههنا .
الوجه الثاني- في الجواب- قالوا : إنَّ العرب يُعبِّرون عن الدَّوام والأبد بقولهم : لا آتيك ما دامت السموات والأرض ، وقولهم : ما اختلف الليل والنهار ، وما طَمَا البَحرُ ، وما أقام الجبل وأنَّهُ تعالى خاطب القوم على عرفهم في كلامهم ، فلمَّا ذكروا هذه الأشياء بناءً على اعتقادهم أنَّها باقية أبداً ، علمنا أنَّ هذه الألفاظ في عرفهم تُفيدُ الأبد والدَّوام .
ولقائل أن يقول : هل تسلمون أنَّ قول القائل : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء الله } يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات؟ أو تقولون : إنَّه لا يدلُّ على هذا المعنى ، فإن كان الأوَّل؛ فالإشكال لازم؛ لأنَّ النصَّ لمَّا دل على أنَّهُ يجبُ أن تكون مدة مقامهم في النار مساوية لمدة بقاءِ السموات والأرض ، ويمنع ، من حصولِ بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ السموات ، وثبت أنَّهُ لا بدُّ من فناء السموات ، فعند هذا يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقابِ ، وإن قلتم إنَّ هذا لا يمنع من بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ السَّمواتِ والأرض ، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتَّة ، فثبت أنَّ هذا الجواب على كلا التقريرين ضائعٌ .
قال : والحقُّ عندي أنَّ المفهوم من الآية أنَّه متى كانت السَّموات والأرض دائمتينن كان كونهم في النَّار باقياً ، وهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرطُ حصل المشروط ، ولا يقتضي أنَّهُ إذا عدم الشرط أن يعدم المشرو « ، ألا ترى أنَّا نقول : إن كان هذا إنسان فهو حيوان ، فإذا قلنا : لكنَّهُ إنسان ، فإنه ينتج أنَّهُ حيوان ، أمَّا إذا قلنا لكنَّه ليس بإنسان لم ينتج أنَّه ليس بحيوان؛ لأن يثبتُ في علم المنطق أنَّ استثناء نقيض المقدمة لا ينتج شيئياً ، فكذا ههنا إذا قلنا : متى دامت السموات والأرض دام عقابهم ، فإذا قلنا : لكن السموات والأرض دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً ، أمَّا إذا قلنا : لكنه ما بقيت السَّموات والأرض لم يلزم عدم دوام عقابهم .
فإن قالوا : إذا كان العقابُ حاصلاً سواء بقيت السَّموات ، أو لم تبقَ ، لم يبقَ لهذا التَّشبيه فائدة .
قلنا : بل فيه أعظم الفوائد ، وهو أنه يدلُّ على بقاءِ ذلك العذاب زماناً دائماً طويلاً ، لا يحيط العقلُ بطوله وامتداده ، فأمَّا أنه هل يحصلُ له آخر أم لا؟ فذلك يُستفادُ من دليلٍ آخر .
وأمَّا الشبهة وهي تمسّكهم بقوله تعالى : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } فذكروا عنه أجوبة :
أحدهما : قال ابن قتيبة وابنُ الأنباري والفرَّاء هذا استثناء استثناه الله تعالى ، ولا يفعله ألبتَّة ، كقولك : والله لأضربنك إلاِّ أن أرى غير ذلك ، وعزيمتك أن تضربه .
ولقائل أن يقول : هذا ضعيفٌ؛ لأنه إذا قال : لأضربنك إلاَّ أن أرى غير ذلك ، معناه : لأضربنك إلاَّ إذا رأيت أن الأولى تركُ الضربِ ، وهذا لايدلُّ ألبتَّة على أنَّ الرُّؤية قد حصلت أم لا؟ بخلاف قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلاَّ المدة التي شاء ربك ، فهاهنا اللفظُ يدلُّ على أنَّ هذه المشيئة قد حصلت جزماً ، فكيف يحصلُ قياس هذا الكلام على ذلك الكلام .
وثانيها : قال الزمخشريُّ : فإن قلت : ما معنى الاستثناءِ في قوله تعالى : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } وقد ثبت خلود أهل الجنَّة والنَّار في الأبد من غير استثناء؟ قلت : هو استثناء من الخلودِ في عذاب أهل النَّار ، ومن الخود في نعيم أهل الجنَّة ، وذلك أنَّ أهل النَّار لا يُخلَّدون في عذابها وحده ، بل يُعذَّبُون بالزَّمهرير ، وبأنواعٍ آخر من العذاب ، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سخط الله عليهم ، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكثر منه كقوله : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] والدَّليل عليه قوله : { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] وفي مقابله قوله : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] أي : يفعلُ بهم ما يردث من العذاب ، كما يعطي أهل الجنَّة ما لا انقطاع له .
قال أبو حيَّان : ما ذكره في أهل النّارِ قد يتمشَّى؛ لأنَّهم يخرجون من النَّارِ إلى الزَّمهرير فيصيح الاستثناء ، وأمَّا أهلُ الجن!ة ، فلا يخرجون من الجنَّة ، فلا يصحُّ فيهم الاستثناء .
قال شهاب الدين : والظَّاهرُ أنَّهُ لا يصحُ فيهما؛ لأنَّ أهل النَّارِ مع كونهم يُعذَّبُون بالزَّمهرير هم في النَّار أيضاً .
وثالثها : أنَّه استثناء من الزَّمان الدَّال عليه قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } .
والمعنى : إلاَّ الزمان الذي شاء الله فلا يُخَلَّدون فيها .
ورابعها : إنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ ، وهو قوله : « فَفِي النَّارِ » و « فَفِي الجنَّة » لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضمير المبتدأ .
وخامسها : أنه استثناء من الضَّمير المستتر في الحالِ وهو : { خَالِدِينَ } ، وعلى هذين القولين تكون « ما » واقعةً على من يعقل عند من يرى ذلك ، أو على أنواع من يعقلُ كقوله : { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] والمرادُ ب « مَا » حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرف أهل النار ، وأمَّا في طرف أهل الجنَّة فيجوز أن يكونوا هم ، أو أصحابُ الأعراف؛ لأنهم لم يدخلُوا الجنَّة لأولِ وهلةٍ ، ولا خُلِّدُوا فيها خلودَ من دخلها أولاً .
وسادسها : قال ابنُ عطيَّة : قيل : إنَّ ذلك على طريق الاستثناء الذي ندبَ الشَّارعُ إلى استعماله في كُلِّ كلامٍ ، فهو كقوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في حكم الشَّرط ، كأنه قال : إن شاء الله؛ فليس يحتاج أن يوصف بمتَّصلٍ ، ولا منقطع .
وسابعها : هو استثناءٌ من طول المُدَّةِ ، ويروى عن ابن مسعدٍ وغيره أنَّ جهنم تخلُوا من النَّاس وتخفق أبوابها فذلك قوله تعالى : { إِلاَّ مَا شَآءَ } وهذا مردُودٌ بظواهر الكتاب والسُّنة ، وما ذكر عن ابن مسعودٍ فتأوليه : أنَّ جهنَّم في الدَّرك الأعلى ، وهي تخلون العصاة المؤمنين ، هذا على تقدير صحَّة ما نُقِل عن ابنِ مسعُودٍ .
وثامنها : أنَّ « إلاَّ » حرفُ عطفٍ بمعنى الواو ، والمعنى : وما شاء ربُّكَ زائداً على ذلك .
وتاسعها : أنَّ الاستثناء منقطعٌ ، فيقدَّرُ ب « لكن » أو ب « سوى » ، ونظروه بقولك : « لي عليك ألفا درهم ، إلاَّ الألف التي كنت أسلفتك » أي : سوى تلك ، فكأنه قالك خالدينَ فيها ما دامتِ السمواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربُّك زائداً على ذلك .
وقيل : سوى ما أعدَّ لهم من عذابٍ غير عذابِ النار كالزمخرير ونحوه .
عاشرها : أنه استثناءٌ من مدَّة السموات والأرض التي فرضت لهم في الحياة الدنيا .
وحادي عشرها : أنَّهُ استثناءٌ من البرزخ الذي يبين الدنيا والآخرة .
وثاني عشرها : أنَّهُ استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دُخُولِ النَّار ، إذا دخولهم إنَّما هو زُمَراً بعد زُمَر .
وثالث : عشرها : أنَّه استثاءٌ من قوله : « فَفِي النَّارِ » كأَّنَّه قال : إلاَّ ما شاءَ ربُّك من تأخُّر قوم عن ذلك ، وهذا مرويُّ عن أبي سعيد الخدري وجابر .
ورابع عشرها : أنَّ « إلاَّ ما شاء » بمنزلة : كما شاء؛ كقوله : { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] ، أي : كما سلف .
وخامس عشرها : أن معناه : لو شك ربُّك ، لأخرجهم منها ، ولكنه لا يشاءُ؛ لأنَّه حكم لهم بالخُلود ، فتكون « ما » نافية .
وسادس عشرها : أنَّه استثناء من قوله : { فَفِي النار } و { فَفِي الجنة } ، أي : إلاَّ الزَّمان الذي شاءهُ الله فلا يكون في النَّار ولا في الجنَّة ، ويمكن أن يكون هذا الزَّمانُ المستثنى هو الزَّمانُ الذي يفصلُ فيه بين الخلق يوم القيامة إذا كان الاستثناءُ من الكون في النَّار ، أو في الجنَّة؛ لأنه زمانٌ يخلُو فيه الشَّقيُّ والسَّعيدُ من دخُولِ النَّار والجنة ، وأمَّا إذا كان الاستثناءُ من الخلودِ فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار ، ويكوز الزَّمانُ المستثنى هو الزمانُ الذي فات أهل النار العصاةً من المؤمنين الذي يخرجُون من النَّار ويدخُلون الجنَّة ، فلسُوا خالدين في النار ، إذ قد أخرجوا منها وصارُوا إلى الجنَّة ، وهذا مرويُّ عن قتادة والضَّحاك وغيرهما والذين شقُوا على هذا شامل للكافر والعصاة هذا في طرفِ الأشقياء العصاة ممكنٌ ، وأمَّا في الطَّرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويل فيه ، إذ ليس منهم من يدخلُ الجنة ثمَّ لا يخلَّد فيها .
قال أبو حيَّان : يمكنُ ذلك باعتبار أن يكون أريد الزَّمان الذي فات أهل النَّار العُصاة من المؤمنون فيها الجنَّة وخُلَّدوا فيها صدق على العصاةِ المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدُوا في الجنة تخليدَ من دخلها لأوَّلِ وهلة .
ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } وهذا يحسُ انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفسَّاق من النَّارِ ، كأنَّه تعالى يقول : اظهرتُ القهر والقدرة ، ثم أظهرتُ المغفرة والرَّحمة؛ لأنَّي فعالٌ لما أريدُ ، وليس لأحد عليَّ حكم ألبتَّة .
قوله : { وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ }
قرأ الأخوان حفصٌ « سُعِدُوا » بضمِّ السين . والباقون بفتحها ، فالأولى من قولهم : عسده اللَّهُ ، أي : أسعدهُ حكى الفرَّاءُ عن هذيل أنها تقولُ : سعده الله بمعنى أسعده .
وقال الجوهريُّ : سَعِد فهو سَعِيد ك : سَلِمَ فهو سليم وسُعِد فهو مسعود . وقال ابن القشيري : ورد سعده الله فو مسعود ، وأسْعَده فهو مُسْعَد .
وقيل : يقال : سعده وأسْعده فهو مسعُود ، استغنوا باسم مفعول الثلاثي .
وحكي عن الكسائي أنَّه قال : هما لغتنان بمعنى يعني : فعل وأفعل . وقال أبو عمرو ابن العلاءِ : يقال : سُعِدَ الرجلُ ، كما يقال : أسعده الله وقال بعضهم : احتجَّ الكسائيُّ بقولهم : « مَسْعو » قيل : ولا حُجَّة فيه؛ لأنه يقال : مكان مسعود فيه ثم حذف « فهي » وسُمِّي به .
وكان عليُّ بن سليمان يتعجَّب من قراءة الكسائي « سُعِدوا » مع علمه بالعربيَّةِ ، ولعجبُ من تعجُّبه .
قال مكيُّ : قراءةُ حمزة والكسائي « سُعدِدوا » بضمِّ السِّين حملاً على قوله : « مسعود » وهي لغةٌ قليلة شاذةٌ ، وقولهم : « مسود » ، إنَّما جاء على حذف الزَّواد : كأنَّهُ من أسعده الله ، ولا يقالك سعده الله ، وهو مثل قولهم : أجنَّهُ الله فهو مجنون ، أتى على جَنَّةُ الله ، وإن كان لا يقال ذلك ، كما لا يقال : سعده الله . وضمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد وقال أبو البقاء : وهذا غيرُ معروفٍ في اللغةِ ، ولا هو مقيسٌ .
فصل
قال ابنُ الخطيب : الاستثناءُ في اباب السُّعداءِ يجبُ حمله على كل الوجوهِ المذكورة فيما تقدَّم ، وها هنا وجه آخر ، وهو أنُ ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنَّة إلى المنازل الرَّفيعة التي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى ، لقوله : { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ } [ التوبة : 72 ] إلى أن قال : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] .
قوله : { عَطَآءً } نُصِبَ على المصدر المؤكذ من عنى الجملة قبله؛ لأن قوله : ففِي الجنَّةِ خالدينَ « يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنَّهُ قيل : يعطيهم عطاءً ، و » عطاء « اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء على الأفعال ، أو يكونُ على حذف الزَّوائد ، كقوله : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، أو منصوب بمقدَّرِ موافق له ، أي : فنبتُّم نباتاً ، وكذلك هنا ، يقال : عطوتُ معنى : تناولتُ . و » غَيرَ مجذُوذِ « نعته ، والمجذوذُ : المقطوع ، ويقال لفُتات الذَّهب والفضَّة والحجارة جُذاذ من ذك ، وهو قريب من الجدِّ وبالمهلة في المعنى ، إلاَّ أنَّ الرَّاغب جعل جدَّ بالمهملة بمعنى : قطع الأرض المستوية ، ومنه : جدَّ في سيره يَجِدُّ جدًّا ، ثم قال : » وتُصُوِّر من جددتث الأرض القطعُ المُجرد ، فقيل : جددتُ الثوبَ إذا قطعته على وجه الإصلاح ، وثوبٌ جديد أصله المقطوع ، ثم جعل الكل ما أحدث إنشاؤه « والظَّاهر أنَّ الماتدتين متقاربتان في المعنى ، وقد ذكرت لها نظائر نحو : عتا وعثَا ، وكتب وكثب .
فصل
قال ابن زيد : أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنَّة ، فقال : { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } ولم يخبر بالذي يشاءُ لأهل النَّار .
وقال ابن مسعود : ليأتينَّ على جهنَّم زمان ولي فيها أحدٌ ، وذلك بعدما يلبثوا فيها أحقاباً وعن أبي هريرة مثلهُ ، وقد تقدَم ، ومعناه عند أهل السُّنة : ألاَّ يبقى فيها أحدٌ من أهل الإيمان ، وأما مواضع الكافر فممتلئه أبداً .
قوله : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ } أي : شك » مِمَّا يعبدُ هؤلاءِ « لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان ، وأتبعه بأحوال الأشقياء ، وأحوال السعداء شرح للرسول - عليه الصلاة والسلام- أحوال الكفار من قومه ، فقال : » فلا تَكُ في مريةٍ ممَّا يعبدُ هؤلاءِ « وحذف النون؛ لكثرة الاستعمال؛ ولأنَّ النون إذا وقعت طرف الكلام ، لم يبق عند التلفظ به إلا مجرّد الغنَة ، فلا جرم أسقطوه و » ما « في » مِمَّا يعبُدُونَ « و » مِمَّا يعبدُ آباؤنَا « مصدرية ، ويجوز أن تكون الأولى اسمية دون الثانية ، والمعنى أنَّهُم ضلال » ما يعبدون إلاَّ كما يعبد « ، وفيه إضمار ، أي : كما كان يعبدُ آباؤهُمْ من قبل ، » وإنَّا لمُوفُّوهُم نَصِيبهُم « حقَّهم من الجزاء » غير منقُوص « ويحتمل أن يكون المراد أنهم ، وإن كفروا ، وأعرضوا عن الحقِّ ، فإنا موفوهم نصيبهم من الرِّزق والخيرات الدنيويَّة ، ويحتمل أن يكون المراد : إنَّا لموفُّوهم نصيبهم من إزاحة العذر وإظهار الدلائل وإرسال الرسُل وإنزال الكتب .
قوله « غير منقُوصٍ » حالٌ من « نَصِيبهُم » وفي ذلك احتمالان :
أحدهما : أن تكون حالاً مؤكِّدة؛ لأن لفظ التوفيه يشعرُ بعدم النقص ، فقد استفيد معناها من عاملها ، وهو شأنُ المؤكدة .
والثاني : أن تكون حالاً مبنة .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف نُصب « غيْر منقُوصٍ » حالاً من النَّصب المُوفَّى؟ قلتُ : يجوز أن يُوفَّى ، وهو ناقصٌ ، ويوفَّى وهو كامل؛ ألا تراك تقولُ : « وفَّيْتُه شطر حقَّه ، وثُلثَ حقِّه ، وحقِّه كاملاً وناقصاً » فظاهر هذه العبارة أنها مبنيةٌ ، إذ عاملها محتمل لمعناها ولغيره . إلا أن أبا حيَّان قال : هذه مغلطة ، إذا قال : « وفيته شطر حقِّه » فالتوفية وقعتْ في الشَّطْر ، وكذا في الثُلُث ، والمعنى : أعطيته الشطر والثلث كاملاً لم أنقصه شيئاً ، وأما قوله : « وحقِّه كاملاً وناقصاً » فلا يقالُ لمنافاته التَّوفية . قال شهابُ الدِّين : « وفي منع الشيخ أن يقال : » وفِّيْتُه حقِّه ناقصاً « نظرٌ ، إذ هو شائعٌ في تركيبات النَّاس المعتبر قولهم؛ لأ المراد بالتَّوفيه مطلقُ التَّأدية » .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ } الآية .
لمَّا بيَّن إصرار كُفَّار مكَّة على إنكارِ التَّوحيدِ ، وبيَّن إصرارهم على إنكار نُبُوَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وتكذبيهم بكتابة ، بيَّن أنَّ هؤلاء الكُفَّار كانوا على هذه السيرة الفاجرةِ ، مع كل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- ، وضرب لذلك مثلاً ، وهي إنزالُ التوراة على موسى فاختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره بعضهم ، وذلك يدلُّ على أنَّ عادة الخلق هكذا .
قوله : { فاختلف فِيهِ } أي : في الكتابِ ، و « في » على بابها من الظَّرفية ، وهو هنا مجاز ، أي : في شأنه . وقيل : هي سببية ، أي : هو سببُ اختلافهم ، كقوله تعالى : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } [ الشورى : 11 ] أي : يُكثِّرهم بسببه . ومعنى اختلافهم فيه : أي : فمن مصدق به ومكذب كما فعل قومك بالقرآن ، يُغَزِّي نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم .
وقيل : « فِي » بمعنى « عَلَى » ويكون الضًَّمير لموسى - عليه الصلاة والسلام- أي : فاختلف عليه « ولْولاَ كملةٌ سبقتْ من ربِّكَ » في تأخير العذاب عنهم : « لقُضِيَ بينَهُم » أي : لعذَّبُوا في الحالِ ، لكن قضاؤه أخَّر ذلك عنهم في دنياهم .
وقيل : معناه أنَّ الله إنَّما يحكم بين المختلفين يوم القيامة ، وإلاَََّ لكان الواجب تمييز المُحقِّ من المبطل في دار الدنيا .
وقيل : المعنى ولولا أنَّ رحمته سبقت غضبه ، وإلاَّ لقضي بينهم . ثم قال : { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } يعني أنَّ كفَّار مكَّة لفي شكِّ من هذا القرآن « مُريبٍ » من أراب إذا حصل الرِّيب لغيره ، أو صار هو في نفسه ذا رَيْب ، وقد تقدَّم .
قوله تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُم } الآية .
هذه الآية الكريمة ممَّا تكلم النَّاس فيها وحديثاً ، وعسر على أكثرهم تلفيقها وتخريجاً فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم « وإنْ » بالتخفيف ، والباقون بالتشديد . وأمَّا « لمّا » فقرأها مشدَّدةً هنا وفي « يس » وفي سورة الزخرف ، وفي سورة الطارق ، ابن عامر وعاصمٌ وحمزة ، إلاَّ أنَّهُ عن ابن عامر في الزخرف خلافاً ، فروى عنه هشامٌ وجهين ، وروى عنه ابن ذكوان التخفيف فقط ، والباقون قرءوا جميع ذلك بالتخفيف ، وتلخَّص من هذا أنَّ نافعاً وابن كثير قرأ « وإنْ » و « لمَا » مخففتين ، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خفَّف « إنْ » وثقَّل « لمَّا » وأنَّ ابن عامر وحمزة حفصاً عن عاصم شدَّدُوا « إنَّ » و « لمَّا » معاً ، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدَا « إنَّ » وخففا « لما » فهذه أربعُ مرات للقراءة في هذين الحرفين ، هذا في المتواتر .
وأمَّا في الشَّاذ فقد قرئ أربعُ قراءاتٍ أخر :
إحداهما : قراءة أبي والحسن وأبان بن تغلب « وإنْ كلٌّ » بتخفيفها ، ورفع « كل » ، و « لمَّا » بالتشديد .
الثانية : قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم « لمَّا » مشددة منونة ، لمْ يتعرَّضُوا لتخفيف « إنَّ » ولا تشديدها .
