كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
قوله ( تعالى ) : { إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ . . . } الآية لما ابتدأ بالرد على الذين يُجادلون في آيات الله واتصل الكلام بعضه ببعض على الترتيب المقتدم إلى هنا نبه تعالى على الداعية التي تحمل أولئك الكفار على تلك المجادلة ، فقال : { إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } أي ما يحملهم على هذا العمل الباطل إلا الكبر الذي في صدروهم . قال ابن عباس : والمراد ما في قلوبهم ، والصدر موضع القلب فكني به عن القلب لمجاورته .
قوله : { مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } قال مجاهد : ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر؛ لأن الله عزّ وجلّ مذلّهم . قال ابن قتيبة : « إن في صدورهم إلا تكبر على محمد ، وطمع أن يغلبوه ، وما هم ببالغي ذلك » .
وقوله { فاستعذ بالله } قال المفسرون : نزلت في اليهودِ ، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا صاحبنا المسيحُ بنُ داود يعنون الدّجّال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ويرد المُلْكَ إلينا ، قال الله تعالى : فاستعذ بالله من فتنة الدجال إنه هو السميع البصير . وقال ابن الخطيب : يعنى بقوله { مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } يعنى أنهم يريدون أذاك ، و لايصلون إلى هذا المراد بل لا بد وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك . ثم قال تعالى : { فاستعذ بالله } أي فالتجىء إليه من كيد من يجادلك إنه هو السَّمِيعُ بما يقولون أو تقول « البَصِيرُ » بما يعملون وتعمل فهو يجعلك نَافِذَ الحكم عليهم ويصونك عن مكرهم وكيدهم .
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
قوله تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } المصدران مضافان لمفعولهما ، والفاعل محذوف ، وهو الله تعالى .
ويجوز أن يكون الثاني مضافاً للفاعل أي أكبر مما يخلقه الناسُ ، أي يصنعونه .
ويجوز أن يكون المصدران واقعين موقع المخلوق ، أي مخلوقهما أكبر من مخولقهم ، أي جرمهما أ : بر من جرمهم .
فصل
اعلم أنه تعالى لما وصف جدالهم في الآيات بأن بغير سلطان ولا حجة ، ذكر لهذا مثلاً ، فقال : لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس والقادر على الأكبر قادر على الأقلّ لا محالة . وتقرير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره ينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يقال : لما قدر على الأضعف ، وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد .
( وثانيها : أن يُقَال : لما قدر على الشيء قدر على مِثْلِهِ ، فهذا استدلال صحيح لما ثبت في الأصول : أن حكم الشيء حكم مثله ) .
وثالثها : أن يُقَالَ : لما قدر على الأقوى الأكمل ( فَبِأَنْ ) يقدر على الأقل الأرذل كان أولى . وهذا استدلال في غاية الصحة والقوة ، ولا يرتاب فيه عاقل البتةَ . ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السمواتِ والأرضِ هو الله سبحانه وتعالى ويعملون بالضرورة أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، وكان من حقهمخ أن يقروا بأن القادر على خلق السموات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه اولاً فهذا برهان كلي في إفادة هذا المطلوب .
ثم إن هذا البرهان على قوته صار بحيث لا يعرفه أكثر الناس ، والمراد منه الذين ينكرون الحشر والنشر . فظهر بهذا المثال أنَّ هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا حجة بل بمجرد الحَسَدِ والكِبْر والغَضَب .
ثم لما بين الله تعالى أن الجِدَال المقرونَ بالكِبر والحسد ، والجَهْل كيف يكون؟ وأن الجدال بالحجة والبرهان كيف يكون؟ نبه تعالى على الفرق بين البيانين فقال : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير } يعني : وما يستي المستدل والجاهل فالمقلد ، ثم قال تعالى : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } فالمراد بالأول : التفاوت بين العالم والجاهل والمراد بالثاني : التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال السيئة الباطلة ، ثم قال : { قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } يعني أنهم وإن كانوا ( يعلمون ) أن العلمَ خير من الجهل ، وأن العمل الصالح خيرٌ من العمل الفاسد إلا أنه قليلاً ما يتذكرون . فبين في النوع الأول المعنى من الاعتقاد أنه علم أو جهل ، وفي النوع الثاني المعنى من العمل أنه عملٌ صالح أو فاسدٌ .
فصل
قوله : ( وَالْبَصير ) اعلم أن التقابلَ يجيء على ثَلاَثِ طُرُقٍ :
أحدهما : أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية .
والثانية : أن يتأخر المتقالابن كقوله تعالى : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع } [ هود : 24 ] .
والثالثة : أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور } [ فاطر : 1920 ] . وكل ذلك تفنن في البلاغة .
وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .
قوله : { وَلاَ المسياء } لاَ زائدة للتوكيد؛ لأنه لما طال الكلام بالصلة بعد تقسيم المؤمنين ، فأعاد معه « لا » توكيداً ، وإنما قدم المؤمنين لمجاورتهم .
قوله : « تتذكرون » قرأ الكوفيون بتاء الخطاب ، والباقون بياء الغيبة ، والخطاب على الالتفات للمذكورين بعد الإخبار عنهم . والغيبة نظراً لقوله : « إنَّ الَّذِين يُجَادِلُونَ » وهم الذين التفت إليهم في قراءة الخطاب .
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
قوله : { إِنَّ الساعة } يعني القيامة { لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة لما قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة أردفه بالإخبار عن وقوعها .
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
قوله تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ . . . } الآية لما بين أن القولَ بالقيامة حق وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى أو التضرع عليه لا جَرَمَ كان الاشتغال بالطاعة من أهم المُهِمّات ، ولما كان أشرفَ أنواع الطاعات الدعاءُ والتضررعُ لا جَرَمَ أمر الله تعالى به فقال : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } .
واختلفوا في المراد بقوله « ادعوني » فقيل : المراد منه الأمر بالدعاء ، وقيل : الأمر بالعبادة بدليل قوله بعده : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } ، وأيضاً الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } [ النساء : 117 ] . وأجاب الأوّلونَ بأن هذا ترك للظاهر فلا يُصَار إلا بدليل .
فإن قيل : كيف قال : « ادعوني أستجب لكم » ، وقد يُدْعَى كثيراً فلا يستجاب؟
وأجاب الكَعْبِيُّ بأن الدعاء إنما يصح بشرط ، ومن دعا كذلك يستجيب له ، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة .
ثم سأل نفسه فقال : إن الله تعالى يفعل ما هو الأصلح بغير دعاء فما الفائدة في الدعاء؟
وأجاب عنه بوجهين :
الأول : أن فيه الفزعَ والانقطاعَ إلى الله تعالى .
الثاني : أن هذا أيضاً وارد على الكل لأنه إن علم أنه يفعله فلا بدّ وأن يفعله ، فلا فائدة في الدعاء وإن علم أنه لا يفعله فإنه البتة لا يفعله ، فلا فائدة في الدعاء أيضاً ، فكل ما يقولونه ههنا فهو جوابنا .
قال ابن الخطيب : وعندي وجه آخر وهو أنه قال : ادعوني أستجيب لكم ، وكل من دعا الله وفي قلبه ذَرّة من الاعتماد على ماله وجاهه وأصدقائه واجتهاده فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان وأما القلب فإنه يعول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله ، فهذا اللسان ما دعا ربه ، أما إذا في وقت لا يكون القلبُ فيه متلفتاً إلى غير الله فالظاهر أن يستجاب له .
قوله : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وهذا إحسانٌ عظيمٌ من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء . وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ لَمْ يَدْعُ اللهَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ » .
فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم قال حكاية عن ربه عزّ وجلّ : « مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أعْطِي السَّائِلينَ » .
فهذا يقتضي أن ترك الدعاء أفضل ، وهذه الآية تدل على أن ترك الدعاء يوجب الوعيد الشديد فكيف الجمع بينهما؟
فالجواب : لا شك أن العقلَ إذا كان مستغرقاً في الثناء كان ذلك أفضلَ في الدعاء لأن الدعاء طلب الجنة ، والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من طلب الجنة ، أما إذا لم يحصل الاستغراق كان الاشتغال بالدُّعَاء أولى؛ لأن الدعاء يشتمل على معرفة الربوبية وذُلّ العبودية .
قوله : « سَيَدْخُلُونَ » قرأ ابن كثير وأبو جعفر « سَيُدْخَلُونَ » بضم الياء وفتح الخاء ، والآخرون بفتح الياء وضم الخاء « دَاخِرِينَ » صاغرين ذَلِيلِينَ .
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
قوله تعالى : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } اعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين :
الأول : كأنه تعالى قال : إني أنعمت عليك قبل طلبك هذه النعم العظيمة ، ومن أنعم عليك قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال؟! .
والثاني : أنه تعالى لماأمر بالدعاء فكأنه قيل : الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القدر؟ فذكر تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته ، وقد تقدم ذِكْرُ الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وهي إما فلكيّة ، وإما عُنْصُرِيَّة وأن الفلكيات أقسامٌ كثيرة ، أحدُها الليلًُ والنهارُ ، وأن أكثرَ مصالح العالم مربوطةٌ بهما فذكرهما الله تعالى ههنا ، وبين أن الحكمة في خلق الليل حصولُ الراحة بالنوم والسكون ، والحكمة في خلق النهار إبصار الأشياء؛ لِيُمْكِنَ التصرفُ فيها على الوجه الأنفع .
فإن قيل : هلاَّ قِيلَ بحسب رِعاية النظم هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو يقال : جعل لكم الليلَ ساكناً والنهار مبصراً ولكنه لم يقل ذلك ، فما الفائدة؟ وما الحكمة في تقدم ذكر الليل؟ .
فالجواب عن الأول : هو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عَدَمِيَّة فهو غير مقصود بالذات ، وأما اليقظة فأمور وجودية ، وهي مقصودة بالذات . وقد بيّن الشيخ عَبْدُ القَاهِر النَّحوِيُّ في دلائل الإعْجَازِ أن دلالة صيغة الاسم على الكمال والتمام أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في الفَرْق .
وأما الجواب عن الثاني : فهو أن الظلمة طَبِيعَةٌ عدمِيَّة ، والنورُ طبيعةٌ وجودية ، والعدم في المُحْدَثَاتِ مقدَّمٌ على الوجود؛ فلهذا السبب قال في أول سورة الأنعام : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } والمعنى أن فضل الله تعالى على الخلق كثيرٌ جداً ، ولكنه لا يشكرونه .
واعلم أن ترك الشكر لوجوه :
الأول : أن يَعْتَقِدَ الرجل أنّ هذه النعم ليست من الله ، مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها ، واجبة الدوران ( لذواتها ) فيعتقد أن هذه النعم منها .
الثاني : أن يَعْتَقِدَ أن كلَّ هذا العالم إنما حصل بتخليق الله وتكوينه إلا أن نعمةَ تَعَاقُبِ الليل والنهار لما دامت واستمرت نَسِيها الإنسان ، فإذا ابْتُلِيَ الإنسان بفِقْدانِ شيء منها عرف قدرها مثل أ ن يحبس في بئر عميق مظلمةٍ مًُدَّةً مديدةً ، فحينئذ يعرف ذلك الإنسان قَدْرَ نعمةِ الهواء الصافي وقَدْر نعمة الضوء ، وقد كان بعض الملوك يعذب بعض خدمه بأن يأمر أقواماً يمنعونه من النوم وعن الاستناد إلى الجدار .
والثالث : أن الإنسان وإن كان عارفاً بهذه النعم إلا أنه يكون حريصاً على الدنيا ، محبًّا المالَ والجاهَ ، فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كُفْران هذه النعم العظيمة ، ولما كان أكثر الخلق واقعون في أحد هذه الأودية الثلاثة لا جرم قال تعالى : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } .
ونظيره قوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] وقول إبليس : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الاعراف : 17 ] .
ولما بين الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر قال : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } . قال الزمخشري : ذَلِكُمُ المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو اللهُ رَبُّكُمْ ، خالق كمل شيء « لا إله إلا هو » أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثانيَ له . { فأنى تُؤْفَكُونَ } أي فأنى تُصْرَفُونَ أي ولِمَ تَعْدِلُونَ عن هذه الدلائل وتكذبون بها؟ .
قوله : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } العام على الرفع ، وزيْدُ بْنُ عليِّ بالنصب . قال الزَّمخشريُّ : « على الاختصاص » . وقرأ طلحة يُؤْفَكُونَ بياء الغيبة . وقوله : « وكذلك يُؤْفَكُ » أي مثل ذلك الإفك بمعنى كما أَفِكْتُمْ عن الحق مع قيام الأدلة { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } يعنى كلّ من جحد بآيات الله ولم يَتَأَملْهَا ولم يكن فيه عزمُ طَلَبِ الحقِّ وخَوْفِ العاقبة أفِكَ كما أَفِكُوا .
قوله تعالى : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً . . . } لما تقدم أن دلائل وجود الله تعالى وقدرته إما أن يكون من دلائل الآفاق وهي غير الإنسان وهي أقسام ، وذكر منها أحوالَ الليل والنهار كما تقدم ، وذكر منها أيضاً ههنا الأرض والسماء فقال : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً } قال ابن عباس رضي الله عنهما قراراً أي منزلاً في حال الحرارة وبعد المَمَات والسماء بناء أي قائماً ثابتاً وإلا وَقَعَتْ علينا . وقيل : سَقْفاً كالقُبَّة ، ثم ذكر دلائل الأنفس ، وهي دلالة أحوال بَدَن الإنسان على وجود الصانع القادر الحكيم ، وهو قوله : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } . قوله : { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } قرأ أبو رَزِين والأعْمَشُ صِوَركُمْ بكسر الصاد فراراً من الضمة قبل الواو . وقرأت فِرْقَةٌ بضم الصاد وسكون الواو ، وجعلوه اسم جنس لصُورَةٍ ، كبُسْر وبُسْرَةٍ .
فصل
قال مقاتل : خلقكم فأحسن خَلْقكم . قال ابن عباس رَضِي اللهُ عَنْهُمَا خُلِقَ ابن آدم قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده ، وغَيْرُ بن آدم يتناول بفيه . { وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات } ، قيل : من غير رقز الدوابِّ . ثم قال : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } ، ومعنى تبارك إمّا الدوام والتبيان وإماكثرة الخيرات . ثم قال : « هُوَ الحَيُّ » وهذا يفيد الحَصْر؛ ولأن لا حيَّ إلا هو . ثم نبّه على الوحدانية فقال : لا إله إلا هو ثم أمر العباد بالإخلاص في الدعاء فقال : { فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } . ثم قال : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } .
والمراد أنه لما كان موصوفاً بصفات الجَلال والعِزة استحق لذاته أن يقال له : الحمد لله رب العالمين وقال الفراء هو خبر ، وفيه إضمار الأمر ومجازه فادعوه واحْمدُوهُ . وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما من قال : لا إله إلا الله فليقل على أثرها : الحمد لله رب العالمين ، فذلك قوله : فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين .
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
قوله تعالى : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } لما أورد على المشركين تلك الأدلة الدالة على إثبات إله العالم أمره بهذا القول؛ ليصرفهم عن عبادة الأوثان ، وبين وجه النهي ف يذلك وهو ما جاءه من البينات ، وهو ما تقدم من الدلائل على أن إله العالم قد ثَبَتَ كونُهُ موصوفاً بصفات الجَلاَل والعظمة على ماتقدم وصريحُ العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به ، والأحجار المنحوتة والأخشاب المُصوَّرة لا تصلح أن تكون شريكاً له فقال : وأمرت أَنْ أُسْلِمَ لرب العالمين ، وذلك حين دُعِيَ إلى الكفر .
قوله تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ . . . } لما استدل على إثبات الإليهة بدليل الآفاق وذكر منها الليل والنهنار والأرض والسماء ، ثم ذكر الدليل على إثبات الإله القادر بخلق الأنفس وهو نوعان : أحدهما : حسن العودة ورزق الطيّبات؛ ذكر النوع الثاني وهو : تكوين البدن من ابتداء كونه نُطفةً وجَنيناً إلى آخر الشَّيْخُوخَة والموت فقال : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } ، قيل : المراد آدم . قال ابن الخطيب : وعندي لا حاجة إلى ذلك لأن كل غنسان فهو مخلوق من المَنِي ومن دَم الطَّمْثِ والمَنِي مخلوق من دم فالإنسان مخلوق من الدّم ، والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما حيواينة وإما نباتية ، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكوين الإنسان فكانت الأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكموين الإنسان فكانت الإذية كلها منتهية إلى النبات ولانبات إنما يكون من التراب والماء فثبت أن كل إنسان مُتَكَوِّن من التراب ، ثم إن ذلك التراب يصير نطفةً ثم علقةً ، ثم بعد كونه علقة مراتب إلى أن ينفصل من بطن ألأم . وا لله تعالى ترك ذكرها ههنا لأنه ذكرها في آيات أُخَر ، قال : { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أي أطفالاً { ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ } . ( قال الزمخشري : قوله : لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) متعلق بفعل محذوف ، تقديره ثم يبعثُكم لِتبلغُوا أَشُدَّكُمْ ، { ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ } أي : أن يصير شَيْخاً ، أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سَقْطاً ثم قال : { ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى } أي ولتبغلوا جميعاً { أَجَلاً مُّسَمًّى } وقتاً محدوداً لا تُجَاوِزُونَه وهو وقت الموت . وقيل : يوم القيامة ، { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته وتستدلوا بهذه الأحوال العجيبة على وحدانية الله تعالى .
ثم قال : { هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ } والمعنى أنه تعالى لما ذكر انتقال الأجسام من كونها تراباً إلى أن بلغت الشيخوخة ، واستدل بهذه التغييرات على وجود الإله القادر قال بعده : { هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي كما أن الانتقال من الحياةِ إلى الموت وبالعكس ، يدل على الإله القادر .
( و ) قوله : { فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ } فيه وجوه :
الأول : معناه أنه لم ينقل هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى بآلةٍ تعينه إنما يقول له كن فيكون .
الثاني : أنه عبر عن الإحياء والإماتة بقوله : { كُن فيَكُونُ } فكأنه قيل : الانتقال من كونه تراباً إلى كونه نطفةً إلى كونه علقةً انتقالاتٌ تَحْصُل على التدريج قليلاً . وأما صَيْرُورَتُهُ حَيَّا فهي إنما تحصل بتعليق جَوْهَر الرُّوح ، وذلك يحدث دفعة واحدة فلهذا عبر عنه بقوله : « كن فيكون » .
الثالث : أنَّ من الناس من يقول : إن الإنسان إنما يتكون من المَنِي والدَّم في الرحم في مدة معينة بحسب الانتقالات من حال إلى حال ، فكأنه قيل : إنه يمتنع أن يكون كل إنسان عن إنسان آخرَ؛ لأن التسلسل محالٌ ، ووقوع الحادث في الأزل محال فلا بد من الاعتراف بإنسان هو الناس وحينئذ يكون حدوث ذلك الإنسان لا بواسطة المَنِي والدم بل بإيجاد الله تعالى ، ابتداءً ، فعبر الله تعالى عن هذه المعنى بقوله : { كُن فيَكُونُ } .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله } الآيات . اعلم أنه تعالى عادَ إلى ذَمِّ الذين يجادلون في آيات الله ، أي في إنكار آيات الله ودفعها والتكذيب بها ، فعَجَّبَ تعالى منهم بقوله : { أنى يُصْرَفُونَ } ؟ كيف صُرِفُوا عن دين الحق وهذا كما يقول الرجل لمن لا يسمع نصحه : إلى أين يُذْهَبُ بك؟! تعجباً من غفلته .
قوله : « الذين كذبوا » ، يجوز فيه أوجه ، أن يكون بدلاً من الموصول قبله ، أو بياناً له أو نعتاً أو خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوباً على الذم ، وعلى هذه الأوجه ، فقوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } جملة مستأنفة ، سيقت للتهديد .
ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر الجملة من قوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ودخول الفاء فيه واضح .
فصل
المعنى هم الذي كذبوا بالكتاب أي بالقرآن وبما أرسلنا به رسلنا من سائر الكتب؛ قيل : هم المشركون . وعن محمد بن سِيرِين وجماعة : أنها نزلت في القَدَرِيَّة .
قوله : { إِذِ الأغلال } فيه سؤال ، هو أن « سوفَ » للاستقبال ، و « إِذْ » للماضي ، فقوله : { فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم } مثل قولك : سَوْفَ أَصُمُ أَمْسِ ، والجواب : جوزوا في « إذ » هذه أن تكمون بمعنى « إذا » ؛ لأن العامل فيها محقق الاستقابل وهو فسوف يعلمون .
قالوا : وكما تقع « إذَا » موضع إِذْ في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] كذلك تقع إِذْ مَوْقِعَهَا .
وقد مضى نَحْوٌ من هذا في البقرة عند قوله تعالى : { وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب } [ البقرة : 165 ] قالوا : والذي حسن هذا تيقن وقوع الفعل ، فأخرج في صورة الماضي .
قال شهاب الدين : ولا حاجة إلى إخْراج « إِذْ : عن موضوعها؛ بل هي باقية على دَلاَلتِهَا على المعنى ، وهي منصوبة بقوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } نصب المفعول به ، أي فسوف يعلمون يوم القيامة وقت الأغلال في أعناقهم أيْ وقتَ سببِ الأغلال ، وهي المعاصي التي كانوا يفعلونها في الدنيا ، كأنه قيل : سيعرفون وقت معاصيهم التي تَجْعَلُ الأغلال في أعناقهم وهو وجه واضح غاية ما فيه التصرفُ في إذ يجعلها . وهو وجه واضح غاية في ما فيه التصرف في إذ يجعلها مفعولاً بها . ولا يضر ذلك ، فإن المعربين غالب أوقاتهم يقولون : منصوب » باذْكُرْ « مقُقَدَّراً ، أو لا يكون حينئذ إلا مفعولاً به لاستحالة عمل المستقبل في الزمن الماضي .
وجوز أن يكون منصوباً باذْكُرْ مقدراً ، أي اذكر لهم وَقْتَ الإِغلال؛ ليخالفوا ويَنْزَجِرُوا ، فهذه ثلاثة أوجه خيرها أوسطها .
قوله : » والسَّلاَسِلُ « العامة على رفعها ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه معطوف على الأغْلاَلِ . وأخبر عن النوعين بالجار ، فالجال في نية التأخير والتقدير : إذ الأَغْلاَلُ والسَّلاَسِلُ في أعنقاهم .
الثاني : أنه مبتدأ ، والخبر محذوف لدلالة خبر الأول عليه .
الثالث : أنه مبتدأ أيضاً ، وخبره الجملة من قوله : « يُسْحَبُونَ » ولا بُدَّ مِن ذكر ضمير يعود عليه منها ، والتقدير : والسلاسل يُسْحَبُونَ بِهَا ، حذف لِقُوَّة الدَّلالةِ عليه .
« فَيُسْحَبُونَ » مرفوع المحل على هذا الوجه . وأما الوجهيه المقتدمين فيجوز فيه النصب على الحال من الضمير المنويّ في الجار ، ويجوز أن يكون مستأنفاً .
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مسعُودٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وابْنُ وَثَّابٍ ، والحسن في اختياره « والسَّلاَسِلَ » نصباً يَسْحَبُونَ بفتح الياء ، مبنياً للفاعل ، فيكون السلاسل مفعولاً مقدماً ، ويكون قد عطف جملة فعلية على جملة اسمية .
قال ابن عباس في معنى هذه القراءة : إذا كانوا يَجُرُّونَهَا فهو أشد عليهم يكلفون ذلك ولا يطيقونه .
وقرأ ابن عباس وجماعة « والسَّلاَسِل » بالجر يُسْحَبُونَ مبنياً للمفعول وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ :
أحدها : الحمل على المعنى وتقديره إِذْ أَعْنَاقُهُم في الأغلالِ والسلاسلٍ فلما كان معنى الكلام على ذلك حمل عليه في العطف .
قال الزمخري : ووجه إنه لو قيل : « إِذْ أَعْنَاقُهُمْ في الأغلال مكان قوله : إِذ الأَغْلاَلُ في أعناقهم » لكان صحيحاً مستقيماً ، فلما كانتا عبارتين مُعْتَقِبَتَيْنِ ، حمل قوله : « والسلاسل » ( عليه ) على العبارة الأخرى . ونظيره :
4347 مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
كأنه قيل : بمصليحن .
وقرىء : بالسَّلاَسلِ . وقال ابن عطية : تقديره : إذا أعناقهم في الأغعلال والسلاسلِ فعطف على المراد من لكلام لا على ترتيب اللفظ؛ إذ ترتيبه فيه قل ، وهو على حد قول العرب : أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي .
وفي مصحف أًُبيِّ : وفي السلاسِل يَسْحَبُونها . قال أبو حيان بعد قول ابن عطية والزمخشري المتقدم : ويمسى هذا العطف على التوهم ، إلا أن قولهم : إدخال حرف الجر على مصلحين أقرب من تغيير تركيب الجملة بأسرها ، والقراءة من تغيير تركيب الجملة السابقة بأسرها ، ونظير ذلك قوله :
4348 أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بثُعَيْلبَاتٍ ... وَلاَ بَيْدَاءَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ
وَلاَ مُتَدارِكٍ واللَّيْلُ طِفْلٌ ... بِبعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُصًُولاً
التقدير : لَسْتَ براءٍ ولا بمتداركٍ .
وهذا الذي قالاه سبقهما إليه الفَرَّاءُ فإِنه قال : « من جر السلاسل حمله على المعنى » ، إذ المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل .
الوجه الثاني : أنه عطف على « الحميم » ، فقدم على المعطوف عليه وسيأتي تقرير ذلك .
الثالث : أن الجر على تقدير إضمار الخافض ويؤيده قراءة أُبَيٍّ : « وفِي السَّلاَسِلِ » وقرأ غيره : وبالسَّلاَسِلِ وإلى هذا نحا الزجاج ، إلاَّ أنَّ الأنباريِّ ردَّه وقال : لو قلت : « زيد في الدار » لم يحسن أن تضمر « في » فتقول : زيد ( في ) الدار ثم ذكر تأويل الفراء وخرج القراءة عليه . ثم قال : كما تقول : « خَاصَمَ عَبْد اللهِ زَيْداً العَاقِليْنِ » ، بنصب « العاقلين » ورفعه؛ لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصمه الآخر .
وهذه المسألة ليست جارية على أصول البصريين ، ونصّوا على منعها وإنما قال بها من الكوفيين ابْنُ ( سَ ) عْدَانَ .
وقال مَكيّ : وقد قرىء : والسَّلاَسلِ بالخفض على العطف على الأعناق ، وهو غلط؛ لأنه يصير الأغلال في الأعناق وفي السلاسل ولا معنى للأغلال في السَّلاَسل؟
قال شهاب الدين : وقوله : على العطف على الأعناق ممنونع بل خفضه على ما تقدم . وقال أيضاً : وقيل : هو معطوف على « الحميم » وهو أيضاً لا يجوز؛ لأن المعطوف المخفوض ، لا يتقدم على المعطوف عليه لو قلت : « مَرَرْتُ وَزَيْدٍ بِعَمْرو » لم يجز ، وفي المرفوع يجوز ، نحو : قَام وَزَيْدٌ عَمْرٌ ، ويبعد في المنصوب لا يحسن رأيتُ وَزَيْداً عَمْراً ، ولم يُجِزْهُ في المخفوض أحدٌ .
قال شهاب الدين : وظاهر كلامه أنهن يجوز في المرفوع منعه ، وقد نصوا أنه لا يجوز إلا ضرورة بثلاثة شروط :
أن لا يقع حرف العطف صدراً ، وأن يكون العامل متصرفاً ، وأن لا يكون المعطوف عليه مجروراً وأنشدوا :
4349 ... عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ السَّلاَمُ
إلى غير ذلك من الشواهد مع تنصيصهم على أنه مختص بالضرورة . و « السَّلاَسِلُ » معروفة ، قال الراغب : « وتَسَلْسَلَ الشيءُ اضطرب كأنه تُصُوِّر منه تسلسلٌ متردد فتردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه . وماء سلسل متردد في مقره » .
والسَّحْبُ : الجر بمعنف ، والسَّحابُ من ذلك لأن الريح تَجُرُّوهُ ، أو لأنه يجر الماء ، وسجرت التَّنُّورَ أي ملأته ناراً وهيجتها ، ومنه البحر المسجور ، أي المملوء ، وقيل : المضطرب ناراً ، وقال الشاعر ( رحمة الله عليه ) :
4350 إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورةً ... تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ والشَّوْحَطَا
فمعشنى قوله تعالى هنا : { ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } أي يوقد بهم ، كقوله تعالى : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] والسَّجِيرةُ : الخليلُ الذي يَسْجُرُ في مَوَدَّة خليله ، كقولهم : فُلاَنٌ يَحْتَرِقُ فِي مَوَدَّةِ فُلاَنٍ .
فصل
هذه كيفية عقابهم ، والمعنى أنه يكون في أعناقهم أغلال وسلاسل ثم يسحبون بتلك السلاسل في الماء المُسَخَّنِ بنار جهنم ، ثم تُوقَدُ بهم النار { قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله } يعني الأصنام { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } أي فقدناهم وغابوا عن عيوننا فلا نراهم ، ثم قالوا : { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } أنكروا ، كقولهم في سورة الأنعام : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] وقيل : معناه لم نكن ندعو من قبل شيئاً يضر وينفع . وقال الحسين بن الفضل : أي لم نكن نصنع من قبل شيئاً أي ضاعت عبادتنا لها كما يقول من ضاع عمله : « ما كنت أعمل شَيْئاً » .
ثم قال تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين } قال القاضي : معناه أنه يُضِلُّهم عن طريق الجنة ، ولا يجوز أن يقال : بضلهم عن الحجة ، وقد هداهم في الدنيا ، وقال { يُضِلُّ الله الكافرين } مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى أنهم لو نطلبوا الآلهة ، أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر .
قوله تعالى : { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ } أي ذلكم العذابُ الذي نزل بكم { بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ } تَبْطُرون وتَأشِرُنَ { فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } تفرحون وتختالون . وقيل : تفرحون من باب التجنيس المحرف ، وهو أن يقع الفرق بين اللفظين بحرف .
قوله : { ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } أي السبعة المقسومة لكم { خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } المخصوص بالذم محذوف؛ أي جهنمُ أو مَثْوَاكُمْ ، ولم يقل : فبئس مدخل؛ لأن الدخول لا يدوم وإنما يدوم الثّواء ، فلذلك خصه بالذم ، وإن كان أيضاً مذموماً .
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
قوله تعالى : { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } لما زَيَّفَ طريقة المجادلين في آيات الله تعالى أمر في هذه الآية رسوله بأن يصبرَ على أذاهم بسبب جدالهم ، ثم قال : { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } . والمراد ما وعد الرسول نُصْرته ، ومن إنزال العذاب على أعدائه .
قوله : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } قال الزمخشري : أصله : فَإِن نُرِكَ و « ما » مزيدة لتأكيد معنى الشرط ، ولذلك ألحقت النون بالفعل ، ألا ترَاك تقول : « إنْ تُكرِمَنِّي أكْرِمْكَ ، ولكن إِمَّا تُكْرِمَنِّي أُكْرِمْكَ » قال أبو حيان : « وما ذكره من تَلاَزُمِ النون ، ما الزائدة ، ليس مذهب سيبويه ، إنما هو مذهب المبرد ، والزجاج .
ونص سيبويه على التخيير ، وقد تقدمت هذه القواعدُ مستوفاةً .
قوله : { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } ليس جواباً للشرط الأول ، بل جواباً لما عطف عليه .
وجواب الأول محذوف . ( قال الزمخشري : » فَإِلَيْنَا « متعلق بقوله » نَتَوفَّينَّكَ « وجواب نرينك محذوف ) تقديره : فإن نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب والقتل يوم بدر ، فذاك؛ وإنْ » نَتَوَفَّيَنَّكَ « قبل يوم بدر » فَإِلَيْنَا يُرجَعُونَ « فننتقم منهم أشدُّ الانتقام . وقد تقدم مثلُ هذا في سورة يونس . وبحثُ أبي حَيَّانَ مَعَهُ .
وقال أبو حيان هَهُنَا : وقال : جواب » إما نُرِيَنَّكَ « محذوف؛ لدلالة المعنى عليه أي فتقرّ عينك ، ولا يصح أن يكون » فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ « جواباً للمعطوف عليه والمعطوف ، لأن تركيبَ » فإما نُرينك بعض الذي نعدهم في حياتك فإلينا يرجعون « ليس بظاهر ، وهو يصحُّ أن يكون جواب » أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ « أي فإِلينا يرجعون فننتقم منهم ونعذبهم ، لكونهم يَتَّبِعُوكَ .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } [ الزخرف : 41 و42 ] . إلا أنه هنا صرح بجواب الشرط ، قال شهاب الدين : وَهَذَا بعَيْنِهِ هو قولن الزمخشري . وقرأ السُّلَمِيُّ ويَعْقُوبُ : يَرْجِعُونَ بفتح ياء الغيبة مبنياً للفاعل ، وابْنُ مِصْرِفٍ ويعقوبُ أيضاً بفتح الخطاب .
قوله : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا } يجوز أن يكون » مِنْهُمْ « صفة » لِرُسُولاً « فيكون » مَنْ قَصَصْنَا « فاعلاً لاعتماده ويجوز أن يكون خبراً مقدماً ، و » مَنْ « مبتدأ مؤخر .
ثم في الجملة وجهان :
أحدهما : الوصف » لِرُسُلاً « وهو الظاهر .
والثاني : الاستئناف .
فصل
معنى الآية قال لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، أنت كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين وليس فيهم أحد أعطاه الله آياتٍ ومعجزاتٍ ، إلا وقد جادله قومُه فيها وكَذَّبُوه فصبروا ، وكانوا أبداً يقترحون على الأنبياء إظاهر المعجزات الزائدة علكى الحاجة عِناداً وعبثاً ، { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ، والله تعالى علم الصلاح في إظهار ما أظهروه ، فلم يَقْدَحْ ذلك في نُبُوَّتِهِمْ ، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحاً لا جَرَمَ ما أظهرناها .
ثم قال : { جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق } أي فإذا جاء قضاءُ الله بين الأنبياء والأمم قضي بالحق { وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون } وهم المعاندون الذين يجادلون في آيات الله فيقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة تعنتاً وعبَثاً .
قوله تعالى : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام . . . } الآية . لما ذكر الوعيدَ عاد إلى ذِكر ما يدل على وجود الإِلَهِ القَادِرِ الحَكِيمِ ، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد .
قال الزجاج : « الأَنْعَامُ الإِبل ( خاصة ) َ » ، وقال القاضي : هي الأزواج الثمانية . وقوله : « مِنْهَا وَمِنْهَا » .
« من » الأولى يجوز أن تكونَ لِلتَّبْعِيض ، إذ ليس كُلُّها تُرْكَبُ ، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية إذ المرادُ بالأنعام شيءٌ خاصٌّ هي الإبل ، قال الزجاج : لأنه لم يُعْهد المركوبُ غيرها « .
وأما الثانية فكالأولى . وقال ابن عطية : هي لبيان الجنس قال : لأن الخيل منها ولا تُؤْكَلُ .
فإن قيل : ما السَّبَبُ في إدخال لام العِوَض على قوله : » لِتَرْكَبُوا « وعلى قوله : » لِتَبْلُغُوا « ولم يدخل على البَوَاقِي؟ .
فالجواب : قال الزمخشري : الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجباً أو مندوباً ، وأيضاً ركوبها لأجل حاجتهم ، وهي الانتقال من بلدٍ إلى بلد آخر لطلب علم أو إقامة دين يكون إما واجباً أو مندوباً فهذان القسمان أغراض دينيةٍ ، فلا جَرَمَ أدخل عليها حرف التعليل نظيره قوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] فأدخل حرف التعليل على » الرُّكُوبِ « ولم يدخله على الزِّينَةِ .
قوله { لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا } أي بعضها { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها { وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ } لحمل أثقالكم من بلد إلى بلد . قوله : { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } أي على الإبل في البرِّ ، وعلى السفن في البَحْرِ .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : في الفلك ، كما قال : { قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين } [ هود : 40 ] ؟ .
فالجواب : كلمة على للاستِعْلاَء ، فالشيء يُوضَع على الفلك كما صح أن يقال : وضع فيه صح أن يقال : وضع عليه ولما صح الوجهان كانت لفظةُ » عَلَى « أولى حتى يتم المزاوجة في قوله : { وعليها وعلى الفلك تحملون } .
وقال بعضم : إن لفظة » فِي « هناك ألْيَقُ؛ لأن سفينة نُوحٍ على ما قيل كانت مُطْبِقَةً عليهم وهي محيطة بهم كالوعاء ، وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح ، لان الناس على ظهرها .
قوله : { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } دلائل قدرته ، وقوله : { فَأَيَّ آيَاتِ الله } منصوب ب » تُنْكِرُونَ « وقدم وجوباً لأن له صدر الكلام . قال مكيّ : ولو كان مع الفعل هاءٌ لكان الاختيار الرفع في أي بخلافِ ألف الاستفهام تدخل على الاسم ، وبعدها فعلٌ واقعٌ على ضمير الاسم فالاختيار النصب نحو قولك : أَزَيْداً ضَرَبْتَهُ ، هذا مذهب سيبويه فرق بين الألف وبين » أي « يعني أنك إذا قُلْت : أَيّهُمْ ضَرَبْتَ؟ كان الاختيار الرفع؛ لأنه لا يُحْوجُ إلى إضمار مع أن الاستفهام موجود وفي » « أَزَيْداً ضَرَبْتَهُ » يختار النصب لأجل الاستفهام فكان مقتضاه اختيار النصب أيضاً فيما إذا كان الاستفهام بنفس الاسم ، والفرقب عَسِرٌ .