الثالثة : قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك : « وإنْ كلٌّ » بتخفيف « إن » ورفع « كل » .
الرابعة : قال أبو حاتم : الذي في مصحف أبي « وإنْ من كلّ إلاَّ ليُوفِّينهُمْ » وقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً ، حتى قال أبو شامة وأمّا هذه الآية فمعناها على هذه القراءات من أشكل الآيات؛ قال شهاب الدين فأمَّا قراءةُ الحرميين ففيها إعمال « إن » المخففة ، وهي لغةٌ ثانيةٌ عن العرب . قال سيبويه : « حدَّثنا من نثقُ به أنَّه سمع من العرب من يقول : » إنْ عمراً لمُنْطلقٌ « ؛ كما قالوا : [ الهزج ] .
3020- . . ... كَانْ ثَدْيَيْهِ حُقَّان
قال : وَوَجْهُه من القياس : أنَّ » إنْ « مُشبهةٌ في نصبها بالفعل ، والفعلُ يعمل محذُوفاً كما يعمل غير محذوفٍ ، نحو : » لَمْ يكُ زيداً مُنطلقاً « » فلا تكُ في مريةٍ « وكذلك : لا أدْر .
قال شهابُ الدٍّين : وهذا مذهبُ البصريين ، أعني : أنَّ هذه الأحرف إذا خُفِّف بعضها جاز أن تعمل ، وأن تهمل ك : » إنْ « والأكثرُ الإهمالُ ، وقد أجمع عليه في قوله : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] وبعضها يجبُ إعماله ك » أنْ « بالفتح ، و » كأنْ « ولكنَّهُما لا يعملان في مظهر ولا ضمي بارز إلا ضرورة ، وبعضها يجب إهماله عند الجمهور ك » لكن « .
وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإهمال في » إن « المخففةِ ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم؛ بدليل هذه القراءة المتواترة؛ وقد أنشد سيبويه على إعمال هذه الحروف مخففة قول الشَّاعر : [ الطويل ]
3021- . . ... كَأنْ طبيةٌ تَعْطُو إلى وِارقِ السَّلم
وقال الفراء : لم نسمع العربَ تُخفِّفُ وتعملُ إلا مع المكنيِّ؛ كقوله : [ الطويل ]
3022- فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاءِ سألتني ... طلاقكِ لمء أبْخَلْ وأنتِ صديقُ
قال : » لأنَّ المكني لا يظهرُ فيه إعرابٌ ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع « وقد تقدَّم ما أنشدهُ سيبويه ، وقول الآخر : [ الرجز ]
3023- كأنْ وريديهِ رشاءُ خُلْبِ ... الرَّشاء : الحَبْلُ . والخُلْبُ : اللِّيفُ هذا ما يتعلق ب » إنْ « .
وأمَّا » لما « في هذه القراءة فاللاَّمُ فيها هي لامُ » إنْ « الدَّاخلةُ في الخبر ، » ومَا « يجوز أن تكون موصولة بمعنى » الذي « واقعةً على ما يعقلُ ، كقوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، فأوقع » ما « على العاقل ، واللاَّمُ في » ليُوفِّينَّهُمْ « جوابُ قسم مضمر ، والجملةُ من القسم وجوابه صلةٌ للموصولِ ، والتقديرُ : وإن كلاًّ للذين والله ليُوفِّينَّهُمْ ، ويجوز أن تكون » ما « نكرةً موصوفة ، والجملة القسمية وجوابها صفةٌ ل » ما « والتقدير وإنْ كلاًّ لخلقٌ أو لفريقٌ والله ليوفينَّهم .
والموصولُ وصلته أو الموصوفُ وصفته خبرٌ ل « إنْ » .
وقال بعضهم : اللاَّمُ الأولى هي الموِّطئة للقسم ، ولمَّا اجتمع اللاَّمان واتفقا في اللفظ فصل بينهما ب « ما » ، كما فصل بالألف بين النُّونين في « يَضْربانِّ » وبين الهمزتين؛ نحو : آأنْت ، فظاهرُ هذه العبارة أنَّ « ما » هنا زائدٌ جيء بها للفصل ، إصلاحاً للفظ ، وعبارةُ الفارسي مؤذنةٌ بهذا ، إلاَّ أنَّهُ جعل اللاَّم الأولى لام « إنْ » فقال : العُرْفُ أن تدخل لام الابتداء على الخبرِ ، والخبرُ هنا هو القسمُ ، وفيه لامٌ تدخل على جوابه ، فلمَّا اجتمع اللاَّمان ، والقسمُ محدوفٌ واتفقا في اللفظ وفي تلقي القسم ، فصلوا بينهما ب « مَا » كما فصلُوا بين « إنَّ » واللاَّم وقد صرَّح الزمخشريُّ بذلك فقال : واللاَّم في « لما » موطئةٌ للقسم ، و « ما » مزيدةٌ .
وقال أبُو شامة : واللاَّمُ في « لما » هي الفارقةُ بين المخفَّفةِ من الثقيلة والنَّافية . وفي هذا نطرٌ؛ لأنَّ الفارقة إنَّما يؤتى بها عند التباسها بالنَّافية ، والالتباسُ إنَّما يجيءُ عند إهمالها؛ نحو : إن زيدٌ لقائمٌ وهي في الآية الكريمة معملةٌ ، فلا التباسَ بالنَّافية ، فلا يقال : إنَّها فارقةٌ .
فتلخص في كلِّ من « اللاَّم » ، و « ما » ثلاثة أوجه :
أحدهما : في اللام أنها للابتداء الدَّاخلةِعلى خبر « أن » .
الثاني : لام موطئة للقسم .
الثالث : أنها جواب القسم كررت تأكيداً . وأحدهما في « ما » : أنها موصولة . الثاني : أنها نكرة الثالث : أنها مزيدة للفصل بين اللاَّمين . وأمَّا قراءة أبي بكر ففيها أوجه :
أحدهما : قولُ الفرَّاءِ وجماعة من نحاة البصرة ، والكوفة ، وهو أنَّ الأصل « لمِنْ مَا » بكسر الميم على أنَّها « مِنْ » الجارة ، دخلت على « ما » الموصولة ، أو الموصوفة ، كما تقرَّر ، أي : لمن الذين الله ليوفِّينَّهُم ، أو لمنْ خلقٍ والله ليوفِّينَّهُمْ ، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنة قبل ميم : « ما » وجب إدغامها؛ فقُلبتُ ميماً وأدغمت ، فصار اللفظ اللفظ ثلاثة أمثال ، فخففت الكلمة بحذف إحداها ، فصار اللفظ كما ترى « لمَّا » قال نصر بن علي الشيرازي : « وصل » مِنْ « الجارَّة ب » مَا « فانقلبت النُّونُ أيضاً ميماً للإدغام ، فاجتمعت ثلاثُ ميمات ، فحذفت إحداهُنَّ فبقى » لمَّا « بالتشديد » . قال : و « ما » هنا بمعنى « مَنْ » وهو اسمٌ لجماعة النَّاسِ ، كما قال تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] أي : من طاب ، والمعنى : وإنْ كلاًّ من الذين ليوفينَّهم ربُّك أعمالهم ، أو جماعة ليوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهم .
وقد عيَّن المهدويُّ الميم المحذوفة فقال : « حذفت الميم المكسورة ، والتقدير : لمنْ خلق ليوفينَّهم » .
الثاني : قول المهدويّ ومكي : أن يكون الأصل : « لمَنْ مَا » بفتح ميم : « مَنْ » على أنَّها موصولة ، أو موصوفة ، و « ما » بعدها مزيدةٌ ، قال : فقلبت النون ميماً ، وأدغمت في الميم التي بعدها ، فاجتمع ثلاثُ ميماتن فحذفت الوسطى منهنَّ ، وهي المبدلةُ من النون ، فقيل : « لمَّا » قال مكي والتقديرُ : وإن كلاًّ لخلقٌ لوفينَّهُم ربك أعمالهم ، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف ، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال : زعم بعضُ النَّحويين أن اصلهُ « لمَنْ مَا » ثُم قلبت النُّونُ ميماً ، فاجتمعت ثلاثُ ميمات فحذفت الوسطى قال : وهذا القولُ ليس بشيءٍ؛ لأنَّ « مَنْ » لايجوزُ بعضها؛ لأنَّها اسمٌ على حرفين .
وقال النحاسُ : قال أبو إسحاق : هذا خطأ؛ لأنَّهُ تحذف النونُ من « مَنْ » فيبقى حرفٌ واحد وقد ردَّه الفارسيُّ أيضاً فقال : إذ لم يقو الإدغام على تحريك السَّاكن قبل الحرفِ المدغم في نحو : « قدم مالك » فأن لا يجوز الحذفُ أجدرُ قال : على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعتْ في الإدغام أكثر ممَّا كانت تجتمع في « لمنْ مَا » ولمْ يحذف منها شيءٌ ، وذلك في قوله تعالى : { وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } [ هود : 48 ] فإذا لم يحذف شيءٌ من هذا فأنْ لا يحذف ثم أجدرُ .
قال شهابُ الدين : اجتمع في « أمم ممَّن معك » ثمانيةُ ميماتٍ ، وذلك أنَّ « أمماً » فيها ميمان وتنوين ، والتنوين يقلب يميماً لإدغامه في ميم « مِنْ » ومعنا نونان : نونُ « مِنْ » الجارة ، ونون « مَنْ » الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإدغامها في الميم بعدهما ، ومعنا ميم « طمعك » فتحصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظِ بها ، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداهما عن تنوين ، واثنتان نون ، واستدلَّ الفراءُ على أنَّ أصل « لمَّا » « لِمنْ ما » بقول الشَّاعر : [ الطويل ]
3024- وإنَّا لمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضرْبة ... عَلى رأسِهِ تُلْقِي اللِّسانَ مِنَ الفَمِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
3052- وإنِّي لمِمَّا أصْدِرُ الأمْرَ وجْهَهُ ... إذَا هُوَ أعْيَا بالسَّبيلِ مَصادِرُهْ
وقد تقدَّم في آل عمران في قراءة من قرأ : { وإذا أخذ الله ميثاق النبين لمَا آتيتكم } [ الآية : 81 ] بتشديد « لمَّا » أنَّ الأصل : « لمن ما » ففعل فيه ما تقدَّم ، وهذا أحدُ الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف هناك في سورته ، فالتفت إليه . وقال أبو شامة : وما قاله الفرَّاء استنباطٌ حسنٌ ، وهو قريبٌ من قولهم في قوله { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } [ الكهف : 38 ] إنَّ أصله : لكنم أنا ثُمَّ حذفت الهمزةُ ، وأدغمت النون في النُّون ، وكذا في قولهم : أمَّا أنت منطلقاً انطلقت ، قالوا المعنى لأن كنت منطلقاً . وفيما قاله نظرٌ ، لأنَّهُ ليس فيه حذفٌ ألبتَّة ، وإنَّما كان يحسنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ حذف ، وأمَّا مجرَّدُ التَّنظير بالقلب والإدغام فغيرُ طائلِ ، ثم قال أبو شامة : وما أحسن ما استخرج الشَّاهد من البيت يعني : الفرَّاء ، ثَم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتي التَّخفيف والتَّشديد من « لمَّا » في معنى واحد ، فقالك « ثُمَّ تُخفَّفُ ، كما قرأ بعضُ القرَّاءِ { والَغْ يَعِظُكُم } [ النحل : 90 ] بحذف الياء عند الياء؛ أنشدني الكسائيُّ : [ الوافر ] .
3026- وأشْمَتَّ العُداةَ بِنَا فأضْحَوْا ... لَدَيْ يَتباشَرُونَ بِمَا لَقِينَا
فحذفت ياؤه لاجتماع الياءات « . قال شهابُ الدِّين : الأولى أن يقال : حذفت ياءُ الإضافة من » لَدَيّ « فبقيت الياءُ السَّاكنةُ قبلها المنقلبةُ عن الألف في » لَدَى « وهو مثلُ قراءةِ من قرأ { يا بُنَيْ } [ هود : 42 ] بالإسكان على ما سبق ، وأمَّا الياءُ من » يَتَبَاشرُونَ « فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة .
ثم قال الفرَّاءُ : [ الرجز ]
3027- كأنَّ مِنْ آخِرِهَا إلقَادِمِ ... يريد : إلى القادمِ؛ فحذف اللاَّم وتوجيهُ قولهم من آخرها إلقادم أنَّ ألف » إلى « حذفت لالتقاءِ الساكنينِ ، وذلك أنَّ ألف » إلى « ساكنةٌ ، ولام التَّعريف من القادم ساكنة ، وهمزة الوصل حذفت درجاً ، فلما التقيا حذف أولهما فالتقى لامان : لام » إلى « ولام التعريف ، فحذفت الثانية على رأيه ، والأولى حذف الأولى؛ لأنَّ الثانية دالة على التعريف ، فلم يبق من حرف » إلى « غير الهمزة فاتصلت بلام » القادمِ « فبقيت الهمزة على كسرها؛ فلهذا تلفظ بهذه الكلمة » مِنْ آخرِهَا إلقادِمِ « بهمزة مكسورة ثابتةً درجاً؛ لأنها همزة قطع . قال أبُو شامة : وهذا قريبٌ من قولهم : » مِلْكذبِ « و » عَلْماءِ بنُو فُلانٍ « و » بَلْعَنْبَرِ « يريدون : من الكذبِ ، وعلى الماءِ بنُو فُلانٍ ، وبنُو العَنْبرِ ، قال شهابُ الدين - رحمه الله- : يريدُ قوله : [ المنسرح ]
3028- أبْلِغْ أبَا دَخْتَنُوسَ مألُكَة ... غَيْرُ الذي قَد يُقَالُ مِلْكَذبِ
المأكلة : الرِّسالة ، وقول الآخر : [ الطويل ]
3029أ- فَمَا سَبَقَ القَيْسِيُّ مِنْ سُوءِ فعلهِ ... ولكِنْ طَفَتْ عَلْمَاءِ غُرْلَةُ خَالدِ
الغُرْلة القُلفة ، وقول الآخر : [ الخفيف ]
3029ب- نَحْنُ قَوْمٌ مِلْجِينِّ في زيِّ ناسٍ ... فَوْقَ طَيْرِ لَهَا شُخُوصُ الجِمالِ
يريد : مِن الجنِّ . قال التبريزي في شرح الحماسة : وهذا مقيسٌ ، وهو أن لام التعريف ، إذا ظهرت في الاسم حذف الساكنُ قبلها؛ لأن الساكن لا يدغم في الساكن؛ تقول : أكلتُ مالخُبْزِ ، ورَكْبَتْ مِلخَيْلِ ، وحَملتُ مِلْجَمَلِ .
وقد ردَّ بعضهم قول الفرَّاء بأنَّ نون » مِنْ « لا تحذف إلاَّ ضرورة ، وأنشد : [ المنسرح ]
3030- . .. . . ملْكَذب
الثالث : أنَّ أصلها » لمَا « بالتَّخفيف ، ثمَّ شددت ، وإلى هذا ذهب أبو عثمان ، قال الزَّجَّاج : » وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّا لَسنَا نُثَقِّل ما كان على حرفين ، وأيضاً فلغةُ العربِ العكس من ذلك يُخَفِّفُون ما كان مُثَقَّّلاً نحو : « رُبَ » في « رُبَّ » وقيل : في توجيه إنَّه لمَّا وقف عليها شدَّدها ، كما قالوا : رأيتُ فرجًّا ، وقصبًّا ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ التَّضعيف إنَّما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً ، والميمُ هنا حشوٌ؛ لأنَّ الألف بعدها ، إلاَّ أن يقال : إنَّه أجرى الحرف المتوسط مجرة المتأخِّر؛ كقوله : [ الرجز ]
3031- مِثْلَ الحَريقِ وَافَقَ القَصَبَّا ... يريد : القَصَبَ ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّدت منها ألفٌ ، وضعَّف الحرف؛ وكذلك قوله : [ الرجز ]
3032- بِبَازلٍ وجْنَاءَ أوْ عَيْهَلِّي ... كأنَّ مَهْواهَا عَلى الْكَلْكَلِّ
شدَّد اللام مع كونها حشْواً بياء الإطلاقِ ، وقد يُفرَّق بأنَّ الألف والياء في هذين البيتين في حكم الطَّرح؛ لأنَّهما نَشَآ من حركةٍ بخلاف ألف : « لمَّا » فإنَّها أصليةٌ ثابتةٌ ، وبالجملة فهُو وجهٌ ضعيفٌ جدًّا .
الرابع : أنَّ أصلها « لمًّا » بالتنوين ثم بين منهُ « فَعْلى » فإن جعلت ألفهُ للتَّأنيث ، لم تصرفه ، وإنْ جعلتها للإلحاق صرفتهُ ، وذلك كما قالوا في « تَتْرى » بالتنوين وعدمه ، وهو مأخوذ من قولك : لَمَمْتُهُ : أي جمعتُهُ ، والتقدير : وإن كُلاًّ جميعاً لويفينَّهُمْ ، ويكون « جَميعاً » فيه معنى التوكيد ك « كل » ، ولا شكَّ أنَّ « جميعاً » يفيدُ معنى زائداً على « كل » عند بعضهم قال : ويدلُّ على ذلك قراءة من قرأ : « لمَّا » بالتنوين .
الخامس : أنَّ الأصل « لمًَّا » بالتنوين أيضاَ ، ثمَّ أبدل التنوين ألفاً وقفاً ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف ، وقد منع من هذا الوجه أبو عبيدة قال : لأنَّ ذلك إنَّما يجوز في الشعر يعني إبدال التنوين ألفاً وصلاً إجراءً لهُ جرى الوقف ، وسيأتي توجيه قراءة « لمَّا » بالتنوين .
وقال ابنُ الحاجبِ : « استعمالُ » لمَّا « في هذا المعنى بعيد ، وحذفُ التنوين من المُنْصَرف في لاوصل أبعدُ ، فإن قيل : » لمَّا « فعلى من اللَّمِّ ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث ، والمعنى فيه مثل معنى » لمَّا « المُنْصَرف فهو أبعدُ ، إذ لا يعرفُ » لمَّا « فعلى بهذا المعنى ولا بغيره ، ثم كان يلزمُ هؤلاء أن يميلوا كمن أمال ، وهو خلافُ الإجماع ، وأن يكتبوها بالياء ، وليس ذلك بستقيم » .
السادس : أنَّ « لمَّا » زائدة كما تزاد « إلا » قالهُ أبو الفتح وغيره ، وهذا وجهٌ لا اعتبار به ، فإنَّه مبنيُّ على وجهٍ ضيف أيضاً ، وهو أنَّ « إلاَّ » تأتي زائدة . _@_ السابع : أنَّ « إنْ » نافيةٌ بمنزلة « ما » ، و « لمَّا » بمعنى « إلاّ » فهي كقوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] أي : ما كلُّ نفس إلاَّ عليها { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } [ الزخرف : 35 ] أي : ما كل ذلك إلا متاع . واعترض على هذا الوجه بأنَّ « إنْ » النافية لا تنصبُ الاسم بعدها ، وهذا اسمٌ منصوبٌ بعدها وأجابَ بعضهم عن ذلك بأنَّ « كلاًّ » منصوبٌ بإضمار فعلٍ ، فقدَّرهُ قومٌ منهم أبو عمرو ابنُ الحاجبِ : وإن أرى كلاًّ ، وإن أعلمُ ونحوه ، قال : ومِن هنا كانتْ أقلَّ إشكالاً من قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجه غيرُ مُسْتبعدٍ ذلك الاستعباد وإنْ كان في نَصْبِ الاسم الواقعِ بعد حرف النًَّفِي استبعادٌ ، ولذلك اختلف في مثل : [ الوافر ]
3033- ألاَ رَجُلاً جزاهُ اللَّهُ خَيْراً ... يَدُلُّ عَلى مُحَصِّلةٍ تَبِيتُ
هل هو منصوب بفعل مقدَّر ، أو نوِّن ضروةً؟ فاختار الخليلُ إضمار الفعلِ ، واختار يونس التنوين للضَّرورة ، وقدَّرهُ بعضهم بعد « لمَّا » من لفظ : « ليُوفِّينَّهُم » ، والتقدير : وإن كلاً إلاَّ ليوفِّينَّ ليُوفِّينَّهم . وفي هذا التقدير بعدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد « إلاَّ » لا يعمل فيما قبلها ، واستدل على مجيء : « لمَّا » بمعنى : « إلاَّ » بنصِّ الخليل وسبويه على ذلك ونصره الزَّجَّاج . قال بعضهم : وهي لغةُ هذيل ، يقلولون : سألتك بالله لمَّا فعلت أي : إلاَّ فعلت .