وقال الزمخشري : « فأَيَّ آيَاتِ » جاءت على اللغة المسفيضة وقولك : فأيه آياتِ الله قليلةٌ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات ، نحو : حِمَار ، وحِمَارة غريب ، وهو في أي أغرب ( لإبهامه ) قال أبو حيانَ ( رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ ) : وِمن قلة تأنيث أيَّ قولُه :
4351 بأيِّ كتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وتَحْسِبُ
وقوله : وهو في « أي » أغرب إن عَنَى « أيًّا » على الإطلاق فليس بصحيح؛ لأن المستفيضَ في النِّداء أن يؤنث في نداء المؤنث كقوله تعالى : { ياأيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] ولا نعلم أحداً ذكر تذكيرها فيه فيقول : يأَيُّها المرأَةُ ، إلا صاحب البَدِيع في النَّحْوِ . وإن عنَى غير المناداة فكلامه صحيح يقل تأنيثها في الاستفهام ، وموصولة شرطية .
قال شهاب الدين : أما إذا وقعت صفةً لنكرة أو حالاً لمعرفة فالذي ينبغي أن يجُوزَ الوجهان كالموصولة ويكون التأنيث أقلّ نحو : مررتُ بامرأةٍ أَيَّةِ امرأة ، وجَاءَتْ هِنْدٌ أَيَّةُ امْرَأَةٍ وكان ينبغي لأبي حَيَّانَ أن ينبه على هذين الفَرْعَيْنِ .
فصل
معنى قوله { فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ } أَيْ هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة ليس في شيء منها ما يمكن إنكاره .
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ . . . } معناه أن هؤلاء الكفار الذين يجادلون في آيات الله وحصل الكِبْر العظيم في صدورهم ، إنما كان السبب في ذلك طلب الرياسة والتقديم على الغير في المال والجاه ومن ترك الانقياد على الحق طلباً لهذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا وهذه طريقة فاسدة؛ لأن الدنيا ذاهبة واحتج بقوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض . . . } يعني لو ساروا في أطراف الارض لعرفوا أن عاقبة المتكبرين والمتمردين ليس إلا الهلاك والبَوَار مع أنهم كانوا أكثر عَدَداً وعِدَداً ومالاً من هؤلاء المتأخرين ، فلما لم تُفِدْهُمْ تلك المُكْنَةُ العظيمة إلا الخَيْبَة والخَسَار فكيف حال هؤلاء الفقراء المساكين؟! .
قوله : { فما أغنى عنهم } يجوز في « ما » أن تكون نافية واستفهامية بمعنى النفي ، ولا حاجة إليه وقوله « مَا كَانُوا » يجوز أن يكون « ما » مصدرية ، ومحلها الرفع أي مَكْسُوبُهُمْ أو كَسْبُهُمْ ويجوز أن يكون بمعنى الذي فلا عائد على الأول وعلى الثاني هو محذوف أي يكسبونه وهي فاعل « بأَغْنَى » على التقدِريرين .
قوله : { عِندَهُمْ مِّنَ العلم } فيه أوجه :
أحدهما : أنه تهكم بهم ، والمعنى ليْسَ عندهم عِلْم .
الثاني : أن ذلك جاء على زَعْمِهِمْ أنَّ عندهم علماً ينتفعون به .
الثالث : أن « مِنْ » بمعنى بدل أي بما عندهم من الدنيا بدل العلم .
الرابع : أن يكون الضمير للرسل ، أي فَرِحَ الرسل بما عندهم من العلم .
الخامس : أن الأول للكفار ، وأما الثاني لِلرسل ، ومعناه فرح الكفار فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاءٍ بماعند الرسل من العلم؛ إذ لم يأخذوه بقبول ويمتثلوا أوامر الوحي ونواهيه . وقال الزمخشري : وَمِنْهَا أي من والوجوه أن يوضع قوله : { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والمسرة مع تهكم بفَرْطِ خُلُوِّهم من العلم وجهلهم .
قال أبو حيان : ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام ، نحو : « شَرٌّ أهَرَّ ذا ناب » على خلاف فيه ، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز . وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل لأن في ذلك تخليطاً لمعاني الجمل المتباينة .
فصل
قال المفسرون : الضمير في قوله : « فَرِحُوا » يحتمل أن يكون عائداً على الكفار وأن يكون عائداً إلى الرسل فإن عاد إلى الكفار ، فذلك العلم الذي فرحوا به قيل : هو الأشياء التي كانوا يسمونها علماً ، وهي الشبهات المحكيّة عنهم في القرآن ، كقولهم : { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر } [ الجاثية : 24 ] وقولهم : { لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 184 ] وقولهم : { مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً }
[ الكهف : 36 ] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء ، كما قال { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] و [ الروم : 32 ] وقيل : المراد علوم الفلاسفة فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغَّروا علوم الأنبياء عن علومهم كما روي عن سقراط أن سمع بمجيء أحد الأنبياء علهيم الصلاة والسلام فقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهتدون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا . وقيل : المراد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كقوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ } [ الروم : 7 ] { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم } [ النجم : 30 ] فلما جاءت الرسل بعلوم الديانات ومعرفة الله تعالى ، ومعرفة المعاد وتطهير النفس من الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزأوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفائدة من علمهم ففرحوا به .
وإن عاد الضمير إلى الأنبياء ففيه وجهان :
الأول : أن يفرح الرُّسُلُ إِذَا رَأوا من قومهم جهلاً كاملاً وإعراضاً عن الحقِّ وعلموا سوء غَفْلَتِهِمْ وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم يفرحوا بما أوتوا من العلم ، ويشركوا الله عليه « وَحَاقَ » بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم .
الثاني : أن المراد أن الرسل فرحوا بما عندهم من العلم فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاء .
قوله : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أي عذابنا { قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } أي تبرأنا مما كنا نعدل بالله ، البأسُ : شدة العذاب ، ومنه قوله تعالى : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] . قوله : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ } يجوز رفع « إيمانهم » اسماً لكان ، و « ويَنْفَعُهُمْ » جملة خبراً مقدماً ، ويجوز أن يرتفع بأنهن فاعل ينفعهم ، وفي كان ضمير الشأن .
وقد تقدم هذا محققاً في قوله : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] وأنه ليس من باب التنازع . ودخل حرف النفي على الكون لا على النفي؛ لأنه بمعنى لا يصح ولا ينبغي ، كقوله تعالى : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] .
واعلم أن المراد بالوقت الذي لا ينفع الإيمان فيه هو وقت مُعَاينَة نزول ملائكة الرحمة وملائكة العذاب لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان فذلك الإيمان لاَ يَنْفَعُ .
قوله : { سُنَّةَ الله } يجوز انتصابها على المصدر المؤكد لمضمون الجملة يعني إن الذي فعل الله بهم سنة سابقة من الله ، ويجوز انتصابها على التحذير ، أي احذَرُوا سنة الله في المكذبين { التي قد خلت في عباده } ، وتلك السنة أنهم إذا عاينوا العذاب آمنوا ولا ينفعهم إيمانهم { هُنَالِكَ الكافرون } « هُنَالِكَ » في الأصل مكان . قيل : واستعير هنا للزمان ، ولا حاجة فالمكانيةُ فيه ظاهرة ، أي وخسر هُنَالِكَ الكافرون بذهاب الدارين .
قال الزَّجَّاجُ : « الكافر خاسر في كل وقت ، وإنما يُبَيِّنُ لهم خسرانهم إذا رأوا العَذَاب » .
فصل
قال بن سيرين : رأى رجل في المنام سَبْعَ جوارٍ حِسَانٍ في مكان واحد لم ير أحْسَنَ منْهُنَّ فقال لهُنَّ : لِمَنْ أنتُنَّ؟ فقُلْنَ : لِمَنْ قَرَأَ آلَ حمَ .
( اللَّهم وفِّقنا لكتابك ) ( والله سبحانه وتعالى أعلم ) .
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
قوله تعالى : { حم تنزيل من الرحن الرحيم } يجو أن يكون « تنزيل » خبر « حم » على القول بانها اسم السورة ، . ويجوز أن يكون تنزيل خبر ابتداء مضمر ، أي هذا تنزيل .
وقال الأخفش : تنزيل رفعت بالابتداء و « كتاب » خبره .
قوله : « كتاب » قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً لِتَنْزِيلُ ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون بدلاً من تنزيل ، وأن يكون فاعلاً بالمصدر ، وهو تنزيل أي نزل الكتاب ، قاله أبو البقاء . و { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } صفة « لِكتَابٍ » .
قوله : « قرآناً » في نصبة ستةُ أوجه :
أحدها : هو حال بنفسه . و « عَرَبِيًّا » صفته ، أو حال مُوطِّئَة ، والحال في الحقيقة « عربياً » وهي حال غير متنقلة وصاحب الحال إما كتاب لوصفه بفصلت ، وما « آياته » ، أو منصوب على المصدر ، أي يقرأه قرآناً أو على الاختصاص والمدح ، أو مفعول ثانٍ « لفصلت » ، أو منصوب بتقدير فعل ، أي فصَّلْنَاهُ قُرْآناً .
قوله : « لِقَومٍ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق « بفصلت » أي فصلتُ لهؤلاءِ وبينتُ لهم؛ لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت مفصلة في نفسها لجميع الناس .
الثاني : أن يتعلق بتنزيل . وهذا إذا لم تجعل « مِنَ الرَّحْمنِ » صفة له؛ لأنك إن جعلت « من الرحمن » صفة له ، فقد أعلمت المصدر الموصوف وإذا لم يكن « كتاب » خبراً عنه ، ولا بدلاً منه؛ لئلا يلزم الإخبار عن الموصول أو المبدل منه قبل تمام صلته ، ومن يتسع في الظرف وعديله لم يبال بشيءٍ .
وأما إذا جعلت « من الرحمن » متعلقاً به و « كتاب » فاعلاً به فلا يَضُرُّ ذلك؛ لأنه من تتماته وليس بأجنبي .
فصل
اعلم أنه تعالى حكم على هذه السورة بأشياء :
أولها : كونها تنزيلاً ، والمراد المنزل ، والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور ، كقوله : هذا بناء الأمير أي مبنيّه ، وهذا الدِّرهم ضربُ السُّلطان ( أي مضروبه ) ومعنى كونه منزلاً : أن الله كتبها في اللوح المحفوظ ، وأمر جبريل ، عليه ( الصلاة ) والسلام أن يحفظ الكلمات ثم ينزل بها على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويُؤَدِّيها إليه ، فلما حصل تفهيمُ هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل عليه ( الصلاة ) والسلام سمي بذلك تنزيلاً .
وثانيها : كون ذلك التنزيل من الرحن الرحيم ، وذلك يدل على أن ذلك التنزيل نعمةٌ عظيمة من الله تعالى ، لأن الفعل المقرون بالصفة لا بد وأن يكون مناسباً لتلك الصفة ، فكونه تعالى رحمن رحيماً صفتان دالتان على كما الرحمة ، فالتنزيلُ المضاف إلى هاتين الصفتين لا بدَّ وأن يكون دالاً على أعظم وجوه الرحمة والنعمة والأمر كذلك؛ لأن الخَلْقَ في هذا العالم كالمرضى والمُحتاجين ، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية ، وعلى ما يحتاج إليه الأحصاء من الأغذية ، فكان أعظم النعم من الله تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليهم .
وثالثها : كونه كتاباً ، وتقدم أن هذا الاسم مشتق من الكَتْبِ وهو الجمع ، فسمي كتاباً لأنه جمع فيه عِلْمَ الأولين والآخرين .
ورابعها : قوله فصلت آياته ، أي ميزت وجعلت تفاصيل في معانٍ مختلفةٍ فبعضها وصف ذات الله ، وصفاتِ التنزيه والتقديس وشرح كمال عمله وقدرته ورحمته وعجائب أصول خلقه من السموات والكواكب وتعاقب الليل والنهار ، وعجائب أحوال النبات والحيوان وبعضها في المواعظ والنصائح ، وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس ، وبعضها في قَصَص الأنبياء وتواريخ الماضين ، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمختلفة مثل ما في القرآن .
وخامسها : قوله : قرآناً وقد سبق توجيه هذا الاسم .
وسادسها : قوله عربياً أي إنما نزل بلغة العرب ، ويؤكده قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [ إبراهيم : 5 ] .
وسابعها : قوله « لقوم يعلمون » أي جعلناه قرآناً لأَجْلِ أنا أنزلناه على قوم عربٍ بلغتهم ليفهموا منه المراد .
وثامنها وتاسعها : قوله « بشيراً نذيرا » يجوز أن يكونا نعتين لقرآناً ، وأن يكونا حالين؛ إما من كتاب وإما من آياته ، وإما من الضمير المنوي في قرآناً . وقرأ زيد بن علي برفعهما على النعت لكتاب ، أو على خبر ابتداء مضمر ، أي هو بشير ونذير ، ومعناه بشيراً للمطيعين بالثواب ونذيراً للمجرمين بالعقاب .
قال ابن الخطيب : والحق أن القرآن بشارة ونِذَارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملاً في هذه الصفة كما يقال : شعر شاعر وكلام قائل .
عاشرها : كونهم معرضين عنه لا يسمعونه ولا يتلفتون إليه ، فهذه الصفات العشرة التي وصف الله تعالى القرآن بها .
فصل
احتج القائلون بخلق القرآن بهذه الآية من وجوه :
الأول : أنه وصف القرآن بكونه مُنَزَّلاً وتَنْزِيلاً ، والمنزَّلُ والتنزيلُ مشعر بالتغيير من حال إلى حال فوجب أن يكونَ مخلوقاً .
الثاني : أن التنزيل مصدر ، والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين .
الثالث : أن المراد بالكتابة إما الكتابة ، وهي المصدر الذي هو المفعول المطلق وإما المكتوب الذي هو المفعول .
الرابع : أن قوله : « فصلت آياته » ( بدل ) على أن متصرفاً يتصرف فيه بالتفصيل وذلك لا يليق بالقديم .
الخامس : أنه إنما سمي قرآناً ، لأنه قُرِنَ بعض أجزائه ببعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل .
السادس : وصفه بكونه « عربياً » ، وإنما صحت هذه النسبة لأن هذه الألفاظ إنما دلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب ، واصطلاحاتهم ، وما حصل بِجَعْلِ جاعل وفِعْلِ فاعل فلا بد وأن يكون مُحْدَثاً ومَخْلُوقاً .
والجواب : أ ، كل هذه الوجوه المذكورة عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي حادثة .
فصل
ذهب قومٌ إلى أن القرآن من سائر اللغات كالإستبرق والسِّجيل فإنهما فارسيان والمِشْكَاة فإنها حبشية ، والقِسْطَاسِ ، فإنه من لغة الروم ، وهذا فاسد لقوله تعالى : « قرآناً عَرَبياً » ، وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [ إبراهيم : 5 ] .
فصل
قالت المعتزلة : الإيمان والكفارة والصلاة والزكاة والصوم والحج ، ألفاظ شرعية لا لغوية بمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مُسمَّياتها اللُّغويَّة الأصلية إلى مسميات أخرى . وهذا باطل ، وليس للشرع تصرفٌ في هذه الألفاظ إلا من وجهٍ واحد ، وهو أنه خَصَّص هذه الأسماء بنوعٍ معيَّنٍ من أنواع مسمَّيَاتها ، كما أن الإيمان عبارةٌ عن التصديق والصلاة عبارة عن الدعاء ، فخصَّصه الشرع بنوع معين من الدّعاء ، وكذا القول في البواقي .
فصل
تمسك القائلون بأن أفعال الله تعالى معلَّلةٌ بالمصالح والحكمة بهذه الآية فقالوا : إنها تدل على أنه إنما جعله قرآناً عربياً لأجل أن يعلموا المراد منه ، فدل على أنَّ تعليل أفعالِ الله وأحكامه جائز .
فصل
قال قوم : القرآن كله معلوم لقوله تعالى : قرآناً عربياً لقوم يعلمون يعني إنما جعلناه عربياً ليصير معلوماً والقول بأنه غير معلوم يقدح فيه .
قوله : { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } لا يصغُّون تكبراً . وهذه الآية تدل على أنه لا مُهْتَدِي إلا من هَدَاه الله ، ولا مُضِلَّ إلا من أضله الله . ولما وصف الله تعالى القرآن بأنهم أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه بين أنهمه صرحوا بهذه النفرة ، وذكروا ثلاثة أشياء :
أحدها : قوله : « فِي أَكِنَّةٍ » ، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : هلا قيل : على قلوبنا أكنة ، كما قيل : وفي آذَانِنَا وقر ليكون الكلام على نمطٍ واحد؟ قلت : هو على نمط واحد؛ لأنه لا فرق في المعنى بين قولك : قلوبنا في أكنة ، وعلى قلوبنا أكنة ، والدليل عليه قوله تعالى : ( إنَّا ) جعلنا على قُلُوبِهِم ، ولو قيل : جعلنا قلوبهم في أكنةٍ لم يختلف المعنى ، وترى المطابيع منه لا يرون الطباق ( والملاحظة ) إلا في المعاني .
قال أبو حيان : و « في » هنا أبلغ من على ، لأنهم قصدوا الإفراط في عدم القبول بحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف ، فلا يمكن أن يصل إليها شيء كما تقول : المالُ في الكيسِ بخلاف قولك : المالُ على الكيس ، فإنه لا يدل على الحَصر ، وعدم الوصول دلالة الوعاء ، وأما « وجعلنا » فهو من إخبار الله تعالى فلا يحتاج إلى مبالغة .
وتقدم تفسير الأكنة والوقر .
وقرأ طلحة بن مصرف وِقْر بكسر الواو وتقدَّم الفرق بينهما .
قوله : « مِمَّا تَدْعُونَا » من في « مِمَّا » وفي « ومِنْ بَيْننا » لابتداء الغاية والمعنى أن الحِجاب ابتداء منا وابتداء منك فالمسافة المتوسطة جهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها ، فلو لم تأتٍ « مِنْ » لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين .
والمقصود المبالغة بالتبايُن المُفرِط ، فلذلك جيء بِمِنْ قاله الزمخشري . وقال أبو البقاء : هو محصول على المعنى؛ لأن المعنى في أكنة محجوبةٍ عن سماع ما تدعُونا إليه . ولا يجوز أن يكون نعتاً لأَكنَّةٍ؛ لأن الأكنة الأغشية ، وليس الأغشية مما تدعونا إليه .
فصل
وقالوا : يعنى المشركين قلوبنا في أكنة أغطية ، والأكنة جمع كنان ، كأغطية جمع غطاء ، والكِنان هو الذي جعل فيه السهام ، والمعنى لا نفقهُ ما تقول ، وفي آذاننا وقر أي صممٌ فلا نسمعُ ما تقول ، والمعنى : إنا في ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع ومن بيننا وبينك حجاب ، خِلاف في الدين ، فلا نوافقك على ما تقول فاعمل أنت على دينك إنّا عاملون على ديننا .
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ } قرأ ابنُ وثابٍ والأعمش : « قَالَ » فعلاً ماضياً خبراً عن الرسول . والرسم يحتملهُما . وقد تقدم مثل هذا في الأنبياء وآخر المؤمنين . وقرأ الأعمشُ والنَّخعيُّ يوحي بكسر الحاء؟؛ أي الله تعالى ، والمعنى إنَّما أنا بشر مثلكم أي كواحد منكم لولا الوحيُ ما دعوتكم { أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ } قال الحسن رضي الله عنه عَلَّمَهُ الله التواضع .
قوله : { فاستقيموا إِلَيْهِ } عُدِّي بإلى؛ لتضمنه معنى توجَّهُوا والمعنى وجِّهُوا استقامتكم إليه بالطاعنة ولا تَمِيلوا عن سبيله « واستغفروه » من ذنوبكم .
قوله : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة } قال ابن عباس رضي الله عنهما : الذي لا يقولون لا إله إلا الله ، وهي زكاة الأنفس . والمعنى لا يُطَهِّرون أنفسهم من الشِّرك بالتوحيد ، وهو مأخوذ من قوله : « وَنَفٍْ ومَا زَكَّاهَا » . وقال الحسن وقتادة : لا يقرِّون بالزكاة ولا يرون إيتاءَها واجباً . وكان يقال : الزكاة قَنْطَرَةُ الإسلام ، فمن قطعها نجا ، ومن تخلف عنها هلك . وقال الضحاك ومقاتل : لا يُنفِقُون في الطاعة ولا يتصدقون ، وقال مجاهد : لا يزكون أعمالهم { وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ } .
فصل
احتج من قال : إن الكفار مخاطبُون بفروع الإسلام بهذه الآية ، فقالوا : إنه تعالى توعدهم بأمرين :
أحدهما : كونهم مشركين .
والثاني : لا يؤتون الزكاة ، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين تأثير عظيم في حق وصول الوعيد ، وذلك يدل على أن لعدم ايتاء الزكاة من المشرك تأثير عظيم في زيادة الوعيد وهو المطلوب .
فصل
احتج بعضهم على أن مانع الزكاة كافر بهذه الآية فقال : إن الله تعالى لما ذكر هذه الصفة ذكر قبلها ما يوجب الكفر وهو قوله : « وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ » وذكر بعدها ما يوجب الكفر وهو قوله : { وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ } فلو لم يكن منع الزكاة كفراً لكان ذكره فيما بين الصفتين الموجبتين للكفر قبيحاً؛ لأن الكلام إنما يكون فصيحاً إذا كانت المناسبة مرعيةً بين أجزائه ، ثم أكدوا ذلك بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حكم بكفر مانعي الزكاة . قال ابن الخطيب : والجواب أنه ثبت بالدليل أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، وهما حاصلان عند عدم إيتاء الزكاة ، فلم يلزم حُصُول الكفر بسبب عدم إيتاء الزكاة والله أعلم .
قوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } قال ابن عباس رضي الله عنهما غير مقطوع ، من قولك : مننتُ الحبلَ أي قطعتُهُ ، ومنه قولهم : « قَد مَنَّهُ السَّفرَ » أي قطعه وأنشدوا :
4352 فَضْلَ الجَوَادِ على الخَيْلِ البِطَاءِ فَلاَ ... يُعْطِي بذلك مَمْنُوناً وَلاَ نَزِقَا
وقال مقاتل : غير منقوص ، ومنه المنون لأنه ينقص منة الإنسان وقوته ، وأنشدوا لذي الإصبع العُدواني :
4353 إنِّي لَعَمْرُكَ مَا بَابِي بِذِي غَلَقٍ ... على الصَّدِيقِ ولا خَيرِي بِمَمْنُونِ
وقيل : غير ممنون به عليهم؛ لأن عطاء الله لا يُمَنُّ به إنما يَمُنُّ المخلوق . وقال مجاهد : غير محسوب وقال السُّدِّيّ : نزلت هذه الآية في المَرْضَى والزَّمنى والهَزْمَى إذا عجزوا عن الطاعة يكتبه لهم الأجرُ كأصح ما كانوا يعلمون فيه .
روي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مَرِضَ ، قيل للملك الموكل به : اكتُبْ له مثل علمه إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو أكفته إليَّ » .
قوله تعالى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } الآية قرأ ابنُ كثير أينكم لتكفرون بهمزة وبعدها ياء محققة ساكنة بلا مد والباقون ممدوداً مشدد النون . وهو استفهام بمعنى الإنكار ، أي كيف تكفرون بالله ، وكيف يجوز جعل هذه الأنداد الخسيسة أنداداً لله مع أنه تعالى خلق الأرض في يومين ، وهما يوم الأحد ويوم الاثنين ، وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين ، فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة كيف يعقل الكفر به ، وإنكار قدرته على الحَشْر والنَّشر؟
فإن قيل : مَن استدل بشيء على إثبات شيء فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلماً عند الخصم حتى يصح الاستدلال به ، وكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض إنا يمكن إثباته بالسمع ووحي الأنبياء والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوة ، فلا يعقل تقرير المقدمة عليهم ، وإذا امتنع تقريرها عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم .
فالجواب : إثبات كون السموات والأرض مخلوقةً بالعقل مُمكنٌ ، وإذا أمكن ذلك أمن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم . وحنيئذ يقال : الكافر كيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القادرة وبين الصَّنم الذي هوة جمادٌ لا يضرُّ ولا ينفع في المعبودية والإلهية؟ بقي أن يقال : فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أثر . قال ابن الخطيب : بل له أثر في هذا الباب ، وذلك أن التورية مشتملة على هذا المعنى ، فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب فكفار مكة كانوا يتعقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم ، والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني فاعتقدوا كونها حقاً ، وإذا كان الأمر كذلك حَسن أن يقال لهم : إن الإله الموصوفَ بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة اللطيفة كيف يليق بالعقل جع الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكاً له في المعبودية والإليهة؟! فبهذا التقدير حسن الاستدلال .
قوله : « وَتَجْعَلُونَ لَهُ » عطف على « لَتَكْفُرُونَ » فهو داخل في حيز الاستفهام وقوله : { ذَلِكَ رَبُّ العالمين } أي ذلك الموجود الذي علمتَ من صفته وقدرته أن خلق الأرض في يومين ( هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم فكيف أثبتهم له أنداداً من الخشب والحجر؟ ثمإنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقاً للأرض في يومين ) ثم أخبر أنه أتى بثلاثة أنواعٍ من الصُّنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك ، فالأول قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } وهذا مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الموصول ، للفصل بينهما بأجنبي ، وهو قوله : « وَتَجْعَلُونَ » فإنه معطوف على قوله : « لتكفرون » كما تقدم .
والمراد بالرواسي الجبال .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله : « من فوقها » ولم يقتصر على قوله { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } كما اقتصر على قوله { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } [ المرسلات : 27 ] وقوله { وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ } [ الأنبياء : 31 ] وقوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ } [ الرعد : 3 ] .
فالجواب : أ ، ه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التَّحتانيَّة هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول ، ولكنه تعالى قال : خُلِقَتْ هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أنَّ الأرض والجبال أثقالٌ وكلها مفتقرة إلى مُمْسِكٍ وحافظٍ وما ذاك الحافظ المدبِّر إلا الله سبحانه وتعالى .
النوع الثاني : قوله « وَبَارَكَ فِيهَا » أي في الأرض بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد شقَّ الأنهار ، وخلق الجبال خلق الأشجار والنار ، وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار ، وخلق أصناف الحيوانات ، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات .
النوع الثالث : قوله { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } قيل : المعنى وقدر فيها أقوات أهلِها ومعايشهم ما يصلحهم وقال محمد بن كعب : قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان . وقال مجاهد : وقدر فيها أقواتها من المطر . وعلى هذا فالأقوات للأرض لا للسكان ، والمعنى أن الله عزَّ وجلَّ قدر لكل أرض حظَّها من المطر . وقيل المراد من إضافة القُوت إلى الأرض كونها متولدة في تلك الأرض وحادثة فيها؛ لأن النحاة قالوا في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة ، وإلى محله أخرى ، فقوله « وقدر فيها أقواتها » أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها ، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة بمعنى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في ذلك البلد وبالعكس فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال .
قوله : { في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } تقديره : في تَمَام أَرْبَعَةِ أيام باليَوْمَيْنِ المقتدمين . قال الزجاج : في تتمَّة أربعة أيام ، يريد بالتتمة اليومين . وقال الزمخشري : في أربعة أيام فلذلك المدة خلق الله الأرض وما فيها كأنه قال : كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستويةً بلا زيادة ولا نُقصانٍ .
قال شهاب الدين : وهذا كقولك : بَنَيْتُ بيتي في يوم وأكملته في يومين أي بالأول . وقال أبو البقاء : أي في تمام أربعة أيام ، ولولا هذا التقدير لكانت الأثام ثمانيةً يومان في الأول ، وهو قوله : { خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } ويومانِ في الآخر وهو قوله { سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } وأربعةُ في الوَسَطِ وهو قوله { في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } .
فإن قيل : إنه تعالى لما ذكر خلق الأرض في يومين ، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعدَ عن الشُّبهة وعن الغلط فَلِمَ تَرَك التصريح وذكر الكلام المجمل؟
فالجواب : أن قوله « في أربعة أيام سواء » فيه فائدة زائدة على ما إذا قال : خلقت هذه الثلاثة في يومين؛ لأنه لو قال : خلقت هذه الأشياء في يومين لم يُفِدْ هذا الكلام كون اليومين مُستغرقين بتلك الأعمال؛ لأنه قد يقال : عملتُ هذا العمل في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل ، أمَّا لما ذكر خلق الأرض ، ونخلق هذه الأشياء ثم قال : في أربعة أيام سواء دلَّ على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقةً في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نُقصانٍ .
قوله : « سواء » العامة عل النصب ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر ، أي استوت قاله مكي وأبو البقاء .
الثاني : أنه حال من « ها » في أقواتها ، أو من « ها » في « فيها » العائدة على الأرض أو من الأرض قاله أبو البقاء وفيه نظر لأن المعنى إنما هو وصف الأيام بأنها سواء ، لا وصف الأرض بذلك وعلى هذا جاء التفسير .
ويدل على ذلك قراءة سَواءٍ بالجر صفة للمضاف ، أو المضاف إليه ، وقال قتادةُ والسُّدي سواء معناها سواء لمن سِأل عن الأمر ، واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة فيه فإنه يجده كما قال تعالى . إلا أن ابن زيد وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي ذكره أبو البقاء فإنهم قالوا معناه مستوٍ مهيَّأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبر بالسائلين عن الظالبين . وقرأ زيدُ بنُ علي والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وعيسى ويعقوبُ وعمرُو بن عُبيدٍ : سَواءٍ بالخفض على ما تقدم . وأبو جعفر بالرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنه على خبر ابتداء مضمر ، أي هي سواء ، لا يزيدُ ولا يَنقُصُ ، وقال مكِّي : هو مرفوع بالابتداء وخبره للسائلين؛ وفيه نظر ، من حيث الابتداء بنكرة من غير مُسوَّغ . ثم قال : بمعنى مستويات لمن سأل فقال : في كَمْ خلقت؟ وقيل : للسائلين لجميع السائلين لأنهم يسألون الرزق وغيره من عند الله تعالى .
قوله « للسائلين » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلق بسَوَاء بمعنى مستويات للسائلين .
الثاني : أنه متعلق بقدَّر ، أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين .
الثالث : أن يتعلق بمحذوف ، كأنه قيل : هذا الحصر لأجل من سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها؟ .
قوله ( تعالى ) : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ } أي عمد إلى خلق السماء . وقال ابن الخطيب : من قولهم : استوى إلى مكان كذا إذا توجَّه إليه توجُّهاً لا يلتفتُ معه إلى عمل آخر وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج . ونظيره قولهم : استقام إليه وامتدَّ إليه ، قال تعالى : { استقيموا إِلَيْهِ } [ فصلت : 6 ] والمعنى : ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السموات بعد خلق الأرض ما فيها من صارفٍ يصرفُهُ عن ذلك . والدُّخان : هو ما ارتفع عن لهب النار . ويستعار لما يرى من بُخار الأرض عند جدبها وقياس جمعة في القلة أَدْخِنَةٌ وفي الكثرة دُخْيَان ، نحو : غُرابٍ وأغربة وغِرْبَانٍ وشذوا في جمعه على : دَوَاخِن ، قيل : هو جمع داخِنةٍ تقديراً على سبيل الإسناد المجازيّ ، ومثله عثانٌ وعواثِن .
وقوله : و « هِيَ » دُخَان « من باب التشبيه الصُّوري؛ لأن صورتها صورة الدُّخانِ في رأي العين .
فصل
قال المفسريون : هذا الدخان بُخار الماء وذلك أن عرش الرحمن كان على الماء قبل خقل السموات والأرض ، كما قال تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } [ هود : 7 ] .
ثم إن الله تعالى أحدث في ذلك الماء اضطراباً فأزْبَدَ وارتفع ، وخرج منه دُخانٌ فأما الزَّبدُ فبقي على وجه الماء فخلق منه اليبوسة وأحدثَ منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السَّموات .
فإن قيل : قوله تعالى { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } يُشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض ، وقوله تعالى { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] يشعر بأن تخليص الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض!
فالجواب : المشهور أن يقال : إنه تعالى خلق الأرض أولاً ، ثم خَلَقَ بعنده السماء ، ثم بعد أن خَلَقَ السماء دحى الأرض ، وبهذه الطريق يزول التناقض . قال ابن الخطيب : وهذا الجواب عندي مُشكِلٌ من وجوه :
الأول : أنه تعالى خَلَقَ الأرض في يومين ، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ، وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود ، إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة ثم إنه تعالى قال بعد ذلك : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض ، وبعد أن جعلها مدحُوَّةً وحينئذ يعود السؤال .
الثاني : أنه ورد أنَّ الدلائل الهندسية دلَّت على أن الأرض كرةٌ في أول حدوثها إن قلنا : إنها كرة ، والآن بقيتْ كرة أيضاً فهي منذ خقلت كأنها مدحُوَّةٌ ، وإن قلنا : إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال : إنها كانت مدحُوَّةً قبل ذلك ، ثم أزيل عنها هذه الصفة وذلك باطل .
الثالث : أن الأرض جسمٌ في غاية العِظم والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوَّا ، فالقول بأنها كانت غير مدحوةٍ ثم صارت مدحوة قولٌ باطل .
والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت من موضع الصّخرة ببيت المقدس فهو كلام مشكل لأنه إذا كان المراد أنها على عظمها خلقت من ذلك الموضع ثم خلق بقيةُ أجزائها ، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولاً فهذا يكون اعترافاً بأن تخليق الأرض وقع متأخراً عن تخليق السماء .
الرابع : أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين ، وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام ، فإذا حصل دَحْوُ الأرض بعد ذلك فقد حصل هذال الدحو في زمانٍ آخر بعد الأيام الستة فحينئذ يقع تخليق السموات والأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل .
الخامس : أنه لا نزاع في أن قوله تعالى بعد هذه الآية : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } كناية عن إيجاد السموات والأرض ، فلو تقدم إيجاد السمات لكان قوله تعالى : { ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } يقتضي إيجاد الموجودات انه محال باطل . هذا تمام البحث عن هذا المبحث .
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق السماء قبل الأرض ، وتأول قوله : { ثمَّ استوى إلى السماء } ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دُخان قبل أن يخلق الأرض ، فأضمر فيه كما قال تعالى : { قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 77 ] معناه إن يكن سرق ، وقال تعالى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا } [ الأعراف : 4 ] ( والمعنى ) فكان قد جاءها ، هذا ما نقله الواحدي قال ابن الخطيب وهذا عندي ضعيف ، لأن تقدير الكلام ثُمَّ كان قد استوى إلى السماء . هذا جمعين الضدين لأن كلمة « ثُمَّ » تقتضي التأخير ، وكلمة « كان » تقتضي التقديم ، والجمع بينهما يفيد التناقض ، وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه . والمختار عندي إن يُقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض ، وتأويل الآية أن يقال : الخلق ليس عبارةً عن التكموين والإيجاد ، والدليل عليه قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] فلو كان الخلق عبارةً عن الإيجاد والتكوين لصار تقدير الآية أوجدضهُ من تراب ، ثم قال له كن فيكون وهذا محال فثبت أن الخلق ليس عبارةً عن الإيجاد والتكوين ، بل هو عبارة عن التقدير ، والتقدير في حق الله هو كلمته بأن سيُوجدُهُ . وإذال ثبت هذا فنقول قوله : خلق الأرض في يومين معناه أنه قضى بحدوثِهِ في يومين ، وقضاء الله أنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال فَقَضَاءُ الله بحُدُوثِ الأرض في يومين قد تقدم على إحداثِ السَّماء وحينئذ يزول السؤال .
قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } . وقرأ العامة « ائتيا » أمراً من الإتيان « قَالَتَا أَتَيْنَا » منه أيضاً . وقرأ ابن عباس وابن جبيرٍ ومجاهدٌ « آتِيا » قَالَتَا آتينا بالمد فيهما وفيه وجهان :
أحدهما : من المؤاتاة وهي المُوافقة ، أي ليوافق كل منكما الأخرى لما يليق بها .
وإليه ذهب الرازي والزَّمخشريُّ ، فوزن « آتِيَا » فاعلا ، كقاتِلا ، و « آتيْنَا » وزنه فاعلنا كقاتلنا .
والثاني : أنه من الإيتاء بمعنى الإعطاء ، فوزن « آتِيَا » أفْعِلاَ كأكرما ، ووزن « آتينا » أَفْعَلْنَا كأَكْرَمْنَا . فعلى الأول يكون قد حذف مفعولاً ، وعلى الثاني قد حذف معفولين؛ إذ التقدير أعطيا الطاعة من أنفسكما مَنْ أمركما ، قالتا أَعطيناهُ الطاعة . وقد منع أبو الفضل الرازي الوجه الثاني فقال : آتينا بالمَدِّ على فاعلنا من المؤاتاة بمعنى سارعنا ، على حذف المعفول به ، ولا يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوليه .
قال شهاب الدين : وهذا هو الذي منع الزمخشري أن يجعله من الإتياء . قوله : { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } مصدران في موضع الحال ، أي طائعتين أو مُكْرهتين .