وأنكر الفرَّاء وأبو عبيدة وردود : « لمَّ » بمعنى : « إلاًّ » قال أبو عبيدٍ : « أمَّا من شدَّد » لمَّا « بتأويل » إلاَّ « فلمْ نجدْ هذا في كلام العربِ ، ومن قال هذا لزمهُ أن يقول : قام القوم لمَّا أخاك ، يريدُ : إلاَّ أخاكَ ، وهذا غيرُ موجودٍ » وقال الفرَّاءُ : « وأمَّا من جعل » لمَّا « بمنزلة » إلاَّ « فهو وجهُ ضعيفٌ ، وقد قالت العربُ في اليمين : بالله لمَّا قمت عنا ، وإلاَّ قمت معنا ، فأمَّا في الاستثناء فلم تقله في شعر ، ولا غير غيره ، ألا ترى أنَّ ذلك لو جاء لسمعت في الكلام : ذهب النَّاسُ لمَّا زيداً » فأبو عبيد أنكر مجيء « لمَّاط بمعنى » إلاَّ « مُطلقاً ، والفراء جوَّز ذلك في القسم خاصةً ، وتبعه الفرسي في ذلك ، فقال- في تشديد » لمَّا « ههنا- : » لا يصلحُ أن تكونَ بمعنى « إلاَّ » ، لأنَّ « لمَّا » هذه لا تفارق القسم « وردَّ النَّاس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه ، وبأنَّها لغة هُذيْل مطلقاً ، وفيه نظرٌ ، فإنَّهُمْ لمَّا حكوا لغة هذيل حكوها في القسم كما تقدّضم من نحو : نشدتك بالله لمَّا فعلت ، وأسألك بالله لمَّا فعلت . وقال أبو علي أيضاً مستشكلاً لتشديد : » لمَّا « في هذه الآية على تقدير أنَّ » لمَّا « بمعنى » إلاَّ « لا تختص بالقسم ما معناه : أنَّ لتشديد : » لمَّا « في هذه الآية على تقدير أنَّ » لمَّا « بمعنى » إلاَّ « لا تختص بالقسم ما معناه : أنَّ تشديد » لمَّا « ضعيفٌ سواء شدَّدت » إن « أم خفَّفت ، قال : » لأنَّه قد نُصِبَ بها « كلاً » ، وإذا نصب بالمُخَفَّفةِ كانت بمنزلة المثقلة ، وكا لا يَحْسُن : إنَّ زيداً إلاَّ منطلق؛ لنَّ الإيجابَ بعد نفي ، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجاب مؤكدة ، فكذا لا يحسن : إنَّ زيداً لمَّا منطلق ، لأنَّهُ بمعناه ، وإنَّما ساغ : نشدتُك الله إلاَّ فعلت ، ولمَّا فعلت؛ لأنَّ معناه الطَّلب ، فكأنَّهُ قال : ما أطلبُ منك إلاَّ فِعْلك ، فحرفُ الن َّفي مرادٌ مثل
{ تَالله تَفْتَأُ } [ يوسف : 85 ] ، ومثَّل ذلك أيضاً بقولهم : « شرُّ أهرُّ ذا ناب » أي : ما أهرَّه إلاَّ شرُّ ، قال : « وليس في الآية معنى النَّفي ولا الطَّلب » .
وقال الكسائي : لا أعرف وجه التَّثقيل في « لمَّا » قال الفرسيُّ : ولم يبعد فيما قال وروي عن الكسائي أيضاً أنَّه قال : اللَّهُ عزَّ وجلَّ أعلمُ بهذه القراءة ، لا أعرفُ لها وجهاً . _@_ الثامن : قال الزَّجَّاجُ : قال بعضهم قَوْلاً ، ولا يجوز غيره : أنَّ « لمَّا » في معنى « إلاَ » مثل { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] ثمَّ أتبع ذلك بكلام طويل مشكل حاصلهُ يرجع إلى أنَّ معنى « إنْ زيدٌ لمنطلق : ما زيدٌ إلاَّ منطلق » ، فأجريتَ المشددة كذلك في المعنى إذا كانت اللام في خبرها ، وعملها النَّصيب في اسمها باقٍ بحالة مشددة ومخففة ، والمعنى نفيٌ ب « إنْ » وإثباتٌ باللاَّم التي بمعنى « إلاَّ » و « لمَّا » بمعنى « إلاَّ » ، وقد تقدَّم إنكارُ أبي عليّ على جواز « إلاَّ » في مثل هذا التركيب ، فكيف يجُوزُ « لمَّا » التي بمعناها؟ . وأمَّا قراءةُ ابن عامر وحمزة وحفصل ففيها وجوه :
أحدهما : أنَّها « إنَّ » المشددة على حالها ، فلذلك نصب ما بعدها على أنَّه اسمها ، وأمَّا « لمَّا » فالكلامُ فيها كما تقدَّم من أنَّ الأصل « لَمِنْ مَا » بالكسر ، أو لَمَنْ مَا « بالفتح ، وجميع تلك الأوجه المذكورة تعودُ هنا ، والقولُ بكونها بمعنى » إلاَّ « مشكلٌ كما تقدَّم تحريره عن أب علي وغيره . الثاني : قال المازنيُّ : إنَّ » هيا لمخففة ثقلت : وهي نافيةٌ معنى « مَا » كما خففت « إنَّ » ومعناها المثقلة ، « ولمَّا » بمعنى « إلاَّ » وهذا قولٌ ساقطٌ جدًّا لا اعتبار به ، لأنَّهُ لم يُعْهَدْ تثقيلُ « إنْ » النافية ، وأيضاً ف « كلاًّ » بعدها منصوبٌ ، والنافيةُ لا تنصبُ .
قال أبُو عمرو بنُ الحاجب- في أماليه- : « لمَّا » هذه هي الجازمة فحذف فعلها للدَّلالةِ عليها ، لما ثبت من جوازِ حذف فعلها في قلوهم : « خرجتُ ولمَّا ، وسافرتُ ولمَّا » وهو سائغٌ فصيح ، ويكونُ المعنى : وإنَّ كُلاً لمَّا يهملوا أو يتركُوا لما تقدَّم من الدَّلالةِ عليه من تفصيل المجموعين بقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] ، ثمَّ فصَّل الأشقياءَ والسُّعداء ، ومجازاتهم ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله : { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } قال : « وما أعرفُ وجهاً أشبهَ من هذا ، وإن كانت النفوسُ تَسْتبعدُهُ من جهة أنَّ مثلهُ لمْ يردْ في القرآن » ، قال : « والتَّحْقِيقُ يَأبَى استعادهُ » .
قال شهابُ الديِّن : وقد نصَّ النَّحويون على أنَّ « لمَّا » يحذفُ مجزومها باطِّرادٍ ، قالوا : لأنَّها لنفي قَدْ فعل ، وقد يحذف بعدها الفعل؛ كقوله : [ الكامل ]
3034- أفِدَ التَّرْحُّلْ غَيْرَ أنذَ رِكَابنَا ... لمَّا تزلْ بِرحَالِنَا وكأنْ قَدِ
أي : وكأن قد زالت ، فكذلك منْفيهُ ، وممَّن نصَّ عليه الزمخشريُّ ، على حذف مجزومها ، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب « معانِي الشِّعر » قول الشَّاعِر : [ الوافر ]
3035- فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولمَّا ... فَنادَيْتُ القُبورَ فَلَمْ يُجِبْنَهْ
قال : « قوله : » بَدْءاً « أي : سيّداً وبدءُ القوم سيِّدهم ، وبدءُ الجزُور خيرُ أنْصِبَائِهَا » .
قال : وقوله : « ولمَّا » أي : ولمّا أكُنْ سيِّداً إلاَّ حين ماتُوا ، فإنِّي سدتُ بعدهم؛ كقول الآخر : [ الكامل ]
3036- خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّد ... ومن العناءِ تفرُّدِى بالسُّؤدُدِ
ما نِلْتُ ما قَدْ نِلْلتُ إلاَّ بَعْدَمَا ... ذَهَبَ الكِرامُ وسَادَ عَيْرُ السَّيِّد
قال ونظير السُّكُوتِ على « لمَّا » دون فعلها السكُّوتُ على « قَدْ » دون فعلها في قول النابغة : [ الكامل ]
3037- أفِدَ التًّرَحُّلُ . .. . . .
قال شهابُ الدِّين : وهذا الوجهُ لا خصوصية لهُ بهذا القراءة ، بل يَجِيءُ في قراءة من شدَّد « لمَّا » سواءً شدَّد « إن » أو خففها .
وأمَّا قراءةُ أبي عمرو ، والكسائي فواضحةٌ جدًّا ، فإنَّها « إنَّ » المشدَّدة عملت عملها ، واللاَّم الأولى لام الابتداء الدَّاخلة على خبر « إنَّ » ، والثانية جواب قسم محذوف ، أي : وإنَّ كلاًّ للذين والله ليوفِّينَّهُم ، وقد تقدَّم وقوعُ « ما » على العُقلاء؟ِ مُقرَّرا ، ونظيرُ هذه الآية : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] غير أنَّ اللاَّم في « لمنْ » داخلةٌ على الاسم ، وفي « لمَّا » داخلة على الخبر . وقال بعضهم : « مَا » هذه زئادةٌ زيدت للفصل بين اللامين ، لام التَّوكيد ، ولام القسم ، وقيل : اللاَّم ُ في « لمَّا » موطئة للقسم مثل اللاَّم في قوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] والمعنى : وإنَّ جميعهم واللَّه ليُوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهُم من حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجحودٍ .
وقال الفرَّاء عند ذكر هذه الآية- : جَعَلَ « مَا » اسماً للنَّاس كما جاز { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ثم جعل اللاَّم التيفيها جواباً ل « إنَّ » وجعل اللاَّم التي في « ليُوفِّينَّهُمْ » لاماً دخلت على نيَّةِ يمينٍ فيما بين « مَا » وصلتها ، كما تقول : هذا من ليَذْهبنَّ ، وعندي ما لغيرهُ خيرُ منه ، ومثله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] .
ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أنَّ اللاَّم مكررةٌ فقال : إذا عجَّلت العربُ باللاَّم في غير موضعها أعادوها إليه ، نحو : إنَّ زيداً لإليك لمُحْسِنٌ؛ ومثله : [ الطويل ]
3038- ولَوْ أنَّ قَوْمِي لمْ يكُونُوا أعِزَّة ... لبَعْدُ لقَدْ لا قَيْتُ لا بُدَّ مَصْرَعَا
قال : أدخلها في « بَعْد » وليس بموضعها ، وسمعت أبا الجرَّاحِ يقولُ : « إنِّي ليحمد الله لصالحٌ » .
وقال الفارسيُّ- في توجيه القراءة- : « وجهُهَا بيِّن وهو أنَّه نصب » كُلاًّ « ب » إنَّ « وأدخل لام الابتداء في الخبر ، وقد دخلت في الخبرِ لامٌ أخرى ، وهي التي يُتلقَّى بها القسم ، وتختصُّ بالدُّخُول على الفعل ، فلمَّا اجتمعت اللاَّمان فُصِل بينهما كما فُصِل بين » إنَّ « واللاَّم فدخلتها وإن كانت زائدة للفصل ، ومثله في الكلام : إن زيداً لينطلقنَّ » .
فهذا ما تلخَّص من توجيهات هذه القراءات الأربع ، وقد طعن بعضُ النَّاس في بعضها بِمَا لا تحقق له ، فلا ينبغي أن يلتفت إلى كلامه .
قال المبردُ- وهي جرأةٌ منه- « هذا لحنٌ » يعين تشديد « لمَّا » قال : « لأنَّ العرب لا تقول : إنَّ زيداً لمَّا خارجٌ » وهو مردودٌ عليه .
قال أبو حيان : وليس تركيبُ الآية كتركيب المثال الذي قال وهو : إنَّ زيداً لمَّا خارج ، هذا المثالُ لحنٌ . قال شهابُ الدِّين : إن عنى أنَّهُ ليس مثله في التركيب من كل وجه فمُسلَّم ، ولكن ذلك لا يفيدُ فيما نحن تصدده ، وإن عنى أنه ليس مثله في كونه دخلت « لمَّا » المشددة على خبر « إنَّ » فليس كذلك ، بل هو مثلُه في ذلك ، فتسليمُهُ اللَّحْنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ؛ لأنه يستلزم ما لا يجوز أن يقال .
وقال أبو جعفرٍ : القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النَّحويين لحنٌ ، حكي عن محمد بن يزيد أنه قال : إنَّ هذا لا يجوز ، ولا يقال : إنَّ زيداً إلا لأضربنَّه ، ولا « لمَّا لأضربنَّه » قال : وقال الكسائي : « اللَّه أعلم لا أعرف لهذه القراءة وجهاً » وقد تقدم ذلك ، وقتدم أيضاً أنَّ الفرسي قال : كما لا يحسن : إنَّ زيداً إلاَّ لمنطلق؛ لأنَّ « إلاَّ » إيجاب بعد نفي ، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجابٌ مؤكَّد ، فكذا لا يحسن : إنَّ زيداً لما منطلق ، لأنه بمعناه ، وإنَّما ساغ نشدتك بالله لمَّا فعلت . . . إلى آخر كلامه . وهذه أقوالٌ مرغوبٌ عنها؛ لأنَّها معارضة للمتواتر القطعي .
وأمَّا القراءات الشَّاذة فأوَّلها قراءةُ أبي ومن تبعه « وإنْ كلٌّ لمَّا » بتخفيف « إنْ » ورفع « كل » على أنَّها « إن » النافية « وكل » مبتدأ ، و « لمَّا » مشددة بمعنى « إلاَّ » ، و « ليُوفِّينَّهُم » جوابُ قسمٍ حذوف ، وذلك القسم وجوابه خبر المبتدأ وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهّم { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } [ يس : 32 ] ومثله { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } [ الزخرف : 35 ] ، ولا التفاتَ إلى قول من نفى أنَّ « لمَّا » بمنزلةِ « إلاَّ » فقد تقدَّمت أدلته .
وأما قراءةُ اليزيدي وابن أرقم « لمَّا » بالتشديد منونة ف « لمَّا » فيها مصدرٌ من قولهم : « لمَمْتُه- أي : جمعته - لمَّا » ومنه قوله تعالى : { وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] ثم في تخريجه وجهان :
أحدهما : ما قاله أبو الفتح ، وهو أن يكون منصوباً بقوله : « ليُوفِّينَّهُمْ » على حدِّ قولهم : قياماً لأقومنَّ؛ وقعوداً لأقَعدنَّ ، والتقديرُ : توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفينهم ، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعامله في المعنى دون الاشتقاق .
والثاني : ما قالهُ أبو علي الفارسي وهو : أن يكون وصفاً ل « كُلّ » وصفاً بالمصدر مبالغة ، وعلى هذا فيجبُ أن يقدَّر المضافُ إليه « كل » نكرةً ، ليصحَّ وصفُ « كل » بالنَّكرةِ ، إذْ لو قُدِّر المضافُ معرفة لتعرَّفتْ « كل » ، ولو تعرَّفت لامتنع وصفُها بالنَّكرةِ ، فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرة ، ونظيره قوله تعالى : { وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً } [ الفجر : 19 ] فوقع « لمَّا » نعتاً ل « أكْلاً » وهو نكرةٌ .
قال أبو علي : ولا يجوز أن يكون حالاً؛ لأنه لا شيء في الكلام عاملٌ في الحالِ . وظاهرُ عبارة الزمخشري أنَّهُ تأكيدٌ تابعٌ ل « كلاًّ » كما يتبعها أجمعون ، أو أنَّهُ منصوبٌ على النَّعت ل « كُلاًّ » فإنه قال : « وإنْ كلاًّ لمًّا ليُوفِينَّهُمْ » كقوله : « أكْلاً لمًّا » والمعنى : وإن كلاًّ ملمومين بمعنى : مجموعين ، كأنه قيل : وإن كلاًّ جميعاً كقوله تعالى : { فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] انتهى لا يريدُ بذلك أنَّهُ تأ : يدٌ صناعيُّ ، بل فسَّر معنى ذلك وأراد : أنَّهُ صفةٌ ل « كُلاًّ » ولذلك قدَّرهُ : بمجموعين ، وقد تقدَّم في بعض توجيهات « لمَّا » بالتَّشديد من غير تنوين ، أنَّ المنون أصلا ، وإنَّما أُجري الوصلُ مجرى الوقف ، وقد عُرف ما فيه وخبر « إنْ » على هذه القراءة هي جلمة القسمِ المقدَّرِ وجوابه سواءَ في ذلت تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه .
وأمَّا قراءةُ الأعمشِ فواضحةٌ جداًّ ، وهي مفسَّرةٌ لقراءة الحسنِ المتقدَّمة ، لولا ما فيها من مخالفة سوادِ الخط .
وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أبي كما نقلها أبُو حاتم ف « إنْ » فيها نافية ، و « مِنْ » زائدةٌ في النَّفي ، و « كل » مبتدأ ، و « ليُوفِّينَّهُم » مع قسمة المقدَّر خبرها ، فتؤول إلى قراءة الأعمش التي قبلها ، إذ يصيرُ التقديرُ بدون « مِنْ » : « وإنْ كلٌّ إلاَّ ليُوفِّينَهُم » والتنوين في « كلاً » عوضٌ من المضافِ إليه قال الزمخشري : يعني : وإنَّ كُلُّهُم ، وإنَّ جميع المختلفين فه . وقد تقدَّم أنَّهُ على قراءةِ « لمًّا » بالتنوين في تخريج أبي عليّ لهُ ، لا يقدَّر المضافُ إليه « كل » إلاّ نكرةً لأجْلِ نعتها بالنَّكرةِ .
التوكيد ب « إنَّط وب » كُلّ « وبلام الابتداءِ الدَّاخلة على خبر » إنَّ « وبزيداة » ما « عل رأي ، وبالقسم المقدَّر وباللاَّم الواقعة جواباً له ، وبنون التوكيد ، وبكونها مشددة ، وإردافها بالجملة لاتي بعدها من قوله { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فإنَّه يتضمَّنُ وعيداً شديداً للعاصي ، ووعداً صالحاً للطَّائع .
وقرأ العامَّةُ : « يَعْمَلُون » بياء الغيبة ، جرياً على ما تقدَّم من المختلفين ، وقرأ ابنُ هرمز « بِمَا تعملُونَ » بالخطابِ ، فيجُوزُ أن يكون التفاتاً من غيبة إلى خطابِ ، ويكونُ المخاطبون الغيب المتقدِّمين ، ويجوز أن يكون التفاتاً إلى خطاب غيرهم .
فصل
معنى الآية : أنَّ من عجلت عقوبته ، ومن أخرت ومن صدَّق الرُّسل ، ومن كذَّب فحالهم سواء في أنَّهُ تعالى يوفيهم أجر أعمالهم في الآخرة ، فجمعت الآية الوعد ، والوعيد فإنَّ توفية جزاء الطاعات وعدٌ عظيمٌ ، وتوفية جزاءِ المعاصي وعيدٌ عظيمٌ ، وقوله : { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } توكيد للوعْدِ والوعيد ، فإنَّه لمَّا كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطَّاعات والمعاصي ، فكان عالماً بالقدر اللاَّئق بكل عمل من الجزاءِ ، فحينئذٍ لا يضيع شيء من الحقوق وذلك نهاية البيان .
قوله تعالى : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } الآية .
لمَّا شرح الوعد الوعيد قال لرسوله « فاسْتقِمْ كما أمِرْتَ » وهذه كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يتعلَّق بالعقائدِ والأعمال ، سواء كان مختصَّا به ، أو متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشَّرائع ، ولا شكَّ أنَّ البقاء على الاستقامة الحقيقيَّة مشكلٌ جدًّا .
قال ابنُ الخطيب : وأنا أضربُ لذلك مثلاً يقربُ صعوبة هذا المعنى إلى العقل السَّليم ، وهو انَّ الخطَّ المستقيم الفاصل بين الظِّلِّ وبين الضَّوء جزء واحد لايقبلُ القسمة في العرض ، وذلك الخط ممَّا لا يدركه الحس ، فإنَه إذا قرب طرف الظل من طرف الضَّوءِ اشتبه البعضُ بالبعض في الحسّ ، فلم يقع الحس على إدراك الخط بعينه بحيثُ يتميز عن كلِّ ما سواهُ .
وإذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية .
فأولها : معرفة الله وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العقل مصوناً في طرف الإثبات عن التَّشبيه ، وفي طرف النَّفي عن التَّعطيل في غاية الصعوبة ، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك ، وأيضاً فالقوَّة الغضبية والقوّةُ الشهوانية حصل لك واحد منهما طرفُ إفراط وتفريط ، وهما مذمومان ، والفاصلُ هو المتوسط بينهما بحيثُ لا يميلُ إلى أحدِ الجانبين ، والوقوفُ عليه صعبٌ؛ فثبت أنَّ معرفة الصِّراط المستقيم في غاية الصُّعوبة ، لا جرم قال ابنُ عبَّاسِ- رضي الله عنه- : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرم وبجَّل ومجَّد وعظَّم- في جميع القرآن آية أشق من هذه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : « شيبَّني هُود وأخواتها » وروى عن بعضهم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت لهُ : روي عنك أنك قلت : « شَيَّبَتْنِي هُود وأخواتُها » فقال : نَعَمْ « قلت : وبأي آية؟ فقال : قوله : » فاسْتَقِمْ كما أمِرْتَ « .
قوله : { كَمَآ أُمِرْتَ } الكافُ في محلِّ النصب ، إمَّا على النَّعت لمصدرٍ محذوفٍ ، كما هو المشهورُ عند المعربين قال الزمخشريُّ : أي اسْتقم استقامةً مثل الاستقامةِ الَّتِي أمرتَ بها على جادًّة الحقِّ غير عادلٍ منها . وإمَّا على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدر .
واستفعل هنا للطَّلب ، كأنه قيل : اطلب الإقامة على الدِّين ، كما تقول : استغفر أي : اطلب الغفران .
قوله : { وَمَن تَابَ مَعَكَ } في « مَنْ » وجهان ، أحدهما : أنَّهُ منصوب على المفعول به ، كذا ذكره أبو البقاء ويصير المعنى : استقم مصاحباً لمنْ تاب مُصاحباً لك ، وفي هذا المعنى نقوٌّ عن ظاهر اللفظ .
والثاني : أنَّهُ مرفوعٌ فإنَّه نسقٌ على المستتر في « اسْتَقمْ » ، وأعنى الفصلُ الجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحَّةِ العطف ، وقد تقدَّم هذا البحث في قوله : { اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ البقرة : 25 ] ، وأنّ الصحيح أنَّهُ من عطف الجمل لا من عطف المفرادات ، ولذلك قدَّرهُ الزمخشريُّ فاستقم أنتَ ، وليستقم من تاب مَعَكَ ، فقدَّر الرافع له فعلاً لائقاً برفعه الظَّاهر .