وقرأ الأعمش « كُرْهاً » بالضم ، وتقدم الكلام على ذلك في النساء . وقله : « قَالَتَا : أي قالت السماءُ والأرض ، وقال ابن عطية : ( رحمة الله عليه ) أراد الفرقتين المذكورتين ، جعل السموات سماءً والأرضين أرضاً كقوله :
4354 أَلَمْ يحْزُنْكَ أَنَّ حِبَالَ قَوْمِي ... وَقَوْمِكَ قَدْ تَبَاينتا انقِطَاعاَ
عبر عنهما » بتَبَايَنَتَا « . قال أبو حيان وليس كما ذكر لأنه لم يتقدم إلا ذكر الأرض مفردة والسماء مفردة فلذلك حسن التعبير بالتثنية .
وأما البيت فكأنه قال : حَبْلَي قَوْمِي وَقَوْمِكَ ، وأنث في تَبَايَنَتَا على المعنى؛ لأنه عنى بالحبال المودة . قوله : » طَائِعِينَ « في مجيئه مجيء جمع المذكورين العقلاء وجهان :
أحدهما : أن المراد يأتينا من فيهما من العقلاء وغيرهم ، فلذلك غلَّب العقلاء على غيرهم ، وهو رأي الكسائيِّ .
والثاني : أنه لما عاملهم معاملة العقلاء في الإخبار عنهما ، والأمر لهما جمعهما كجمعهم ، كقوله : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] وهل هذه المحاورة حقيقة أو مجازاً وإذا كانت مجازاً فهل هو تمثيلٌ أو تخييلٌ؟ . خلاف .
فصل
ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإيمان فأطاعُوهُ وهذا ليس بمستبعد كما أن الله تعالى أنطقَ الجبالَ مع داود عليه الصلاة والسلام فقال : { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير } [ سبأ : 10 ] وأنطق الأيدي والأرجل ، فقال : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] وقوله : { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ] ٍ وإذا كان كذلك فكيف يستبعدُ أن يخلقَ الله تعالى في ذات السموات والأرض حياةً وعقلاً ثم يوجه التكليف عليهما؟ ويؤكد هذا وجوه :
الأول : أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره ، إلا إن منع منه مانع ، فههنا لا مانع .
الثاني : أنه تعالى جمعهما جمع العقلاء فقال : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } .
الثالث : قوله : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } [ الأحزاب : 72 ] وهذا يدل على كونها عارفة بالله ، عالمة بتوجه تكليف الله تعالى .
وأجاب ابن الخطيب عن هذا القول : بأن المراد من قوله { 1649;ئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } الإثبات الى الوجود والحدوث والحصول ، فعلى هذا التقدير فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة ، إذ لو كانت موجودةً فذلك لا يجوز ، فثبت أن حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة ، وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة ، ولا عارفة للخطاب ، فلم يَجُزْ توجُّه الأمر عليها .
فصل
روى مجاهدٌ وطاوس عن ابن عباس أنه قال : قال الله للسموات والأرض أخرجا ما فيكما من المنافع ومصالح العباد ، أما أنتِ يا سماءُ فأطعلي شَمْسَكِ وقَمَركِ ونُجُومكِ ، وأنت يا أرض فشقَّقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتكِ ، وقال لهما : افعلا ما آمركما طوعاً ، وإلا ألجأتكما إلى ذلك ( حتى ) تفعلا فنقول : فعلى هذا التقدير لا يكون المراد من قوله : أتينا طائعين حدوثهما في ذاتهما ، بل يصيرُ المراد من هذا الأمر أن يظهرا ما كان مودعاً فيهما ، وهذا باطل؛ لأنه تعالى قال : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } وذلك يدعل على حُدُوثَ السماء إنما حصل بعد قوله : { 1649;ئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } .
فصل
اعلم أن المقصود من هذا الكلام إظهار كمال القدرة ، والتقدير ائتيا ذلك أو أَبَيْتُما كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شِئْتَ أو أبيتَ ، ولَتَفْعَلُنَّهُ طَوْعاً أو كَرهاً .
وقيل : إنَّهُ تعالى ذكر السماء والأرض ، ثم ذكر الطوع والكره فوجب أن ينصرف الطوعُ إلى السماء والكرهُ إلى الأرض ، وتخصص السماء بالطوع لوجوه :
أحدهما : أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف تُشْبِهُ حيواناً مطعياً لله عزَّ وجلَّ بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال ، تارة تكون ساكنةً ، وتارة تضطربُ .
وثانيها : أن الموجود في السماء ليس إلا الطاعة ، قال تعالى : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] وأما أهل الأرض فليس كذلك .
وثالثها : أن السماء موصوفة بكمال الحال ، وقيل : إنها أفضل الألوان وشكلها أفضل الأشكال وهو المستدير ومكانها أفضل الأمكنة ، وهو العُلُوُّ ، وسُكَّانُها أفضل الأجرام ، وهي الكواكب المنيرة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة ، واختلاف الأحوال وتغيير الذات والصفات فلا جرم عبَّر عن تكوين السماء بالطَّوْعِ وعن تكوين الأرض وبالكره .
قوله تعالى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } ف ينصب « سَبْعَ » أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه مفعول ثانٍ « لقَضَاهُنَّ » ؛ لأنه ضمّن معنى صيَّرهُنَّ بقضائه سبع سموات .
الثاني : أنه منصوب على الحال من مفعول « فقضاهن » أي قضاهن معدودةً ، وقضى بمعنى « صَنَعَ » كقول أبي ذؤيب :
4355 وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
أي صنعها .
الثالث : أنه تمييز؛ قال الزمخشري : ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً مفسَّراً بسبع سمواتٍ على التمييز يعني بقوله « مبهماً » ، أنه لا يعود على السماء ، لامن حيث اللفظ ، ولا من حيث المعنى بخلاف كونه حالاً أو مفعولاً ثانياً .
الرابع : أنه بدل من « هُنَّ » في « فَقََاهُنَّ » قاله مكي ، وقال أيضاً : السماء ، تذكَّر وتؤَنَّثُ ، وعلى التأنيث جاء القرآن ، ولو جاء على التذكير لقيل : سَبْعَةَ سمواتٍ . وقد تقدم تحقيق تذكيره وتأنيثه في أوائل البقرة .
فصل
قال أهل الأثر : إن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد والإثنين ، وخلق سائر ما في الأرض يوم الثلاثاء والأربعاء وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعةٍ من يوم الجُمُعةِ فخلق بها آدم ، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة .
فإن : قيل : اليوم عبادرة عن النهار والليل ، وذلك إنما يحصل بطُلُوعِ الشَّمس وغروبها ، وقبل حدوث السموات والشمس والقمر كيف يعقل حصوم اليوم؟
فالجواب : معناه أنه مضى من المدة ما لو حصل هناك فلكٌ وشمس لكان المقدار مُقدَّراً بيوم . وقضاء الشيء إتمامه والفرغ منه .
قوله : { وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } . قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما : خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار ، وجبال البرد ، وما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وقال قتادة والسُّدِّيُّ : يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها . وقال مقاتل : وأوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي ، وذلك يوم الخميس والجمعة ، قال السدي : ولله في كل سماء بيت يُحَجُّ إليه ويطوف به الملائكة ، كل واحد منها مقابل للكعبة بحيث لو موقعت منه حصاةٌ لوقعت على الكعبة .
قوله : { وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ } وهي النيران التي خقلها في السموات ، وخص كل واحد بضوء معين ، وسرٍّ معين وطبيعة معينة لا يعرفها إلا الله تعالى .
قوله : « وَحِفْظاً » في نصبه وجهان :
الأول : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر ، أي : وحفظناها بالثواقب من الكواكب حفظاً .
والثاني : أنه مفعول من أجله على المعنى؛ فإن التقدير : خلقنا الكواكب زينةً وحِفظاً ، قال أبو حيان « وهو تَكَلُّفٌ وعُدُولٌ عن السَّهْلِ البَيِّن » .
فصل
المعنى وحفظاها من الشياطين الذي يسترقون السمع ، ثم قال : « ذلِكَ » أي الذي ذكر من صُنْعَةِ « العَزِيزِ » في ملكه « العَلِيمِ » بخلقه فالعزيزُ إشارة إلى كمال القدرة ، والعليمُ إشارة إلى كمال العلم .
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
قوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } هذا التفات من خطابهم بقوله : « قُلْ أَئِنَّكُمْ » إلى الغيبة لفعلهم الإعراض ، أعرض عن خطابهم وهو تناسب حسنٌ ، والمعنى أن الحجة قد تمت على أكمل الوجوه ، فإن بقُوا مصرِّين على الجهل لم يبق حينئذ علاجٌ ف يحقهم إلا إنزال العذاب عليهم ، فلهذا قال : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } ، أي هلاكاً مثلَ هلاكِهِمْ ، والإنذار التخويف .
قال المبرد : الصاعقة المرة المهلكة لأي شيءٍ كان . وقرأ الجمهور : صاعِقَةً مثل صََاعِقَةِ بالألف فيهما . وابنُ الزبير والنَّخعيُّ والسُّلميُّ وابن محيصنٍ : صعقةٌ مثل صعقةِ محذوف الألف وسكون العين . وتقدم الكلام في ذلك في أوائل البقرة . يقال : صعقته الصاعقة فصعق . وهذا مما جاء فيه فعلتُهُ بالفتح ففعل بالكسر . ومثله : جذَعتُهُ فجذعَ . قال الزمخشري : والصَّعقَةُ المرة من الصَّعق .
قوله : « إذْ جَاءَتْهُم » فيه أوجه :
أحدها : أنه ظرف « لأنْذَرْتُكُم » ، نحو : لقيتك إذ كان كذا .
الثاني : أنه منصوب بصاعقه ، لأنها بمعنى العذاب ، وأي أنذرتكم العذاب الواقع في وقت مجيء رُسُلهم .
الثالث : أنه صفة لصاعقة الاولى .
الرابع : أنه حال من « صاعقة » الثانية ، قالهما أبو البقاء . وفيه نظر إذ الظَّاهِرُ أنَّ الصَّاعِقَة جُثَّةٌ وهي قطعة نار تنزل من السماء فتحرق كما تقدم تفسيرها ، ولا يقع الزمان صفة لها ، ولا حالاً عنها ، وتأويلها بمعنى العذاب إخراجٌ لها عن مدلولها من غير ضرورةٍ ، وإنما جعلها وصفاً للأولى ، لأنها نكرة ، وحالاً من الثانية معرفة لإضافتها إلى علم ، ولو جعلها حالاً من الأولى لأنها تخصصت بالإضافة لجاز . فتعودُ الأوجهُ خمسةً .
قوله : { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الظاهر أن الضَّميرين عائدان على عاد وثمود . وقيل : الضمير في « خَلْفِهِمْ » يعودُ على الرسل واستُبعد هذا من حيث المعنى؛ إذ يصير التقدير : جاءتهم الرسل من خلق الرسل أي من خلف أنفسهم ، وقد يجاب عنه بأنه من باب : دِرْهَمٌ ونصفُهُ ، أي ومن خلف رسُلٍ أخرين .
قوله : { أَلاَّ تعبدوا } يجوز في « أن » ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن تكمون المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوفٌ ، الجملة النهيية بعدها خبر ، كذا أعربه أبو حيان وفيه نظر من وجهين :
أحدهما : أنَّ المخففة ( من الثقيلة ) لا يقع بعدها فعلٌ إلا من أفعال اليقين .
والثاني : أن الخبر في باب إنَّ وأخواتها لا يكون طلباً ، فإن ورد منه شيء أوِّلَ ، ولذلك تأَوَّلُوا :
4356 إنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ ... لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا
وقوله :
4357 وَلَوْ أَصَابَتْ لَقَالَتْ وَهيَ صَادِقَةٌ ... إنَّ الرِّيَاضَةَ لاَ تُنْصِبْكَ لِلشِّيبِ
على إضمار القول .
الثاني : أنها الناصبة للمضارع ، والجملة النهيية بعدها صلتها وصلت بالنهي كما توصل بالأمر في كتبتُ إليه بأن قُم .
وقد مر في وصلها بالأمر إشكالٌ يأتي مثله في النهي .
الثالث : أن تكون مفسرة لمجيئهم؛ لأنه يتضمن قولاً ، و « لا » في هذه الأوجه كلها ناهية ، ويجوز أن تكون نافية على الوجه الثاني ، ويكون الفعل منصوباً بأن بعد لا النافية ، فإنَّ لا النافية لا تمنع العامل أن يعمل فيما بعدها ، نحو : جئتُ بلا زيدٍ ، ولم يذكر الحوفيُّ غيره .
قوله : « لَوْ شَاءَ » قدَّر الزمخشري مفعول شاء لو شاء إرسالَ الرُّسل لأنْزَلَش ملائكةً قال أبو حيان تتبعت القرآن وكلام العرب ، فلم أجد حذف مفعول شاء الواقع بعد لو إلاَّ من جنس جوابها ، نحو { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } [ الأنعام : 35 ] أي لو شاء ( الله ) جمعهم على الهدى لجمعهم عليه . ( و ) { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] و { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] و { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ } [ يونس : 99 ] و { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } [ الأنعام : 112 ] و { لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ } [ النحل : 35 ] ، وقال الشاعر ( رحمة الله عليه ) :
4358 فَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتَ قَيْسَ بْنَ خَالِدٍ ... وَلَوْ شَاءَ رَبِّي كُنْتَ عَمْروا بْنَ مَرْثَدِ
وقال الأخرة :
4359 واللَّذِ لَوْ شَاءَ لَكُنْت صَخْراً ... أَوْ جَبَلاً أَشَمَّ مُشْمَخرًّا
قال : فعلى ما تقدم لا يكمون المحذوف ما قدره الزمخشري ، وإنما التقدير : لو شاء ربنا إنزال ملائكةٍ بالرسالة إلى الإنس لأَنزلهُم بها إلبيهم وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علَّقُوا ذلك بإنزال الملائكة وهو لم يشأ ذلك فكيف يشاءُ ذلك في البشر .
قال شاهب الدين : وتقدير أبي القاسم أوقع معنًى وأخلصُ من إيقاع الظاهر موقع المضمر؛ إذ يصير التقدير « لوشاء إنزال ملاكةٍ لأنزلَ ملائكة » .
قوله : { بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } هذا خطاب لهودٍ وصالح وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغلب المخاطب على الغائب نحو : أَنتَ وَزَيْدٌ تقومانِ . و « ما » يجوز أن تكون موصولة بمعنى « الذي » ، وعائدها « به » ، وأن تكون مصدرية ، أي بإرسالكم فعلى هذا يكون « به » يعود على ذلك المصدر المؤول ، ويكون من باب التأكيد ، كأنه قيل : كافرون بإِرسالكم به .
فصل
معنى جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ، أي إن الرسل المبعوثين إليهم أتوهُم من كل جانب ، وأتوا بجميع وجوه الدلالات ، فلم يروا منهم إلا العُتُوَّ والإعراض ، كما حكى الله تعالى عن الشيطان : { لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } [ الأعراف : 17 ] أي من كل جهة . وقيل : المعنى أن الرسل جاءتهم من قبلهم أي أرسلوا إلى آبائهم ، ومن خلفهم يعني الذين أرسلوا إليهم .
فإن قيل : كيف يمكن وصفهم بأنهم جاءوا؟! .
فالجواب : قد جاءهم هودٌ وصالح داعيين إلى الإيمان بهما ، وبجميع الرسل ، ويهذا التقدير : فكأن جميع الرسل قد جاءوهم وأمروهم بالتوحيد ونفي الشرك ، فقالوا : { لو شاء ربّنا لأنزل ملائكة } وجعلوا عدم إنزال الملائكة دليلاً على تكذيب الرسل ، والمعنى أنه تعالى لو شاء إرسال الرسل إلى البشر لجعل رسله ملائكةً؛ لأن الملائكة أفضى إلى المقصود من بعثةِ البشر .
ثم قالوا إنا بما أُرْسلتُم به كافرون ، وتقدم الجواب عن هذه الشُّبهة في سورة الأنعام .
واعلم أن قولهم : أرسلتم به ، ليس إقراراً بأن أولئك الأنبياء رسلٌ وإنما ذكروه حكاية الكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء ، كما قال فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] .
فصل
روي أن أبا جهل لعنه الله مقال في ملأ من قريش : التبس علينا أمرُ محمد ، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر ولاسحر والكهانةِ وكلَّمَهُ ثم أتانا من أمره ، فقال عُيينةُ بْنُ حصن : والله لقد علمتُ الشعر والسحر والكهانة ، وعلمُ من ذلك علماً ولا يخفى عليَّ ، فأتاه ، فقال يا محمدُ : أنت خيرٌ أم هاشم؟ أتت خير أم عبدالمطلب؟ أ ، ت خبر أم عبدالله؟ فَلِمَ تَشْتِمُ آلهتنا وتضلِّلُ آباءنا؟ فإ ، كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواءَ فكنت رئيسنا ، وإن أردت الباءة زوَّجناك أَعزَّ نسوة تختارُوهُنَّ من أيذِ بنات قريش شئت ، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستعين به على ذلك ، ورسو الله صلى الله عليه وسلم ساكت ، فملا فرغ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أَفرغت؟ قال : نعم . قال : فاسمع ثم إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تَعَوَّذَ ثم قرأ : « بسم الله الرحمن الرحيم » حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً إلى أن بلغ قوله : فإن أَعْرَََضُوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عُيينةُ على فِيهِ وناشدهُ بالرحم إلا ما سكت ، ثم رجع إلى أهله ، فلم يخرج إلى قريش ، فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عيينة إلا قد صَبَأ فانطلقوا إليه وقالوا : يا عيينة ، ما حَبَسَكَ عنا ، إلا أنك قد صبأت إلى محمد ، وأعجبك طعامُه ، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب وأقسم لا يكلم محمداً أبداً ، ثم قال : « واللهُ لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً ، ولكني قصصت عليه القصة فأجابني بشيء والله ماهو بشعرٍ ولا كهانةٍ ولا سحر ، وقرأ السورة ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه ، وناشدته بالرحم حتى سكت ، لقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخِفت أن ينزل العذاب .
قوله تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } قيل : هذا الاستكبار إظهار العُجِبِ والتِّه وعدم الالتفات إلى الغير . وقيل : الاستعلاء على الناس واستخدامهم . ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو قولهم : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } وكانوا ذوي أجسام طوال ، وقوة شديدة .
ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنهم لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم فقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } وإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل فيجب عليهم الانقياد لله تعالى والخضوع لأوامره ونواهيه .
فإن قيل : صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما نسبة إلى الآخر لكن قدرة العبد متناهية ، وقدرة الله لا نهاية لها والمتناهي لا نسبة لها إلى غير المتناهي فما معنى قوله : « أنَّ الله أَشَدَّ منْهُمْ قوة » ؟ .
فالجواب : هذا ورد على قانون قولنا : الله أكبر ، ثم قال : { وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } والمعنى أنهم يعرفون أنها حق ولكنهم يجحدونها كما يجحد المُودَعُ الوَدِيعةَ .
واعلم أنَّ نظم الكلام أن يقال : أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون ، وأما قولهم : { مَنْ أشد من اقوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } اعتراض وقع في البين لتقرير الداعي إلى الاستكبار .
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
قوله : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } الصَّرصرُ : الريح الشديدة ، فقيل : هي الباردة من الصَّرِّ وهو البرد ، وقيل : هي الشدية السُّمُوم ، وقيلأ : المُصوِّتةُ من صرَّ البابُ أي سُمِعَ صريرُهُ . والصَّرَّةٌ : الصَّيحة ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] قال ابن قتيبة « صَرْصَرٌ » يجوز أن يكون الصَّرِّ وهو البرد ، وأن يكون من صرَّ البابُ ، وأن يكون من الصََّرَّة ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] .
قوال الراغب : صَرْصرٌ لفظه من الصّر وذلك يرجع إلى الشد لما في البرودة من التعقيد .
قوله : في أيَّام نحساتٍ قرأ الكوفيون وابنُ عامر بكسر الحاء والباقون بسكونها .
فأما الكسر فهو صفة على « فَعِلٍ » وفعلُهُ : « فَعِلَ » بكسر العين أيضاً كفِعْلِهِ؛ يقال : نَحِسَ فهو نَحِسٌ ، كَفَرِحَ ، فهُو فَرِحٌ ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ ، ومعناه نكدات مَشْئُوماتٌ ذاتُ نُحُوسٍ .
وأمال اللَّيثُ من الكسائيِّ ألفه لأجل الكسرة ، ولكنه غير مشهور عنه حتى نسبه الدَّانيُّ للوهم وأما قراءة الإسكان فتحتمل ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون مخفف من « فَعِل » في القراءة المتقدمة وفيه توافق القراءتين .
الثاني : أنه مصدر وصف به كرجُلٍ عَدْلٍ ، إلا أنَّ هذا يضعفه الجمعُ ، فإن الفصيحَ في المصدر الموصوف ( به ) أن يوحَّد وكأنَّ المُسوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعه في الأصل .
الثالث : أنه صفة مستقلة على « فَعْل » بسكون العين ولكن أهل التصريف لم يذكروا في الصفة الجائية من « فَعِل » بكسر العين إلا أوزاناً محصورة ليس فيه « فَعْل » بالسكون فذركوا : فَرِحَ فهو فَرِحٌ وحوز فهو أحْوَرُ ، وشَبع فهو شَبْعَانُ ، وسَلِمَ فهو سَالِمٌ ، وبلي فَهُو بالٍ . وفي معنى « نحسات » قولان :
أحدهما : أنها من الشّؤم ، قال السدي أي مشائيم من النحس المعروف .
والثاني : أنها من شدة البرد وأنشدوا على الأول قولَ الشاعر :
4360 يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ وَيَوْماً نَحْسَا ... نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ وَنَجْماً نَحْسَا
وعلى المعنى الثاني :
4361 كَأَنَّ سُلاَفَةً عُرِضَتْ لِنَحْسٍ ... يُحِيلُ شَفِيفُهَا المَاءَ الزًُّلاَلاَ
ومنه :
4362 قَدْ أَغْتَدِي قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ... للصَّيْدِ فِي يَوْمِ قَلِيلِ النَّحْسِ
وقيل : يريدُ به في هذا البيت الغبار ، أي قليل الغبار . وقد قيل بذلك في الآية إنها ذات غبار . و « نَحِسَات » نعت لأيَّام ، والجمع بالألف والتاء مُطَّرِدٌ في صفة ما لايعقل كأيَّام معدوداتٍ كما تقدم تحقيقه في البقرة ( اللَّهُمَّ يَسِّرْ ) .
فصل
الصَّرْصَر : العاصفة التي تُصَرْصِرُ في هُبُوبِهَا؟ . روي عن عبدالله بن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قال : الرِّياح ثمانٍ ، اربعٌ منها عذاب وهي العاصف ، والصرصر ، والعقيم ، والعاصفة ، واربع منها رحمة ، وهي : الناشرات ، والمُبَشِّرات ، والمُرْسَلاَت ، والذَّارياتت . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خَاتَمِي . وقال الضحاك : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ، وتوالت الرياح عليهم من غير مَطَرٍ .
فصل
استدلَّ الأَحكَامِيُّون من المُنَجِّمِينَ بهذه الآية على أن بعض الأيام يكون نحساً وبعضها سعداً وأجاب المتكلمون بأن المراد بهذه الحسنات أي ذات غبار وتراب ثائر ، لا يكاد يُبْصَرُ فيه ولا يُتَصَرَّف فيه ، وقالوا أيضاً : معنى كون هذه الأيام نَحِسَاتٍ أن الله أهلكهم فيها . وأجاب الأحكاميون بأن الأحكام في وضع اللغة هي المشئومات لأن النحس مقابلة السعد ، والهواء الكدر يقابله الصافي . وأيضاً فإنه تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات ، فوجب أن كون تلك الأيام نَحِسَةً مغايارً لذلك الذاب الذي وقع فيها .
قوله : { لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا } أي عذاب الهوان والذل مقابل لذلك الاستكبار { وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } أي لا يكون لهم ناصر يدعف عنهم ذلك الخزي .
قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ } الجمهور على رفعه ، ممنوع الصرف . والأعمش وابن وثَّاب مصروفاً ، وكذلك كل ما في القرآن إلا قوله : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة } [ الإسراء : 59 ] ، قالوا لأن الرسم ثمود بغير ألف . وقرأ ابن عباس وابنُ أبي إسحاق والأعمش في روايةٍ ثموداً منصوباً مصروفاً . والحسنُ وابن هرمزٍ وعاصم أيضاً منصوباً غير منصرف .
فأما الصرف وعدمه فقد تقدم توجيههما في « هُودٍ » . وأما الرفع فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر ، وهو متعيّن عند الجمهور لأن « أَمَّا » لا يليها إلا المبتدأ ، فلا يجوز فيما بعدها الاشتغال إلا في قليل كهذه القراءة ، وإذا قدرت الفعل الناصب فقدِّره بعد الاسم المنصوب أي وأما هديناهم فهديناهم . قالو : لأنها لا يليها الأفعال .
فصل
قال الزمخشري : وقرىء : بضم الثَّاء . قال مجاهد : هديناهم : دعوناهم . وقال ابن عباس رضي الله عنهما بيَّنَّا لهم سبيل الهدى ، وقيل : دللناهم على طريق الخير والشر ، كقوله { هَدَيْنَاهُ السبيل } [ الإنسان : 3 ] { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } أي فاختاروا الكفر على الإيمان .
وذكر الزمخشري في تفسير الهدى قوله تعالى : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] : أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية ، وهذه الآية تبطل قوله لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل . ( انتهى ) .
فصل
قالت المعتزلة : دلت هذه الآية على أن الله تعالى ينصب الدلائل ويزيح الأعذار إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد ، لأن قوله تعالى : « فَهَديْنَاهُمْ » يدل على أنه تعالى نصب لهم الدلائل ، وقوله { فاستحبوا العمى على الهدى } يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى ، وهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد .
والجواب من وجهين :
الأول : أنما صدر عنهم ذلك العمى لأنهم أحبوا تحصيله ، فملا وقع في قلوبهم هذه المحبة دون محبة صده ، فِإن حصل هذا الترجيح لا لمرجِّح فهو باطل وإن كان لمرجِّح فإن كان المرجِّح هو العبد عاد الطلب ، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب .
الثاني : أنه تعالى قال : { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } ومن المعلوم بالضرورة أن أحداً لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمًى وجهلاً بل ما يظنُّ في ذلك العمى والجهل بكونه تبصرةً وعلماً مما يرغب فيه فإقدامه على اختياره على ذلك الجهل الثاني إن كان باختياره لزم التسلسل وهو محال ، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب .
قوله : { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } وصاعقة العذاب أي المهلكة والعذاب الهون أي ذي الهون ، أي الهوان وهو الذي يهينهم { بما كانوا يكسبون } من شركهم وتكذيبهم صالحاً .
ثم قال : { وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ } يعني يتقون الأعمال التي كانوا يأتون بها عادٌ وثمودٌ .
فإن قيل : كيف يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه مثل صاعقة عادٍ وثمود مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] وجاء في الحديث الصحيح أن الله رفع عن هذه الأمة أنواع العذاب؟! .
فالجواب : أنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعادٍ وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة وأن السبب الموجب للعذاب واحد ربما يكون العذاب النازل بهم من جنس ذلك وإن كان أقل درجة ، وهذا القدر يكفي في التخويف .
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار } الآية لما بين كيفية عقوبة أولئك لكفار في الدنيا أردفه ببيان كيفية عقوبتهم في الآخرة ليصحل تمام الاعتبار في الزجر والتحذير ، فقال : « ويوم يحشر » . في العامل في هذا الظرف وجهان :
أحدهما : محذوف دل عليه ما بعده من قوله « فَهُمْ يوزَعُونَ » تقديره : يساقُ الناسُ يَوْمَ يُحْشَر وقدره أبو البقاء يمنعون يوم يحشر .
الثاني : أنه منصوب باذكر ، أي اذكر يوم . وقرأ نافع « نَحْشُرُ » بنون العظمة وضم الشين « أَعْدَاءَ » نصباً أي نحشر نحن ، والباقون بياء الغيبة مضمومة والشين مفتوحة على ما لم يسم فاعله و « أَعْدَاءُ » رفعاً لقيامه مقام الفاعل .
ووجه الأول أنه معطوف على « وَنَجَّيْنَا » فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ ( يقويه ) وقوله { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين } [ مريم : 85 ] ، { وَحَشَرْنَاهُمْ } [ الكهف : 47 ] .
وحجة الثانية : أن قصة ثمود قد تمت وقوله : « وَيَوْمَ يُحْشَر » ابتداء كلام آخر وأيضاً الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ } [ الصافات : 22 ] وهم الملائكة ، وأيضاً موافمقة لقوله : « فَهُمْ يُوزَعُونَ » وأيضاً فتقدير القراءة الأولى ، أن الله تعالى قال : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله } فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال : ويوم نَحْشُرُ أعداءنا إلى النار . وكسر الأعرج شين « يحشِر » . ثم قال : « فهم يُوزَعون » أي يساقون ، ويدفعون إلى النار . وقال قتادة والسدي : يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا . أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم .
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
قوله تعالى : { حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا } « حتى » غاية ليُحْشَرُ والمعنى حتى إذا جاءوا النار فيكون « ما » صلة . وقيل : فيها فائدة زائدة وهي تأكيد وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله تعالى : { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ } [ يونس : 51 ] أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به .
فصل
في كيفية تلك الشهادة ثلاثة أقوال :
الأول : أن الله تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه .
والثاني : أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني .
الثالث : أن يظهر في تلك الأعضاء أحوال تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان وتلك الأمارات تسمى شهادات كما يقال : يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه .
فصل
قال ابن الخطيب : والسبب في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر أن الحواسَّ الخمس وهي السمع والبصر ، والشَّمُّ والذَّوْقُ واللمسُ ، وآلة اللمس هي الجلد ، فالله تعالى ذكر هاهنا ثلاثة أنواع من الحواس وهي السمع والبصر واللم ، وأهمل ذكر نوعين ، وهما : الذوق والشم ، فالذوق داخل في اللّمس من بعض الوجوه؛ لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسَّة لجرم ( الطعام وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسةً لجرم ) المشموم فكانا داخلين في جنس اللَّمس . وإذا عرف هذا فنقول : نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج ، وهذا من باب الكنايات ، كما قال : { لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } [ البقرة : 235 ] وأراد النكاح وقال : { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط } [ النساء : 43 ] والمراد قضاء الحاجة ، وقال عليه الصلاة والسلام : « أَوَّلَ مَا يَتَكَلَّمُ مِنَ الآدميِّ فَخِذُهُ وكَفُّه » وعلى هذال التقدير فتكون هذه الآية وعيداً شديداً في إتيان الزنا؛ لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالفخذ . وقال مقاتل : تنطق جوارحهم بما كتمته الأنفس من عملهم .
قوله : « وَقَالُوا » يعني الكفار الذين يحشرون إلى النار { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } هذا من جواب الجلود ، ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حال كونكم في الدينا ثم ( على ) خلقكم وأنطقاكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟!
قوله تعالى : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ } أي تستخفون عند الإقدام على الأعمال القبيحة . وقال مجاهد تتقون ، وقال قتادة : تظنون . قوله { أَن يَشْهَدَ } يجوز فيه أوجه :
أحدهما : من أن يشهد .
الثاني : خيفة أن يشهد .
الثالث : لأجل أن يشهد وكلاهما بمعنى المفعول له .
الرابع : عن أن يشهد أي ما كنتم تمتنعون ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها .
الخامس : أنه ضمن معنى الظن وفيه بعد .
فصل
معنى الكلام أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة؛ لأن استتارهم ما كان لأجل قولهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة ، وذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يخفونها . وريَ عن ابن مسعود رض يالله عنه قال : كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشيّ أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم ، قليل فقه قلوبهم ، مفقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا سمع إذا أخفينا . فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ . . . } الآية . قيل : الثقفي عبد ياليل وختناه القرشيان ربيعة وصفوان بن أمية .
قوله : « وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ » فيه أوجه :
أحدها : أن « ذلكم » رفع بالإبتداء و « ظنكم » خبره و « الَّذِي ظَنَنْتُمْ » نعته « وَأَرْداكُمْ » حال و « قد » معه مقدرة على رأي الجمهور خلافاً للأخفش ، و منع مكي الحالية للخلو من « قد : وهو ممنوع لما تقدم .
والثاني : أن يكون » ظَنُّكُمْ « بدلاً ، والموصول خبره ، و » أَرْدَاكُمْ « حال أيضاً .
الثالث : أن يكون الموصول خبراً ثانياً .
الرابع : أن يكون » ظنكم « بدلاً أو بياناً ، والموصول هو الخبر ، و » أرْدَاكُمْ « خبر ثاني .
الخامس : أن يكون ظنكم والموصول والجملة من » أرْداكم « أخباراً إلا أن أبا حيان ردَّ على الزمخشري قوله : » وَظَنُّكُمْ وَأَرْدَاكُمْ « خبران قال : لأن قوله » وَذلِكُمْ « إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير : وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز وهذا نظير ما منعه النحاة من قولك : سَيِّد الجارية مالكها .
وقد منع ابن عطية كون » أَرْدَاكُمْ « حالاً ، لعدم وجود » قد « . وتقدَّمم الخلاف في ذللك .
فصل
قال المفسرون : وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم أي ظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون أرادكم أهلككم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : طرحكم ف يالنار { فأصبحتم من الخاسرين } وهنذا نص صريح في أن من ظن أنه يخرج شيء من المعلومات عن علم الله فإنه يكون من الهالكين الخاسرين .
قال المحققون : الظن قسمان :
أحدهما : حسن ، والآخر : فاسد . فالحسن أن يظن بالله عز وجل الرحمة والفضل والإحسان ، قال عليه الصلاة والسلام حكايةً عن الله عز وجل : » أنَا عِنْدَ ظَنِّّ عَبْدِي بي « وقال عليه الصلاة والسلام : » لاَ يمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلاَّ وهُوَ حَسَنُ الظَّنِّ بالله « .
والظن القبيح أن يظن أنه تعالى أنه يعرب عن علمه بعض الأحوال . وقال قتادة : والظن نوعان : مُنْجِي ومُرْدِي فالمنجي قوله : { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 2 ] وقوله : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] والمردي هو قوله { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } .
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27)
قوله تعالى : { فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ } أي سكن لهم ، يعني إن أمسكوا عن الاستغاثة لفرجٍ يتنظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أيم مقاماً لهم .
قوله : { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } العامة على فتح الياء من « يَسْتَعْتِبُوا » وكسر التاء الثانية مبنياً للفاعل { فما هم من المعتبين } بكسر التاء اسم الفاعل ومعناه وإن طلبوا العُتْبَى وهي الرضا فما هم ممن يعطاها . والمعتب الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل ، يقال : أعتبني فلانٌ ، أي أرضاني بعد إسخاطه إيَّاي ، وا ستعتبته طلبتمنه أن يعتب أي يرضى . وقيل : المعنى وإن طلبوا زوال ما يعتبون فيه فماهم من المجابين إلى إزالة العتب . وأصل العتب المكان النَّائي بنازله ، ومنه قيل لأسكفَّة الباب والمرقاة : عتبة ، ويعبر بالعتب عن الغلظة التي يجدها الإنسان في صدره على صاحبه ، وعتبت فلاناً أبرزت له الغلظة ، وأعتبته أزلت عبتاه كأشكيته وقيل : حملته على العتب .
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : وإن يُستعتبوا مبنياً للمفعول فما هم من المُعْتِبِينَ اسم فاعل بمعنى إن يطلب منهم أن يرضوا فما هم فاعلون ذلك ، لأنهم فارقوا دار التكليف ، وقيل : معناه أن يطلب ما لا يعتبون عليه فما هم ممَّن يريد العُتْبَى وقال أبو ذؤيب :
4363 أَمِنَ المَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَوَجَّعُ ... والدَّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
قوله : « وَقَيَّضْنَا لَهُمْ » بعثنا لهم وولكنا ، وقال مقاتل : هَيَّأْنَاهُ . وقال الزجاج : سينالهم وأصل التقييض التيسير والتهيئة ، قضيته للداء هيأته له ويسّرته ، وهذان ثوبان قيِّضان أي كل منهما مكافىء للآخرة في الثمن . والمقايضة المعارضة ، وقوله { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } [ الزخرف : 36 ] أي نسهل ونيسر ليستولي عليه استيلاء القَيْض على البَيْض .
والقيض في الأصل قشر البيض الأعلى . قال الجوهري : ويقال : قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع ، وهما قيضان كما يقال : بيعان . وقيَّض الله فلاناً لفلان أي جاء به ومنه قوله تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ } و المراد بالقرناء النظراء من الشياطين حتى أضلونهم { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من أمر الدنيا حتى أثروه على الآخر « وَمَا خَلْفَهُمْ » من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب وإنكار البعث .
وقال الزجاج : زينوا ( لهم ماب ين أيديهم من أمر الآخرة أنَّه لا بعث ولا جنة ولا نار ، وما خلفهم من أمر الدنيا وأن الدنيا قديمة ، ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك .
وقيل : مابين أيديهم أعمالهم التي يعملونها وما خلفهم ما يعزمون أن يعملوه .
وقال ابن زيد : مابين أيديهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة ( وما بقي من أعمالهم الخسيسة ) ) .
فصل
دلت هذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر؛ لأنه تعالى قيَّض لهم قرناء فزينوا لهم الباطل ، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الكفر .
وأجاب الجُبَّائيُّ بأنقال : لو أراد المعاصي لكانوا يفعلها مطيعين؛ لأن الفاعل لما يريده منه غيره يجب أن يكون مطيعاً له . وأجاب ابن الخطيب : بأنهن لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعاً له لواجب أن يكون الله مطيعاً لعباده إذا فعل ما أرادوه فهذا إلزام الشيء على نفسه وإن أردت غيره فلا بد من بيانه حتى ينظر فيه هلا يصح أم لا .
قوله : « فِي أُمَمٍ » نصب على الحال من الضمير في « عَلَيْهِمْ » والمعنى كائنين في جملة إُمَمٍ ، وهذا كقوّله ( شِعْراً ) :
4364 إنّْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنِيعَة مَأْ ... فُوكاً فَفِي آخَرِين قَدْ اَفِكُوا
أي في جملة قوم آخرين . وقيل : في بمعنى « مع » .
فصل
احتجّ أهل السنة بأنه تعالى أخبر أن هؤلاء حق عليهم القول فلو لم يكونوا كفاراً لا نقلب هذا الخبر الحق باطلاً ، وهذا العلم جهلاً ، وهذا الخبر الصدق كذباً ، وكل ذلك محال ، ومستلزم المحال فثبت أن صدور الإيمان وعدم صدور الكفر عنهم محال .
قوله ( تعالى ) : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ . . . } الآية اعلم أن الكلام ابتداء من قوله تعالى : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ } [ فصلت : 5 ] إلى قوله : { إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ فصلت : 5 ] .
وأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة واتصل الكلام إلى هذا الموضع ، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهة أخرى فقال : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } العامة على فتح الغين وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون من « لَغِيَ » بالكسر يَلْغَى ، وفيها معنيان :
أحدهما : من ألغى إذا تكلم باللغو وهو ما لا فائدة فيه .
والثاني : أنه من لغى بكذا أي رمى به فتكمون « في » بمعنى الباء أي ارموا به وانبذوه .
والثاني : من الوجهين الأولين : أن يكون من « لَغَا » بالفتح أيضاً حكاه الأخفش ، وكان قياسه الضم كغزا يغزو ، ولكنه فتح لأجل حرف الحلق . وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السمال والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين ، من لغا بالفتح يَلغُو كدَعَا يَدُعُوا ، وفي الحديث : « فَقَدْ لَغَوْتَ » وهنذا موافق لقراءة غير الجمهور .
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني الغَطُوا فيه ، كان بعضهم يوصي بعضاً : إذا رأيتم محمداً يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو .
قال مجاهد : والغوا في بالمكاء والصّفير . وقال الضحاك : أكثروا الكلام فختلط عليه ما يقول؛ وقال السّدي صيحوا في وجهه . « لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ » على قراءته ، وهذا جهل منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلين باللغو والباطل من العمل والله تعالى ينصر محمداً بفضله ولما ذكر الله تعالى هددهم بالعذاب الشديد وقال { فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً } وهذا تهديد شديد؛ لأن لفظ الذوق إنما بذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة ، ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب شديد ، فِإن كان القليل منه عذاباً شديداً فكيف يكون حال الكثير منه؟! ثم قال : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال أكثر العلماء : المراد بالأسوأ أي أقبح أعمالهم لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت أعمالهم الحسنة ، ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة فلا جرم لم يحصلوا إلا على السيئات .
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)
قوله تعالى : « ذَلِكَ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مبتداً و « جزاء » خبره .
والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : الأمر ذلك { أَعْدَآءِ الله النار } جملة مستقلة مبنيةٌ للجملة قبلها .
( قوله ) : « النار » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل من « جزاء » وفيه نظر؛ إذ البدل يحل محلّ المبدل منه فيصير التقدير ذلك النار .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر .
الثالث : أنه مبتدأ و { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } الخبر ، و « دَارُ » يجوز ارتفاعها بالفاعليَّة أو الابتداء .
وقوله : { فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } يقتضي أن يكون « دار الخلد » غير النار ، وليس كذلك بل النار هي نفس دار الخلد . وأجيب عن ذلك : بأنه قد يجعل الشيء ظرفاً لنفسه باعتبار متعلَّقه على سبي المبالغة ، لأن ذلك المتعلق صار مستقراً له ، وهو أبلغ من نسبة المتعلق إليه على سبيل الإخبار به عنه . ومثله قول الآخر :
4365 . ... وَفيِ اللهِ إنْ لَمْ تُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ
وقوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] والرسول هو نفس الأسوة . كذا أجابوا . وفيه نظر؛ إذ الظاهر وهو معنى صحيح منقول أن في النار داراً تسمى دار الخلد ، والنار محيطة بها .
قوله : « جزاء » في نصبه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب بفعل مقدر ، وهو مصدر مؤكد ، أي يجزون جزاءً .
الثاني : أن يكون بالمصدر الذي قبله ، وهو جزاء أعداء الله . والمصدر ينصب بمثله كقوله { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً } [ الإسراء : 63 ] .
الثالث : أن ينتصب على أنه مصدر واقع موقع الحال و « بِمَا » متعلق « بجزاء » الثاني إن لم يكن مؤكداً وبالأول إن كان ( مؤكداً ) و « بِآيَاتِنَا » متعلق بيجحدون .
فصل
لما قال : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ فصلت : 27 ] بين أن ذلك الأسوأ الذي جعل جزاء أعداء الله هو النار ، ثم قال : { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } ، أي لهم في جملة النار دارٌ معينة ، وهي دار العذاب الخلد ، { جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون } أي يبلغون في القراءة ، وسماه لآمنوا به فاستخرجوا ( تلك ) الطريقة الفاسدة وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً وأنهم جحدوا حسداً .
قال الزمخشري : « أي بما كانوا يلغون ، فذكر الجحود؛ لأنه سبب اللَّغو » انتهى .
ثعني أنه من باب إقامة السبب قمام المسبَّب ، وهو مجاز سائغٌ .
قوله : { وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا } الآية تقدم الخلاف في « أَرِنَا » وفي نون الَّذين وقال الخليل : إذا قلت : أرني ثوبك فمعناه بصِّرنيهِ ، وبالسكون أعطنيه .
فصل
لما بين أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السو بيَّن أن الكفار ( عند الوقوع في العذاب الشديد ) في النار يقولون : { رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس } ومعناه أن الشيطان على نوعين جنِّي وإنْسِيٍّ .
قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] وقال : { الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس مِنَ الجنة والناس } [ الناس : 56 ] وقيل : هما إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه؛ لأن الكفر سنة إبليس والقتل بغير حق سنة قابيل فهما سنة المعصية . { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } في النار { لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين } قال مقاتل : يكونون أسفل منا في النار . وقال الزجاج : ليكونا في الدرك الأسفل . وقال بعض الحكماء : المراد باللَّذَيْنَ يُضِلاَّن الشهو والغضب والمراد بجعلهما تحت أقدامهم كونهما مسخَّرين للنفس مطيعين لها ، وأن لا يكونا مستوليين عليها قاهرين لها .
قوله تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } الآية . لما ذكر الوعيد أردفه بذكر الوعد كما هو الغالب . واعلم أن « ثُمَّ » لتراخي الرتبة في الفضيلة سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة فقال : أن لا تشرك بالله شيئاً . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ، ولا تروغَ رَوَغَات الثَّعْلَب . وقال عثمان رضي الله عنه أخلصوا العمل . وقال علي رضي الله عنه أدَّوا الفرائض . وقال ابن عباس رضي الله عنه استقاموا على أداء الفرائض . وقال الحسن ( رضي الله عنه ) استقاموا على أمر الله بطاعته واجتنبوا معصيته . وقال مجاهد وعكرمة استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله . وقال قتادة : كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال : « اللَّهُمَّ فَارْزُقْنَا الاستقامة .
قوله : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) عند الموت . وقال مقاتل وقتادة : إذا قاموا من قبورهم . وقال وكيع بن الجرَّاح : البشرى تكون في ثلاثة مواظن ، عند الموت وفي القبر وعند البعث .
قوله : { أَلاَّ تَخَافُواْ } يجوز في » أن « أن تكون المخففة ، أو الفسِّرة ، أو الناصبة و » لا « ناهية على الوجهين الأولين ، ونافية على الثالث . وقد تقدم ما في ذلك من الإشكال . فالتقدير بأن لا تخافوا أي بانتفاء الخوف . وقال أبو البقاء : التقدير : بأن لا تخافوا ، أو قائلين أن لا تخافوا فعلى الأول : هو حال ، أي نزلوا بقولهم : لا تخافوا . وعلى الثاني : الحال محذوفة . قال شهاب الدين : يعني الباء المقدرة حالية ، فالحال غير محذوفة وعلى الثاني الحال هو القول المقدر وفيه تسامح ، وإلا فالحال محذوفة في الموضعين ، وكما قام المقول مقام الحال كذلك قام الجار مقامها . وقرأ عبد الله » لا تخافوا « بإسقاط » أن « وذلك على إضمار القول ، أي : يقولون لا تخافوا .
فصل
{ أن لا تخافوا } من الموت . قال مجاهد : لا تخافون على ما تَقْدَمُونَ عليه من أمر الآخرة ولا تحزنوا على ما خلَّفتم من أهل وولد ، فإنا نخلفكم في ذلك كله .
وقال عطاء ابن أبي رباح : لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم .
قوله : { وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } .
فإن قيل : البشارة عبارةٌ عن الخبر الأول بحصول المنافع ، فأما إذا أخبر الرجل بحصول المنفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كان الإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارةً ، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير ، فإذا سمع المؤمن هذا الخبَر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة ، فما السَّبب في تسمية هذا الخبر بشارة؟
فالجواب : أن المؤمن قد يسمع بشارات الخير ، ( فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة! قلنا : المؤمن يسمع أن من كان مؤمناً تقِيًّا ) كان له الجنة أما إذا لم ( يسمع ) ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا الكلام من الملائكة كان أخباراً بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الاول فكان ذلك بشارة .
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث ( لا ) يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد ( بل يكون آمن الصدر لأن قوله : { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } يفيد نفي الخوف ، والحزن على الإطلاق ) .
قوله تعالى : { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ } [ فصلت : 25 ] . قال السدي : تقول الملائكة نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا ( ونحن أولياؤكم من الدينا ) ونحن أولياؤكم في الآخرة أي لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة . { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ } من الكرامات واللذات { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي تتمنون .
فإن قيل : هلى هذا التفسير لا فرق بين قوله : { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } و { ولكم فيها ما تدعون } قال ابن الخطيب : والأقرب عندي أن قوله : { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } إشار إلى الجنة الرُّحانيَّة المذكورة في قوله { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم } [ يونس : 10 ] الآية .
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
قوله : « نُزُلاً » فيه أوجه :
أحدها : أنه منصوب على الحال من الموصول ، أو من عائده ، والمراد بالنزل الرزق المعدّ للنازل كأنه قيل ولكم فيهنا الذي تدعونه حال كونه معدًّا .
الثاني : أنه حال من فاعل « تَدَّعُونَ » أو من الضمير في « لَكُمْ » على أن يكون نزلاً جمع نازل كصَابِر وصُبُرٍ وشَارِفٍ وشُرُفٍ .
والثالث : أنه مصدر مؤكد ، وفيه نظر ، لأن المصدر « نزل » النزول لا النزل . وقيل : هو مصدر أنزل .
قوله : { من غفور رحيم } يجوز أن يكون تعلقه بمحذوف على أنه صفة « لنزلاً » في « لكم » من الاستقرار أي استقر لكم من جهة غفور رحيم ، وأن يتعلق بما تعلق به الظرف في « لكم » من الاستقرار أي استقر لكم من جهة غفورٍ رحيمٍ .
قال اأبو البقاء : فيكون حالاً من ما . قال شهاب الدين : وهذا البناء منه ليس بواضح بل هو متعلق بالاستقرار فَضلةً كسائر الفضلات ، وليس حالاً من « ما » .
قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله . . . } الآية قال ابن سيرين والسُّدِّيُّ : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله وقال الحسن : هو المؤمن الذي أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه ، وعمل صالحاً في إجابته وقال إنَّني من المسلمين . وقالت عائشة رضي الله عنها إن هذه الآية نزلت في المؤذِّنين . وقال عكرمة : هو المؤذن . وقال أبو أمامة الباهليّ : وعمل صالحاً : ركعتين بين الأذان والإقامة . وقال قيس بن أبي حازمٍ : هو الصلاة بين الأذان والإقامة .
قوله : { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين } العامة على إنيي بنونين . وابن أبي عبلة وابن نوحٍ بنون واحدة . قوله تعالى : « ولا السيئَةُ » في « لا » هذه وجهان :
أحدهما : أنها زائدة للتوكيد ، كقوله : { وَلاَ الظل وَلاَ الحرور } [ فاطر : 21 ] وكقوله : { وَلاَ المسياء } [ غافر : 58 ] ، لأن استوى لا يكتفي بواحد .
والثاني : أنها مؤسسة غير مؤكِّدة؛ إذ المراد بالحسنة والسيئة الجنس ، أي لا تستوي الحسنات في أنفسنا فإنها متفاوته ، ولا تستوي السيئات أيضاً ، فربَّ واحدةٍ أعظم من أخرى ، وهو مأخوذ من كلام الزمخشري ، وقال أبو حيان : « إن أخذت الحسنة والسيئة جنساً لم يكن زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا » . قال شهاب الدين : « فقد جعلها في المعنى الثاني زائدة ، وفيه نظر لما تقدم » .
فصل
قال المفسرون : المراد بالحسنة الصَّبر ، وبالسيئة الغضب . وقيل : الحلم والجهل .
وقيل : العفو والإساء . قال بان الخطيب : لما حكى الله تعالى عنهم قولهم : « قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ » وإصرارهم الشديد على دينهم ، وعد التأثّر بدلائل محمد صلى الله عليه سولم ثم أطنب في الجواب عن شبهاتهم ثم رغّب محمداً صلى الله عليه وسلم في أن لا يترك الدعوة إلى الله بقوله :
{ إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] فلهم الثواب العظيم ، ثم تَرَقَّى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى ، وهي أن الدعوة إلى الله تعالى أعظم الدرحات ، ثم كأن سائلاً ( سأل ف ) قال : إن الدعوة إلى الله ، وإن كانت طاعةً عظيمةً ، إلا أنَّ الصبر على سفاهة الكفَّار شديدةً ، فذكر الله تعالى ما يصلحُ لأ ، يكون دافعاً لهذا الإشكال فقال : { ولا تستوي الحنسة ولا السيئة } .
والمراد بالحسنة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحق ، والصبر على جهالة الكفار ، وترك الانتقام وترك الالتفات إليهم؛ والمراد بالسيئة ما أظهروا من الجلافة في قولهم : « قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ » وقوله : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] فكأنه قال : يا محمد فعلُك حسنة ، وفعلُهم سيئة ، ولا تستوي الحسنة ( ولا السيئة ) أنت إذا أتيت بهذه الحسنة استوتجبت التعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة ، وهم بالضِّدِّ من ذلك ، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعاً لك من الاشتغال بهذه الحسنة . ثم قال { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ } يعني ادفع ستاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هي أحسن الطُّرق . قال ابن عباس رضي الله عنهما أمر بالصبر عند الغضب ، وبالحِلْم عند الجهل ، وبالعفو عن الإساءة . والمعنى أنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرةً بعند أخرى ولم تقابل سفاهتهم بالغضب استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا أفعالهم القبيحة ، وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ، ومن البغضاء إلى المودَّة فقال : { فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ } يعني إذا فعلت ذلك خضع لك عدوك { كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } أي كالصديق القريب ، قال مقاتل بن حيَّان : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وذلك لأنه لان للمسلمين شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلم فصار وليًّا بالإسلام وحميماً بالقرابة .
قوله : كأنه ولي « في هذه الجملة التَّشبيهيَّة وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب على الحال ، والموصول متبدأ ، و » إذا « التي للمفاجأة خبره والعامل في هذا الظرف من الاستقرار هو العامل في هذا الحال . ومحطُّ الفائدة في هذا الكلام ( هي الحال والتقدير : فالبحضرة المعادي مشبهاً القريب الشفوق .
والثاني : أن الموصول مبتدأ ) أيضاً ، والجملة بعد خبره ، و » إذَا « معمولة لمعنى التشبيه والظرف يتقدم على عامله المعنوي . هذا إن قيل : إنها ظرف .
فإن قيل : إنَّها حرف فلا عامل .
قوله : » وَمَا يُلَقَّاها : العامة على يُلَقَّاها من التَّلْقِيَة . وابن كثير في رواية وطلحة بن مصرف يُلاَقَاها من المُلاَقَاةِ ، فالضمير للخصلة أو الكلمة ، ( أو الجنة أو شهادة التوحيد .
فصل
لما أرشد الله تعالى إلى الطريق النافع في الدين والدنيا ) قال : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } ( قَالَ الزَّجاج : « وَمَا يُلَقَّى هذه الفِعْلَةَ إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا ) على تحمل المكاره وتجرح الشدائد وكظم الغيظ ، وترك الانتقام . { يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } من الفضائل النفسانية . وقال قتادة الحظ العظيم الجنة ، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة .
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قوله تعالى : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ . . . } الآية . تقدم تفسيرها في آخر سورة الأعراف . قال الزمخشري : النَّزغُ والنَّسْغُ بمعنى واحد وهو شبه النَّخس والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينسخه يبعثه على ما لا ينبغي . والمعنى وإن صرفك الشيطان عما شرع لك من الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من شره « إنه هو السميع » لاستعاذتك وأقوالك « العليم » بأفعالك وأحوالك .
قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار . . . } الآية لما بين تعالى في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى وهي عبارة عن تنوير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته ، ومن جملتها العالم بجميع أجزائه فبدأ هاهنا بذكر الفلكِّات وهي اللَّيل والنَّهار ، والشمس والقمر ، وقدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيهاً على أن الظلمة عدمٌ ، والنور وجود ، والعدم سابق على الوجود ، وهذا كالتنبيه على وجود الصانع وتقدم شرحه مراراً . ولما بين أن الشمس والقمر يحدثان وهما دليلان على وجود الإله القادر قال { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ } يعني أنهما عبدا دليلان على وجود الإله ( القادر ) والسجود عبارة عن نهاية التعظيم وهو لا يليق إلا بمن كان أشرف الموجودات فقال : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } لأنهما عبدان مخلوقان ، واسجدوا لله الخالق القادر الحكيم .
أحدهما : أنه يعود على « الليل والنهار والشمس والقمر » . وفي مجيء الضمير كضمير الإناث ( كما قال الزمخشري هو أنَّ جمع ما لا يعقل حكمه حكم الأثنى أو الإناث ) نحو : الأَقْلاَمُ بريتُهَا وبرَيْتُهُنَّ .
وناقشه أبو حيان : من حيث إنه لم يفرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك؛ لأن الأفصح في جمع القلة أن يعامل معالمة الإناث ، وفي جمع الكثرة أن يعامل معالمة الأنثى ، فالأفصح أن يقال : الأجذاع كَسَرتهُنَّ ، والجذوع كسرتُهَا ، والذي تقدم في هذه الآية ليس بجمع قلة أعني بلفظ واحد ولكنه ذكر أربعة متعاطفة فتنزَّلَت منزلة الجمع المعبر به عنها بفلظ واحد . قال شهاب الدين : والزمخشري ليس في مقام بيان الفصيح والأفصح بل في مقام كيفية مجيء الضمير ضمير إناث بعد تقدم ثلاثة أشياء مذكرات وواحد مؤنث والقاعدة تغليب المذكر على المؤنث أو لَمَّا قال : « وَمِن آياتِهِ » كُنَّ في معنى الآيات فقيل : خَلَقَهُنَّ . ذكر الزمخشري أيضاً أنه يعود على لفظ الآيات وهذا هو الوجه الثاني .
الثالث : أنه يعود على الشمس والقمر؛ لأن الاثنين جمع ، والجمع مؤنث لقولهم : « شُمُوسٌ وأَقْمَارٌ » .
وقال البغوي : إنما قال خلقُهُنَّ بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير ، ولم يُجْر على طريق التغليب للمذكر على المؤنث .
قوله : { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } قيل : كان ناسٌ يسجدون للشمس والقمر كالصَّابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنه يقصدون بالسجود لهما السجود لله ، فَنُهُوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق هذه الأشياء .
قوله : { فَإِنِ استكبروا } أي عن السجود { فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ } لا يَمَلُّونَ .
فإن قيل : إن الذين يسجدون للشمس والقمر يقولون نحن أقلّ وأذلّ من أن يحصُل لنا أهليَّةٌ لعبادة الله تعالى ولكنا عبيدٌ للشمس والقمر وهما عبدان لله تعالى ، وإذا كان قولهم هكذا فكيف يليق بهم أنهم استكبروا عن السجود لله تعالى؟! .
فالجواب : ليس المراد من الاستكبار ههنا ما ذكرتم بل المراد استكبارهُم عن قول قولك يا محمد بالنهي عن السجود للشمس والقمر .
فصل
قال ابن الخطيب ليس المراد بهذه العِنديَّة قرب المكان ، بل يقال : عند المَلِك من الجُند كذا وكذا ، ويدل عليه قوله : « أنا عِنْدَ ظَنَّ عَبْدِي بِي » وأنا عِنْدَ المُنْكَسِرَة قُلُوبُهُم من أجلي في مقعدٍ صدقٍ عند ملكٍ مُقتدرٍ ، ويقال : عند الشافعي : أنَّ المُسْلم لا يُقْتَلُ بالذِّمِّيِّ .
فصل
دلَّت هذه الآية على أن المَلِكَ أفضل من البشر؛ لأنه إنما يُسْتَدَلُّ بحال الأعلى على الأدنى فيقال : هؤلاء القوم إن استكبروا عن طاعة فلان ، فالأكبر يخدمونه .
فإن قيل : وصف الملائكة بأنهم يسبحون له بالليل والنهار لا يفترون ، وهذا يدل على مواظبتهم على التسبح لا ينفكون عنه لحظةً وادة كما قال : { يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } [ الأنبياء : 20 ] واشتغالهم بهذه العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال لكنهنم ينزلون على الأرض ، كما قال تعالى { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193194 ] وقال { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } [ الحجر : 51 ] وقال { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } [ التحريم : 6 ] وقال عن الذين قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] .
فالجواب : أن الذين ذكرهم الله ههنا بكونهم واظبين على التسبيح أقوام مُعيَّنُونَ من الملائكة .
فصل
اختلفوا في مكان السجدة فقال الشافعي رحمهُ الله هو عند قوله تعالى « إِيَّاهنُ تَعْبُدُونَ » وقال أبو حنيفة رضي الله : هو عند قوله تعالى « وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ » .
قوله : « وَمِنْ آيَاتِهِ » أي ومن دلائل قدرته أنك ترى الأرض خاشعةً أي يابسة غير الإنبات فيها { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ } ، أي تحركت بالنبات ، وَرَبَت انْتَفَخَتْ؛ لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات .
واعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الأربعة الفكلية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي هذه الآية ثم قال : { إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى } يعنى أن القادر على إحياء الأرض بعند موتها هو القادرُ على أحياء هذه الأجساد بعد موتها . ثم قال : { إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وهذ هو الدليل الأصلي وتقدم تقريره مِرَاراً .
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا } الآية لما بين أن الدعوة إلى دين الله تعالى أعظم المناصب ، وأشرف المراتب ، ثم بين أن الدعوة إنما تحصُلُ بذكر دلائل التوحيد العدل وصحة البعث والقيامة عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات ، ويجادل بإبقاء الشُّبهات فيها فقال : إن الذين يُلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ، يقال : ألحدَ الحافِرُ وَلَحَدَ إذ مال عن الاستقامة فحفر في شقِّ فالمُلحِدُ ، هو المُنْنحَرِفُ ، ثم اختص في العرف بالمُنْحرِفِ عن الحق إلى الباطل قال مجاهد : يلحدون في آياتنا بالمُكَاءِ والتصدية واللغو واللَّغط . وقال قتادة : يكذبون في آياتنا . قوال السدي : يعاندون ويشاقون { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } وهو كقول الملك المهيب : إنَّ الذين ينازعون في ملكي أعرفهم فإنت ذلك ( لا ) لا يكون تهديداً . ثم قال : { أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة } وهذا استفهام بمعنى التقدير ، والغرض منه التنبيه على أن المُلحِدِين في الآيات يُلْقَون في النار ، وأن المؤمنين بالآيات يأتون آمنين يوم القيامة . قال المفسرون : المراد حمزة ، وقيلأ : عثمان ، وقيل : عمار بن ياسر . ثم قال : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } وهذا أمر تهديد ووعيد أيضاً ، { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي عالم بأعمالكم فيجازيكم .
قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } في خبرها ستةُ أوجه :
أحدها : أنه مذكور ، وهو قوله « أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ » وقد سئل بلال بنُ أبي بُرْدَة عن ذلك في مجسله فقال : لا أجد لها معاداً ، فقال له أبو عمرو بن العلاء : إنه منك لقريب أولئك ينادون . وقد استبعد هذا من وجهين :
أحدهما : كثرة الفواصل .
والثاني : تقدم من يصح الإشارة إليه بقوله : « أُولَئِكَ » وهو قوله : « وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ » واسم الإشارة يعود على أقرب مذكور .
الثاني : أنه محذوف لفهم المعنى فقدر : مُعَذَّبُونَ ، أو مُهْلَكُونَ ، أو مُعَانِدُونَ . وقال الكسائي : سد مسده ما تقدم من الكلام قبل « إنَّ » وهو قوله { أَفَمَن يلقى فِي النار } . يعني في الدلالة عليه ، والتقدير يُخلَّدُونَ في النار ، وقال البغوي : يَجَازَوْنَ بكُفْرِهِمْ . وسأل عيسى بن عمر عَمْرَو بن عبيدٍ عن ذلك فقال معناه في التفسير : إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به ، فقدر الخبر من جنس الصِّلة . وفيه نظر من حيث اتّحاد الخبر والمُخبر عنه في المعنى من غير زيادة فائدة ، نحو : سيِّدُ الجارِية مَالِكُها .
الثالث : أن « إنَّ الَّذِينَ » الثانية بدل من « إِنَّ الَّذِين » الأولى المحكوم به على البدل محكوم به على المبدل منه فيلزم أن يكون الخبر { يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } وهو منتزع من كلام الزمخشري .
الرابع : أنَّ الخير قوله : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } والعائد محذوف تقديره لا يأتيه الباطل منهم ، نحو : « السَّمْنُ منوان بِدرهَم » أي منوان منه أو يكون « أل » عوضاً من الضمير في رأي الكوفيين ، تقديره : « إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالِّكْرِ لاَ يَأتِيهِ بَاطِلُهُمْ » .
الخامس : أن الخبر قوله تعالى : { مَّا يُقَالُ لَكَ } والعائد محذوف أيضاً تقديره : إنَّ الَّذِين كَفَرُوا بالذِّكْرِ مَا يقال لك في شأنهم إلاَّ ما قد قيل للرسل من قبلك . وهذان الوجهان ذهب إليهما أن أبو حيَّان .
والسادس : قال بعض الكوفيين : إنه قوله : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ } وهذا غير متعقَّلٍ .
قوله : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } جملة حالية ، وقوله { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل } صفة « الكتاب » ، و « تَنْزِيلٌ » خبر مبتدأ محذوف ، أو صفة لكتاب على أنَّ « لاَ يأْتِيهِ » معترف أو صفة كما تقدم على رأي من يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح ، وتقدم تحقيقه في المائدة . و « مِنْ حَكِيم » صفة « لتنزيل » أو متعلق به و « الباطل » اسم فاعل ، وقيل : مصدر كالعاصِفةِ والعاقِبةِ .
فصل
لما بلغ في تهديد المُلحدين في آيات القرآن أتبعه تعظيم القرآن فقال : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } قال الكلبي عن أبن عباس رضي الله عنهم : أي كريم على الله . وقال قتادة : أعزة الله تعالى لا يجد الباطل إليه سبيلا . قال قتادة والسدي : الباطل هو الشيطان لا يستطيع أن يغيره أو يزيل فيه أو ينقص منه . وقال الزجاج : معناه أنه محفوظ من أن يُنْقَصُ منه فيأتيه الباطل من بين يديه أو يُزَادُ فيه فيأتيه الباطل من خلفه ، وعلى هذا فمعنى الباطل هو الزيادة والنقصان . وقال مقاتل : لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ، ولا يأتي بعده كتاب فيُبطلُهُ ( و ) قال الزمخشري هذا تمثيل والمقصود أن الباطل لا يتطرطُ إليه ولا يجد إليثه سبيلاً من جهة من الجهات حين يصل إليه .
فصل
اعلم أنَّ لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه؛ لأن النسخ إبطال ، فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وهذا خلاف الآية .
ثم قال : { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } أي حكيم في جميع أفعاله حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه .
قوله تعالى : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } الآية لما هدَّ الملحدين في آيات الله ثم بين شرف آيات الله وعلو درجة كتاب الله تعالى رجع إلى أمر رسوله بأن يصبر على أذى قومه ، وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة وهو قولهم : { قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] إلى قوله : { فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ } [ فصلت : 5 ] فقال : { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } أي إنهم قالوا للأنبياء قبلك : ساحرٌ ، وكذبوهم كما كُذِّبت . وقيل : المراد ما قال لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه أمرك وأمرهم بالصبر على سفاهة الأقوام .
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ } قيل : هو مفسر للمقول كأنه قيل : قيل للرسل إن ربك لذو مغفرة وقيل : هو مستأنف ومعناه لذو مغفرة لمن تاب وآمن بك ، وذُو عِقَابٍ أليمٍ لمن أصر على التكذيب .
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
قوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ } أي جعلنا هذا الكتاب الذي يقرؤه على الناس قرآناه أعجميًّا بغير لغة العرب { لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها .
قوله : « أَأَعْجَمِيٌّ » قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيق الهمزة ، وهشام بإسقاط الأولى ، والباقون : بتسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ . وأما المدّ فقد عرف حكمه من قوله : { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] في أول الكتاب . فمن استفهم قال معناه أكتاب أعجمي ورسول عربي؟
وقيل : ومرسل إليه عربي؟ وقيل : معناه بعضه أعجمي وبعضه عربي؟ ومن لم يثبت همزة الاستفهام فيحتمل أنه حملها لفظاً وأرادها معنى ، وفيه توافق القراءتين ، إلا أن ذلك لاي يجوز عند الجمهور إلا إذا كان في الكلام « أم » نحو : بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ .
فإن لم يكن « أم » لم يجز إلا عند الأخفش . وتقدم ما فيه .
ويحتمل أن يكون جعله خبراً محضاً ويكون معناه : هلا فُصِّلت آياتُهُ فكان بعضها أعجمياً يفهم العجم وبضعه عربياً يفهمه العرب . والأعجمي من لا يفصح ، وإن كان من العرب وهو منسوب إلى صفته ، كأحمريّ ، ودوّاريّ؛ فالياء فيه للمبالغة في الوصف وليس فيه حقيقياً . وقال الرازي في لوامحه : فهو كياء كُرْسيّ وبختيّ .
وفرق أبو حيان بينهما فقال : ليست كياء كُرسيّ ، فإنَّ ياء كرسيِّ وبختيّ بُنِيَت الكلمة عليها بخلاف ياء « أعْجَمِيٍّ » فإنهم يقولون : رجلٌ أعجم وأَعجميٌّ .
وقرأ عمرو بن ميمونٍ أعَجميّ بفتح العين وهو منسوب إلى العجم والياء فيه للنسب حقيقة ، ويقال : رجلٌ عجميّ وإن كان فصحياً . وقد تقدم الفرق بينهما في سورة الشعراء . وفي رفع أعجمي ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره أعجمي وعربي يستويان .
والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي القرآن أعجمي والمرسل به عربيٌّ .
والثالث : أنه فاعل فعل مضمر ، أي أيستوي عجميٌّ وعربيٌّ . إذ لا يحذف الفعلُ إلا في مواضع تقدم بيانها .
فصل
قال المفسرون : هذا استفهام على وجه الإنكار ، لأنهم كانوا يقولون : المُنزَّلُ عليه عربي ، والمُنَزَّلُ أعجمي وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسار غلام عامر بن الحضرمي وكان يهوديًّا أعجمياً يكنى أبا فكيهة ، فقال المشركون : إنما يعلمه يسار فضربه سيده وقال : إنك تعلِّمُ محمداً فقال يسار : هو يعلّمني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال ابن الخطيب : نقلوا في نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت قالوا : هلا نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية . وعندي : أن أمثال هذه الكلمات فيها حذف عظيم على القرآن ، لأن يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض ، وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذه الطعن ادعاه كونه كتاباً منتظماً؟! فضلاً عن ادِّعاء كونه معجزاً؛ بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد على ما حكى الله عنهم من قولهم { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر } وهذا الكلام متعلق به أيضاً وجوب له والتقدير : إنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكانه لهم أن يقولوا : كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب؟ ويصح لهم أن يقولوا : قلوبنا في أكنة من هذا الكلام ، وفي آذاننا وقر منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه .
أما لمَّا نزل هذا الكتاب بلغة العرب وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة فيكف يُمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها وفي آذانكم وقر منها؟! فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جواباً عن ذلك الكلام بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم ، وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيبٌ جدًّا .
قوله : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } أي قل يا محمد هو يعني القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء هدى من الضلالة وشفاء لما في القلوب . وقيل : شفاءٌ من الأوجاع . قال ابن الخطيب : هذا متعلق بقولهم : { قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } . . الآية [ فصلت : 5 ] كأنه تعالى يقول : إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكمخ لا بلغة أجنبية عنكم فلا يمكنكم أن تقولوا قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا هذه اللغة فكل من أعطاه الله تعالى طبعاً مائلاً إلى الحق ، وقلباً داعياً إلى الصدق وهمَّةً تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين فإن هذا القرآن يكون في حقه هُدًى وشفاء . أما كونه هدى فإنه فإنه أذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى ، وذلك شفاء لهم من مرض الكفر والجهل ، وأما من غرق في بحر الخِذْلان وشغف بمتابعة الشيطان فكأنَّ هذا القرآن عليهم عَمًى ، كما قال : { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] أولئك يُنادون من كان بعيدٍ بسبب ذلك الحجاب الحائل بينه وبين الانتفاع ببيان القرآن وكل من أنصف ولم يتعسف علم أن التفسير على هذا الوجه الذي ذكرناه أولى مما ذكروه؛ لأن السورة نتصير من أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً منسوقاً نحو غرض واحد .
قوله : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون مبتدأ و « في آذانِهِم » خبره و « وَقْرٌ » فاعل ، أو « في آذَانِهِم » خبر مقدم و « وقر » مبتدأ مؤخر ، فالجملة خبر الأول .
الثاني : أن « وقراً » خبر مبتدأ مضمر ، والجملة خبر الأول ، والتقدير والذين لا يؤمنون هو وقر في آذانهم . لما أخبر عنه بأنه هدى لأولئك أخبر عنه أنه وقر في آذان هؤلاء وعمًى عليهم ، قال معناه الزمخشري . ولا حاجة إلى الإضمار مع تمام الكلام بدونه .
الثالث : أن يكون « الذين لا يؤمنون » عطفاً على « الذين آمنوا » و « وَقْرٌ » عطف على « هُدى » . وهذا باب العطف على معمولي عاملين وفيه مذاهب تقدم تحريرها .
قوله : « عَمًى » العامة على فتح الميم المنونة ، وهو مصدر لعَمِي يَعْمَى عَمًى ، نحو : صَدِيَ يَصْدَى صَدًى وهَوِيَ يَهْوَى هَوًى . وقرأ ابن عباس ، وابن عمر ، وابن الزُّبير وجماعةٌ عم بسكرهنا منونة اسماً منقوصاً ، وصف بذلك مجازاً . وقرأ عمرو بن دينار ، ورُبيت عن ابن عباس : « عَمِيَ » بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً . وفي الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه القرآن .
والثاني : أنه للوقر ، والمعنى يأباه و « في آذانهم » إن تجعله خبراً تعلق بمحذوف على أنه حال منه لأنه صفة في الأصل ، ولا يتعلق به لأنه مصدر ، فلا يتقدم معموله عليه وقوله : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } كذلك في قراءة العامة وأما في القراءتين المتقدمتين فيتعلق « على » بما بعده إذ ليس بمصدر . قال أبو عبيد : والأولى هي الوجه ، لقوله : { هُدًى وَشِفَآءٌ } وكذلك « عمى » وهو مصدر مثلهما ولو كان المذكور أنه هادٍ وشافٍ لكان الكسر في « عَمِيَ » أجود ، فيكون نعتاً لهما .
فصل
قال قتادة : عَمُوا عن القرآن وصمُّوا عنه ، فلا ينتفعون به . { أولئك ينادون من مكان بعيد } قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء .
وقيل : من دعي من كان بعيد لم يسمع وإن سمع لم يفهم فكذا حال هؤلاء ، وهذا مثل لقلّة انتفاعِهِمْ بما يُوعظُونَ بِهِ .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ } وجه تعلقه بما قبله كأنه قيل : إنا لما آتينا موسى الكتاب فقبله بعضهم و ردَّهُ آخرون فكذلك آتيناك هذا الكتاب ، فقبله بعضهم وهم أصحابك ، ورده آخرون وهم الذين يقولون : قلبونا في أكنة مما تدعوننا إليه . ثم قال : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } يعني في تأخير العذاب عنهم { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو يقوم القيامة { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع أي لفرغ من عذابهم وعجل إهلاكهم { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } من صدقك وكتابك « مُرِيبٍ » موقع لهم الريبة ، فلا ينبغي أن يعظم استيحاشك من قولهم : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } . ثم قال : { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } يعنى خفف على نفسك إعراضهم فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم وإن كفروا فضرر كفرهم يعود عليهم فالله سبحانه وتعالى يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } .
قوله : « فلنفسه » يجوز أن يتعلق بفعل مقدر أي فلنفسه عملهُ ، وأن كيون خبر مبتدأ مضمر أي فالعامل الصالحُ لنفسه . وقوله « فَعَلَيْهَا » مثله .
ثم قال : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } والكلام على نظيره قد تقدم في سورة آل عمران عند قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ آل عمران : 182 ] .
قوله ( تعالى ) : { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة } لما هدد الكفار بقووله : { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه يوم القيامة ، فكأن سائلاً قال : ومتى يكون ذلك اليوم؟ فقال تعالى : إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة وقت ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال : إليه يرد علم الساعة وهذه الكلمة تفيد الحصر ، أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله تعالى وكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله ، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين :
أحدهما : قوله : { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا } .
والثاني : قوله : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } .
قوله : { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ } ما هذه يجوز أن تكون نافية وهو الظاهر وأن تكون موصولة جوَّز ذلك أبو البقاء ، ولم يبين وجهه ، وبيانه أنها مجرورة المحمل عطف على الساعى أي ( علم الساعة ) وعلم التي تخرج ، و « مِنْ ثَمَراتٍ » على هذا حال ، أو تكون « مِن » للبيان ، و « مِن » الثانية لابتداء الغاية . وأما الثانية فنافية فقط . قال أبو البقاء : لأنه عطف عليها « وَلاَ تَضَعُ » ثم نقض النفي بإلا ولو كانت مبعنى الذي معطوف على الساعة لم يَجُزْ ذلك .
وقرأ نافعٌ وابن عامر « ثَمَراتٍ » ويقويه أنها رُسِمَتْ بالتاء الممطوطة والباقون ثمرة بالإفراد ، والمراد بها الجنس ، فإن كانت « ما » نافية كانت « مِنْ » مزيدة في الفاعل ، و إن كانت موصولة كانت للبيان كما تقدم . والأكمام جمع « كِمّ » بكسر الكاف؛ كذا ضبطه الزمخشري ، وهو ما يغطي الثمرة كجُفِّ الطَّلع . و قال الراغب : الكُم ما يغطي اليد من القميس وما يغطي الثمرة وجمعه : أكمامٌ ، وهذا يدل على أنه مضموم الكاف؛ إذ جعله مُشْتَرَكاً بين « كم » القميص ، و « كم » الثمرة ، ولا خلاف في « كُم » القميص بالضم فيجوز أن يكون في وعاء الثمرة لغتان ، دون « كم » القميص جمعاً بين قوليهما . وأما أَكمَةٌ فواحدها « كِمامٌ » كأزمَّةٍ وزمامٍ .
قال أبو عبيدة : أكمامها أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة و احدها كم وكمَّة . قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : يعنى الكُفُرَّى قبل أن تنشقَّ . { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي إليه يرد علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنِّتاج .
قوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي } أي بحسب زعمكم واعتقادكم . ( و ) ابن كثير ياء شُركائي . { قالوا آذَنَّاكَ } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : أسمعناك ، كقوله
{ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الإنشقاق : 2 ] ، يعني سمعت . وقال الكلبي : أعلمناك ، قال بان الخطيب : وهذا بعيد؛ لأن أهل القيامة يعملون أن الله تعالى يعلم الأشياء علماً واجباً ، فالإعلام في حقه محال .
قوله : { مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } هذه الجملة المنفية معلقة « لآذناك » ؛ لأنهما يمعنى أعلمناكَ ، قال :
4366 آذَنَتْنَا ببَيْنها أَسْمَاءُ ... رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ مِنْهُ الثَّواءُ
وتقدم الخلاف في تعليق أعلم . و « مِنْ » للغاية . والصحيح وقوعه سماعاً من العرب . وجوَّز أبو حاتم أن يوقف على « آذنَّاكَ » وعلى « ظنوا » ويبتدأ بالنفي بعدهما على سبيل الاستئناف . و « مِنّا » خبر مقدم . و « مِنْ شَهِيدٍ » مبتدأ ، ويجوز أن يكون « مِنْ شَهِيدٍ » فاعلاً بالجار قبله؛ لاعتماده على النفي .
فصل
في معنى الآية وجوه :
قيل : ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكاً لما عاينوا العذاب تبرأوا من الأصنام .
وقيل : معناه ما منا أحد يشاهدهم لأنهم ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم فلا يبصرونها في ساعة التوبيخ وقيل : هذا كلام الأصنام كأن الله يجيبها ، ثم إنها تقول : « مَا مِنَّا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ » بصحة ما أضافه إلينا من الشركة ، وعلى هذا التقدير فمعنى ضلالهم عنهم ( أنهم لا ينفعونهم وهي معنى قوله : { وَضَلَّ عَنْهُم ) مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ } [ فصلت : 48 ] .
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
قوله تعالى : { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } كقوله : « مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ » ومعناه : أنهم أيقنوا أنهم لا محيص لهم عن النار أي مهرب ، وهذا ابتداء كلام من الله تعالى .
قوله تعالى : { اَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير } . . . الآية لما بين تعالى من حال هؤلاء الكفار ( أنهم ) بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله في الدنيا تبرأُوا عن تلك الشركاء في الآخرة بين أن الإنسان في جميع الأوقات متغير الأحوال ، فإن أحسَّ بخير وقدرة تعاظم ، وإن أَحسَّ ببلاءٍ ومحنةٍ ذُلَّ . والمعنى أن الإنسان في حال الإقبال لا ينتهي إلى درجة إلا ويطلب الزيادة عليها ، وفي مجال الإدبار والحِرمان يصير آيساً قناطاً . وفي قوله { فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } مُبالغةٌ من وجيهن :
أحدهما : من طريق فعول .
والثاني : من طريق التكرار .
واليأس من صفة القلب ، والقنوط أن يظهر آثار اليأس في الوجه والأحوال الظاهر .
ثم بين تعالى أن الذين صار آيساً قانطاً لو عاودَتْهُ النعمة والدَّولة وهو قوله : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ } فِإنه يأتي بثلاثة أنواع من الأقوايل الفاسدة الموجبة للكفر والبعد عن الله .
فالأول : قوله { لَيَقُولَنَّ هذا لِي } وهو جواب القسم لسبقه الشرط ، وجواب الشرط محذوف كما تقدم تقريره .
وقال أبو البقاء : ليقولن جواب الشرط والفاء محذوفة . قال شهاب الدين ( رحمه الله ) وهو لايجوز إلا في شعر كقوله :
4367 مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا .. . .
حتى إنَّ المبرد يمنعه في الشعر ، ويروى البيت :
4368 مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ ... فصل
معنى قوله : « هذَا لي » أي هذا حقي وصل إِليَّ؛ لأني استوجبته بعلمي وعملي ، ولا يعلم المِسْكِنُ أن أحداً لا يستحق على الله شيئاً ، لأنه إن كان عارياً من الفضائل ، فلاكمه ظاهر الفساد ، وإن كان موصوفاً بشيء من الفضائل والصفات الحميدة فهي إنما حصلت بفضل الله تعالى وإحسانه ، فيثبتُ بهذا فساد قوله : إنما حصلت هذه الخيرات بسبب استحقاقي .
النوع الثاني من كلامه الفاسد : قوله : { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً } ، والمعنى أنه يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النُّفرة عن الآخرة فإذا آل الأمرُ إلى أحوال الدنيا يقول : إنها لي ، وإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول : وَمَا أظُنُّّ السَّاعَةَ قَائِمَة .
النوع الثالث : من كلامه الفساد : قوله : { وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } أي أن هذا الكافر يقول : لست على يقين من البعث وإن كان الأمر على ذلك ورُدِدْتُ إلى ربي إن لي عنده الحسنى أي الجنة ، كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة : ولما حكى الله عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال : { فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ } قال ابن عباس رضي الله عهما : لنوقفنّهم على مساوىء أعمالهم { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } وهذا في مقابلة قوله : { إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } .
ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضاً فقال : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي أعرض عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله . { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي تعاظم ، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع . ومعنى « عريض » كبير . والعرب تستعمل الطُّول والعَرْضَ في الكثرة ، يقال : أَطَاللَ فلانٌ الكَلاَم والدعاءَ وأعْرَضَ أي أَكثَرَ .
قوله تعالى : ( قلْ أرَأيْتُمْ ) تقدم الكلام عليها ، ومفعولها الأول هنا محذوف ، تقديره أرأيتم أنْفُسَكُمْ والثاني هو الجملة الاستفهامية .
فصل
ومعنى الآية إنكم لما سمعتم هذا القول القرآن أعرضتم عنه ، وما تأملتهم فيه وبالغتم في النُّفرةِ عنه حتى قلتم قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه وفي آذننا وقر ومن المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلاً وليس العلم فساد القول بالتوحيد والنبوة علماً بديهيًّا فقيل : الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً ، وأن يكون فساداً ، فتبقدير أن يكون صحيحاً كان إصراركم على دفعة من أعظم موجبات العقاب فيجب عليكم أن تتركوا هذه النفرة ، وأن ترجعوا إلى النظر والاستدلال فإن دَلَّ دليل على صحته قَبِلْتُموهُ ، وإن دل دليل على فساده تركتموه ، وقبل الدليل فالإصرار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل .
فقوله : { مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } موضوع موضع بيان حالهم وصفتهم .
ولما ذكر هذه الوجوه الكثرة في تقرير التوحيد والنبوة آجاب عن شبهات المشركين فقال : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } الآفاق جمع أفق وهو الناحية . نقل النَّوَوِيُّ في التهذيب قال أهل اللغة : الآفاق النَّواحِي ، الواحد أفُق بضم الهمزة والفاء ، وأُفْق بإسكان الفاء قال الشاعر ( رحمه الله ) :
4369 لَوْ نَالَ حَيٌّ مِنَ الدُّنيا بِمَنْزِلَةٍ ... أُفْقَ السَّمَاءِ لَنَالَتْ كَفُّهُ الأْفُقَا
وهو كأعناقٍ في عنق ، أُبْدِلَتْ همزته ألفاً . ونقل الراغب أنه يقال : أَفَقٌ بفتح الهمزة والفاء فيكون كجبلٍ وأجبالٍ . وأفَقَ فلانٌ أي ذهب في الآفاق . والآفِقُ الذي بلغ نهاية الكرم تشبيهاً في ذلك بالذهاب في الآفاق . والنسبة إلى اأفق أَفَقيّ بفتحهما . ويحتمل أن نسب إلى المفتوح ثم استغنوا بذلك عن النسبة إلى المضموم ، وله نظائر . قال النووي : قالوا : والنسبة إليه أُفُقيّ بضم الهمزة والفاء وبفتحهما لغتان مشهورتانِ .
فصل
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : معنى قوله سنريهنم آياتنا في الآفاق أي منازل الأمم الخالية وفي أنفسهم بالبلاء والأمراض . وقال قتادة : يعني وقائع الله تعالى في الأمم الخالية وفي أنفسهم يوم بدر . وقال مجاهد والحسن والسدي : ما يفتح الله من القُرى على محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين وفي أنفسهم : فتح مكة .
فإن قيل : حمل الآية على ( هذا ) الوجه بعيد؛ لأن أقصى ما في الباب أن محمداً صلى الله عليه وسلم استولى على البلاد المحيطة بمكة ثم استولى على مكة إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقاً فإنا نرى بعض الكفار قد يستولي على بلاد المسلمين وعلى مولكهم ( وهذا يدل على كونهم ) محقين .
فالجواب : أنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد عليه الصلاة والسلام على تلك البلاد على كونه محقاً في ادعاء النبوة ، بل يستدل به من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن أنه سيستولي عليها ويقهر أهلها وهذا إخبار عن الغيب ، وقند وقع مُخْبَره مطابقاً لخَبَرِهِ ، فيكون هذا إخباراً صدقاً عن الغيب فيكون معجزاً فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقاً . وقال عطاء وابن زيد : في الآفاق يعني أقطار السموات والأرض من الشمس والقمر والنجوم ، وآيات الليل والنهار ، والأضواء ، والظلال والظلمات والنبات والأشجار و الأنهار ، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة ، وبديع الحمكة ، في كيفية تكوين الأجنة في ظلمات الأرحام ، وحدوث الأعضاء العجيبة ، والتركيبات الغريبة ، كقوله : { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] يعني نريهم هذه الدلائل { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } من عند الله يعني محمداً صلى لله عليه وسلم ، وأنه مرسل من عند الله .
فإن قيل : هذا الوجه ضعيف ، لأ ، قوله تعالى { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا } يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك ، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد أطلعهم علهيا قبل ذلك فيعتذر حمل اللفظ على هذا الوجه .
فالجواب : أن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب ( التي أَوْدَعَهَا الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها فهو تعالى يطعلهم على تلك العجائب زماناً فزماناً؛ لأن كل أحد رأى بنية الإنسان وشاهدها ، إلا أن العجائب ) إلى أبدعها الله تعالى في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها ، والذي وقف على شيء منها كلَّما أزداد وقوفاً على تلك العجائب ازْدَاد يقينا وتعظيماً ، وكذلك التركيبات ( الفلكية أيضاً ) .
والأولى أن يقال : إن كان المراد بقوله : { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } وهو الرسول فقول مجاهد أولى وإن كان المراد به الدين والتوحيد فهذا أولى .
قوله : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } فيه وجهان :
أحدهما : أن الباء مزيدة في الفاعل ، وهذا هو الراجح ، والمفعول محذوف ، أي أَوَ لَمْ يكف ربُّك .
وفي قوله : { أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } وجهان :
أحدهما : أنه بدل من « بربك » فيكون مرفوع المحل ، مجرور اللفظ كمتبوعه .
والثاني : أن الأصل بأنه ، تم حذف الجار فجرى الخلاف .
الثاني من الوجهين الأولين : أن يكون « بِرَبَّكَ » هو المفعول و « أنه » وما بعده هو الفاعل ، أي أو لم يكف ربَّك شَهَادَته .
وقرىء : « إنَّه على كلِّ » « بالكسر » ، وهو على إضمار القول أو على الأستئناف .
فصل
اعلم أن قوله « بِرَبِّك » في موضع الرفع على أنه فاعل كما تقدم ومعناه : أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد ، أي شهيداً على الأشياء لأنه خلق الدلائل الدالة عليها .
وقال مقاتبل : أو لم يكفِ بربك شاهداً أن القرآن من الله عزَّ وجلَّ . قال الزجاج : معنى الكفاية ههنا أن الله عزَّ وجلَّ قد بين من الدلائل ما فيه كِفَاية .
قوله : { أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ } أي في شك من البعث والقيامة . وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن في مُرْيَة بضم الميم وقد تقدم أنها لغة في المكسورة الميم .
ثم قال : { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ } أي عالم بكل المعلومات ( التي لا نهاية لها فيعلم بواطن الكفر وظواهرهم ويجازي كل واحد على فعله ) .
فإن قيل : الإحاطة مشعرة بالنهاية ، وهذا يقتضي أن يكون معلومه مُتَنَاهِياً!
فالجواب : أن قوله : { بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطُ } يقتضي أن يكون عمله بكل شيء محيطاً أي بكلّ واحد من الأشياء وهذا يقتضي أن يكون واحدٌ منها متناهياً لا كون مجموعها متناهياً والله أعلم .
روى الثعلبي في تفسيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من قرأ حم السجدة أعطاه الله من الأجر بكل حرف منها عَشرَ حَسَنَاتٍ » .
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
قوله تعالى : « حم عسق » تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح .
وسئل الحُسينُ بنُ الفضل : لم قطع حم عسق ولم يقطع كهيعص فقال : لأنها سور أوائلها « حم » فجرت مجرى نظائرها . كأنَّ « حم » مبتدأ « عسق » خبره ، ولأنهما عدا آيتين وأخواتها مثل : كهيعص ، والمص والمر عدت آية واحدة . وقيل : لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص ، وأخواتها ، لأنها حروف التهجي لا غير .
واختلفوا في « حم » فأخرجها بعضهم من حيِّز الحروف ، وجعلها فعلاً . وقيل : معناه حُمَّ أي قضي ما هو كائن . روى عكرمة عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أنه قال : « ح » حلمه « م » مجده « ع » عمله ، « س » سناؤه ، « ق » قدرته أقسم الله بها . وقال شهرُ بن حوشب وعطاءُ بن أبي رباح : « ح » حرب يعِزُّ فيها الذليل ويذلُّ فيها العزيز من قريش « م » ملكُ يتحول مِنْ قوم إلى قوم « ع » عدوٌّ لقريش يقصدهم « س » سبيٌ يكون فيهم « ق » قُدرةُ الله النافذة في خلقه؛ ورُوِيَ عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أنه قال : ليس من نبي صاحب كمتاب إلا وقد أوحيت إليه حم عسق فلذلك قال : يُوحى إليك وإلى الَّذِين من قبلك وعلى هذا فقوله { الله العزيز الحكيم } تبيين للفاعل كأنه قال : من يوحي؟ فقيل : الله العزيزُ الحيكم كما سيأتي . وقرأ ابنُ عباس وابنُ مسعود حمَ سَق .
قوله : « كَذَلِكَ يُوحِي » القراء على يوحي بالياء من أسفل مبنيًّا للفاعل ، وهو الله تعالى ، والعزيز الحكيم نعتان ، والكاف منصوبة المحل إما نعتاً لمصدر ، أو حالاً من ضميره ، أي يوحي إيحاءً مثل ذلك الإيحاء .
وقرأ ابن كثير وتُرْوَى عن أبي عمرو يُوحَى بفتح الحاء مبنياً للمجهول وفي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :
أحدها : ضمير مستتر يعود على كذلك ، لأنه مبتدأ ، والتقدير مثلُ ذلك الإيحاء يُوحَى هو إليك . « فمِثْلُ ذَلِك » مبتدأ ، و « يُوحَى إِلَيْكَ » خبره .
الثاني : أن القائم مقام الفاعل « إليك » والكاف منصوبة المحل على الوجهين المقتدمين .
الثالث : أن القائم مقامه الجملة من قوله « اللهُ العزيزُ » أي يُوحى إليك هذا اللفظُ . وأصول البصريين لا تساعد عليه؛ لأن الجملة لا تكون فاعلةً ولا قائمةً مقامه . وقرأ أبو حيوة والأعمش وأبان نُوحي بالنون وهي موافقة العامة . ويحتمل أن تكون الجملة من قوله : { الله العزيز الحكيم } منصوبة المحل مفعولة بنُحي أي نُوحِي إليك هذا اللفظ ، إلا أنَّ فيه حكاية الجملة بغير القول الصريح .
و « يُوحِي » على اختلاف قراءته يجوز أن يكون على بابه من الحال والاستقبال فيتعلق قوله : { وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } بمحذوف لتعذر ذلك تقديره : « وأُحِي إلى الذَّين من قَبْلِكَ » وأن يكون يكون بمعنى الماضي ، وجيء به على صورة المضارع لغرضٍ وهو تصوير الحال .
قوله : « اللهُ العَزيزُ » يجوز أن يرتفع بالفاعلية في قراءة العامة ، وأن يرتفع بفعل مضمر في قراءة ابن كثير كأنه قيل : من يوحيه؟ فقيل : اللهُ العزيزُ ، كقوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ } [ النور : 36 ، 37 ] وقوله :
4370 لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... وقد مرَّ . وأن يرتفع بالابتداء ، وما بعده خبره ، والجملة قائمة مقام الفاعل على ما مر ، وأن يكون « العَزِيزُ الحَكِيمُ » خبرين ، أو نعتين ، والجملة من قوله : { لَهُ مَا فِي السماوات } خبر أول أو ثانٍ على حسب ما تقدم في « العَزِيزِ الحَكِيم » . وجوَّز أبو البقاء يكون « العَزِيزُ » مبتدأ ، و « الحكيم » خبره ، أو نعته و { لَهُ مَا فِي السماوات } خبره .
وفيه نظر؛ إذا الظاهر تبعيَّتُها للجلالة . وأنت إذا قلت : « جَاءَ زَيْدٌ العَاقِلُ الفَاضِلُ » لا تجعل العامل مرفوعاً على الابتداء .
فصل
الكاف في « كَذَلِكَ » معناه المثل و « ذَا » للإشارة إلى شيء سبق ذكره فيكون المعنى مثل حم عسق يوحي إليك وإلى الذين من قبلك ، وعند هذا حصل قولان :
أحدهما : ما نقل عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أنه قال : لا نبي صابح كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عسق كما تقدم .
قال ابن الخطيب : « وهذا عندي بعيد » .
والثاني : أن يكون مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحى إليك وإلى الذين من قبلك ، وهذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد ، وتقبيح أحوال الدنيا ، والترغيب في أمور الآخرة .
قال الزمخشري : لم يقل : أُوحِيَ إليك ولكن قال : يوحى إليك على لفظ المضارع ليدل على أن أيحاء مثله عادة وكونه عزيزاً بدل على كونه قادراً على ما لانهاية له وكونه حكيماً يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات غنياً عن جميع الحاجيات كما تقدم بيناه في أول سورة « حم » المؤمن .
وقوله : { لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } يدل على كونه موصوفاً بالقدرة الكاملة النافذة في جميع أجواء السموات والأرض على عظمها وسعتها بالإيجاد والإعلام وأن ما في السموات وما في الأرض ملكه وملكه ، وهو العَلِيّ أي المتعالي عن مُشابهةِ المُمْكِنَات العظيم بالقدرة والقهر والاستعلاء .
قوله تعالى : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ } تقدم الكلام فيه مُشْبعاً في مريم ، وإلا أن الزمخشري زاد هنا وروى يونس عن أبي عمرو قراءةً غريبةً تتفطَّرن بتاءين مع النون .
ونظيرها حرف نادر ، رُوِيَ في نوادر ابن الأعرابي : « الإِبل تتشمَّمْنَ » .
قال أبو حيان : والظاهر أن هذا وهمٌ ، لأن ابن خالويه قال في شاذِّ القرآن ما نصه « تَنْفَطِرْنَ » بالتاء والنون يُونسُ عن أبي عمرو .
قال ابن خالويه : وهذا حرف نادر؛ لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث لا يقال : النساء تقُمْنَ ، ولكن يَقُمْنَ ، والوالِدَاتُ يُرْضِعنَ ولا يقال : تُرضِعن . وقد كان أبو عمر الزَّاهِدُ روى في نوادر ابن الأعرابي : الإبل تتشمَّمْنَ فأنكرناه ، فقد قواه الآن هذا .
قال أبو حيان : فإن كانت نسخُ الزمخشري متفقةً على قوله : بتاءين مع النون « فهو وهم ، وإن كان في بعضها بتاء مع النو كان موافقاً لقول ابن خالويه وكان بتاءين تحريفاً من النساخ وكذلك كتبهم تتفطَّرن وتَتشمَّمْنَ بتاءين . انتهى .
قال شهاب الدين : كيف يستقيم أن يكو ( ن ) كتبهم تتشمَّمن بتاءين وهماً وذلك لأن ابن خالويه أورده في معرض الندرة والإنكار حتى يقوى عنده بهذه القراءة ، وإنما يكون نادراً منكراً بتاءين ، فإنه حينئذ يكون مضارعاً مسنداً لضمير الإبل ، فكان من حقه أن يكون حرف مضارعته ياء منقوطة من أسفل ، نحو : النِّساءُ يقُمن فكان ينبغي أن يقال : الإبل يتشمَّمن بالياء من تحت ثم بالتاء من فوق ، فلما جاء بتاءين كلاهما من فوق ظهر نُدُوره وإنكاره ، ولو كان على ما قال أبو حيان : إن كتبهم بتاءين وهماً بل كان ينبغي كتبه بتاء واحدة لما كان فيه شذوذ ولا إنكار ، لأنه نظير : النِّسوة تدحرجْنَ فإنه ماض مسندٌ لضمير الإناث ، وكذا لو كتبت بياء من تحت وتاء من فوق لم يكن فيه شذوذ ، ولا إنكار .
وإنما يجيء الشذوذ والإنكار إذا كان بتاءن منقوطتين من فوق ، ثم إنه سواء قُرِىء تتفطَّرن بتاءين أو بياء ونون ، فإنه نادر لما ذكر ابن خالويه ، وهذه القراءة لم يقرأ بها في نظيرتها في سورة مريم .
قوله : » مِنْ فَوْقِهِنَّ « في هذا الضمير ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عائد على السموات ، أي كل واحدة منها تتفطَّرُ فوق التي تليها من قول المشريكن : { اتخذ الله وَلَداً } [ الكهف : 4 ] كما في سورة مريم ، أي يبتدىء انفطارهُنَّ من هذه الجهة » فِمَنْ « لا بتداء الغاية متعلقة بما قبلها .
الثاني : أنه يعود على الأرضين؛ لتقدم ذكر الأرض .
الثالث : أنه يعود على فرق الكفار والجماعات الملحدين . قاله الأخفش الصغير . وأنكره مكي وقال لا يجوز ذلك في المذكور من بني آدم ، وهذا لا يلزم الأخفش فإنه قال على الفرق والجماعات فراعى ذلك المعنى .
فصل
قال الزمخشري : كلمة الكفر إنَّما جاءت من الذين تحت السموات ، وكان القياس أن يقال : ينفطِرن من تحتهن ( أي ) من الجهة التي ( تحت ) جاءت منها الكلمة ، ولكن بُولغ في ذلك فجعلت مؤثرة مِنْ جهة الفوقِ ، فكأنه قيل : يكون ينفطرن من الجهة التي فوقهنَّ ، دع الجهة التي تحتهن .
ونظيره في المبالغة ، قوله تعالى : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود } [ الحج : 19 ، 20 ] . فجعل مؤثراً في أجزائهم الباطنة .
وقال ابن الخطيب : يعني من فوقهن أي من فوق الجهة التي حصلت هذه السموات فيها ، وتلك الجهة هي فوق ، فقولهن : من فوقهن أي من الجهة الفوقانيَّة التي هُنَّ فيها .
قوله : { والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مُفيضاً لكُلِّ الخيرات .
قوله : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض } أي من المؤمنين كما حكى عنهم في سورة المؤمن فقال : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [ غافر : 7 ] .
فإن قيل : ( قوله ) : ويستغفرون لمن في الأرض عام ، فيدخل فيهم الكفار وقد لعنهم الله تعالى فقال : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } [ البقرة : 161 ] فيكف ( يكونون ) لا عنين لهم ومستغفرين لهم؟! قال ابن الخطيب : والجواب من وجوه :
الأول : أنه عام مخصوص بآية المؤمن كما تقدم .
الثاني : أن قوله { لِمَن فِي الأرض } لا يفيد العموم؛ لأنه ( لا ) يصح أن يقال : إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال : إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان صريحاً في العموم لما صحَّ ذلك .
الثالث : يجوم أن يكون المراد من الاستغفار أنه لا يُعاجلهم بالعقاب ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] إلى أن قال : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ فاطر : 41 ] .
الرابع : يجوز أن يقال : إنهم يستغفرون لكل من في الأرض ، أما في حق الكفار فبطلب الإيمان لهم وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم فإنا نقول : اللهم أهدش الكفار ، وزيِّن قلوبهم بنور الإيمان وأَزِل عن خواطرهم وحشة الكُفْرِ ، وهذا استغفار لهم في الحقيقة .
فصل
قال ابن الخطيب : قوله : « ويستغفرون لمن في الأرض » يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم ولو وجد منهم معصية لا ستغفروا لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض ، فحيث لم يذكر الله عزَّ وجلَّ استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مُبرَّأُون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لهم ذنوب ، والذين لا ذنب لهم ألبتة أفضل ممن له ذنب ، وأيضاً فقثوله : « ويستغفرون لمن في الأرض » يدعل على أنهم يستغفرون للأنبياء عليه الصلاة والسلام لأنهم من جملة مَنْ في الأرض ، وإذال كانوا مستغفرين للأنبياء عليه الصلاة والسلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم . ثم قال تعالى : { أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم } وهذا تنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر ، إلا أن المغفرة المُطْلَقة لله تعالى وهذا يدل على أنه تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة .
قوله : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } أي جعلوا له شركاء وأنداداً الله حفيظٌ عليهم أي رقيب عليهم ويحفظ أعمالهم ، وأقوالهم ويُحصيها ليجازيهم بها ، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم } يا محمد « بِوَكِيل » أي لم يوكلك بهم ولا أمرهمه إليك إنَّما أنت مُنذرٌ .
قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً } في قرآناً وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول أوحَيْنَا ، والكاف للمصدر نعتاً أو حالاً .
الثاني : أنه حال من الكاف ، و الكاف هي المفعول « لأَوْحَيْنَا » أي أوحينا مثل ذلك الإيحاء ، وهو قرآن عربي وإليه عربي وإليه نحا الزمخشري . وكون الكاف اسماً في النثر مذهب الأخفش .
فصل
قال ابن الخطيب : قوله وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء سبق ذكره ، وليس ههنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } يعني أوحينا إليك أنك لست حفيظاً عليهم ولست وكيلاً عليهم وكذلك أوحينا إلريك قرآناً عربياً ليكون نذيراً لهم .
قوله : { أُمَّ القرى } أي أهلَ أُمِّ القرى؛ لأن البلد لا تعقِلُ .
قوله : { وَمَنْ حَوْلَهَا } عطف على أهل المقدر من قبل أم القرى والمفعول الثاني محذوف أي العذاب .
وقرىء : ليُنذر بالياء من تحت أي القرآن ، أم القرى أصل القرى بمعنى مكة ، وسمي بهذا الاسم إجلالاً؛ لأن فيها البيت ومقامَ إبراهيِم . والعرب تسمي أص لكلٍّ شيء أمةً ، حتى يقال : هذه القصيدة من أُمَّهاتِ قصائد فلانٍ ومعنى « مَنْ حَوْلَها » أي قرى الأرض كلها من أهل البدو والحضر وأهل المَدَر والوَبَر . والإنذار : التخويف .
قوله : { وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع } أي تنذرهم بيوم الجمع ، وهو يوم القيامة ، جمع الله فيه الأولين والآخرين وأهل السموات والأرض . وقيل : المراد تجمع الأرواح بالأجساد .
وقيل : يجمع كبين العامل وعمله وقيل : يجمع بين الظالم والمظلوم .
قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } إخبارٌ فهو مستأنف ، ويجوز أن يكون حالاً من « يَوْمِ الجَمْعِ » وجعله الزَّمخشري اعتراضاً وهو غير ظاهر صناعة إذ لم يقع بين مُتلازمين .
قوله : « فَرِيقٌ » العامة على رفعه بأحد وجهين :
إمَّا الابتداء ، وخبره الجار بعده ، وساغ هذا في النكرة ، لأنه مقام تفصيل كقوله :
4371 . ... فَثَوْبٌ نَسِيتُ وثَوْبٌ أَجُرٌّ
ويجوز أن يكون الخبر مقدراً تقديره منهم فريق . وساغ الابتداء بالنكرة لشيئين : تقديم خبرها جار ومجروراً ووصفها بالجار بعدها ، والثاني : أنه خبر ابتداء مضمر إي هم أي المجموعون ، دَلَّ على ذلك يوم الجمع .
وقرأ زيدٌ بن عليٍّ : فريقاً وفريقاً ، نصباً على الحال من جملة محذوفة أي افتَرَقُوا أي المجموعون .
وقال مكي : وأجاز الكسائي والفراءُ النصب في الكلام في « فريقاً » على معنى : تُنذر فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير يوم الجمع وكأنه لم يطلع على أنها قراءة .
وظاهر نقله عن هذين الإِمامين أنهما لم يطلعا ( عليها ) وجعل « فريقاً » مفعولاً أول لتنذر ، « ويوم الجمع » مفعولاً ثانياُ .
وفي ظاهره إشكالٌ وهو أنَّ الإنذار لا يقع للفريقين وهما في الجنة وفي السعير إنما يكون الإنذار قبل استقرارهما فيهما . ويمكن أن يُجَابَ عنه بأن المراد مَنْ هو من أهل الجنة ومن أهل السعير ، وإن لم يكن حاصلاً فيهما وقت الإنذار ، و « فِي الجَنَّةِ » صفة « فَرِيقاً » أو متعلق بذلك المحذوف .
فإن قيل : يوم الجمع يقتضي كون القوم مجتمعين ، والجمع بين الصنفين محال! .
فالجواب : أنهم يجتمعون أولاً ثم يصيرون فريقين .
قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال ابن عباس ( رضي اللهُ عَنْهُمَا ) على دين واحدٍ وقال مقاتل : على ملة الإسلام ، كقوله : { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } [ الأنعام : 35 ] { ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } أي في دين الإسلام « والظَّالِمُونَ » الكافرون { مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ } يرفع عنهم العذاب « وَلاَ نَصِير » يمنعهممن النار وهذا تقرير لقوله تعالى : { حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي أنت لا تقدر أن تحملهم على الإيمان فلو شاء الله لفعله؛ لأنه أقدر منك ، ولكنه جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً .
قوله تعالى : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } أم هذه ( هي ) أم المنقطعة فتقدر ببل التي للانتقال وبهمزة الإنكار ، أو بالهمزة فقط . واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ثم يقال بعده لمحمد عليه الصلاة والسلام : لَسْتَ عَلَيْهمْ بِوَكِيلٍ أي لا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان فإن الله لو شاء لفعله أعاد ذلك الكلام على سبيل الاستنكار . ثم قال : { فالله هُوَ الولي } ، قال ابن عباس ( رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ) : وليك يا محمد ، وولي من اتبعك ، والفاء جواب شرط مقدر كأنه قال : إنْ أَرَادُوا أولياء بحق فاللهُ هو الوليّ ، لاَ وليَّ سواه؛ لأنه يحيي الموتى { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء قاله الزمخشري . وقيل : الفاء عاطفة ما بعدها على ما قبلها .
قوله تعالى : { وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله } وجه النظم أنه تعالى كما منع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمل الكفار على الإيمان قهراً فكذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في الخُصُوماتِ والمنازعات فقال : { وَمَا اختلفتم فِيهِ } ( من شيء ) من أمر الدين فحكمه إلى الله يقضي فيه ويحكم يوم القيامة بالفصل الذي يُزيل الرَّيب ، وقيل : وما اختلفتُم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم ولا يُؤْثروا حكومة غيره على حكومته .
وقيل : ما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور التي لا يصل تكليفكم ولا ط ريق لكم إلى علمه ، فقولوا الله أعلم كما قال تعالى :
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] .
قوله : { فَحُكْمُهُ إِلَى الله } إما أن يكون المراد فحكمه مستفاد من نص الله عليه ، أو المراد فحكمه مستفاد من القياس على مان نص الله عليه ، والثاني باطل ، لأنه يقتضي كون كل الأحكام مثتبة بالقياس وأنه باطل فتعين الأول ، فوجب كون كل الأحكام مثبتة بالمعنى ، وذلك ينفي العمل بالقياس .
فإن قيل : لايجوز أن يكون المراد فحكمه معروف من بيا الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو القياس؟ .
فالجواب : أن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف والرجوع إلى القياس يقوي حكم الاختلاف ولا يوضحه فوجب أن يكون الواجب هو الرجوع إلى نص الله تعالى .
قوله : { ذَلِكُمُ الله } أي الذي يحكم بين المختلفين { رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في رفع كيد الأعداء وفي طلب كُل خير { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي أرجع إليه في كل المهمات ، وهذا يفليد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه .
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
قوله تعالى : { فَاطِرُ السماوات والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } .
قوله تعالى : « فاطر » العامة على رفعه خبراً « لذلكم » ، أو نعتاً « لربي » على محض إضافته و « عليه توكلت » معترض على هذا ، أو مبتدأ خبره « جعل لكم » أو خبر مبتدأ مضمر أي هو .
وقرأ زيد بن على « فاطِر » بالجر ، نعتاً للجلالة في قوله : « إلَى اللهِ » وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء في « عَلَيْهِ » أو « إلَيْهِ » .
وقال مكيُّ : وأجار الكسائي النصب على البدلِ ، وقال غيره : على المدح ويجوز في الكلام الخفض على البدل من الهاء كأنه لم يطلع على أنها قراءة زيد بن علي .
قوله : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } قيل : معناه : جعل لكم من أنفسكم أزواجاً أي مثل خلقكم ، وأزواجاً أي حلائل ، وقيل معنى من أنفسكم أي خلق حوّاء نم ضِلع آدم ، { وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } أي أصنافاً ذكوراً وإناثاً .
قوله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي يكثركم . وقوله : « فيه » يجوز أن تكون « في » عَلَى بَابها ، والمعنى يكثركم في هذا التدبير ، وهو أن يجعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد . والضمير في « يذرأكم » للمخاطبين والأنعام ، إلا أنه غلب فيه العقلاء من وجهين :
أحدهما : أن غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء .
الثاني : أنه غلب جانب المخاطبين على الغائبين .
قال الزمخشري : وهي من الأحكام ذات العلَّتين . قال أبو حيان : وهو اصطلاح غريب يعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا . ثم قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى يذرأكم في هذا التدبير وهلا قيل : يذرأكم به؟ قلت : حعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير ، ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] . وقيل : إنها للسببيّة كالباء أي يكثركم بسببه ، والضمير يعود على الجعل أو للمخلوق .
وقيل : يذرأكم فيه أي يخلقكم في الرحم . وقيل : في البطن .
قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } في هذه الآية أوجه :
أشهرها : أن الكاف زائدة في خبر ليس ، و « شيء » اسمها ، والتقدير : ليس شيءٌ مثله . قالوا : ولولا ادعاء زيادتها للزم أن يكون له مثل ، وهو محال؛ إذ يصير التقدير على أصالة الكاف : ليبس ( مِثْلَ ) مثله شيء فنفى المماثلة عن مثله ، فثبت أن له مثلاً لا مثل لذلك المثل ، وهذا محال تعالى الله عن ذلك .