وقال الواحدي : محلها ابتداء تقديره : ومن تَابَ معكَ فلْيَستقِمْ
فصل
معنى الآية : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } على دين ربِّك ، والعمل به ، والدُّعاء إليه ، كما أمرت ، { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أي : مَنْ معك فليَسْتَقِيمُوا ، قال عمرُ بنُ الخطاب- رضي الله عنه- : الاستقامةُ أن تَسْتَقِيمَ على الأمْرِ والنَّهْي ، ولا تروغ روغان الثَّعلب .
روى هشام بن عُروة عن أبيه عن سفيان بن عبدِ الله الثَّقفي- رضي الله عنه- قال : « قلتُ يا رسُول الله قُلْ لِي فِي الإسلامِ قَوْلاُ لا أسْألُ عنهُ أحداً بعدك ، قال : » قُلْ آمنْتُ باللَّهِ ثم اسْتٌقِمْ « .
فصل
هذه الآية أصلٌ عظيم في الشَّريعة ، وذلك أنَّ القرآن لمَّا ورد بترتيب الوضوء في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيه ، لقوله : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } ، ولمَّا » ورد الأمرُ في الزَّكاةِ بأداء الإبل من الإبل ، والبقرِ من البقرِ وجب اعتبارها ، وكذا القولُ في كل ما ورد أمرُ الله به .
قال ابنُ الخطيبِ : وعندي أنه لا يجوزُ تخصيص النصِّ بالقياسِ؛ لأنَّهُ لمَّا دلَّ عموم النَّص على حكم وجب العمل بمقتضاه ، لقوله تعالى- : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } فالعملُ بالقياسِ انحراف عنه .
ثم قال : { وَلاَ تَطْغَوْاْ } أي : لا تجوزوا أمري ولا تعصوني وقيل : لا تغلُوا فتزيدُوا على أمرت ونهيت والطُّغيان : تجاوز الحدًّ . وقيل : لا تطغوا في القرآن فتحلُّوا حرامهُ وتحرِّمُوا حلالهُ وقال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما- : « تواضعوا لله ولا تتكبورا على أحد » { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ العامَّة « تَعْمَلُونَ » بالتَّاء « جرياً على الخطابِ المتقدم .
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفيُّ بياء الغيبة ، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ عكس ما تقدَّم في { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
قوله تعالى : { وَلاَ تركنوا } قرأ العامَّةُ بفتح التَّاءِ والكاف ، والماضي من هذا « رَكِن » بكسر العين ك « عَلِمَ ، وهذه الفصحى ، كذا قال الأزهريُّ وقال غيره : » وهي لغةُ قريش « وقرأ أبو عمرو في رواية : » تِرْكَنُوا « بكسر حرف المضارعة وقد تقدَّم ذلك في قوله : » نَسْتعِينُ « .
وقرأ قتادةُ ، وطلحةُ ، والأشهب ، ورويت عن أبي عمرو » تَرْكُنُوا « بضمِّ العين وهو مضارع » رَكَنَ « بفتحها ك : قَتَلَ يَقْتُل ، وقال بعضهم : هو من التَّداخُلِ ، يعني من نطق ب » رَكَنَ « بكسر العين قال : » يَرْكُن « بضمها ، وكان من حقِّه أن يفتحَ ، فلمذَا ضمّ علمنا أنه استغنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغته ، وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاءِ التَّداخُل ، بل ندَّعي أنَّ من فتح الكاف أخذه من : » رَكِنض « بالكسرِ ، ومن ضمَّها أخذه من » رَكَنَ « بالفتح ، ولذلك قال الراغبُ : » والصحيحُ أن يقال : رَكِنَ يَرْكَنُ ورَكَنَ يَرْكُنُ بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع ، وبالفتح في الماضي مع الضمِّ في المضارع « وشذَّ أيضاً قولهم : رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما ، وهو التداخل؛ فتحصًّل من هذا أنَّه قال : » رَكِنَ « بكسر العين وهي اللغة العالية كا تقدَّم ، و » ركَنَ « بفتحها ، وهي لغة قيس وتميم ، وزاد الكسائيُّ : » ونَجْد « وفي المضارع ثلاثٌ : الفتحُ ، والكسرُ ، والضمُّ . وقرأ ابنُ أبي عبلة : » تُرْكَنُوا « مبنياً للمفعول من : أرْكَنَهُ إذا أمالهُ ، فهو من باب » لا أرَيَنَّكَ ههنا « و { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } الأعراف : 2 ] وقد تقدم .
والرُّكُونُ : المَيْلِ ، ومنه الرُّكْنُ للاستنادِ إليه .
قوله : { فَتَمَسَّكُمُ } منصوبٌ بإضمار » أنْ « في جوابِ النهي . وقرأ ابنُ وثاب وعلقمةُ ، والأعمشُ في آخرين » فَتِمَسَّكُمُ « بكسر التَّاءِ .
قوله : { وَمَا لَكُمْ } هذه الجملةُ يجوزُ أن تكون حاليةً ، أي : تَمَسَّكم حال انتفاءِ ناصركم .
ويجوز أن تكون مستأنفة و » مِنْ أولياءَ « » مِنْ « فيه زائدةٌ ، إمَّا في الفاعل ، وإمَّا في المبتدأ ، لأنَّ الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ- أحدها النَّفيُ- رفع الفاعل .
قوله : { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } العامَّةُ على ثبوتِ نُون الرَّفعِ؛ لأنه مرفوع ، إذ هو من باب عطف الجمل ، عطف جملة فعلية على جملة اسميةَ . وقرأ زيد بن علي - رضي الله عنهما- بحذف نون الرفع ، عطفه على » تمسَّكُم « ، والجملةُ على ما تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف ، فتكون معترضةً ، وأتى ب » ثمَّ « تنبيهاً على تباعد الرُّتْبَة .
فصل
معنى الآية : قال ابن عبَّاسٍ- رضي الله عنهما- : » ولا تميلُوا « .
والرُّكُونُ : هو المحبَّة والميل بالقلب . وقال أبو العاليةِ : لا ترضوا بأعمالهم .
وقال السدي : لا تداهِنُوا الظَّلمة .
وعن كرمة : لا تطيعوهم وقيل لاتسكنوا إلى الذين ظلمُوا « فتَتَمسَّكُم » ، فتصيبكم « النَّارُ وما لَكُم من دُونِ الله من أولياءَ » أي : ليس لكم أولياء ولا أعوان يخلصونكم من عذاب الله ، ثُمَّ لا تجدُوا من ينصركُمْ .
قوله تعالى : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } الآية .
لمَّا أمره بالاستقامة أردفهُ بالأمر بالصَّلاة ، وذلك يدلُّ على أنَّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة .
قوله : { طَرَفَيِ النهار } ظرفٌ ل « أقِم » ويضعف أن يكون ظرفاً للصلاة ، كأنه قيل : أي أقم الصَّلاة الواقعة في هذين الوقتين ، والطرف ، وإن لم يكن ظرفاً ، ولكنَّه لمَّا أضيف إلى كلها على الظرف لمَّّا أضيفت إليه ، وإن كانت ليست موضوعة للظَّرفية .
وقرأ العامَّةُ « زُلَفاً » بضمِّ الزاي ، وفتح اللام ، وهي جمعُ « زُلْة » بسكون اللام ، نحو : غُرَف في جمع غُرفة ، وظُلَم في جمع ظُلمه . وقرأ أبو جعفر وابنُ أبي إسحاق بضمها ، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه :
أحدهما : أنَّهُ جمع « زُلْفَة » أيضاً ، والضَّمُّ للإتباع ، كما قالوا : بسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمَّة الباء .
الثاني : أنَّهُ اسمٌ مفرد على هذه الزِّنةِ ك : عُنُق .
الثالث : أنه جمعُ « زَلِيف » قال أبو البقاءِ : « وقد نُطِف به » ، يعني أنَّهم قالوا زَليف ، و « فعيل » يجمعُ على « فُعُل » نحو : رَغِيف ورغف ، وقَضِيب وقضُب .
وقرأ مجاهدٌ وابنُ محيصنٍ بإسكان اللاَّم وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّهُ يحتمل أن تكون هذه القراءةُ مخفَّفةً من ضمِّ العين فيكون فهيا ما تقدَّم .
والثاني : أنَّهُ سكونُ أصلٍ من باب اسم الجنس نحو : بُسْرة وبُسْ من غير إتباع .
وقرأ مجاهد وابن محيصنٍ وأيضاً في رواية : « وزُلْفَى » بزنة : « حُبْلَى » جعلوها على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى؛ لأنَّ المعنى على المنزلة الزُّلفى ، أو الساعة الزُّلْفَى ، أي : القريبة .
وقد قيل : إنَّه يجوز أن يكون أبدلا التنوين ألفاً ثم أجرياص الوصل مجرى الوقف فإنَّهُما يقرآن بسكون اللاَّم وهو محتملٌ .
وفي انتصاب : « زُلَفاً » وجهان :
أظهرهم : أنه نسقٌ على « طَرفي » فينتصب الظَّرف ، إذ المراد بها ساعات الليل القريبة .
والثاني : أن ينتصب انتصابَ المفعول به نسقاً على الصَّلاة .
قال الزمخشريُّ- بعد أن ذكر القراءات المتقدمة- : وهو ما يقرب من آخر النَّهار ومن الليل ، وقيل : زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل ، وحقُّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة ، أي : أقم الصلاة طرفي النَّهار ، وأقم زُلفاً من اللَّيل على معنى صلوات تقرَّبُ بها إلى الله تعالى في بعض الليل .
والزُّلفةُ : أول ساعات الليل ، قاله ثعلبُ . وقال الأخفش وابنُ قتيبة : « الزلف : ساعات الليل وآناؤه ، وكلُّ ساعة منه زلفة » فلم يخصصاه بأوَّلِ الليلِ؛ وقال العداد : [ الرجز ]
3039- ناجٍ طواهُ الأيْنُ ممَّا وجَفَا ... طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفاً فزُلفَا
سماوةَ الهلالِ حَتَّى احقوْقَفا ... وأصلُ الكلمة من « الزُلْفَى » والقرب ، يقال : أزْلفه فازْدلفَ ، أي : قربَّهُ فاقتربَ قال تعالى : { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين } [ الشعراء : 64 ] وفي الحديث : « ازْدَلِفُوا إلى الله بركعتيْنِ » .
وقال الرَّاعب : والزُّلفةُ : المَنْزِلَةُ والحُظْوة ، وقد استعملت الزُّلفة في معنى العذابِ كاستعمال البشارة ونحوها ، والمزالِفُ : المراقي : وسُمِّيت ليلة الزدلفة لقربهم من منى بعد الإفاضة . وقوله : « من اللَّيل » صفةٌ ل « زُلَفاً » .
فصل
معنى « طَرَفَي النَّهارِ » أي : الغداوة والعشي . قال مجاهدٌ- رحمه الله- : طرفا النهار الصبح ، والظهر ، والعصر « وزُلفاً من اللَّيْل » يعني : صلاة المغرب والعشاء .
وقال الحسنُ : طرفا النَّهارِ : الصبح ، والظهر والعصر « وزُلفاً من اللَّيل » المغرب والعشاء وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- : طرفا النهار الغداوة والعشي ، يعني صلاة الصبح والمغرب .
فصل
قال ابن الخطيب - رحمه الله- : « الأشهر أنَّ الصلوات التي في طرفي النهار هي الفجر والعصر ، وذلك لأنَّ أحد طرفي النهار طُلوعُ الشَّمس ، والطَّرف الثاني غروب الشمس .
فالأول : هو صلاة الفجر .
والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب؛ لأنها داخلة تحت قوله : { وَزُلَفاً مِّنَ الليل } فوجب حملُ الطَّرفي الثاني على صلاة العصر .
وإذا تقرَّر هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة- رضي الله عنه- في أنَّ التنوير بالفجرِ أفضل ، وفي أنَّ تأخير العصر أفضل؛ لأنَّ ظاهر الآية يدلُّ على وجوب إقامة الصَّلاة في طرفي النهار ، وبينا أنَّ طرفي النهار هم الزمان الأول لطلوع الشمس ، والزَّمان الثَّاني لغروب الشمس ، وأجمعت الأمة على أنَّ إقامة الصَّلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة فقد تعذَّر العملُ بظاهر الآية ، فوجب حلمه على المجاز ، وهو أن يكون المرادُ : إقامة الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار؛ لأنَّ ما يقرب من الشَّيءِ يجوزُ أن يطلقَ عليه اسمه ، وإذا كان كذلك فكل وقتٍ كان أقرب لطلوع الشمسِ ، وإلى غروبها كان أقربُ إلى ظاهر اللفظ ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطُّلوع من إقامتها عند التغليس ، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه ، أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظلُّ كل شيءٍ مثله ، والمجازُ كلَّما كان أقرب إلى الحقيقة ، كان حملُ اللفظ عليه أولى .
فصل
قال أبو بكر الباقلاني - رضي الله عنه- : إنَّ الخوارجَ تمسَّكُوا بهذه الآية في إثبات أنَّ الواجب ليس إلاَّ الفجر والعشاء من وجهين :
الأول : أنَّهُمَا واقعان على طرفي النهار؛ فوجب أن يكون هذا القدر كافياً .
فإن قيل : قوله { وَزُلَفاً مِّنَ الليل } يوجب صلوات أخرى .
قلت : لا نُسلِّمُ ، فإنَّ طرفي النهار موصوفان بكونهما زُلفاً من اللَّيْلِ ، فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً غاية ما في الباب أنَّ هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف ، وذلك كثير في القرآن والشعر .
الوجه الثاني : أنه تعالى قال : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } وهذا يقتضي أنَّ من صلًَّى طرفي النَّهار كان إقامتهما كفارة لكلّ ذنب ، فبتقدير أن يقال : إنَّ سائرَ الصلوات واجبة إلاَّ أنَّ إقامتها يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات ، وهذا القولُ باطلٌ بإجماع الأمَّةِ فلا يلتفتُ إليه .
فصل
قيل قي قوله تعالى : { وَزُلَفاً مِّنَ الليل } أنه يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلفٍ من الليل؛ لأنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة ، والمغربُ والعشاءُ وقتان؛ فجيب الحكمُ بوجوب الوتر .
قوله : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } قال ابن عبَّاسِ : إنَّ الصَّلوات الخمس كفارة لسائر الذُّنوب بشرط الجتناب الكبائر ووري عن مجاهدٍ - رحمه الله - : « إنَّ الحسنات هي قول العبد : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر .
وروي أنَّها نزلت في أبي اليسر ، قال : أتتني امرأة تبتاع تَمْراً ، فقلتُ لها إنَّ في بتي تَمراً أطيب من هذا؛ فدخلت معي في البيت ، فأهويت إليها فقبَّلتُهَا ، فأَيْتُ أبا بكر- رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين- فذكرتُ ذلك له فقال : اسْتُرْ على نفسك وتب ، فأتيتُ عمر - رضي الله عنه- فقالك اسْتُرْ على نفسك وتُب فلم أصْبِرْ ، فأتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرتُ ذلك ، فقال : » أخلفت غازياً في سبيل الله في أهلهِ بمثلِ هذا؟ « حتَّى تمنَّى أنَّهُ لمْ يكُنْ أسلم إلاَّ تلك السَّاعة حتَّى ظنَّ أنَّهُ من أهْلِ النَّارِ فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أوحي إليه { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } الآية ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألِهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال : » بَلْ للنَّاسِ عامَّة « وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : » الصَّواتُ الخمسُ ، والجمعةُ إلى الجمعةِ ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفّراتٌ ما بينهُنَّ إذا اجتُنِبت الكبائِرَ « .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : » أرأيتُم لوْ أنَّ نهراً بباب أحكمْ يغتَسِلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ ، هل يبْقَى من دَرَنِهِ شيءٌ « ؟ قالوا : لا ، قال : » فذلِكَ مثلُ الصَّلواتِ الخمسِ ، يَمْحُوا اللَّهُ بهنَّ الخطايا « .
فصل
احتجَّ من قال إنَّ المعصية لا تضرُّ مع الإيمان بهذه الآية؛ لأنَّ الإيمان أشرفُ الحسنات ، وأجلها ، وأعظمها ، ودلَّت الآية على أنَّ الحسنات تذهبُ السيئات ، والإيمان يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان؛ فلأن يذهب المعصية التي هي أقل درجة أولى ، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقلَّ من أن يفيد إزالة العقابِ الدَّائم المؤبَّد .
ثم قال تعالى : { ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } أي : ذلك الذي ذكرناه ، وقيل : إشارة إلى القرآن » ذِكْرَى « موعظة ، » للذَّاكرينَ « أي : لمن ذكره » واصْبِرْ « يا محمَّدُ على ما تلقى من الأذى .
وقيل : على الصَّلاة ، نظيرهُ : قوله تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } في أعمالهم ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما- » يعني المصلِّينَ « .
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ } من الآية .
لمَّا بيَّن أنَّ الأمم المتقدمين حلَّ بهم عذاب الاستئصال ، بيَّن أنَّ السبب فيه أمران :
الأول : أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض ، فقال : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ } ، « لوْلاَ » تخضيضيه دخلها معنى التَّفجُّع عليهم ، وهو قريبٌ من مجاز قوله تعالى : { ياحسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] وما يروى عن الخليل- رحمه الله- أنه قال : كل ما كان في القرآن من « لَوْلاَ » فمعناه « هَلاَّ » إلاَّ التي في الصافات « لوْلاَ أنَّهُ » ، لا يصحُّ عنه لورودها كذلك في غير الصافات { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } [ القلم : 49 ] { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } [ الإسراء : 74 ] { وَلَوْلاَ رِجَالٌ } [ الفتح : 25 ] .
و « مِنَ القُرونِ » يجوز أن يتعلَّق ب « كان » ؛ لأنَّها هنا تامَّة ، إذا المعنى : فهلاَّ وُجِد من القُرونِ ، أو حدث ، أو نحو ذلك ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من : « أُولُوا بقيَّةٍ » لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً لهُ ، و « مِن قَبْلِكُم » حالٌ من « القُرُون » و « يَنْهَون » حالٌ من « أولوا بقيَّة » لتخصُّصه بالإضافةِ ، ويجوز أن يكون نعتاً ل « أُولُوا بقيَّّةٍ » وهو أولى .
ويضعفُ أن تكون « كان » هذه ناقصة لبُعْد المعنى من ذلك ، وعلى تقديره يتعيَّن تعلُّق « من القُرونِ » بالمحذُوف على أنَّهُ حالٌ؛ لأنَّ « كَانَ » النَّاقصة لا تعملُ عند جمهورالنُّحاةِ ، ويكون « يَنْهَوْنَ » في محلِّ نصب خبراً ل « كان » .
وقرأ العامَّةُ « بقيَّة » بفتح الباء وتشديد الياءِ ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنَّها صفةٌ على « فَعِيلة » للمبالغةِ ، بمعنى « فاعل » ؛ وذلك دخلت التَّاءُ فيها ، والمرادُ بها حينئذٍ الشيء وخياره ، وإنَّما قيل لجنْدِه وخياره : « بقيَّة » في قولهم : فلان بقيةُ النَّاس ، وبقيةُ الكرام؛ لأنَّ الرَّجُل يستبقى ممَّا يخرجه أجوده وأفضله والرجل يبقى بعده ذكر جوده وفضله؛ وعليه حمل بيتُ الحماسِة : [ البسيط ]
3040- إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتينِي بقِيَّتُكُمْ .. . .
وفي المثل : « في الزَّويا خبايا ، وفي الرِّجالِ بَقايَا » .
والثاني : أنَّها مصدرٌ بمعنى البقوى قال الزمخشريُّ ويجوزُ أن تكون البقيَّة بمعنى البَقْوَى كالتقيَّة بمعنى التَّقوى ، أي : فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم ، وصيانةٍ لها من سخطِ الله وعقابه . والمعنى : فهلاّ كان منهم أولوا مراقبة وخشية من انتقام الله .
وقرأت فرقةٌ « بَقِيَة » بتخفيفِ الياءِ ، وهي اسمٌ فاعل من بقي ك : شَجِيَة من شَجِي ، والتقدير أولُوا طائفةِ بقيةِ أي : باقية وقرأ أبو جعفرٍ وشيبة « بُقْية » بضمِّ الفاء وسكون العين .
وقُرِئَ « بَقْيَة » على المرَّة من المصدر . و « فِي الأرْضِ » متعلقٌ بالفسادِ ، والمصدرُ المقترن ب « أل » يعمل المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذُوفٍ عل أنه حالٌ من « الفَسادِ » .
فصل
المعنى : فهلاَّ « كان مِنَ القُرونِ » التي أهلكناهم ، « مِن قَبْلكُمْ » أولُوا تمييز وقيل : أولُوا طاعة وقيل : أولُوا خير ، يقال : فلانٌ على بقيَّةٍ من الخير إذا كان على خصلة محمودة . و « ينْهَوْنَ عن الفسادِ في الأرضِ » أي : يقُومُون بالنَّهْي عن الفسادِ ، ومعناه جحداً ، أي : لم يكن فيهم أولُو بقية .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون استثناء منقطعاً؛ وذلك أن يحمل التخضيض على حقيقته ، وإذا حُمل على حقيقته تعين أن يكون الاستثناءُ منقطعاً لئلاَّ يفسد المعنى .