وقال أبو البقاء : لو لم تكن زائدة ، لأفضى ذلك إلى المحال؛ إذ كان ( يكون ) المعنى أن له مثلاً وليس لمثله مثل ، وفي ذلك تناقض؛ لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل وهو هو ، مع أن إثبات المثل لله تعالى محال .
وهذه طريقة حسنة في تقرير زيادة الكاف ، وفيها حسن صناعةٍ .
الثاني : أن « مثل » هي الزائدة كزيادتها في قوله تعالى : { بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] قال الطبريُّ : كما زيدت الكاف في قوله :
4372 وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفِينْ ... وفي قوله :
4373 فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُول ... وهذا ليس بجيد ، لأن زيادة الأسماء ليست بجائزة ، وأيضاً يصير التقدير : ليس كهو شيء . ودخول الكاف على الضمائر لا يجوز إلا في شعر .
الثالث : أن العرب تقول : « مِثْلُكَ لاَ يَفْعَلُ كَذَا » يعنون المخاطب نفسه؛ لأنهم يريدون المبالغة في نفي الوصف عن المخاطب فينفونها في اللفظ عن مثله ، فثبت انتفاؤها عنه بدليلها ومنه قول الشاعر ( رحمة الله عليه ) :
4374 عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ المَرْءُ نَفْسَهُ ... وَإِنْ بَاتَ مِنْ لَيْلَى عَلَى النَّاسِ طَاوِيَا
وقال أوس بن حجر :
4375 ... ولَيْسَ كَمِثْلِ الفَتَى زُهَيْر
خَلْقٌ يُوَازِيهِ فِي الفَضَائِلِ ... وقال آخر :
4376 وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِيلِ ... تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ
وقال آخر :
4377 سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذَا أَبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ ... فَمَا كَمِثْلِهِم في النَّاس مِنْ أَحَدِ
قال ابن قتيبة : العرب تٌقِيمُ المِثْلَ مُقَامِ النَّفْس فتقول : « مِثْلِي لاَ يُقَالُ لَهُ هَذَا » أي أنا لا يقال لي . قيل : ونسبة المثل إلى من لا مثل له قولك : فلانٌ يده مبسوطةٌ ، يريد : أنه جواد ، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له كقوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] .
الرابع : أن يراد بالمثل الصفة ، وذلك أن المثل بمعنى المثل ، والمثل الصفة كقوله { مَّثَلُ الجنة } [ محمد : 15 ] ، فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من التي لغيره ( وهو مَحْمِلٌ سَهْلٌ ) .
فصل
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) معناه ليس له نظير « وهو السميع البصير » أي سامعاً للمسموعات بصيراً للمرئيات .
فإن قيل : قوله : { وهو السميع البصير } يفيد الحصر ، فما معنى هذا الحصر مع العباد أيضاً موصوفون بكمونهم سميعين بصيرين؟! .
فالجواب : « السمعي البصير » لفظان مشرعان بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال والكمال في كل الصفات وليس إلا الله ، فهذا هو المراد من هذا الحصر .
قوله تعالى : { لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } أي مفاتيح الرزق في السموات والأرض ، قال المفسرون : مفاتيح السموات : الأمطار . ومقاليد الأرض : النبات وتقدم الكلام على المقاليد في الرمز . { يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } لأن مفاتحي الأرزاق بيده { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ } من البسط والتقدير « عَلِيمٌ » .
قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين . . . } الآية لمَّا عظم وحيه إلى محمد عليه الصَّلاة والسَّلام بقوله : { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } أي بين لكم من الدين يا أصحاب محمد ما وصى به نوحاً وهو أول أنبياء الشريعة .
قال مجاهد : أوصيناك وإياه يا محمد ديناً واحداً { والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } من القرآن وشرائع الإسلام { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى } إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم كانوا أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة .
واختلوفا في الموصى به ، فقال قتادة : تحليل الحلال وتحريم الحرام ، وقال الحكم : تحريم الأمهات والبنات والأخوات . وقال مجاهد : لم يبعث الله تعالى نبياً إلى وهداه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإقرار لله بالطاعة ، فذلك دينه الذي شرع لهم .
وقيل : هو التوحيد و البراءة من الشرك . وقيل : هو ما ذكر من بعد في قوله : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } بعث الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة .
فصل
قال ابن الخطيب : في لفظ الآية إشكالات :
أحدهما : قال في أول الآية : { مَا وصى بِهِ نُوحاً } وفي آخرها : { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ } وفي وسطها { والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } فما فائدة هذا التفاوت؟
وثانيها : ذكر نوحاً على سبيل الغيبة فقال : { مَا وصى بِهِ نُوحاً } وقال { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ } .
وثالثها : تقدير الآية شرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك؟ وهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد ، وهو مشكل ، وهذه مضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها بالجملة .
واعلم أن المقصود من الآية أن يقال : شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته ، فيجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام؛ لأنها مختلفة متفاوتة ، قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] فوجب أن يكون المراد منه ( الأمور ) التي لا تخلتف باختلاف الشرائع ، وهو الإيمان بالله ، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ( وأصول الدين ) .
فصل
استدل بعضهم بقوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر متعبداً بشريعة نوح عليه الصَّلاة والسَّلام ، وأجيب : با ، ه عطف عليه سائر الأنبياء ، فدل ذلك على أن المراد هو الأخذ بالشريع المتفق عليها بين الكل .
قوله : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين } يجوز فيها أوجه :
أحدها : أن تكون مصدرية في محل رفع على خبر مبتدأ مضمر ، كأنه قيل : وما ذلك المشروع؟ فقيل : هو إقامة الدين المشروع توحيد الله .
الثاني : أنها في محل نصب بدلاً من الموصول ، كأنه قيل : شرع لكم ما وصَّى به نوحاً توحيد الله .
الثالث : أنها في محل جر بدلاً من الدين .
الرابع : أنها في محل جر أيضاً . بدلاً من الهاء .
الخامس : أن تكون مفسِّرة؛ لأنه قد تقدمها ما هو بمعنى القول .
قوله : { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } من التوحيد ، ورفض الأوثان .
قوله : « الله يَجْتَبِي » أي يصطفي { إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ } يهدي إليه من يشاء يصطفي لدينه من عباده من يشاء { ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } يقبل إلى طاعته . والاجتباء يدل على الضم ومنه : جبى الخَراجَ واجْتَبَى الماء في الحوض فقوله : « الله يجتبي » أي يضم إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة .
فصل
احتج نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : إنه تعالى أخبر بأن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحيث لا يفضي إلى الاختلاف والنزاع ، والله تعالى ذكر في معرض المنَّة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة ، المعلوم أن فتح باب القياس يُفْضِي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة فإن الحسَّ شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على القياس تفرقوا تفرقاً لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى قيام القيامة ، فوجب أن يكون ذلك محرماً .
فصل
اعلم أنه تعالى لما بين أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه كان لقائل أن يقول : فلماذا نجدهم متفرقين؟ فِأجاب بقوله : { وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ } يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة ، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة ، فحملتهم الحميَّة النَّفسانية الطبيعية ، على أن ذهبت كل طائفة إلى مذهب ، ودعوا الناس إليه ، وقبحوا ما سواه طلباً للذكر والرياسة فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف .
ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل ، إلا أنَّه تعالى أخَّر عنهم ذلك العذاب لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمًّى ، أي وقتاً معلوماً وهذا معنى قوله : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ } . والأجل المسمَّى قد يكون في الدنيا ، وقد يكون في الآخرة ، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة ، فقال ابن عباس والأكثرون : هم اليهود والنصارى ، لقوله تعالى في آل عمران : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ } [ آل عمران : 19 ] .
قوله في سورة « لم يكن » : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة } [ البينة : 4 ] . وقيل : هم العرب ، وهذا باطل ، لما تقدم ، لأن قوله تعالى بعد هذه الآية : { وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ } أي من بعد أنبيائهم . وقيل : من بعد الأمم الخالية { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } أي من كتابهم . وقيل من محمد صلى الله عليه وسلم و « مُرِيبٍ » صفة الشك ، أي لا يؤمنون به حق الإيمان .
قوله : « أُورِثُوا : قرأ زيد بن علي : وُرِّثُوا بالتشديد مبنياً للمفعول .
قوله تعالى : { فَلِذَلِكَ فادع واستقم كَمَآ أُمِرْتَ } في اللام وجهان :
أحدهما : أن تكون بمعنى » إلى « أي فإلى ذلك الدين فادع واستقم ، وهو الاتفاق على الملة الحنيفية ، » واسْتَقِمْ « عليها ( أي على الدين الذي أمَرَكَ به ) كما أمرك الله { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } المختلفة الباطلة .
والثاني : أنها للعلة ، أي لأجل التفرق والاختلاف ادع للدين القيم { آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ } أي بأيِّ كتابٍ صحَّ أن الله أنزله يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة .
قوله : { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ } يجوز أن يكون التقدير : وأمرت بذلك لأعدل بينكم في الحكم ، وقيل : أمِرْتُ أنْ أَعْدِلَ ، فاللم مزيدة . وفيه نظر لأنك بعد زيادة اللام تحتاج إلى تقدير حرف أي بأن أعدل .
فصل
قال القفال : معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي أو أنفسكم بأن آمركم بما لا أعلمه أو أخالفكم إلى ما لا أنهاكم عنه ، لكني أسوي بينكم وبين نفسي كذلك أسوي بين : أكابركم وأصاغركم في الحكم . وقيل معناه : لا أضيف عليكم بأكثر مما أفترض الله عليكم من الأحكام .
قوله : { الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } يعني إلهنا واحد ، وإن ختلفت أعمالنا ، فكلُّ يُجازَى بعمله ، « لا حجَّة » ، لا خصومة ، « بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ » . نسختها أية القتال ، وإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة .
قال ابن الخطيب : ومعنى الآية أنه إله الكل واحد ، وكل واحد مخصوص بعمل نفسه ، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه فإن الله تعالى يجمع بين الكل يوم القيامة ويجازيه على عمله .
فإن قيل : كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟! فالجواب : هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق على صحته بين كل الأنبياء ودخل فيه التوحيد ، وترك عبادة الأصنام والإقرار بنبوة الأنبياء وبصحة البعث والقيامة فلمَّا لم يقبلوا هذه الدين فات الشَّرط فيفوت المشروط .
واعلم أن قوله تعالى : { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } يجرى مجرى محاجَّتهم ، بدليل أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجَّة ، فلو كان المراد من هذه الآية تحريم المحاجة لزم كونها محرمةً لنفسها ، وهو متناقض . وأيضاً لولا الأدلة لما توجه التكليف ، وأيضاً : أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صلى الله عليه وسلم . وإنما تركوا تصديقه عناداً فبين تعالى أنه حصل الاستغناء عن محاجَّتهم؛ لأنهم عرفوا صدقه ، ولا حاجة معهم إلى المحاجَّة ألبتة .
ومما يقوي عدم تحريم المحاجة قوله : { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] وقوله : { قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [ هود : 31 ] وقوله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] .
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
قوله : { والذين يُحَآجُّونَ } ( مبتدأ ، و « حجتهم » ) مبتدأ ثانٍ و ( داحضة ) خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول . وأعرب مكيٌّ : حجتهم بدلاً من الموصول بدل اشتمال والهاء في « لَهُ » تعود على الله تعالى ، أو على الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام أي من بعد ما استجاب الناس لله أو من بعد ما استجاب الله لرسوله حين دعا على قومه . وقال ابن الخطيب : يعود على « الدين » أي من بعد ما استجاب النَّاس لذلك الدين .
فصل
المعنى والذين يخاصمون في دين الله نبيَّه . وقال قتادة : هم اليهود ، قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم ، فنحن خيرٌ منكم ، فهذه خصومتهم من بعد ما استجاب له الناس ، فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته « حجتهم داحِضةٌ » خصومتهم باطلة « عِنْدَ رَبِّهِمْ » قال ابن الخطيب : تلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا : ألستم تقولون إن الأخذ بالمتفق عليه أولى بالأخذ من المختلف فيه فنبوة موسى عليه الصَّلاة والسَّلام وحقيقة التوراة معلومة بالاتفاق ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ليست متفقاً عليها فوجب الأخذ باليهودية ، فبين تعالى فساد هذه الحجة ، وذلك لأن اليهود أجمعوا على أنه إنما وةجب الإيمان بموسى عليه الصَّلاة والسَّلام لأجل ظهور المعجزات على قوله وهاهنا نظهرت المعجزات على وفق قول محمد صلى الله عليه وسلم ، واليهود شاهدوا تلك المعجزات ، فإن كان ظهور المعجزة يدل على الصدق فهاهنا يجب الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنوته بظهور المعجزات؛ لأنه يكون متناقضاً ، ولما قرر ( الله تعالى ) هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة فقال : { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة .
قوله تعالى : { الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان } قال قتادة ومجاهد ومقاتل : سمي العدل ميزاناً؛ لأن الميزان آلة للإنصاف والتسوية . قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) أمر الله تعالى بالوفاء ونهى عن البخس .
ومعنى الآية أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على الدلائل والبيِّناتم وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم وأنهم لا يعلمون أن القيامة حق يفاجئهم ، ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في النظر والاستدلال ، ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد . ولما كان الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام يهددهم يوم القيامة ولم يروا لذلك أثراً قالوا على سبيل السخرية متى تقوم الساعة؟ وليتها قامت حتى يظهر لنا الحقّ أهو الذي نحن عليه أم الذي عليه محمد وأصحابه؟! .
قوله : { لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } إنما ذكر « قريب » وإن كان صفة لمؤنث لأن الساعة في معنى الوقت أو البعث أو على معنى النَّسب أي ذات قُرْبٍ ، أوعلى حذفق مضاف ، أي مجيء الساعة .
وقيل للفرق بينها وبين قاربة النسب . وقيل : لأن تأنيثها مجازي نقله مكي . وليس بشيء ، إذ لا يجوز : الشمسُ طالعٌ ، ولا القِدْرُ فائِرٌ ، وجملة الترجي أو الإشفاق معلِّقة للدراية . وتقدم مثله آخر الأنبياء .
فصل
قال مقاتل : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا مستهزءين : متى تكون الساعة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } ظناً منهم أنهم غير آتية { والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ } خائفون { مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق } أي أنها آتية لا ريب فيها ، ثم قال : { أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ } يخاصمون . وقيل : يدخلهم المرية والشك في « وُقُوع الساعة » لفي ضلالٍ بعيدٍ؛ لأن استيفاء حقِّ المظلوم من الظالم واجب في العدل فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله عز وجل ، وهذا من أمحل المحالات ، فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالاً بعيداً .
قوله تعالى : { الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : حفيٌّ بهم . وقال عكرمة : بارٌّ بهم . وقال السديّ : رفيق بهم . وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم بدليل قوله : { بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } وكل من رزقه الله من مؤمن وكافرٍ وذي روحٍ فهو ممَّن يشاءُ الله أن يرزقه .
قال جعفر الصادق : اللطيف في الرزق من وجهين :
أحدهما : أنه جعل رزقك من الطيبات .
الثاني : أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة .
و « هو القوي » القادر على ما يشاء « العزيز » الذي لا يغالب .
فصل
إنما حسن ذكر هذا الكلام هاهنا؛ لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة ، فكان ذلك من لطف الله ( تعالى ) بعباده ، وأيضاً فالمتفرقون استوجبوا العذاب الشديد . ثم إنه تعالى آخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضاً من لطف الله تعالى ، فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم ( و ) دفع أعظم المضارِّ عنهم لا جرم حسن ذكره هاهنا .
قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ . . . } الآية الحرث في اللغة الكسب ، أي من كان يريد بعمله الآخرة نزد له في حرثه بالتضعييف بالواحد عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة . قال مقاتل . وقيل : معناه إنا نزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه .
وقال الزمخشري : إنه تعالى سمَّى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز . واعلم أنه قد تقدم أن كون الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً مجزوماً لا يختص مجيئه بكان خلافاً لأبي الحكم مصنِّف كتاب الإعراب فإنه قال : لا يجوز ذلك إلا مع « كان » إلا في ضرورة شعر .
وأطلق النحويون جواز ذلك وأنشدوا بيت الفرزدق :
4378 دَسَّتْ رَسُولاً بِأَنَّ القَوْمَ إنْ قَدَرُوا ... عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتِ تَوْغِيرِ
وقوله أيضاً :
4379 تَعَشَّ فَإِنْ عَاهَدْتَني لاَ تَخُونِنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ
وقرأ ابن مقسم والزَّعفرانيُّ ومحبوب : يزد ويؤته بالياء من تحت ، أي الله تعالى .
وقرأ سلام يؤته بضم هاء الكناية وهو الأصل ، وهو لغة الحجاز وتقدم خلاف القراء في ذلك .
فصل
قال قتادة : معنى قوله : ومن كان يريد ( حَرْثَ ) الدنيا أي يريد جملة حرث الدُّنيا نؤته منها أي نؤته بقدر ما قسم له كما قال : { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ } [ الإسراء : 18 ] وما له في الآخرة من نصيب؛ لأنه لم يعمل للآخرة قال عليه الصَّلاة والسَّلام : « بَشِّرْ هَذِهِ الأمَّة بالسناء والرِّفْعَةِ والنَّصْرِ والتَّمْكِينِ في الأَرْضِ ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الآخِرَةِ للدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ في الآخِرَةِ نَصِيبٌ » واعلم أنه تعالى قال في طلب الآخرة ( إنه ) يزيد له في حرثه ولم يذكر أنه يعطيه الدنيا أم لا بل سكت عنه نفياً وإثباتاً .
وأما الطالب الدنيا فبين أنه لا يعطيه شيئاً من نصيب الآخرة على التنصيص ، وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول : الآخرة أصلٌ والدنيا تبعٌ فواجد الأصل يكون واجداً للتَّبع بقدر الحاجة ، إلا أنه لم يذكر ذلك تنبيهاً على أن الدّنيا أحسن من أن يقرن ذكرها بذكر الآخرة . وأيضاً بين أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه وطالب الدنيا يعطى بعض مطلوبه ولا يحصل له في الآخرة من نصيب البتة فبين أن طالب الآخرة يكون حاله أبداً في التزايد ، وأن طالب الدنيا يكون حاله في النقصان والبطلان في الآخرة ، وذلك يدل على تفضيل طلب الآخرة .
وأيضاً فإنه تعالى بين أن منافع الآخرة ومنافع الدنيا ليست حاضرة ناجزةً ، بل لا بدَّ فيهما من الحرث والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاق ( في البذر ثم التسقية والتنمية ثم الحصد ثم التنقية فلما سمى الله كلا القسمين حرثاً علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل ) والمتاعب . ثم بين أنَّ مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وأن مصير الدنيا إلى النُّقصان والعناء ، فكأنه قيل : إذا كان لا بد في القسمين من متاعب الحراثة من التبقية والتنمية و الحصد والتَّنْقِية فصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في التزايد الباقي أولى من صرفها إلى ما يكون في التناقص والانقضاء .
فصل
قال ابن الخطيب : فإن قيل : ظاهر اللفظ يدل على أن من صلَّى لأجل طلب الثواب أو لأجل دفع العقاب فإنه تصح صلاته ، وأجمعوا على أنها لا تصح .
فالجواب : أنه تعالى قال : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة } ، والحرث لا يَتَأَتَّى إلا بإلقاء البذر الصَّحيح في الأرض ، والبذر الصحيح الجامع للخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله سبحانه وتعالى .
فصل
إذا توضأ بغير نية ، لم يصح ، لأنه لم يرد حرث الآخرة ، وذلك لا يحصل بالوضوء العاري عن النية .
قوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين . . . } الآية . لما بين القانون الأعظم في أعمال الآخرة والدنيا أردفه بيان ماهو الأصل في باب الضَّلالة والسعادة فقال : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ } ومعنى الهمزة في « أم » التقرير والتقريبع . والضمير في « شَرَعوا » يجوز أن يكون عائداً على « الشركاء » ، والضمير في « لهم » على الكفار ، ويجوز العكس؛ لأنهم جعلوا لهم أنصباء ، والمعنى شركاؤهم أي شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث ، والعمل للدنيا . وقيل : شركاؤهم أوثانهم ، وإنما أضيفت إليهم؛ لأنهم هم الذي اتَّخذوها شركاء لله . ولما كانت سبباً لضلالتهم جعلت شارعة لدين ضلالتهم لهم كما قال إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس } [ إبراهيم : 36 ] .
قال المفسريون : يعني كفار مكة أأي لهم آلهة سنوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله . قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) شرعوا لهم ديناً غير دين الإسلام .
قوله : { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل } أي لولا القضاء السابق بتأخير الحزاء أو لولا الوعد بأن الفصل يكون بينهم يوم القيامة « لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ » أي بين الكافرين والمؤمنين ، أو بين المشركين وشركائهم .
قوله : « وإنَّ الظَّالِمِينَ » العامة بكسر « إن » على الاستئناف ومسلم بن بجنوب والإعرج بفتحها عطفاً على كلمة الفصل . وفصل بين المتعاطفين بجواب « لولا » ، تقديره : ولولا كلمة واستقرار الظالمين في العذاب لَقَضِي بينهم في الدنيا . وهو نظير قوله : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [ طه : 129 ] . ثم إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب . أما الأول فهو قوله : { تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ } أي ترى المشركين يوم القيامة خائفين وجَِلِينَ « مِمَّا كَسَبُوا » من السيئات ، { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي جزاء كسبهم واقع سواء أشفقوا أو لم يشفقوا .
وأم الثاني وهو أحوال أهل الثواب فهو قوله : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات } قال أبو حيان : اللغة الكثيرة تسكين واو « رَوْضَات » ، ولغة هذيل فتح الواو إجراء لها مُجْرَى الصحيح نحو : جَفَنَات . ولم يقرأ أحد فيما علمناه بلغتهم . قال شهاب الدين : إن عنى لم يقرأ أحد بلغتهم في هذا الباب من حيث هو فليس كذلك؛ لما تقدم في سورة النور أن الأعمش قرأ : « ثَلاَثُ عَوَرَاتٍ » بفتح الواو وإن عَنَى أنه لم يقرأ في روضات بخصوصها فقريب ، لكن ليس هو ظاهر عادته .
فصل
اعلم أن روضة الجنة أطيب بقعةٍ فيها ، وفيه تنبيه على أن الفسَّاق من أهل الصلاة كلهم من أهل الجنة؛ لأنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنهم في روضات الجنَّات ، وهي البقاع الشَّريفة كالبقاع التي دون تلك الروضات ، لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كانوا دونن الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
ثم قال : { لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } وهذا يدل على أن تلك الأشياء حاضرة عنده مهيَّأة . والعندية مجاز و « عِنْدَ رَبِّهِمْ » يجوز أن يكون ظرفاً « لِيَشَاءُونَ » . قاله الحوفي ، أو للاستقرار العامل في « لهم » قال الزمخشري . ثم قال : { ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } وهذا يدل على أنَّ الجزاء المرتب على العمل إنما حصل بطريق الفضل من الله تعالى لا بطريق الوجوب والاستحقاق .
قوله تعالى : { ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ } كقوله : « كالَّذِي خَاضُوا » . وقد تقدم تحقيقه . وتقدمت القراءات في يُبَشِّرُ . وقرأ مجاهدٌ وحُمَيْدُ بنُ قَيْسٍ : يُبْشِرُ بضم الياء وسكون الباء وكسر الشين من أَبْشَرَ منقولاً من بَشِرَ بالكسر لا من بَشَرَ بالفتح؛ لأنه متعدٍّ والتشديد في « بشر » للتكثير لا للتعدية ، لأنه متعد بدونها .
ونقل أبو حيان قراءة يَبْشُرُ بفتح الياء وضم الشين عن حمزة والكسائي ( أي ) من السَّبعة ، ولم يذكر غيرهما من السبعة ، وقد وافقهما على ذلك ابن كثير وأبو عمرو . و « ذلك » مبتدأ ، والموصول بعده خبره ، وعائده محذوف على التدريج المذكور كقوله « كالَّذِي خَاضُوا » أي يُبَشِّرُ بِهِ ، ثم يُبَشِّرُهُ على الاتساع . وأما على رأي يونُس فلا يحتاج إلى عائد؛ لأنها عنده مصدرية وهو قول الفراء أيضاً ، أي ذلك تبشير الله عباده . وذلك إشارة إلى ما أعده الله تعالى لهم من الكرامة . وقال الزمخشري : أو ذلك التبشير الذي يبشِّره الله عباده . قال أبو حيان : وليس بظاهر؛ إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشرى ولا ما يدل عليها من « بَشَّر » أو شبهه .
فصل
هذه الآيات دالة على تعظيم حال الثواب من وجوه :
الأول : أن الملك الذي هو أعظم الموجودات وأكرمهم إذا رتب على أعمال شاقة جزاءً ، دل ذلك على أن ذلك الجزاء قد بلغ إلى حيث لا يعلم كُنْهَهُ إلاَّ الله تعالى .
الثاني : أن قوله تعالى : { لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ } يدخل في باب غير المتناهي؛ لأنه لا درجة إلا والإنسان يريد ما هو أعلى منها .
الثالث : أنه تعالى قال : { ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } والذي يحكم بكبره من له الكبرياء والعظمة على الإطلاق يكون في غاية الكبر .
واعلم أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب الشريف ، وأودع فيه أقسام الدلائل والتكاليف ورتبه على لطاعة والثواب وأمره بتبليغه إلى الأمة أمره بأن يقول إني لا أطلب منكم بسبب هذا التبليغ نفعاً حاضراً فقال : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } .
في الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه منقطع؛ إذ ليست المودة من جنس الأجر .
والثاني : أنه متصل ، أي لا أسألكم عليه أجراً إلا هذا وهو أن تودُّوا أهل قرابتي ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة؛ لأن قرابتهم وكانت صلتهم لازمةً لهم في المودة . قاله الزمخشري .
وقال أيضاً : فإن قلت : هلا قيل : إلاَّ مودَّة القربى ، أو إلا المودة للقربى؟!
قلت : جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها ، كقولك : في آل فلان مودة وليست « في » صلة المودة ، كاللام إذا قلت : إلا المودة للقربى ، إنما هي متعلقة بمحذوف فتعلق الظرف به في قولك : المال في الكيس ، وتقديره : إلا المودة ثابتةً في القربى ومتمكنةً فيها .
وقال أبو البقاء : وقيل : متصل ، أي لا أسألكم شيئاً إلا المودة .
قال شهاب الدين : وفي تأويله متصلاً بما ذكر نظر؛ لمجيئه بشيء الذي هو عام ، وما من استثناء منقطع إلا ويمكن تأويله بما ذكر ، ألا ترى إلى قولك : ما جاءني أحدٌ إلا حمار ، أنه يصح ما جاءني شيء إلا حماراً .
وقرأ زيد بن عليٍّ : « مودة » بدون ألفٍ ولامٍ .
فصل
في الآية ثلاثة أقوال :
الاول : قال الشَّعبيُّ : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك ، فكتب أبن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتن وسط النسب من قريش ليس بطنٌ من بطونهم إلا قد ولده ، وكان له فيهم قرابةٌ ، فقال الله عز وجل { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } على ما أدعوكم إليه إلا أن تؤثروني لقرابتي أي تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة ، والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني ، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى وصلوا رحمي ، ولا تؤذوني . وإلى هذا ذهب مجاهد وقتادة وعكرمة ومقاتل والسدي والضَّحَّاك .
الثاني : روى الكلبي عن ابن عباس ، قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كانت تَنُوبهُ نوائب وحقوق ، وليس في يده سعةٌ لقالت ( الأنصار ) : إن هذا الرجل هداكم هو ابن أخيكم ، وأجاركم من بلدكم ، فاجمعةوا له طائفة من أموالكم ، ففعلوا ثم أتوه بها ، فردها عليهم ونزل قوله تعالى : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } أي على الإيمان ( إلا ) أن لا تؤذوا أقاربي وعشيرتي ، وتحفظوني فيهم ، قاله سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب .
الثالث : قال الحسن : معناه إلا أن تَوَدُّوا الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، ورواه ابن أبي نُجَيْحٍ عن مجاهد .
فالقربى على القول الأول بالقرابة التي بمعنى الرَّحِم ، وعلى الثاني بمعنى الأقارب ، وعلى الثالث فُعْلَى من القُرْبِ والتَّقْرِيب .
فإن قيل : طلب الأجر على تبليغ الوحي لا يجوز لوجوه :
أحدها : أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء التصريح بنفي طلب الأجر ، فقال في قصة نوح عليه الصَّلاة والسَّلام
{ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ الشعرا : 109 ] . . الآية وكذا في قصة هود وصالح ولوط وشعيب عليه الصَّلاة والسَّلام ورسلونا أفضل الأنبياء فَبِأَنْ لا يطلب الأجر على النبوة والرسالة أولى .
وثانيها : أنه عليه الصَّلاة والسَّلام صرَّح بنفي طلب الأجر فقال : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين } [ ص : 86 ] وقال : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } [ سبأ : 47 ] . . الآية وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلاً عن أعلم العلماء .
ورابعها : أن النبوة أفضل من الحممة ، وقد قال تعالى : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] ووصف الدينا بأنها متاع قليل فقال : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } [ النسا : 77 ] فكيف يحين بالعاقل مقابلة أشرف الأنبيثاء بأخس الأشيءا؟!
وخامسها : أن طلب الأجر يوجب التهمة ، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة . فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب أجراً ألبتة على التبليغ والرسالة ، وهاهنا قد ذكر ما يجري مَجْرَى طلب الأجر وهو المودة في القربى ( هذا تقرير السؤال ) .
فالجواب : أنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ ، وأما قوله : إلا المودة في القربى فالجواب عنه من وجهين :
الأول : أنه هذا من باب قوله :
4380 وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتَائِبِ
يعني أنا لا أطلب منكم إلا هذا . وهذا في الحقيقة ليس أجراً؛ لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب ، قال تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ [ التوبة : 71 ] ، وقال ، عليه الصَّلاة والسَّلام : « المُؤْمِنُونَ كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً » والآيات الأخبار في هذا كثيرة . وإذا كان حصول المودة بين المسلمين واجب فحصولها في احق أششرف المسلمِين أولى ، فقوله : { إلا المودة في القربى } تقديره والمودة ف يالقربى ليست أجراً ، فرَجَعَ الحاصل إلى أنه لا أجر ألبتة .
الثاني : إن هذا استثناء منقطع ، وتم الكلام عند قوله : { لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } ثم قال : { إِلاَّ المودة فِي القربى } أي أذكركم قرابتي منكم فكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر .
فصل
اختلفوا في قرابته ، فقيل : هم فاطمة وعلى وأبناؤهما ، وفيهم نزل : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب : 33 ] .
وروى زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كتابَ اللهِ تَعَالَى وَأَهْلَ بَيْتِي وَأُذَكِّرُكُم الله في أَهْلِ بَيْتِي » قيل لزيد بن أرقم : فمن أهل بيته؟
فقال : هم آلُ عليِّ وآل عَقِيل وآل جعفر ، وآل عباس رضي الله عنهم وروى ابن عمر عن ابن بكر رضي الله تعالى عنه قال : أرقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته .
وقيل : هم الذي تحرم عليه الصدقة من أقاربه ويقسم فيه الخًمسُ هم بنو هاشم ، وبنوا المطلب الذين لم يتفرقوا بجاهلية ولا إسلام . وقيل : هذه الآية منسوخة ، وإليه ذهب الضحاك بن مُزاحم والحسين بن الفضل . قال البغوي وهذا قول ( غير ) مرضٍ؛ لأن مودة النبي صلى الله عليه وسلم وكف الأذى عنه ومودة أقاربه والتقرب إلى الله تعالى بالطاعة والعمل الصالح من فرائض الدين .
قوله تعالى : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً } أي من يكتسب طاعة { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } العامة على « نَزد » بالنون ، وزيد بن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمرو يَزِدْ بالياء من تحت ، أي يزِد الله . والعامة « حُسْناً » بالتنوين مصدراً على « فُعْلٍ » نحو : شُكر وهو مفعول به ، وعبد الوارث عن أبي عمرو حُسْنَى بألف التأنيث على وزن بُشْرَى ، ورُجْعَى ، وهنو مفعول به أيضاً . ويجوز أن يكون صفة كفُضْلَى ، فيكون وصفاً لمحذوف أي خصْلَةً
حُسْنَى . قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه والظاهر العموم في أي حسنة كانت ، إلا أنها لما ذكرت عقيب المودة في القُرْبَى دل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودَّةِ .
ثُمَّ قال سبحانه وتعالى : { إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ } : للقليل ( حتى يضاعفها ) والشكر في حق الله تعالى مجاز ، والمعنى أنه تعالى يُحْسِنُ للمطيعين في إيصال الثواب إليهم ، وفي أن يزيدَ عليهم أنواعاً كثيرةً من التفضل .
قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً } اعلم أن الكلام ابتداء من أول هذه السورة في تقرير أن هذا الكتاب إنما حصل بِوَحْي الله تعالى ، قال تعالى : { كَذَلِكَ يوحي إلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } [ الشورى : 3 ] واتصال الكلام في تقرير هذا المعنى وتعلق بعضه ببعض ( حتى وصل ) إلى هاهنا ، ثم حكى هاهنا ، شبهة القوم وهي قولهم : إن هذا ليس وحياً من الله تعالى فقال : { أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً } . قال الزمخشري : « أم » منقطعة ومعنى الهمزة للتوبيخ والمعنى : أيقع في قلوبهم ويجري على ألسنتهم أن ينسبوا مثله على الافتراء على الله سبحانه وتعالى الذي هو أقبح الأنواع وأفحشها ، ثم أجاب عنه بأن قال : { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } قال مجاهد : يربط على قلبك بالصبر حتى لا يشقَّ عليك أذاهم وقولهم : إنه مفتر كذابٌ ، وقال قتادة : يعني يطبع على قبلك فينسيك القرآن وما آتاك فأخبرهم أنه لو افترى على الله كذباً لفعل به ، وما أخبر في هذه الآية فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب إلاّ من كان في هذه الحالة والمقصود من هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد ، ومثاله : أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة فيقول الأمين : لعل الله أعمى قَلْبي ، وهو لا يريد إثبات الخِذلان ولا عَمَى القلب لنفسه وإنما يريد استبعاد صدق الله تعالى الخيانة عنه .
قوله تعالى : { وَيَمْحُ الله الباطل } هذا مستأنف غير داخل في جزاء الشرط؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقاً ، وسقطت الواو منه لفظاً لالتقاء السكانين في الدَّرج ، وخطَّا حملاً للخطِّ على اللفظ كما كتبوا : { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] عليه ، ولكن ينبغي أن لا يجوز الوقف على هذه الآية لأنه إن وقف عليه بالأصل هو الواو خالفنا خط المصحف وإن وقف عليه بغيرها موافقاً للرسل خالفنا الأصل . وتقدَّم بحث مثل هذا .
وقد منع مكيٌّ الوقف على نحو : { وَمَن تَقِ السيئات } [ غافر : 9 ] . وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير مجازه والله يمح الباطل فهو في محل رفع ، ولكن حذفت منه الواو في المصحف حملاً على اللفظ كما حذفت من قوله : { وَيَدْعُ الإنسان } [ الإسراء : 11 ] { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] .
فصل
أخبر تعالى أن ما يقولونه باطل يمحوه الله « ويُحِقُّ الحَقَّ » أي الإسلام بكلماته ، أي بما أنزل الله تعالى من كتاب ، وقد فعل الله ذلك فمحى باطلهم ، وأعلى كلمة الإسلام « إنَّهُ عَلِيم » بما في صدرك وصدورهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } وقع في قلوب قوم منها شيء وقالوا : يريد أن يحثنا على أقاربه من بعده ، فنزل جبريل فأخبره أنه اتهموه فأنزل الله هذه الآية فقال القوم يا رسول الله : ( ف ) إنا نشهد أنك صادف فنزل : { وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } قال ابن عباس : يريد أولياءه وأهل طاعته . قال الزمخشري : يقال : قَبِلْتُ مِنْهُ الشيء وقَبِلْتُهُ عَنْهُ .
فصل
قيل : التوبة بترك المعاصي نية وفعلاً ، والإقبال على الطاعة نيَّةً وفعلاً . وقال سهل ابن عبدالله : التوبة الانتقال من الأحوال المذمومة إلى الأحوال الممدوحة . وقيل : الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك ، وكبَّر ، فلما فرغ من صلاته قال عليٌّ رضي الله تعالى عنه : يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبه الكذابين ، فقال ياأمير المؤمنين ( وما ) التوبة؟ فقال : اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفريضة الإعادى ورد المظالم وإدامة النفس في الطاعهة كما ربتيها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل ضحك ضحكته .
قالت المعتزلة : يجب على الله قبول التوبة ، وقال أهل السنة : لا يجب على الله تعالى ، وكل ما يقبله فهو كرم وفضل ، واحتجوا بهذه الآية فقالوا : إنه تعالى تمدح بقبول التوبة ، ولو كان ذلك القبول واجباً لما حصل المدح العظيم ، ألا ترى أنه من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلماً كان ذلك مدحاً .
قوله : { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } إما أن يكون المراد منه أن يعفو عن الكبائر بعد التوبة ، مأو المراد أن يعفو عن الصغائر أو المراد : إن يعفو عن الكبائر قبل التوبة .
والأول باطل وإلا صار قوله : { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } عين قوله : { وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } والتكرار خلاف الأصل ) .