قال الزمخشريُّ : معناه : ولكن قليلاً ممَّن أنْجينَا من القرون نهوا عن الفساد ، وسائرهُم تاركون النَّهي ثم قال : فإن قلت : هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يحملُ عليه؟ قلتُ : إن جعلتهُ متَّصلاً على ما هو عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسِداً؛ لأنَّهُ يكون تحضيضاً لأولي البقية على النَّهي عن الفساد إلاَّ للقليل من النَّاجين منهم ، كما تقولُ : هلا قرأ قومك القرآن إلاَّ الصلحاء منهم ، تريدُ استثناء الصُّلحاء من المحضَّضينَ على قراءة القرآن . فيَئُول الكلام إلى أنَّ الناجين لم يحضُّوا على النَّهْي عن الفاسد ، وهو معنَّى فاسدٌ .
والثاني : أن يكون متًّصِلاً ، وذلك بأن يؤوَّل التحضيض على قراءة القرآن بمعنى النَّفي ، فيصحَّ ذلك؛ إلاَّ أنَّهُ يُؤدِّي إلى النصب غير الموجب ، وإن كان غير النصب أولى .
قال الزمخشري : فإن قلت : في تحضيضهم على النَّهي عن الفاسد معنى نفيه عنهم ، فكأنَّهُ قيل : ما كان من القُرُونِ أولُوا بقية إلاَّ قليلاً كان استثناءً متصلاً ومعنى صحيحاً ، وكان انتصابهُ على أصل الاستثناء ، وإن كان الأفصحُ أن يرفع على البلد .
ويؤيد أنَّ التحضيض هنا في معنى النَّفْي قراءةُ زيد من عليّ « إلاَّ قليلٌ » بالرفع ، لاحظ معنى النَّفي فأبدل على الأفصحِ ، كقوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .
وقال الفراء : المعنى : فلمْ يكن؛ لأنَّ في الاستفهام ضَرْباً من الجَحْدِ سمَّى التَّحضيض استفهاماً .
ونُقل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّن اتصال هذا الاستثناء كأنَّهُ لحظَ النَّفْيَ و « مِنْ » في : « مِمَّنْ أنْجَيْنَا » للتبعيض . ومنع الزمخشريُّ أن تكون للتعيضي بل للبيانِ فقال : حقُّها أن تكون للبيانِ لا للتبعيض؛ لأنَّ النَّجاة إنَّما هي للنَّاهينَ وحدهم ، بدليل قوله : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] .
فعلى الأول يتعلق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل « : قَلِيلاً » .
وعلى الثاني : يتعلق بمحذوف على سبيل البيان ، أي : أعني .
قوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ } هذا السببُ الثاني في نزولِ عذاب الاستئصال .
قرأ العامَّةُ : « اتَّبَعَ » بهمزة وصلٍ وتاءِ مشددةٍ ، وياءٍ ، مفتوحتين ، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل وفيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ معطوفٌ على مضمرٍ .
والثاني : أنَّ الواو للحالِ لا للعطفِ ، ويتَّضحُ ذلك بقول الزمخشري فإن قلت : علام عطف قوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ } ؟ قلت : إن كان معناه : واتَّبعُوا الشَّّهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ؛ لأنَّ المعنى : إلاَّ قليلاً ممَّنْ أنجينا منهم نُهُا عن الفسادِ ، واتَّبع الذين ظلمُوا شهواتهم ، فهو عطفٌ على « نُهُوا » وإنْ كان معناه : واتَّبعُوا جزاءَ الإترافِ ، فالواو للحال ، كأنَّه قيل : أنْجَيْنَا القليل ، وقد اتتبع الذين ظلموا جزاءهم .
فجوز في قوله : « مَا أتْرِفُوا » وجهين :
أحدهما : أنَّه مفعول من غير حذف مضافِ ، و « مَا » واقعة على الشَّوات وما بطرُوا بسببه من النِّعم .
والثاني : أنَّهُ على حذف مضاف ، أي : جزاء ما أتْرِفُوا ، ورتَّب على هذين الوجهين القول في « واتَّبَع » .
والإتْراف : إفعالٌ من التَّرف وهو النِّعمة ، يقال : صبيُّ مترفٌ ، أي : مُنْعَم البدن ، وأتْرِفُوا نَعِمُوا وقيل : التَّرفُّهُ : التوسُّع في النِّعمةِ .
وقال مقاتلٌ : « أتْرِفُوا » خُوَّلُوا .
وقال الفراء : عُوِّدُوا ، أي : واتَّبع الذين ظلمُوا ما عُوِّدُوا من النَّعيم ، وإيثار اللذات على الآخرة .
وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي ، وأبو جعفر « وأتْبعَ » بضم همزة القطع وسكون التَّاءِ وكسر الباء مبنيَّا للمعفول ، ولا بدَّ حينئذِ من حذف مضاف ، أي : أتبعُوا جزاء ما أترفُوا فيه .
و « ما » يجوز أن تكون معنى « الذي ، وهو الظَّاهرُ لعودِ الضمير في » فيه « عليه ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : جزاء إترافهم .
قوله » وكانُوا مُجْرمينَ « كافرين وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن تكون عطفاً على » أْرِفُوا « إذا جعلنا » ما « مصدرية ، أي : اتَّبعوا إترافهم وكونهم مجرمين .
والثاني : أنه عطفٌ على » اتَّبَعَ « ، أي : اتَّبَعُوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك ، لأنَّ تابعَ الشَّواتِ مغمورٌ بالآثامِ .
الثالث : أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنَّهُم قومٌ مجرمون ذكر ذلك الزمخشريُّ .
قال أبو حيَّان : » ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النَّحْو؛ لأنه آخرُ آيةٍ ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر « .
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ } الآية .
في » لِيُهْلِكَ « الوجهان المشهوران ، وهما : زيادة اللام في خبر : » كان « دلالةً على التَّأكيد- كما هو رأي الكوفيين- أو كونها متعلقة بخبر » كان « المحذوف ، وهو مذهبُ البصريي ، و » بِظُلْمِ « متعلق ب » يُهْلِكَ « والباءُ سببيةٌ ، وجوَّز الزمخشريُّ أن تكون حالاً من فاعل » لِيُهْلِكَ « ، وقوله » وأهْلُهَا مُصْلِحُون « جملة حالية .
فصل
قيل : المرادُ بالظلم هنا : الشرك ، قال تعالى : وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ
{ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والمعنى : أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم ، ولهذا قال الفقهاءُ : إنَّ حقوق الله مبناها على المسامحِة ، وحقوق العباد بمناها على التَّضييقِ ولاشح ، ويقالُ : إنَّ الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظُّلم ، ويدلُّ على هذا التأويل أنَّ قوم هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب إنَّما نزل بهم عذابُ الاستئصال ، لما حكى الله تعالى عنهم من إياءِ النَّاس وظلم الخلق وهذا تأويل أهل السنة وقالت المعتزلة : إنَّهُ تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لكان ظلماً ، ولمَّا كان متعالياً عن الظلم ، لا جرم أنَّهُ إما يهلكهم لأجل سُوء أفعالهم .
وقيل : معنى الآية : أنَّهُ لا يُهلكُهُمْ بظلم منه ، وهم مُصْلِحثونَ في أعملاهم ، ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السَّيئات ، وهذا بمعنى قول المعتزلة .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } كلهم على دين واحدٍ ، { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } على أديان شتَّى ، من يهوديِّ ، ونصرانيِّ ، ومجوسيِّ ، ومشركِ ، ومسلم ، وقد تقدم الكلام على ذلك .
قوله : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } ظاهرهُ أنه متَّصلٌ ، وهو استثناءٌ من فاعل « يَزالُون » ، أو من الضَّمير في « مُختلفينَ » وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً ، أي : لكن من رحمَ ، لم يختلفُوا ، ولا ضرورة تدعُوا على ذلك .
قوله : « ولذلِكَ » في المشار إليه أقوال كثيرة .
أظهرها : أنَّهُ الاختلافُ المدلولُ عليه ب « مُخْتلفينَ » ؛ كقوله : [ الوافر ] .
3041- إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ ... وخَالفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ
رجع الضَّمير في « إليه » على السَّفة « ، ولا بدَّ من حذف مضافٍ على هذا ، أي : ولثمرة الاختلاف خلقهم ، واللام في الحقيقةِ للصَّيروةِ ، أي : خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف .
وقيل : المرادُ به الرحمة المدلول عليها بقوله : » رَحِمَ « وإنَّما ذكرَّ ذهاباً بها إلى الخير وقيل : المرادُ به المجموعُ منهما ، وإليه نحا ابنُ عباس -رضي الله عنهما- : كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] وقيل : إشارةٌ إلى ما بعده من قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ ، وهو قولٌ مرجوحٌ؛ لأنَّ الأصل عدمُ ذلك .
فصل
قال الحسنُ وعطاء : وللاختلاف خلقهم قال أشهب : سألتُ مالكاً رحمه الله - عن هذه الاية فقال : خلقهم ليكون فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعير . قال أبو عبيدة : الذي أختاره قول من قال : خلق فريقاً لرحمته ، وفريقاُ لعذابه ، ويُؤيده قوله تعالى : » وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين « .
وقوله صلى الله عليه وسلم : » خلق الله الجنَّة وخلق لها أهلاً ، وخلق النَّار وخلق لها أهلاً « .
وقال ابن عباس- رضي الله عنهما- ومجاهدٌ ، وقتادة ، والضحاك رضي الله عنهم : وللرَّحمةِ خلقهم ، يعني الذين رحمه وقال الفراء : خلق أهل الرَّحْمةِ ، وأهل الاختلاف للاختلاف ومحصول الآية أنَّ أهل الباطلِ مختلفُون ، وأهل الحقِّ متَّفقُون ، فخلق أهل الحق للاتفقا ، وأهل الباطل للاختلاف .
وذهبت المعتزلةُ إلى قولِ ابن عبَّاسٍ ، وهو أنَّهُ خلقهم للرَّحمةِ ، قالوا : ولا يجوز أن يقال : وللاختلاف خلقهم لوجوه :
الأول : أنَّ عود الضَّمير إلى أقرب المذكورين ألوى من عوده إلى أبعدهما :
والثاني : لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك لام يجز أن يعذبهم عليه ، إذا كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف .
الثالث : أنَّا إذ فسرنا الآية بالرحمةِ مطابقاً لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
فإن قيل : لو كان المراد ، وللرَّحمة خلقهم لقال : ولتك خلقهم ، ولم يقل : وللك خلقهم قلنا : إن تأنيث الرَّحمةِ لي حقيقيًّا ، فكان محمولاً على الفضل والغفرانِ ، كقوله : { هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } [ الكهف : 98 ] وقوله : { إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } [ الأعراف : 56 ] .
فصل
احتج من قال بأنَّ الهداية والإيمان لا يحصل إلاَّبخلقِ الله تعالى بهذه الآية ، وذلك لأنَّها تدلُ على أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين لا يحصلُ إلاَّ لمنْ خصَّهُ الله برحمته ، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإزاحة العذر ، فإن كُلَّ ذلك حاصل للكفار ، فلم يبق إلاَّ أن يقال : تلك الرحمة هو أنَّ الله - تعالى - يخلق فيه تلك الهداية والمعرفة .
قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ }
قال القاضي معناه : إلا من رحم ربُّك بأن يصير من أهل الجنة ، والثواب فيرحمه الله بألطافه وتسهيله ، وهذان الجوابان في غاية الضعف .
أمَّا الأولُ فلأنَّ قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } بأن يصير من أهل الجنة ، يفيدُ أنَّ ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة؛ فوجب ان تكون هذه الرَّحمة جارية مجرة السَّّبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف ، والثَّواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف ، فالاختلاف جارٍ مجرى السبب له فحملُ هذه الرَّحمة على الثَّواب لا يجوزُ .
وأمَّا الثاني- وهو حملُ هذه الرَّحمة على الألطافِ التي فعلا في حقِّ المؤمن- فهي مفعولة أيضاً في حقِّ الكافر ، وهذه الرحمة أمر اختص به المؤمن؛ فوجب أن يكون شيئاً زائداً عل تلك الألطاف ، وأيضاً فحصول الألطاف هل يوجبُ رجحان وجود الإيمان على عدمه أم لا يوجبه؟ فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها ، بالنسبة غلى حصول هذا المقصود سيان ، فلم يكُ لطفاً منه ، وإذا وجب تلك الألطاف وعدمها ، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان ، فلم يكُ لطفاً منه ، وإذا وجب الرُّجحان فقد ثبت في العقليات أنه متى حصل الرجحان ، فقد وجب حينئذٍ أن يكون حصول الإيمان من الله ، وما يدل على أنَّ حصول الإيمان لا يكون إلاَّ بخلق الله تعالى؛ لأنَّهُ ما لم يتميز الإيمان عن الكفر ، والعمل عن الجهلِ امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم ، وهذا الامتياز إنما يحصلُ إذا علم كون احد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد ، وكون الآخر ليس كذلك ، وإنَّما يصح هذا العلم إذاعرف ذلك المعتقد كيف يكون ، وهذا يوجب أنَّهُ لا يصح من العبدِ القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً ، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محالٌ ، فثبت أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين ، وحصولِ العلم والهداية لا يحصل إلاَّ بخلق الله تعالى .
ثم قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } وتم حكم ربك { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } فقوله : « أجْمَعِينَ » تأكيد ، والأكثر أن يسبق ب « كُل » وقد جاء هنا دونها .
والجنَّةُ والجِنُّ : قيل : واحد ، والتاء فيه للمبالغة .
وقيل : الجنَّةُ جمع جِنّ ، وهو غريبٌ ، فيكون مثل « كَمْءِ » للجمع ، و « كَمْأة » للواحد .
قوله تعالى : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ } الآية .
لمَّا ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة ، ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة .
أحدهما : تثبيت الفؤاد على أداء الرِّسالة ، وعلى الصَّبر واحتمال الأذى؛ وذلك لأنَّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية ، فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه؛ كما يقال : المصيبة إذا عمت خفت ، فإذا سمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه القصص ، وعلم أنَّ حال جميع الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- مع أتباعهم هكذا ، سهل عليه تحمل الأذى من قومه ، وأمكنه الصبر عليه .
والفائدة الثانية : قوله { وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } .
قوله تعالى : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ } في نصبه أوجه :
أحدها : أنه مفعولٌ به ، والمضاف إليه محذوفٌ ، عوض منه التنوين ، تقديره : وكلُّ نبأ نقصُّ عليك .
و « مِنْ أنباءِ » بيانٌ له أو صفةٌ إذا قُدِّر المضاف إليه نكرة .
وقوله : { مَا نُثَبِّتُ بِهِ } يجوز أن يكون بدلاً من : « كُلاًّ » وأن يكون خبر مبتدأ مضمر : أي : هو ما نُثَبِّتُ ، أو منصوبٌ بإضمار أعني .
الثاني : أنه منصوبٌ على المصدر ، أي : كلَّ اقتصاصٍ نقصُّ ، و « مِنْ أنباءِ » صفةٌ : أو بيان ، و « ما نُثَبتُ » هو مفعول « نَقُصُّ » .
الثالث : كما تقدم ، إلاَّ أنه يجعل « ما » صلة ، والتقدير : وكلاًّ نقصُّ من أبناءِ الرُّسُل نُيَبِّتُبه فؤادك ، كذا أعربه أبو حيان وقلا : كَهِي في قوله : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 3 ] .
الرابع : أن يكون « كُلاًّ » منصوباً على الحال من « ما نُثَبِّتُ » وهي في معنى : « جَمِيعاً » وقيل : بل هي حال من الضمير في « بِهِ » وقيل : بل هي حالٌ من « أنْبَاء » وهذان الوجهان إنما يجوزان عند الأخفش ، فإنَّهُ يجيزُ تقديم حال المجرورِ بالحف عليه؛ كقوله تعالى : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] في قراءة من نصب « مَطويَّاتٍ » وقول الآخر : [ الكامل ]
3042- رَهْطُ ابْنِ كُوزِ مُحْقِبِي أدْراعِهِمْ ... فِيهِمْ ورهْطُ رَبِيعةَ بْنِ حُذَارِ
والمعنى : وكل الذي تحتاجُ إليه من أبناء الرسل ، أي : من أخبارهم ، وأخبار الأمم نقصها عليك؛ لنثبت به فؤادك؛ لنزيدك يقيناً ، ونقوي قلبك ، وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصَّبْرِ لأذى قومه .
{ وَجَآءَكَ فِي هذه الحق } قال الحسنُ وقتادةُ : في هذه الدنيا وقال الأكثرون : في هذه السورة خص هذه السورة تشريفاً ، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور .
وقيل : في هذه الآية .
والمراد به « الحق » البراهين الدَّالة على التَّوحيدِ والعدلِ والنبوة ، « مَوْعظةٌ » أي : وجاءتك موعظة « وذكْرى للمُؤمنينَ » والمرادُ ب « الذكرى » الأعمال الباقية الصالحة في الدَّار الآخرة .
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
ثم قال تعالى : { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } .
وهذا تهديدٌ ووعيدٌ؛ لأنَّه تعالى لمَّا بالغ في الإعذار والإنذار والتَّرغيب والتَّرهيب ، أبتع ذلك بأن قال للرسول - صلوات الله وسلامه عليه- { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة : { اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ } وهذا عين ما حكاه عن شعيب- عليه السلام- أنه قال لقومه { وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } [ هود : 93 ] . والمعنى : افعلوا كلَّ ما تقدرُون عليه في حقِّي من الشر ، فنحن أيضاً عاملون .
وقوله : « اعملُوا » وإن كان صيغته صيغة أمر ، إلاَّ أنَّ المراد به التَّهديد ، كقوله : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } [ الإسراء : 4 ] وكقوله : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] « وانتَظِرُوا » ما يعدكم الشيطان من الخذلان ف « إنَّا مُنتَظِرُونَ » ما وعدنا الرَّحمن من أنواع الغفران والإحسان ، قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما- : « وانتَظِرُوا » اهلاك ف « إنَّا مُنتَظِرُونَ » لكم العذاب وقيل : « انتظرُوا » ما يحلُّ بنا من رحمة الله « إنَّا مُنتضِرُونَ » ما يحل بكم من نقمته .
ثم إنَّه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشَّريفة فقال : { وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض } [ هود : 123 ] أي : علم ما غاب من العبادِ ، أي : أن علمه نافذ في جمعي الكفليات والجزئيات ، والمعدومات ، والموجودات { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّه } في المعاد .
قرأ نافع وحفص « يُرجَع » بضم الياءِ وفتح الجيم ، أي : يرد . وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الجيم ، أي : يعودٌ الأمرُ كلُّه إليه حتَّى لا يكون للخلق أمر { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وثق به { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } قرأ نافع وابن عامر وحفص « تَعْمَلُون » بالخطاب ، لأنَّ قبله « اعْمَلُوا » والباقون بالغيبة رجوعاً على قوله : { لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } وهذا الخلاف أيضاً في آخر النمل .
قال كعبُ الإحبار : خاتمة التَّوارة خاتمة سورة هود روى عكرمة عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما- قال أبو بكر - رضي الله عنه- : يا رسول الله قد شبت ، فقال صلى الله عليه وسلم « شَيَّبتْنِي هُودٌ والواقعةُ ، والمرسلاتُ ، وعمَّ يتَساءَلُون ، وإذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ » ويروى : « شَيَّبتْنِي هودٌ وأخواتها » ويروى : « شَيَّبتْنِي هودٌ وأخواتها الحاقَّةُ ، والواقعةُ ، وعمَّ يتساءَلُون ، وهل أتاكَ حديث الغاشيةِ » .
قال الحكيم : الغزع يورث الشَّيْب ، وذلك أنَّ الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسدِ ، وتحت كُلِّ شعره منبع ، ومنه يعرق ، فإذا انتشف الفزغُ رطوبته يبست المنابع؛ فَيبس الشَّعر وابيض ، كما ترى الزَّرعَ بسقائه ، فإذا ذهب سقاءهُ يبس فابيض ، وإنَّما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويُبْس جلده ، فالنفس تذهل بوعيد الله بالأهوال؛ فتبل وينشَّف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به ، ومنه تشيب؛ قال تعالى :
{ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } [ المزمل : 17 ] وقال الأصمُّ : ما حلَّ بهم من عاجل أمر الله ، فأهلُ اليقين إذا اتلوها تراءى على قلوبهم من ملكهِ وسلطانهِ البطش بأعدائهِ ، فلو ماتُوا من الفزع لحق له ، ولكن الله - تبارك وتعالى- يلطف بهم في الأيان حتَّى يقرؤوا كلامهُ ، وكذلك لآخر آية في سورة هود ، فإنَّ تلاوة هذه السُّورة ما يكشف لقلوب العارفين سلطانهُ وبطشهُ ما تذهل منه النفوس ، وتشيب منه الرءوس .
قال القرطبيُّ : وقيل : إنِّ الذي شَيَّبَ النبي صلى الله عليه وسلم من سورة « هود » قوله تعالى : { فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ } [ هود : 112 ] وقال عمرو بن أبي عمرو العبادي : قال يزيد بن أبان رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقرأت عليه سورة هود ، فلمَّا ختمتها قال لي « يا يزيدُ قرأت فأيْنَ البُكاء » واسند أبو محمد الدَّارمي في مسنده عن كعب -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقْرؤُوا سُورة هود يوم الجمعة » والله أعلم .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
قوله تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } قد تقدم الكلام على قوله : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } في أول سورة يونس ، فالإشارة ب « تِلْكَ » إلى آيات هذه السورة على الابتداء اةلخبر .
وقيل : « الر » اسم للسورة ، أي : هذه السورة المسمَّاة : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } والمراد ب « الكِتَاب » : القرآن ، وأما قوله : « المُبِين » فيحتمل أن يكون من بانَ ، بمعنى : ظهر ، أي : المبين حلاله ، وحرامه ، وحدوده ، وأحكامه قال قتادة رحمه الله : « المبين والله بركته ، وهداه ورشده » .
وقال الزجاج : « من أبَان بمعنى : أظهر ، أي : أبان الحقَّ من الباطل ، والحلال من الحرام ، وقصص الأولين والآخرين » . ويحتمل أن يكون من البينونة بمعنى : التَّفريق ، أي : فرَّق بين الحق والباطل ، والحلال والحرام .
قوله تعالى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } يعنى : الكتاب ، في نصب : « قُرْآناً » ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون بدلاً من ضمير « أنْزلْنَاهُ » أو حالاً موطئة منه ، والضمير في : « أنْزَلْنَاهُ » على هذين القولين يعود على الكتاب ، وقيل : « قُرْآناً » مفعول به ، والضمير في « أنْزَلْنَاهُ » ضمير المصدر ، و « عربياً » نعت للقرآنِ ، وجوَّز أبو البقاء : أن يكون حالاً من الضمير في : « قُرْآناً » إذا تحمَّل ضميراً ، يعنى : إذا حعلناهُ حالاً مؤولاً بمشتقِّ ، أي : أنزَلنَاه مُجْتمعاً في حال كونهِ عَربيًّا
والعربيّ منسُوب إلى العرب؛ لأنَّه نزل بلغتهم ، وواحد العرب : عربيٌّ ، كما أن واحد الرُّوم : رُومِيٌّ ، أي : أنزلناه بلغتكم ، لكي تعلمُوا مَعانيَهُ ، وتفهَمُوا ما فيه ، و « عَرَبَة » بفتح الرَّاء ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر : [ الطويل ]
3043 وعَرْبَةُ أرْضٍ مَا يُحِلُّ حَرامَهَا ... مِنَ النَّاسِ إلاَّ اللَّوذَعِيُّ الحُلاحِلُ
سكن راءها ضرورة؛ فيجوزُ أن يكون العربي منسُوباً إلى هذه البقعة .
فصل
احتج الجُبَّائيُّ بهذه الآية : على كون القرآن مخلوقاً ، لقوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } والقديم لا يجوزُ إنزالهُ وتحويله من حالٍ إلى حالٍ؛ ولأنَّه تعالى وصفهُ بكونه : « عَرَبيًّا » والقديم لا يكون عربيًّا؛ ولأنَّ قوله تعالى { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } يدلُّ على أنَّه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينزله لا عربيًّا؛ ولأنَّ قوله : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } يدلُّ على أنَّه مركبٌ من الآيات والكلمات ، والمركَّبُ محدثٌ .
قال ابن الخطيب : « والجواب عن هذه الوجوه أن نقول : المركَّب من الحروف والكلمات محدثٌن وذلك لا نزاع فيه ، إنَّما الذي ندَّعي قدمه شيء آخر ، فسقط هذا الاستدلال » .
قوله : { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } : قال الجبائي : « كلمة » لعَلَّ « نحملها على اللاَّم ، والتقدير : إنَّا أنزلناهُ قُرآناً عربيًّا لتعقلُوا معانيه في أمْر الدِّين ، إذ لايجوز أن يراد ب » لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ « : الشَّكح لأنَّه على الله تعالى محالٌ ، فثبت أنَّ المراد : لكي تعرفوا الأدلَّة ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ سبحانه وتعالى ت أراد من كلِّ العباد أن يعقلوا توحيده ، وأمر دينه ، من عرف منهم ، ومن لم يعرف » . قال ابن الخطيب : « والجواب : هَبْ أنَّ الأمْر كمَا ذَكْرتُمْ ، إلاَّ أنَّهُ يدلُّ على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفيَّة هذه القصَّة ، لكن لِمَ قلتم : إنَّها تدلُّ على أنه تعالى أراد من الكُلِّ الإيمان والعمل الصالح » ؟ .
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
قوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } الآية .
{ نَحْنُ نَقُصُّ } : مبتدأ وخبر ، والقاصُّك الذي يتتبَّعُ الآثار ويأتي بالخبر على وجهه ، قال تعالى : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] ، أي : أتَّبعي أثره ، { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] ، أي اتِّباعاًنن وسميت الحكايةَ قصصاً؛ لأنَّ الذي يقصُّ الحديث ، يذكرُ تلك القصَّة شيئاً فشيئاً ، كما يقال : تلا القرآنَ إذا قرأهُ؛ لأنَّه يتلُو ، أي : يتبعُ ما حَفِظَ مِنهُ آيةً بعد آيةٍ ، والمعنى : نُبين لكَ أخبارَ الأممِ السَّالفةِ ، والقرُونِ الماضية .
روى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه قال : لمَّا أنْ نَزلَ القُرآنُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتَلاهُ عَليْهِمْ زمَاناً ، فقالوا : يَا رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لوْ حَدَّثتنَا ت فأنْزَل اللهُ عز وجل ذكره { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] فقالوا : يا رسول الله ، لو ذكرتنَا ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } [ الحديد : 16 ] .
قوله : { أَحْسَنَ القصص } في انتصابه وجهان :
أحدهما : أن يكُونَ منصُوباً على المفعول به ، وذلك إذا جعلتَ القصص مصدراً واقعاً موقع المفعول ، كالخلقِ بمعنى : المخلُوقِ ، أو جعلته فعلاً بمعنى : مفعُول ، كالقَبْضِ ، والنَّقْضِ بمعنى : المَقْبُوض ، والمَنْقُوض ، أي : نقصُّ عليك أحسن الأشياءِ المقتصةن فيكون معنى قوله : { أَحْسَنَ القصص } : لِمَا فيه من العبرة ، والنُّكتة ، والحكمةِ ، والعجائب التي ليست في غيرها .
فإحدى الفوائد في هذه القصة : أنه لا دافع لقضاءِ الله ، ولا مانع من قدر الله ، وأنَّهُ تعالى إذا قضى لإنسان بخير؛ فلو اجتمع العالمُ ، لمْ يقدروا على دفعه .
والفائدة الثانية : أنََّهَا تدلُّ على أنَّ الحسد سببُ الخُذلانِ ، والنُقصَانِ .
والفائدة الثالثة : أنَّ الصَّبر مفتاحُ الفرج ، كما في حقِّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام؛ فإنَّه لما صبر ، نال مقصُوده ، وكذلك يُوسُف صلوات الله وسلامه عليه .
والوجه الثاني : أن يكون منصوباً على المصدر المبين ، إذا جعلتَ القصص مصدراً غير مراد به المفعُول ، ويكون المقصُوص على هذا محذوفاً ، أي : نقُصُّ عليك أحسن الاقتصاص .
وعلى هذا؛ فالحسنُ يعُود إلى حسن البيان ، لا إلى القصَّة ، والمراد بهذا الحسن : كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حدِّ الإعجاز ، ألا ترى أنَّ هذه القصَّة مذكورةٌ في كمتب التَّواريخ ، مع أنَّ شيئاً منها لا يشبه هذه السورة في الفصاحة ، والبلاغة .
و « أحْسَنَ » : يجوز أن يكون : أفعل تفضيل على بابها ، وأن يكُون لمُجرَّد الوصف بالحسن ، وتكون من باب إضافة الصِّفة لموصوفها ، أي : القصص الحسن .
قال العلماء رضي الله عنهم : ذكر الله أقاصيصَ الأنبياء في القرآن ، وكرَّرها بمعنى واحدٍ ، في وجوهٍ مختلفة ، بألفاظ متباينة على درجات المبالغة ، وقد ذكر قصة يوسف عليه الصلاة والسلام ولم يكرِّرها؛ فلم يقدر مخالفٌ على معارضة ما تكرر ، ولا على معارضة غير المتكرِّر .
فصل
قال القرطبي : وذكر العُلماءُ لكَوْنِ هذه القصَّة أحسنَ القصصِ وجوهاً :
أحدها : أنه ليست قصَّة في القرآن تتضمنُ من العبر والحكم ، ما تتضمن هذه القصَّة؛ لقوله تعالى في آخرها { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } [ يوسف : 111 ] .
وثانيها : لحُسن مجاوزة يوسف إخوته ، وصبْرِه على أذاهُم ، وعفوه عنهُم بعد التقائهم عن ذكر فعلهم ، وكرمه في العفو عنهُم ، حتَّى قال : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم } [ يوسف : 92 ] .
وثالثها : أن فيها ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصَّالحين ، والملائكة ، والجنِّ ، والشياطين ، والإنس ، والطيرِ ، وسير الملوكِ ، والمماليكِ ، والتُّجارِ ، والعلماءِ ، والجهال ، والرِّجال ، والنِّساء وحيلهنَّ ومكرهنَّ ، وذكر التَّوحيد ، والفقهِ ، والسِّير ، وتعبيرِ الرُّؤيا ، والسِّياسةِ ، والمعاشرةِ ، وتدبير المعاشِ ، وجُمَل الفوائد تصلُح للدِّين والدُّنيا .
ورابعها : أنَّ فيها ذكر الحبيب ، والمحبُوب ، وسيرهما .
وخامسها : أنَّ « أحْسنَ » هنا بمعنى : أعجب .
وسادسها : سُمِّيت أحسن القصص؛ لأنَّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السَّعادة ، وانظُر إلى يوسف ، وأبيه وإخوته ، وامرأة العزيز ، قيل : والملكُ أيضاً أسلم بيُوسُف ، وحسن إسلامهُ ، ومستعبر الرؤيا ، والسَّاقي ، والشَّاهد فيما يقال ، فما كان أمْر الجَمِيع إلاَّ إلى خير ، والله تعالى أعلم .
قوله : { بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } « الباء سببيَّة » ، وهي متعلقةٌ ب « نَقُصُّ » و « مَا » مصدريَّة ، أيك بسبب إيحائنا « .
قوله : { هذا القرآن } يجوز فيه وجهان :
أظهرهما : أن ينتصب على المفعولية ب » أَوْحَيْنَا « .
والثاني : أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني : بَيْن » نَقُصُّ « وبين » أوْحَيْنَا « فإن كلاًّ منهما يطلب » هذا القُرآنَ « وتكون المسألةُ من إعمال الثاني ، وهذا إنما يتأتَّى على جعلنا » أحْسنَ « : منصوباً على المصدر ، ولم يقدَّر ل » نَقُصُّ « مفعولاً محذوفاً .
قوله : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } [ يوسف : 3 ] تقدّم إعراب نظيره ، والمعنى : قد كنت من قبله ، أي : من قبل وحينان لمن الغافلين ، أي : لمن الساهين عن هذه القصَّة لا تعلمُهَا .
وقيل : لمن الغافلين : عن الدِّين والشَّريعة قبل ذلك ، كقوله تعالى : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] .
قال بعض المفسرين : سمى قصَّة يُوسف خاصَّة أحسن القصص؛ لما فيها من العبر ، والحكم ، والنُّكتِ ، والفوائد التي تصلْح للدِّين والدُّنيا ، من سير الملوكِ ، والمماليكِ ، والعلماء ، ومكرِ النِّساء ، والصبْر على أذى الأعداء ، وحسن التَّجاوزِ عنهم بعد الالتقاء ، وغير ذلك من الفوائد .
قال خالد بن معدان : » سورة يوسف ، وسورة مريم يتفكَّه بهما أهل الجنَّة في الجنَّة « .
وقال عطاء رحمه الله : » لا يَسْمع سُورةَ يُوسف محْزُونُ إلا استراح لهَا « .
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ } الآية .
رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف؟ فأنز الله تعالى هذه السورة .
وفي العامل في « إذْ » أوجهٌ :
أظهرها : أنه منصُوب ب « قَالَ يَا بُنَيَّ » أي : قال يعقوب : يا بني وقت قول يُوسف لهُ : كَيْتَ وكَيْتَ ، وهذا أسهل الوجوه؛ إذ فيه إبقاء « إذْ » كونها ظرفاً ماضياً .
وقيل : الناسب له : « الغَالفينَ » قاله مكيٌّ .
وقيل : هو منصوبٌ ب « نَقُصُّ » أي : نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ ، وهذا فيه [ إخراج ] « إذْ » عن المضيِّ ، وعن الظرفيَّة ، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً ، أي : نقصُّ عليك الحال وقت قوله ، لزم أخراجها عن المضيِّ .
وقيل : هو منصوب بمضمر ، أي : اذكُر .
وقيل : هو منصُوب على أنَّه بدل من « أحسن القصص » بدل اشتمال .
قال الزمخشري : « لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص » و « يُوسفُ » اسم عبرانيٌّ ، ولذلك لا ينصرف ، وقيل : هو عربيٌّ ، فقال الزمخشريُّ : « الصَحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ؛ لأنه لو كان عربيًّا ، لانصرف » وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال : « الأسف في اللغة : الحُزن ، والأسف : العَبْد ، واجتمعا في يوسف؛ فسُمِّي بهما » .
روي ابن عمر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم ، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين » .
قوله : « يَا أبَتِ » قرأ ابن عامر : بفتح التَّاء ، والباقون بكسرها ، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما .
وهذا مختصٌّ بلفظتين : يا أبَتِ ويَا أمَّتِ ، ولا يجُوز في غيرهما من الأسماء ، لو قلت : « يَا صَاحِبتِ » لم يجُز ألبتَّة؛ كما اختصَّت لفظة الأم والعم بحكم في نحو : « يا ابْنَ أمَّ » ويجوز الجمع بين هذه التَّاء ، وبين كلِّ من الياءِ والألفِ ضرورةً؛ كقوله : [ الرجز ]
3044 يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا ... وقول الآخر : [ المتقارب ]
3045 أيَا أبَتَا لا تَزْلْ عِنْدنَا ... فإنَّا نَخافُ بأنْ تُخْتَرَمْ
وقول الآخر : [ الطويل ]
3046 أيَا أبَتِي لا زلْتَ فينَا فإنَّمَا ... لنَا أمَلٌ فِي العَيْشِ ما دُمْتَ عَائِشَا
وكلامُ الزمخشريِّ يؤذن بأنَّ الجمع بين التَّاء والألفِ ليس ضرورةً؛ فإنَّه قال : « فإن قلت : فما هَذه الكسْرة؟ قلتُ : هي الكسْرة الَّتي كَانتْ قبل الياءِ في قولك : » يا أبي « قد زُحلقَتْ إلى التاء؛ لاقتضاء تاءِ التَّأنيث أن يكُون ما قبْلَها مفتوحاً .
فإن قلت : فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء ، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً؟ .
قلت : امتنع ذلك فيها؛ لأنَّها اسم ، والأسماءُ حقُّها التحريكُ؛ لأصالتها في الإعراب ، وإنما جاز تسكينُ الياء ، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً؛ لأنها حرف لين ، وأما التاء ، فحرفٌ صحيحٌ ، نحو كافِ الضمير؛ فلزم تحريكها .
فإن قلت : يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه؛ لأنَّها في حكم الياء ، إذا قلت : يا غُلام ، فكَمَا لا يَجُوز : « يا أبتي » لا يجوز « يا أبتِ » قلت : الياءُ والكسرة قبلها شيئان ، والتَّاء عوض من أحد الشيئين ، وهو الياء ، والكسرة متعرَّض لها؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه ، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير؛ ألا ترى إلى قولهم : « يَا أبَتَا » مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ ، كيف جاز بينها وبين التاء ، ولم يعدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوَّض منه؟ فالكسرة أبعد من ذلك .
فإن قلت : قد دلَّت الكسرة في « يا غُلام » على الإضافة؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها ، فإن دلَّت على مثل ذلك في : « يا أبت » فالتَّاء الَمعوَّة لغو ، وجودها كعدمها .
قلت : [ بل ] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت : « يا أبِي » .
وكذا عبارة أبي حيَّان ، فإنه قال : وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافة فلا تجتمعان ، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء ، كما قال : [ الرجز ]
3047 يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا ... وفيه نظر؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها ، فينبغي أن لا يجمع بينهما ، وهذا تاء أصلها للتأَنيث .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلتك ما هذه التَّاء؟ قلتك تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة ، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث : قلبُهَا هاءً في الوقف » .
قال شهاب الدِّين : وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف ، قرأ به ابنُ كثير ، وابن عامرٍ ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء ، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في « بِنْت وأخْت » وممن نصَّ على كونهخا للتَّأنيث : سيبويه؛ فإنه قال : « سَألْت الخليل عن التَّاء في : » يَا أبتِ « فقال : هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء » يا خالة وعمَّة « يعنى : أنَّها للتَّأنيث » ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث : كتبُهم إيَّاها هاءً ، وقياس من وقف بالتَّاء : أن يكُبهَا تاء ، ك « بِنْت وأخْت » .
ثم قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر؟ .
قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذكر ، وشاةٌ ذكر ، ورجل ربعة ، وغلامٌ يفعة قلت : يعني : أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ ، كما في الأسماء المستشهد بها .
ثم قال الزمخشري : « فإن قلت : فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافة؟ .
قلت : لأن التأنيث والإضافة تناسبان؛ في أنَّ كل واحدٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره » .
قال شهاب الدين : « وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق ، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي ، أي : أنه شَبَهٌ في الصُّورة » .
وقال الزمخشري : « إنه قرىء » يَا أبتِ « بالحركات الثلاث :
فأما الفتح والكسر فقد تقدَّم ذكر من قرأ بهما .
وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ؛ كقراءة من قرأ : { قَالَ رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 112 ] بضم الباء ، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا : إنَّه مضافٌ للياءِ ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ . وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين .
والمذهبُ الآخر : أنَّها كسرة أجنبيَّة ، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها . فأما الفتح ففيه أربعة أوجه ، ذكر الفارسي منها وجهين :
أحدهما : أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرْ بقوله : [ الوافر ]
3048 ولَسْتُ بِراجِعٍ ما فَاتَ منِّي ... بِلهْفَ ولا بِليْتَ ولا لَوَنِّي
وكما اجتزأ بها في : » يَا بْنَ أمَّ « و » يَا بْنَ عَمّ « .
والثاني : أنه رخم بحذف التاء ، ثم اقحمت التَّاءُ مفتوحة؛ كقول النابغة الجعديِّ : [ الطويل ]
3049 كِلِينِي لِهمِّ يا أمَيْمةَ نَاصبِ ... وليْلٍ أقَاسيهِ بَطيءِ الكَواكبِ
بفتح تاء أميمة .
الثالث : ما ذكره الفرَّاء ، وأبو عبيدة ، وأبو حاتم ، وقطرب في أحد قوليه : وهو أن الألف في : » يَا أبَتَا « للنُّدبة ، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة ، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه ، ورد بعضهم هذاح بأنَّ المضع ليس موضع نُدبة .
الرابع : أن الأصل » يا أبَة « بالتنوين ، فحذف التنوين ، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني .
وردَّ هذا : بأ ، التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو : » يَا ضَارِباً رجُلاً « .
وقرأ أبو جعفر : » يا أبِي « بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء ، وقرأ الحسن ، والحسين ، وطلحة بن سليمان ، رضي الله عنهم » أحَدَ عَشَر « بسُكُون العين؛ كأنهم قصدّوا التنبيه بهذا التَّخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً .
قوله { والشمس والقمر } يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن تكون الواو عاطفة ، وحينئذ : يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله : { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } فهذا كقوله : { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] بعد قوله : » ومَلائِكتهِ « ويحتمل أن لا تكون كذلك ، وتكون الواوُ لعطف المغايرة؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على ال » أحَدَ عَشَرَ « ومن جملتها الشمس والقمر ، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ .
والوجه الثاني : أن تكون الواو بمعنى : » مَعَ « إلا أنَّه مرجوحٌ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ ، ولا أخلال بمعنى ، رُجِّح على المعيَّة؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله ، بمعنى : أنه رأى الشمس ، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً .
قوله : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد؛ لما طال الفصل بالمفاعيل ، كما كُرِّرت « أنكُم » في قوله تعالى : { أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } [ المؤمنون : 35 ] . كذا قالهُ أبو حيَّان ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى .
والثاني : أنه ليس [ بتأكيد ] ، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال : « فإن قلت : ما معنى تكرار » رَأيْتُمْ « ؟ قلتُ : ليس بتكرار؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له؛ كأنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام قال لهُ عند قوله : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر } كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها ، فقال : ( رأيتهم لي ساجدين ) وهذا أظهر؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس ، فحمله على التَّأسيس أولى » .
و « سَاجِدينَ » : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء ، فقيل : لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم ، جمعهم جمع العقلاء ، فقيل : لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر ، إذا شاركه في صفةٍ ما؛ كما قال في صفة الأصنام : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 198 ] ، وكقوله عز وجل : { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] .
والرُّؤية هنا : مناميَّة ، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين؛ كالعلميَّة؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله : { رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } ، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع ، فلم يبق إلا اختصاراً ، وهو قليلٌ ، أو ممتنع عند بعضهم .
وقال بعضهم : إن إحداهما من الرُّؤية ، والأخرى من الرُّؤيا .
قال القفَّال : ذكر الرُّؤية الأولى؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ ، والشَّمس والقمر ، والثانية؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ .
فصل
ذكر المفسرون : أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً ، والشمس والقمر يسجدون لهُ ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم ، ففسَّر الكواكب : بالإخوة ، والشمس والقمر : بالأب والأم ، والسجُود : بتواضعهم له ، ودخولهم تحت أمره ، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب عليه الصلاة والسلام : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ } .
وقال السديُّ : « القمر : خالته ، والشَّمسُ : أبُوه؛ لأن أمَّه راحِيل كانت قد ماتت » .
وقال ابن جريج : القَمَر : أبُوه ، والشَّمسُ أمُّه؛ لأن الشمس مؤنثة ، والقمر مذكَّر .