والثاني أيضاً باطل؛ لأن ذلك واجبٌ ، وأداء الواجب لا يمدح به فبقي القسم الثالث فيكون المعنى أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة ، وتارة يعفو ابتداء من غير توبة .
فصل
روى أنس ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « للهُ أشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بأرْضٍ فَلاَةٍ فانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهضا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ ، فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرةً فاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا ، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنضا هُوَ كَذَلِكَ إذْ هُوَ بِهَا قَائِمةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخُطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ : اللَّهُمَّ أنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ » أخطأ من شدَّة الفَرَحِ .
قوله : { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } قرأ الأخوان وحَفْصٌ يَفْعَلُونَ بالياء من تحت؛ نظراً إلى قوله : « مِنْ عِبَادِهِ » وقال بعده : { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } والباقون بالخطاب إقبالاً على اناس عامةً ، وهو خطاب للمشركين .
قوله تعالى : { الذين آمَنُواْ } يجوز أن يكون الموصول فاعلاً أي يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله تعالى : { استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] واستجاب كأجاب ، ومنه قوله الشاعر :
4381 وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَلِكَ مُجِيبُ
ويجوز أن تكون السين للطلب على بابها بمعنى ويستدعي المؤمنون الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحة . ويجوز أن يكون الموصول مفعولاً به والفاعل مضمر يعود على الله بمعنى : ويُجيبُ الذينَ آمنوا اي دُعَاءَهُمْ . وقيل : ثَمَّ لام مقدرة أي ويستجيبُ الله لِلذِينَ آمنوا ، ( فحذفها ، للعلم بها ، كقوله : { وَإِذَا كَالُوهُمْ } [ المطففين : 3 ] قال عطاء عن ابن عباس معناه : ويُثِيبُ الذين آمنوا ) وعلموا الصالحات { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } سِوَى ثواب أعمالهم تفضلاً منه ، وروى أبو صالح عه : يشفعهم ويزيدهم من فضله . ( ثُمَّ ) قال في أخونان إخوانهم : { والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } .
قوله تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } ، قال خَبَّاب بن الأرتِّ : فينا نزلت هذه الآية ، وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قُرَيْظَة والنَّضير وبني قَينقاعَ وتمنيناها فأنزل الله عز وجل { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ } ، لطغوا في الأرض ، قال ابن عباس ( رضي الله عهنما ) : بغيهم طَلَب ( هم ) منزلةً بعد منزلة ، ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس ، ولكن ينزل أرزاقهم قدر ما شاء نظراً منه لعباده .
( قرأ ابن كثير وأبو عمر يُنَّزِّلُ مشددة ، والباقون مخففة ) إنَّه بعباده خبيرٌ بصيرٌ . روى أنس بن مالك عن النبي صلى الله علهي وسلم عن جبريل عن الله عز وجل في حديث طويل وفيه يقول الله عزَّ وجلَّ : « ما تَرَدَّدْتُ في شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي في قَبْضِ رُوحِ عَبْدِي المُؤْمِن يَكْرَهُ المَوْتَ وأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وإنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ لمَنْ يَسْأَلُنِي البَابَ عَنِ العِبَادَةِ فأَكُفُّهُ عَنْهُ ( أّنْ ) لاَ يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فيُفْسِدَهُ ذَلِكَ وَإنَّ مِنْ عِبَادِي المُؤْمِنِينَ لمَنْ لاَ يُصْلِحُ إيمَانَهُ إلاَّ الغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي ( المُؤمِنِينَ ) لمَنْ لاَ يًصْلِحُ إيمَانهُ إلاَّ الفَقْرُ ولو أَعْنَيْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي ( المُؤْمِنِينَ ) لمَنْ لاَ يًصْلِحُ إيمانَهُ إلاَّ الصِّحَّةُ ، وَلَوْ أَسْقَمتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ ، وإنَّ مِنْ عِبَادِي ( المُؤْمِنِينَ ) لمَنء لاَ يُصْلِحُ إيمَانَهُ إلاَّ السَّقَمُ وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ لأَفْسَدَهُ ذَلِكَ وذّلِكَ أَنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي بِعِلْمِي بِقُلُوبِهِمْ ِإنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ » .
فصل
وجه التعلق أنه تعالى لما قال في الآية الأولى إنه يجيب دعاء المؤمنين وَرَدَ عليه سؤالٌ وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبليَّةٍ وفَقْر ثم يدعو فلا يظهر أثر الإجابة فكيف الجمع بينه وبين قوله : ويستجيب الذين آمنوا؟! فأجاب تعالى عنه بقوله : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } ، ولأقدموا على المعاصي ، فلذلك وجب أن لا يعطيهم ما طلبوه ، ويؤيده الحديث المتقدم .
فصل
قال الجبائِيُّ : هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة من وجهين :
الأول : أنه تعالى لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض غير مراد ، فعلمنا أنه تعالى لا يريد البَغْيَ في الأرض ، وذلك يوجب فساد قول المجبرة .
الثاني : أنه تعالى إنما لم يرد بسط الرزق؛ لأنه يفضي إلى المفسدة ، فلما بين تعالى أنه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريداً للمفسدة كان أولى .
وأجيب : بأن الميل إلى البغي والقسوة والقهر صفة حدثت بعد أن لم تكن ، فلا بد لها من فاعل وفاعل هذه الأحوال إما البعد أو الله ، والأول باطل؛ لأنه إنما يفعل هذه الأشياء لو مال طبعه إليه وعاد السؤال في أنه من المحدث لذلك الميل الثاني؟ ويلزم التسلسل ، وأيضاً فالميل الشديد إلى الظلم والقسوة عيوبٌ ونقصاناتٌ ، والعاقل لا يرضى بتحصيل موجبات النقصان لنفسه ، ولما بطل هذا ثبت أن محدث هذا الميل والرغبة هو الله تعالى .
ثم أوده الجبائي على نفسه سؤالاً :
فإن قيل : أليس قد يبسط الرزق لبعض عباده مع أنه يبغي؟! .
فأجاب عنه : بأن الذي يبسط الرزق إذا بغى كان المعلوم من حاله أنه يبغي على كل حال سواء أُعْطِيَ ذلك الرزق أو لم يُعْطَ . قال ابن الخطيب : هذا الجواب فاسد ، ويدل عليه القرآن والعقل أما القرآن فقوله تعالى :
{ كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 67 ] حكم مطابق لكن حصول الغنى سبب لحصول الطغيان وأم العقل فهو أن النفس إذا كانت مائلةً إلى الشر فمعحصول الغنى تميل إلى الشر أكثر ، فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان .
فصل
في كون بسط الرزق موجباً للطغيان وجوه :
الأول : أن الله تعالى لو سوَّى في الرزق بين الكل لا متنع كون البعض محتاجاً إلى البعض ، وذلك يوجب خراب العالم وتعطيل المصالح .
الثاني : أن هذه الأية مختصة بالعرب . فإنه كلما اتسع رزقهم ، ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم ، أقدموا على النهب والغارة .
الثالث : أن الإنسان متكبر بالطبع ، فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبليَّة ومكروه انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة .
قوله تعالى : { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث } أي املطر { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } من بعد ما يئس الناسُ منه . وإنزال الغيب بعد القنوط أدعى إلى الشكر؛ لأن الفرح بحصول النعمة بعد البلية أتمُّ .
قال الزمخشري : قرىء قنطوا ، بفتح النون وكسرها . ( فأما فتح النون فهي قراءة العامة ، وأما كسرها فهي قراءة يحيى بن وثَّاب ، والأعمش وهي لغة وعليها قراءة : { يَقْنَطُ } [ الحجر : 56 ] { لاَ تَقْنَطُواْ } [ الزمر : 53 ] بفتح النون في المتواتر . ولم يقرأ في الكسر في الماضي إلا شاذاً و « ما » مصدرية أي من بعد قُنُوطِهِمْ ) . قال مقاتل : حبس الله المطر عن أهل مكة سبع سنين حين قنطوا ، ثم أنزل الله المطر فذكرهم الله نعمه .
قوله : { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } يبسط مطره ، كما قال : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] وهو الولي الحميد . « الوَلِيُّ » : الذي يتولى عباده بإحاسنه « الحَميد » المحمود على ما يوصل إلى الخلق من الرحمة وقيل : « الولي » لأهل طاعته ، « الحميد » عند خلقه .
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض . . . } الآية قد تقدم الكلام على دلالة خلق السموات والأرض والحيوانات على وجود الإله الحيكم .
فإن قيل : كيف يجوز إطلاق لفظ الدابَّة على الملائكة؟! .
فالجواب : فيه وجوه :
الأول : أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة ، وإن كان فاعله واحداً منهم كما يقال : « بَنُو فُلاَنٍ فَعَلُوا كََذَا » ، وإنما فعله واحدٌ م نهم ومنه قوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] .
الثاني : أن الدابة عبارة عما فيه الروح والحركة ، والملائكة لهم الروح والحركة .
الثالث : لا يبعد أن يقال : إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون مشي الأناس على الأرض . وروى العبَّاس ( رضي الله عنه ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « فوق السماء السابعة بحر ( بين ) أسفله وأعله كما بين السماء والأرض ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعاٍ بين رُكَبِهِنَّّ وأَضلاَفِهِنَّ كما بين السَّمَاءِ والأرْضِ ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِك العَرْش . . . » الحديث .
قوله : « وَمَا بَثَّ » يجوز أن تكون مجرورة المحل عطفاً على « السموات » أو مرفوعته عطفاً على « خلق » ، على حذف مضاف أي وخلق ما بثَّ . قاله أبو حيان . وفيه نظر؛ لأنه يئول إلى جره بالإضافة « لِخَلق » المقدر فلا يعدل عنه .
قوله : « إذَا يَشَاءَ » « إذَا » منصوبة « بجَمْعِهِمْ » لا « بِقَدِيرٍ » ، قال أبو البقاء : لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير المعنى : وهو على جمعهم قدير إذا يشاء ، فتتعلق القدرة بالمشيئة وهو محال . قال شهاب الدين : وَلاَ أدري ما وجه كونه محالاً على مذهب أهل السنة ، فإن كان يقول المعتزلة ، وهو القدرة تتعلق بما لم يشأ الله مشى كلامه ، ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده . ونقول : يجوز تعلق الظرف به أيضاً . قال الزمخشري : « إذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ » ، والمقصود أنه تعالى خلقها لا لعجز ولا لمصلحة ولهذا قال : { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] ٍ ، يعنى الجمع والحشر والمحاسبة .
فصل
احتج الجبَّائيُّ بقوله : إذا يشاء قدير على أن مشيئة الله تعالى محدثةٌ ، قال : لأن كلمة « إذا » ظرف لما ( لم ) يستقبل من الزمان ولكمة « يَشَاءُ » صيغة المستقبل فلو كانت مشيئته تعالى قديمة لم يكن لتخصيصها بذلك الوقت المستقبل فائدة ، ولما دل قوله : « إذَا يَشَاءُ » على التخصيص علمنا أن مشيئته تعالى محدثة .
وأجيب : بأن هاتين الكلمتين كما دخلتا على المشيئة فقد دخلتا أيضاً على لفظ « القَدِير » فلزم على هذا أن تكون قدرته صفة محدثة ، ولما كان هذا باطلاً فكذا القول في المشيئة .
قوله : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } قرأ نافع وابن عامر بما كسبت بغير فاء ، الباقون بالفاء « فما » في القراءة الأولى الظاهر أنها موصولة بمعنى الذي ، والخبر الجار من قوله « بما كسبت » .
وقال قوم منهم أبو البقاء : إنها شرطية حذفت منها الفاء ، قال أبو البقاء : كقوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ]
وقول الآخر :
4382 مَنْ يَفْعَل الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ..
وهذا ليس مذهب الجمهور ، إنما قال به الأخفش وبعض البغداديِّين ، وأما قوله : « إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ » فلي جواباً للشرط ، إنما هو جواب لقسم مقدر حذفت لامه الموطِّئة قبل أداة الشرط .
وأما القراءة الثانية ، فالظاهر أنها فيها شرطية . وقال أبو البقاء : إنَّه ضَعيفٌ ولا يلتفت إلى ذلك . ويجوز تكون موصولة ، والفاء داخلة في الخير تشبيهاً للموصول بالشرط بشروط مذكورة في هذا الكتاب . وقد وافق نافع وابن عامر مصاحفهما ، فإن الفاء ساطقة من مصاحف المدينة والشام ، وكذلك الباقون ، فإنها ثابتة في مصاحف مكَّة والعراق .
فصل
اختلفوا فيما يحصل في الدنيا من الآلام والأسقام ، والقَحط ، والغَرَق ، والمصائب هي هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا؟ فمنهم من أنكر ذلك لوجوه :
الأول : قوله تعالى : { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ غافر : 17 ] بيّن تعالى أن ذلك إنما يحصل يوم القيامة وقال تعالى : { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] أي يوم الجزاء ، وأجمعوا على أن المراد منه يوم القيامة .
الثاني : مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق ، والصِّدِّيق ، فيمتنع أن يكون عقوبة على الذنوب ، بل حصول المصائب ( للصالحين ) والمتقين أكثر منه للمذنبين ، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام : « خُصَّ البَلاَءُ بالأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الأَمْثَل فالأَمْثَلِ » .
الثالث : أن الدنيا دار تكليف ، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار تكليف ودار جزاء معاً وهو محالٌ . وقال آخرون : هذه المصائب قد تكون أَجزيةً على ذنوب متقدمة لهذه الآية ، ولما روى الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ ولا عَثْرةِ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجِ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللهُ عَنْهُ أَكْثَرُ » .
قال علي بن أبي طالب : « أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَفْضَلِ آيَةَ في كِتَابِ اللهِ حَدَّثَنا بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : » وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوعَنْ كَثِيرٍ « ( قال ) : وَسَأفسِّرُها لَكَ يَا عَلِيُّ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ واللهُ عَزَّ وجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْكُمْ العُقُوبَةَ في الآخِرَةِ ، وَمَا عَفَا اللهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا ، فَالله أَحْلَمُ مِنْ أنْ يَعُودَ بعد عَفْوِهِ . وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى بعد هذه الآية : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } » وذلك تصريح بأن ذلك الاهلاك بسبب كسبهم . وأجاب الأولون بأن حصول هذه المصائب يكون من باب الأمتحان في التكليف ، لا من باب العقوبات ، كما في حق الإنبياء والأولياء .
ويحمل قوله : { بما كسبت أيديكم } على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم .
فصل
هذه الآية تقتضي إضافة الكسب إلى اليد ، والكسب لا يكون بل بالقدرة القائمة باليد فوجب أن يكون المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة ، وإذا كان هذا المجاز مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تعالى عن الأعضاء .
قوله : { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي قد يترك الكثير بفضله ورحمته قال الواحدي بعد أن روى حديث عليٍّ المتنقدم : وهذه أرجى آية في كتاب الله؛ لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين ، صنف كفَّر عنهم بالمصائب ، وصنفٌ عَفَا عنه في الدنيا ، وهو كَرَمٌ لا يرجع في عفوه فهذه سنة الله مع المؤمنين . وأما الكافر ، فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي ( رَبَّهُ ) يوم القيامة .
ثم قال : { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي بفائتين « في الأرض » هرباً ، أي لا تُعْجِزونَنِي حيث ما كنتم و لات َسْبِقُونِي { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } والمراد به من يعبد الأصنام ، بين أنه لا فائدة فيها ألبتة بل النّصير هو الله تعالى ، فلا جرم هو الذي يحْسُنُ عِبَادَتُهُ .
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } قرا نافعٌ وأبو عمرو « الجواري » بيا في الوصل . وأما الوقف فإثباتها على الأصل وحذفها للتخفيف ، وهي السفن ، وأحدثها جاريةٌ ، وهي السائرة في البحر .
فإن قيل : الصفة متى لم تكن خاصةً بموصوفها امتنع حذف الموصوف ، لا تقول : مررت بماشٍ؛ لأن المَشْيَ عامٌّ ، وتقول : مررت بمهندس وكاتبٍ ، والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك؟
فالجواب : أن قوله : « في البحر » قرينة دالة على الموصوف ، ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح والأبرق ، فوليت العوامل دون موصوفها . و « في البَحْرِ » متعلق « بالجواري » ، إذا لم يجر مجرى الجوامد ، فإن جرى مجراه كان حالاً منه ، وكذا قوله : « كالأَعْلاَمِ » وهي الجبال قالت الخَنْسَاءُ :
4383 وَإِنَّ صَخْراً لتَأْتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ ... كَأَنَّهُ عَلَمٌ في رَأْسِهِ نَارُ
روي : أن النبي صلى الله عليه وسلم استنشد ( ب ) قصيدتها هذه ، فلما وصل ( الراوي ) ( إلى ) هذا البيت قال : قَاتَلَهَا اللهُ مَا رَضِيَتْ تَشْبِيهَهُ بالجَبَلِ حَتَّى جَعَلتْ في رَأْسِهِ نَاراً .
وقال مجاهد : الأعلام القصور ، واحدها علم . وقال الخليل بن أحمد : كل شيءٍ مرتفع عند العرب فهو علم وسمع : هذه الجوار ، وركبت الجوار ، وفي الجوار ، بالإعراب على الراء تناسياً للمحذوف ، وتقدم هذا في قوله تعالى : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] .
فصل
اعلم أن المقصود من ذكر هذه الآية أمران :
أحدهما : أن يستدل به على وجود الإله القادر الحكيم .
الثاني : أن يعرف ما فيه من النِّعم العظيمة لله تعالى على العباد ، وأما وجه الأول فإن هذه السفن العظيمة التي كالجبال تجري على وجه البحر عد هبوب الريح على أسرع الوجوه وعنند سكون الرياح ( تقف ) وقد تقدم في سورة النحل أن مُحَرِّك الرياح و مُسَكِّنَها هو الله ( سبحانه و ) تعالى؛ إذْ لا يقدر أحد من البشر على تحريكها ولا على تسكينها ، وذلك يدل وجود الإله القادر مع أن تلك السفينة في غاية الثقل ومع ثقلها بقيت على وجه الماء أيضاً . وأما دلالتها على النعم العظيمة ، وهو مافيها من المنافع فإنه تعالى خص كل جانب من الأرض بنوع من الأمتعة ، فإذا نقل متاع هذا الجانب إلى الجانب الآخر في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة بالتجارة ، فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفن .
قوله : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح } التي تجري بها { فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ } قرأ أبو عمرو والجمهور بهمزة : « إنْ يَشَأْ » لأن السكون علامة الجزم ، وورشٌ عن نافع بلا همز وقرأ ناقع « يُسْكِنِ الرِّيَاحَ » على الجمع والباقون « الريحَ » على التوحيد .
وقوله : « فَيَظْللْنَ » العامة على فتح اللام التي هي عين الكملة وهو القياس؛ لأن الماضي بكسرها ، تقول ظَلِلْتُ قائماً .
وقرأ قتادة بكسرها وهو شاذ ، نحو : حسب يحسب وأخواته وقد تقدمت آخر البقرة .
وقال الزمخشري : قرىء بفتح اللام وكسرها من ظَلَّ يظل ويظل ، نحو : ظَلّْ يَضَلَ ويَضِلُّ . قال أبو حيان : وليس كما ذكر؛ لأن يضَلُّ بفتح العين من ظَلِلْت بكسرها في الماضي ويَضِلّ بالكسر من ضَلَلْتُ بالفتح وكلاهما مقيس يعني أن كلاً منهما له أصلٌ يرجع إليه بخلاف « ظَلَّ » فإن ماضيه مكسور العين فقط .
والنون أسمها ، و « رَوَالكِدَ » خبرها ويجوز : أن يكون « ظل » هنا بمعنى صار؛ لأن المعنى ليس على وقت الظلول ، وهو النهار فقط وهو نظير : أين باتت يده ، من هذه الحيثية . والرُّكود والثُّبُوتُ الاستقرارُ قال :
4384 وَقَدْ رَكَدَتْ وَسْطَ السَّمَاءِ نُجُومُهَا ... رُكُوداً بِوَادِي الرَّبْرَب المُتَفَرِّقِ
والمعنى فيظللن رواكد أي ثوابت على ظهر البحر ، لا تجري { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } على بلا الله « شَكُورٍ » على نعمائه .
قوله : أوْ يُوبِقْهُنَّ « عطف على » يُسْكِنْ « قال الزمخشري : لأن المعنى : إن يَشَأْ يُسْكِنْ فَيَرْكُدْنَ ، أو يَعْصِفْهَا فَيَغْرقْنَ بِعَصْفِهَا ، قال أبو حيان : ولا يتعين أن يكون التقدير : أو يعصفها فيغرقن لأن إهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح ، بل قد يهلكها بقلع لوح أو خسفٍ .
قال شهاب الدين : والزَّمخشريُّ لم يذكر أن ذلك متعين ، وإنما ذكر شيئاً مناسباً؛ لأن قوله : يسكن الرياح يقابله » يعصفها « فهو في غاية الحسن والطِّباق .
فصل
معنى » يُبِقْهُنَّ « يُهْلِكْهُنَّ ويغرقهن » بِمَا كَسَبُوا « أي بما كسبت ركابها من الذنوب { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } من ذنوبهم فلا يعاقب عليها . يقال : أوْبَقَهُ أي أهلكه ، كما يقال للمجرم : أوْبَقَتْهُ ذنوبه أي أهلكته .
فإن قيل : ما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوماً مثله؟
فالجواب : معناه إن يشأ يهلك ناساً ينج ناساً على طريق العفو عنهم ، وأما من قرأ » ويعفو « فقد استأنف الكلام؟ والعامة على الجزم عطفاً على جواب الشرط . واستشكله القشيريُّ ، وقال : لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكداً ويهلكها بذنوب أهلها ، فلا يحسن عطف : » وَيَعْفُ « على هذا لأن المعنى يصير : إن يشأ يعف ، وليس المعنى على ذلك ، بل المعنى الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى . قال أبو حيان : وما قاله ليس يجيّد ، إذ لم يفهم مدلول التركيب والمعنى إلا أنه تعالى إن يشأ أهلك ناساً وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم . وقرأ الأعمش : ويعفو بالواو . وهي تحتمل أن تكومن كالمجزوم ، وثبتت الواو في الجزم كثبوت الياء في » مَنْ يَتَّقِي وَيَصْبِرْ « .
ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً ، أخبر الله تعالى أنه يعفو عن كثير من السَّيِّئات .
وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار « أنْ » بعد الواو كنصبه في قول النابعة : شعراً :
4385 فَإنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبِيعُ النَّاسِ والبَلَدُ الحَرَامُ
وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بذنابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
بنصب ونأخذ ورفعه وجزمه ، وهذا كما ترى بالأوجه الثلاثة بعد الفاء في قوله تعالى : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [ البقرة : 284 ] كما تقدم آخر البقرة ويكون قد عطف هذا المصدر المؤول من « أَنْ » المضمرة والفعل على مصدر متوهَّم من الفعل قبله تقديره : أو يقع إيباقٌ ، وعفوٌ عن كثيرٍ . فقراءة النصب كقراءة الجزم في المعنى إلا أن في هذه عطف مصدر مؤول على مصدر متوهم وفي تيك عطفُ فعل على مثله .
قوله تعالى : { وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } قرأ نافع وابن عامر برفعه والباقون بنصبه . وقرىء : بجزمه أيضاً . فأما الرفع فواضح جداً ، وهو يحتمل وجهين : الاستنئاف بجملة اسمية ، فتقدر الفعل مبتدأ أي وهو يعلم الذين و « الذين » على الأول فاعل ، وعلى الثاني مفعول . وأما قراءة النصب ففيها أوجه : «
أحدها : قال الزجاج : على الصرف قال : ومعنى الصرف صرف العطف عن اللفظ إلى العطف على المعنى قال : وذلك أنه لم يحسن عطف » ويعلم « مجزوماً على ما قبله؛ إذ يكون المعنى إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله ، ولا يتأتى ذلك إلا بإضمار » أن « ليكون من الفعل في تأويل اسم . وقال البغوي : قرىء بالنصب على الصَّرف والجزم إذا صرف عنه معطوفه نصب كقوله : { وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] نقل من حال الجزم إلى النصب استخفافاً وكراهية توالي الجزم .
الثاني : قول الكوفيون : إنه منصوب بواو الصرف يعنون أن الواو نفسها هي الناصبة ، لا بإضمار » أنْ « وتقدم معنى الصَّرف .
الثالث : قال الفارسي ونقله الزمخشري عن الزجاج إن النصب على إضمار » إنْ « ؛ لأن قبلها جزاءً تقول : ما تصنع أصنع ، وأكرمك وإن شئت : وأكرمك على : وأنا أكرمك ، وإن شئت : وأكرمك جزماً .
قال الزمخشري : وفيه نظر؛ لما أورده سيبويه في كتابه قال : واعلم أنَّ النَّصب بالواو والفاء في قوله : إن تَأْتِنِي آتِكَ ، وأُعطِيكَ ضعيفٌ ، وهو نحو من قوله :
4386 . . ... وَأَلْحَقَ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
فهذا ( لا ) يجوز ، لأنه ليس بحَدِّ الكلام ولا وجه ، إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل ، فلما ضارع الذي لا يوجبه كالا ستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعفه . قال الزمخشري : ولا يجوز أن تحصل القراءة المستفيضة على وجةٍ ليس بحدِّ الكلام ولا وجهه ، ولو ك انت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه .
وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة .
الرابع : أن ينتصب عطفاً على تعليل محذوف تقديره : لينتقم منهم ويعلم الذين ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] { وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى } [ الجاثية : 22 ] قاله الزمخشري . قال أبو حيان : ويبعد تقديره : لينتقم منهم لأنه مرتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن « لينتقم منهم » وأما الآتيان فيمكن أن تكونت اللام متعلقةً بفعل محذوف تقديره « وَلِنجْعَلَهُ آيَةً فَعَلنَ ذلك ، ولتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ فَعَلْنَا ذَلِكَ » وهو كثيراً ( ما ) يقدر هذا الفعل مع هذه اللام إذا لم يكن فعل يتعلق به . وقال شهاب الدين : بل يحسن تقدير : لينتقم؛ لأنه يعود في المعنى على إهلاك قوم المترتب على الشرط .
وأما الجزم فقال الزمخشري :
فإن قلت كيف يصح المعنى على جزم « وَيَعْلَمْ » ؟!
قلت : كأنه قيل : أو إن يشأ يجمع بين ثلاثة أمور إهلاك قوم ونجاة قوم وتحذير آخرين . وإذا قرىء بالجزم فيكسر الميم لالتقاء الساكنين .
وقوله : { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } في محل نصب ، بسدها مسدَّ مفعولي العلم .
فصل
المعنى وليعلم الذين يجادلون أي يكذبون بالقرآن إذا صاروا إلى الله عزّ وجلّ بعد البعث لا مهرب لهم من عذاب الله ، كما أنه لا مخلص لهم إذا وُقصت السفن وإذا عصفت الرياح ، ويكون ذلك سبباً لا عترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله .
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
قوله تعالى : { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الشورى : 36 ] الآية لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتنفير عن الدنيا وتحقير شأنها؛ لأن المانع من قبول الدليل هو الرغبة في الدنيا ، فقال : « وَمَا أوتِيتُمْ » « ما » شرطية ، وهي في محل نصب مفعولاً ثانياً « لأوتِيتُمْ » والأول هو ضمير المخاطبين قام مقام الفاعل ، وإنما قدم الثاني؛ لأن له صدر الكلام ، وقوله : « مِنْ شَيْءٍ » بيان لما الشرطية لما فيها من الإيهام . وقوله « فَمَتَاعُ » الفاء جواب الشرط و « متاع » خبر مبتدأ مضمر أي فهو متاع ، وقوله « فَمَتَاعُ » الفاء جواب الشرط و « متاع » خبر خبرها ، و « لِلَّذِينَ » يتعلق « بَأبْقَى » .
فصل
المعنى : وما أوتيتم من شيء من رياش الدنيا فمتاع الحياة الدنيا ليس من زاد المعاد ، وسماه متاعاً تنبيهاً على قلته وحقارته وجعله من متاع الدنيا تنبيهاً على انقراضه ، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى والباقي خير من الخَسِيس الفاني .
ثم بين أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات منها أن يكون من المؤمنين فقال { لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . وهذا يدل على من زعم أن الطاعةت توجب اثواب؛ لأنه متكل على عمل نفسه لا على الله فلا يدخل تحت الآية .
الصفة الثانية : قوله : « وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ » نسقٌ الى « الذين » الأولى . وقال أبو البقاء : « الذين يجتنبون » في موضع جر بدلاً من « الَّذِينَ آمَنُوا » ويجوز أن يكون في محل نصب بإضمار « أعْنِي » أو في موضع رفع على تقدير « هُمْ » وهذا وَهَمٌ منه في التلاوة كأنه اعتقد أن القرآن : وعلى ربهم يتوكلون الذين يجتنبون فبنى عليه الثَّلاثة الأوجه وهو بناء فاسد .
قوله : « كَبَائِرَ الإِثْمِ » قرأ الأخوان هنا وفي النجم : « كَبِيرَ الإِثْمِ : بالإفراد ، والباقون كَبَائِرَ بالجمع في السورتين ، والمفرد هنا في معنى الجمع والرسم الكريم يحتمل القراءتين .
فصل
تقدم معنى كبائر الإثم في سورة النساء . قال ابن الخطيب : نقل الزمخشري عن ابن عباس : أن كبير الإثم هو الشرك ، وهو عندي ضعيف لأن شرط الإيمان مذكور وهو يغني عن عدم الشرك ، وقيل : كبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات . وأما الفواحش فقال السدي : يعني الزنا . وقال مقاتل : ما يوجب الوحدَّ .
قوله : { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ } : إذا » منصوبة بيغفرون ، و « يَغْفِرُونَ » خير لهم والجملة بأسرها عطف على الصلة وهي « يجتنبون » ، والتقدير : والذين يجتنبون وهم يغفرون عطف اسمية على فعلية .
ويجوز أن يكون « هم » توكيد للفاعل في قوله : « غضبوا » ، وعلى هذا فيغفرون جواب الشرط . وقال أبو البقاء : هم مبتدأ ، ويغفرون الخبر ، والجملة جواب إذا .
قال شهاب الدين : وهذا غير صحيح ، لأنه لو كان جواباً لإذا لاقترن بالفاء ، تقول : إذا جاء زيدٌ فعمرو منطلق ، ولا يجوز : عمرو ينطلق . وقيل : ( هم ) مرفوع بفعل مقدر يفسره « يغفرون » بعده ولما حذف الفعل انفصل الضمير . ولم يستبعده أبو حيان ، وقال : ينبغي أن يجوز ذلك في مذهب سيبويه ، لأنه أجازه في الأداة الجازمة تقول : إنْ يَنْطَلِقْ زَيْدٌ ينطلق تقديره : ينطلق زيد ينطلق فينطلق واقع جواباً ومع ذلك فسَّر الفعل فكذلك هذا . وأيضاً فذلك جائز في فعل الشرط بعدها نحو : إذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ فليجز في جوابها أيضاً .
فصل
وإذا ما غضبوا هم يغفرون يَحْلِمُونَ ويَكْظِمُونَ الغيظ ، وخص الغضب بلفظ الغفران؛ لأن الغضب على طبع النار واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة ، فلهذا خصه الله تعالى بهذا اللفظ .
قوله ( تعالى ) : { والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ } أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه من طاعته . وقال ابن الخطيب : المراد منه تمام الانقياد .
فإن قيل : أليس أنه لما حصل الإيمان فيه شرطاً فقد دخل في الإيمان إجابة الله؟!
والجواب : أن يحصل هذا على الرضا بضاء الله من صميم القلب وأن لا يكون في قلبه منازعة . ثم قال : « وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ » أي الواجبة لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب .
قوله : { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أي يتشاورون فيما يبدوا لهم ولا يجعلون . والشُّورَى مصدر كالفتيا بمعنى التَّشاور . { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .
قوله : { والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي } أي الظلم والعدوان « هُمْ يَنْتَصِرُونَ » أي ينتقمون من ظالمهم من غير أن يعتدوا . قال ابن زيد : جعل الله المؤمنين صنفين : صنف يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم وهو قوله : { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } وصنف ينتصرون نم ظالهم وهم المذكورون في هذه الآية كانوا يكرهون أن يستذلوا ، فإذا قدروا عفوا . وقال عطاء : هم المؤمنون الذي أخرجهم الكفار من مكة وبغوا عليهم ، ثم مكنهم الله في الأرض حتى انتصروا ممن ظلمهم . وعن النَّخعيِّ أنه كان إذا قرأها قال : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء .
فإن قيل : هذه الآية مشكلة لوجهين :
الأول : أنه لما ذكر قبله : وإذا ما غضبوا هم يغفرون كيف يليق أن يذكر معه ما يَجْرِي مَجْرَى الضد له وهم الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون؟!
الثاني : أن جميع الآيات دالة على أن العفوا أحسن . قال تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] وقال : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] وقال { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] وقال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }
[ النحل : 126 ] ؟
فالجواب : أن العفو على قسمين :
أحدهما : أن يصير العفو سبباً لتسكين الفتنة ورجوع الجاني عنه جنايته .
والثاني : أن يصير العفو سبباً لمزيد جرأة الجاني وقوة غيظه ، فآيات العفو محمولة على القسم الأول ، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني وحينئذ يزول التناقض .
« روي : أن زَيْنَبَ أقبلت على عائشة تشتمها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عنها فلم تنته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » دونَكِ فَانْتَصِرِي « وأيضاً فإنه تعالى لم يرغِّب في الانتصار ، بل بين أنه مشروع فقط ، ثم بين أن مشروعيته مشروطة برعاية المماثلة فقال : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } ثم بين أن العفو أولى بقوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } فزال السؤال .
قوله : » هُمْ يَنْتَصِرُونَ « إعرابه كإعراب : { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } ففيه ما تقدم ، إلا أنه يزيد هنا أنه يجوز أن يكون » هُمْ « توكيداً للضمير المنصوب في » أصَابَهُمْ « أكد بالضمير المرفوع وليس فيه إلا الفصل بين المؤكد والمؤكد ، والظاهر أنه غير ممنوعٍ .
قوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . } الآية لما قال : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } بين بعده أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل ، فإن العدل هو المساواة ، وسمي الجزاء سيئة وإن كان مشروط مأذوناً فيه قال الزمخشري : كلتا الفعلتين : الأولى : وجزاؤها سيئة؛ لأنها تسوء من تنزل به ، قال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] يريد : ما يسوءهم من المصائب والبلاء . وأجاب غيره بأ ، ه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر أطلق اسم أحدهما على الآخر مجازاً والأول أظهر .
وقال آخرون : إنما سمي الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئةً لتشابههما في الصُّورة .
فصل
قال مقاتل : يعني القصاص في الجراحاتن والدماء . وقال مجاهد والسدي : هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله تقول : أخزاك الله وإذا شتمك فاشتمه بمثلها من غير أن تعتدي . قال سفيان بين عيينة : قلت لسفيان الثوريِّ : ما قوله عز وجل : وجزاء سيئة سيئة مثلها؟ قال : أن يشتمك رجلٌ فتشتمه أو يفعل بك فتفعل به فلم أجد عنده شيئاً ، فسألت هشام بن حجيرٍ عن هذه الآية فقال : الجارح إذا جرح يقتص منه وليس هو أن يشتمك فتشتمه .
فصل
دلت هذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمِّيِّ وأن الحرَّ لا يقتل بالعبد؛ لأن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة في المسألتين ، وأيضاً فإن الحر إذا قتل العبد يكون قد أتلف على مالك البعد شيئاً ( ف ) يساوي عشرة دنانير مثلاً فوجب أن يلزمه أداء عشرة دنانير لهذه الآية وإذا وجب الضَّمان وجب أن لا يجب القصاص ، لأنه لا قائل بالفرق ، فوجب أن يجري القصاص بينهما . والدليل على أن المماثلة شرط لوجوب القصاص هذه الآية ، وقوله :
{ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ غافر : 40 ] وقوله { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] وقوله تعالى : { والجروح قِصَاصٌ } [ المائدة : 45 ] وقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] . والقصاص عبار عن المساواة والمماثلة فهذه النصوص تقتضي مقابلة الشيء بمثله . ودلت الآية أيضاً على أن الأيدي تقطع باليد الواحدة؛ لأن كل القطع أو بعضه صدر عن ( كل ) أولئك القاطعين أو عن بعضهم . فوجب أن يشوع في حق أولئك القاطعين مثله بهذه النصوص .
فإن قيل : فيلزم استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع! .
فالجواب : أنه لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجنيِّ عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى . ودلت الآية أيضاً على مشروعية القصاص في حق شريك الأب لأنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله . ودلت الآية أيضاَ على أن من حرق حرقناه ، ومن غرَّق غرقناه ، وعلى أن شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا : تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص؛ لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه فوجب أن يهدر دمهم . ودلت أيضاً على أن المكره يجب عليه القود ، لأنه صدر منه القتل ظلماً فوجب مثله أما صدور القتل فالحسّ يدل عليه ، وأما أنه قتل ظلماً فلإجماع المسلمين على أنه مكلف بأن لا يقتل فوجب أن يقابل بمثله ودلت أيضاً على أن منافع الغصب مضمونة ، لأن الغاصب فوَّت على المالك منافع تقابل في العرف بدينار مثلاً فوجب أن يفوّت على الغاصب مثله من المال .
قوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } بالعفو بينه وبنين ظالمه « فأمره على الله » . قال الحسن رضي الله عنه : إذا كان يوم القيامة نادة منادٍ : مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الله أجْرٌ فَلْيَقُمْ ، فَلاَ يَقُومُ إلاَّ مَنْ عَفَا . ثم مقرأ هذه الآية { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } . قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : الذين يبدأون بالظلم ، وفيه تنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له الزيادة والتعدي في الاستيفاء خصوصاً في حال الحرب والتهاب الحمية فربما صار المظلوم عند الاستيفاء ظالماً .
وفيه دقيقة وهو أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم وأخبر أنه لا يحب الظالم وإذا كان لا يحبه وندب غيره إلى العفو عنه فالمؤمن الذي يحبه الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو الله عنه .
قوله : « وَلَمَنِ انْتَصَرَ » هذه لام الابتداء ، وجعلها الحوفي وابن عطية للقسم ، وليس يجيد إذا جعلنا « مَنْ » شرطية كما سيأتي؛ لأنه كان ينبغي أن يُجاب السابق ، وهنا لم يجب إلا الشرط . و « من » يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر ، والفاء في « فَأُؤْلَئِكَ » جواب الشرط ، وأن تكون موصولة ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط . و « ظُلْمِهِ » مصدر مضاف للمفعول وأيدها الزمخشري بقراءة من قرأ : « بعدما ظُلِمَ » مبنياً للمفعول .
فصل
معنى الآية : ولمن انتصر بعد ظلم الظالم إياه فأولئك المنتصرين ما عليهم من سبيل لعقوبة ومؤاخذة ، لأنهم ما فعلوا إلا ما أبيح لهم من الانتصار . واحتجوا بهذه الآية على أن سراية القود مُهْدَرَةٌ لأنه فعل مأذون فيه مطلقاً فيدخل تحت هذه الآية .
قوله تعالى : { إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس } أي يبدأون بالظلم { وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } يعملون فيها بالمعاصي { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
قوله : { وَلَمَن صَبَرَ } الكلام في اللام كما تقدم : فإن جعلناها شريطة فإن جواب القسم المقدر ، وحذف الشرط للدلالة عليه ، وإن كانت موصولة ، كان قوله : « إنَّ ذَلِكَ » هو الخبر . وجوز الحوفي وغيره أن تكون « مَنْ » شرطية و « إنَّ ذَلِكَ » جوابها على حذف الفاء على حدِّ حذفا في قوله :
4378 مَنْ يَفْعَل الحَسَنَات . . . .
وفي الرابط قولان :
أحدهما : هو اسم الإشارة ، إذا أريد به المبتدأ ، ويكون حينئذ على حذف مضاف تقديره : { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } .
والثاني : أنه ضمير محذوف تقديره لمن عزم الأمور « منه أو له » . وقوله : { وَلَمَن صَبَرَ } عطف على قوله : « ولمن انْتَصَرَ » والجملة من قوله : « إنَّما السَّبِيلُ » اعتراض .
فصل
المعنى لمن صبر وغفر فلم يقتص وتجاوز ، إن ذلك الصبر والتجاوز من عزم الأمور حقها وحزمها . قال مقاتل : من الأمور التي أمر الله بها . وقال الزجاج : الصابر يؤتى بصبره الثواب والرغبة في الثواب أتم عزماً .
قوله : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ } أي فليس له ناصر يتولاه من بعد إضلال الله إياه ، وليس له من يمنعه من عذاب الله ، وهذا صريح في جواز أن الإضلال من الله وأن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله .
قال القاضي : المراد : ومن يضلل الله عن الجنة لجنايته فما له من ولي من بعده ينصره . وأجيب بأن تقييد الإضلال بهذه الصور المعينة خلاف الدليل ، وأيضاً فالله تعالى ما أضله عن الجنة في قولكم بل هو أضل نفسه عن الجنة .
قوله : { وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } يوم القيامة { يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لعظم ما شاهدوا من العذاب .
ثم ذكر حالهم عند عرض النار . قوله : « يُعْرَضُونَ » حال ، لأن الرؤية بصرية ، و « خَاشِعِينَ » حال والضمير في « عَلَيْهَا » يعود على النار لدلالة العذاب عليها .
وقرأ طلحة : من الذِّلِّ بكسر الذال وقد تقدم الفرق بين الذَّل والذِّل و « مِنْ الذُّلِّ » يتعلق بخاشعين ِأي من أجل . وقيل : هو متعلق بينظرون . وقوله : « مِنْ طَرَفٍ » يجوز في « مِنْ » أن تكون لاتبداء الغاية ، وأن تكون تبعيضية وأن تكون بمعنى الباء ، والظرف قيل : يراد به العضو وقيل : يراد به المصدر يقال : طرفت عينه تطرف طرفاً أي ينظرون نظراً خفيًّا .
فصل
اعلم أنه ذكر حالهم عند عرضهم على النار ، فقال : خاشعين أي خاضعين حقيرين بسبب ما لحقهم من الذل يسارقون النظر إلى النر خوفاً منها وذلة في أنفسهم ، كما ينظر المقتول إلى السيف فلا يقدر أن يملأ عينيه منه ، ولا يفتح عينه إنما ينظر ببعضها ، وإذا كانت من بمعنى الباء أي بطرف خفي ضعيف من الذل .
فإن قيل : إنه قال في صفة الكفار : إنهم يحشرون عمياً فكيف قال هاهنا إنهم ينظرون من طرفٍ خفي؟! فالجواب : لعلهم يكونون في الابتداء هاهنا ثم يصيرون عمياً ، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم آخرين . وقيل : معنى ينظرون من طرفٍ خفيٍّ أي ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم يحشرون عمياً والنظر بالقلب خفيّ .
ولما وصف الله تعالى حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال : { وَقَالَ الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة } وقيل : خسروا أنفسهم بأن صاروا إلى النار وأهليهم بأن صاروا لغيرهم إلى الجنة . وهذا القول يحتمل أن يكون واقعاً في الدنيا ، وإما أن يقولوه يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة ، ثم قال : { أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ } أي دائم . قال القاضي : هذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب : أنّ لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكافر قال تعالى : { والكافرون هُمُ الظالمون } [ البقرة : 254 ] والذي يؤكد هذا قوله تعالى بعد هذه الآية : { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله } والمعنى أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم عند الله تعالى ما أتوا بتلك الشفاعة وهذا لا يليق إلا بالكافر .
قوله : « يَنْصُرُونَهُمْ » صفة « لأولياء » ، فيجوز أن يحكم على موضعها بالجرِّ اعتباراً بلفظ موصوفها وبالرفع اعتباراً بمحلة ، فإنه اسم لكان . وقوله : « مِنْ سَبِيلٍ » إما فاعل وإما مبتدأ ، والمعنى فما له من سبيل إلى الحق في الدنيا والجنة في العُقْبَى وقد أفسد عليهم طريق الخير .
قوله : { وَقَالَ الذين آمنوا } يجوز أن يكون ماضياً على حقيقته ، ويكون « يَوْمَ القِيَامَةِ » معمولاً « لخَسِرُوا » ويجوز أن يكون بمعنى يقول فيكون يوم القيامة معمولاً له .
قله تعالى : { استجيبوا لِرَبِّكُمْ . . . } الآيات . لما ذكر الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود ، فقال : { استجيبوا لِرَبِّكُمْ } أي أجيبوا داعي ( ربكم ) يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله } أي لا يقدر أحدٌ على دفعه .
قوله : « مِنَ اللهِ » يجوز تعلقه بيأتي أي يأتي من الله يومٌ لا مرد له ، وأن يتعلق بمحذوف يدل عليه « لاَ مَرَدَّ لَهُ » أي لا يرد ذلك اليوم ما حكم الله به فيه .
وجوز الزمخشري أن يتعلق « بِلاَ مَرَدَّ » ، ورده أبو حيان : بأنه يكون معمولاً وكان ينبغي أن يعرب فينصب منوناً .
واختلفوا في المراد بذلك اليوم ، فقيل : هو ورود الموت . وقيل : يوم القيامة ، قال ابن الخطيب : ويحتمل أن يكون معنى قوله : لا مرد له « أي لا يقبل التقديم ولا التأخير ، وأن يكون معناه أنه لا مرد فيه إلى حال التكليف حتى يحصل فيه التلاقي .
ثم وصف اليوم فقال فيه : { مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ } تلجأون إليه يقع به المخلص من العذاب { وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } ينكر تغير ما بكم . ويجوز أن يكون المراد من النكير الإنكار ، أي لا تقدرون أن تنكروا شيئاً مما اقترفتموه من الأعمال .
قوله : « فَإنْ أَعْرَضُوا » عن الاستجابة ولم يقبلوا هذا الأمر { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } بأن تحفظ أعمالهم وتُحْصِيهَا { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } أي ما عليك إلا البلاغ ، وذلك تسلية من الله تعالى له . ثم بين السبب في إصرارهم على الكفر فقال : { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) يعني الغنى والصحة « فرح بها » .
واعلم أن نعم الله وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر ، فلذلك سميت ذوقاً . فبين ( الله ) تعالى أن الإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به وعظم غروره ، ووقع في العجب والكبر ، ويظن أنه فاز بكل المنى ، ووصل إلى أقصى السعادات ، وهذه طريقة من ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة .
ثم إنه تعالى بين أنه متى أصابهم سيئة أي شيء يسوءهم في الحال كالمرض والفقر والقحط وغيرها فإنه يظهر الكفر وهو ( معنى ) قوله : { فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ } ، والكفور : هو المبالغ في الكفران والمراد بقوله : كفور أي لما تقدم من نعمة الله عليه ينسى ويجحد باول شدة جميع ما سلف من النِّعم .
وقوله : فإنَّ الإنسان من وقوع الظاهر موقع المضمر أي فإنه كفور . وقدر أبو البقاء : ضميراً محذوفاً فقال فإن الإنسان ( منهم ) ولما ذكر إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بعدها اتبع ذلك بقوله : { لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض } له التصرف فيهما بما يريد والمقصود منه أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه بل إذا علم أن الكل ملك لله وملكه وإنما حصل له القدر إنعاماً من الله عليه فيصير ذلك حاملاً له على مزيد من الطاعة .
ثم ذكر من أقسام تصرف الله تعالى في العالم أنه يخص البعض بالأولاد و الإناث والبعض بالذكور والبعض بهما ، والبعض بأن يجعله محروماً من الكل وهو المراد بقوله : { وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } .
قوله : { ذُكْرَاناً وَإِنَاثا } حال وهي حال لازمة؟ وسوغ مجيئها كذلك أنها بعد ما يجوز أن يكون الأمر على خلافه ، لأن معنى يزوجهم يقرنهم .
قال الزمخشري : فإن قلت : لم قدم الإناث على الذكور مع تقديمهم عليهن ثم رجع فقدمهم؟! ولم عرف الذكور بعدما نكَّر الإناث؟! . قلت : لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى ، وكفران الإنسان بنسيانه الرحمة السابقة عنه ، ثم عقبه بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد فقد الإناث؛ لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاؤه لا ما يشاؤ الإنسان ، فكان ذكر الإنثا اللاتي من جملة ما يشاؤه الإنسان أهم ، والأهم واجب التقديم ، وليليَ الجنس التي كانت العرب تعده بلاء ( ذكر ) البلاء ، وآخر الذكور ، فلما أخرهم تدارك تأخيرهم وهم أحقَّاء بالتقديم وبالتَّعريف ، لأن تعريفهم فيه تنويه وتشهير ، كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الاعلام المذكورين الذين لا يخفون عليكم .
ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حظه من التقديم والتأخير وعرف أن تقديمهن لم يكن لتقدمهن ولكن لمقتضى آخر فقال : « ذُكْرَاناً وإنَاثاً » ( كَمَا قَالَ : إنَّا ) { خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } [ الحجرات : 13 ] فجعل فيه { الزوجين الذكر والأنثى } .
فصل
قال ابن الخطيب : وفي الآية سؤالات :
الأول : أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور أولاً ، ثم قدم الذكر على الإناث ثانياً فما السبب في هذا التقديم والتأخير؟
الثاني : أنه ينكّر الإناث وعرف الذكور وقال في الصِّنفين معاً { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } .
الثالث : لما كان حصول الولد هبة من الله تعالى فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأيّ حاجة في عدم حصوله إلى قوله : { وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } .
الرابع : هل المراد بهذا الحكم جمع معيَّنون أو الحكم على الإنسان المطلق؟
والجواب على الأول : أن الكريم يسعى في أن يقع الحتم على الخير والراحة فإذا وهب الأنثى أولاً ثم أعطي الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح ، وهذا غاية الكرم ، أما إذا أعطي الذكر أولاً ثم أعطي الأنثى ثانياً فكأنه نقله من الفرح إلى الغم ، فذكر الله تعالى هبة الأنثى أولاً ، ثم ثنَّى بهبة الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون أليق بالكرم .
قيل : من يُمْنِ المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر؛ لأن الله بدأ بالإناث وأما تقديم ذكر الذكور على الإناث ثانياً؛ لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى ، والأفضل مقدم على المفضول .
وأما الجواب عن تنكير الإناث وتعريف الذكور فهو أن المقصود منه التبيه على أن الذكور أفضل من الأنثى وأما قوله : { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } وهو أن كل شيئين يقرن أحدهما بالآخر ، فهما زوجان وكل واحد منهما يقال له : زوج والكناية في « يُزَوِّجُهُمْ » عائدة على الإناث والذكور والمعنى يجعل الذكور والإناث أزواجاً أي يجمع له بينهما فيولد له الذكور والإناث .
وأما الجواب عن قوله « عقيماً » فالعقيم هو الذي لا يلد ولا يولد له يقال : رَجُلٌ عَقِيمٌ ، وامْرَأَةٌ عَقِيمٌ ، وأصل العقم القطع ومنه قيل : الملك عقيمٌ ، لأنه يقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق .
وأما الجواب عن الرابع فقال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : يَهبُ لمن يشاء إناثاً ، يريد لوطاً وشعيباً لم يكن لهما إلا البنات ، و { وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور } يريد : إبراهيم لم يكن له إلا الذكور ، { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } يريد محمداً صلى الله عليه وسلم كان له من البنين ثلاثة على الصحيح القاسم وعبدالله ، وإبراهيم ، ومن البنات إربع : زينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة { وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } يريد يحيى وعيسى عليهما الصَّلاة والسَّلام .
وقال أكثر المفسرين : هذا على وجه التمثيل ، وإنما الحكم عام في كل الناس؛ لأن المقصود بيان نفاذ قدرة الله تعالى في تكوين الأنبياء كيف شاء ، فلا معنى للتخصيص .
ثم إنه تعالى خت الآية بقوله : { إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } . قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : عليم بما خلق قدير ما يشاء أن يخلقه . والله أعلم .
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً . . . } الآية لما بين حال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه . وقوله : « أَنْ يُكَلمَهُ » « أن » ومنصوبها اسم كان و « لِبَشَرٍ » خبرها . وقال أبو البقاء : « أن » والفعل في موضع رفع على الابتداء وما قبله الخبر ، أو فاعل بالجار لاعتماده على حرف النفي ، وكأنه وهم في التلاوة فزعم أن القرآن : وما لبشر أن يكلمه مع أنه يمكن الجواب عنه بتكلُّفٍ .
و { إِلاَّ وَحْياً } يجوز أن يكون مصدراً أي إلا كلام وحي . وقال أبو البقاء : استثناء منقطع؛ لأن الوحي ليس من جنس الكلام . وفيه نظر؛ لأن ظاهره أنه مفرغ ، والمفرغ لا يوصف بذلك . ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال .
قوله : « أَوْ يُرْسِلَ » قرأ نافع : « أوْ يُرْسِلُ » بفرع اللام ، وكذلك : فيوحي فسكنت ياؤه . والباقون بنصبهما . فاما القراءة الأولى ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه رفع على إضمار مبتدأ أي : أو هو يرسل .
الثاني : أنه عطف على « وَحْياً » على أنه حال؛ لأن وحياً في تقدير الحال أيضاً فكأنه قال : إلا موحياً أو مرسلاً .
الثالث : أن يعطف على ما يتعلق به « مِنَ وَراءِ » ؛ إذ تقديره أو يُسْمِعُ من وراء حجاب و « وَحْياً » في موضع الحال عطف عليه ذلك المقدر المعطوف عليه « أوْ يُرْسِل » ، والتقدير : إلاَّ موحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ مُرْسِلاً .
وأما الثانية ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يعطف على المضمر الذي يتعلق به { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } إذ تقديره : أو يُكَلِّمَهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ . وهذا الفعل ( المقدر ) معطوف على « وَحْياً » ، والمعنى : إلا بوحي أو إسماعٍ من وراءِ حجابٍ أو إرسال رسولٍ .
ولا يجوز أن يعطف على « يُكَلِّمَهُ » لفساد المعنى؛ إذ يصير التقدير : ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أن يُرْسِلَ اللهُ رَسُولاً ، فيفسد لفظاً ومعنًى .
وقال مكي : لأنه يلزم منه نفي الرسل ، ونفي المرسل إليهم .
الثاني : أن ينصب بأن مضمرة وتكون هي وما نصبته معطوفين على « وَحْياً » و « وَحْياً » ، فيكون هذا أيضاً حالاً ، والتقدير : إلا موحياً أو مرسلاً .
وقال الزمخشري : « وَحْياً وأن يرسل » مصدران واقعان موقع الحال ، لأن : أن يُرْسِلَ في معنى : إرسالاً و { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } ظرف واقع موقع الحال أيضاً كقوله : { وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] والتقدير : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً .
ورد عليه أبو حيان بأن وقوع المصدر موقع الحال غير منقاس وإنما قاس منه المبرد ما كان نوعاً للفعل فيجيز أتيته ركضاً ويمنع : أتيته بكاءً أي باكياً .
وبأن : أن يرسل لا يقع حالاً لنص سيبويه : على أن « أَنْ » والفعل لا يقع حالاً وإن كان المصدر الصريح يقع حالاً تقول : جاء زيد ضحكاً ، ولا يجوز أن يضحك .
الثالث : أنه عطف على معنى وحياً فإنه مصدر مقدر بأن والفعل والتقدير : إلاَّ بأن يوحي إليه أو بأن يرسل . ذكره مكي وأبو البقاء .
قوله : { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } العامة على الإفراد . وابن أبي عبلة : حجبٍ جمعاً . وهذا الجار يتعلق بمحذوف تقديره : أو يكلمه من وراء حجاب . وقد تقدم أن هذا الفعل معطوف على معنى وحياً ، أي إلاَّ أن يوحي أو يكلمه .
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يتعلق من ب « يْكَلِّمهُ » ( الموجودة في اللفظ لأن ما قبل الاستثناء لا يعمل فيما بعد إلا . ثم قال : وقيل : من مسبوقة بيُكَلِّمُهُ } لأنه ظرف والظرف يُتَّسَعُ فيه .
فصل
ذكر المفسرون أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نيباً كما كلمه موسى ونظر إليه؟ فقال : لم ينظر موسى إلى الله عز وجل . فأنزل الله تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أي يوحي إليه في المنام أو بالإلهام أو من وراء حجاب يسمعه كلامه ولا يراه كما كلم موسى عليه الصَّلاة والسَّلام أو يرسل رسولاً ما جبريل أوة غيره من الملائكة فيوحي بإذنه ما يشاء أن يوحي ذلك الرسول إلى المرسل إليه بإذن الله مايشاء .
وهذه الآية تدل على ( أن ) الحسن لا يحسن لوجه عائد إليه وأن القبح لا يقبح لوجه عائد إليه بل الله إنما يأمر بما يشاء من غير تخصيص وأنه ينهى عما يشاء من غير تخصيص ، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله : « مَا يَشَاءُ » ، ثم قال : { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } أي عليم بصفات المخلوقين حيكم تجري أفعاله على الحكمة فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام وأخرى بإسماع الكلام وثالثاً بواسطة الملاكئة الكرام . ولما بين الله كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام قال : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } أي كما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك روحاً من أمرنا .
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) نبوة . وقال الحسن ( رضي الله عنه ) : رحمة وقال السدي ومقاتل : وحياً . وقال الكلبي : كتاباً ، وقال الربيع ، جبريل . وقال مالك بن دينار : يعني القرآن .
قوله : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب } « ما » الأولى نافية والثانية استفهامية ، والجملة الاستفهامية معلقة للدِّراية ، فهي في محل نصب لسدها مفعولين ، والجملة المنفية بأسرها في محل نصب على الحال من لكاف في « إلَيْكَ » .
فصل
المعنى : وما كنت تدري قبل الوحي ما الكتاب ولا الإيمان يعني شرائع الإيمان ومعاملة . وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة : الإيمان هنا الصلاة لقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم . وقيل : هذا على حذف مضاف أي ما كنت تدري ما الكتب ولا الإيمان حين كنت طفلاً في المهد .
وقيل الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به وأنه قبل النبوة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل كان عارفاً بالله تعالى . وقال بعضهم : صفات الله تعالى على قسمين : منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقول ومنها مالا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية فهذا القسم الثاني لم يكن معرفته حاصلاً قبل النبوة . واعلم أن أهل الأصول على أن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام كانوا مؤمنين من قبل الوحي ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يعبد الله قبل الوحي على دين إبراهيم ولم يتبين له شرائع دينه .
قوله : « جَعَلْنَاهُ » الضمير يعود إما لروحاً وإما للكتاب ، وإما لهما ، لأنهما مقصد واحد ، فهو كقوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] .
فصل
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) يعني الإيمان : وقال السدي : يعني القرآن يهدي به من يشاء « نرشد به من نشاء » مِنْ عِبَادِنَا ، و « نهدي » يجوز أن يكون مستأنفاً وأن يكون مفعولاً مكرراً للفعل وأن يكون صفة لنوراً .
قوله : { وَإِنَّكَ لتهدي } قرأ ( شهر ) بن حوشب : لتهدي مبنياً للمفعول وابن السَّميقع : لتهدي بضم التاء وكمسر الدال من : أهدى والمراد بالصراط المستقيم الإسلام .
قوله : { صِرَاطِ الله } بدل من : « صِرَاطٍ » قبله بدل كل من كل معرفة من نكرة .
فصل
نبه بهذه الآية على أن الذي يجوز عبادته يجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض ، ثم قال : { أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور } أمور الخلائق كلها في الآخرة وهذا كالوعيد والزجر أي ترجع الأمور كلها إلى الله تعالى حيث لا يحاكم سواه فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب .
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ قَرَأَ سُورَة حَمَ عَسَقَ كان ممَّن تصلِّي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحِمُون له » ( والله أعلم ) .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
قوله تعالى : { حموالكتاب المبين } إن جعلت « حم » قسماً كانت الواو عاطفة ، وإن لم تكن الواو للقسم .
وقوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ } جواب القسم . وهذا عندهم من البلاغة ، وهو كون القسم والمقسم عليه من وادٍ واحدٍ ، كقول أبي تمام :
4388 .. وَثَنَايَاك إنَّها إغْريضُ
إن أريد بالكتاب القرآن ، وإن أُرِيدَ به جنس الكتب المنزلة غير القرآن لم يكن من ذلك . والضمير في « جَعَلْنَاهُ » على الأول يعود على الكتاب وعلى الثاني للقرآن وإن لم يصرح بذكره . والجَعْلُ في هذا تصيير ، ولا يلتفت لخطأ الزمخشري في تَجْوِيزِه أن يكون بمعنى خلقانه .
فصل
ذكر المفسرون في هذه الآية وجهين :
الأول : أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين فيكون المقسم واقعاً على أن هذه السورة هي سورة حم .
الثاني : أن يكون القسم واقعاً على قوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } .
وفي المراد بالكتاب قولان :
أحدهما : أنه القرآن فيكون قد أقسم بالقرآن أنه جعله عربياً .
والثاني : المراد بالكتاب الكتابة والخط ، أقسم بالكتاب لكثرة ما فيه من المنافع ، ووصف الكتاب بأنه مبين أي أبان طريق الهدى من طريق الضلال ، وأبان ما يحتاج إليه الأمة من الشريعة وتسميته مبيناً مجاز؛ لأن المبين هو الله تعالى وإنما سمي القرآن بذلك توسعاً من حيث إنه حصل البيان عنده .
وقوله : « جَعَلْنَاهُ » أي صَيَّرْنَا قراءة هذا الكتاب عربياً . بيّناه . وقيل سميناه وقيل وضعناه . يقال : جَعَلَ فُلاَنٌ زَيْداً عَالِماً ، أي وصفه بهذا ، كقوله : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] و { جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } [ الحجر : 91 ] { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج } [ التوبة : 19 ] كلها مدفوع من وجهين :
الأول : أنه لو كان المراد من الجعل التسمية لزم أن سماه عجمياً أنه يصير عجمياً ، وإن كان بلغة العرب ، وهذا باطل .
الثاني : ( أنه ) لو صرف الجَعْلُ إلى التسمية لزم كونُ التسمية مجعولة ، والتسمية أيضاً كلام الله وذكل أنه جعل بعض كلامه ، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل .
الثاني : أنه وصفه بكونه قرآناً ، وهو إنما سمي قرآناً ، لأنه جعل بعضه مقروناً بالبعض ، وما كان ذلك مصنوعاً .
الثالث : وصفه بكونه عربياً ، وإنما يكون عربياً ، لأن العرب اختصت بضوع ألفاضه واصطلاحهم ، وذلك يدل على أنه مجعول . والتقدير : حَم وَرَبِّ الكِتَابِ المُبِينِ .
ويؤكد هذا بقولهن عليه الصلاة والسلام « يَا رَبَّ طَه وَيس ، ويَا ربِّ القُرْآنِ العَظِيم » .
وأجاب ابن الخطيب : بأن هذا الذي ذكرتموه حق؛ لأنكم استدللتم بهذه الوجوه على كون الحروف المتواليات والكلمات المتعاقبة مُحْدَثَةً ، وذلك معلوم بالضرورة وَمَنِ الذي ينازعكم فيه .
قله : { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } كلمة « لَعَلَّ » للتمني والترجي ، وهي لا تليق بمن كان عالماً بعواقب الأمور ، وكان المراد ههنا : إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبيًِّا لأجل أن تُحِطُوا بمَعْنَاه .
قوله تعالى : { وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب } متعلقان بما بعدهما ، ولا تمنع اللام من ذلك . ويجوز أن يكونا حالين مما بعدهما؛ لأنهما كمانا وصفين له في الأصل فيتعلقان بمحذوف ، ويجوز أن يكون « لدينا » متعلقاً بما تعلق به الجار قبله ، إذا جعلناه حالاً من لَعَلِيّ ، وأن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه . وكذا يجوز في الجار أن يتعلق بما تعلق به الظرف وأن يكون حالاً من ضميره عند من يجوز ( تقديمها ) على العامل المعنوي ، ويجوز أن يكون الظرف بدلاً من الجار قبله ، وأن يكونا حالين من « الكتاب » أو مِنْ « أُمِّ » .
ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء ، وقال : « ولا يجوز أن يكون واحدٌ من الظرفين خبراً؛ لان الخبر لزم أن يكون » عَلِيًّا « من أجل اللام » . قال شهاب الدين : وهذا يمنع أن تقول : « إنَّْ زَيْداً كَاتِبٌ لَشَاعِرٌ؛ لأنه منع أن يكون غير المقترن بها خبراً » .
وقرأ حمزةُ والكِسَائِيُّ إم الكتاب بكسر الألف والباقون بالضم . والضمير في قوله « وَإنَّهُ » عائد إلى الكتاب المتقدم ذكره .
فصل
قيل : أم الكتاب هو اللوح المحفوظ . قال قتادة : أم الكتاب أصل الكتاب ، وأُمُّ كُلِّ شيء أصْله .
قال ابن عباس : ( رضي الله عنه ) : أَوَّلُ ما خَلَقَ اللهُ القَلَمَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا يُرِيدُ أنْ يَخْلُقَ فالكتاب عنده ثم قرأ : وإنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا ، فالكمتاب مثبت عنده في اللوح المحفوظ كما قال : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 2122 ] .
وقوله : { لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } قال قتادة : يخبر عن منزلته وشرفه ، أي إن كَذَّبْتُمْ بالقرآن يا أهل مكة فَإنه عندنا « لَعَلِيٌّ » رفيع شريف « حَكِيمٌ » ِأي محكم في أبواب البلاغة والفصاحة ، أو ذو حكمة بالغةٍ . قيل : المراد بأم الكتاب الآيات المحكمة لقوله تعالى : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب } [ آل عمران : 7 ] والمعنى أن سورة حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم .
فإن قيل : ما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب فيستحيل عليه السهو والنسيان؟
فالجواب : أنه تعالى لما أثْبَتَ في ذلك أحكامَ حوادثِ المخلوقات ، ثم إن الملائكة إذا شاهدوا أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافَقَى ذلك المكتوب استدلوا بذلك على كمال حكمته وعلمه .
قوله تعالى : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً } في نصب « صفحاً » خمسةُ أوجه :
أحدهما : أنه مصدر في معنى يضرب؛ لأنه يقال : ضَرَبَ عَنْ كَذَا وأَضْرَبَ عَنْهُ بمعنى أعْرَضَ عنه وصَرَفَ وَجْهَهُ عَنْهُ قال :
4389 اضْرِبَ عَنْكَ الهُمُومَ طَارِقَهَا ... ضَرْبَكَ بِالسَّيْفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ
والتقدير : أفنصفح عنكم الذكر ، أي أفَنُزِيلُ القرآن عنكم إزالةً ، يُنْكِرُ عليهم ذلك .
الثاني : أنه منصوب على الحال من الفاعل أي صافحين .
الثالث : أن ينتصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة ، فيكون عامله محذوفاً ، نحو : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] قاله ابن عطية .
الرابع : أن يكون مفعولاً من أجله .
الخامس : أن يكون منصوباً على الظرف .
قال الزمخشري : و « صَفْحاً » على وجهين : إما مصدر من صَفَحَ عنه إذَا أعرض عنه ، منتصب على أنه مفعول له ، على معنى أَفَنَعْزِلُ عَنْكُمْ إنْزَالَ القُرْآنِ وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم؟ وإما بمعنى الجانب من قولهم : نَظَرَ إلَيْهِ بصفح وجهه ، وصفح وجهه بمعنى أفَنُنَحِّيهِ عَنْكُمْ جانباً؟ فينتصب على لاظرف ، نحو : ضَعْهُ جانباً ، وأمْش جنباً ، وبعضده قراءة : صُفْحاً بالضم . يشير إلى قراءة حَسَّانِ بْنِ عبد الرحمن الضُّبَعيَّ وسُمَيْطِ بن عُمَر وشُبَيْل بن عَزرَةَ قرأوا : صُفْحاً بضم الصاد وفيه احتمالات :
أحدهما : ما ذكره من كونه لُغَةً في المفتوح ، ويكون ظرفاً . وظاهر عبارة أبي البقاء أنه يجوز فيه ما جاز في المفتوح؛ لأنه جعله لغة فيه كالسَّدِّ والسُّدِّ .
والثاني : أنه جمع صَفُوحٍ ، نحو : صَبُورٍ ، وصُبْر ، فينتصب حالاً من فاعل « يَضْرِبُ » وقدَّرَ الزمخشري على عادته فعلاً بين الهمزة والفاء ، أي : أَنُهْمِلُكُمْ فَنَضْرِبُ . وقد تقدم ما فيه .
قوله : { أَن كُنتُمْ } قرأ نافع والأَخَوَانِ بالكسر ، على أنها شرطيه . وَإسْرَافُهُمْ كان مُتَحَقِّقاً و « إنْ » إنما تدخل على غير المُتَحَقّق أو المتحقق المبهم الزمان .
وأجاب الزمخشري : أنه من الشرط الذي يصدر عن المُدْلِي بصحة الأمر والتحقيق لثبوته كقوله الأجير : « إنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ عَمَلاً فَوَفِّني حَقِّي » ، وهو عالم بذلك ، ولكنه تخيل في كلامه أن تفريطَك في إيصال حقي فعل من له شك في استحقاقه إيَّاه تجهيلاً لهم .
وقيل : المعنى على المُجَازَاة ، والمعنى أفنضرب عنكم الذكر صفحاً متى أسْرَفْتُم ، أي إنكم غير متروكمين من الإنذار متى كنتم قوماً مسرفين . وهذا أراد أبو البقاء بقوله : وقرىء : إن بكسرها على الشرط وما تقدم يدل على الجواب ، والباقون بالفتح على العلة ، أي لأَنْ كُنْتُمْ كقوله :
4390 أَتَجْزَعُ أَنْ بَانَ الخَلِيطُ المُوَدِّعُ ..
ومثله قوله :
4391 أَتَجْزَعُ أَن أُذْنَا قُتَيْبَةَ جُزَّتَا ..
يروى بالكسر والفتح ، وقد تقدم نحوٌ من هذا أول المائدة . وقرأ زيدُ بنُ عليّ : إذا بذالٍ عوضِ النون وفيها معنى العلة ، كقوله : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 139 ] .
فصل
قال الفارء والزجاج : يقال : ضَرَبْتُ عَنْهُ وأَضْرَبْتُ عَنْهُ . أي تَرَكْتُهُ ومَسَكْتُ عَنْهُ ، وقوله : « صَفْحاً » أي إعراضاً ، والأصل فيه : إنك تَوَلَّيْتَ بصَفْنحَةِ عُنُقِكَ . والمراد بالذكر عذابُ الله . وقيل : أفنرُدُّ عنكم النصائح والمراعظ والأعذار بسبب كونكم مسرفين ، وقيل : أَفَنَرُدُّ عنكم القرآن ، وهذا الاستفهام على سبيل الإنكار ، والمعنى : أفنترك عنكم الوحي ، ونمسك عن إنزال القرآن ، فلا نأمركم ولا ننهاكم من أجل أنكم أسرفتم في كفركم وتركتم الإيمان؟ وهذا قول قتادةَ وجماعةٍ ، قال قتادة : والله لو كان هذا القول رف ع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكموا ، ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنةً أو ما شاء الله .
وقيل : معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إياكم صافحين مُعْرِضينَ . قال الكسائي : أفنطوي عنك الذّكْرَ طَيًّا ، فلا تدعون ولا توعظون ، وقال الكلبي : أَفَنَتْركُكُم سُدًى ، لا نأمركم ولا نَنْهَاكُمْ . وقال مجاهد والسدي : أفَنُعْرِضُ عنكم ونترككم فلا نعاقبكم على كفركم .
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
قوله : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا } « كم » خبرية مفعول قمدم ، و { مِن نَّبِيٍّ } و { فِي الأولين } يتعلق بالإرسال أو بمحذوف على أنه صفة « لِنَبِيٍّ » والمعنى : أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء ، فلا ينبغي أن يُتَأَذَّى بسبب تكذيبهم ، وأستهزائهم ، لأن المصيبة إذا عمت خفت .
ثم قال : { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } أي إن أولئك المتقدمين الذين إرسل إليكم الرسل ، كانوا أشدَّ بطشاً من قريب وأَكْثَرَ عَدداً وجلَداً .
قوله « بطشاً » فيه وجهان :
أحدهما : أ ، هن تمييز « لأشد » والثاثن : أنه حال من الفاعل أي أهْلَكْنَاهُمْ بَاطِشينَ .
قوله : { ومضى مَثَلُ الأولين } والمعنى أن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فَلْيَحْذَرُوا أنْ يَنْزِلَ بهم الخِزْيُ مثْلَ أنزل بالأولين . أي صفتِهم وسنتهم وعقوبتهم ، فعاقبة هؤلاء كذلك في الإهلاك .
قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض . . . } الآية والمعنى : وَلَئِنْ سَأَلْتَ قَوْمَكَ من خَلَقَ السموات والأرض؟ وقيل : الضمير في « سألتهم » يحتمل رجوعه إلى الأنبياء . والأقرب الأول ، أي منهم مع كفرهم مقرين بعزته ، وعلمه ، ثم عبدوا غيره ، وأنكروا قدرته في البعث ، لفَرْطِ جَهْلِهِمْ .
قوله : { خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } كرر الفعل للتوكيد؛ إذ لو جاء « العزيز » بغير « خلقهن » كلان كافياً ، كقولك : مَنْ قَامَ؟ فيقال : زيدٌ . وفيها دليل على أن الجلالة الكريمة من قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] مرفوعة بالفاعلية ، لا بالابتداء للتصريح بالفعل في نظيرتها .
وهذا الجواب مطابق للسؤال من حيث المعنى؛ إذ لو جاء على اللفظ لجيء فيه بجملة ابتدائية كالسؤال .
قوله : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } اعلم أنه تقد تم الإخبارُ عنهم ، ثم ابتدأ دالاً على نفسه بذكر مصنوعاته فقال : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } ولو كان هذا من جملة كلام الكفار لقالوا : الذي جعل لنا الأرض مِهَادً ، إلا أن قوله في أثناء الكلام : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } لا يليق إلا بكلامه .
ونظيره من كلام الناس أن يسمع الرجل رجلاً يقول : الذي بنى هذا المسجدَ فلانٌ العَالِمُ فيقول السَّامع لهذا الكلام : الزاهدُ الكريمُ ، كأن ذل السامع يقول : أنا أعرفه بصفات حميدةٍ فوق ما تعرفه فأَزِيدُ في وصفه ، فيكون النعتان جميعاً من رجلين لرجل واحد .
ومعنى كون الأرض مهاداً واقعة ساكنة ، فإنها لو كانت متحركة لما أمكن الانتفاع بها في الزراعة والأبنية ، وستر عيوب الأحياء والأموات ، ولأن المهدَ موضعَ راحة الصبي . فكانت الأرض مهاداً لكثرة ما فيها من الراحات { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } وذلك أن انتفاع الناس بها إنما يكمل إذا سعوا في أقطار الأرض ، فهيأ تعالى تلك السبل ووضع عليهاعلامات ، ليصح بها الانتفاع .