وقال وهب بن مُنبِّه رضي الله عنه : « إن يُوسفُ عليه الصلاة والسلام ت رأى وهو ابنُ سبع سنين ، إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركُوزة في الأرض كهيئة الدَّائرة ، وإذا عَصاً صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها ، فذكر ذلك لأبيه؛ فقال : إيَّاك أن تذكر هذا لإخوتك ، ثمَّ رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، الشَّمس ، والقمر والكواكب ، تسجُد له؛ فقصَّها على أبيه؛ فقال : لا تذكرها له فيَكيدُوا لَك كَيْداً » .
روى الزمخشريُّ : رحمه الله : « أن يهُودِيًّا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه سولمن فقال يا محمَّد : أخبرني عن النُّجُوم التي رآهُن يوسف ، فسكت النبي عليه الصلاة والسلام ؛ فنزل جبريل عليها لسلام فأخبره بذلك؛ فقال عليه الصلاة والسلام لليهوديَّ : إن أخبرتك بذلك هل تسلم؟ قال : نَعمْ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم : حرثان ، والطارق والذيال ، وقابس ، وعمودان ، والفليق ، والمصبح ، والقرع ، والضروح ووثاب ، وذو الكتفين رآها يوسف ، والشمس والقمر [ نَزلْنَ ] من السَّماء ، وسجدن لهُ ، فقال اليهوديُّ : أي والله إنَّها لأسماؤها » .
واعلم ان كثيراً من هذه الأسماء غير مذكورة في الكتب المصنفة في صُور الكواكب .
فصل
زعمت طائفةٌ من العلماء : أ ، ه لم يكن في أولاد يعقُوب نبيٌّ غير يُوسف عليه الصلاة والسلام وباقي إخوته لم يوح إليهم ، واستدلُّوا بظاهر ما ذُكر من أفعالهم ، وأحوالهم في هذه القصَّة ، ومن استدلَّ على نُبوتهم ، استدلَّ قوله تعالى : { آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط } [ البقرة : 136 ] وزعم أنَّ هؤلاء : هم الأسباط ، وهذا استدلال ضعيفٌ؛ لأن المراد بالأسباط : شُعوب بني إسرائيل ، ما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي ، وأيضاً : فإنَّ يوسف عليه الصلاة والسلام هو المخصُوص من بين إخوته بالنبوة والرسالة؛ لأنَّه نصَّ على نُبوَّته ، والإيحاء إليه في آيات من القرآن ولم ينصَّ على أحد إخوته سواه؛ فدلَّ على ما ذكرنا .
فصل
في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم ، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً ، وفيها أيضاً : دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً ، وفيها أيضاً : دليلٌ على مع رفة يعقُوب عليه الصلاة والسلام بتأويلِ الرُّؤيا؛ فإنه علم من تأويلها : أنَّه سيظهر عليْهم .
قوله { لاَ تَقْصُصْ } قرأ حفص : « يا بُنيَّ » بفتح الياء ، والباقون بكسرها ، وقرأ العامة : بفك الصادين ، و هي لغةُ الحجاز ، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة ، والإدغام لغة تميم ، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة ، عند قوله : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ } [ المائدة : 54 ] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا .
وقال الزمخشريٌّ : « الرُّؤيا بمعنى : الرُّؤية ، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة ، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث؛ كما قيل : القربة والقربى » .
وقرأ العامَّة : « الرُّؤيا » مهموزة من غير إمالة ، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ : وأما ( الرؤيا ) [ يوسف : 100 ] : و « رُؤيَاي » الاثنتان في هذه السورة ، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور ، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ .
وقال الزمخشري : وسمع الكسائيُّ : « رُيَّايَ وريَّاكَ » بالادغام ، وضم الرَّاء ، وكسرها ، وهي ضعيفة؛ لأن الواو في تقدير الهمزة؛ فلم يقو إدغامها؛ كما لم يقو إدغام « اتَّزَر » من الإزراِ ، و « اتَّجرَ » من « الأجْر » .
يعنى : أن العارض لا يعتدُّ به ، وهذا هو الغالبُ ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله : « رِئْياً » في قوله : { أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] عند حمزة ، و { عَاداً الأولى } [ النجم : 50 ] وأما كسر « ريَّاكَ » فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة ، وأما الضمُّ فهو الأصل ، والياء قد استهلكت بالإدغام .
قوله « فيَكِيدُوا » : منصُوب في جواب النَّهي ، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله : « إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ » .
و « كَيْداً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مصدر مؤكدٌ ، و على هذا ففي اللام في قوله : « لَكَ » خمسة أوجه :
أحدها : أن يكون « يَكيدُ » ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه ، وقال : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } [ هود : 55 ] والتقدير : فيحتالوا لك بالكيد .
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه : « فإن قلت : هلا قيل : فَيَكيدُوكَ » كما قيل : الفعل المضمَّن ، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف ، وذلك نحو : فيَحْتالُوا لك؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر « .
الوجه الثاني من أوجه اللاَّم : أن تكون اللاَّم معدية ، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة ، وبنفسه أخرى؛ ك » نَصَحَ « و » شَكَرَ « كذا قالهُ أبو حيَّان ، وفيه نظر؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس ، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة ، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ .
والثالث : أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به؛ كزيادتها في قوله : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] ، قاله أبو البقاء؛ وهو وضعيفٌ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين : تقديم المعمول ، أو كون العامل فرعاً .
الرابع : أن تكون اللام للعلَّة ، أي : فيَكِيدوا لأجْلِك؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً ، أو اختصاراً .
الخامس : أن تتعلَّق بمحذُوف؛ لأنَّها حالٌ من » كَيْداً « إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت .
الوجه الثاني من وجهي » كَيْداً « : أن يكون مفعولاً به ، أي : فيصنعوا لك كيداً ، أي : أمراً يكيدُونك به ، وهو مصدر في موضع الاسم ، ومنه : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } [ طه : 64 ] ، أي : ما تكيدُون به؛ ذكره أبو البقاء ، وعلى هذا ففِي اللاَّم في : » لَكَ « وجهان فقط : كونُها صفة في الأصل ، ثم صارت حالاً ، أو هي للعلَّة ، وأما الثلاثة الباقية ، فلا تتأتَّى بعد ، فامتناعها واضحٌ .
ثمّ قال : { إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي : يزيِّن لهم الشيطان ، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة .
فصل
قال أبو سلمة : كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي ، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول : كنت أرى الرُّؤيا ، فتُمْرضُنِي ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الرُّؤيا الصَّالحة من الله ، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ ، وإذا رَأى ما يكرهُ ، فلا يُحدِّثْ به ، وليتفُل عن يساره ، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم ، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره » وقال صلى الله عليه وسلم : « الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ » . قال الراوي : وأحسبه قال : « لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً ، أوْ لَبِيباً » .
قال الحكماء : الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب ، والرُّؤيا الجيَّدة ، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين ، قالوا : والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر ، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه ، وأمَّا الإعلام بالخير ، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره ، بزمانٍ طويلٍ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً .
فصل
قال القرطبيُّ : « الرُّؤيا حالةٌ شريفة ، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ ، قال صلى الله عليه وسلم : » لَمْ يَبقَ بعدي من المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة ، يَراهَا [ الرجل ] الصَّالحُ ، أو ترى له « وقال صلى الله عليه وسلم : [ أصْدقُكم رُؤيَا ، أصدقكُمْ حَديثاً ، وحكم صلى الله عليه وسلم ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي : من سبعين ، وروي : من [ تسعة ] وأرْبعينَ ، وروي : من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ ، وروي : من أرْبعينَ ، والصحيح : حديث السِّت والأربعين ، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين .
فإن قيل : إن يوسف عليه الصلاة والسلام ت كان صغيراً ، والصغير لا حكم لفعله ، فكيف يكون لرُّؤياه حكم ، حتى يقول له أبو : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ } .
فالجواب : أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة ، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة ، صدق؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ ، ورُوِي : أن يوسف عليه الصلاة والسلام كان ابن اثنتي عشر سنة .
فصل
في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح ، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها .
وروى الترمذيُّ : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » الرُّؤيا برجْل طائرْ ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا ، فإذا حدَّث بها ، وقعتْ ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً ، أو مُحبًّا ، أوْ ناصحاً « .
قوله { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } الكاف في موضع نصب ، أو رفع .
فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر ، وقد تقدم أنه رأي سيبويه ، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف ، والمعنى : مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك .
والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر ، يعني : الأمر كذلك ، وقد تقدم نظيره .
قوله : { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه ، والتقدير : وهو يعلمك ، والأحاديث : جمع تكسير ، فقيل : لواحد ملفوظٍ به ، وهو « حَدِيث » ولكنَّه شذَّ جمعه على : أحاديث ، وله أخوات في الشُّذُوذ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع ، وأعَارِيض ، في « بَاطل وقَطيع وعَروض » .
[ وزعم ] أبو زيد : « أن لهَا واحداً مقدراً ، وهو » أحْدُوثة « ونحوه ، وليس باسم جمع؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير ، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه ، نحو : » شَماطِيط « ، و { أَبَابِيلَ } [ الفيل : 3 ] ففي أحاديث أولى » .
ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله : « وهي اسمُ جمع للحديث ، وليس بجمع أحدوثة » بما ذكرنا ، ولكن قوله : « ليس بجمع أحدُوثة » صحيح؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه ، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله : « اسم جمع » .
فصل
قال الزجاج : الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء : إذا أخلصته لنفسِك ، ومنه : جَبُبت الماء في الحوض ، والمعنى : كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز ، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك ، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة .
وقيل : بإعلاء الدَّرجة ( ويعلمك من تأويل الأحاديث ) : يريد تعبير الرُّؤيا ، وسُمِّي تأويلاً؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه ، والتأويل : ما يئول إليه عاقبة الأمْر ، كان عليه الصلاة والسلام غاية في علم التَّعبير .
وقيل : في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى ، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام .
وقيل : الأحاديث : جمع « حَدِيث » ، والحديث هو الحَادثُ ، وتأويلُها : مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى ، وتكوينه ، وحكمته ، والمراد من تأويل الأحاديث : كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته ، وجلاله .
قوله : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } يجوز أن يتعلق « عَليْكَ » ب « يُتِمُّ » وأن يتعلق ب « نِعْمتَهُ » ، وكرَّر « عَلَى في قوله : » وعَلى آلِ « لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين .
وقوله { مِن قَبْلُ } أي : من قبلك : واعلم : أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة ، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة ، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا : بسعادات الدنيا والآخرة .
أما سعادات الدنيا؛ فالإكثار من الولدِ ، والخدمِ ، والأتباع ، والتَّوسُّع في المال والجاه ، والجلال في قلوب الخلقِ ، وحسن الثَّناء وَالحمد ، وَأما سعادات الآخرة ، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة .
وقيل : المراد من إتمام النِّعمة : خلاصته من المحن ، ويكون وجه التَّشبيه ب » إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام « وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح
وقيل : إن إتْمَام النَّعمة هو : وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً ، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة .
وقيل : : إتمام النِّعمة على إبراهيم : خُلَّتهُ ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه .
ومن فسر الاجتباء : بالدَّرجات العالية؛ فسَّر : إتمام النِّعمة : بالنُّبوَّة؛ لأنَّ الكمال المطلق ، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة ، يدلُّ عليه قوله تعالى : { وعلى آلِ يَعْقُوبَ } أي : على أولاده؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء ، وقوله : { كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة : هو النبوة ، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء؛ كقوله تعالى : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ } .
فإن قيل : كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء ، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام ؟ .
فالجواب : أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة ، العصمة ، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة ، لا قبلها .
قوله { إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } « يجُوز أن يكونا بدلاً من » أبَويْكَ « أو عطف بيان ، أو على إضمار أعني » ، ثم لما وعد عليه الصلاة والسلام بهذه الدرجات الثلاث ، ختم [ الآية ] بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فقوله « عَلِيمٌ » إشارة إلى قوله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، وقوله : « حَكِيمٌ » إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث ، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط
فإن قيل : هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها ، أم لا؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها ، فيكف حزن على يوسف؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه؟ وكيف قال لإخوته : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [ يوسف : 13 ] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه ، ويبعثُه رسولاً؟ .
وإن قلت : إنه عليه الصلاة والسلام ما كان عالماً بهذه الأحوال ، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ؟ .
فالجواب قال ابنُ الخطيب : « لا يبعُد أن يكون : قوله : { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } مشروطاً بألا يكيدُوه؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم ، وأيضاً : فيبعُد أن يقال : إنه عليه الصلاة والسلام سيصلُ إلى هذه المناصب ، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة ، ثم يتخلَّص منها ، أو يصل إلى تلك المناصب ، وكان خوفه بهذا السَّبب ، ويكُون معنى قوله : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب } [ يوسف : 13 ] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه » .
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
قوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ } الآية .
قال الزمخشري : « أسماء إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام يهوذا ورُوبيل ، وشمعُون ، ولاوي ، وزبالون ، ويشجر ، وأمهم : ليا بن ليان ، وهي ابنة خال يعقوب ، وولد له من سريتين تسمى إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة أولاد : دان ، ونفتالي ، وجاد وآشر ، فلما توفيت » ليا « تزوج يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين » .
قوله تعالى قرأ ابن كثير « آية » بالإفراد ، والمراد بها : الجِنْس ، والباقون الجمع تصريحاً بالمراد؛ لأنها كانت علامات كثيرة ، وزعم بعضهم : أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً ، تقديره : للسَّائلين ولغيرهم ، ولا حاجة إليه ، و « للسَّائلِينَ » : متعلقٌ بمحذوفٍ نعتاً ل « آياتٌ » .
فصل
معنى : { آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } أنه عبرة للمتعبرين؛ فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف ، وما آل إليه أمرهم من الحسدن وتشتمل على صبر يوسف عن قضاء الشُّهُود ، وعلى الرقِّ والسِّجن ، ما آل إليه أمرهُ من الوُصول إلى المراد ، وغير ذلك .
وقيل : { آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } ، أي دلالة على نُبُوَّة الرسول صلوات الله وسلام عليه .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما دخل حبر من اليهُود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع منه [ قراءة ] سورة يوسف ، فعاد إلى اليهودِ ، فأعلمهم أنَّه سمع كما في التَّوراة ، فانطلق نفرٌ منهم ، فسَمِعُوا كما سَمِع؛ فقالوا له : من علَّمك هذه القصَّ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : « الله عَلَّمَنِي » فنزلت : { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } .
قال ابن الخطيب : « وهذا الوجه عندي بعيد؛ لأن المفهوم من الآية : أن في واقعة يُوسف عليه الصلاة والسلام ت آياتٌ للسَّائلينَ ، وعلى ما قلناه : ما كانت الآيات في قصَّة يُوسف ، بل كانت في إخبار محمَّد صلى الله عليه وسلم عنها ، من تعلُّم ولا مطالعة .
الثاني : أن أكثر أهل مكَّة كانُوا أقارب الرَّسُول عليه الصلاة والسلام ، وكانُوا يُنْكِرُون نُبوَّته ، ويظهرُون العداوة الشَّديدة معهُ بسبب الحسد ، فذكر الله تعالى هذه القصَّة ، وبيَّن أنَّ إخوة يُوسُف بالغُوا في إيذائه لأجل الحسد ، وبالآخرة إن الله نصره ، وقواه ، وجعلهم تحت يده ، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل ، كانت زاجرة له عن الإقدام على الحسد .
الثالث : أن يعقُوب عليه الصلاة والسلام لما عبر رُؤيا يُوسُف ، وقع ذلك التَّعبير ، ودخل في الوُجُود بعد ثمانين سنة ، فكذلك أن الله تعالى ت كما وعد مُحمَّداً صلى الله عليه وسلم بالنَّصر والظفر ، كان الأمر كما قدَّره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء في إبطال أمره » .
قوله : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا } اللام في « ليُوسفُ » : لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة ، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه « وأخُوهُ » ك هو بنيامين ، وإنَّما قالوا : « وأخُوهُ » وهُمْ جَمِيعاً إخوة؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة ، و « أحَبُّ » أفعل تفضيلن وهو مبنيٌّ من « حُبَّ » المبنيِّ للمفعُول ، وهو شاذٌّ ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل ، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب « إلى » وإلى المفعول المعنوي ب « اللام ، أو ب » في « فإذا قلتَ : زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ ، تعني : أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر ، فالمُتكلِّم هو الفاعل ، وكذلك : » هو أبغضُ إليَّ منْهُ « أنت المبغض ، وإذا قلت : زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو ، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ ، أي : إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3050 لعَمْرِي لَسعْدٌ حَيْثُ حُلِّتْ دِيَارهُ ... أحَبُّ إليْنَا مِنْكَ فافرَسٍ حَمِرْ
وعلى هذا جاءت الآية الكريمة؛ فإن الإب هو فاعل المحبَّة .
و » أحَبُّ « : خير المبتدأ ، وإنَّما لم يطابق؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل .
وقيل : اللاَّم في : » ليُوسُفُ « : جواب القسم ، تقديره : والله ليُوسف وأخُوه ، والواوُ في : » ونَحْنُ عُصْبَةٌ « : للحال ، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال ، والعامة على رفع » عُصْبةٌ « خبراً ل » نَحْن « .
وقرأ أمير المؤمنين رضي الله عنه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف ، والتقدير : ونحن نرى أو نجتمع ، فتكون » عُصْبَةٌ « حالاً ، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة ، نحو : ضربي زيداً قَائِماً ، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً .
قال ابن الأنباري : » هذا كما تقُولُ العربُ : إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ ، أي : يتعمم عِمَّته « .
قال أبو حيَّان : » وليس مثله؛ لأن « عُصْبَةٌ » ليس بمصدر ولا هيئة ، فالأجود أن يكون من باب : حُكمُكَ مُسمَّطاً « .
قال شهاب الدِّين : » ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه؛ من حيث إنه حذف الخبر ، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلكن ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره « .
وقال المبرد : هو من باب : » حُكمُك مُسمًّطاً « أي : لك حكمك مسمَّطاً ، قال الفرزدقُ :
3051 يا لهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطاً ... أراد لك حكمك مُسمَّطاً .
قال : واستعمل هذا فكثُر حتى حذفَ استخفافاً؛ لعلم ما يريد القائل؛ كقولك : الهلال والله ، أي : هذا الهلال ، والمُسَمَّط : المرسل غير المردُودِ وقدره غير المبرِّد : حكمُك ثبت مُسمَّطاً ، وفي هذا المثال نظر؛ لأن النَّحويِّين يجعلُون من شرط سدِّ الحالِ مسدّ الخير : أن لا يصلُح جعل الحالِ خبراً لذلك المبتدأ ، نحو : ضَرْبِي زيداً قائماً ، بخلاف : » ضَرْبِي زيْداً شديدٌ « فإنَّها ترفع على الخبريَّة ، وتخرُج المسألة من ذلك ، وهذه الحال ، أعني : » مُسَمَّطاً « يصلح جعلها خبراً للمبتدأ ، إذ التقدير : حكم مرسل لا مردودٌ ، فيكون هذا المثل على ما تقرَّر من كلامهم شاذًّا .
والعُصْبَة : ما زاد على العشرة ، عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما ؛ وعنه : مابين العشرة إلى الأربعين .
وقيل : الثلاثة نفر ، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة؛ فهو رهطٌ ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً ، فعُصْبَة .
وقيل : مابين الواحد إلى العشرة .
وقيل : من عشرة إلى خمسة عشر .
وقيل : ستة . وقيل : سَبْعَة . والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة؛ لإحاطتها بالرَّأس .
فصل
بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف : وهو أن يعقُوب عليه الصلاة والسلام كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ ، فتأذَّوا منه لوجوه :
أحدها : كانوا أكبر منه سنًّا .
وثانيها : أنَّهم كانوا أكثر قوَّة ، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما .
وثالثها : أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات ، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات ، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا : { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
قال ابن الخطيب : « وها هنا سؤالات :
السؤال الأول : أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض ، يُورِث الحقد والحسد ، وهما يورثان الآفات ، فملا كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام عالماً بذلك ، فلم أقدم على التفضيل؟ وأيضاً : فالأسنُّ ، والأعلم ، والأنفع مقدَّم ، فلم قلب هذه القضية؟ .
فالجوابك أنَّه عليه الصلاة والسلام ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة ، والمحبَّة ليست في وسع البشر ، فكان معذُوراً فيه ، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ ، قال عليه الصلاة والسلام : » اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك « حين كان يحبُّ عائشة رضي الله عنها .
السؤال الثاني : أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله ، فكَيْفَ اعتَرضُوا؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته ، غير مقرِّين بكونه رسًُولاً حقًّا من عند الله ، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم؟ .
والجواب : أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم ، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله ، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم ، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهادح وذلك لأنَّهم كانوا يقولون : هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ ، والعقل ، الكفاية ، والمنفعة ، وكثرة الخدمة ، والقيام بالمهمات ، فإصراره على تقديم يوسف علينا ، يخالف هذا الدَّليل ، وأما يعقُوب عليه الصلاة والسلام فلعله كان يقُول : زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة ، فليس لله عليًّ فيه تكليفٌ ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ ، فيحتمل أنه كان لوجوه :
أحدها : أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار .
وثانيهما : أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد ، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد ، والحاصل : أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة ، وكانت بميْل النَّفس ، وموجبات الفطرة ، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ ، أو في عرضه .
السؤال الثالث : أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين ، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن ، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر ، لا سيَّما إذا كان الطّاعن ابناً؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعظِيم .
والجواب : المُراد من الضلال : غير رعاية مصالحِ الدِّين ، لا البعد عن طريق الرُّشد ، والصواب .
السؤال الرابع : أن قولهم : { لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا } محضُ الحسد ، والحسد من أمهات الكبائر ، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح ، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة ، وتبعيده عن الأب المشفقِ ، والقوا أباهم في الحُزن الدائم ، والأسف العظيم ، وأقدموا على الكذب ، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة .
والجواب : أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حًصول النُّبوَّة ، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب « .
{ اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً } الآية .
في نصب » أرْضاً « ثلاثة أوجه :
أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً ، أي : في أرض؛ كقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } [ الأعراف : 16 ] ، وقول الشاعر : [ الكامل ]
3052 لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ ... فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ
وإليه ذهب ابن عطيَّة .
قال النَّحاس : » إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين ، أحدهما بالحرف ، فإذا حذفت الحرف ، تعدَّى الفعل إليه « .
والثاني : النصب على الظرفيَّة .
قال الزمخشريُّ : » أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران ، وهو معنى تنكيرها ، وأخلائها من النَّاسِ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه ، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة « .
وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال : » وذلك خطأ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً ، وهذه ليست كذلك ، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ ، أو قاصية أو نحو ذلك ، فزال بذلك إبهامُهَا ، ومعلُوم أن يوُسف لم يَخْل من الكون في أرض ، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة ، غير التي هو فيها قريبة من أبيه « .
واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد ، وقال : » وهذا الردُّ صحيحٌ ، لو قلت : « جَلستُ داراً بعيدة ، أوْ مكاناً بعيداً » لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها ، إلا في ضرورة شعرٍ ، أو مع « دخلْت » على الخلاف في « دَخلت » أهي لازمة أم متعدِّية « .
وفي الكلامين نظر؛ إذ الظَّرف المُبْهَم : عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصرهن ولا أقطار تحويه ، و » أرضاً « في الآية الكريمة من هذا القبيل .
الثالث : أنها مفعول ثان ، وذلك أن معنى : » اطْرحُوهُ « أنزلوه ، و » أنزلوه « يتعدى لاثنين ، قال تعالى :
{ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } [ المؤمنين : 29 ] وتقولن : أنزلت زيداً الدَّارَ . والطَّرح : الرَّميُ ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف؛ قال عروة بن الوردِ : [ الطويل ]
3053 ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً ... مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ
والمعنى : اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه ، وقي : في أرض تأكله السِّباعُ .
و « يَخْلُ لكُمْ » جوابٌ الأمر ، وفيه الإظهار والإدغام ، وتقدَّم تحقيقها عند قوله { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً } [ آل عمران : 85 ] .
قوله : { وَتَكُونُواْ } يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله ، أو منصوباً بإضمار « أن » بعد الواو في جواب لأمر .
فصل
اعلم : أنَّه لما قوي الحسد ، وبلغ النِّهاية ، قالوا : لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه ، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين : القتل ، أو التَّغريب ، ثم ذكروا العلَّة فيه ، وهي قوله : { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } أي : أنَّ يوسف شغله عنَّا ، وصرف وجهه إليه ، فإذا فقده ، أقبل علينا بالميل والمحبَّة ، { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد قتل يوسف ، { قَوْماً صَالِحِينَ } : أي : نتُوب بعد قتلهِ .
وقيل : يصلُح شأنكم ، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم ، واختلفُوا في قائل هذا القول .
فقيل : شَاورُوا أجْنَبياً؛ فأشار عليهم بقتله ، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته .
وقيل : القائل بعض إخوته ، واختلفوا فيه .
فقال وهب : شمعون ، وقال كعب : دان ، وقال مقاتل : رُوبيل .
فإن قيل : كيف يليق هذا بهم ، وهم أنبياء؟
فأجاب بعضهم : بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا ، وهذا ضعيفٌ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح .
وأيضا : فإنَّهم قالوا : { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين ، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان ، وأيضاً : قولهم : { ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } [ يوسف : 97 ] والصغير لا ذنب له .
فأجاب بعضهم : بأنَّ هذا من باب الصَّغائر ، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم ، والكيد معهُ ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير ، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر ، بل الجواب الصحيح : أنَّهم ما كانُوا أنبياء ، وإن كانوا أنبياء ، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة .
ثم إنَّ قائلاً منهم قال : { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } .
قيل : إنه رُوبيل ، وكان ابن خالة يُوسُف ، وكان أحسنُهم رأياً فيه؛ فمنعهم من قتله ، وقيل : يهُوذا ، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ ، والسِّنِّ ، وهو الصحيح .
قوله : « فِي غَيَابَةِ » قرأ نافع : « غَيابَات » بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة ، جعل ذلك المكان أجزاء ، وسمَّى لك جزءٍ غيابة؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي ، فيكون فيها غيابات ، والباقون : بالإفراد؛ لأن المقصُود : موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف ، وابن هُرْمز كنافع ، إلا أنَّه شدَّد الياء ، والأظهر في ههذه القراءة : أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة ، فهو وصف في الأصل ، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال ، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني : « ووجدت من ذلك الفخَّار : للخَزَف » .
وقال صاحب اللَّوامح : « يجوز أن يكو على » فعَّالات « كحمَّامات ، ويجوز أن يكون على » فيْعَالات « ، كشَيْطَانَات ، جمع شَيْطَانَه ، وكلٌّ للمبالغة » .
وقرأ الحسن : « في غَيَبةِ » بفتح الياء ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أن يكون في الأصل مصدراً؛ كالغلبة .
والثاني : أن يكون جمع غائب ، نحو : صَانِع وصنَعَة .
قال أبو حيَّانك « وفي حرف أبيَّ : » في غيْبَةِ « بسكون الياء ، وهي ظلمة الرَّكيَّة » .
قال شهاب الدين : « والضبط أمر حادثٌ ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف ، وتقدَّم نحو ذلك ، والغيابة ، قال الهروي : شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون » .
وقال الكلبيُّ : « الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ ، ورأسه ضيِّق ، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه » .
وقال الزمخشري : « هي غورة ، وما غب منه عن عين النَّاظر ، وأظلم من أسفله » .
قال المنخل : [ الطويل ]
3054 فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي ... فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ
أراد : غيابة حُفرته التي يدفن فيها ، والجبُّ : البشر الذي لم تُطْوَ ، وسمِّي بذلك : إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض ، أي : ما غلظ منها؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ : القطعُ ، ومنه : الجبُّ في الذَّكر؛ قال الأعشى : [ الطويل ]
3055 لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً ... ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ
ويجمع على جُنُبٍ ، وجِبَاب ، وأجْبَاب .
فصل
والألف واللام في « الجُبِّ » تقتضي المعهُود السَّابق ، واختلفوا فيه :
فقال قتادة : هو جُبُّ بئر بيت المقدِس ، وقيل : بأرض الأرْدُن .
وقال مقاتل : هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب ، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ؛ للعلَّة التي ذكروها ، وهي قوله : « يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ » لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً ، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها ، كان إلى السَّلامة أقْرب؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا ، شاهدوا ذلك الإنسان فيهن فيخرجوه ، ويذهبوا به فكان إلقاءه فيها أبعد عن الهلاك .
قوله « يَلتَقِطْهُ » قرأ العامَّةك « يَلْتَقِطْهُ » بالياء من تحت ، وهو الأصلُ وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة : بالتَّاء من فوقح للتَّأنيثِ المعنويِّن والإضافة إلى مؤنَّث ، وقالوا : قُطِعَت بعضُ أصَابعه .
قال الشَّاعر : [ الوافر ]
3056 إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا ... كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ
وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [ الأنعام : 160 الأعرافَ : 56 ] .
والإلتِقَاط : تناول الشيء المطروح ، ومنه : اللُّقطَة واللَّقِيط؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
3057 ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا .. . . .
قال ابن عرفة : الالتقاط وجود الشيء على غير طلب ، ومنه قوله تعالى { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } أي : يجده من غير أن يحتسب .
فصل
اختلفوا في الملقوط فقيل : إن أصله الحرية؛ لغلبة الأحرار على العبيد ، وروي الحسين بن علي رضي الله عنهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ ، وتلا قوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] وهذا قوله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويروى عن علي وجماعته ، وقال إبراهيم النخعي : إن نوى رقه فهو مملوك ، وإن نوى الاحتساب فهو حر .
فصل
والسيَّارة : جمع سيَّار ، وهو مثال مبالغة ، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر ، وقال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : يريد : المارَّة ، ومفعول « فَاعِلينَ » محذُوف ، أي : فاعلين ما يحصل به غرضكم . وهذا إشارة إلى أن الأولى : أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك ، وأما إن كان ولا بد ، فاقتصروا على هذا القدر ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] يعني : الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك .
قوله تعالى : { قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ } الآية .
« تَأمَنَّا » حال وتقدَّم نظيره ، وقرأ العامَّة : تأمنَّا بالإخفاء ، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة ، والفصل بين النُّونين؛ لا لأن النون تسكن رأساً؛ فيكون ذلك إخفاءً ، لا إدغاماً .
قال الدَّاني : « وهو قول عامَّة أئِمَّتنا ، وهو الصواب؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس » .
وقرأ بعضهم ذلك : بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين ، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح ، كما يشير إليها الواقف ، وفيه عسر كثير ، قالوا : وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام ، أو قبل كماله ، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها .
ومنها : [ إشراب ] الكسرة شيئاً من الضمِّ [ نحو قيل ، { وَغِيضَ } [ هود : 44 ] وبابه ، وقد تقدم في أول سورة البقرة ] .
ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر؛ كإشمام الصاد زاياً في { الصراط } [ الفاتحة : 6 ] ، { وَمَنْ أَصْدَقُ } [ النساء : 87 ، 122 ] وبابهما ، وقد تقدم في الفاتحة ، والنساء ، فهذا خلط حرف بحرف ، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ .
ومنها : الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة ، وإنما يراه البصير دُون الأعمى ، وقرأ أبو جعفر : الإدغام الصَّريح من غير إشمام ، وقرأ الحسن ذلك : بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل . وللمحافظة على حركة الإعراب ، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء ، أو الإشمام ، كما تقدَّم تحقيقه .
وقرأ ابن هرمز : « لا تَأمُنَّا » بضم الميم ، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إداغمها ، بعد سلب الميم حركتها ، وخط المصحف بنون واحدة ، ففي قراءة الحسن مخالفة لها . وقرأ أبو رزين ، وابن وثَّابٍ : « لا تِيْمَنًّا » بكسر حرف المضارعة ، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة .
قال ابو حيَّانك « ومجيئُه بعد » مَا لَكَ « والمعنى : يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي ، وليس كقولهم : » ما أحْسَنًّا « في التعجُّبح لأنه لو أدغم ، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي » .
قال شهاب الدِّين : وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي ، حتى ينُصَّ عليه بقوله : « لالتبس بالنَّفْي الصحيح » .
فصل
هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عليه الصلاة والسلام كان يخافُهم على يُوسف ، ولولا ذلك ، لما قالوا هذا القول .
واعلم : أنَّهم لما أحكمُوا العزم ، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف ، ونهاية الشفقة عليه ، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعين فسألوه إرساله معهم ، كان يعقُوب عليه الصلاة والسلام يحب تطيب قلب يوسف ، فاغترَّ بقولهم ، وأرسلهُ معهم حين قالوا له : { وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } والنُّصْح هنا : القيام بالمصلحة .
وقيل : البرُّ والعطف ، أي : عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته ، نحفظه حتَّى نردهُ إليك .
قيل للحسن : أيَحْسُد المُؤمن؟ قال : ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب ، ولهذا قيل : الأب جلاَّبٌ ، والأخ سَلاَّب ، وعند ذلك أجمعوا عل التًَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال ، وقالوا ليعقوب عليه الصلاة والسلام { مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ } .
وقيل : لما تفاوضوا وافترقوا على راي المتكلِّم الثاني ، عادوا إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام وقالوا هذا القول ، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف ، فأبى .
قوله : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } في : « يرْتَعْ ويَلعَبْ » أربع عشرة قراءة :
أحدها : قراءة نافع : بالياء من تحت ، وكسر العين .
الثانية : قراءة البزِّي ، عن ابن كثيرٍ : « نَرْتَعِ ونلعب » بالنُّون وكسر العين .
الثالثة : قراءة قنبل ، وقد اختلف عليه ، فنقل عه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً ، وحذفها وصلاً ووقفاً ، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه ، فعنه قراءتان .
الخامسة : قراءة أبي عمرو ، وابن عامر : « نَرتَعْ ونَلعَبْ » بالنُّون ، وسكون العين ، والباء .
السادسة : قراءة الكوفيين : « يَرْتَعْ ويَلعبْ » بالياء من تحت وسكون العين والباءِ .
وقرأ جعفر بن محمد : « نَرْتَعْ » بالنُّون ، « ويَلْعَبْ » بالياء ، ورُويت عن ابن كثيرٍ .
وقرأ العلاء بن سيابة : « يَرْتَعِ ويَلْعَبُ » بالياء فيهما ، وكسر العين وضمّ الباء .
وقرأ أبو رجاء كذلك ، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما .
والنخعي ويعقوبك « نَرْتَع » بالنون ، « ويَلْعَب » بالياء .
وقرأ مجاهدٌ ، وقتادةُ ، وابن محيصِن : « يَرْتَعْ ويَلْعَب » بالياء ، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل .
وقرأ زيد بن علي : « يُرْتَع ويُلْعَب » بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول .
وقرىء : « نَرْتَعِي ونَلْعَبُ » بثبوت الياء ، ورفع الباء .
وقرأ ابن أبي عبلة : « نَرْعَى ونَلْعَب » .
فهذه اربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ .
فمن قرأ بالنُّون ، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف .
سُئل أبو عمرو بن العلاء : كيف قالوا : نلعب وهم أنبياء؟ قال : كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عزَّ وجلَّ .
قال ابن الأعرابي : الرَّتْع : الأكل بشدة ، وقيل : إنه الخَصْبُ .
وقيل : المراد من اللَّعب : الإقدام على المُباحات ، وهذا يوصف به الإنسان ، كما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لجابر : « هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك » .
وقيل : كان لعبهم الاستباق ، والغرض منه : تعليم المحاربة ، والمقاتلة مع الكُفَّار ، ويدلُّ عليه قولهم : « إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ » وإنما سمَّوه لعباً؛ لأنه في صُورة اللَّعِب .
وأما من قرأ بالياءِ ، فقد أسند الفعل إليه دونهم ، فالمعنى : أنه يبصر رَعْي الإبلِ؛ لتيدرَّب بذلك ، فمرَّة يرتع ، ومرَّة يلعب؛ كفعل الصِّبيان .
ومن كسر العين ، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة ، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي ، ومن سكن العين ، واعتقد أنه جزم بحذق الحركة ، وجعلهُ مأخوذاً من : رَتَعَ يَرْتَعُ ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال :
3058 ... وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ
ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً ، ومن رفعها ، جعله مرفوعاً على الاستئناف ، أي : وهو يلعبُ ، ومن غاير بين الفعلين ، فقرأ بالباء من تحت في « يَلْعَب » دون « نَرْتَع » ؛ فلأن رَعْياً ، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي ، وأضافوه إلى أنفسهم؛ لأنه السَّبب ، والمعنى : نرتع إبلنا ، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم؛ لأنهم بالغون .
ومن قرأ : « نُرْتع » رُباعياً ، جعل مفعُوله محذوفاً ، أي : يَرْعى مَواشينا ، ومن بناها للمفعول ، فالوجه : أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله ، وهو ضمير الغدِ ، والأصل :
نُرْتَع فيه ، ونُلعَبُ فيه ، ثم اتسع فيه؛ فحذف حرف الجرِّ ، فتعدى إليه الفعل بنفسه ، فصار نُرْتعه ونَلْعَبُه ، فلما بناهُ للمفعول ، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله ، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه ، فهو في الاتِّساع كقوله : [ الطويل ]
3059 ويَوْمٍ شَهِدْنَا سَلِمياً وعَامِراً .. . .
ومن رفع الفعلين ، جعلهما حالين ، وتكون مقدَّرة ، وأمَّا إثبات الياء في « نَرْتَعي » مع جزم « يَلْعَب » وهي قراءة قنبل ، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها .
وقال ابن عطيَّة : هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر ، وقيل : هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة ، وأنشد :
3060 ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي .. . . .
وقد تقدَّمت هذه المسألة .
و « نَرْتَع » يحتمل أن يكون وزنه : « نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى؛ كما تقدَّم ، ويكون على حذف مضاف ، أي : نرتع مواشينا ، أو من المراعاة للشيء؛ قال : [ الخفيف ]
3061 تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَارِ ... فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ
ويحتمل أن يكون وزنه » نَفْعَل « من رَتَعَ يَرْتَع : إذا أقام في خصب وسعة ، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى : » القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة « ؛ وقال الشاعر : [ الوافر ]
3062 أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّي ... وبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا
قوله : { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } جلمة حالية ، والعاملُ فيها أحد شيئين : إمَّا الأمر ، وإمَّا جوابه .
فإن قيل : هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال؟ .
فالجواب : لا يجُوز ذلك؛ لأنَّ الإمال يستلزم الإضمار ، والحالُ لا تضمر؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً ، أو مؤولةً بها .
قوله : { أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } فاعل : « يَحْزُنُنِي » ، أي : يَحْزُننِي ذهابُكم ، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً ، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال ، ووجه الدلالة : أنَّ « أن تذْهَبُوا » مستقبل؛ لاقترانه بحرف الاستقبال ، وهي وما في حيِّزها فاعل ، فلو جعلنا « ليَحْزُنُنِي » حالاً ، لزم سبق الفعل لفاعله ، وهو مُحل وأجيبَ عن ذلك بإنَّ الفاعل في الحَقيقَة مقدَّر ، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه ، والتقدير : ليَحْزُوننِي توقع ذهابكم ، وقرأ زيد بن علي وابن هرمز ، وابن محيصن : « ليَحْزُنِّي » بالإدغام .
وقرأ زيد بن علي : « تُذْهِبُوا بِهِ » بضم التَّاء من « أذْهَبَ » وهو كقوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] في قراءة من ضمَّ التَّاء ، فتكون التاء زائدة أو حالية .
والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ ، والكسائيُّ ، وورش ، وفي الوقف لا يهمزه حمزة ، قالوا وهو مشتقٌّ من : تَذاءَبتٍ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ؛ لأنه يأتي كذلك ، ويجمع على ذائب ، وذُؤبان ، وأذْؤبح قال : [ الطويل ]
3063 وأزْوَرَ يَمْشِي في بلادٍ بَعيدَةٍ ... تَعَاوَى بِهِ ذُؤبَانُهُ وثَعالِبُهْ
وأرضٌ مذْأبة : كثيرة الذِّئاب ، وذُؤابةٌ الشَّعر؛ لتحرُّكها ، وتقلبها من ذلك .
وقوله : { وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } : جملة حاليَّة ، العامل فيها : « يَأكلهُ » .
فصل
لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين :
أحدهما : ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحزنُه؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً .
والثاني : خَوْفه عليه من الذِّب إذا غفلوا عنه برعهيم ، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به .
فقيل : إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره ، فألأجل هذا ذكر ذلك . وقيل : إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم ، فلما قال بعقوب عليه الصلاة والسلام هذا الكلام ، أجابوه بقولهم : { لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } وفائدة اللام في « لَئِنْ » من وجهين :
أحدهما : أن كلمة « إنْ » تفيد كون الشِّرط مستلزماً للجزاء ، أي : إن وقعت هذه الواقعة ، فنحن خاسرون ، فهذه اللام خلت؛ لتأكيد هذا الاستلزام .
والثاني : قال الزمخشري رحمه الله « هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم ، [ تقديره : ] والله لئن أكلهُ الذئب ، لكنَّا خاسرين » .
والواوُ في : « ونَحْنُ عُصْبَةٌ » واو الحال؛ فتكون الجملة من قوله : « وَنحْنُ عُصْبةٌ » : جملة حاليَّة . وقيل : معترضة ، و { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } جواب القسم ، و « إذاً » : حرف جواب ، وحذف جوابُ الشرط ، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً .
فصل
ونقل أبو البقاء : أنه قرىء « عُصْبَةً » بالنصب ، وقدر ما تقدم في الآية الأولى . في المراد بقولهم : { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } وجوه : الأول : [ عاجزون ] ضعفاء ، نظيره قوله تعالى : { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } [ المؤمنون : 34 ] أي : لعاجزون .
الثاني : أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار ، وأن يقال : أخسرهُم الله ، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ : عشرةٌ تعصب بهم الأمُور ، تكفي الخطوب بمثلهم .
الثالث : إذا لم نقدر على حفظ أخينا ، فقد هلكت مواشينا ، وخسرنا .
الرابع : أنَّهم كانوا قد أتبعوا أنفسهم في خدمة أبيهم ، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته ، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء ، فقالوا : لو قصَّرنا في هذه الخدمة ، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال ، وخسرنا كمل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة .
فإن قيل : إنَّ يعقُوب عليه الصلاة والسلام اعتذر بعذرين : شدة حبِّه ، وأكل الذئب له ، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر؟
فالجواب : أن حقدهم ، وغيظهم كان بسبب المحبَّة ، فتغافلوا عنه .